منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   رسائل ووصايا في التزكية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=15)
-   -   الكلمات (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=6066)

عبدالرزاق 02-02-2011 11:41 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السابعة والعشرون



رسالة الاجتهاد

قبل حوالى خمس سنوات او اكثر كتبتُ بحثا حول (الاجتهاد) في رسالة بالعربية(1) واستجابة لرغبة اخوين عزيزين كتبت هذه (الكلمة) ارشاداً لمن لا يعرف حدّه في هذه المسألة ليدرك ما يجب ان يقف عنده.

بسم الله الرحمن الرحيم

] وَلَو رَدّوه الى الرسول والى أولي الامرِ منهُم لَعَلِمه الذين يَستنبطونَه منهم[

(النساء: 83)

ان باب الاجتهاد مفتوح، الا ان هناك ستة موانع في هذا الزمان تحول دون الدخول فيه.

اولها:

كما تُسَد المنافذ حتى الصغيرة منها عند اشتداد العواصف في الشتاء، ولا يستصوب فتح أبواب جديدة، وكما لا تفتح ثغور لترميم الجدران وتعمير السدود عند اكتساح السيول، لانه يفضي الى الغرق والهلاك.. كذلك من الجناية في حق الاسلام فتح ابواب جديدة في قصره المنيف، وشق ثغرات في جدرانه مما يمهّد السبيل للمتسللين والمخربين باسم الاجتهاد، ولا سيما في زمن المنكرات، ووقت هجوم العادات الاجنبية واستيلائها، واثناء كثرة البدع وتزاحم الضلالة ودمارها.

ثانيها:

ان الضروريات الدينية التي لا مجال فيها للاجتهاد لقطعيتها وثبوتها، والتي هي في حكم القوت والغذاء، قد اُهملت في العصر الحاضر واخــذت بالتصــدع، فالواجب يحتم صرف الجهود وبذل الهمم جميعاً لاحياء هذه الضروريات واقامتها، حيث ان الجوانب النظرية للاسلام قد استثرت بافكار السلف الصالحين وتوسعت باجتهاداتهم الخالصة حتى لم تعد تضيق بالعصور جميعاً؛ لذا فان ترك تلك الاجتهادات الزكية والانصراف عنها الى اجتهادات جديدة اتباعاً للهوى انما هو خيانة مبتدعة.

ثالثها:

مثلما يروّج لمتاع في السوق حسب المواسم ويرغّب فيه، كذلك اسواق الحياة الاجتماعية ومعارض الحضارة البشرية في العالم، فترى متاعاً يرغّب فيه في عصر، فيكون له رواج، فتُوجَّه اليه الانظار، وتجذب نحوه الافكار، فتحوم حوله الرغبات. فمثلاً: ان المتاع الذي تُلفت اليه الانظار في عصرنا الحاضر وتُرغّب فيه هو الانشغال بالامور السياسية واحداثها، وتأمين الراحة في الحياة الدنيا وحصر الهمّ بها، ونشر الافكار المادية وترويجها. بينما نرى ان السلعة الغالية النفيسة، والبضاعة الرائجة المقبولة في عصر السلف الصالح واكثر ما يرغَّب فيه في سوق زمانهم هو ارضاء رب السموات والارض والوقوف عند حدوده، واستنباط اوامره ونواهيه من كلامه الجليل، والسعي لنيل وسائل الوصول الى السعادة الخالدة التي فتح ابوابها الى الابد القرآن الكريم ونور النبوة الساطع. فكانت الاذهان والقلوب والارواح كلها متوجهة - في ذلك العصر - وبكل قواها الى معرفة مرضاة الله سبحانه وادراك مرامي كلامه، حتى باتت وجهة حياتهم واحوالهم المختلفة وروابطهم فيما بينهم وحوادثهم واحاديثهم مقبلة كلها الى مرضاة رب السموات والارضين، لذا ففي مثل هذه الحياة التي تجري بشتى جوانبها وفق مرضاة رب العالمين سبحانه تصبح الحوادث بالنسبة لصاحب الاستعداد والقابليات الفطرية دروساً وعبراً له من حيث لا يشعر، وكأن قلبه وفطرته يتلقيان الدروس والارشاد من كل ما حوله، ويستفيدان من كل حادثة وظرف وطور، وكأن كل شئ يقوم بدور معلم مرشد يعلم فطرته ويلقنها ويرشدها ويهيؤها للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذكائه يضئ ولو لم تمسسه نار الاكتساب. فاذا ما شرع مثل هذا الشخص المستعد في مثل هذا المجتمع، بالاجتهاد في اوانه، فان استعداده ينال سراً من اسرار (نور على نور) ويصبح في اقرب وقت واسرعه مجتهداً.

بينما في العصر الحاضر: فان تحكم الحضارة الاوروبية، وتسلط الفلسفة المادية وافكارها، وتعقد متطلبات الحياة اليومية.. كلها تؤدي الى تشتت الافكار وحيرة القلوب وتبعثر الهمم وتفتت الاهتمامات، حتى اضحت الامور المعنوية غريبة عن الاذهان.

لذا، لو وجد الآن مَن هو بذكاء (سفيان بن عيينة)(1) الذي حفِظ القرآن الكريم وجالس العلماء وهو لا يزال في الرابعة من عمره، لاحتاج الى عشرة امثال ما احتاجه ابن عيينة ليبلغ درجة الاجتهاد، اي انه لو كان قد تيسر لسفيان بن عيينة الاجتهاد في عشر سنوات فان الذي في زماننا هذا قد يحصل عليه في مائة سنة، ذلك لان مبدأ تعلم (سفيان) الفطري للاجتهاد يبدأ من سن التمييز ويتهيأ استعداده تدريجاً كاستعداد الكبريت للنار، اما نظيره في الوقت الحاضر فقد غرق فكرُه في مستنقع الفلسفة المادية وسرح عقلُه في احداث السياسة، وحار قلبُه امام متطلبات الحياة المعاشية، وابتعدت استعداداته وقابلياته عن الاجتهاد، فلا جرم قد ابتعد استعداده عن القدرة على الاجتهادات الشرعية بمقدار تفننه في العلوم الارضية الحاضرة، وقصر عن نيل درجة الاجتهاد بمقدار تبحره في العلوم الارضية، لذا لا يمكنه ان يقول لِمَ لا استطيع ان ابلغ درجة سفيان بن عيينة، وانا مثله في الذكاء؟ نعم، لا يحق له هذا القول، كما انه لن يلحق به ولن يبلغ شأوه ابداً.

رابعها:

ان ميل الجسم الى التوسع لاجل النمو إن كان داخلياً فهو دليل التكامل. بينما ان كان من الخارج فهو سبب تمزق الغلاف والجلد، اي انه سبب الهدم والتخريب لا النمو والتوسع.

وهكذا، فان وجود ارادة الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين عند الذين يدورون في فلك الاسلام ويأتون اليه من باب التقوى والورع الكاملَين وعن طريق الامتثال بالضروريات الدينية فهو دليل الكمال والتكامل. وخير شاهد عليه السلف الصالح. اما التطلع الى الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين إن كان ناشئاً لدى الذين تركوا الضروريات الدينية واستحبوا الحياة الدنيا، وتلوثوا بالفلسفة المادية، فهو وسيلة الى تخريب الوجود الاسلامي وحل ربقة الاسلام من الاعناق.

خامسها:

هناك ثلاث نقاط تدعو الى التأمل والنظر، تجعل اجتهادات هذا العصر ارضية وتسلب منها روحها السماوي، بينما الشريعة سماوية والاجتهادات بدورها سماوية، لاظهارها خفايا احكامها. والنقاط هي الاتي:

اولاًـ ان (علّة) كل حكم تختلف عن (حكمته) فالحكمة والمصلحة سبب الترجيح وليست مناط الوجود ولامدار الايجاد، بينما (العلة) هي مدار وجود الحكم.

ولنوضح هذا بمثال: تُقصر الصلاة في السفر، فتصلّى ركعتان فعلّة هذه الرخصة الشرعية السفر. اما حكمتها فهي المشقة. فاذا وجُد السفرُ ولم تكن هناك مشقة فالصلاة تُقصر، لان العلة قائمة وهي السفر. في حين ان لم يكن هناك سفر وكانت هناك اضعاف اضعاف المشقة، فلن تكون تلك المشقات علة القصر.

وخلافاً لهذه الحقيقة يتوجه نظر الاجتهاد في هذا العصر، الى اقامة المصلحة والحكمة بدل العلة، وفي ضوئها يصدر حكمه، فلا شك ان اجتهاداً كهذا ارضي وليس بسماوي.

ثانياًـ ان نظر هذا العصر متوجه اولاً وبالذات الى تأمين سعادة الدنيا، وتوجّه الاحكام نحوها، والحال ان قصد الشريعة متوجه اولا وبالذات الى سعادة الآخرة، وينظر الى سعادة الدنيا بالدرجة الثانية، ويتخذها وسيلة للحياة الاخرى، اي ان وجهة هذا العصر غريبة عن روح الشريعة ومقاصدها، فلا تستطيع ان تجتهد باسم الشريعة.

ثالثاً ـ ان القاعدة الشرعية (الضرورات تبيح المحظورات) ليست كلية، لان الضرورة ان كانت ناشئة عن طريق الحرام لا تكون سبباً لإباحة الحرام. والاّ فالضرورة التي نشأت عن سوء اختيار الفرد، او عن وسائل غير مشروعة لن تكون حجة ولا سبباً لإباحة المحظورات ولا مداراً لأحكام الرُخص.

فمثلاً: لو اسكر احد نفسه - بسوء اختياره - فتصرفاته لدى علماء الشرع حجة عليه، اي لا يُعذَر، وان طلّق زوجته فطلاقُه واقع، وان ارتكب جريمة يعاقب عليها، ولكن ان كانت من دون اختيار منه، فلا يقع طلاقه، ولا يعاقب على ما جنى. فليس لمدمن خمر - مثلاً - ان يقول انها ضرورة لي، فهي اذن حلال لي، حتى لو كان مبتلىً بها الى حد الضرورة بالنسبة له.

فانطلاقاً من هذا المفهوم فان هناك كثير من الامور في الوقت الحاضر ابتلي بها الناس وباتت ضرورية بالنسبة لهم، حتى اخذت شكل (البلوى العامة) فهذه التي تسمى ضرورة، لن تكون حجة لاحكام الرُخَص، ولا تباح لاجلها المحظورات، لانها نجمت من سوء اختيار الفرد ومن رغبات غير مشروعة ومن معاملات محرمة.

وحيث ان اهل اجتهاد هذا الزمان قد جعلوا تلك الضرورات مداراً للاحكام الشرعية، لذا اصبحت اجتهاداتهم ارضية وتابعة للهوى ومشوبة بالفلسفة المادية، فهي اذن ليست سماوية، ولا تصح تسميتها اجتهادات شرعية قطعاً؛ ذلك لان اي تصرف في احكام خالق السموات والارض واي تدخل في عبادة عباده دونما رخصة او إذن معنوي فهو مردود.

ولنضرب لذلك مثالاً:

يستحسن بعض الغافلين القاء خطبة الجمعة وامثالها من الشعائر الاسلامية باللغة المحلية لكل قوم دون العربية ويبررون استحسانهم هذا بسببين:

الاول: (ليتمكن عوام المسلمين من فهم الاحداث السياسية)! مع انها قد دخلها من الاكاذيب والدسائس والخداع ما جعلها في حكم وسوسة الشياطين! بينما المنبر مقام تبليغ الوحي الإلهي، وهو ارفع واجل من ان ترتقى اليه الوسوسة الشيطانية.

الثاني: (الخطبة هي لفهم ما يرشد اليه بعض السور القرآنية من نصائح).

نعم؛ لو كان معظم المسلمين يفهمون المسلّمات الشرعية والاحكام المعلومة من الدين بالضرورة، ويمتثلون بها، فلربما كان يستحسن عند ذاك ايراد الخطبة باللغة المعروفة لديهم، ولكانت ترجمة سور من القرآن لها مبرر - ان كانت الترجمة ممكنة(1) - وذلك ليفهموا النــظـــريات الشــرعية والمســائــل الدقيقة والنــصائـح الخــفية. امـــا وقد اهملت في زماننا هذا الاحكام الواضحة المعلومة؛ كوجوب الصلاة والزكاة والصيام وحرمة القتل والزنا والخمر، وان عوام المسلمين ليسوا بحاجة الى دروس في معرفة هذا الوجوب وتلك الحرمة بقدر ما هم بحاجة الى الامتثال بتلك الاحكام واتباعها في حياتهم. ولا يتم ذلك الا بتذكيرهم وحثهم على العمل وشحذ الهمم واثارة غيرة الاسلام في عروقهم، وتحريك شعور الايمان لديهم كي ينهضوا بامتثال واتباع تلك الاحكام المطهرة.

فالمسلم العامي - مهما بلغ جهله - يدرك هذا المعنى الاجمالي من القرآن الكريم، ومن الخطبة العربية. ويعلم في قرارة نفسه بان الخطيب او المقرئ للقرآن الكريم يذكّره - ويذكّر الاخرين معه - باركان الايمان واسس الاسلام التي هي معلومة من الدين بالضرورة. وعندها يفعم قلبه بالاشواق الى تطبيق تلك الاحكام.

ليت شعري اي تعبير في الكون كله يمكنه ان يقف على قدميه حيال الاعجاز الرائع في القرآن الكريم الموصول بالعرش العظيم.. واي ترغيب وترهيب وبيان وتذكير يمكن ان يكون افضل منه؟!

سادسها:

ان قرب عهد المجتهدين العظام من السلف الصالحين لعصر الصحابة الكرام الذي هو عصر الحقيقة وعصر النور يسَّر لهم ان يأخذوا النور الصافي من اقرب مصادره، فتمكنوا من القيام باجتهاداتهم الخالصة، في حين ان مجتهدي العصر الحديث ينظرون الى كتاب الحقيقة من مسافة بعيدة جداً ومن وراء كثير جداً من الاستار والحجب حتى ليصعب عليهم رؤية اوضح حرف فيه.

فان قلت: ان مدار الاجتهادات ومصدر الاحكام الشرعية هو عدالة الصحابة وصدقهم، حتى اتفقت الامة على انهم عدول صادقون، علما انهم بشر مثلنا، لا يخلون من خطأ!

الجواب: ان الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين هم روّاد الحق وعشاقه، وهم التواقون الى الصدق والعدل. ولقد تبين في عصرهم قبح الكذب ومساوؤه، وجمال الصدق ومحاسنه بوضوح تام، بحيث اصبح البون شاسعاً بين الصدق والكذب كالبعد بين الثريا والثرى وبين العرش والفرش!! اذ يوضح ذلك الفارق الكبير بين الرسول الاعظم e الواقف على قمة درجات الصدق وفي اعلى عليين وبين مسيلمة الكذاب الذي كان في اسفل سافلين وفي اوطأ دركات الكذب.

فالذي اهوى بمسيلمة الى تلك الدركات الهابطة الدنيئة هو الكذب والذي رفع محمداً الامين e الى تلك الدرجات الرفيعة هو الصدق والاستقامة.

لذا فالصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين كانوا يملكون الهمم العالية والخلق الرفيع واستناروا بنور صحبة شمس النبوة، لا ريب انهم ترفعوا عن الكذب الممقوت القبيح الموجود في بضاعة مسيلمة الكذاب ونجاساتها الموجبة للذلة والهوان - كما هو ثابت - وتجنبوا الكذب كتجنبهم الكفر الذي هو صنوه، وسعوا سعياً حثيثاً في طلب الصدق والاستقامة والحق، وتحروه بكل ما اوتوا من قوة وعزم. فشغفوا به ولا سيما في رواية الاحكام الشرعية وتبليغها، تلك الاحكام المتسمة بالحسن وبالجمال القمينة بالمباهاة والفخر، والتي هي وسيلة للعروج صعداً الى الرقي والكمال، والموصولة السبب بعظمة الرسول e الذي تنورت بنور شعاعه الحياة البشرية.

اما الآن، فقد ضاقت المسافة بين الكذب والصدق، وقصرت حتى صارا متقاربين بل متكاتفين، وبات الانتقال من الصدق الى الكذب سهلاً وهيناً جداً بل غدا الكذب يفضل على الصدق في الدعايات السياسية.

فان كان اجمل شئ يباع مع اقبحه في حانوت واحد جنباً الى جنب وبالثمن نفسه، ينبغي على مشتري لؤلؤة الصدق الغالي الاّ يعتمد على كلام صاحب الحانوت ومعرفته دون فحص وتمحيص.

الخاتمة

تتبدل الشرائع بتبدل العصور، وقد تأتي شرائع مختلفة، وترسل رسل كرام في عصر واحد، حسب الاقوام. وقد حدث هذا فعلاً.

اما بعد ختم النبوة، وبعثة خاتم الانبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام فلم تعد هناك حاجة الى شريعة اخرى. لان شريعته العظمى كافية ووافية لكل قوم في كل عصر.

اما جزئيات الاحكام غير المنصوص عليها التي تقتضي التبديل تبعاً للظروف، فان اجتهادات فقهاء المذاهب كفيلة بمعالجة التبديل. فكما تبدل الملابس باختلاف المواسم، وتغيّر الادوية حسب حاجة المرضى، كذلك تبدل الشرائع حسب العصور، وتدور الاحكام وفق استعدادات الامم الفطرية، لان الاحكام الشرعية الفرعية تتبع الاحوال البشرية، وتأتي منسجمة معها وتصبح دواء لدائها.

ففي زمن الانبياء السابقين عليهم السلام كانت الطبقات البشرية متباعدة بعضها عن بعض، مع ما فيهم من جفاء وشدة في السجايا، فكانوا اقرب ما يكونون الى البداوة في الافكار، لذا اتت الشرائع في تلك الازمنة متباينة مختلفة، مع موافقتها لأحوالهم وانسجامها على اوضاعهم، حتى لقد اتى انبياء متعددون بشرائع مختلفة في منطقة واحدة وفي عصر واحد.

ولكن بمجىء خاتم النبيين وهو نبي آخر الزمان e ، تكاملت البشرية وكأنها ترقت من مرحلة الدراسة الابتدائية فالثانوية الى مرحلة الدراسة العالية واصبحت اهلاً لان تتلقى درساً واحداً، وتنصت الى معلم واحد، وتعمل بشريعة واحدة. فرغم كثرة الاختلافات لم تعد هناك حاجة الى شرائع عدة ولا ضرورة الى معلمين عديدين.

ولكن لعجز البشرية من ان تصل جميعاً الى مستوى واحد، وعدم تمكنها من السير على نمط واحد في حياتها الاجتماعية فقد تعـددت المـذاهب الفقهــية في الفروع.

فلو تمكنت البشرية - باكثريتها المطلقة - ان تحيا حياة اجتماعية واحدة، واصبحت في مستوى واحد، فحينئذ يمكن أن تتوحد المذاهب.

ولكن مثلما لا تسمح احوال العالم، وطبائع الناس لبلوغ تلك الحالة، فان المذاهب كذلك لا تكون واحدة.

فان قلت: ان الحق واحد، فكيف يمكن ان تكون الاحكام المختلفة للمذاهب الاربعة والاثني عشر حقاً؟

الجواب: يأخذ الماء احكاماً خمسة مختلفة حسب اذواق المرضى المختلفة وحالاتهم:

فهو دواء لمريض على حسب مزاجه، اي تناوله واجب عليه طباً. وقد يسبب ضرراً لمريض آخر فهو كالسم له، اي يحرم علـيه طـــباً، وقد يولد ضـــرراً اقل لمريض آخر فهو اذن مكروه له طباً، وقد يكون نافعاً لآخر من دون أن يضره، فيسنّ له طباً، وقد لا يضر آخر ولا ينفعه، فهو له مباح طباً فليهنأ بشربه.

فنرى من الامثلة السابقة:

ان الحق قد تعدد هنا، فالاقسام الخمسة كلها حق، فهل لك ان تقول: ان الماء علاج لا غير، او واجب فحسب، وليس له حكم آخر؟.

وهكذا ـ بمثل ما سبق - تتغير الاحكام الإلهية بسَوْقٍ من الحكمة الإلهية وحسب التابعين لها. فهي تتبدل حقاً، وتبقى حقاً ويكون كل حكم منها حقاً ويصبح مصلحة.

فمثلا: نجد ان اكثرية الذين يتبعون الامام الشافعي رضى الله عنه هم اقرب من الاحناف الى البداوة وحياة الريف، تلك الحياة القاصرة عن حياة اجتماعية توحدّ الجماعة. فيرغب كل فرد في بث ما يجده في نفسه الى قاضي الحاجات بكل اطمئنان وحضور قلب، ويطلب حاجته الخاصة بنفسه ويلتجئ اليه، فيقرأ سورة الفاتحة بنفسه رغم انه تابع للامام. وهذا هو عين الحق، وحكمة محضة في الوقت نفسه. اما الذين يتبعون الامام الاعظم (ابو حنيفة النعمان) رضى الله عنه، فهم باكثريتهم المطلقة اقرب الى الحضارة وحياة المدن المؤهلة لحياة اجتماعية، وذلك بحكم التزام اغلب الحكومات الاسلامية لهذا المذهب. فصارت الجماعة الواحدة في الصلاة كأنها فرد واحد، واصبح الفرد الواحد يتكلم باسم الجميع، وحيث ان الجميع يصدقونه ويرتبطون به قلباً، فان قوله يكون في حكم قول الجميع، فعدم قراءة الفرد وراء الامام بـ(الفاتحة) هو عين الحق وذات الحكمة.

ومثلاً: لما كانت الشريعة تضع حواجز لتحول دون تجاوز طبائع البشر حدودها، فتقوّمها بها وتؤدبها، فتربى النفس الامارة بالسوء، فلابد ان ينقض الوضوء بمس المرأة وقليل من النجاسة يضر، حسب المذهب الشافعي الذي اكثر اتباعه من اهل القرى وانصاف البدو والمنهمكين بالعمل اما حسب المذهب الحنفي الذين هم باكثريتهم المطلقة قد دخلوا الحياة الاجتماعية، واتخذوا طور انصاف متحضرين فـ(لا ينقض الوضوء من مسِّ المرأة، ويسمح بقدر درهم من النجاسة). ولننظر الآن الى عامل والى موظف، فالعامل بحكم معيشته في القرية معرض للاختلاط والتماس بالنساء الاجنبيات والجلوس معـــاً حول مـــوقــد واحــد، والـــولــــوج في اماكن ملوثة فهو مبتلى بكل هذا بحكم مهنته ومعيشته، وقد تجد نفسه الامارة بالسوء مجالاً امامها لتتجاوز حدودها؛ لذا تلقي الشريعة في روع هذا صدى سماوياً فتمنع تلك التجاوزات بامرها له: لا تمس ما ينقض الوضوء، فتبطل صلاتك. اما ذلك الموظف، فهو حسب عادته الاجتماعية لا يتعرض للاختلاط بالنساء الاجنبيات - بشرط ان يكون نبيلاً - ولا يلوث نفسه كثيراً بالنجاسات، آخذاً باسباب النظافة المدنية. لذا لم تشدد عليه الشريعة، بل اظهرت له جانب الرخصة - دون العزيمة - باسم المذهب الحنفي وخففت عنه قائلة: ان مست يدك امرأة اجنبية فلا ينقض وضوءك، ولا ضرر عليك ان لم تستنج بالماء حياء من الحاضرين، فهناك سماح بقدر درهم من النجاسة فتخلصه بهذا من الوسوسة، وتنجّيه من التردد.

فهاتان قطرتان من البحر نسوقهما مثالاً، قس عليهما، واذا استطعت ان تزن موازين الشريعة بميزان (الشعراني) على هذا المنوال فافعل.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللّهم صل وسلم على مَن تمثّل فيه انوارُ محبتك لجمال صفاتك واسمائك، بكونه مرآةً جامعة لتجليات اسمائك الحسنى.. ومَن تمركز فيه شعاعاتُ محبتك لصنعتك في مصنوعاتك بكونه اكملَ وابدعَ مصنوعاتك، وصيرورته انموذج كمالات صنعتك، وفهرستة محاسن نقوشك.. ومَن تظاهر فيه لطائف محبتك ورغبتك لاستحسان صنعتك بكونه أعلى دلالي محاسن صنعتك وأرفع المستحسنين صوتاً في اعلان حسن نقوشك وأبدعهم نعتاً لكمالات صنعتك.. ومَن تجمّع فيه اقسامُ محبتك واستحسانك لمحاسن اخلاق مخلوقاتك ولطائف اوصاف مصنوعاتك، بكونه جامعاً لمحاسن الاخلاق كافة بإحسانك وللطائف الاوصاف قاطبة بفـضلك.. ومَن صار مصداقاً ومقياساً فائقاً لجميع من ذكرتَ في فرقانك انك تحبهم من المحسنين والصابرين والمؤمنين والمتقين والتوابين والاوابين وجميع الاوصاف الذين احببتهم وشرفتهم بمحبتك، في فرقانك حتى صار امام الحبيبين لك، وسيد المحبوبين لك ورئيس اودّائك وعلى آله واصحابه واخوانه اجمعين آمين برحمتك يا ارحم الراحمين.

ذيل

رسالة الاجتهاد

يخص الصحابة الكرام

رضوان الله تعالى عليهم اجمعين

اقول كما قال مولانا جامي:

يا رسول الله جه باشد جون سك اصحاب كهف

داخـل جنـت شوم در زمـرهء اصحـاب تـو؟

او رود درجنـت ومـن درجهنم كـى رواســت

او سك اصحـاب كهف ومن ســك اصحـاب تو؟.

يا رسول الله ما ضر لو دخلت الجنة مع الداخلين،

ككلب اصحاب الكهف في زمرة اصحابك الاولين.

أيـُّنا أليَق بالجنة انا أم مَن حرس الكهف سنين

هو كلب اصحاب الرقيم وانا كلب اصحاب الامين(1).



باسمه سبحانه

] وان من شئ إلاّ يسبح بحمده[

بسم الله الرحمن الرحيم

] مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالذِينَ مَعَهُ أشدّاءُ على الكفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم تَراهُمْ رُكَّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فـَضْلاً مِن الله ِوَرِضْوَاناً سيمَاهُمْ فى وُجُوهِهِمْ مِن اَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فى التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فىِ الانْجِيلِ كَزَرعٍ اَخْرَجَ شَطْئهُ فَآزَرَهُ فَاستَغلَظَ فَاسْتَوى علَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّار وَعَدَ الله الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُمْ مَغْفِرةً واَجْراً عَظيماً[ (الفتح:29).

تسأل يا اخي: ان هناك روايات تفيد انه عند انتشار البدع يمكن ان يبلغ مؤمنون صادقون درجة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وربما يسبقونهم، فهل هذه الروايات صحيحة؟ وان كانت كذلك، فما حقيقتها؟

الجواب: ان اجماع اهل السنة والجماعة لهو حجة قاطعة بان الصحابة الكرام هم افضل البشر بعد الانبياء عليهم السلام. فالصحيح من تلك الروايات يخص الفضائل الجزئية وليس الفضائل الكلية، اذ قد يترجح المرجوح على الراجح في الفضائل الجزئية وفي كمال خاص معين، والاّ فلا يبلغ احد من حيث الفضائل الكلية منزلة الصحابة الكرام الذين اثنى الله تعالى عليهم في قرآنه المبين ووصفَهم في التوراة والانجيل، كما هو في ختام سورة الفتح.

وسنبين ثلاثاً من الحكم المنطوية على اسباب ثلاثة من بين الكثير من الاسباب والحكم.

C الحكمة الاولى:

ان الصحبة النبوية اكسير عظيم، لها من التأثير الخارق ما يجعل الذين يتشرفون بها لدقيقة واحدة ينالون من انوار الحقيقة ما لا يناله من يصرف سنين من عمره في السير والسلوك، ذلك لان في الصحبة النبوية انصباغاً بصبغة الحقيقة، وانعكاساً لانوارها، اذ يستطيع المرء بانعكاس ذلك النور الاعظم ان يرقى الى مراتب سامية ودرجات رفيعة، وان يحظى بالتبعية والانتساب بارفع المقامات. مثله في هذا مثل خادم السلطان، الذي يستطيع ان يصل الى مواقع رفيعة لا يقدر على بلوغها قواد السلطان وامراؤه.

ومن هذا السر نرى انه لا يستطيع ان يرقى اعظم ولي من اولياء الله الصالحين الى مرتبة صحابي كريم للرسول الاعظم e ، بل حتى لو تَشرف اوليـاء صالحـون مراراً بصحبة النبي e في الصحوة، كــجلال الديـن السيوطي - مثلاً - واُكرموا بلقائه يقظة في هذا العالم، فلا يبلغون ايضاً درجة الصحابة لان صحبة الصحابة الكرام للنبي e كانت بنور النبوة، إذ كانوا يصحبونه في حالة كونه نبياً رسولاً. اما الاولياء الصالحون فان رؤيتهم له e انما هي بعد وفاته، اي بعد انقطاع الوحي، فهي صحبة بنور الولاية، اي ان تمثل الرسول e وظهوره لنظرهم انما هو من حيث الولاية الاحمدية، وليس باعتبار النبوة.

فما دام الامر هكذا، فلا بد ان تتفاوت الصحبتان بمقدار سمو درجة النبوة وعلوها على مرتبة الولاية.

ولكي يتوضح ما للصحبة النبوية من تأثير خارق ونور عظيم، يكفي ملاحظة ما يأتي:

بينما اعرابي غليظ القلب يئد بنته بيده، اذا به يكسب خلال حضوره مجلس الرسول e ومن صحبته ساعة من الزمان، رقة قلب وسعة صدر وشفافية روح ما يجعله يتحاشى قتل نملة صغيرة.

أو آخر يجهل شرائع الحضارة وعلومها، يحضر مجلس الرسول الكريم e فيصبح معلماً لأرقى الامم المتحضرة - كالهند والصين - ويحكم بينهم بالقسطاس المستقيم، ويغدو لهم مثلاً اعلى وقدوة طيبة.

C لحكمة الثانية:

لقد اثبتنا في رسالة (الاجتهاد) ان الصحابة الكرام هم في قمة الكمال الانساني، حيث ان التحول العظيم الذي احدثه الاسلام في مجرى الحياة في ذلك الوقت، سواء في المجتمع او في الفرد، قد ابرز جمال الخير والحق واظهر نصاعتهما الباهرة، وكشف عن خبث الشر والباطل وبيّن سماجتهما وقبحهما، حتى انجلى كل من الحق والباطل والصدق والكذب بوضوح تام، يكاد المرء يلمسه لمس اليد، وانفرجت المسافة بين الخير والشر وبين الصدق والكذب، ما بين الايمان والكفر، بل ما بين الجنة والنار.

لذا فالصحابة الكرام رضى الله عنهم الذين وُهبوا فطراً سليمة ومشاعر سامية، وهم التواقون لمعالي الامور ومحاسن الاخلاق شدوا انظارهم الى الذي تسنَّم قمة اعلى عليي الكمال والداعي الى الخير والصدق والحق، بل هو المثال الاكمل والنموذج الاتم، ذلكم الرسول الكريم حبيب رب العالمين محمد e ، فبذلوا كل ما وهبهم الله سبحانه من قوة للانضواء تحت لوائه، بمقتضى سجيتهم الطاهرة وجبلتهم النقية، ولم يُر منهم اي ميل كان الى اباطيل مسيلمة الكذاب الذي هو مثال الكذب والشر والباطل والخرافات.

ولتوضيح الامر نسوق هذا المثال:

تعرض احياناً في سوق الحضارة البشرية ومعرض الحياة الاجتماعية اشياء لها من الآثار السيئة المرعبة والنتائج الشريرة الخبيثة ما للسم الزعاف للمجتمع. فكل من كانت له فطرة سليمة ينفر منها بشدة ويتجنبها ولا يقربها.. وتعرض كذلك اشياء اخرى وامتعة معنوية في السوق نفسها، لها من النتائج الطيبة والآثار الحسنة ما يستقطب الانظار اليها، وكأنها الدواء الناجع لامراض المجتمع، لذا يسعى نحوها المفطورون على الخير والصلاح.

وهكذا، ففي عصر النبوة السعيد وخير القرون على الاطلاق، عرضت في سوق الحياة الاجتماعية امور. فبديهي ان يسعى الصحابة الكرام نحو الصدق والخير والحق لما يملكون من فطر صافية وسجايا سامية، وبديهي كذلك ان ينفروا ويتجنبوا كل ماله نتائج وخيمة وشقاء الدنيا والآخرة كالكذب والشر والكفر، فالتفوا حول راية الرسول الكريم e وتجنبوا مهازل مسيلمة الكذاب الذي يمثل الكذب والشر والباطل.

بيد ان الامور تغيرت تدريجياً وبمرور الزمن فلم تبق على حالها كما هي في قرون الخير، فتقلصت المسافة بين الكذب والصدق رويداً رويداً كلما اقتربنا الى عصورنا الحاضرة حتى اصبحا مترادفين متكاتفين في العصر الحاضر، فصار الصدق والكذب يعرضان معاً في معرض واحد، ويصدران معاً من مصدر واحد ففسدت الاخلاق الاجتماعية واختلت موازينها. وزادت الدعايات السياسية اخفاء قبح الكذب المرعب وستر جمال الصدق الباهر.

فهل يقوى احد على الجرأة في عصر كهذا ويدّعي: استطيع ان ادنو من مرتبة اولئك الكرام العظام الذين بلغوا من اليقين والتقوى والعدالة والصدق وبذل النفس والنفيس في سبيل الحق مالم يبلغه احد، فضلاً عن ان يسبقهم؟

سأورد حالة مرت علي توضح جانباً من هذه المسألة:

لقد خطر على قلبي ذات يوم سؤال وهو: لِمَ لا يبلغ اشخاص امثال محي الدين بن عربي مرتبة الصحابة الكرام؟ ثم لاحظت في اثناء قولي في سجودٍ في صلاة: (سبحان ربي الاعلى) ان شيئا من الحقائق الجليلة لمعاني هذه الكلمة الطيبة قد انكشف لي، لا اقول كلها، بل انكشف شئ منها. فقلت في قلبي: ليتني احظى بصلاة كاملة تنكشف لي من معانيها ما انكشف من معاني هذه الكلمة المباركة فهي خير من عبادة سنة كاملة من النوافل. ثم ادركت عقب الصلاة ان تلك الخاطرة وتلك الحال كانت جواباً على سؤالي، وارشاداً الى استحالة ادراك احد من الناس درجة الصحابة الكرام في العبادة، ذلك ان التغيير الاجتماعي العظيم الذي أحدثه القرآن الكريم بأنواره الساطعة قد ميَّز الاضداد بعضها عن البعض الآخر، فالشرور بجميع توابعها وظلماتها اصبحت في مجابهة الخير والكمالات مع جميع انوارها ونتائجها. ففي هذه الحالة المحفزة لانطلاق نوازع الخير والشر من عقالها، تنبهت لدى اهل الخير نوازعه فغدا كل ذكر وتسبيح وتحميد يفيد لديهم معانيه كاملة ويعبر عنها تعبيراً ندياً نضراً. فارتشفت مشاعرهم المرهفة ولطائفهم الطاهرة بل حتى خيالهم وسرهم رحيق المعاني السامية العديدة لتلك الاذكار ارتشافاً صافياً يقظاً حسب اذواقها الرقيقة. وبناء على هذه الحكمة، فان الصحابة الكرام الذين كانو يملكون مشاعر حساسة مرهفة وحواس منتبهة ولطائف يقظة، عندما يذكرون تلك الكلمات المباركة الجامعة لانوار الايمان والتسبيح والتحميد يشعرون بجميع معانيها ويأخذون حظهم منها بجميع لطائفهم الزكية.

بيد ان الامور لم تبق على ذلك الوضع الندي والطراوة والجدة فتبدلت تدريجياً بمرور الزمن حتى غطت اللطائف في نوم عميق، وغفلت المشاعر والحواس وانصرفت عن الحقائق ففقدت الاجيال اللاحقة شيئاً فشيئاً قدرتهم على تذوق طراوة تلك الكلمات الطيبة والتلذذ بطعومها ونداوتها. فغدت لديهم كالثمار الفاقدة لطراواتها ونضارتها، حتى لكأنها جفت ويـبست ولم تعد تحمل لهم الا نزراً يسيراً من الطراوة، لا تستخلص الا بعد اعمال الذهن والتفكر العميق، وبذل الجهد وصرف الطاقة، لذا فالصحابي الجليل الذي ينال مقاماً وفضيلة في اربعين دقيقة لا يناله غيره الا في اربعين يوماً، بل في اربعين سنة، وذلك بفضل الصحبة النبوية الشريفة.

C لسبب الثالث:

لقد اثبتنا في كل من الكلمات (الثانية عشرة والرابعة والعشرين والخامسة والعشرين):

ان نسبة النبوة الى الولاية كنسبة الشمس المشهودة بذاتها الى صورتها المثالية الظاهرة في المرايا، لذا فان سمو منزلة العاملين في دائرة النبوة وهم الصحابة الكرام الذين كانوا اقرب النجوم الى تلك الشمس الساطعة، وعلو مرتبتهم على الاولياء الصالحين هو بنسبة سمو دائرة النبوة وعلوها على دائرة الولاية، بل حتى لو كسب احد الاولياء مرتبة الولاية الكبرى، وهي مرتبة ورثة الانبياء والصديقين وولاية الصحابة، فانه لا يبلغ مقام اولئك الصفوة المتقدمين في الصف الاول، رضوان الله تعالى عليهم اجمعين.

سنبين ثلاثة اوجه فقط من بين الوجوه العديدة لهذا السبب الثالث:

الوجه الاول:

لا يمكن اللحاق بالصحابة الكرام في الاجتهاد، اي في استنباط الاحكام، اي ادراك مرضاة الله سبحانه من خلال كلامه؛ لان محور ذلك الانقلاب الإلهي العظيم الذي حدث في ذلك الوقت كان يدور على مرضاة الرب من خلال فهم احكامه الإلهية. فالاذهان كلها كانت مفتوحة متوجهة الى استنباط الاحكام، والقلوب كلها كانت متلهفة الى معرفة: ماذا يريد منا ربنا؟ فالمحادثات والمحاورات كانت تتضمن هذه المعاني، والظروف والاحداث تجري في ضوئها.

وحيث ان كل شئ في ذلك الوقت وكل حال وكل محاورة ومجالسة ومحادثة وحكاية تجري بما يرشد الى تلك المعاني ويدل عليها، لذا كانت - تلك الظروف - تكمل قابليات الصحابة الكرام وتنور افكارهم وتهئ استعداداتهم لقدح زنادها للاجتهاد واستنباط الاحكام، اذ كانوا يكسبون من الملكة على الاستنباط والاجتهاد في يوم واحد او في شهر واحد ما لا يمكن ان يحصل عليها في هذا الوقت من هو في مستوى ذكائهم واستعدادهم في عشر سنوات، بل في مائة سنة، لان الانظار في الوقت الحاضر متوجهة الى نيل حياة دنيوية رغيدة دون سعادة الآخرة الابدية وحياة النعيم المقيم فيها، فالانظار مصروفة عنها. فهموم العيش التي تتضاعف بعدم التوكل على الله تلقي ثقلها على روح الانسان وتجعلها في اضطراب وقلق، والفسلفة المادية والطبيعية تكل العقل وتعمي البصيرة. فترى المحيط الاجتماعي الحاضر مثلما لا يمد ذهن ذلك الشخص (الذكي) ولا يؤازر استعداده الفطري نحو الاجتهاد فضلاً عن انه يشتته ويرهقه اكثر.

ولقد عقدنا موازنة في رسالة (الاجتهاد) بين سفيان بين عيينة ومَن هو في مستوى ذكائه في هذا العصر، وخلصنا من الموازنة الى ان ما حصل عليه سفيان في عصره من القدرة على الاستنباط في عشر سنوات لا يمكن ان يحصل عليه من هو بمستوى ذكائه في هذا العصر في مائة سنة.

الوجه الثاني:

لا يمكن اللحاق بالصحابة الكرام في قربهم من الله بخطى الولاية؛ ذلك لان الله سبحانه وتعالى هو اقرب الينا من حبل الوريد، اما نحن فبعيدون عنه بعداً مطلقاً، والانسان يمكنه ان ينال القرب منه بالصورتين الآتيتين:

الصورة الاولى: من حيث انكشاف اقربيته سبحانه وتعالى للعبد. فقرب النبوة اليه تعالى هو من هذا الانكشاف. والصحابة الكرام من حيث انهم ورثة النبوة والصحبة النبوية يحظون بهذا الانكشاف.

الصورة الثانية: من حيث بُعدنا عنه سبحانه، فالتشرف بشئ من قربه سبحانه يكون بقطع المراتب اليه. واغلب طرق الولاية، وما فيها من سير وسلوك تجري على هذه الصورة سواء منها السير الانفسي او الافاقي.

فالصورة الاولى التي هي انكشاف اقربيته سبحانه - اي قربه سبحانه من العبد - هبة محضة منه تعالى وليس كسباً قط، بل هو انجذاب إلهي وجذب رحماني، ومحبوبية خالصة. فالطريق قصير، الا انه ثابت رصين، وهو عال رفيع سام جداً، وخالص طاهر لا ظل فيه ولا كدر.

اما الصورة الاخرى من التقرب الى الله، فهي كسبية، طويلة، فيها شوائب وظلال، ورغم ان خوارقها كثيرة فانها لا تبلغ الصورة الاولى من حيث الاهمية والقرب منه تعالى.

ولنوضح ذلك بمثال:

لاجل ادراك الامس من هذا اليوم هناك طريقان:

الاول: الانسلاخ من وقائع الزمن وجريانه بقوة قدسية، والعروج الى ما فوق الزمان، ورؤية امس حاضراً كاليوم.

اما الثاني: فهو قطع مسافة سنة كاملة لملاقاة الامس من جديد، ومع ذلك لا يمكن ان تمسك به، لانه يدعك ويمضي.

وهكذا الامر في النفوذ من الظاهر الى الحقيقة، فانه بصورتين:

الاولى: الانجذاب الى الحقيقة مباشرة ووجدان الحقيقة في عين الظاهر المشاهد، من دون الدخول الى برزخ الطريقة.

الثانية: قطع مراتب كثيرة بالسير والسلوك.

فاهل الولاية رغم انهم يوفقون الى فناء النفس الامارة بالسوء ويقتلونها، فانهم لا يبلغون مرتبة الصحابة الكرام، لان نفوس الصحابة كانت مزكاة ومطهرة، فنالوا كثيراً من انواع العبادة وضروباً مختلفة من الوان الشكر والحمد باجهزة النفس العديدة، بينما عبادة الاولياء - بعد فناء النفس - تصبح يسيرة وسهلة.

الوجه الثالث:

لا يمكن ادراك الصحابة الكرام في فضائل الاعمال وثواب الافعال وجزاء الاخرة، لان الجندي المرابط لساعة من الزمن في ظروف صعبة تحيطه، وفي موقع مهم مخيف، يكسب فضيلة وثواباً يقابل سنة من العبادة، واذا اصيب بطلقة واحدة في دقيقة واحدة، فانه يسمو الى مرتبة لا يمكن بلوغها في مراتب الولاية الا في اربعين يوماً على اقل تقدير. كذلك الامر في جهاد الصحابة الكرام عند ارساء دعائم الاسلام، ونشر احكام القرآن، واعلانهم الحرب على العالم اجمع باسم الاسلام، فهو مرتبة عظيمة وخدمة جليلة لا ترقى سنة كاملة من العمل لدى غيرهم الى دقيقة واحدة من عملهم، بل يصح ان يقال:

ان دقائق عمر الصحابة الكرام جميعها - في تلك الخدمة المقدسة - انما هي بمثل الدقيقة التي استشهد فيها الجندي، وان ساعات عمرهم كلها هي بمثل الساعة لذلك الجندي الفدائي المرابط في موقع خطر مرعب. فالعمل قليل، الا ان الاجـر عظيـم والثواب جزيل، والاهمية جليلة.

نعم! ان الصحابة الكرام انما يمثلون اللبنة الاولى في تأسيس صرح الاسلام، وهم الصف الاول في نشر انوار القرآن، فلهم اذن قسط وافر من جميع حسنات الامة، حسب قاعدة (السبب كالفاعل). فالامة الاسلامية اثناء ترديدها: (اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه وسلم) انما تبين ماللآل والصحب الكرام من حظ وافر في حسنات الامة جميعها.

ولكي نوضح ما يترتب من نتائج عظيمة على اثر ضئيل في البداية نسوق الامثلة الآتية:

خاصية صغيرة مهمة في جذر النبات تأخذ صورة عظيمة في اغصانها، فتلك الخاصية في الجذر اذن هي اعظم من اعظم غصن.. وارتفاع ضئيل في البداية يكون تدريجياً عظيماً في النهاية.. وان الزيادة الطفيفة في نقطة المركز - ولو بمقدار انملة - تكون احياناً بمقدار متر كامل في الدائرة المحيطة.

وهكذا فلأن الصحابة الكرام هم مؤسسو الاسلام، وجذور شجرة الاسلام المنيرة، وبداية الخطوط الاساسية لبناء الاسلام، وركيزة المجتمع الاسلامي وائمته، واقرب الناس الى شمس النبوة المنيرة وسراج الحقيقة.. فعمل قليل منهم هو عظيم جليل. وخدمة ضئيلة يقدمونها هي جسيمة كثيرة، فلا يمكن اللحاق بهم وادراكهم الا ان يكون المرء صحابياً مثلهم.

اللّهم صلِّ على سيدنا محمد الذي قال: (اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم(1) و خيرالقرون قرني..)(2) وعلى آله واصحابه وسلم.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

سؤال: يقال ان الصحابة الكرام قد رأوا الرسول e عياناً ثم آمنوا به وصدّقوه، اما نحن فقد آمنا به من دون ان نراه، فايماننا اذن اقوى من ايمانهم، فضلاً عن ان هناك روايات تؤيد ما نذهب اليه!!

الجواب: ان الصحابة الكرام - رضوان الله تعالى عليهم اجمعين - قد وقفوا امام جميع التيارات الفكرية في العالم اجمع والتي كانت تعادي حقائق الاسلام وتصدها. فآمنوا ايماناً راسخاً صادقاً خالصاً مع انهم لم يروا من الرسول الكريم e بعد الا ظاهر صورته الانسانية، بل آمنوا به - أحياناً - من دون ان يروا منه معجزة، واصبح ايمانهم من الرسوخ والمتانة ما لا تزعزعه جميع تلك الافكار العامة المناهضة للاسلام، بل لم تؤثر ولو بأدنى شبهة او وسوسة.

اما انتم فمع انكم لم تروا صورته الظاهرة وشخصيته البشرية التي هي بمثابة نواة لشجرة طوبى النبوة، فان افكار عالم الاسلام تشد من ايمانكم وتمده وتعززه، فضلاً عن انكم ترون - بعين العقل - شخصية الرسول الكريم المعنوية e المنورة بانوار الاسلام وحقائق القرآن، تلك الشخصية المهيبة بألفٍ من معجزاته الثابتة..أفيوازن ايمانكم هذا مع ايمانهم العــظيم؟. فاين ايمانــكم الذي يـهوي في شباك الشبهات بمجرد كلام يطلقه فيلـسـوف مــادي اوربــي، من ايمانــهم الذي كــان كالطود الشـــامـخ لا يتزعزع امام الاعاصير التي يثيرها جميع اهل الكفر والالحاد واليهود والنصارى والحكماء؟

فيا ايها المدعي! اين ايمانك الواهي الذي قد لا يقوى لاداء الفرائض على وجهها من صلابة وقوة ايمانهم وعظيم تقواهم وصلاحهم الذي بلغ مرتبة الاحسان؟

اما ما ورد في الحديث الشريف بما معناه ان الذين لم يروني وآمنوا بي هم افضل منكم(1).. فهو يخص الفضائل الخاصة، وهو بحق بعض الاشخاص. بينما بحثنا هذا هو في الفضائل الكلية وما يعود الى الاكثرية المطلقة.

السؤال الثاني: يقولون:

ان الاولياء الصالحين واصحاب الكمال قد تركوا الدنيا وعافوا ما فيها، بمضمون ما ورد في حديث شريف: حب الدنيا رأس كل خطيئة(2)، بينما الصحابة الكرام قد اخذوا بامور الدنيا واقبلوا عليها ولم يدَعوها، بل قد سبق قسم منهم اهل الحضارة في اخذهم بمتطلبات الدنيا. فكيف تقول: ان اصغر صحابي من امثال هؤلاء هو كأعظم ولي من اولياء الله الصالحين؟

الجواب: لقد اثبتنا اثباتاً قاطعاً في الموقف الثاني والثالث من الكلمة الثانية والثلاثين:

ان للدنيا ثلاثة وجوه: فابداء المحبة الى وجهي الدنيا المتطلعين الى الاسماء الحسنى والآخرة ليس نقصاً في العبودية، بل هو مناط كمال الانسان وسمو ايمانه، اذ كلما جهد الانسان في محبته لذينك الوجهين كسب مزيداً من العبادة ومزيداً من معرفة الله سبحانه. ومن هنا كانت دنيا الصحابة الكرام متوجهة الى ذينك الوجهين، فعدوها مزرعة الآخرة وزرعوا الحسنات وجنوا الثمرات اليانعة من الثواب الجزيل والاجر العظيم، واعتبروا الدنيا وما فيها كأنها مرايا تعكس انوار تجليات الاسماء الحسنى، فتأملوا فيها وفكروا في جنباتها بلهفة وشوق، فتقربوا الى الله اكثر، وفي الوقت نفسه تركوا الوجه الثالث من الدنيا وهو وجهها الفاني المتطلع الى شهوات الانسان وهواه.

السؤال الثالث: ان الطرق الصوفية هي سبل الوصول الى الحقائق، واشهرها واسماها هي الطريقة النقشبندية التي تعدّ الجادة الكبرى، وقد لـخّص قواعدها بعض اقطابها هكذا: (در طريق نقشبندي لازم آمد ضار ترك: ترك دنيا ترك عقبى ترك هستي ترك ترك) اي: يلزم في الطريقة النقشبندية ترك اربعة اشياء: ترك الدنيا بأن لا تجعلها مقصوداً بالذات. وترك الآخرة بحساب النفس. وترك النفس، أي أن تنساها، ثم الترك. اي: ان لا تتفكر بهذا الترك، لئلا تقع في العجب والفخر. بمعنى ان معرفة الله والكمالات الانسانية الحقيقيتين انما تحصل في ترك ما سواه تعالى..

الجواب: لو كان الانسان مجرد قلب فقط، لكان عليه ان يترك كل ما سواه تعالى، بل يترك حتى الاسماء والصفات ويرتبط قلبه بذاته سبحانه. ولكن للانسان لطائف كثيرة جداً كالقلب، منها العقل والروح والسر، كل لطيفة منها مكلفة بوظيفة ومأمورة للقيام بعمل خاص بها.

فالانسان الكامل هو - كالصحابة الكرام - يسوق جميع تلك اللطائف الى مقصوده الاساس وهو عبادة الله. فيسوق القلب كالقائد كل لطيفة منها ويوجهها نحو الحقيقة بطريق عبودية خاص بها. عند ذلك تسير الكثرة الكاثرة من اللطائف جنوداً في ركب عظيم وفي ميدان واسع فسيح، كما هو لدى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.

والاّ فان ترك القلب جنوده دارجاً وحده لانقاذ نفسه، ليس من الفخر والاعتزاز، بل هو نتيجة اضطرار ليس الاّ.

السؤال الرابع: من اين ينشأ ادعاء الافضلية تجاه الصحابة الكرام؟ ومن هم الذين يثيرون هذا الادعاء؟ ولماذا تثار هذه المسائل في الوقت الحاضر؟ ومن اين ينبعث ادعاء بلوغ المجتهدين العظام؟

الجواب: ان الذين يقولون بهذه المسائل هم قسمان:

قسم منهم: رأوا بعض الاحاديث الشريفة ونشروها كي يحفزوا الشوق لدى المتقين واهل الصلاح في هذا الوقت ويرغّبوهم في الدين.. فهؤلاء هم اهل دين وعلم، وهم مخلصون. وليس لنا ما نعلق به عليهم، وهم قلة وينتبهون بسرعة.

اما القسم الآخر: فهم اناس مغرورون جداً، ومعجبون بانفسهم ايما اعجاب، يريدون ان يبثوا انسلاخهم من المذاهب الفقهية تحت ادعاء انهم في مستوى المجتهدين العظام، بل يحاولون امرار الحادهم وانسلاخهم من الدين بادعاء انهم في مستوى الصحب الكرام، فهؤلاء الضالون قد وقعوا:

اولاً: في هاوية السفاهة حتى غدوا معتادين عليها، ولا يستطيعون ان يتركوا ما اعتادوه، وينهضوا بتكاليف الشرع التي تردعهم عن السفاهة. فترى احدهم يبرر نفسه قائلاً: (ان هذه المسائل انما هي مسائل اجتهادية، والمذاهب الفقهية متباينة في امثال هذه المسائل، وهم رجال قد اجتهدوا ونحن ايضاً رجال امثالهم، يمكننا ان نجتهد مثلهم، فلربما يخطأون مثلنا، لذا نؤدي العبادات بالشكل الذي يروق لنا نحن، اي لسنا مضطرين الى اتباعهم!!). فهؤلاء التعساء يحلُّون ربقة المذاهب عن انفسهم بهذه الدسيسة الشيطانية. فما أوهاها من دسيسة وما ارخصها من تبرير! وقد اثبتنا ذلك في رسالة (الاجتهاد).

ثانياً: انهم عندما رأوا ان دسيستهم لا تكمل حلقاتها عند حد التعرض للمجتهدين العظام بدأوا يتعرضون للصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، حيث ان المجتهدين يحملون النظريات الدينية وحدها، وهؤلاء الضالون يرومون هدم الضروريات الدينية وتغييرها، فلو قالوا: نحن افضل من المجتهدين لم تنته قضيتهم، حيث ان ميدان المجتهدين النظر في المسائل الفرعية، دون النصوص الشرعية، لذا تراهم وهم منسلخون من المذاهب يبدأون بمس الصحابة الاجلاء الذين هم حاملو الضروريات الدينية. ولكن هيهات! فليس امثال هؤلاء الانعام الذين هم في صورة انسان، بل حتى الانسان الحقيقي، بل الكاملين منهم وهم اعاظم الاولياء الصالحين، لا يمكنهم ان يكسبوا دعوى المماثلة مع اصغر صحابي جليل. كما اثبتناه في رسالة (الاجتهاد).

اللّهم صلِّ وسلم على رسولك الذي قال:

((لا تسبوا اصحابي لا تسبوا اصحابي فوالذي نفسي بيده لو ان احدكم انفق مثل أُحدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ احدهم ولا نصيفه))(1).

عبدالرزاق 02-02-2011 11:41 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السابعة والعشرون



رسالة الاجتهاد

قبل حوالى خمس سنوات او اكثر كتبتُ بحثا حول (الاجتهاد) في رسالة بالعربية(1) واستجابة لرغبة اخوين عزيزين كتبت هذه (الكلمة) ارشاداً لمن لا يعرف حدّه في هذه المسألة ليدرك ما يجب ان يقف عنده.

بسم الله الرحمن الرحيم

] وَلَو رَدّوه الى الرسول والى أولي الامرِ منهُم لَعَلِمه الذين يَستنبطونَه منهم[

(النساء: 83)

ان باب الاجتهاد مفتوح، الا ان هناك ستة موانع في هذا الزمان تحول دون الدخول فيه.

اولها:

كما تُسَد المنافذ حتى الصغيرة منها عند اشتداد العواصف في الشتاء، ولا يستصوب فتح أبواب جديدة، وكما لا تفتح ثغور لترميم الجدران وتعمير السدود عند اكتساح السيول، لانه يفضي الى الغرق والهلاك.. كذلك من الجناية في حق الاسلام فتح ابواب جديدة في قصره المنيف، وشق ثغرات في جدرانه مما يمهّد السبيل للمتسللين والمخربين باسم الاجتهاد، ولا سيما في زمن المنكرات، ووقت هجوم العادات الاجنبية واستيلائها، واثناء كثرة البدع وتزاحم الضلالة ودمارها.

ثانيها:

ان الضروريات الدينية التي لا مجال فيها للاجتهاد لقطعيتها وثبوتها، والتي هي في حكم القوت والغذاء، قد اُهملت في العصر الحاضر واخــذت بالتصــدع، فالواجب يحتم صرف الجهود وبذل الهمم جميعاً لاحياء هذه الضروريات واقامتها، حيث ان الجوانب النظرية للاسلام قد استثرت بافكار السلف الصالحين وتوسعت باجتهاداتهم الخالصة حتى لم تعد تضيق بالعصور جميعاً؛ لذا فان ترك تلك الاجتهادات الزكية والانصراف عنها الى اجتهادات جديدة اتباعاً للهوى انما هو خيانة مبتدعة.

ثالثها:

مثلما يروّج لمتاع في السوق حسب المواسم ويرغّب فيه، كذلك اسواق الحياة الاجتماعية ومعارض الحضارة البشرية في العالم، فترى متاعاً يرغّب فيه في عصر، فيكون له رواج، فتُوجَّه اليه الانظار، وتجذب نحوه الافكار، فتحوم حوله الرغبات. فمثلاً: ان المتاع الذي تُلفت اليه الانظار في عصرنا الحاضر وتُرغّب فيه هو الانشغال بالامور السياسية واحداثها، وتأمين الراحة في الحياة الدنيا وحصر الهمّ بها، ونشر الافكار المادية وترويجها. بينما نرى ان السلعة الغالية النفيسة، والبضاعة الرائجة المقبولة في عصر السلف الصالح واكثر ما يرغَّب فيه في سوق زمانهم هو ارضاء رب السموات والارض والوقوف عند حدوده، واستنباط اوامره ونواهيه من كلامه الجليل، والسعي لنيل وسائل الوصول الى السعادة الخالدة التي فتح ابوابها الى الابد القرآن الكريم ونور النبوة الساطع. فكانت الاذهان والقلوب والارواح كلها متوجهة - في ذلك العصر - وبكل قواها الى معرفة مرضاة الله سبحانه وادراك مرامي كلامه، حتى باتت وجهة حياتهم واحوالهم المختلفة وروابطهم فيما بينهم وحوادثهم واحاديثهم مقبلة كلها الى مرضاة رب السموات والارضين، لذا ففي مثل هذه الحياة التي تجري بشتى جوانبها وفق مرضاة رب العالمين سبحانه تصبح الحوادث بالنسبة لصاحب الاستعداد والقابليات الفطرية دروساً وعبراً له من حيث لا يشعر، وكأن قلبه وفطرته يتلقيان الدروس والارشاد من كل ما حوله، ويستفيدان من كل حادثة وظرف وطور، وكأن كل شئ يقوم بدور معلم مرشد يعلم فطرته ويلقنها ويرشدها ويهيؤها للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذكائه يضئ ولو لم تمسسه نار الاكتساب. فاذا ما شرع مثل هذا الشخص المستعد في مثل هذا المجتمع، بالاجتهاد في اوانه، فان استعداده ينال سراً من اسرار (نور على نور) ويصبح في اقرب وقت واسرعه مجتهداً.

بينما في العصر الحاضر: فان تحكم الحضارة الاوروبية، وتسلط الفلسفة المادية وافكارها، وتعقد متطلبات الحياة اليومية.. كلها تؤدي الى تشتت الافكار وحيرة القلوب وتبعثر الهمم وتفتت الاهتمامات، حتى اضحت الامور المعنوية غريبة عن الاذهان.

لذا، لو وجد الآن مَن هو بذكاء (سفيان بن عيينة)(1) الذي حفِظ القرآن الكريم وجالس العلماء وهو لا يزال في الرابعة من عمره، لاحتاج الى عشرة امثال ما احتاجه ابن عيينة ليبلغ درجة الاجتهاد، اي انه لو كان قد تيسر لسفيان بن عيينة الاجتهاد في عشر سنوات فان الذي في زماننا هذا قد يحصل عليه في مائة سنة، ذلك لان مبدأ تعلم (سفيان) الفطري للاجتهاد يبدأ من سن التمييز ويتهيأ استعداده تدريجاً كاستعداد الكبريت للنار، اما نظيره في الوقت الحاضر فقد غرق فكرُه في مستنقع الفلسفة المادية وسرح عقلُه في احداث السياسة، وحار قلبُه امام متطلبات الحياة المعاشية، وابتعدت استعداداته وقابلياته عن الاجتهاد، فلا جرم قد ابتعد استعداده عن القدرة على الاجتهادات الشرعية بمقدار تفننه في العلوم الارضية الحاضرة، وقصر عن نيل درجة الاجتهاد بمقدار تبحره في العلوم الارضية، لذا لا يمكنه ان يقول لِمَ لا استطيع ان ابلغ درجة سفيان بن عيينة، وانا مثله في الذكاء؟ نعم، لا يحق له هذا القول، كما انه لن يلحق به ولن يبلغ شأوه ابداً.

رابعها:

ان ميل الجسم الى التوسع لاجل النمو إن كان داخلياً فهو دليل التكامل. بينما ان كان من الخارج فهو سبب تمزق الغلاف والجلد، اي انه سبب الهدم والتخريب لا النمو والتوسع.

وهكذا، فان وجود ارادة الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين عند الذين يدورون في فلك الاسلام ويأتون اليه من باب التقوى والورع الكاملَين وعن طريق الامتثال بالضروريات الدينية فهو دليل الكمال والتكامل. وخير شاهد عليه السلف الصالح. اما التطلع الى الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين إن كان ناشئاً لدى الذين تركوا الضروريات الدينية واستحبوا الحياة الدنيا، وتلوثوا بالفلسفة المادية، فهو وسيلة الى تخريب الوجود الاسلامي وحل ربقة الاسلام من الاعناق.

خامسها:

هناك ثلاث نقاط تدعو الى التأمل والنظر، تجعل اجتهادات هذا العصر ارضية وتسلب منها روحها السماوي، بينما الشريعة سماوية والاجتهادات بدورها سماوية، لاظهارها خفايا احكامها. والنقاط هي الاتي:

اولاًـ ان (علّة) كل حكم تختلف عن (حكمته) فالحكمة والمصلحة سبب الترجيح وليست مناط الوجود ولامدار الايجاد، بينما (العلة) هي مدار وجود الحكم.

ولنوضح هذا بمثال: تُقصر الصلاة في السفر، فتصلّى ركعتان فعلّة هذه الرخصة الشرعية السفر. اما حكمتها فهي المشقة. فاذا وجُد السفرُ ولم تكن هناك مشقة فالصلاة تُقصر، لان العلة قائمة وهي السفر. في حين ان لم يكن هناك سفر وكانت هناك اضعاف اضعاف المشقة، فلن تكون تلك المشقات علة القصر.

وخلافاً لهذه الحقيقة يتوجه نظر الاجتهاد في هذا العصر، الى اقامة المصلحة والحكمة بدل العلة، وفي ضوئها يصدر حكمه، فلا شك ان اجتهاداً كهذا ارضي وليس بسماوي.

ثانياًـ ان نظر هذا العصر متوجه اولاً وبالذات الى تأمين سعادة الدنيا، وتوجّه الاحكام نحوها، والحال ان قصد الشريعة متوجه اولا وبالذات الى سعادة الآخرة، وينظر الى سعادة الدنيا بالدرجة الثانية، ويتخذها وسيلة للحياة الاخرى، اي ان وجهة هذا العصر غريبة عن روح الشريعة ومقاصدها، فلا تستطيع ان تجتهد باسم الشريعة.

ثالثاً ـ ان القاعدة الشرعية (الضرورات تبيح المحظورات) ليست كلية، لان الضرورة ان كانت ناشئة عن طريق الحرام لا تكون سبباً لإباحة الحرام. والاّ فالضرورة التي نشأت عن سوء اختيار الفرد، او عن وسائل غير مشروعة لن تكون حجة ولا سبباً لإباحة المحظورات ولا مداراً لأحكام الرُخص.

فمثلاً: لو اسكر احد نفسه - بسوء اختياره - فتصرفاته لدى علماء الشرع حجة عليه، اي لا يُعذَر، وان طلّق زوجته فطلاقُه واقع، وان ارتكب جريمة يعاقب عليها، ولكن ان كانت من دون اختيار منه، فلا يقع طلاقه، ولا يعاقب على ما جنى. فليس لمدمن خمر - مثلاً - ان يقول انها ضرورة لي، فهي اذن حلال لي، حتى لو كان مبتلىً بها الى حد الضرورة بالنسبة له.

فانطلاقاً من هذا المفهوم فان هناك كثير من الامور في الوقت الحاضر ابتلي بها الناس وباتت ضرورية بالنسبة لهم، حتى اخذت شكل (البلوى العامة) فهذه التي تسمى ضرورة، لن تكون حجة لاحكام الرُخَص، ولا تباح لاجلها المحظورات، لانها نجمت من سوء اختيار الفرد ومن رغبات غير مشروعة ومن معاملات محرمة.

وحيث ان اهل اجتهاد هذا الزمان قد جعلوا تلك الضرورات مداراً للاحكام الشرعية، لذا اصبحت اجتهاداتهم ارضية وتابعة للهوى ومشوبة بالفلسفة المادية، فهي اذن ليست سماوية، ولا تصح تسميتها اجتهادات شرعية قطعاً؛ ذلك لان اي تصرف في احكام خالق السموات والارض واي تدخل في عبادة عباده دونما رخصة او إذن معنوي فهو مردود.

ولنضرب لذلك مثالاً:

يستحسن بعض الغافلين القاء خطبة الجمعة وامثالها من الشعائر الاسلامية باللغة المحلية لكل قوم دون العربية ويبررون استحسانهم هذا بسببين:

الاول: (ليتمكن عوام المسلمين من فهم الاحداث السياسية)! مع انها قد دخلها من الاكاذيب والدسائس والخداع ما جعلها في حكم وسوسة الشياطين! بينما المنبر مقام تبليغ الوحي الإلهي، وهو ارفع واجل من ان ترتقى اليه الوسوسة الشيطانية.

الثاني: (الخطبة هي لفهم ما يرشد اليه بعض السور القرآنية من نصائح).

نعم؛ لو كان معظم المسلمين يفهمون المسلّمات الشرعية والاحكام المعلومة من الدين بالضرورة، ويمتثلون بها، فلربما كان يستحسن عند ذاك ايراد الخطبة باللغة المعروفة لديهم، ولكانت ترجمة سور من القرآن لها مبرر - ان كانت الترجمة ممكنة(1) - وذلك ليفهموا النــظـــريات الشــرعية والمســائــل الدقيقة والنــصائـح الخــفية. امـــا وقد اهملت في زماننا هذا الاحكام الواضحة المعلومة؛ كوجوب الصلاة والزكاة والصيام وحرمة القتل والزنا والخمر، وان عوام المسلمين ليسوا بحاجة الى دروس في معرفة هذا الوجوب وتلك الحرمة بقدر ما هم بحاجة الى الامتثال بتلك الاحكام واتباعها في حياتهم. ولا يتم ذلك الا بتذكيرهم وحثهم على العمل وشحذ الهمم واثارة غيرة الاسلام في عروقهم، وتحريك شعور الايمان لديهم كي ينهضوا بامتثال واتباع تلك الاحكام المطهرة.

فالمسلم العامي - مهما بلغ جهله - يدرك هذا المعنى الاجمالي من القرآن الكريم، ومن الخطبة العربية. ويعلم في قرارة نفسه بان الخطيب او المقرئ للقرآن الكريم يذكّره - ويذكّر الاخرين معه - باركان الايمان واسس الاسلام التي هي معلومة من الدين بالضرورة. وعندها يفعم قلبه بالاشواق الى تطبيق تلك الاحكام.

ليت شعري اي تعبير في الكون كله يمكنه ان يقف على قدميه حيال الاعجاز الرائع في القرآن الكريم الموصول بالعرش العظيم.. واي ترغيب وترهيب وبيان وتذكير يمكن ان يكون افضل منه؟!

سادسها:

ان قرب عهد المجتهدين العظام من السلف الصالحين لعصر الصحابة الكرام الذي هو عصر الحقيقة وعصر النور يسَّر لهم ان يأخذوا النور الصافي من اقرب مصادره، فتمكنوا من القيام باجتهاداتهم الخالصة، في حين ان مجتهدي العصر الحديث ينظرون الى كتاب الحقيقة من مسافة بعيدة جداً ومن وراء كثير جداً من الاستار والحجب حتى ليصعب عليهم رؤية اوضح حرف فيه.

فان قلت: ان مدار الاجتهادات ومصدر الاحكام الشرعية هو عدالة الصحابة وصدقهم، حتى اتفقت الامة على انهم عدول صادقون، علما انهم بشر مثلنا، لا يخلون من خطأ!

الجواب: ان الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين هم روّاد الحق وعشاقه، وهم التواقون الى الصدق والعدل. ولقد تبين في عصرهم قبح الكذب ومساوؤه، وجمال الصدق ومحاسنه بوضوح تام، بحيث اصبح البون شاسعاً بين الصدق والكذب كالبعد بين الثريا والثرى وبين العرش والفرش!! اذ يوضح ذلك الفارق الكبير بين الرسول الاعظم e الواقف على قمة درجات الصدق وفي اعلى عليين وبين مسيلمة الكذاب الذي كان في اسفل سافلين وفي اوطأ دركات الكذب.

فالذي اهوى بمسيلمة الى تلك الدركات الهابطة الدنيئة هو الكذب والذي رفع محمداً الامين e الى تلك الدرجات الرفيعة هو الصدق والاستقامة.

لذا فالصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين كانوا يملكون الهمم العالية والخلق الرفيع واستناروا بنور صحبة شمس النبوة، لا ريب انهم ترفعوا عن الكذب الممقوت القبيح الموجود في بضاعة مسيلمة الكذاب ونجاساتها الموجبة للذلة والهوان - كما هو ثابت - وتجنبوا الكذب كتجنبهم الكفر الذي هو صنوه، وسعوا سعياً حثيثاً في طلب الصدق والاستقامة والحق، وتحروه بكل ما اوتوا من قوة وعزم. فشغفوا به ولا سيما في رواية الاحكام الشرعية وتبليغها، تلك الاحكام المتسمة بالحسن وبالجمال القمينة بالمباهاة والفخر، والتي هي وسيلة للعروج صعداً الى الرقي والكمال، والموصولة السبب بعظمة الرسول e الذي تنورت بنور شعاعه الحياة البشرية.

اما الآن، فقد ضاقت المسافة بين الكذب والصدق، وقصرت حتى صارا متقاربين بل متكاتفين، وبات الانتقال من الصدق الى الكذب سهلاً وهيناً جداً بل غدا الكذب يفضل على الصدق في الدعايات السياسية.

فان كان اجمل شئ يباع مع اقبحه في حانوت واحد جنباً الى جنب وبالثمن نفسه، ينبغي على مشتري لؤلؤة الصدق الغالي الاّ يعتمد على كلام صاحب الحانوت ومعرفته دون فحص وتمحيص.

الخاتمة

تتبدل الشرائع بتبدل العصور، وقد تأتي شرائع مختلفة، وترسل رسل كرام في عصر واحد، حسب الاقوام. وقد حدث هذا فعلاً.

اما بعد ختم النبوة، وبعثة خاتم الانبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام فلم تعد هناك حاجة الى شريعة اخرى. لان شريعته العظمى كافية ووافية لكل قوم في كل عصر.

اما جزئيات الاحكام غير المنصوص عليها التي تقتضي التبديل تبعاً للظروف، فان اجتهادات فقهاء المذاهب كفيلة بمعالجة التبديل. فكما تبدل الملابس باختلاف المواسم، وتغيّر الادوية حسب حاجة المرضى، كذلك تبدل الشرائع حسب العصور، وتدور الاحكام وفق استعدادات الامم الفطرية، لان الاحكام الشرعية الفرعية تتبع الاحوال البشرية، وتأتي منسجمة معها وتصبح دواء لدائها.

ففي زمن الانبياء السابقين عليهم السلام كانت الطبقات البشرية متباعدة بعضها عن بعض، مع ما فيهم من جفاء وشدة في السجايا، فكانوا اقرب ما يكونون الى البداوة في الافكار، لذا اتت الشرائع في تلك الازمنة متباينة مختلفة، مع موافقتها لأحوالهم وانسجامها على اوضاعهم، حتى لقد اتى انبياء متعددون بشرائع مختلفة في منطقة واحدة وفي عصر واحد.

ولكن بمجىء خاتم النبيين وهو نبي آخر الزمان e ، تكاملت البشرية وكأنها ترقت من مرحلة الدراسة الابتدائية فالثانوية الى مرحلة الدراسة العالية واصبحت اهلاً لان تتلقى درساً واحداً، وتنصت الى معلم واحد، وتعمل بشريعة واحدة. فرغم كثرة الاختلافات لم تعد هناك حاجة الى شرائع عدة ولا ضرورة الى معلمين عديدين.

ولكن لعجز البشرية من ان تصل جميعاً الى مستوى واحد، وعدم تمكنها من السير على نمط واحد في حياتها الاجتماعية فقد تعـددت المـذاهب الفقهــية في الفروع.

فلو تمكنت البشرية - باكثريتها المطلقة - ان تحيا حياة اجتماعية واحدة، واصبحت في مستوى واحد، فحينئذ يمكن أن تتوحد المذاهب.

ولكن مثلما لا تسمح احوال العالم، وطبائع الناس لبلوغ تلك الحالة، فان المذاهب كذلك لا تكون واحدة.

فان قلت: ان الحق واحد، فكيف يمكن ان تكون الاحكام المختلفة للمذاهب الاربعة والاثني عشر حقاً؟

الجواب: يأخذ الماء احكاماً خمسة مختلفة حسب اذواق المرضى المختلفة وحالاتهم:

فهو دواء لمريض على حسب مزاجه، اي تناوله واجب عليه طباً. وقد يسبب ضرراً لمريض آخر فهو كالسم له، اي يحرم علـيه طـــباً، وقد يولد ضـــرراً اقل لمريض آخر فهو اذن مكروه له طباً، وقد يكون نافعاً لآخر من دون أن يضره، فيسنّ له طباً، وقد لا يضر آخر ولا ينفعه، فهو له مباح طباً فليهنأ بشربه.

فنرى من الامثلة السابقة:

ان الحق قد تعدد هنا، فالاقسام الخمسة كلها حق، فهل لك ان تقول: ان الماء علاج لا غير، او واجب فحسب، وليس له حكم آخر؟.

وهكذا ـ بمثل ما سبق - تتغير الاحكام الإلهية بسَوْقٍ من الحكمة الإلهية وحسب التابعين لها. فهي تتبدل حقاً، وتبقى حقاً ويكون كل حكم منها حقاً ويصبح مصلحة.

فمثلا: نجد ان اكثرية الذين يتبعون الامام الشافعي رضى الله عنه هم اقرب من الاحناف الى البداوة وحياة الريف، تلك الحياة القاصرة عن حياة اجتماعية توحدّ الجماعة. فيرغب كل فرد في بث ما يجده في نفسه الى قاضي الحاجات بكل اطمئنان وحضور قلب، ويطلب حاجته الخاصة بنفسه ويلتجئ اليه، فيقرأ سورة الفاتحة بنفسه رغم انه تابع للامام. وهذا هو عين الحق، وحكمة محضة في الوقت نفسه. اما الذين يتبعون الامام الاعظم (ابو حنيفة النعمان) رضى الله عنه، فهم باكثريتهم المطلقة اقرب الى الحضارة وحياة المدن المؤهلة لحياة اجتماعية، وذلك بحكم التزام اغلب الحكومات الاسلامية لهذا المذهب. فصارت الجماعة الواحدة في الصلاة كأنها فرد واحد، واصبح الفرد الواحد يتكلم باسم الجميع، وحيث ان الجميع يصدقونه ويرتبطون به قلباً، فان قوله يكون في حكم قول الجميع، فعدم قراءة الفرد وراء الامام بـ(الفاتحة) هو عين الحق وذات الحكمة.

ومثلاً: لما كانت الشريعة تضع حواجز لتحول دون تجاوز طبائع البشر حدودها، فتقوّمها بها وتؤدبها، فتربى النفس الامارة بالسوء، فلابد ان ينقض الوضوء بمس المرأة وقليل من النجاسة يضر، حسب المذهب الشافعي الذي اكثر اتباعه من اهل القرى وانصاف البدو والمنهمكين بالعمل اما حسب المذهب الحنفي الذين هم باكثريتهم المطلقة قد دخلوا الحياة الاجتماعية، واتخذوا طور انصاف متحضرين فـ(لا ينقض الوضوء من مسِّ المرأة، ويسمح بقدر درهم من النجاسة). ولننظر الآن الى عامل والى موظف، فالعامل بحكم معيشته في القرية معرض للاختلاط والتماس بالنساء الاجنبيات والجلوس معـــاً حول مـــوقــد واحــد، والـــولــــوج في اماكن ملوثة فهو مبتلى بكل هذا بحكم مهنته ومعيشته، وقد تجد نفسه الامارة بالسوء مجالاً امامها لتتجاوز حدودها؛ لذا تلقي الشريعة في روع هذا صدى سماوياً فتمنع تلك التجاوزات بامرها له: لا تمس ما ينقض الوضوء، فتبطل صلاتك. اما ذلك الموظف، فهو حسب عادته الاجتماعية لا يتعرض للاختلاط بالنساء الاجنبيات - بشرط ان يكون نبيلاً - ولا يلوث نفسه كثيراً بالنجاسات، آخذاً باسباب النظافة المدنية. لذا لم تشدد عليه الشريعة، بل اظهرت له جانب الرخصة - دون العزيمة - باسم المذهب الحنفي وخففت عنه قائلة: ان مست يدك امرأة اجنبية فلا ينقض وضوءك، ولا ضرر عليك ان لم تستنج بالماء حياء من الحاضرين، فهناك سماح بقدر درهم من النجاسة فتخلصه بهذا من الوسوسة، وتنجّيه من التردد.

فهاتان قطرتان من البحر نسوقهما مثالاً، قس عليهما، واذا استطعت ان تزن موازين الشريعة بميزان (الشعراني) على هذا المنوال فافعل.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللّهم صل وسلم على مَن تمثّل فيه انوارُ محبتك لجمال صفاتك واسمائك، بكونه مرآةً جامعة لتجليات اسمائك الحسنى.. ومَن تمركز فيه شعاعاتُ محبتك لصنعتك في مصنوعاتك بكونه اكملَ وابدعَ مصنوعاتك، وصيرورته انموذج كمالات صنعتك، وفهرستة محاسن نقوشك.. ومَن تظاهر فيه لطائف محبتك ورغبتك لاستحسان صنعتك بكونه أعلى دلالي محاسن صنعتك وأرفع المستحسنين صوتاً في اعلان حسن نقوشك وأبدعهم نعتاً لكمالات صنعتك.. ومَن تجمّع فيه اقسامُ محبتك واستحسانك لمحاسن اخلاق مخلوقاتك ولطائف اوصاف مصنوعاتك، بكونه جامعاً لمحاسن الاخلاق كافة بإحسانك وللطائف الاوصاف قاطبة بفـضلك.. ومَن صار مصداقاً ومقياساً فائقاً لجميع من ذكرتَ في فرقانك انك تحبهم من المحسنين والصابرين والمؤمنين والمتقين والتوابين والاوابين وجميع الاوصاف الذين احببتهم وشرفتهم بمحبتك، في فرقانك حتى صار امام الحبيبين لك، وسيد المحبوبين لك ورئيس اودّائك وعلى آله واصحابه واخوانه اجمعين آمين برحمتك يا ارحم الراحمين.

ذيل

رسالة الاجتهاد

يخص الصحابة الكرام

رضوان الله تعالى عليهم اجمعين

اقول كما قال مولانا جامي:

يا رسول الله جه باشد جون سك اصحاب كهف

داخـل جنـت شوم در زمـرهء اصحـاب تـو؟

او رود درجنـت ومـن درجهنم كـى رواســت

او سك اصحـاب كهف ومن ســك اصحـاب تو؟.

يا رسول الله ما ضر لو دخلت الجنة مع الداخلين،

ككلب اصحاب الكهف في زمرة اصحابك الاولين.

أيـُّنا أليَق بالجنة انا أم مَن حرس الكهف سنين

هو كلب اصحاب الرقيم وانا كلب اصحاب الامين(1).



باسمه سبحانه

] وان من شئ إلاّ يسبح بحمده[

بسم الله الرحمن الرحيم

] مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالذِينَ مَعَهُ أشدّاءُ على الكفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم تَراهُمْ رُكَّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فـَضْلاً مِن الله ِوَرِضْوَاناً سيمَاهُمْ فى وُجُوهِهِمْ مِن اَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فى التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فىِ الانْجِيلِ كَزَرعٍ اَخْرَجَ شَطْئهُ فَآزَرَهُ فَاستَغلَظَ فَاسْتَوى علَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّار وَعَدَ الله الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُمْ مَغْفِرةً واَجْراً عَظيماً[ (الفتح:29).

تسأل يا اخي: ان هناك روايات تفيد انه عند انتشار البدع يمكن ان يبلغ مؤمنون صادقون درجة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وربما يسبقونهم، فهل هذه الروايات صحيحة؟ وان كانت كذلك، فما حقيقتها؟

الجواب: ان اجماع اهل السنة والجماعة لهو حجة قاطعة بان الصحابة الكرام هم افضل البشر بعد الانبياء عليهم السلام. فالصحيح من تلك الروايات يخص الفضائل الجزئية وليس الفضائل الكلية، اذ قد يترجح المرجوح على الراجح في الفضائل الجزئية وفي كمال خاص معين، والاّ فلا يبلغ احد من حيث الفضائل الكلية منزلة الصحابة الكرام الذين اثنى الله تعالى عليهم في قرآنه المبين ووصفَهم في التوراة والانجيل، كما هو في ختام سورة الفتح.

وسنبين ثلاثاً من الحكم المنطوية على اسباب ثلاثة من بين الكثير من الاسباب والحكم.

C الحكمة الاولى:

ان الصحبة النبوية اكسير عظيم، لها من التأثير الخارق ما يجعل الذين يتشرفون بها لدقيقة واحدة ينالون من انوار الحقيقة ما لا يناله من يصرف سنين من عمره في السير والسلوك، ذلك لان في الصحبة النبوية انصباغاً بصبغة الحقيقة، وانعكاساً لانوارها، اذ يستطيع المرء بانعكاس ذلك النور الاعظم ان يرقى الى مراتب سامية ودرجات رفيعة، وان يحظى بالتبعية والانتساب بارفع المقامات. مثله في هذا مثل خادم السلطان، الذي يستطيع ان يصل الى مواقع رفيعة لا يقدر على بلوغها قواد السلطان وامراؤه.

ومن هذا السر نرى انه لا يستطيع ان يرقى اعظم ولي من اولياء الله الصالحين الى مرتبة صحابي كريم للرسول الاعظم e ، بل حتى لو تَشرف اوليـاء صالحـون مراراً بصحبة النبي e في الصحوة، كــجلال الديـن السيوطي - مثلاً - واُكرموا بلقائه يقظة في هذا العالم، فلا يبلغون ايضاً درجة الصحابة لان صحبة الصحابة الكرام للنبي e كانت بنور النبوة، إذ كانوا يصحبونه في حالة كونه نبياً رسولاً. اما الاولياء الصالحون فان رؤيتهم له e انما هي بعد وفاته، اي بعد انقطاع الوحي، فهي صحبة بنور الولاية، اي ان تمثل الرسول e وظهوره لنظرهم انما هو من حيث الولاية الاحمدية، وليس باعتبار النبوة.

فما دام الامر هكذا، فلا بد ان تتفاوت الصحبتان بمقدار سمو درجة النبوة وعلوها على مرتبة الولاية.

ولكي يتوضح ما للصحبة النبوية من تأثير خارق ونور عظيم، يكفي ملاحظة ما يأتي:

بينما اعرابي غليظ القلب يئد بنته بيده، اذا به يكسب خلال حضوره مجلس الرسول e ومن صحبته ساعة من الزمان، رقة قلب وسعة صدر وشفافية روح ما يجعله يتحاشى قتل نملة صغيرة.

أو آخر يجهل شرائع الحضارة وعلومها، يحضر مجلس الرسول الكريم e فيصبح معلماً لأرقى الامم المتحضرة - كالهند والصين - ويحكم بينهم بالقسطاس المستقيم، ويغدو لهم مثلاً اعلى وقدوة طيبة.

C لحكمة الثانية:

لقد اثبتنا في رسالة (الاجتهاد) ان الصحابة الكرام هم في قمة الكمال الانساني، حيث ان التحول العظيم الذي احدثه الاسلام في مجرى الحياة في ذلك الوقت، سواء في المجتمع او في الفرد، قد ابرز جمال الخير والحق واظهر نصاعتهما الباهرة، وكشف عن خبث الشر والباطل وبيّن سماجتهما وقبحهما، حتى انجلى كل من الحق والباطل والصدق والكذب بوضوح تام، يكاد المرء يلمسه لمس اليد، وانفرجت المسافة بين الخير والشر وبين الصدق والكذب، ما بين الايمان والكفر، بل ما بين الجنة والنار.

لذا فالصحابة الكرام رضى الله عنهم الذين وُهبوا فطراً سليمة ومشاعر سامية، وهم التواقون لمعالي الامور ومحاسن الاخلاق شدوا انظارهم الى الذي تسنَّم قمة اعلى عليي الكمال والداعي الى الخير والصدق والحق، بل هو المثال الاكمل والنموذج الاتم، ذلكم الرسول الكريم حبيب رب العالمين محمد e ، فبذلوا كل ما وهبهم الله سبحانه من قوة للانضواء تحت لوائه، بمقتضى سجيتهم الطاهرة وجبلتهم النقية، ولم يُر منهم اي ميل كان الى اباطيل مسيلمة الكذاب الذي هو مثال الكذب والشر والباطل والخرافات.

ولتوضيح الامر نسوق هذا المثال:

تعرض احياناً في سوق الحضارة البشرية ومعرض الحياة الاجتماعية اشياء لها من الآثار السيئة المرعبة والنتائج الشريرة الخبيثة ما للسم الزعاف للمجتمع. فكل من كانت له فطرة سليمة ينفر منها بشدة ويتجنبها ولا يقربها.. وتعرض كذلك اشياء اخرى وامتعة معنوية في السوق نفسها، لها من النتائج الطيبة والآثار الحسنة ما يستقطب الانظار اليها، وكأنها الدواء الناجع لامراض المجتمع، لذا يسعى نحوها المفطورون على الخير والصلاح.

وهكذا، ففي عصر النبوة السعيد وخير القرون على الاطلاق، عرضت في سوق الحياة الاجتماعية امور. فبديهي ان يسعى الصحابة الكرام نحو الصدق والخير والحق لما يملكون من فطر صافية وسجايا سامية، وبديهي كذلك ان ينفروا ويتجنبوا كل ماله نتائج وخيمة وشقاء الدنيا والآخرة كالكذب والشر والكفر، فالتفوا حول راية الرسول الكريم e وتجنبوا مهازل مسيلمة الكذاب الذي يمثل الكذب والشر والباطل.

بيد ان الامور تغيرت تدريجياً وبمرور الزمن فلم تبق على حالها كما هي في قرون الخير، فتقلصت المسافة بين الكذب والصدق رويداً رويداً كلما اقتربنا الى عصورنا الحاضرة حتى اصبحا مترادفين متكاتفين في العصر الحاضر، فصار الصدق والكذب يعرضان معاً في معرض واحد، ويصدران معاً من مصدر واحد ففسدت الاخلاق الاجتماعية واختلت موازينها. وزادت الدعايات السياسية اخفاء قبح الكذب المرعب وستر جمال الصدق الباهر.

فهل يقوى احد على الجرأة في عصر كهذا ويدّعي: استطيع ان ادنو من مرتبة اولئك الكرام العظام الذين بلغوا من اليقين والتقوى والعدالة والصدق وبذل النفس والنفيس في سبيل الحق مالم يبلغه احد، فضلاً عن ان يسبقهم؟

سأورد حالة مرت علي توضح جانباً من هذه المسألة:

لقد خطر على قلبي ذات يوم سؤال وهو: لِمَ لا يبلغ اشخاص امثال محي الدين بن عربي مرتبة الصحابة الكرام؟ ثم لاحظت في اثناء قولي في سجودٍ في صلاة: (سبحان ربي الاعلى) ان شيئا من الحقائق الجليلة لمعاني هذه الكلمة الطيبة قد انكشف لي، لا اقول كلها، بل انكشف شئ منها. فقلت في قلبي: ليتني احظى بصلاة كاملة تنكشف لي من معانيها ما انكشف من معاني هذه الكلمة المباركة فهي خير من عبادة سنة كاملة من النوافل. ثم ادركت عقب الصلاة ان تلك الخاطرة وتلك الحال كانت جواباً على سؤالي، وارشاداً الى استحالة ادراك احد من الناس درجة الصحابة الكرام في العبادة، ذلك ان التغيير الاجتماعي العظيم الذي أحدثه القرآن الكريم بأنواره الساطعة قد ميَّز الاضداد بعضها عن البعض الآخر، فالشرور بجميع توابعها وظلماتها اصبحت في مجابهة الخير والكمالات مع جميع انوارها ونتائجها. ففي هذه الحالة المحفزة لانطلاق نوازع الخير والشر من عقالها، تنبهت لدى اهل الخير نوازعه فغدا كل ذكر وتسبيح وتحميد يفيد لديهم معانيه كاملة ويعبر عنها تعبيراً ندياً نضراً. فارتشفت مشاعرهم المرهفة ولطائفهم الطاهرة بل حتى خيالهم وسرهم رحيق المعاني السامية العديدة لتلك الاذكار ارتشافاً صافياً يقظاً حسب اذواقها الرقيقة. وبناء على هذه الحكمة، فان الصحابة الكرام الذين كانو يملكون مشاعر حساسة مرهفة وحواس منتبهة ولطائف يقظة، عندما يذكرون تلك الكلمات المباركة الجامعة لانوار الايمان والتسبيح والتحميد يشعرون بجميع معانيها ويأخذون حظهم منها بجميع لطائفهم الزكية.

بيد ان الامور لم تبق على ذلك الوضع الندي والطراوة والجدة فتبدلت تدريجياً بمرور الزمن حتى غطت اللطائف في نوم عميق، وغفلت المشاعر والحواس وانصرفت عن الحقائق ففقدت الاجيال اللاحقة شيئاً فشيئاً قدرتهم على تذوق طراوة تلك الكلمات الطيبة والتلذذ بطعومها ونداوتها. فغدت لديهم كالثمار الفاقدة لطراواتها ونضارتها، حتى لكأنها جفت ويـبست ولم تعد تحمل لهم الا نزراً يسيراً من الطراوة، لا تستخلص الا بعد اعمال الذهن والتفكر العميق، وبذل الجهد وصرف الطاقة، لذا فالصحابي الجليل الذي ينال مقاماً وفضيلة في اربعين دقيقة لا يناله غيره الا في اربعين يوماً، بل في اربعين سنة، وذلك بفضل الصحبة النبوية الشريفة.

C لسبب الثالث:

لقد اثبتنا في كل من الكلمات (الثانية عشرة والرابعة والعشرين والخامسة والعشرين):

ان نسبة النبوة الى الولاية كنسبة الشمس المشهودة بذاتها الى صورتها المثالية الظاهرة في المرايا، لذا فان سمو منزلة العاملين في دائرة النبوة وهم الصحابة الكرام الذين كانوا اقرب النجوم الى تلك الشمس الساطعة، وعلو مرتبتهم على الاولياء الصالحين هو بنسبة سمو دائرة النبوة وعلوها على دائرة الولاية، بل حتى لو كسب احد الاولياء مرتبة الولاية الكبرى، وهي مرتبة ورثة الانبياء والصديقين وولاية الصحابة، فانه لا يبلغ مقام اولئك الصفوة المتقدمين في الصف الاول، رضوان الله تعالى عليهم اجمعين.

سنبين ثلاثة اوجه فقط من بين الوجوه العديدة لهذا السبب الثالث:

الوجه الاول:

لا يمكن اللحاق بالصحابة الكرام في الاجتهاد، اي في استنباط الاحكام، اي ادراك مرضاة الله سبحانه من خلال كلامه؛ لان محور ذلك الانقلاب الإلهي العظيم الذي حدث في ذلك الوقت كان يدور على مرضاة الرب من خلال فهم احكامه الإلهية. فالاذهان كلها كانت مفتوحة متوجهة الى استنباط الاحكام، والقلوب كلها كانت متلهفة الى معرفة: ماذا يريد منا ربنا؟ فالمحادثات والمحاورات كانت تتضمن هذه المعاني، والظروف والاحداث تجري في ضوئها.

وحيث ان كل شئ في ذلك الوقت وكل حال وكل محاورة ومجالسة ومحادثة وحكاية تجري بما يرشد الى تلك المعاني ويدل عليها، لذا كانت - تلك الظروف - تكمل قابليات الصحابة الكرام وتنور افكارهم وتهئ استعداداتهم لقدح زنادها للاجتهاد واستنباط الاحكام، اذ كانوا يكسبون من الملكة على الاستنباط والاجتهاد في يوم واحد او في شهر واحد ما لا يمكن ان يحصل عليها في هذا الوقت من هو في مستوى ذكائهم واستعدادهم في عشر سنوات، بل في مائة سنة، لان الانظار في الوقت الحاضر متوجهة الى نيل حياة دنيوية رغيدة دون سعادة الآخرة الابدية وحياة النعيم المقيم فيها، فالانظار مصروفة عنها. فهموم العيش التي تتضاعف بعدم التوكل على الله تلقي ثقلها على روح الانسان وتجعلها في اضطراب وقلق، والفسلفة المادية والطبيعية تكل العقل وتعمي البصيرة. فترى المحيط الاجتماعي الحاضر مثلما لا يمد ذهن ذلك الشخص (الذكي) ولا يؤازر استعداده الفطري نحو الاجتهاد فضلاً عن انه يشتته ويرهقه اكثر.

ولقد عقدنا موازنة في رسالة (الاجتهاد) بين سفيان بين عيينة ومَن هو في مستوى ذكائه في هذا العصر، وخلصنا من الموازنة الى ان ما حصل عليه سفيان في عصره من القدرة على الاستنباط في عشر سنوات لا يمكن ان يحصل عليه من هو بمستوى ذكائه في هذا العصر في مائة سنة.

الوجه الثاني:

لا يمكن اللحاق بالصحابة الكرام في قربهم من الله بخطى الولاية؛ ذلك لان الله سبحانه وتعالى هو اقرب الينا من حبل الوريد، اما نحن فبعيدون عنه بعداً مطلقاً، والانسان يمكنه ان ينال القرب منه بالصورتين الآتيتين:

الصورة الاولى: من حيث انكشاف اقربيته سبحانه وتعالى للعبد. فقرب النبوة اليه تعالى هو من هذا الانكشاف. والصحابة الكرام من حيث انهم ورثة النبوة والصحبة النبوية يحظون بهذا الانكشاف.

الصورة الثانية: من حيث بُعدنا عنه سبحانه، فالتشرف بشئ من قربه سبحانه يكون بقطع المراتب اليه. واغلب طرق الولاية، وما فيها من سير وسلوك تجري على هذه الصورة سواء منها السير الانفسي او الافاقي.

فالصورة الاولى التي هي انكشاف اقربيته سبحانه - اي قربه سبحانه من العبد - هبة محضة منه تعالى وليس كسباً قط، بل هو انجذاب إلهي وجذب رحماني، ومحبوبية خالصة. فالطريق قصير، الا انه ثابت رصين، وهو عال رفيع سام جداً، وخالص طاهر لا ظل فيه ولا كدر.

اما الصورة الاخرى من التقرب الى الله، فهي كسبية، طويلة، فيها شوائب وظلال، ورغم ان خوارقها كثيرة فانها لا تبلغ الصورة الاولى من حيث الاهمية والقرب منه تعالى.

ولنوضح ذلك بمثال:

لاجل ادراك الامس من هذا اليوم هناك طريقان:

الاول: الانسلاخ من وقائع الزمن وجريانه بقوة قدسية، والعروج الى ما فوق الزمان، ورؤية امس حاضراً كاليوم.

اما الثاني: فهو قطع مسافة سنة كاملة لملاقاة الامس من جديد، ومع ذلك لا يمكن ان تمسك به، لانه يدعك ويمضي.

وهكذا الامر في النفوذ من الظاهر الى الحقيقة، فانه بصورتين:

الاولى: الانجذاب الى الحقيقة مباشرة ووجدان الحقيقة في عين الظاهر المشاهد، من دون الدخول الى برزخ الطريقة.

الثانية: قطع مراتب كثيرة بالسير والسلوك.

فاهل الولاية رغم انهم يوفقون الى فناء النفس الامارة بالسوء ويقتلونها، فانهم لا يبلغون مرتبة الصحابة الكرام، لان نفوس الصحابة كانت مزكاة ومطهرة، فنالوا كثيراً من انواع العبادة وضروباً مختلفة من الوان الشكر والحمد باجهزة النفس العديدة، بينما عبادة الاولياء - بعد فناء النفس - تصبح يسيرة وسهلة.

الوجه الثالث:

لا يمكن ادراك الصحابة الكرام في فضائل الاعمال وثواب الافعال وجزاء الاخرة، لان الجندي المرابط لساعة من الزمن في ظروف صعبة تحيطه، وفي موقع مهم مخيف، يكسب فضيلة وثواباً يقابل سنة من العبادة، واذا اصيب بطلقة واحدة في دقيقة واحدة، فانه يسمو الى مرتبة لا يمكن بلوغها في مراتب الولاية الا في اربعين يوماً على اقل تقدير. كذلك الامر في جهاد الصحابة الكرام عند ارساء دعائم الاسلام، ونشر احكام القرآن، واعلانهم الحرب على العالم اجمع باسم الاسلام، فهو مرتبة عظيمة وخدمة جليلة لا ترقى سنة كاملة من العمل لدى غيرهم الى دقيقة واحدة من عملهم، بل يصح ان يقال:

ان دقائق عمر الصحابة الكرام جميعها - في تلك الخدمة المقدسة - انما هي بمثل الدقيقة التي استشهد فيها الجندي، وان ساعات عمرهم كلها هي بمثل الساعة لذلك الجندي الفدائي المرابط في موقع خطر مرعب. فالعمل قليل، الا ان الاجـر عظيـم والثواب جزيل، والاهمية جليلة.

نعم! ان الصحابة الكرام انما يمثلون اللبنة الاولى في تأسيس صرح الاسلام، وهم الصف الاول في نشر انوار القرآن، فلهم اذن قسط وافر من جميع حسنات الامة، حسب قاعدة (السبب كالفاعل). فالامة الاسلامية اثناء ترديدها: (اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه وسلم) انما تبين ماللآل والصحب الكرام من حظ وافر في حسنات الامة جميعها.

ولكي نوضح ما يترتب من نتائج عظيمة على اثر ضئيل في البداية نسوق الامثلة الآتية:

خاصية صغيرة مهمة في جذر النبات تأخذ صورة عظيمة في اغصانها، فتلك الخاصية في الجذر اذن هي اعظم من اعظم غصن.. وارتفاع ضئيل في البداية يكون تدريجياً عظيماً في النهاية.. وان الزيادة الطفيفة في نقطة المركز - ولو بمقدار انملة - تكون احياناً بمقدار متر كامل في الدائرة المحيطة.

وهكذا فلأن الصحابة الكرام هم مؤسسو الاسلام، وجذور شجرة الاسلام المنيرة، وبداية الخطوط الاساسية لبناء الاسلام، وركيزة المجتمع الاسلامي وائمته، واقرب الناس الى شمس النبوة المنيرة وسراج الحقيقة.. فعمل قليل منهم هو عظيم جليل. وخدمة ضئيلة يقدمونها هي جسيمة كثيرة، فلا يمكن اللحاق بهم وادراكهم الا ان يكون المرء صحابياً مثلهم.

اللّهم صلِّ على سيدنا محمد الذي قال: (اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم(1) و خيرالقرون قرني..)(2) وعلى آله واصحابه وسلم.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

سؤال: يقال ان الصحابة الكرام قد رأوا الرسول e عياناً ثم آمنوا به وصدّقوه، اما نحن فقد آمنا به من دون ان نراه، فايماننا اذن اقوى من ايمانهم، فضلاً عن ان هناك روايات تؤيد ما نذهب اليه!!

الجواب: ان الصحابة الكرام - رضوان الله تعالى عليهم اجمعين - قد وقفوا امام جميع التيارات الفكرية في العالم اجمع والتي كانت تعادي حقائق الاسلام وتصدها. فآمنوا ايماناً راسخاً صادقاً خالصاً مع انهم لم يروا من الرسول الكريم e بعد الا ظاهر صورته الانسانية، بل آمنوا به - أحياناً - من دون ان يروا منه معجزة، واصبح ايمانهم من الرسوخ والمتانة ما لا تزعزعه جميع تلك الافكار العامة المناهضة للاسلام، بل لم تؤثر ولو بأدنى شبهة او وسوسة.

اما انتم فمع انكم لم تروا صورته الظاهرة وشخصيته البشرية التي هي بمثابة نواة لشجرة طوبى النبوة، فان افكار عالم الاسلام تشد من ايمانكم وتمده وتعززه، فضلاً عن انكم ترون - بعين العقل - شخصية الرسول الكريم المعنوية e المنورة بانوار الاسلام وحقائق القرآن، تلك الشخصية المهيبة بألفٍ من معجزاته الثابتة..أفيوازن ايمانكم هذا مع ايمانهم العــظيم؟. فاين ايمانــكم الذي يـهوي في شباك الشبهات بمجرد كلام يطلقه فيلـسـوف مــادي اوربــي، من ايمانــهم الذي كــان كالطود الشـــامـخ لا يتزعزع امام الاعاصير التي يثيرها جميع اهل الكفر والالحاد واليهود والنصارى والحكماء؟

فيا ايها المدعي! اين ايمانك الواهي الذي قد لا يقوى لاداء الفرائض على وجهها من صلابة وقوة ايمانهم وعظيم تقواهم وصلاحهم الذي بلغ مرتبة الاحسان؟

اما ما ورد في الحديث الشريف بما معناه ان الذين لم يروني وآمنوا بي هم افضل منكم(1).. فهو يخص الفضائل الخاصة، وهو بحق بعض الاشخاص. بينما بحثنا هذا هو في الفضائل الكلية وما يعود الى الاكثرية المطلقة.

السؤال الثاني: يقولون:

ان الاولياء الصالحين واصحاب الكمال قد تركوا الدنيا وعافوا ما فيها، بمضمون ما ورد في حديث شريف: حب الدنيا رأس كل خطيئة(2)، بينما الصحابة الكرام قد اخذوا بامور الدنيا واقبلوا عليها ولم يدَعوها، بل قد سبق قسم منهم اهل الحضارة في اخذهم بمتطلبات الدنيا. فكيف تقول: ان اصغر صحابي من امثال هؤلاء هو كأعظم ولي من اولياء الله الصالحين؟

الجواب: لقد اثبتنا اثباتاً قاطعاً في الموقف الثاني والثالث من الكلمة الثانية والثلاثين:

ان للدنيا ثلاثة وجوه: فابداء المحبة الى وجهي الدنيا المتطلعين الى الاسماء الحسنى والآخرة ليس نقصاً في العبودية، بل هو مناط كمال الانسان وسمو ايمانه، اذ كلما جهد الانسان في محبته لذينك الوجهين كسب مزيداً من العبادة ومزيداً من معرفة الله سبحانه. ومن هنا كانت دنيا الصحابة الكرام متوجهة الى ذينك الوجهين، فعدوها مزرعة الآخرة وزرعوا الحسنات وجنوا الثمرات اليانعة من الثواب الجزيل والاجر العظيم، واعتبروا الدنيا وما فيها كأنها مرايا تعكس انوار تجليات الاسماء الحسنى، فتأملوا فيها وفكروا في جنباتها بلهفة وشوق، فتقربوا الى الله اكثر، وفي الوقت نفسه تركوا الوجه الثالث من الدنيا وهو وجهها الفاني المتطلع الى شهوات الانسان وهواه.

السؤال الثالث: ان الطرق الصوفية هي سبل الوصول الى الحقائق، واشهرها واسماها هي الطريقة النقشبندية التي تعدّ الجادة الكبرى، وقد لـخّص قواعدها بعض اقطابها هكذا: (در طريق نقشبندي لازم آمد ضار ترك: ترك دنيا ترك عقبى ترك هستي ترك ترك) اي: يلزم في الطريقة النقشبندية ترك اربعة اشياء: ترك الدنيا بأن لا تجعلها مقصوداً بالذات. وترك الآخرة بحساب النفس. وترك النفس، أي أن تنساها، ثم الترك. اي: ان لا تتفكر بهذا الترك، لئلا تقع في العجب والفخر. بمعنى ان معرفة الله والكمالات الانسانية الحقيقيتين انما تحصل في ترك ما سواه تعالى..

الجواب: لو كان الانسان مجرد قلب فقط، لكان عليه ان يترك كل ما سواه تعالى، بل يترك حتى الاسماء والصفات ويرتبط قلبه بذاته سبحانه. ولكن للانسان لطائف كثيرة جداً كالقلب، منها العقل والروح والسر، كل لطيفة منها مكلفة بوظيفة ومأمورة للقيام بعمل خاص بها.

فالانسان الكامل هو - كالصحابة الكرام - يسوق جميع تلك اللطائف الى مقصوده الاساس وهو عبادة الله. فيسوق القلب كالقائد كل لطيفة منها ويوجهها نحو الحقيقة بطريق عبودية خاص بها. عند ذلك تسير الكثرة الكاثرة من اللطائف جنوداً في ركب عظيم وفي ميدان واسع فسيح، كما هو لدى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.

والاّ فان ترك القلب جنوده دارجاً وحده لانقاذ نفسه، ليس من الفخر والاعتزاز، بل هو نتيجة اضطرار ليس الاّ.

السؤال الرابع: من اين ينشأ ادعاء الافضلية تجاه الصحابة الكرام؟ ومن هم الذين يثيرون هذا الادعاء؟ ولماذا تثار هذه المسائل في الوقت الحاضر؟ ومن اين ينبعث ادعاء بلوغ المجتهدين العظام؟

الجواب: ان الذين يقولون بهذه المسائل هم قسمان:

قسم منهم: رأوا بعض الاحاديث الشريفة ونشروها كي يحفزوا الشوق لدى المتقين واهل الصلاح في هذا الوقت ويرغّبوهم في الدين.. فهؤلاء هم اهل دين وعلم، وهم مخلصون. وليس لنا ما نعلق به عليهم، وهم قلة وينتبهون بسرعة.

اما القسم الآخر: فهم اناس مغرورون جداً، ومعجبون بانفسهم ايما اعجاب، يريدون ان يبثوا انسلاخهم من المذاهب الفقهية تحت ادعاء انهم في مستوى المجتهدين العظام، بل يحاولون امرار الحادهم وانسلاخهم من الدين بادعاء انهم في مستوى الصحب الكرام، فهؤلاء الضالون قد وقعوا:

اولاً: في هاوية السفاهة حتى غدوا معتادين عليها، ولا يستطيعون ان يتركوا ما اعتادوه، وينهضوا بتكاليف الشرع التي تردعهم عن السفاهة. فترى احدهم يبرر نفسه قائلاً: (ان هذه المسائل انما هي مسائل اجتهادية، والمذاهب الفقهية متباينة في امثال هذه المسائل، وهم رجال قد اجتهدوا ونحن ايضاً رجال امثالهم، يمكننا ان نجتهد مثلهم، فلربما يخطأون مثلنا، لذا نؤدي العبادات بالشكل الذي يروق لنا نحن، اي لسنا مضطرين الى اتباعهم!!). فهؤلاء التعساء يحلُّون ربقة المذاهب عن انفسهم بهذه الدسيسة الشيطانية. فما أوهاها من دسيسة وما ارخصها من تبرير! وقد اثبتنا ذلك في رسالة (الاجتهاد).

ثانياً: انهم عندما رأوا ان دسيستهم لا تكمل حلقاتها عند حد التعرض للمجتهدين العظام بدأوا يتعرضون للصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، حيث ان المجتهدين يحملون النظريات الدينية وحدها، وهؤلاء الضالون يرومون هدم الضروريات الدينية وتغييرها، فلو قالوا: نحن افضل من المجتهدين لم تنته قضيتهم، حيث ان ميدان المجتهدين النظر في المسائل الفرعية، دون النصوص الشرعية، لذا تراهم وهم منسلخون من المذاهب يبدأون بمس الصحابة الاجلاء الذين هم حاملو الضروريات الدينية. ولكن هيهات! فليس امثال هؤلاء الانعام الذين هم في صورة انسان، بل حتى الانسان الحقيقي، بل الكاملين منهم وهم اعاظم الاولياء الصالحين، لا يمكنهم ان يكسبوا دعوى المماثلة مع اصغر صحابي جليل. كما اثبتناه في رسالة (الاجتهاد).

اللّهم صلِّ وسلم على رسولك الذي قال:

((لا تسبوا اصحابي لا تسبوا اصحابي فوالذي نفسي بيده لو ان احدكم انفق مثل أُحدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ احدهم ولا نصيفه))(1).

عبدالرزاق 02-02-2011 11:43 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثامنة والعشرون

هذه الكلمة تخـص الجنة، وهي عبارة عن مقامين؛ المقام الأول يشـير الى عـدد من لطائف الجنة. والمقام الثاني قد جاء باللغة الـعربية(1) وهو خلاصة الكلمة العاشرة وأساسها. اثبـت فيه وجود الجنة باثنتـي عشرة حقيقة قاطعة متسلسلة اثباتاً ساطعاً، لذا لا نبحث هنا عن اثبات وجود الجنة، وانما نقصر الكلام على اسئلة وأجوبة حول بعض أحوال الجنة التي تتعرض الى النقد وسوف تُكتب ان شاءالله كلمة جليلة حول تلك الحقيقة العظمى.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات اَنّ لَهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ كلّما رُزقُوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا هذا الذي رُزقنا من قبلُ واُتوا به مُتشابهاً ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ وهم فيها خالدون[ (البقرة: 25)

(هذه أجوبة قصيرة عن عدد من اسئلة تدور حول الجنة الخالدة).

ان آيات القرآن الكريم التي تخص الجنة، هي أجمل من الجنة، وألطف من حورها، وأحلى من سلسبـيلها. هذه الآيات البينات لم تدع مزيداً لكلام. لذا نضع درجات سلّمٍ، تقريباً لتلك الآيات الساطعة الأزلية الرفيعة الجميلة للفهم. فنذكر باقة من مسـائل لطـيفة هي نماذج أزاهيرٍ من جنـة القرآن. ونشير اليها في خمسة رموز ضمن أسئلة وأجوبة.

نعم! ان الجنة شاملة جميع اللذائذ المعنوية، كما هي شاملة جميع اللذائذ (المادية) الجسمانية أيضاً.

سؤال: ما علاقة الجسمانية (المادية) القاصرة الناقصة المتغيرة القلقة المؤلمة، بالأبدية والجنة؟ فما دامت الروح تكتفي بلذائذها العلوية في الجنة، فلِمَ يلزم حشر جسماني للتلذذ بلذائذ جسمانية؟

الجواب: على الرغم من كثافة التراب وظلمته، نسبة الى الماء والهواء والضياء فهو منشأٌ لجميع أنواع المصنوعات الإلهية، لذا يسمو ويرتفع معنىً فوق سائر العناصر.. وكذا النفس الانسانية على الرغم من كثافتها، فانها ترتفع وتسمو على جميع اللطائف الانسانية بجامعيتها، بشرط تزكيتها.

فالجسمانية كذلك هي أجمع مرآة لتجليات الأسماء الإلهية، وأكثرها احاطة واغناها.. فالالات التي لها القدرة على وزن جميع مدخرات خزائن الرحمة الإلهية وتقديرها، انما هي في الجسمانية، اذ لو لم تكن حاسة الذوق التي في اللسان مثلاً حاوية على آلاتٍ لتذوق الرزق بعدد أنواع المطعومات كلها، لَما كانت تحسّ بكل منها، وتتعرف على الاختلاف فيما بينها، ولَما كانت تستطيع ان تحس وتميز بعضها عن بعض.

وكذا فان أجـهزة معرفة أغلب الأسماء الإلهية المتجلية، والشعور بها وتذوقـها وادراكها، انما هي في الجسمانية.

وكذا فان الاستعدادات والقابليات القادرة على الشعور والاحساس بلذائذ لا منتهى لها، وبانواع لا حدود لها، انما هي في الجسمانية.

يفهم من هذا فهماً قاطعاً - كما اثبتناه في الكلمة الحادية عشرة - ان صانع هذه الكائنات، قد أراد ان يعرّف بهذه الكائنات جميعَ خزائن رحمته، ويعلّم بها جميع تجليات اسمائه الحسنى، ويذيق بها جميع أنواع نِعَمه وآلائه، وذلك من خلال مجرى حوادث هذه الكائنات وانماط التصرف فيها، ومن خلال جامعية استعـدادات الانسان.. فلابد اذن من حوض عظيم يصبّ فيه سيل الكائنات العظيـم هذا.. ولابد من معرض عظيم يعرض فيه ما صُنع في مصنع الكائنات هذا.. ولابد من مخزن أبدي تخزن فيه محاصيل مزرعة الدنيا هذه .. أي لابـد من دار سعادة تشبه هذه الكائنات الى حدٍ ما، وتحافظ على جميع أسسها الجسمانية والروحانية.. ولابد أن ذلك الصانع الحكيم والعـادل الرحيم، قد خص لذائذ تليق بتلك الآلات الجسمانية أجرة لوظائفها، ومثوبة لخدماتها، واجـراً لعباداتها الخاصة. والاّ - أي بخلاف هذا - تحصل حالة منافـية تماماً لحكمته سبحانه وعدالته ورحمته، مما لا ينسجم ولا يليق بجمال رحمته وكمال عدالته مطلقاً. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

سؤال: أن أجزاء الكائن الحي في تركيب وتحلّل دائمين، وهي معرّضة للانقراض ولا تنال صفة الأبدية، وان الأكل والشرب لبقاء الشخص نفسه ومعاشرة الزوجة لبقاء النوع، فصارت - هذه الأمور - أموراً أساسية في هذا العالم، اما في العالم الأبدي والأخروي فلا حاجة اليها، فلِمَ اذن درجت ضمن لذائذ الجنة العظيمة؟

الجواب: أولاً: ان تعرض جسم حي للانقراض والموت في هذا العالم، ناجم من اختلال موازنة الواردات والصرفيات (أي بين ما يرد وما يستهلك) فالواردات كثيرة منذ الطفولة الى سن الكمال، وبعد ذلك يزداد الاستهلاك، فـتضيع الموازنة، ويموت الكائن الحي..

اما في عالم الأبدية، فـان الذرات تبقى ثابتة لا تتعرض للتركيب والتحلل، أو تستقر المـوازنـة، فهي تامة ومستمرة بين الـواردات والصرفيات(1)، ويصبح الجسم أبدياً مع اشتغال مصنع الحياة الجسمانية لاستمرار تـذوق اللذائذ. فعلى الرغـم من ان الأكـل والـشرب والعـلاقات الزوجية، ناشئة عـن حاجة في هذه الدنيا وتُفضي الـى اداء وظيفة، فقد أودعـت فيها لذائذ حـلوة ومتنوعة ترجح على سائر اللذائذ، اجرة معجلة لتلـك الوظيفة.

فما دام الأكل والنكاح مدار لذائذ عجيبة ومتنوعة الى هذا الحد، في دار الألم هذه، فلاشك ان تلك اللذائذ تتخذ صوراً رفيعة جداً وسامية جداً، في دار اللذة والسعادة، وهي الجنة فضلاً عن لذة الأجرة الأخروية للوظيفة الدنيوية، التي تزيدها لذة، وعلاوة على لذة الشهية الأخروية اللطيفة نفسها، بدلاً عن الحاجة الدنيوية - التي تزيدها لذة أخرى - حتى تزداد تلك اللذائذ لطافة وذوقاً بحيث تكون لذة جامعة لجميع اللذائذ، ونبعاً حياً فياضاً للذائذ لائقة بالجنة وملائمة للأبدية. اذ المواد الجامدة التي لا شعور لها ولا حياة، في دار الدنيا هذه، تصبح هناك ذات شعور وحياة بدلالة الآية الكريمة:

] وما هذه الحياة الدنيا الاّ لهو ولعبٌ وان الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون[ (العنكبوت: 64).

فالاشجار هناك كالانسان هنا، تدرك الأوامر وتنفّذها، والاحجار هناك كالحيوانات هنا، تطيع ما تُؤمر. فاذا قلت لشجرة: إعطيني ثمرة كذا تعطيك حالاً، وان قلت لحجر: تعال هنا، يأتيك.

فما دامت الاشجار والاحجار تتخذ مثل هذه الدرجات العالية من الصفات، فلاشك ان الأكل والشرب والنكاح تتخذ صوراً رفيعة عالية، مع محافظتها على حقيقتها الجسمانية التي تفوق درجاتها الدنيوية بنسبة سمو درجة الجنة على الدنيا.

سؤال: يحضر أعرابي مجلس الرسول e لدقيقة واحدة، فيكسب محبة للّه. ويكون معه e في الجنة حسب ما ورد في الحديث الشريف ( المرء مع من أحب)(1)، فكيف يعادل فيض غير متناهٍ يناله الرسول الكريم مع فيض هذا الأعرابي؟

الجواب: نشير الى هذه الحقيقة السامية بمثال:

رجل عظيم أعد ضيافة فاخرة جداً، في بستان مزهر رائع الجمال. وهيأ معرضاً في منتهى الزينة والابداع، جامعاً لجميع أنواع المطعومات التي تحس بها حاسة الذوق، شاملاً جميعَ المحاسن التي ترتاح اليها حاسة البصر، ومشتملاً على جميع الغرائب التي تبهج قوة الخيال. وهكذا وضع فيه كل ما يرضي ويطمئن كل حاسة من الحواس الظاهرة والباطنة.

والآن يذهب صديقان معاً الى تلك الضيافة ويجلسان جنباً الى جنب على مائدة واحدة في مكان مخصص. ولكن لكون أحدهما يملك حاسة ذوق ضعيفة، لا يتذوق الاّ شيئاً قليلاً من تلك الضيافة، ولا يرى كثيراً من الأشياء، لأن بصره ضعيف. ولا يشم الروائح الطيبة، لانه فاقد لحاسة الشم. ولا يفهم خوارق الأشياء، لعجزه عن ادراك غرائب الصنعة.. أي لا يستفيد من تلك الروضة الرائعة، ولا يذوق من تلك الضيافة العامرة الاّ واحداً من ألف، بل من مليون مما فيها، وذلك حسب قابلياته الضعيفة. اما الآخر، فلأن جميع حواسه الظاهرة والباطنة، وجميع لطائفه من عقل وقلب وحسّ، كاملة مكتملة، متفتحة منكشفة بحيث يحس جميع دقائق الصنعة من ذلك المعرض البهيج، وجميع ما فيه من جمال ولطائف وغرائب، يحس كلاً منها ويتذوقها، مع انه جالس مع الرجل الأول.

فلئن كان هـذا حاصلاً في هذه الدنيا المضطربة المؤلمة الضيقة، ويكون الفرق بينهما كالـفرق بين الثرى والثريا، فلابد - بالطريق الأولى - أن يأخذ كل امرئٍ حـظه من سُفرة الرحمن الرحيم، فـي دار السعادة والخلود، ويحسّ بما فيهـا على وفـق استعداداته - رغم كونه مع مَن يحب. فالجنان لا تمنع ان يكونا معاً بالرغـم من تفاوتها، لأن طبقات الجنة الثماني، كل منها أعلى من الأخرى، الا ان عرش الرحمـن سقف الكل(2). اذ لو بنيت بيوت متداخلة حول جبل مخروطـي، كل منها أعلى من الآخر، كـالــدوائــر المحــيــطــة بالجبــل، فان تلك الـدوائــر تعلــو الواحــدة عـلى الأخرى، ولكن لا تمنع الواحدة الأخرى عن رؤية الشمس، فنور الشمس ينفـذ في البيوت كلها. كذلك الجنان شبيهة بهذا المثال الى حدٍ، كما تفهم من الأحاديث الشريفة.

سؤال: ورد في أحاديث شريفة ما معناه: ان المرأة من نساء أهل الجنة يُرى مخ سوقها من وراء سبعين حلّة(1)، ما معنى هذا وما المراد منه؟ وكيف يعد هذا جمالاً؟

الجواب: ان معناه جميل جداً، بل جماله في منتهى الحسن واللطف. وذلك:

في هذه الدنيا القبيحة الميتة التي أغلبها قشر، يكفي للجمال والحسن أن يبدو جميلاً للبصر، ولا يكون مانعاً للألفة. بينما في الجنة التي هي جميلة وحيّة ورائعة وكلها لبّ محض لا قشر فيها تطلب حواسُ الانسان كلها - كالبصر ـ ولطائفه كلها، أخذ حظوظ أذواقها المختلفة، ولذائذها المتباينة من الجنس اللطيف، وهن الحور العين، ومن نساء الدنيا لأهل الجنة، وهن يفضلن الحور العين بجمالهن، بمعنى ان الحديث الشريف يشير الى انه ابتداء من أعلى طبقة من جمال الحلل حتى مخ السيقان في داخل العظام، كل منها مدار ذوق لحس معين وللطيفة خاصة.

نعم؛ ان الحديث الشريف يشير بتعبير (على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ سوقهما).

ان الحور العين جامعة لكل نوع من أنواع الزينة والحسن والجمال المادية والمعنوية، التي تشبع وترضي كل ما في الانسان من مشاعر وحواس وقوى ولطائف عاشقة للحس، ومحبة للذوق، ومفتونه بالزينة، ومشتاقة الى الجمال.. بمعنى ان الحور يلبسن سبعين طرزاً من أقسام زينة الجنة، دون ان يستر أحدها الآخر، اذ ليس من جنسه، بل يبدين جميع مراتب الحسن والجمال المتنوعة بأجسادهن وأنفسهن وأجسامهن بأكثر من سبعين مرتبة حتى يظهرن حقيقة اشارة الآية الكريمة:

] وفيها ما تَشتهيه الأنفسُ وتَلذّ الأعينُ[ (الزخرف: 71).

ثم ان الحديث الشريف يبين: ان ليس لأهل الجنة فضلات بعد الأكل والشرب، اذ ليس في الجنة ما لا يحتاج اليه من مواد قشرية زائدة.

نعم، ما دامت الاشجار في هذه الدنيا السفلية، وهي في أدنى مرتبة من ذوات الحياة، لا تترك فضلات مع تغذيتها الكثيرة، فلِمَ لا يكون اهل الطبقات العليا، وهم أهل الجنة دون فضلات؟

سؤال: لقد ورد في أحاديث نبوية هذا المعنى؛ انه ينعم على بعض أهل الجنة ملكاً بقدر الدنيا كلها، ومئات الآلاف من القصور ومئات الآلاف من الحور العين، فما حاجة رجل واحد الى هذه الكثرة من الاشياء؟ وما يلزمه منها؟ وكيف يكون ذلك؟ وماذا تعني هذه الأحاديث؟

الجواب: لو كان الانسان جسداً جامداً فحسب، أو كان مخلوقاً نباتياً وعبارة عن معدة فقط، أو عبارة عن جسم حيواني، وكائن جسماني موقت بسيط مقيد ثقيل، لما كان يملك تلك الكثرة الكاثرة من القصور والحور،ولا كانت تليق به. ولكن الانسان معجزة من المعجزات الإلهية الباهرة، بحيث لو يُعطى له ملك الدنيا كلها وثروتها ولذائذها في هذه الدنيا الفانية وفي هذا العمر القصير فلا يُشبع حرصَه، حيث هناك حاجات لقسم من لطائف غير منكشفة.

بينما الانسان في دار السعادة الأبدية، وهو المالك لاستعدادات غير متناهية، يطرق باب رحمة غير متناهية، بلسان احتياجات غير متناهية، وبيد رغبات غير متناهية، فلاشك ان نيله لاحسانات إلهية كما ورد في الأحاديث الشريفة معقول وحق وحقيقة قطعاً.

وسنرصد هذه الحقيقة السامية بمنظار تمثيلي على النحو الآتي:

ان لكل بستان من البساتين الموجودة في (بارلا) صاحبه ومالكه كما هو الحال في بستان هذا الوادي(1)، الاّ ان كل نحل وطير وعصفور في (بارلا) يستطيع القول: ان جميع بساتين (بارلا) ورياضها متنزهاتي وميدان جولاني، بالرغم من انه تكفيه حفنة من قوت. أي انه يضم (بارلا) كلها في ملكه. ولا يجرح حكمه هذا اشتراك الآخرين معه.

وكذلك الانسان - الذي هو حقاً انسان - يصح له أن يقول: ان خالقي قد جعل لي هذه الدنيا كلها بيتاً، والشمس سراجاً، والنـجوم مصــابيــح، والأرض مهــداً مفروشاً بزرابي مبثوثة مزهرة. يقول هذا ويشكر ربه. ولا ينقض حكمَه هذا اشتراك المخلوقات الأخرى معه في الدنيا، بل المخلوقات تزيّن الدنيا وتجمّلها.

تُرى لو أدّعى انسان أو طير نوعاً من التصرف، في مثل هذه الدوائر العظمى، ونال نعماً جسيمة في هذه الدنيا الضيقة جداً ، فكيف يُستبعد اذن الاحسان إليه بملك عظيم، ما بين كل درجتين مسيرة خمسمائة عام في دار سعادة واسعة أبدية؟.

ثم اننا نشاهد ونعلم في هذه الدنيا الكثيفة المظلمة الضيقة وجود الشمس بعينها في مرايا كثيرة جداً في آن واحد.. ووجود ذاتٍ نورانية في أماكن كثيرة في آن واحد.. وحضور جبرائيل عليه السلام في ألف نجم ونجم وامام العرش الاعظم، وفي الحضرة النبوية وفي الحضرة الإلهية في آن واحد.. ولقاء الرسول e أتقياء أمته في الحشر الأعظم في آن واحد.. وظهوره e في الدنيا في مقامات لا تحد فـي آن واحد.. ومشاهدة الأبدال - وهم نوع غريب من الأولياء - في أماكن كثيرة في وقت واحد.. وانجاز العوام من الناس في الرؤيا ومشاهدتهم عـملَ سنة كاملة في دقيقة واحدة.. ووجود كل انسان بالقلب والروح والخيال في أماكن كثيرة، وتكوين علاقات معها في آن واحد.. كل ذلك معلوم ومشهود لدى الناس.

فلاشك ان وجود أهل الجنة - الذين تكون اجسامهم في قوة الروح وخفتها وفي سرعة الخيال - في مائة ألف مكان ومعاشرتهم مائة ألف من الحور العين، وتلذذهم بمائة ألف نوع من أنواع اللذائذ، في وقت واحد، لائق بتلك الجنة الأبدية، الجنة النورانية، غير المقيدة، الواسعة، وملائم تماماً مع الرحمة الإلهية المطلقة، ومنطبق تماماً مع ما أخبر به الرسول الكريم e فهو حق وحقيقة، ومع كل هذا فان تلك الحقائق العظيمة السامية جداً لا توزن بموازين عقولنا الصغيرة.

نعم، لا يلزم العقول الصغيرة ادراك تلك المعاني.

لأن هذا الميزان لا يتحمل ثقلاً بهذا القدر.

] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا[ (البقرة:286)

اللهم صلّ على حبيبك الذي فتح أبواب الجنة بحبيبيته وبصلاته، وايدت امته على فتحها بصلواتهم عليه، عليه الصلاة والسلام.

اللّهم ادخلنا الجنة مع الابرار بشفاعة حبيبك المختار آمين.





ذيل صغير

يخص جهنم

ان الايمان يضم بذرة جنة معنوية، كما ان الكفر يخفي نواة زقوم جهنم معنوية، كما اثبتنا ذلك في الكلمة الثانية والثامنة.

اذ كما ان الكفر بذرة لجهنم، فجهنم كذلك ثمرة له. وكما ان الكفر سبب لدخول جهنم، كذلك سبب لوجودها وايجادها، لانه: لو كان هناك حاكم صغير ذو عزة وغيرة وجلال بسيط، وقال له رجل فاسد الخلق متحدياً: انك لا تقدر على تأديبي، ولن تقدر عليه. فلاشك انه سيبني سجناً لذلك الشقي ويلقيه فيه ولو لم يكن هناك سجن.

بينما الكافر بانكاره وجود جهنم، يكِذّب مَن له العزة المطلقة والغيرة المطلقة والجلال المطلق، ويسند الى القدير المطلق العجزَ، ويتّهمه بالكذب والعجز، فهو بكفره يتعرض لعزته بشدة، ويمس غيرته بقوة، ويطعن في جلاله بعصيان. فلاشك انه لو لم يكن لوجود جهنم أي سبب كان، وهو فرض محال، فانه سبحانه يخلق جهنم لذلك الكافر الذي يتضمن كفره هذا الحد من التكذيب واسناد العجز ويلقيه فيها.

] ربنا ما خلقتَ هذا باطلاً سُبحانكَ فقنا عذاب النار[ (آل عمران:191).

عبدالرزاق 02-02-2011 11:46 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة التاسعة والعشرون

تخص بقاء الروح والملائكة والحشر

بسم الله الرحمن الرحيم

] تَنَزَّلُ الْملئكَةُ وَالرّوُحُ فيهَا بِاذِنِ رَبِّهِمْ[ (القدر:4)

] قُلِ الروحُ مِنْ أمرِ رَبى[ (الاسراء:85)

هذا المقام عبارة عن مقصدين أساسين مع مقدمة

المقدمة

يمكن القول بأن وجود الملائكة والعالم الروحاني ثابت كثبوت وجود الانسان والحيوان، فكما بَيّنا في المرتبة الأولى من ((الكلمة الخامسة عشرة)): ان الحقيقة تقتضي قطعاً، والحكمة تستدعي يقيناً: ان تكون للسموات - كما هي للأرض - من ساكنين، ولا بدّ أنهم ذوو شعور، وهم متلائمون معها كل التلاؤم. وفي مصطلح الدين يسمّى اولئك الساكنون من ذوي الأجناس المختلفة بـ((الملائكة)) و((الروحانيات)).

نعم، ان الحقيقة تقتضي هكذا.. فرغم ضآلة كرتنا الأرضية وصغرها قياساً الى السماء فان ملأها بمخلوقات ذوات مشاعر - بين حين وآخر - واخلاءها منهم وتزيينها بآخرين جُدد يشير، بل يصرح:

ان السموات ذات البروج المشيدة - وكأنها قصور مزيّنة - لابد أنها ملأى ايضاً: بذوي حياة مدركين واعين الذين هم نور الوجود، ومن ذوي الشعور الذين هم ضياء الأحياء، وان تلك المخلوقات - كالأنس والجن - هم كذلك: مشاهدو قصر هذا العالم الفخم.. ومطالعو كتاب الكون هذا.. والداعون الأدلاّء الى سلطان الربوبية.. ويمثلون بعبوديتهم الكلية الشاملة: تسابيح الكائنات، وأوراد الموجودات الضخمة...

أجل! إن تنوّع هذه الكائنات يدلّ على وجود الملائكة؛ لأن تزيين الكائنات بدقائق الصنعة المبدعة التي لا تعدّ ولا تحصى، وبمحاسن ذات معانٍ ونقوش حكيمة، يتطلب ـ بالبداهة - أنظار متفكرين ومستحسنين، ومعجبين مقدّرين.. أي يستدعي وجودهم.

نعم! كما أن الجمال يطلب العاشق.. والطعام يعطى للجائع.. فلابد ان غذاء الارواح وقوت القلوب في هذه الصنعة الإلهية الجميلة الرائعة يدل على وجود الملائكة والعالم الروحاني ويتوجه اليهم. ولما كانت هذه التزيينات غير النهائية في الكون تتطلب تأملاً وعبودية غير محدودة، وان الأنس والجن لا يمكنهما القيام الاّ بقسط ضئيل جداً - واحد من مليون - من هـذه الوظيـفـة غير النهـائيـة، ومن هذه الرؤية الحكيمـة، ومن هــذه العبودية الــواسـعة.. فلابــد أن تكون لهذه الوظائف غير النهائية والعبادات المتنوعة، انواع غير نهائية ايضاً من ((الملائكة)) وأجناس غير محدودة من ((الروحانيات))، كي يعمّروا بصفوفهم المتراصّة ويملأوا هذا المسجد الكبير.. هذا العالم.. هذا الكون..

أجل! ففي كل جهة من هذا الكون، وفي كل دائرة من دوائره، هناك ((موظفون)) من طبقة ((الملائكة والروحانيات)) قد أسند اليهم واجب القيام بعبودية مخصوصة.. فاستناداً الى اشارات بعض الأحاديث النبوية الشريفة من جهة، واستلهاماً من حكمة انتظام هذا العالم من جهة أخرى يمكن القول: ان بعضاً من الأجسام الجامدة السيّارة، ابتداءاً من النجوم وانتهاءً بقطرات المطر، انما هي سفن ومراكب لقسم من الملائكة، فهم يركبونها بإذن إلهي، ويشاهدون عالم الشهادة سائحين فيه.. ويمثلون (تسبيحات) تلك المراكب.. وحيث أن الشهداء (ارواحهم في جوف طير خضر تسرح من الجنّة) - كما جاء في حديث نبوي شريف - لذا يمكن القول: انه ابتداءً مما أشار الحديث الشريف من (طير خضر) الى النحل من الأجسام الحية هي طائرات لأجناس من الأرواح، فهي تحل في أجساد تلك الأحياء، بأمر الله الحق، وتشاهد العالم المادي من خلال حواسها كالأعين والآذان، وتتفرج على روائع المعجزات الفطرية فيه، وبذلك تؤدي تسبيحاتها المخصوصة..

وهكذا، فكما اقتضت الحقيقة وجود الملائكة والروحانيات، كذلك تقتضيه الحكمة:

لأن الفاطر الحكيم الذي يخلق باستمرار وبفعالية جادة حياةً لطيفة ذات أدراك متنّور، من هذا التراب الكثيف على ضآلة علاقته بالروح، ومن الماء العكر على جزئية تعلّقه بنور الحياة، لابدّ أن يكون له ايضاً مخلوقات كثيرة جداً ذوات شعور، قد خلقت من بحر النور،وحتى من محيط الظلمة، ومن الهواء، ومن الكهرباء ومن سائر المواد اللطيفة التي هي أليق بالروح وأنسب للحياة وأقرب اليها.







المقصد الأول

((التصديق بالملائكة ركن من أركان الإيمان))

في هذا المقصد أربع نكات أساسية

الأساس الأوّل

ان كمال الوجود مع الحياة، بل ان الوجود الحقيقي للوجود كائن مع الحياة، فالحياة نور الوجود، والشعور ضياء الحياة.. والحياة رأس كل شئ وأساسه.. وهي التي تجعل كل شئ ملكاً لكل كائن حيّ، فتجعل الشئ الحيّ الواحد بحكم المالك لجميع الأشياء.. فبالحياة يتمكن الشئ الحيّ ان يقول: ((ان هذه الأشياء ملكي، والدنيا مسكني، والكائنات كلها ملك اعطانيه مالكي)).. وكما أن الضوء سبب لرؤية الأجسام وسبب لظهور الألوان - على قول - كذلك الحياة هي كشّافة للموجودات، وسبب لظهورها، وسبب لتحقق النوعيات.. وهي التي تجعل جزء الجزئي بحكم الكلّ والكلّي، وسبب لحصر الأشياء الكلية في الجزء، وسبب لجميع كمالات الوجود كإشراكها وتوحيدها الاشياء الوفيرة، وجعلها مداراً لوحدة واحدة ومظهراً لروح واحدة.. حتى أن الحياة نوع من تجلّي الوحدة في طبقات الكثرة من المخلوقات، فهي مرآة للأحدية في الكثرة..

والآن لنوضح:

انظر الى الجسم الجامد، وان كان جبلاً شاهقاً، فهو غريب.. يتيم.. وحيد.. اذ تنحصر علاقته وصلته بمكانه، وما يتصل به من أشياء فقط، وما يوجد في الكائنات الأخرى معدوم بالنسبة اليه، وذلك لأنه ليس له (حياة) حتى يتصل بها، ولا (شعور) حتى يتعلق به.ثم انظر الى جسم صغير حيّ كالنحل مثلاً ففي الوقت الذي تدخل فيه ((الحياة)) فانه يقيم عقداً تجارياً وصلةً مع جميع الكائنات والموجودات، وخاصة مع نباتات الأرض وأزهارها بحيث يمكنه القول: ((ان جميع الأرض هي حديقتي ومتجري...)) فهناك اذن، عدا الحواس المعروفة الظاهرة والباطنة في الأحياء، دوافع فطرية أخرى غير معروفة كأحاسيس سائقة ومشوّقة تعطي للنحل فرصة التصرف وإمكانية الأختصاص والأنس والتبادل مع اكثر انواع الموجودات في الدنيا.

ولئن كانت الحياة تُظهر تأثيرها هكذا في كائن حيّ صغير، فلابّد أنها كلّما عَلَتْ وارتقتْ الى مرتبة عليا وهي المرتبة الأنسانية، فان تأثيرها يتسع ويكبر ويتنوّر، بحيث يجول هذا الانسان بعقله وشعوره - الذي هو ضياء الحياة - في العوالم العلوية والروحية والمادية كما يجول في غرف داره، وهذا يعني: انه مثلما يسافر ذلك الكائن الحيّ ذو الشعور الى تلك العوالم معنوياً، فان تلك العوالم تأتي وتكون ضيوفاً على مرآة روحه بارتسامها وتمثلها فيها.

والحياة بحد ذاتها أسطع برهان لوحدانية الله سبحانه وتعالى. وأوسع مجال لنعمته العظيمة، وألطف تجلٍّ من تجليات رحمته، وأدقّ نقش من نقوش صنعته الخفية النزيهة.

نعم، أنها خفية ودقيقة؛ لأن تنبّه ((العقدة الحياتية)) أي تفتحها ونموها في البذرة - التي هي اولى مراتب الحياة في النبات الذي يمثل أدنى أنواع الحياة - بقي مستوراً عن أنظار علم البشر منذ زمن آدم عليه السلام، رغم شدة ظهوره وكثرته والألفة به، ولم تنكشف حقيقته الصائبة لعقل البشر لحدّ الآن بجلاء.

والحياة نزيهـة نقية بحيث أن وجهيها - الـمُلك والملكوت - صافيان وشفافان؛ اذ ان يد القدرة تباشر اعمالها فيها دون وضع لستار الأسباب، في حين أنها جعلت الأسباب الظاهرية حجاباً لتصرفها في سائر الأمور الأخرى، كي تكون منشأ للأمور الخسيسة وللكيفيات غير النزيهة التي تنافي عزة القدرة في ظاهر الأمر.

والخلاصة: يمكن القول: ان لم تكن هناك حياة فالوجود ليس بوجود، ولا يختلف عن العدم، فالحياة ضياء الروح والشعور نور الحياة.

ولما كانت الحياة والشعور لهما هذه الأهمية، وما دمنا نشاهد كل هذا النظام المتقن في هذا العــالـم، ونــرى هــذه الدقــة والاتــقان والإحكــام الــتام والانسجام الكامل في الكون، وما دامت كرتنا الأرضية - وهي كذرة بالنسبة الى الكون - تزخر بما لا يعدّ ولا يحصى من ذوي الارواح وذوي المشاعر والادراك، فلابد ان يحكم بحدس صادق ويقرر بيقين قاطع:

ان جوانب هذه القصور السماوية والبروج الشاهقة تدّب فيها سكنة من الأحياء وذوي المشاعر بما يلائمها ويتجاوب معها، اذ كما ان السمك يعيش في الماء، كذلك من الممكن أن يوجد سكنة نورانيون في لهيب الشمس ممن يتلاءمون معها، لأن النار لا تحرق النور بل تمدّه وتديمه.

وما دامت القدرة الإلهية تخلق أحياءً وذوي أرواح لا تعدّ ولا تحصى من مواد عادية جداً، بل من اكثف العناصر، وتبدّل المادة الكثيفة الغليظة بالحياة الى مادة لطيفة بكل عناية واتقان، وتنشر نور الحياة في كل شئ بغزارة، وترصّع اغلب الأشياء بضياء الشعور، فلابد أن ذلك القدير الحكيم لن يهمل بقدرته الكاملة، وبحكمته التامة النور والاثير وامثالهما من السيالات اللطيفة والقريبة بل الملائمة للروح دون حياة، ولن يتركه جامداً ولن يدعه دون شعور، وانما الأولى أن يخلق جلّت قدرته وحكمته احياءً وذوي شعور من تلك المواد السيّالة اللطيفة من مادة النور وحتى من الظلام وحتى من مادة الأثير وحتى من المعاني وحتى من الهواء وحتى من الكلمات. فيخلق كثرة كاثرة من المخلوقات ذوات الارواح المختلفة -كالاجناس الكثيرة المختلفة للحيوانات - فيصير قسم منها الملائكة وقسم آخر أجناس الجنّ وعالم الروح.

وفي المثال الآتي يتبيّن لك: كم تكون فكرة وجود الملائكة والروحانيات بكثرة - كما بيّنه القرآن الكريم - حقيقة وبداهة وأمراً معقولاً، وكم يكون الرفض وعدم القبول خلافاً للحقيقة والحكمة، بل خرافة وضلالة وهذياناً وبلاهة..

يتصادق اثنان أحدهما بدوي وآخر حضري، كانا يسيران معاً الى مدينة عظيمة - كأستانبول - وقبل دخولهما المدينة وفي زاوية من زواياها يصادفان مبنىً صغيراً وورشة قذرة، فيبصران المبنى مملوءً برجال مساكين يعملون منهوكين في هذا المعمل الغريب، ويلاحظان حول المعمـل حيــوانــات وأحياء أخرى أيضاً تقتــات كــل بطريقتها الخاصة حسب شرائط حياتها. فمنها ما يأكل النبات وأخرى تأكل الأسماك فـقــط، وهــكـذا.. وفيما هـمـا يراقـبـان أحـوال هــؤلاء إذا بهــما يريــان على بُعد منهما آلافاً من العمارات المزينة والقصور العالية تفصل بينها ميادين وفسح واسعة، الاّ أن سكان تلك العمارات الرائعة لا يظهرون لهما، إما لبعدهما عنهم، أو لضعف نظرهما، أو لأختفاء سكنة تلك القصور أنفسهم، ولا توجد شرائط الحياة التي في هذه الورشة القذرة في تلك القصور العالية.

فالبدوي الذي لم ير المدينة في حياته قال: ان تلك العمارات خالية من أهلها ولا أحد فيها من الأحياء. اذ انني لا أراهم، وليس هناك ما يشير الى الحياة - كحياتنا - أصلاً. فأظهرَ بهذيانه هذا حماقته الشديدة.

أجابه صديقه العاقل الرزين:

يا هذا! أما ترى ان هذا المسكن البسيط الحقير ملئٌ بالأحياء وليس هناك شبرٌ من فراغ حولنا لم يملأ بالأحياء والعاملين، فهناك من يبدلهم ويجددهم دائماً ويستخدمهم أبداً.

فانظر الآن هل من الممكن ان تكون تلك العمارات الرائعة المنتظمة والتزيينات الحكيمة، والقصور الباذخة على بُعدها عنّا خالية من أهلها المتلائمين معها؟. إنها لابدّ قد ملئت جميعاً بذوي أرواح، لهم شرائط حياة أخرى خاصة بهم، فلربما يأكلون بدلاً من الأعشاب والاسماك شيئاً آخر، فان عدم رؤيتهم - لبُعدهم أو لقُصر النظر أو اختفائهم - لا يقيم دليلاً أبداً على عدم وجودهم، اذ أن عدم الرؤية لا يدل مطلقاً على عدم الوجود، وليس عدم الظهور بحجة قطعاً على عدم الوجود. وقياساً على هذا المثال البسيط الواضح:

ان الكرة الارضية وهي واحدة من الأجرام السماوية، على كثافتها وضآلة حجمها، قد اصبحت موطناً لما لا يحد من الاحياء وذوي المشاعر، حتى لقد اصبحت أقذر وأخسّ الأماكن فيها منابع ومواطن لكثير من الأحياء، ومحشراً ومعرضاً للكائنات الدقيقة. فالضرورة والبداهة والحدس الصادق واليقين القاطع جميعاً تدل وتشهد بل تعلن أنّ:

هذا الفضاء الواسع والسموات ذات البروج والأنجم والكواكب كلها مليئة بالأحياء وبذوي الادراك والشعور. ويطلق القرآن الكريم والشريعة الغرّاء على اولئك الأحياء الشاعرين والذين خُلقوا من النور والنار ومن الضوء والظلام والهواء ومن الصوت والرائحة ومن الكلمات والأثير وحتى من الكهرباء وسائر السيالات اللطيفة الاخرى بأنهم: ملائكة.. وجان.. وروحانيات.. ولكن كما ان الاجسام أجناس مختلفة كذلك الملائكة؛ اذ ليس المَلَك الموكّل على قطرة المطر من جنس المَلَك الموكّل على الشمس. وكذلك الجن والروحانيات مختلف الأجناس الكثيرة.





خاتمة هذه النكتة الأساس

لقد ثبت بالتجربة أن المادة ليست أساساً وأصلاً ليبقى الوجود مسخّراً من أجلها وتابعاً لها، بل هي قائمة بـ((معنى))، وهذا المعنى هو الحياة.. هو الروح..

وترينا المشاهدة والملاحظة كذلك ان المادة لا تكون مطاعة حتى يُرجّع اليها كل شئ، وانما هي وسيلة مطيعة خادمة لإكمال حقيقة معينة.. هذه الحقيقة هي الحياة.. وأساسها.. هو الروح.

ومن البديهي ان المادة ليست هي الحاكمة حتى يُستجدى على بابها وتطلب أو تنتظر منها الكمالات والـمُثُل. بل هي محكومة تسير وفق أساس معيّن وتتحرك باشارته.. هذا الأساس هو الحياة.. هو الروح، هو الشعور..

وتقتضي الضرورة كذلك ان لا ترتبط بالمادة الأعمال والـمُثُل ولاتُبنى على ضوئها، اذ انها ليست لبّاً ولا أصلاً ولا أساساً ولا ثابتاً مستقراً، وانما هي قشرة وغلاف وزَبَد وصورة مهيأة للتشقّق والذوبان والتمزق.

ألا يُشاهَد كيف أن الحيوانات الدقيقة التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة تملك احساسات حادة وقوية حتى أنها تسمع همسات بنى جنسها وترى مواد رزقهم!!. ان هذا يبيّن لنا بوضوح:

ان المادة كلّما صغرت ودقت ازداد انطباع ملامح الحياة وآثارها عليها، واشتدّ نور الروح فيها، أي ان المادة كلما دقت وابتعدت عن مادّيتنا كأنها تقترب اكثر من عالم الروح، وعالم الحياة، وعالم الشعور، فيتجلّى نور الحياة وحرارة الروح بشدّة اكثر..

فهل من الممكن ان يترشح كل ما نرى من ترشحات الحياة والمشاعر والروح وتنساب رقراقة من أغطية المادّة، ولا يكون العالم الباطن الكائن تحت ستار المادة مملوءاً بذوي المشاعر وبذوي الارواح؟ وهل من الممكن ان يرجع الى المادة ويسند اليها والى حركتها كل ما في عالم الشهادة من ترشحات غير محدودة للمعاني والروح والحقيقة ومنابع لمعاتها وثمراتها، وتتوضح بها وحدها!؟.. كلاّ ثم كلاّ.. بل ان هذه المظاهر غير المحدودة المترشحة، ولمعاتها تظهر لنا ان عالم الشهادة المادي هذا انما هو ستار منقش مزركش ملقىً على عالم الملكوت والارواح.





الأساس الثاني

يمكن القول بأن هناك اجماعاً ضمنياً - مع تباين التعبير - على وجود حقيقة الملائكة وثبوت العالم الروحاني بين أهل العقل والنقل كافةً سواءً علموا أم لم يعلَموا.. فلم ينكر ((معنى)) الملائكة حتى المشّاؤون من الفلاسفة الاشراقيين الذين أوغلوا في الماديات؛ اذ عبّروا عن ((معنى)) الملائكة بقولهم: ((ان هناك ماهية مجردة روحية لكل نوع)). والآخرون من الاشراقيين عندما اضطروا لقبول معنى الملائكة أطلقوا عليهم خطأً: ((العقول العشرة وأرباب الأنواع)).

ومن المعلوم ان جميع اهل الأديان مؤمنون ان لكل نوع من أنواع الموجودات مَلَكاً موكّلاً به يستهلم من الوحي الإلهي وارشاده، فيعبّرون عنهم بأسماء: ملك الجبال، ومَلك البحار، ومَلَك الامطار..

وحتى المادّيون والطبيعيون - الذين تحدّرت عقولهم الى عيونهم - والمتجردون معنوياً من الانسانية، الساقطون الى درجة الجمادات، لم يسعهم إنكار (معنى) الملائكة وحقيقة الروح. فأطلقوا على القوى الجارية في نواميس الفطرة اسم (القوى السارية) فكان هذا تصديقاً اضطرارياً منهم - ولو بصورة مشوّهة - لمعنى الملائكة.

فيا أيها الانسان المسكين المتردد في قبول وجود الملائكة والعالم الروحاني. علاَمَ تستند؟ وبأيّ حقيقة تفتخر؟ حتى تواجه ما اتفق عليه جميع أهل العقل - سواءً علموا أم لم يعلموا - من ثبوت معنى وحقيقة وجود الملائكة وتحقق العالم الروحاني؟

فما دامت الحياة - كما أثبتنا في الأساس الأول - كشافة للموجودات بل نتيجتها وزبدتها.. وان جميع أهل العقل قد اتفقوا ضمنياً - وإن اختلفوا في التعبير - على معنى الملائكة.. وأن أرضنا هذه معمـورة بكــل هــذه الأحيــاء وذوي الأرواح، فكيف يمكن اذن ان يخلو هذا الفضاء الواسع من ساكنيه، وتلك السموات البديعة اللطيفة من عامريها؟!.

ولا يخطرنّ ببالك ان النواميس والقوانين الجارية في العالم كافية أن تجعل الكائنات ذات حياة.. لأن تلك النواميس الجارية والقوانين الحاكمة أوامر اعتبارية، ودساتير وهمية، لا يعتدّ بها، ولا تعدّ شيئاً أصلاً.

فان لم يكن هناك عباد الله المسمّون بـ(الملائكة) يأخذون بزمام هذه القوانين ويظهرونها ويمثلونها، فلا يتعين لتلك القوانين والنواميس أي وجود كان، ولا تعرف لها هوية، فهي ليست حقيقة خارجية قط، والحال أن الحياة حقيقة خارجية، والأمر الوهمي لا يمكن ان تحمل عليه حقيقة خارجية.

نخلص من هذا أنه: مادام أهل الحكمة وأهل الدين واصحاب العقل والنقل متفقون ضمنياً على أن الموجودات لا تنحصر في عالم الشهادة هذا، وان عالم الشهادة الظاهر الجامد الذي لا يكاد يتفق مع اقامة الأرواح وتشكلها قد تزين بهذا العدد الهائل من ذوي الارواح والأنسام؛ لذا فالوجود لا يمكن ان يكون منحصراً فيه. بل هناك طبقات أخرى كثيرة من الوجود، بحيث يصبح عالم الشهادة بالنسبة لها ستاراً مزركشاً. وما دام عالم الغيب وعالم المعنى ملائمين للارواح - كملائمة البحار للأسماك - فلابدّ أنهما يزخران بارواح ملائمة لهما.

ولما كانت جميع الأمور قد شهدت على وجود معنى الملائكة، لذلك فلا ريب أن أحسن صورة لوجود الملائكة والحقائق الروحانية، وأفضل حال وكيفية لها، بحيث تستسيغها العقول السليمة وتستحسنها، هو بلا شك ما شرحه القرآن الكريم وبيّنه بوضوح.

فالقرآن الكريم يذكر الملائكة بأنهم ] ...عبادٌ مُكْرَمون[ ( الأنبياء:26)

] ..لا يَعصُــونَ الله مــا أمَـــرهــم ويفــعلون مــا يُؤمَرون[ ( التحريم: 6)

فهم أجسام نورانية لطيفة تنقسم الى أنواع مختلفة.

نعم فكما ان البشر هم أمة يحملون ويمثلون وينفّذون الشريعة الإلهية الآتية من صفة (الكلام)، كذلك الملائكة أمة عظيمة جداً بحيث أن قسم العاملين منهم يحملون ويمثلون وينفّذون الشريعة التـكـويـنـيـة الآتية من صفة (الأرادة). وهم نوع من عباد الله الطائعين لأوامر المؤثر الحقيقي الذي هو القدرة الفاطرة والأرادة الإلهية طاعة كاملة حتى جعلوا كل جرم من الأجرام السماوية العلوية بمثابة مسجدٍ ومعبدٍ لهم.







الأساس الثالث

ان مسألة ثبوت الملائكة والعالم الروحاني من المسائل التي تنطبق عليها القاعدة المنطقية: (يدرك تحقق الكل بثبوت جزء واحد). أي أنه برؤية شخص واحد للملائكة يُعرف وجود النوع عامةً؛ لأن الذي ينكر الواحد ينكر الكلّ قاطبةً.

فاذا ما قَبِل فرداً واحداً من ذلك النوع، فعليه أن يقبل النوع جميعاً، إذن تأمّل:

ألا ترى وتسمع بأن جميع أهل الأديان، في جميع العصور، منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام الى يومنا هذا، قد اتفقوا على وجود الملائكة وثبوت العالم الروحاني، وان طوائف من البشر قد اجمعوا على إمكان محادثة الملائكة ومشاهدتهم والرواية عنهم مثلما يتحاورون ويشاهدون ويروون الروايات فيما بينهم. فيا ترى هل يمكن ان يحصل مثل هذا الاجماع، ويدوم هذا الاتفاق، بهذا الشكل المتواتر المستمر في أمر وجودي، ايجابي، مستند الى الشهود، إن لم يكن قد شوهد أحدٌ من الملائكة عياناً وبداهةً؟ أو لم يُعرف وجود شخص او أشخاص منهم بصورة قاطعة بالمشاهدة؟ أو لم يُشعر بوجودهم بالبداهة والمشاهدة؟. وهل من الممكن ألاّ يكون منشأ هذا الاعتقاد العام مبادئ ضروريةً واموراً بديهية؟ وهل من الممكن ان يستمر ويبقى وهمٌ لا حقيقة له في جميع العقائد الانسانية وفي خضم التقلبات البشرية؟. وهل من الممكن ان الأجماع العظيم لأهل الأديان هذا، لا يستند الى حدس قطعي وعلى يقين شهودي؟. وهل من الممكن ان هذا الحدس القطعي واليقين الشهودي لا يستندان الى ما لا يعدّ ولا يحصى من الأمارات والعلامات؟ وان هذه الامارات لا تستند على مشاهدات واقعية؟ وان هذه المشاهدات الواقعية لا تستند الى مبادئ ضرورية لا شك فيها ولا شبهة؟

ولما كان الأمر كذلك، فان أسس ومستندات الاعتقادات العامة في أهل الأديان هي مبادئ ضرورية، نتجت بالتواتر المعنوي النابع من رؤية الروحانيات ومشاهدة الملائكة مراراً وتكراراً، فهي أسس قطعية الثبوت.

وهل من الممكن أو المعقول أن تدخل الشبهة في وجود الملائكة وعالم الروح ومشاهدتهم الذي اخبر عنه، وشهد به الأنبياء والاولياء شهوداً متواتراً وبقوة الاجماع الضمني. وهم شموس الحياة الاجتماعية البشرية ونجومها واقمارها وبخاصة أنهم (أهل الاختصاص) في هذه المسألة؛ اذ من المعلوم أن اثنين من أهل الاختصاص يرجحان على آلاف من غيرهم. وهم كذلك (أهل الاثبات) في هذه المسألة، ومن المعلوم أن إثنين من أهل الإثبات يرجحّان كذلك على آلاف من (أهل النفي).

وهل من الممكن أن تدخل أية شبهة وبخاصة فيما ذكره القرآن الحكيم المعجز الذي يتلألأ في سماء الكائنات دائماً دون أفول، فهو شمس شموس عالم الحقيقة، وبما شهده وشاهده النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وهو شمس الرسالة؟.

ولما كان تحقق وجود كائن روحاني واحد – في وقت ما – يُظهر حقيقة وجود جميع نوعه، وقد تحقق هذا فعلاً، فلابدّ أن أفضل صورة معقولة ومقبولة لحقيقة وجودهم هو مثلما شرحتها الشريعة الغرّاء، وأظهرها القرآن الكريم، وشاهدها صاحب المعراج عليه أفضل الصلاة والسلام.



الأساس الرّابع

اذا أمعنا النظر في موجودات الكون نلاحظ أن:

((للكلّيّات - كما هي للجزئيات - شخصية معنوية، بحيث تظهر لها وظيفة كليّةً)).

فكما ان الزهرة - مثلاً - باظهارها دقة الصنعة فيها تسبّح بلسان حالها بأسماء فاطرها، فرياض الارض كلها ايضاً هي بحكم تلك الزهرة، لها وظيفة تسبيحية كلية في غاية الانتظام.

وكما ان الثمرة تعبّر وتعلن بنظامها البديع المنسق عن تسبيحاتها، كذلك الشجرة الباسقة بكليتها، لها عبادة ووظيفة فطرية في اتمّ نظام.

وكما أن للشجرة الباسقة تسابيح بحمد ربّها بكلمات أوراقها وأزهارها وأثمارها، فان لآفاق السموات الشاسعة تسابيحها للفاطر الحكيم بكلمات شموسها ونجومها وأقمارها، وهي تحمد وتمجّد صانعها جل جلاله.

وهكذا الموجودات الخارجية كلها - رغم انها جامدة ودون شعور ظاهراً - فلها واجبات وتسابيح بحمد ربها في منتهى الأحساس والحيوية.

فالملائكة اذ يمثلون الموجودات ويعبّرون عن تسبيحاتها في عالم الملكوت، فالموجودات بدورها هي بحكم المساكن والمساجد للملائكة في عالم الملك والشهادة. ولقد بيّنا في (الكلمة الرابعة والعشرين) - الغصن الرابع منها - : ان مالك قصر هذا العالم الفخم وصانعه جل جلاله يستخدم في إعمار مملكته أربعة أقسام من العاملين، وفي مقدمتها الملائكة والروحانيات.

(فالنباتات والجمادات) تقوم بعملها دون درايةٍ لقصد الصانع الحكيم، ودون أن تأخذ أجرة لقاء خدماتها العظيمة، ولكن تقوم بها بأمرةِ مَن يعلم بقصد المالك. و(الحيوانات) تقوم بخدمات عظيمة كلية دون دراية أيضاً، ولكن بأجرة جزئية. و (الانسان) يُستخدم في اعمال موافقة لما يعلم من مقاصد الصانع ذي الجلال مقابل أجرتين - آجلة وعاجلة - مع أخذٍ لنصيب نفسه أيضاً من كل شئ، ورعايته العمال الآخرين، النباتات والحيوانات..

نعم، فما دام استخدام هذه الأنواع مشاهداً عياناً فلابدّ أن هناك قسماً رابعاً بل هم مقدمة صفوف الخَدَمة والعمال، فهم يتشابهون مع الانسان من ناحية، حيث يعلمون المقاصد العامة للصانع ذي الجلال، فيعبدونه بحركاتهم المنسجمة مع أوامره، ولكنهم يختلفون عن الانسان من ناحية اخرى وهي انهم مجرّدون من حظوظ النفس وأخذ الاجرة الجزئية إذ يكتفون بما يحصلونه من اللذة والذوق والكمال والسعادة بمجرّد نظره سبحانه اليهم، ومن اوامره لهم، وتوجههه اليهم، وقربهم منه، وانتسابهم اليه فيسعون لأجله، وباسمه، فيما يخصهم من أعمال بكل اخلاص.. واولئك هم الملائكة، فتتنوع وظائف عبوديتهم حسب اجناسهم، وحسب انواع الموجودات في الكون؛ اذ كما أن للحكومة موظفين مختلفين حسب اختلاف وتنوع دوائرها، كذلك تتنوع تسبيحات ووظائف العبودية باختلاف الدوائر في سلطنة الربوبية.

فمثلاً: سيدنا ميكائيل عليه السلام بأمر من الله ولأجله، وبحوله وقوته، هو كالمشرف العام - اذا جاز التعبير - على جميع المخلوقات الإلهية المزروعة في حقل الارض، أي هو رئيس جميع مَن هم بحكم المــزارع من المــلائـكة. وللفاطر الحكيم جل جلاله كذلك مَلَك موكّل عظيم يتولّى باذنه وأمره وبقوّته وحكمته رئاسة جميع الرعاة المعنويين للحيوانات جميعاً.

فما دام على كل موجود من الموجودات الظاهرة مَلَكٌ موكّل، يمثل ما تُظهر تلك الموجودات من وظائف العبودية والتسبيح في عالم الملكوت ويقدّمه - بعلمٍ - الى الحضرة الإلهية المقدّسة الجليلة، فلابدّ ان نفهم ان ما روى عن المخبر الصادق e حول الملائكة من صور هي أحسن تصوير وأقرب الى العقل وبشكل جدّ مناسب ولائق.

فمثلاً: روى ان الرسول e قال: (( ان لله ملائكة لها أربعون - أو أربعون الف - رأس في كل رأس أربعون الف فم وفي كل فم أربعون ألف لسان يُسبّح أربعين الف تسبيحة)) أو كمال قال.. فحقيقة هذا الحديث لها معنى، ولها صورة.

أما معناها فهي: ان عبادة الملائكة في غاية الانتظام والكمال، وهي في منتهى السعة والكليّة أيضاً.

وأما صورتها فهي: ان هناك بعض الموجودات الجسمانية الضخمة تنجز وظائف عبوديتها بأربعين الف رأس وبأربعين الف نمط وشكل، فالسماء مثلاً تسبح بالشموس والنجوم. والأرض أيضاً مع أنها واحدة من المخلوقات فانها تقوم بوظائف عبوديتها وتسبيحاتها لربّها بمائة الف رأس، وفي كل رأس مئات الألوف من الافواه، وفي كل فم مئات الألوف من الألسنة، فلأجل أن يُظهر الملك الموكل لكرة الأرض هذا المعنى في عالم الملكوت، لابدّ أن يَظهر هو الآخر بتلك الهيئة والصورة. حتى انني رأيت ما يقارب الأربعين غصناً - بما يشبه الرأس - لشجرة متوسطة من اشجار اللوز، ومن ثم نظرت الى أحد أغصَانها فكان له ما يقارب الأربعين من الأغصَان الصغيرة بمثابة الألسنة، ورأيت هناك أربعين زهرة قد تفتحت من أحد تلك الألسنة، فنظرت بدقة وأمعنت بحكمة الى تلك الأزهار، فاذا في كل زهرة ما يقارب الأربعين من الخيوط الدقيقة المنتظمة ذات الألوان البديعة والدقة الرائعة، بحيث أن كلّ خيط من تلك الخيوط يُظهر تجلّياً من تجلّيات أسماء الصانع ذي الجلال ويستنطق اسماً من اسمائه الحسنى.

فهل من الممكن ان صانع شجرة اللوز ذا الجلال وهو الحكيم ذو الجمال الذي حمّل تلك الشجرة الجامدة جميع تلك الوظائف ثم لا يركّب عليها مَلَكاً موكلاً، يناسبها - وبمثابة الروح لها - ويفهم معنى وجودها، ويعبّر عن ذلك المعنى ويعلنه للكائنات ويرفعه الى الحضرة المقدسة؟.

أيها الصديق! ان ما بينّاه حتى الآن، إنما كان تمهيداً كي يحضر القلب للقبول، ويلزم النفس بالتسليم، ويهئ العقل الى الاذعان، فان كنت قد فهمته. وكنت ترغب في مقابلة الملائكة حقاً، فتهيأ وتطهّر من الأوهام الرديئة. فدونك عالم القرآن الكريم مفتحة ابوابه. فان جنة القرآن مفتحة الأبواب دائماً.. فادخل.. وانظر الى اجمل صورة للملائكة في فردوس القرآن.. فكل آية من آيات التنزيل شرفة.. ومن هذه الشرفات.. قف.. وانظر.. وتمتع:

] والـمُرسَلاتِ عُرفَاً^ فَالعَاصِفَاتِ عَصْفَاً^ والنّاشِراتِ نَشرا^ فالفَارِقاتِ فَرقاَ^ فالملقيات ذِكْراً[ َ(المرسلات:1 - 5).

] والنـازعـات غـرقاً^ والـناشـطات نشـطـاً^ والسـابحـات سبحاً^ فالسابقات سبقا ^ فالمدبرات أمراً[ (النازعات: 1-5).

] تنزل الملئكة والروح فيها باذن ربهم ..[ (القدر:4).

] عليها ملئكة غـلاظ شداد لا يعـصون الله ما أمـرهـم ويفعلون ما يؤمرون[ (التحريم:6).

ثم انصت الى الثناء عليهم:

] سبـحانه بل عباد مكرمـون^ لا يسبـقونه بالـقول وهم بامره يعملون[ ( الانبياء: 26- 27).

وان كنت ترغب في مقابلة الجن فادخل حصن سورة:

] قل أوحي اليَّ أنه استمع نفر من الجن...[ (الجن:1).

ثم أنصت اليهم ماذا يقولون.. واعتبر.. انهم يقولون:

] إنّا سمعنا قـرآناً عجباً^ يهدى الى الـرشد فآمـنا به ولـن نشرك بربنا أحداً[ (الجن:12).



















المقصد الثاني



((القيامة ودمار الدنيا والحياة الآخرة))

فيه أربعة أسس مع مقدمة

المقدّمة

اذا ادّعى أحد أن هذه المدينة أو القصر سيُدمّر، ويُبنى ويُعمّر من جديد عمراناً محكماً رصيناً، فلاشك أنه يترتب على دعواه هذه ستة أسئلة:

الأول: لماذا يدمّر؟. وهل هناك من مبرّر؟ فاذا أثبتَ: أن نعم، فهنا يردُ:

السؤال الثاني: هل الذي يهدم ثم يبنى ويُعمّر قادر على عمله؟ واذا أثبتَ هذا ايضاً فسيلي:

السؤال الثالث هكذا: وهل يمكن هدمها؟

وسؤال آخر: وهل تُهدم فعلاً؟ فاذا اثبتَ انه يمكن هدمها وانه سوف يهدمها فعلاً فسيرد هنا سؤالان؟.

هل يمكن إعمار هذه المدينة الرائعة أو القصر من جديد؟ فان كان الجواب: نعم أنه ممكن.

فسيرد السؤال: وهل يعمرّها فعلاً؟.

فاذا كان الجواب: نعم واثبتَ كل ذلك، عندئذ لا تبقى أية ثغرة في جميع جوانب هذه المسألة لدخول أية شبهة أو شك أو وهم فيها.

وهكذا على غرار هذا المثال، فهناك مبرّر لهدم قصر الدنيا ومدينة هذه الكائنات وتخريبها وتدميرها، ومن ثم تعميرها وبناؤها، وان هناك مَن هو قادر ومهيمن على ذلك، وبالتالي فهو يمكنه هدمها، وسيهدمها فعلاً، ومن ثم فهو يمكنه تعميرها، وسيعمرّها فعلاً من جديد. وستثبت لدينا هذه المسائل بعد الأساس الأول.





الأساس الأوّل

ان الروح باقية قطعاً. اذ أن الدلائل التي دلت على وجود الملائكة والروحانيات في (المقصد الأول) هي نفسها دلائل مسألتنا - بقاء الروح - هذه. وعندي أن هذه المسألة ثابتة الى درجة بحيث يكون من العبث أن نخوض في توضيحها.

نعم.. انها قصيرة ودقيقة تلك المسافة التي بيننا وبين القوافل التي لا تعدّ ولا تحصى من الأرواح الباقية في عالم البرزخ وعالم الأرواح والمنتظرة للرحيل الى الآخرة، بحيث لا نحتاج الى برهان لايضاحها؛ فاللقاءات التي بينها وبين ما لا يعدّون من أهل الكشف والشهود، ورؤية أهل كشف القبور لهم، وعلاقات عامة الناس وارتباطهم معهم في الرؤى الصادقة ومحاورات قسم من العوام معهم، كل ذلك جعل الروح وبقاءها - لكثرة التواتر - من المفاهيم المتعارفة للبشرية.

بيد أن الفكر المادي في عصرنا هذا قد أسكر كثيراً من الناس فأوغل الوهم والشبهة في أبسط الامور البديهية. فلأجل ازالة هذه الاوهام والوساوس، سنشير الى (أربعة منابع) فقط من بين تلك المنابع الغزيرة للحدس القلبي والاذعان العقلي ممهدين لها (بمقدمة).



المقدمة

كما أثبت في الحقيقة الرابعة من (الكلمة العاشرة):

ان الجمال البديع الخالد الأبدي الذي ليس له مثيل يطلب خلود مشتاقيه وبقاءهم وهم كالمرآة العاكسة لذلك الجمال. وان الصنعة الكاملة الخالدة غير الناقصة تستدعي دوام مناديها المتفكرين. وان الرحمة والاحسان غير النهائي يقتضيان دوام تنعم شاكريهما المحتاجين.. فذلك المشتاق الذي هو كالمرآة المصقولة.. وذلك المنادي المتفكر..وذلك الشاكر المحتاج، ان هو الاّ روح الانسان اولاً؛ لذا فالروح باقية بصحبة ذلك الجمال وذلك الكمال وتلك الرحمة.. في طريق الخلود والأبدية.

وأثبتنا كذلك في الحقيقة السادسة من (الكلمة العاشرة) أنه:

ليست الروح البشرية وحدها لم تخلق للفناء، بل حتى أبســط المخــلوقـات كذلك لم تخلق للفناء بل لها نوع من البقاء، فالزهرة البسيطة - مثلاً ـ التي لا تملك روحاً مثلنا، هي ايضاً عندما ترحل ظاهراً من الوجود تبقى صورتها محفوظة في كثير من الأذهان، كما يدوم قانون تراكيبها في مئات من بُذيراتها المتناهية في الصغر، فتمثل بذلك نموذجاً لنوع من البقاء بالآف من الأوجه.

وما دام نموذج صورة الزهرة وقانون تركيبها - المشابه جزئياً بالروح - باقياً ومحفوظاً من قبل الحفيظ الحكيم في بذيراتها الدقيقة بكل انتظام في خضم التقلبات الكثيرة فلاشك ان روح البشر التي هي قانون أمري نوراني تملك ماهية سامية، وهي ذات حياة وشعور، وخصائص جامعة شاملة جداً وعالية جداً، وقد اُلبست وجوداً خارجياً، لابدّ انها باقية للأبد، ومشدودة بالسرمدية، وذات ارتباط مع الخلود دون أدنى شك. وكيف تدعي ان لم تفهم هذا: انني انسان واعٍ..؟.

فهل يمكن ان يُسأل الحكيم ذو الجلال والحفيظ الباقي الذي أدرج تصميم الشجرة الباسقة وحفظ قانون تركيبها الشبيه بالروح في بذرة متناهية في الصغر: كيف يحافظ على ارواح البشر بعد موتهم؟.

المنبع الأول: انفسي

أي أن كل من يدقق النظر في حياته ويفكر مليّاً في نفسه يدرك أن هناك روحاً باقيةً.

نعم. انه بديهي أن كل روح رغم التبدل والتغير الجاري على الجسم عبر سني العمر تظل باقية بعينها دون أن تتأثر، لذا فما دام الجسد يزول ويستحدث - مع ثبات الروح - فلابدّ ان الروح حتى عند انسلاخها بالموت إنسلاخاً تاماً، وزوال الجسد كلّه، لا يتأثر بقاؤها ولا تتغير ماهيتها.. اي أنها باقية ثابتة رغم هذه التغيرات الجسدية، وكل ما هنالك ان الجسد يبدّل أزياءه تدريجياً طوال حياته مع بقاء الروح، أما عند الموت فيجرد نهائياً وتثبت الروح. فبالحدس القطعي بل بالمشاهدة نرى ان الجسد قائم بالروح، اي ليست الروح قائمة بالجسد، وانما الروح قائمة ومسيطرة بنفسها. ومن ثم فتفرّق الجسد وتبعثره بأي شكل من الأشكال وتجمّعه لايضر باستقلالية الروح ولا يخـل بها أصلاً. فالجسد عــشّ الــروح ومســكنها وليــس بردائـها. وانمــا رداء الــروح غــلاف لطــيف وبــدن مثــالي ثــابت الى حــدٍّ ما ومتناسب بلطافته معها. لذا لا تتعرّى الروح تماماً حتى في حالة الموت بل تخرج من عشّها لابسة بدنها المثالي وأرديتها الخاصة بها.

المنبع الثاني: آفاقي

وهو حكم نابع من المشاهدات المتكررة والوقائع المتعددة ومن التجارب الكثيرة.

نعم، اذا ما فُهم بقاء روح واحدة بعد الممات، يستلزم ذلك بقاء (نوع) تلك الروح عامة. إذ المعلوم في علم المنطق أنه اذا ظهرت خاصّة (ذاتية) في فرد واحد يحكم على وجود تلك الخاصة في جميع الأفراد؛ لأنها خاصة ذاتية، فلابدّ من وجودها في كل فرد. والحال أن بقاء الروح لم يظهر في فرد واحد فحسب، بل أن الآثار التي تستند الى المشاهدات التي لا تعدّ ولا تحصى والامارات التي تدل على بقائها ثابتة بصورة قطعية الى درجة أنه كما لا يساورنا الشك ولا يأخذنا الريب أبداً في وجود القارة الامريكية المكتشفة حديثاً واستيطانها بالسكان، كذلك لا يمكن الشك ان في عالم الملكوت والارواح الآن ارواحاً غفيرة للأموات لها علاقات معنا، اذ أن هدايانا المعنوية تمضي اليها، وتأتينا منها فيوضاتها النورانية.

وكذلك يمكن الاحساس وجداناً بالحدس القطعي، بأن ركناً أساساً في كيان الانسان يظل باقياً بعد موته. وهذا الركن الأساس هو الروح، حيث أن الروح ليست معرضة للإنحلال والخراب؛ لأنها بسيطة ولها صفة الوحدة. اذ الانحلال والفساد هما من شأن الكثرة والاشياء المركبة. وكما بيّنا سابقاً فان الحياة تؤمّن طرزاً من الوحدة في الكثرة، فتكون سبباً لنوع من البقاء أي أن الوحدة والبقاء هما أساسا الروح حيث تسري منهما الى الكثرة. لذلك فإن فناء الروح إما أن يكون بالهدم والتحلّل أو بالأعدام؛ فأما الهدم والتحلّل فلا تسمح لهما الوحدة والتفرد بالولوج، ولا تتركهما البساطة للافساد، وأما الاعدام فلا تسمح به الرحمة الواسعة للجواد المطلق، ويأبى جُوده غير المحدود أن يستردّ ما أعطى من نعمة الوجود الى روح الانسان اللائقة والمشتاقة الى ذلك الوجود.

المنبع الثالث

الروح قانون أمري، حيّ، شاعر، نوراني، وذات حقيقة جامعة، معدّة لاكتساب الكلية والماهية الشاملة وقد اُلبست وجوداً خارجياً؛ اذ من المعلوم أن أضعف الأوامر القانونية يظهر عليها الثبات والبقاء، لأنه اذا أمعنا النظر نرى بأن هناك ((حقيقة ثابتة)) في جميع الأنواع المعرّضة للتغيّر، حيث تتدحرج ضمن التغيرات والتحولات وأطوار الحياة مبدّلة صوراً واشكالاً مختلفة، ولكنها تظل هي باقية حيةً ولا تموت ابداً. فالقانون الذي يسري على (نوع) من الأحياء الاخرى يكون جارياً ايضاً على الشخص (الفرد) للأنسان؛ اذ الانسان (الفرد) حسب شمول ماهيته، وكلّية مشاعره وأحاسيسه، وعموم تصوّراته، قد اصبح في حكم (النوع) وان كان بعدُ فرداً واحداً؛ لأن الفاطر الجليل قد خلق هذا الأنسان مرآة جامعة، وشاملة، مع عبودية تامة، وماهية راقية، فحقيقته الروحية في كل فرد لا تموت أبداً - بإذن الله - وان بدّلت مئات الآلاف من الصور، فتستمر روحه حية كما بدأت حية؛ لذا فان الروح التي هي حقيقة شعور ذلك الشخص وعنصر حياته باقية دائماً وأبداً بابقاء الله لها وبأمره واذنه تبارك وتعالى.

المنبع الرابع:

ان القوانين المتحكمة والسارية في الأنواع تتشابه مع الروح الى حدّ ما، إذ ان كليهما آتيان من عالم (الأمر والارادة). فهي تتوافق مع الروح بدرجة جزئية معينة لصدورهما من المصدر نفسه، فلو دققنا النظر في تلك النواميس والقوانين النافذة في الانواع التي ليس لها إحساس ظاهر، يظهر لنا أنه:

لو اُلبست هذه القوانين الأمرية وجوداً خارجياً لكانت اذاً بمثابة الروح لهذه الأنواع، اذ ان هذه القوانين ثابتة ومستمرة وباقية دائماً. فلا تؤثر في وحدتها التغيرات ولا تفسدها الانقلابات فمثلاً: اذا ماتت شجرة تين وتبعثرت فان قانون تركيبها ونشأتها الذي هو بمثابة روحها يبقى حيّاً في بذرتها المتناهية في الصغر. أي أن وحدة تلك القوانين لا تفسد ولا تتأثر ضمن جميع التغيرات والتقلبات. وطالما أن أبسط الأوامر القانونية السارية وأضعفها مرتبطة بالدوام والبقاء، فيلزم ان الروح الانسانية لا ترتبط مع البقاء فحسب بل مــع أبـد الآبــاد؛ لأن الــروح بنص الــقرآن الكــريم ((مِنْ أمرِ ربّى) آتٍ من عالَم الأمر، فهو قانون ذو شـــعور ونامــوس ذو حياة، قد ألبسته القدرة الإلهية وجوداً خـارجياً. اذن فكما أن القوانين غير ذات الشــعور الآتـية من عالم (الأمر) وصفة (الارادة) تظل باقية دائماً أو غالباً، فكذلك الروح - التي هي صـنوها - آتـية من عـالم (الأمر) وهــي تجلٍّ لصفــة (الارادة) فــهي أليــق بالبقــاء وأصلح له. أي أن بقاءها أولى بالثبوت والقطعية؛ لأن لها وجوداً وامتلاكاً للحقيقة الخارجية، وهي أقوى من جميع القوانين وأعلى مرتبة منها، ذلك لأن لها شعوراً، وهي أدوم وأثمن قيمة منها لأنها تمتلك الحياة.



الأساس الثاني

ان هناك ضرورة ومقتضى للحياة الأخرى.. وان الذي يهب تلك الحياة والسعادة الابدية قادر مقتدر.. وان دمار العالم وموت الدنيا ممكن.. وانه سيقع فعلاً.. وان الحشر وبعث العالم من جديد ممكن ايضاً.. وانه ستقع هذه الواقعة فعلاً.

فهذه ست مسائل سنبيّنها بالتعاقب باختصار يقنع العقل، علماً أننا قد سقنا في (الكلمة العاشرة) براهين جعلت القلوب ترقى الى مرتبة الايمان الكامل، ولكننا هنا نبحثها فحسب بما يقنع العقل ويبهته كما فعل (سعيد القديم) في رسالة (نقطة من نور معرفة الله).

نعم! ان هناك ما يقتضي الحياة الأخرى، وان هناك مبرراً للسعادة الابدية، وان البرهان القاطع الدّال على هذه الضرورة حدسٌ يترشح من عشرة ينابيع ومدارات:

المدار الأول:

اذا تأملنا في أرجاء الكون نرى ان هناك نظاماً كاملاً وتناسقاً بديعاً مقصوداً في جميع أجزائه. فنشاهد رشحات الارادة والاختيار، ولمعات القصد في كل جهة.. حتى نبصر نور (القصد) في كل شئ، وضياء (الارادة) في كل شأن، ولمعان (الأختيار) في كل حركة، وشعلة (الحكمة) في كل تركيب.

فشهادة ثمرات كل ما سبق تلفت الأنظار. وهكذا ان لم يكن هناك حياة أخرى وسعادة خالدة، فماذا يعنى هذا النظام الرصين؟ انه سيبقى مجرد صورة ضعيفة باهتة واهية، وسيكون نظاماً كاذباً دون أساس، وستذهب المعنويات والروابط والنسب - التي هي روح ذلك النظام والتناسق البديع - هباءً منثوراً..

أي أن الحياة الأخرى والسعادة الابدية هي التي جعلت هذا (النظام) نظاماً فعلاً واعطت له معنىً، لذا فنظام العالم هذا يشير الى تلك السعادة الابدية وحياة الخلود.

المدار الثاني:

ان في خلق الكائنات تتضح حكمة جليّة. نعم، ان الحكمة الإلهية التي ترمز الى عنايته الأزلية واضحة وضـوحاً تاماً؛ فــرعاية مصالح كــل كائن، والتــزام الفوائد والحِكَم فيها ظاهرة جلية في الجميع، وهي تعلن - بلسان حالها - ان السعادة الأبدية موجودة؛ ذلك إن لم تكنهناك حياة أخرى أبدية فيجب أن ننكر - مكابرين ومعاندين - كل ما في هذه الكائنات من الحِكَم والفوائد الثابتة البديهية.

نقتصر على هذا مكتفين بالحقيقة العاشرة (للكلمة العاشرة) فقد أظهرت هذه الحقيقة كالشمس.

المدار الثالث:

لقد ثبت عقلاً وحكمةً واستقراءً وتجربةً: ان لا عبثية ولا اسراف في خلق الموجودات، وان عدمهما يشير الى السعادة الابدية والدار الآخرة. والدليل على انه ليس في الفطرة اسراف ولا في الخلق عبث، هو أن الخالق سبحانه وتعالى قد اختار لخلق كل شئ أقرب طريق، وأدنى جهة، وأرق صورة، وأجمل كيفية؛ فقد يسند الى شئ واحد مائة وظيفة، وقد يعلق على شئ دقيق واحد ألفاً من الغايات والنتائج. فما دام ليس هناك اسراف، ولا يمكن ان يكون هناك عبث فلابدّ ان تتحقق تلك الحياة الاخرى الأبدية. وذلك إن لم يكن هناك رجوع الى الحياة من جديد، فان العدم يحوّل كل شئ الى عبث، بمعنى ان كل شئ كان اسرافاً وهدراً. الاّ أن عدم الاسراف الثابت حسب علم وظائف الاعضاء في الفطرة جميعها - ومنها الانسان- ليبيّن لنا انه لا يمكن أن تذهب هباءً - فيكون اسرافاً - جميع الاستعدادات المعنوية، والآمال غير النهائية، والأفكار والميول.. حيث أن الميل الأصيل الى التكامل المغروس في اعماق الانسان يفصح عن وجود كمال معين، وأن ميله وتطلّعه الى السعادة يعلن اعلاناً قاطعاً عن وجود سعادة خالدة وانه المرشح لهذه السعادة.

فان لم يكن الأمر هكذا، فالمعنويات الرصينة والآمال الراقية السامية التي تؤسس ماهية الانسان الحقيقية تكون كلها - حاشَ لله - اسرافاً وعبثاً وتذهب هباءً، خلافاً للحكمة الموجودة في جميع الخلق.

نكتفي هنا بهذا القدر لأننا قد أثبتناها سابقاً في الحقيقة الحادية عشرة من (الكلمة العاشرة).



المدار الرابع

ان التبدلات والتحولات التي تحدث في كثير من الأنواع، حتى في الليل والنهار، وفي الشتاء والربيع، وفي الهواء، وحتى في جسد الانسان خلال حياته، والنوم الذي هو أخو الموت.. تشابه الحشر والنشر، وهي نوعٍ من القيامة لكل منها، وتُشعر بحدوث القيامة الكبرى وتخبر عنها رمزاً. فمثلما ساعاتنا تعدُّ اليوم، والساعة، والدقيقة، والثانية بحركة تروسها فتُخبر عقاربها بحركتها عن كل واحدة منها، وبالتي تليها - أي أن كل واحدة منها مقدمة للتي تليهاــ كذلك هذه الدنيا فهي كساعة إلهية عظيمة، تعمل بدورانها وتعاقبها على عدّ الأيام والسنين فتخبر كل منها عن التي تليها وهي مقدمة لها. فكما أنها تُحدث الصبح بعد الليل، والربيع بعد الشتاء، كذلك تُخبرنا رمزاً عن حدوث صبح القيامة بعد الموت وصدورها من تلك الساعة العظمى.

وهناك اشكال مختلفة كثيرة من أنواع القيامة يـمرّ بها الانسان في فترة حياته، ففي كل ليلة هناك نوع من الموت وفي الصباح يرى نوعاً من البعث، أي انه يرى ما يشبه امارات الحشر، بل انه يرى كيف تتبدّل جميع ذرات جسمه في بضع سنين، حتى انه يرى نموذج قيامةٍ وحشرٍ تدريجيين مرتين في السنة الواحدة من تلك التبدلات التي تحصل في أجزاء جسمه جميعها. ويشاهد كذلك الحشر والنشور والقيامة النوعية في كل ربيع في اكثر من ثلاثمائة الف من أنواع النباتات والحيوانات.. فهذا الحشد من الامارات والاشارات التي لا تحدّ على الحشر، وهذا الحدّ من العلامات والرموز التي لا تحصى على النشور.. ما هو الاّ بمثابة ترشحات للقيامة الكبرى تشير الى الحشر الاكبر. فحدوث مثل هذه القيامة النوعية وما يشبه الحشر والنشور في الانواع، من قبل الخالق الحكيم، باحيائه جميع الجذور وقسماً من الحيوانات بعينها، واعادته سبحانه سائر الاشياء والأوراق والازهار والاثمار بمثلــها، يمـكن أن يكــون دليــلاً على القيامة الشخصية لكل فرد انسـاني ضمن القيامة العامة. حيث ان (الفرد) الانــساني يقـابل (النـوع) مــن الكــائنــات الأخرى؛ لأن نــور الفكر أعــطى مــن السعة العظيمة لآماله وأفـكــاره بحـيــث يتمكن ان يحيْط بالمــاضي والمــستــقبل، بـل اذا ابتلع الدنيا لا يشبع.. أما في الأنواع الأخرى فماهيّة الفرد جزئية، وقيمته شخصية، ونظره محدود، وعقله محصور، وألمه آني، ولذته وقتية، بينما البشر ماهيته سامية، وميزاته راقية وقيمته غالية، ونظره شامل عام، وكــماله لا يحدّه شـئ، وقسم من آلامه ولذاتــه المعنــوية دائمة؛ ولــهذا فــان ما يــشــاهــد من تكــرار أشــكــال القيامة والحشر في سائر الأنواع يُخبر ويرمز الى ان كل فرد انساني يُعاد بعينه ويُحشر في القيامة الكبرى العامة.

ولما كنا قد أثبتنا هذا في الحقيقة التاسعة من (الكلمة العاشرة) بشكل قطعي كمن يثبت حاصل ضرب الأثنين في اثنين يساوي أربعاً فقد اوجزناه هنا.

المدار الخامس:

يرى العلماء المحققون ان افكار البشر وتصوراته الانسانية التي لا تتناهى المتولّدة من آماله غير المتناهية، الحاصلة من ميوله التي لا تحد، الناشئة من قابلياته غير المحصورة، المندمجة في استعداداته الفطرية غير المحدودة، المندرجة في جوهر روحه، كلّ منها تمدّ اصابعها فتشير وتحدق ببصرها فتتوجه الى عالم السعادة الابدية وراء عالم الشهادة هذا. فالفطرة التي لا تكذب ابداً والتي فيها ما فيها من ميل شديد قطعي لا يتزحزح الى السعادة الأخروية الخالدة تعطى للوجدان حدساً قطعياً على تحقق الحياة الأخرى والسعادة الابدية.

نكتفي هنا بهذا القدر حيث اظهرت الحقيقة الحادية عشرة من (الكلمة العاشرة) هذه الحقيقة واضحة كالنهار.

المدار السادس:

ان رحمة خالق الكون وهو الرحمن الرحيم تدل على السعادة الأبدية، نعم! ان التي جعلت النعمة نعمة فعلاً وانقذتها من النقمة، ونجَّت الموجودات من نحيب الفراق الابدي.. هي السعادة الخالدة ودار الخلود، وهي من شأن تلك الرحمة التي لا تحرم البشر منها، اذ لو لم توهب تلك السعادة ودار الخلود التي هي رأس كل نعمة وغايتها ونتيجتها الأساس، أي ان لم تبعث الدنيا بعد موتها بصورة (آخرة).. لتحولت جميع النِعَم الى نقم.. وهذا يستلزم إنكار الرحمة الإلهية المشهودة الظاهرة بداهة وبالضرورة في الكون، والثابتة بشهادة جميع الكائنات والتي هي الحقيقة الثابتة الواضحة وضوحاً أسطع من الشمس.

فاذا ما أفترضتَ ان نهاية الحياة الانسانية تصير الى الفراق الابدي والى العدم ثم دققتَ النظر في بعض الآثار اللطيفة لتلك (الرحمة) وانوارها في نعمة الحب والحنان والعقل.. فانك ترى ان تلك المحبة تصبح مصيبة كبرى.. وذلك الحنان اللذيذ يكون داءً وبيلاً.. وذلك العقل النوراني يكون بلاءً عظيماً..

فالرحمة اذن - لأنها رحمة - لا يمكن ان تقابل المحبةَ الحقيقية بذلك الفراق الابدي والعدم. أي لابد من حياة أخرى..

لخصنا هذه الحقيقة هنا حيث أن الحقيقة الثانية من (الكلمة العاشرة) قد اوضحتها بكل جمال ووضوح.

المدار السابع:

ان جميع المحاسن وجميع الكمالات وجميع الأشواق واللطائف وجميع الانجذابات والترحّمات التي نعلمها ونراها في هذه الكائنات ما هي الاّ معانٍ، ومضامين، وكلمات معنوية، تبين للقلب بكل وضوح وتظهر للعقل بكل جلاء انها تجليات كرم الخالق الجليل واحسانه، وانها تجليات رحمته الخالدة ولطفه الدائم سبحانه ولما كانت هناك (حقيقة) ثابتة في عالمنا، ورحمة حقيقية واضحة بالبداهة، فلابد أن ستكون السعادة الأبدية. وقد اوضحت الحقيقة الرابعة مع الثانية من (الكلمة العاشرة) هذه الحقيقة كالشمس.

المدار الثامن:

ان الوجدان الشاعر للانسان الذي هو فطرته، يدلّ على الحياة الأخرى ويرنو الى السعادة الأبدية.

نعم، ان الذي يصغى الى وجدانه اليقظ فانه يسمع حتماً صوت (الأبد.. الأبد) حتى اذا ما أعطي كل ما في الكائنات لذلك الوجدان فانه لا يسدّ حاجته الى الأبد. بمعنى ان ذلك الوجدان مخلوق لذلك الأبد، وان هذا الجذب والانجذاب الوجداني لا يكون الاّ بجذب من غاية حقيقية وبجاذب حقيقي.

وقد أظهرت خاتمة الحقيقة الحادية عشرة من (الكلمة العاشرة) هذه الحقيقة.

المدار التاسع:

ان كلام النبي الصادق المصدَّق المصدوق محمد العربي الهاشمي عليه أفضل الصلاة والسلام قد فتح أبواب السعادة الأبدية، وأن احاديثه الشريفة نوافذ مفتحة على تلك السعادة الخالدة تطلّ عليها، وهو اذ يملك قوة اجماع الأنبياء عليهم السلام جميعهم وتواتر الأولياء الصادقين كلهم، فقد ركزّ بيقين راسخ كل دعواه، بكل قواه - بعد توحيد الله - على هذه النقطة الأساس، وهي الحشر والحياة الآخرة. فهل هناك شئ يمكن ان يزحزح هذه القوة الصامدة؟.

وقد اوضحت الحقيقة الثانية عشرة من (الكلمة العاشــرة) هذه الحقيقة بوضوح تام.

المدار العاشر:

وهو البلاغ المبين للقرآن الكريم الذي حافظ على اعجازه - بسبعة أوجه - طوال ثلاثة عشر قرناً وما زال، كما أثبتنا أربعين نوعاً من اعجازه في (الكلمة الخامسة والعشرين)..

نعم.. ان إخبار القرآن نفسه عن الحشر الجسماني هو تنوير كافٍ وكشف بيّن له، فهو المفتاح للحكمة المودعة في الكائنات وللسر المغلق للعالم.

ولقد دعا هذا القرآن العظيم مراراً الى التفكر ولفت الأنظار الى آلاف من البراهين العقلية القطعية. فالآيات الكريمة مثلاً:

] وَقَدْ خَلقَكُم أطْواراً[ (نوح:14).

] قل يُحييهَا الــذي أنْشَــــاهَا أوَّلَ مَرَّةٍ...[ (يس:79) انمــا هي نماذج للقياس التمثيلي. وأن ] وَمَا رَبُّكَ بظَلاّمٍ لِلْعَبيدِ[ (فصلت:46) نموذج آخر يشير الى دليل العدالة في الكون، وآيات كثيرة أخرى قد وضحت فيها نظارات (مراصد) ذات عدسات مكبرة كثيرة كى تنظر بامعان من خلالها الى السعادة الأبدية في الحشر الجسماني. وقد اوضحنا في رسالة (النقطة) القياس التمثيلي الموجود في الآيتين الأوليين مع سائر الآيات الأخرى وخلاصته:

ان الانسان كلما انتقل من طور الى طور مرّ بانقلابات منتظمة عجيبة، فمن النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة ومن المضغة الى العظم ثم اللحم، ومن ثم الى خلق جديد، أي ان انقلابه الى صورة انسان يتبع دساتير دقيقة، فكل طور منها له من القوانين الخاصة والانظمة المعينة والحركات المطردة بحيث يشف عما تحته من أنوار القصد والارادة والأختيار والحكمة.

وعلى الطريقة نفسها فان الخالق الحكيم يُبدّل هذا الجسد سنوياً كتبديل الثياب، فيكون هذا الجسد بحاجة الى تركيب جديد كي يتبدّل ويبقى حيّاً، وبحاجة الى إحلال ذرات فعّالة جديدة محل ما انحلّت من الأجزاء؛ لذا فكما أن الجسد تنهدم حجيراته بقانون إلهي منتظم، كذلك يحتاج الى مادة لطيفة بأسم (الرزق) كي يعمر من جديد بقانون إلهي ربّاني دقيق.. فالرزّاق الحقيقي يوزع ويقسم - بقانون خاص - لكل عضو من أعضاء الجسد المختلفة - وبنسبة معينة - ما يحتاجه من المواد المتباينة.

والآن انظر الى أطوار تلك المادة اللطيفة المرسلة من قبل الرزاق الحكيم تَرَ: ان ذرّات تلك المادة هي كقافلة منتشرة في الغلاف الجوّي.. في الأرض.. في الماء.. فبينما هي مبعثرة هنا وهناك، اذا بها تُستنفر فتتجمع بكيفية خاصة، وكأن كل ذرة منها هي مسؤولة عن وظيفة أرسلت الى مكان معيّن بواجب رسمي، فتجتمع مع بعضها في غاية الانتظام، مما يوحي بأنها حركة مقصودة، فسلوكها هذا يبيّن:

ان فاعلاً ذا ارادة يسوق تلك الذرات - بقانونه الخاص - من عالم الجمادات الى عالم الأحياء، وهنا بعد أن دخلت جسماً معيناً - رزقاً له - تسير وفق نظم معينة وحركات مطردة وحسب دساتير خاصة، اذ بعد أن تنضج في اربعة مطابخ وتُمررّ باربعة انقلابات عجيبة وتصفّى باربعة مصاف، تُهيّأ للتوزيع الى أقطار الجسم واعضائه المختلفة حسب الحاجات المتباينة لكل عضو، وتحت رعاية الرزاق الحقيقي وعنايته وبقوانينه المنتظمة، فاذا تأملت بعين الحكمة اية ذرّة من تلك الذرات فانك سترى: ان الذي يسوق تلك الذرّة ويسيّرها انما يسوقها بكل بصيرة، وبكل نظام، وبملء السمع والعلم المحيط.. فلا يمكن بحال من الأحوال ان يتدخل فيه (الاتفاق الأعمى) و (الصدفة العشواء) و (الطبيعة الصمّاء) و (الأسباب غير الواعية)؛ لأن كل ذرة من الذرات عندما دخلت الى أيّ طور من الأطوار ابتداءً من كونها عنصراً في المحيط الخارجي وانتهاءً الى داخل الخلية الصغيرة من الجسم، كأنما تعمل بارادة وباختيار حسب القوانين المعينة في كل طور من تلك الأطوار، اذ هي حينما تدخل فانها تدخل بنظام، وعندما تسير في أية مرتبة من المراتب فانها تسير بخطوات منتظمة الى درجة تظهر جلياً كأن أمر سائقٍ حكيم يسوقها.

وهكذا وبكل انتظام، كلما سارت الذرة من طور الى طور ومن مرتبة الى أخرى لا تحيد عن الهدف المقصود حتى تصـل الــى المـقام الــمخــصــص لها بأمر ربّاني في قزحية عين (توفيق(1) مثلاً.. وهناك تقف لتنجز وظائفها الخاصة وتؤدي ما أنيط بها من أعمال، وهكذا فان تجلّى الربوبية في الارزاق، يبين ان تلك الذرات - منذ البداية - كانت معينّة ومأمورة، وكانت مسؤولة عن وظيفة، وكانت مهيّأة مستعدة للوصول الى تلك المراتب المخصصة لها، وكأن كل ذرة مكتوب على جبينها ما ستؤول اليها - أي انها ستكون رزقاً للخلية الفلانية - مما يشير لنا هذا النظام الرائع الى ان اسم كل انسان مكتوب على رزقه، كما أن رزقه مكتوب على جبينه بقلم القدر.

فهل من الممكن ان الرب الرحيم ذا القدرة المطلقة والحكمة المحيطة ألاّ يُنشئ (النشأة الأخرى)؟ او يعجز عنها؟ وهو الذي له مُلك السموات والأرض وهنّ مطويات بيمينه من الذرات الى المجرات ويديرها جميعاً ضمن نظام محكم وميزان دقيق... فسبحان الله عما يصفون.

لذلك فان كثيراً من آيات القرآن الكريم تُلفت نظر الأنسان الى (النشأة الأولى) الحكيمة كمَثَل قياسي (للنشأة الأخرى) في الحشر والقيامة، وذلك كي تستبعد انكارها من ذهن الانسان فتقول ] قل يُحييها الذي أنشاَها أولَ مرّة[ أي أن الذي أنشأكم - ولم تكونوا شيئاً يذكر - على هذه الصورة الحكيمة هو الذي يحييكم في الآخرة.

وتقول: ] وهوَ الذي يَبدَؤا الخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهوَ اهونُ عليه...[ (الروم:27) أي أن اعادتكم وأحياءكم في الآخرة هي أسهل من خلقكم في الدنيا، اذ كما أن الجنود اذا ما انتشروا وتفرّقوا للاستراحة، يمكن ارجاعهم الى أماكنهم تحت راية الفرقة بنفخة من البوق العسكري، فجمعهم هكذا من الاستراحة في مكان معين أسهل بكثير من تكوين فرقة جديدة من الجنود، كذلك فان الذرات الأساس التي استأنست وارتبط بعضها بالبعض الآخر بأمتزاجها في جسم معين عندما ينفخ اسرافيل عليه السّلام في صُورِهِ نفخة واحدة تهبّ قائلة: لبيّك لأمر الخالق العظيم، وتجتمع. فاجتماعها بعضها مع البعض الآخر مرة أخرى لا ريب أسهل وأهون - عقلاً - من ايجاد تلك الذرات أول مرّةً.

هذا وقد لا يكون ضرورياً اجتماع جميع الذرات، وانما تكفي الذرات الأساس التي هي بمثابة البذور والنوى للأجسام.كما عبّر عنها الحديث الشريف (عجب الذنب)(1) التي هي - الاجزاء الأساس - والذرات الأصيلة الكافية وحدها ان تكون اساساً لأنشاء النشأة الآخرة عليها،فالخالق الحكيم يبني من جديد جسد الانسان على ذلك الأساس.

وأما القياس العدلي الذي تشير اليه الآية الكريمة:

] وما ربُّك بظلاّمٍ للعَبيد[ فخلاصته:

اننا نرى كثيراً في عالمنا: ان الظالمين والفجّار يقضون حياتهم في رفاه وراحة تامة أما المظلومون والمتدينون فيقضونها في شظفٍ من العيش بكل مشقة وارهاق.. ومن ثم يأتي الموت فيحصد الأثنين معاً دون تمييز، فلو لم تكن هناك نهاية مقصودة ومعينة لظهر الظلم إذن في المسألة؛ لذا فلابدّ من الاجتماع الأخروي بينهما حتى ينال الأول عقابه وينال الثاني ثوابه؛ اذ المنزّه عن الظلم سبحانه وتعالى وهو العادل الحكيم - بشهادة الكائنات قاطبةً - لا يمكن بحال من الأحوال أن تقبل عدالته وحكمته هذا الظلم ولا يمكن أن ترضيا به، فالنهاية المقصودة اذن حتميّـة؛ لأن رؤية هذا الانسان الكادح المنهوك جزاءه وثوابه - حسب استعداده - يجعله رمزاً للعدالة المحضة ومداراً لها، ومظهراً للحكمة الربّانية ومنسجماً مع الموجودات الحكيمة في الكون واخاً كبيراً لها.

نعم، إنّ دار الدنيا القصيرة هذه لا تكفي - كما انها ليست ظرفاً - لأظهار ما لا يحدّ من الاستعدادات المندمجة في روح الانسان واثمارها، فلابدّ ان يرسَل هذا الانسان الى عالم آخر.. نعم، ان جوهر الانسان عظيم، لذا فهو رمز للأبدية ومرشح لها. وان ماهيته عالية وراقية؛ لذا اصبحت جنايته عظيمة؛ فلا يشبه الكائنات الأخرى، وان نظامه دقيق ورائع، فلن تكون نهايته دون نظام، ولن يُهمل ويذهب عبثاً، ولن يحكم عليه بالفناء المطلق ويهرب الى العدم.

وانما تفتح جهنم افواهها فاغرة... تنتظره...

والجنة تبسط ذراعيها لاحتضانه..

اوجزنا هنا حيث أن الحقيقة الثالثة من (الكلمة العاشرة) قد أوضحت هذه الحقيقة بجلاء.

وهكذا، اوردنا هاتين الآيتين مثالاً، وعليك أن تقيس وتتتبع مثلها في سائر الآيات الكريمة التي تتضمن براهين عقلية لطيفة كثيرة.

فتلك عشرة كاملة من المنابع والمدارات التي تنتج حدساً صادقاً وبرهاناً قاطعاً على الحشر. وكما أن الحدس الثابت والبرهان القوي دليل قطعي على حدوث القيامة والحشر الجسماني ويقتضيه، كذلك الأسماء الإلهية الحسنى: الحكيم، الرحيم، الحفيظ، العادل، واغلب الأسماء الحسنى تقتضي يوم القيامة والسعادة الخالدة، وتدل على تحققها ووقوعها قطعاً، كما أثبتناها في (الكلمة العاشرة).

لذا فمقتضيات الحشر والقيامة اصبحت لدينا قوية ومتينة الى درجة لا يمكن أن تنفذ اليها شبهة ولا شك مطلقاً.



الأساس الثالث

نعم، كما انه لاشك مطلقاً في مقتضيات الحشر، كذلك لا ريب ابداً في القدرة المطلقة للذي يحدث الحشر، فلا نقص في قدرته، اذ يستوي عنده كل عظيم وصغير وسواءٌ عنده خلق ربيع كامل وخلق زهرة واحدة.

نعم! ان قديراً يشهد بعظمته وقدرته هذا الكون بألسنة شموسه ونجومه وعوالمه حتى بألسنة ذرّاته وما فيها، هل يحق لأي وهم أو وسوسة أن يستبعد عن تلك القدرة المطلقة الحشر الجسماني؟.

ان قديراً ذا جلال يخلق أكواناً جديدة منتظمة في كل عصر ضمن هذا الكون الهائل، بل يخلق في كل سنة دنىً سيارة جديدة منتظمة، بل يخلق في كل يوم عوالم جديدة منتظمة فيخلق باستمرار عوالم ودنى واكواناً زائلة متعاقبة ويبدلها بكل حكمة على وجه الأرض والـســموات، ناشراً ومعــلقاً على مــسار الزمن عــوالم منتظمة بعدد العصور والسنين بل بعدد الأيام، فيُري بها عظمة قدرته جلّ وعلا، وهو الذي زيّن بستان الربيع العظيم الواسع بمئات الآلاف من نقوش الحشر يتوّج بها هامة الكرة الأرضية كأنها زهرة واحدة، فيظهر لنا جمال صنعته وكمال حكمته، فهل يمكن أن يجــرأ أحــد ليــقــول لهــذا الـقديــر ذي الجــلال: كيــف يحــدث الـقيامة؟ أو

كيف يبدّل هذه الدنيا بآخرة؟ فالآية الكريمة ] ما خَلقُكُم ولا بَعثُكم إلاّ كَنَفْسٍ واحدة[ (لقمان: 28) تعلن أن هذا القدير جل وعلا لا يصعب عليه شئ، فكل شئ اعظمهُ وأصغره يسير عنده، والجموع الهائلة بأعدادها غير المتناهية كفرد واحد عنده..

وقد أوضحنا حقيقة هذه الآية في خاتمة (الكلمة العاشرة) مجملةً وفي رسالة ((نقطة من نور معرفة الله)) و (المكتوب العشرين)، أما هنا فسنوضحها بايجاز في ثلاث مسائل:

ان القدرة الإلهية ذاتية؛ فلا يمكن ان يتخللها العجز..

وأنها تتعلّق بملكوتية الأشياء، فلا تتداخل الموانع فيها مطلقاً..

وان نسبتها قانونية؛ فالجزء يتساوى مع الكل والجزئي يصبح بحكم الكلّي..

وسنثبت ونوضح هذه المسائل الثلاث:

المسألة الأولى: ان القدرة الإلهية الإزلية ضرورية للذات الجليلة المقدسة.

أي أنها بالضرورة لازمة للذات المقدسة، فلا يمكن ان يكون للقدرة منها فكاك مطلقاً، لذا فمن البديهي ان العجز الذي هو ضد القدرة لا يمكن أن يعرض للذات الجليلة التي استلزمت القدرة، لأنه عندئذ سيجتمع الضدان، وهذا محال.

فما دام العجز لا يمكن أن يكون عارضاً للذات، فمن البديهي انه لا يمكن ان يتخلل القدرة اللازمة للذات أيضاً ومادام العجز لا يمكنه ان يدخل في القدرة مطلقاً فبديهي اذن ان القدرة الذاتية ليست فيها مراتب، لأن وجود المراتب في كل شئ يكون بتداخل أضداده معه، كما هو في مراتب الحرارة التي تكون بتخلل البرودة، ودرجات الحسن التي تكون بتداخل القُبح.. وهكذا فقس.

أما في الممكنات فلأنه ليس هناك لزومٌ ذاتي حقيقي أو تابع؛ اصبحت الأضداد متداخلة بعضها مع البعض الآخر، فتولّدت المراتب ونتجت عنها الاختلافات، فنشأت منها تغيرات العالم. وحيث أنه ليست هناك مراتب قط في القدرة الإلهية الأزلية، لذا فالمقدّرات هي حتماً واحدة بالنسبة الى تلك القدرة، فيتساوى العظيم جداً مع المتناهي في الصغر، وتتماثل النجوم مع الذرات، وحشر جميع البشر كبعث نفس واحدة.. وكذا خلق الربيع كخلق زهرة واحدة سهل هيّن أمام تلك القدرة..

ولو أُسند الخلق الى الأسباب المادية دون القدرة المطلقة عند ذاك يكون إحياء زهرة واحدة عسيراً وصعباً مثل احياء الربيع، وقد أثبتنا بالبراهين الدامغة في حاشية الفقرة الأخيرة من المرتبة الرابعة لمراتب ((الله اكبر)) من المقام الثاني لهذه الكلمة، وفي (الكلمة الثانية والعشرين) و (المكتوب العشرين وذيله)، أنه عند اسناد خلق الأشياء الى الواحدِ الأحد يسهل خلق الجميع كخلق شئ واحد، واذا اُسند خلق شئ واحد الى الاسباب المادية فيكون صعباً جداً ومعضلاً كخلق الجميع.

المسألة الثانية: ان القدرة الإلهية تتعلق بملكوتية الأشياء..

نعم، ان لكل شئ في الكون وجهين كالمرآة : أحدهما: جهة الـمُلك وهي كالوجه المطلي الملّون من المرآة. والأخرى هي جهة الملكوت وهي كالوجه الصقيل للمرآة. فجهة الملك، هي مجال وميدان تجوّل الأضداد ومحل ورود أمور الحُسن والقُبح والخير والشر والصغير والكبير والصعب والسهل وأمثالها.. لذا وضعَ الخالق الحكيم الاسباب الظاهرة ستاراً لتصرفات قدرته، لئلا تظهر مباشرةُ يد القدرة الحكيمة بالذات على الأمور الجزئية التي تظهر للعقول القاصرة التي ترى الظاهر، كأنها خسيسة غير لائقة، اذ العظمة والعزّة تتطلب هكذا.. الاّ انه سبحانه لم يعط التأثير الحقيقي لتلك الأسباب والوسائط؛ اذ وحدة الأحدية تقتضي هكذا أيضاً.

أما جهة الملكوت، فهي شفافة، صافية، نزيهة، في كل شئ، فلا تختلط معها ألوان ومزخرفات التشخصات... هذه الجهة متوجهة الى بارئها دون وساطة، فليس فيها ترتب الاسباب والمسبّبات ولا تسلسل العلل، ولا تدخل فيها العليّة والمعلولية ولا تتداخل الموانع، فالذرة فيها تكون شقيقة الشمس.

نخلص مما سبق: ان تلك القدرة هي مجردة، أي ليست مؤلفة ومركبة، وهي مطلقة غير محدودة، وهي ذاتية أيضاً. أما محل تعلقها بالأشياء فهي دون وساطة، صافية دون تعكر، ودون ستار ودون تأخير، لذا لا يستكبر أمامها الكبير على الصغير، ولا تُرجح الجماعة على الفرد ولا يتبجّح الكل أمام الجزء ضمن تلك القدرة.

المسألة الثالثة: نسبة القدرة قانونية..

أي أنها تنظر الى القليل والكثير والصغير والكبير نظرة واحدة متساوية، فهذه المسألة الغامضة سنقرّبها الى الذهن ببعض الأمثلة. فالشفافية، والمقابلة، والموازنة، والانتظام، والتجرّد، والطاعة، كل منها أمر في هذا الكون يجعل الكثير مساوياً للقليل، والكبير مساوياً للصغير.

المثال الأول: ((الشفافية)

ان تجلّي ضوء الشمس يُظهر الهويةَ نفسَها على سطح البحر أو على كل قطرة من البحر، فلو كانت الكرة الأرضية مركّبة من قطع زجاجية صغيرة شفافة مختلفة تقابل الشمس دون حاجز يحجزها، فضوء الشمس المتجلي على كل قطعة على سطح الأرض وعلى سطح الأرض كلها يتشابه ويكون مساوياً دون مزاحمة ودون تجزؤ ودون تناقص.. فاذا افترضنا ان الشمس فاعل ذو إرادة واعطت فيض نورها واشعاع صورتها بارادتها على الأرض، فلا يكون عندئذٍ نشرُ فيضِ نورها على جميع الأرض اكثَر صعوبة من اعطائها على ذرة واحدة.

المثال الثاني: ((المقابلة))

هب أنه كانت هناك حلقة واسعة من البشر يحمل كل واحد منهم مرآة بيده، وفي مركز الدائرة رجل يحمل شمعة مشتعلة، فان الضوء الذي يرسله المركز الى المرايا في المحيط واحد، ويكون بنسبة واحدة، دون تناقص ودون مزاحمة ودون تشتّت.

المثال الثالث: ((الموازنة))

إن كان لدينا ميزان حقيقي عظيم وحساس جداً وفي كفتيه شمسان او نجمان، أو جبلان، أو بيضتان، أو ذرتان.. فالجهد المبذول هو نفسه الذي يمكن ان يرفع احدى كفتيه الى السماء ويخفض الأخرى الى الارض.

المثال الرابع: ((الانتظام))

يمكن ادارة اعظم سفينة لأنها منتظمة جداً، كأصغر دمية للأطفال.

المثال الخامس: ((التجرد))

ان الميكروب مثلاً كالكركدن يحمل الماهية الحيوانية وميزاتها، والسمك الصغير جداً يملك تلك الميزة والماهية المجردة كالحوت الضخم، لأن الماهية المجردة من الشكل والتجسم تدخل في جميع جزيئات الجسم من اصغر الصغير الى اكبر الكبير وتتوجه اليها دون تناقص ودون تجزؤ، فخواص التشخصات والصفات الظاهرية للجسم لا تشوش ولا تتداخل مع الماهيّة والخاصة المجرّدة، ولا تغيّر نظرة تلك الخاصة المجردة.



المثال السادس: ((الطاعة))

ان قائد الجيش بأمره (تَقَدمْ) مثلما يحرّك الجندي الواحد فانه يحرّك الجيش بأكمله كذلك بالأمر نفسه. فحقيقة سر الطاعة هي ان لكل شئ في الكون - كما يشاهد بالتجربة - نقطة كمال، وله ميل اليها، فتضاعف الميل يولّد الحاجة، وتضاعف الحاجة يتحول الى شوق، وتضاعف الشوق يكوّن الانجذاب، فالانجذاب والشوق والحاجة والميل.. كلّها نوىً لأمتثال الأوامر التكوينية الرّبانية وبذورها من حيث ماهية الأشياء.

فالكمال المطلق لماهيات الممكنات هو الوجود المطلق، ولكن الكمال الخاص بها هو وجود خاص لها يُخرج كوامن استعداداتها الفطرية من طور القوة الى طور الفعل، فاطاعة الكائنات لأمر (كُنْ) كأطاعة ذرة واحدة التي هي بحكم جندي مطيع. وعند امتثال الممكنات وطاعتها للأمر الأزلي (كُن) الصادر عن الارادة الإلهية تندمج كليّاً الميول والأشواق والحاجات جميعها، وكل منها هو تجلٍّ من تجلّيات تلك الارادة أيضاً. حتى أن الماء الرقراق عندما يأخذ - بميل لطيف منه - أمراً بالانجماد، يظهر سرّ قوة الطاعة بتحطيمها الحديد.

فان كانت هذه الأمثلة الستة تظهر لنا في قوة الممكنات المخلوقات وفي فعلها وهي ناقصة ومتناهية وضعيفة وليست ذات تأثير حقيقى، فينبغي اذن ان تتساوى جميع الأشياء أمام القدرة الإلهية المتجلّية بآثار عظمتها.. وهي غير متناهية وأزلية وهي التي اوجدت جميع الكائنات من العدم البحت وحيّرت العقول جميعها، فلا يصعب عليها شئ اذن.

ولا ننسى أن القدرة الإلهية العظمى لا توزن بموازيننا الضعيفة الهزيلة هذه، ولا تتناسب معها، ولكنها تُذكَر تقريباً للأذهان وازالة للأستبعاد ليس إلاَّ.

نتيجة الاساس الثالث وخلاصته: ما دامت القدرة الإلهية مطلقة غير متناهية، وهي لازمة ضرورية للذات الجليلة المقدسة، وأن جهة الملكوت لكل شئ تقابلها ومتوجهة اليها دون ستار ودون شائبة، وأنها متوازنة بالأمكان الاعتباري الذي هو تساوي الطرفين وان النظام الفطري الذي هو شريعة الفطرة الكبرى مطيع للفطرة وقوانين الله ونواميسه، وان جهة الملكوت مجردة وصافية من الموانع والخواص المختلفة. لذا فان اكبر شئ كأصغره أمام تلك القدرة، فلا يمكن ان يحجم شئ أيّاً كان أو يتمرّد عليها. فإحياءُ جميع الأحياء يوم الحشر هينّ عليه كإحياء ذبابة في الربيع ولهذا فالآية الكريمة ] ما خَلقكم ولا بَعثُكُم إلاّ كَنَفْسٍ واحدة[ أمرٌ حق وصدق جلّى لا مبالغة فيه ابداً.

وهكذا يتحقق عندنا ان الفاعل - الذي نحن بصدده - قادرٌ مقتدرٌ ولا يمنعه شئ.



الأساس الرابع

كما ان هناك مقتضى ومبرّراً للقيامة والحشر، وان الفاعل الذي يُحدث الحشر قادر مقتدر، كذلك فان هذه الدنيا لها القابلية على القيامة والحشر أيضاً، فدعوانا (قابلية الدنيا) هذه فيها أربع مسائل:

الأولى: ان موت هذا العالم ممكن وليس ذلك محالاً.

الثانية: وقوع ذلك الموت فعلاً.

الثالثة: من الممكن بعث الدنيا المندثرة وعمارتها بصورة (آخرة).

الرابعة: وقوع هذا البعث وهذه العمارة فعلاً.

المسألة الأولى: من الممكن أن يموت هذا العالم وتندثر هذه الكائنات. ذلك ان كان الشئ داخلاً في قانون التكامل، ففي كل حالة اذن هناك نشوء ونماء، وان النشوء والنماء هذا يعني ان له عمراً فطرياً في كل حالة، وان العمر الفطري يعني أنّ له على كل حالة أجلاً فطرياً، وهذا يعنى ان جميع الأشياء لا يمكن أن تنجو من الموت، وهذا ثابت بالاستقراء العام والتتبع الواسع.

نعم، فكما ان الانسان هو عالم مصغر لا خلاص له من الإنهيار، كذلك العالم فانّه انسان كبير لا فكاك له من قبضة الموت، فلابدّ ان سيموت، ثم يبعث، أو ينام ويفتح عينيه فجر الحشر.

وكما أن الشجرة وهي نسخة مصغرة للكائنات لا يمكنها النجاة من التلاشي والتهدم، كذلك سلسلة الكائنات المتشعبة من شجرة الخليقة لا يمكنها ان تنجو من التمزّق والاندثار لأجل التعمير والتجديد.

ولئن لم تحدث للدنيا قبل أجلها الفطري - وبأذن إلهي - حادثة مدمرّة او مرض خارجي، أو لم يخل بنظامها خالقها الحكيم فلاشك - بحساب علمي - أن سيأتي يوم يتردد فيه صدى:

] اذا الشمس كُوّرَتْ^ واذا النُّجومُ انكَدَرَتْ^ واذا الجِبالُ سُيِّرت[ (التكوير:1ـ3).

] اذا السَّمَـاءُ انْفَطَـرَتْ^ واذا الكَواكـبُ انْتَـثَرَتْ^ واذا البحار فجِّرتْ[ (الانفطار:1ـ3).

عندئذ تظهر معاني هذه الآيات وأسرارها باذن القدير الأزلي. وان هذه الدنيا - التي هي كانسان ضخم - ستبدأ بالسكرات وتتململ وتشخر بصوت غريب وتحشرج ثم تصيح بصوت مدوٍ هائل يملأ الفضاء.. ثم تموت ثم تبعث بأمر إلهي..

C مسألة رمزية دقيقة

كما ان اللفظ يغلظ مضراً بالمعنى، واللب على حساب القشر يقوى، والروح تضعف لأجل الجسد، والجسد يضعف ويهزل لأجل قوة الروح.. كذلك عالمنا الكثيف هذا كلما عملت فيه دواليب الحياة شفّت ورقّت في سبيل العالم اللطيف.. وهو الآخرة..

فالقدرة الفاطرة بفعاليتها المحيرة تنشر نور الحياة على الأجزاء الميتة الجامدة الكثيفة المنطفئة فتذوّب وتليّن وتضئ وتنير تلك الأجزاء بنور تلك الحياة لتتقوى حقيقتها وتكون جاهزة للعالم اللطيف الرائع.. أعني الآخرة.

نعم فالحقيقة مهما كانت ضعيفة فانها لا تموت ابداً ولا يمكن ان تُمحى كالصورة، بل تسير وتجول في الصور والتشخصات والاشكال المختلفة، اذ تكبر وتظهر كلما تقدمت، بعكس القشر والصورة فانها تتهرأ وتهزل وتتمزق وتتجدد لتظهر بحلّة جميلة جديدة تلائم قوام الحقيقة الثابتة النامية الكبيرة.

فالحقيقة والصورة تتناسبان اذن عكسياً زيادةً ونقصاناً. أي كلما اخشوشنت الصورة رقّت الحقيقة، وكلما ضعفت الصورة تقوت الحقيقة بالنسبة نفسها. وهذا قانون شامل لجميع الأشياء الداخلة في قانون التكامل. فليأتينّ ذلك الزمن الذي يتمزق فيه - بإذن الفاطر الجليل - عالم الشهادة الذي هو صورة لحقيقة الكائنات العظمى وقشر لها، ومن ثم يتجدد بصورة أجمل، وعندئذ تتحقق حكمة الآية الكريمة:

] يَومَ تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرض...[ ( ابراهيم:48).

نخلص مما سبق: ان موت الدنيا وخرابها ممكن، ولا شك فيه مطلقاً.

المسألة الثانية: وقوع موت الدنيا فعلاً والدليل على هذه المسألة: اجماع جميع الأديان السماوية، وشهادة كل فطرة سليمة، وما يشير اليه تبدلات هذه الكائنات وتحولاتها وتغيراتها. وموت عوالم ذات حياة وسيارات - وهي بعدد العصور والسنين - في دار ضيافة الدنيا هذه.. كل ذلك اشارات ودلالات على موت دنيانا نفسها.

وان شئت أن تتصور سكرات الدنيا، كما تشير اليها الآيات الكريمة، فتأمل في أجزاء هذا الكون التي هي مرتبطة بعضها بالبعض الآخر بنظام علوي دقيق، ومتماسكة برابطة لطيفة خفية رقيقة، فهي محكمة النظام بحيث أن جرماً واحداً إن تسلَّم أمر (كُن) أو (أخرجْ من محورك) فالعالم كلّه يعاني السكرات، فتتصادم النجوم وتتلاطم الأجرام وتدوي وترعد بأصداء ملايين المدافع، وترمي بشرر كأرضنا هذه بل أكبر منها في الفضاء الواسع وتتطاير الجبال وتسجّر البحار.. فتستوي الأرض. وهكذا يرجّ القادر الأزلي ويحرك الكون بهذا الموات، ويمزجه بهذه السكرات فتتمخض الخلقة كلها وتتميز الكائنات بعضها عن بعض.. فتمتاز جهنم وتسعّر بعشيرتها ومادتها. وتتجلى الجنة وتزلف جامعة لطائفها مستمدة من عناصرها الملائمة لها.. ويبرز عالم الآخرة للوجود الأبدي.

المسألة الثالثة: امكان بعث العالم الذي سيموت، فكما اثبتنا آنفاً في الأساس الثاني انه لا نقص مطلقاً في القدرة الإلهية، وان المبرّر قويّ جداً للآخرة، وان المسألة بحدّ ذاتها من الممكنات. فاذا كان للمسألة الممكنة مبررٌ قوي، وان الفاعل قادر مقتدر مطلق القدرة، فلا ينظر اليها بأنها في حدود الأمكان، وانما هي أمرٌ واقع.

C نكتة رمزية

اذا نظرنا بتدبر وامعان الى هذا الكون، نلاحظ ان فيه عنصرين ممتدين الى جميع الجهات بجذور متشعبة؛ كالخير والشر، والحُسن والقبح، والنفع والضرّ، والكمال والنقص، والضياء والظلمة، والهداية والضلال، والنور والنار، والايمان والكفر، والطاعة والعصيان، والخوف والمحبة... فتصطدم هذه الأضداد بعضها بالبعض الآخر بنتائجها وآثارها مظهرة التغيرات والتبدلات باستمرار وكأنما تستعد وتتهيّأ لعالم آخر. فلابدّ ان نتائج ونهايات هذين العنصرين المتضادين سوف تصل الى الأبد وتتميز فيفترق بعضها عن بعض هناك. وعندئذ تظهر على شكل جنة ونار.. ولما كان عالم البقاء سيبنى من عالم الفناء هذا، فالعناصر الأساسية لعالمنا اذن ستساق وترسل حتماً الى البقاء والأبد.

نعم، ان النار والجنة هما ثمرتا الغصن المتدلي الممتد الى الأبد من شجرة الخليقة، وهما نتيجتا سلسلة الكائنات هذه، وهما مخزنا سيل الشؤون الإلهية، وهما حوضا أمواج الموجودات المتلاطمة الجارية الى الأبد، وهما تجلّيان من تجليات اللطف والقهر.

فعندما ترجّ يد القدرة وتمخض بحركة عنيفة هذا الكون، يمتلئ الحوضان بما يناسب كلاً منهما من مواد وعناصر..

إيضاح هذه النكتة الرمزية:

ان الحكيم الأزلي بمقتضى حكمته الأزلية وعنايته السرمدية، خلق هذا العالم ليكون محلاً للاختبار وميداناً للامتحان، ومرآة لأسمائه الحسنى وصحيفة لقلم قدرته وقَدَره.

فالابتلاء والامتحان سبب النشوء والنماء، والنشوء والنماء سبب لانكشاف الاستعدادات الفطرية، وتكشف الاستعدادات سبب لظهور القابليات،وظهور القابليات سبب لظهور الحقائق النسبيّة، وهذه الحقائق النسبية سبب لأظهار تجلّيات نقوش الاسماء الحسنى للخالق الجليل وتحويل الكائنات الى صورة كتابات صمدانيّة ربّانية.

وهكذا فان سرٌ التكليف هذا وحكمة الامتحان يؤدي الى تصفية جواهر الأرواح العالية التي هي كالماس، من مواد الأرواح السافلة التي هي كالفحم، وتمييزها بعضها عن بعض.

فبمثل هذه الاسرار السابقة، ومما لا نعلم من الحِكَم الدقيقة الرائعة، أوجد الحكيم القدير العالَم بصورته هذه، وأراد تغيّره وتحوله لتلك الحِكَم والأسباب، ولأجل التحول والتغيّر مزج الأضداد بحكمةٍ بعضها مع البعض الآخر، وجعلها تتقابل ببعضها، فالمضار ممزوجة بالمنافع والشرور متداخلة بالخيرات والقبائح مجتمعة مع المحاسن.. وهكذا عَجَنَتْ يدُ القدرة الأضدادَ، وصيّرت الكائنات تابعة لقانون التبدل والتغيّر ودستور التحوّل والتكامل.

ثم، لـمّا انقضى مجلس الامتحان، وانتهى وقت الاختبار، وأظهرت الأسماء الحسنى حكمها، وأتمّ قلم القَدَر كتابته، واكملت القدرة نقوش ابداعها، ووفّت الموجودات وظائفها، وأنهت المخلوقات مهامها، وعبّر كل شئ عن معناه ومغزاه، وأنبتت الدنيا غراس الآخرة، وكشفت الأرض جميع معجزات القدرة وخوارق الصنعة للخالق القدير، وثبّت هذا العالم الفاني لوحات المناظر الخالدة على شريط الزمان.. عندئذٍ تقتضي الحكمة السرمدية والعناية الأزلية لذي الجلال والاكرام أن تَظهَر حقائق نتائج ذلك الامتحان ونتائج ذلك الأختبار، وحقائق تجلّيات تلك الأسماء الحسنى، وحقائق كتابات قلم القدر تلك، واصول تلك النماذج لإبداعات صنعته سبحانه، وفوائد وغايات تلك الوظائف للموجودات، وجزاء تلك الخدمات والمهام للمخلوقات، وحقائق معاني تلك الكلمات التي افادها كتاب الكون، وظهور سنابل بذور الاستعدادات الفطرية، وفتح أبواب محكمة كبرى، واظهار المناظر المثالية التي التقطت في الدنيا، وتمزيق ستار الأسباب الظاهرة، واستسلام كلُّ شئ الى أمر خالقه ذي الجلال مباشرة..

ويوم تتوجه ارادته لإظهار تلك الحقائق المذكورة لتنجّي الكائنات من تقلّبات التغيّر والتحول والفناء وتهب لها الخلود، ولتميّز بين تلك الأضداد والتفريق بين أسباب التغيّر ومواد الأختلاف، سيقيم سبحانه القيامة حتماً مقضياً، وسيصفّي الأمور لاظهار تلك النتائج، وستأخذ جهنم في ختامها صورة أبدية بشعة مريعة وسيُهدِّد روّادها بـ ] وامْتازوا اليَومَ أيُّها المُجرِمون[ (يس:59).

وتتجلى الجنة بروعتها وابهتها الجمالية الخالدة ويقول خزنتُها لأهلها وأصحابها: ] سَلامٌ عَلَيْكُم طِبْتُمْ فادْخُلوها خَالِدين[ (الزمر:73) وسيمنح القدير الحكيم بقدرته الكاملة أهل هذين الدارين الخالدين وجوداً ثابتاً أبدياً خالداً لا يعتريه تغيّر ولا انحلال ولا شيب ولا انقراض، فليس هناك أسباب ومبررات للتغير المؤدي الى الانقراض، كما بُرهن ذلك في (الكلمة الثامنة والعشرين، المقام الأول، السؤال الثاني).

المسألة الرابعة: ان البعث سيقع حتماً. نعم ان الدنيا بعد دمارها وموتها ستُبعث (آخرة)، وان الخالق القدير الذي بناها لأول مرة سيعمّرها تعميراً أجمل من عمارتها الأولى بعد هدمها، وسيجعلها منزلاً من منازل الآخرة. وأدلّ دليل على هذا هو القرآن الكريم اولاً، بجميع آياته التي تضمّ آلافاً من البراهين العقلية، وجميع الكتب السماوية المتفقة مع القرآن الكريم في هذه المسألة، وكذا أوصاف الجلال والجمال الإلهية وجميع الأسماء الحسنى للذات الجليلة، تدلّ كلها دلالة قاطعة على وقوع البعث هذا، وكذا جميع أوامره سبحانه الموحى بها الى جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والتي وعد بها وقوع البعث والقيامة. فلأنه وعَدَ فسيفي بالوعد حتماً. راجع الحقيقة الثامنة من الكلمة العاشرة، وكذا جميع ما أخبر به النبي الأمي محمد e ومعه آلاف المعجزات، عن حدوث البعث ويتفق معه جميع الأنبياء والمرسلين والأصفياء والأولياء والصديقين في وقوع هذا البعث، هذا فضلاً عما تخبرنا به جميع الآيات التكوينية في هذا الكون العظيم عن وقوع البعث هذا.

الحاصل: ان جميع حقائق (الكلمة العاشرة)، وجميع براهين (لا سيما) في المقام الثاني من الكلمة الثامنة والعشرين الذي كتب باللغة العربية في المثنوي العربي النوري؛ أظهرتا بكل ثبوت وقطعية - كبزوغ الشمس بعد غروبها - أن ستشرق شمس الحقيقة بصورة حياة أخروية بعد غروب الحياة الدنيوية.

وهكذا فان كل ما بيّناه منذ البداية في الأسس الأربعة، انما كان استمداداً من اسم (الحكيم) واستفادةً من فيض القرآن الكريم كي تعدّ القلب للقبول وتهيّأ النفس للتسليم وتحضر القلب للأذعان.

ومَن نكون نحن حتى نتكلم في أمر كهذا، فالقول الفصل هو ما يقوله مالك هذه الدنيا، وخالق هذا الكون، وربّ هذه الموجود

أما نحن فلا يسعنا إلاّ الخضوع والانصات والإذعان... فحينما يتكلم رب السموات والأرض، فمن ذا أحق منه بالكلام سبحانه وتعالى.. فهذا الخالق الكريم يوجه خطاباً أزلياً الى جميع صفوف طوائف الكائنات في باحة مسجد الدنيا ومدرسة الأرض القابعين وراء العصور والذي يزلزل الكون بأجمعه:

] بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ^ اذا زلزلــت الارض زلزالــها ^ واخرجت الارض اثقالها ^ وقال الانسان مالها ^ يومئذ تحدث اخبارها ^ بان ربك اوحى لها ^ يومئذ يصدر الناس اشتاتاً ليروا اعمالهم ^ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ^ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره[ ( الزلزال).

وخطاباً أبهج جميع المخلوقات وأثار فيهم الشوق:

] وبشر الذين امنوا وعملوا الصالحات ان لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل واتوا به متشابهاً ولهم فيها ازواج مطهرة وهم فيها خالدون[ (البقرة:25)

فعلينا السمع والانصات الى ذلك الخطاب الصادر من مالك الملك ورب الدنيا والآخرة ونقول: آمنّا وصدّقنا.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا[

اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا ابراهيم وعلى آل سيدنا ابراهيم انك حميد مجيد.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:51 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة التي كشفتْ عن لغز الكون وطلسمه وحلّت سراً عظيماً من اسرار القرآن الحكيم

الكلمة الثلاثون

حرف من كتاب (أنا) الكبير

نقطة من بحر (الذرة) العظيم

هذه الكلمة عبارة عن مقصدين:

المقـصـد الاول: يبحث في ماهية (أنا) ونتائجها.

المقـصـد الثاني: يبحث في حركة (الذرة) ووظائفها.

المقصد الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] إنّا عرضنا الامانةَ على السموات والأرض والجبال فأبَيْنَ أن يحملْنَهاوأشفَقنَ منها وَحَمَلها الانسانُ إنه كان ظلوماً جهولاً[ (الاحزاب:72)

من الخزينة العظمى لهذه الآية الجليلة، سنشير الى جوهرة واحدة من جواهرها، وهي: أن الأمانة التي أبَت السمواتُ والارضُ والجبالُ ان يحملنها، لها معانٍ عدة، ولها وجوه كثيرة. فمعنىً من تلك المعاني، ووجهٌ من تلك الوجوه، هو:(أنا).

نعم ! ان (انا) بذرةٌ، نشأت منها شجرة طوبى نورانية عظيمة، وشجرة زقوم رهيبة، تمدان اغصانَهما وتنشران فروعَهما في أرجاء عالم الانسان من لدن آدم عليه السلام الى الوقت الحاضر.

وقبل ان نخوض في هذه الحقيقة الواسعة نبين بين يديها (مقدمة) تيسّر فهمها. وهي:



المقدمة

ان (انا) مفتاح؛ يفتح الكنوز المخفية للاسماء الإلهية الحسنى، كما يفتح مغاليق الكون. فهو بحد ذاته طلسمٌ عجيب، ومعمىً غريب. ولكن بمعرفة ماهية (انا) ينحَلّ ذلك الطلسم العجيب وينكشف ذلك المعمى الغريب (أنا) وينفتح بدوره لغز الكون، وكنوز عالم الوجوب.

وقد ذكرنا ما يخص هذه المسألة في رسالة (شمة من نسيم هداية القرآن) كالأتي:

((اعلم! ان مفتاح العالم بيد الانسان، وفي نفسه، فالكائنات مع انها مفتحة الابواب ظاهراً إلاّ انها منغلقة حقيقةً فالحق سبحانه وتعالى أودع من جهة الأمانة في الانسان مفتاحاً يفتح كل ابواب العالم، وطلسماً يفتح به الكنوز المخفية لخلاّق الكون، والمفتاح هو ما فيك من (انا). إلاّ ان (انا) ايضاً معمىً مغلق وطلسم منغلق. فاذا فتحتَ (انا) بمعرفة ماهيته الموهومة وسر خلقته انفتح لك طلسم الكائنات كالآتي)).

ان الله جل جلاله وضع بيد الانسان امانةً هي: (انا) الذي ينطوي على إشارات ونماذج يستدل بها على حقائق اوصاف ربوبيته الجليلة وشؤونها المقدسة. اي يكون (انا) وحدة قياسية تُعرَف بها اوصاف الربوبية وشؤون الالوهية.

ومن المعلوم انه لا يلزم ان يكون للوحدة القياسية وجود حقيقي، بل يمكن ان تركَّب وحدة قياسية بالفرض والخيال، كالخطوط الافتراضية في علم الهندسة. أي لا يلزم لـ(أنا) ان يكون له وجود حقيقي بالعلم والتحقيق.

سؤال: لِمَ ارتبطت معرفة صفات الله جلّ جلاله واسمائه الحسنى (بأنانية)(1) الانسان؟

الجواب: ان الشئ المطلق والمحيط، لا يكون له حدود ولانهاية؛ فلا يُعطى له شكل ولا يُحكَم عليه بحكم، وذلك لعدم وجود وجه تعيّنٍ وصورةٍ له؛ لذا لاتُفهم حقيقة ماهيته.

فمثلاً: الضياء الدائم الذي لا يتخلله ظلام ، لا يُشعَر به ولا يُعرَف وجودُه الاّ اذا حُدّد بظلمة حقيقية أو موهومة.

وهكذا، فان صفات الله سبحانه وتعالى كالعلم والقدرة واسماءه الحسنى كالحكيم والرحيم لانها مطلقة لا حدود لها ومحيطة بكل شئ، لا شريك لها ولاندّ، لايمكن الاحاطة بها أو تقييدها بشئ، فلا تُعرف ماهيتها، ولا يُشعر بها؛ لذا لابد من وضع حدٍّ فرضي وخيالي لتلك الصفات والاسماء المطلقة، ليكون وسيلة لفهمها حيث لا حدود ولا نهاية حقيقية لها وهذا ما تفعله (الانانية) أي ما يقوم به (انا)؛ اذ يتصور في نفسه ربوبيةً موهومة، ومالكيةً مفترضة وقدرة وعلماً، فيحدّ حدوداً معينة، ويضع بها حداً موهوماً لصفاتٍ محيطة واسماء مطلقة فيقول مثلاً: من هنا الى هناك لي، ومن بعده يعود الى تلك الصفات. أي: يضع نوعاً من تقسيم الامور، ويستعد بهذا الى فهم ماهية تلك الصفات غير المحدودة شيئاً فشيئاً، وذلك بما لديه من موازين صغيرة ومقاييس بسيطة.

فمثلاً: يفهم بربوبيته الموهومة التي يتصورها في دائرة مُلكه، ربوبيةَ خالقه المطلقة سبحانه وتعالى في دائرة الممكنات.

ويدرك بمالكيته الظاهرية، مالكيةَ خالقه الحقيقية، فيقول: كما انني مالك لهذا البيت فالخالق سبحانه كذلك مالك لهذا الكون.

ويعلم بعلمه الجزئي، علمَ الله المطلق.

ويعرف بمهارته المكتسبة الجزئية، بدائعَ الصانع الجليل، فيقول مثلاً: كما انني شيدتُ هذه الدار ونظّمتها، كذلك لابد من منشئ لدار الدنيا ومنظّم لها.

وهكذا.. فقد اندرجت في (أنا) آلاف الاحوال والصفات والمشاعر المنطوية على آلاف الاسرار المغلقة التي تستطيع ان تدل وتبيّن ـ الى حدٍ ما ـ الصفات الإلهية وشؤونها الحكيمة كلها.

أي أن (أنا) لايحمل في ذاته معنىً، بل يدل على معنىً في غيره ؛ كالمرآة العاكسة، والوحدة القياسية، وآلة الانكشاف، والمعنى الحرفي فهو شعرةٌ حساسة من حبل وجود الانسان الجسيم وهو خيط رفيع من نسيج ثوب ماهية البشر.. وهو حرف (ألفٍ) في كتاب شخصية بنى آدم، بحيث ان ذلك الحرف له وجهان:

وجه متوجه الى الخير والوجود؛ فهو في هذا الوجه يتلقى الفيض ويقبله فحسب، أي يقبل الإفاضة عليه فقط؛ اذ هو عاجز عن ايجاد شئ في هذا الوجه، أي: ليس فاعلاً فيه، لأن يده قصيرة لا تملك قدرة الايجاد.

والوجه الآخر متوجه الى الشر، ويُفضي الى العدم؛ فهو في هذا الوجه فاعل، وصاحب فعل.

ثم ان ماهية (أنا) حرفية، أي يدل على معنىً في غيره، فربوبيته خيالية، ووجوده ضعيف وهزيل الى حدٍ لايطيق ان يحمل بذاته اي شئ كان، ولا يطيق ان يُحمَل عليه شئ، بل هو ميزان ليس إلاّ؛ يبين صفات الله تعالى التي هي مطلقة ومحيطة بكل شئ، بمثل ما يبيّن ميزانُ الحرارة وميزان الهواء والموازين الاخرى مقاديرَ الاشياء ودرجاتها.

فالذي يعرف ماهية (أنا) على هذا الوجه، ويذعن له، ثم يعمل وفق ذلك، وبمقتضاه، يدخل ضمن بشارة قوله تعالى ] قد أفلح مَن زكّيها[ (الشمس:9) ويكون قد أدى الأمانة حقها فيدرك بمنظار (أنا) حقيقة الكائنات والوظائف التي تؤديها. وعندما ترد المعلومات من الآفاق الخارجية الى النفس تجد في (أنا) ما يصدّقها، فتستقر تلك المعلومات علوماً نورانية وحكمة صائبة في النفس، ولا تنقلب الى ظلمات العبثية.

وحينما يؤدي (انا) وظيفته على هذه الصورة، يترك ربوبيته الموهومة ومالكيتَه المفترضة ـ التي هي وحدة قياس ليس إلاّ ـ ويفوّض المُلكَ لله وحده قائلاً: له الملك، وله الحمد، وله الحكم واليه ترجعون، فيلبس لباس عبوديته الحقّة، ويرتقي الى مقام أحسن تقويم.

ولكن اذا نسي (أنا) حكمة خلقه، ونظر الى نفسه بالمعنى الاسمي،تاركاً وظيفته الفطرية،معتقداً بنفسه أنه المالك، فقد خان الأمانة، ودخل ضمن النذير الإلهي:

] وقد خَابَ مَن دسّيها[ (الشمس: 10).

وهكذا فإن إشفاق السموات والارض والجبال من حمل الأمانة، ورهبتهن من شرك موهوم مفترض، انما هو من هذا الوجه من ( الانانية) التي تُولِّد جميع انواع الشرك والشرور والضلالات.

اجل! إن(انا) مع انه ألفٌ رقيق، خيطٌ دقيق، خطٌ مفترض، إلاّ انه ان لم تُعرف ماهيته ينمو في الخفاء ـ كنمو البذرة تحت التراب ـ ويكبر شيئاً فشيئاً، حتى ينتشر في جميع انحاء وجود الانسان، فيبتلعه ابتلاع الثعبان الضخم، فيكون ذلك الانسان بكامله وبجميع لطائفه ومشاعره عبارة عن (أنا). ثم تمده (أنانية) النوع نافخة فيه روح العصبية النوعية والقومية، فيستغلظ بالاستناد على هذه (الانانية) حتى يصيرَ كالشيطان الرجيم يتحدى أوامرالله ويعارضها. ثم يبدأ بقياس كل الناس، بل كل الاشياء على نفسه ووفق هواه، فيقسم مُلك الله سبحانه على تلك الاشياء، وعلى الاسباب فيتردى في شرك عظيم ، يتبيّن فيه معنى الآية الكريمة ] إن الشرك لظلم عظيم[ (لقمان:13). اذ كما ان الذي يسرق اربعين ديناراً من اموال الدولة لابد ان يرضي اصدقاءه الحاضرين معه بأخذ كل منهم درهماً منه كي تسوَّغ له السرقة، كذلك الذي يقول: انني مالك لنفسي، لابد من أن يقول ويعتقد: ان كل شئ مالك لنفسه!

وهكذا، فـ(أنا) في وضعه هذا، المتلبس بالخيانة للامانة، انما هو في جهل مطبق بل هو أجهل الجهلاء، يتخبط في درك جهالة مركبة حتى لو علِمَ آلاف العلوم والفنون، ذلك لأن ما تتلقفه حواسُه وافكارُه من انوار المعرفة المبثوثة في رحاب الكون لايجد في نفسه مادةً تصدّقه وتنوّره وتديمه، لذا تنطفئ كل تلك المعارف، وتغدو ظلاماً دامساً؛ اذ ينصبغ كل ما يرِد اليه بصبغة نفسه المظلمة القاتمة، حتى لو وردت حكمةٌ محضة باهرة فانها تلبس في نفسه لبوس العبث المطلق؛ لأن لون (انا) في هذه الحالة هو الشرك وتعطيل الخالق من صفاته الجليلة وانكار وجوده تعالى. بل لو امتلأ الكون كله بآيات ساطعات ومصابيح هدىً فان النقطة المظلمة الموجودة في (انا) تكسف جميع تلك الانوار القادمة، وتحجبها عن الظهور.

ولقد فصّلنا القول في (الكلمة الحادية عشرة) عن الماهية الانسانية و (الانانية) التي فيها من حيث المعنى الحرفي. واثبتنا هناك اثباتاً قاطعاً كيف انها ميزان حساس للكون، ومقياس صائب دقيق، وفهرس شامل محيط، وخريطة كاملة، ومرآة جامعة، وتقويم جامع. فمن شاء فليراجع تلك الرسالة.

الى هنا نختم المقدمة، مكتفين بما في تلك الرسالة من تفصيل.

فيا اخي القارئ، اذا استوعبت هذه المقدمة، فهيا لندخل معاً الى الحقيقة نفسها.

ان في تاريخ البشرية ـ منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام الى الوقت الحاضرـ تيارين عظيمين وسلسلتين للافكار، يجريان عبر الازمنة والعصور، كأنهما شجرتان ضخمتان أرسلتا اغصانَهما وفروعَهما في كل صوب، وفي كل طبقة من طبقات الانسانية.

احداهما: سلسلة النبوة والدين

والاخرى: سلسلة الفلسفة والحكمة

فمتى كانت هاتان السلسلتان متحدتين وممتزجتين، أي في أي وقت أو عصر إستجارت الفلسفة بالدين وانقادت اليه واصبحت في طاعته، انتعشت الانسانية بالسعادة وعاشت حياة اجتماعية هنيئة. ومتى ما انفرجت الشقة بينهما وافترقتا، احتشد النور والخير كله حول سلسلة النبوة والدين، وتجمعت الشرور والضلالات كلها حول سلسلة الفلسفة.

والآن لنجد منشأ كلٍ من تلكما السلسلتين وأساسهما:

فان سلسلة الفلسفة التي عصت الدين، اتخذت صورة شجرة زقوم خبيثة تنشر ظلمات الشرك وتنثر الضلالة حولها. حتى انها سلّمت الى يد عقول البشر، في غصن القوة العقلية، ثمرات الدهريين والماديين والطبيعيين .. وألقت على رأس البشرية، في غصن القوة الغضبية ، ثمرات النماريد والفراعنة والشدادين(1).. وربّت، في غصن القوة الشهوية البهيمية، ثمرات الآلهة والاصنام ومدّعي الالوهية.

وبجانب هذه الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، نشأت شجرةُ طوبى العبودية لله، تلك هي سلسلة النبوة، فاثمرت ثمرات يانعة طيبة في بستان الكرة الارضية، ومدّتها الى البشرية، فتدلـّت قطوفاً دانية من غصن القوة العقلية: انبياء ومرسلون وصديقون واولياء صالحون.. كما اثمرت في غصن القوة الدافعة: حكاماً عادلين وملوكاً طاهرين طهر الملائكة.. واثمرت في غصن القوة الجاذبة: كرماء واسخياء ذوي مروءة وشهامة في حسن سيرة وجمال صورة ذات عفة وبراءة.. حتى اظهرت تلك الشجرة المباركة:

ان الانسان هو حقاً اكرم ثمرة لشجرة الكون.

وهكذا فمنشأ هذه الشجرة المباركة، ومنشأ تلك الشجرة الخبيثة، هما جهتا (انا) ووجهاه، أي أن (انا) الذي أصبح بذرة أصلية لتلكما الشجرتين، صار وجهاه منشأ كلٍ منهما.

وسنبين ذلك بالآتي:

ان النبوة تمضي آخذة وجهاً لـ (انا).

والفلسفة تُقبل آخذةً الوجه الآخر لـ (انا).

فالوجه الأول الذي يتطلع الى حقائق النبوة:

هذا الوجه منشأ العبودية الخالصة لله. أي أن (انا):

يعرف أنه عبدٌ لله، ومطيع لمعبوده..

ويفهم ان ماهيته حرفية، أي دال على معنىً في غيره..

ويعتقد ان وجوده تَبَعي، أي قائم بوجود غيره وبايجاده..

ويعلم ان مالكيته للاشياء وهمية، أي: ان له مالكية موقتة ظاهرية باذن مالكه الحقيقي..

وحقيقته ظلية ـ ليست اصيلة ـ أي انه ممكنٌ مخلوق هزيل، وظلٌ ضعيف يعكس تجلياً لحقيقة واجبة حقة..

أما وظيفته فهي القيام بطاعة مولاه، طاعة ً شعوريةً كاملة، لكونه ميزاناً لمعرفة صفات خالقه، ومقياساً للتعرف على شؤونه سبحانه.

هكذا نظر الانبياء والمرسلون عليهم السلام، ومَن تبعهم من الاصفياء والاولياء، الى (انا) بهذا الوجه. وشاهدوه على حقيقته هكذا. فادركوا الحقيقة الصائبة، وفوّضوا المُلك كله الى مالك الملك ذي الجلال، واقرّوا جميعاًً، ان ذلك المالك جل وعلا لا شريك له ولا نظير، لا في ملكه ولا في ربوبيته ولافي الوهيته، وهو المتعال الذي لايحتاج الى شئ، فلا معين له ولا وزير، بيده مقاليد كل شئ وهو على كل شئ قدير. وما (الاسباب) إلاّ أستار وحُجب ظاهرية تدل على قدرته وعظمته.. وما (الطبيعة) إلاّ شريعته الفطرية، ومجموعة قوانينه الجارية في الكون، اظهاراً لقدرته وعظمته جل جلاله.

فهذا الوجه الوضئ المنور الجميل، قد أخذ حكم بذرة حية ذات مغزىً وحكمة. خلق الله جل وعلا منها شجرة طوبى العبودية، امتدت اغصانُها المباركة الى انحاء عالم البشرية كافة وزيّنته بثمراتٍ طيبةٍ ساطعة، بدّدت ظلمات الماضي كلها، واثبتت بحق ان ذلك الزمن الغابر المديد ليس كما تراه الفلسفة مقبرةً شاسعة موحشة، وميدان إعدامات مخيفة، بل هو روضة من رياض النور، للارواح التي ألقت عبئها الثقيل لتغادر الدنيا طليقة، وهو مدار أنوار ومعراج منّور متفاوتة الدرجات لتلك الارواح الآفلة لتتنقل الى الآخرة والى المستقبل الزاهر والسعادة الابدية.

أما الوجه الثاني: فقد اتخذته الفلسفة، وقد نظرت الى (انا) بالمعنى الاسمي. أي تقول: ان (انا) يدل على نفسه بنفسه..

وتقضي ان معناه في ذاته، ويعمل لأجل نفسه..

وتتلقى ان وجوده أصيل ذاتي ـ وليس ظلاً ـ أي له ذاتية خاصة به..

وتزعم ان له حقاً في الحياة، وانه مالك حقيقي في دائرة تصرفه، وتظن زعمها حقيقة ثابتة..

وتفهم ان وظيفته هي الرقي والتكامل الذاتي الناشئ من حب ذاته.

وهكذا أسندوا مسلكهم الى اسس فاسدة كثيرة وبنوها على تلك الاسس المنهارة الواهية. وقد اثبتنا بقطعية تامة مدى تفاهة تلك الاسس ومدى فسادها في رسائل كثيرة ولا سيما في (الكلمات) وبالاخص في (الكلمة الثانية عشرة) و(الخامسة والعشرين) الخاصة بالمعجزات القرآنية.

ولقد اعتقد عظماء الفلسفة وروادها ودهاتها، امثال افلاطون وارسطو وابن سينا والفارابي ـ بناء على تلك الاسس الفاسدة ـ بأن الغاية القصوى لكمال الانسانية هي (التشبّه بالواجب)! أي بالخالق جلّ وعلا، فاطلقوه حكماً فرعونياً طاغياً، ومهّدوا الطريق لكثير من الطوائف المتلبسة بأنواع من الشرك، امثال: عَبدة الاسباب وعَبدة الاصنام وعبدة الطبيعة وعبدة النجوم، وذلك بتهييجهم (الانانية) لتجري طليقة في اودية الشرك والضلالة، فسدّوا سبيل العبودية الى الله، وغلّقوا ابواب العجز والضعف والفقر والحاجة والقصور والنقص المندرجة في فطرة الانسان، فضلوا في أوحال الطبيعة ولا نجوا من حمأة الشرك كلياً ولا اهتدوا الى باب الشكر الواسع.

بينما الذين هم في مسار النبوة: فقد حكموا حكماً ملؤه العبودية الخالصة للّه وحده، وقضوا: ان الغاية القصوى للانسانية والوظيفة الاساسية للبشرية هي التخلق بالاخلاق الإلهية، اي التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة ـ التي يأمر بها الله سبحانه ـ وان يعلم الانسانُ عجزَه فيلتجىء الى قدرته تعالى، ويرى ضعفَه فيحتمي بقوته تعالى، ويشاهد فقره فيلوذ برحمته تعالى، وينظر الى حاجته فيستمد من غناه تعالى، ويعرف قصوره فيستغفر ربه تعالى، ويلمس نقصه فيسبّح ويقدّس كماله تعالى.

وهكذا فلأن الفلسفة العاصية للدين قد ضلت ضلالاً بعيداً، صار (انا) ماسكاً بزمام نفسه، مسارعاً الى كل نوع من انواع الضلالة.

وهكذا نبتت شجرة زقوم على قمة هذا الوجه من (انا) غطت بضلالها نصف البشرية وحادت بهم عن سواء السبيل. أما الثمرات التي قدمتها تلك الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، الى انظار البشر فهي الاصنام والآلهة في غصن القوة البهيمية الشهوية؛ اذ الفلسفة تحبذ أصلاً القوة، وتتخذها اساساً وقاعدة مقررة لنهجها، حتى ان مبدأ (الحكم للغالب) دستور من دساتيرها، وتأخذ بمبدأ (الحق في القوة)(1) فاعجبتْ ضمناً بالظلم والعدوان، وحثت الطغاة والظلمة والجبابرة العتاة حتى ساقتهم الى دعوى الالوهية.

ثم انها ملّكت الجمال في المخلوقات، والحُسن في صورها، الى المخلوق نفسه، والى الصورة نفسها، متناسية نسبة ذلك الجمال الى تجلي الجمال المقدس للخالق الجميل والحُسن المنزّه للمصور البديع، فتقول: (ما أجملَ هذا!) بدلاً من أن تقول: (ما أجمل خلقَ هذا)! أي: جعلت ذلك الجمال في حكم صنم جدير بالعبادة!

ثم انها استحسنت مظاهر الشهرة، والحسن الظاهر للرياء والسمعة.. لذا حبّذت المرائين، ودفعتهم الى التمادي في غيّهم جاعلة من امثال الاصنام عابدةً لعبّادها(2).

وربّت في غصن القوة الغضبية على رؤوس البشر المساكين، الفراعنة والنماريد والطغاة صغاراً وكباراً.

أما في غصن القوة العقلية، فقد وضعت الدهريين والماديين والطبيعيين، وامثالهم من الثمرات الخبيثة في عقل الانسانية، فشتتت عقل الانسان أي تشتيت.

وبعد.. فلأجل توضيح هذه الحقيقة، نعقد مقارنة بين نتائج نشأت من الاسس الفاسدة لمسلك الفلسفة، ونتائج تولدت من الاسس الصائبة لمسار النبوة، وسنقصر الكلام في بضعة امثلة فقط من بين الاف المقارنات بينهما.

المثال الاول:

من القواعد المقررة للنبوة في حياة الانسان الشخصية، التخلق باخلاق الله. أي كونوا عباد الله المخلصين، متحلين باخلاق الله محتمين بحماه معترفين في قرارة انفسكم بعجزكم وفقركم وقصوركم.

فأين هذه القاعدة الجليلة من قول الفلسفة: (تشبهوا بالواجب)! التي تقررها غايةً قصوى للانسانية!

اين ماهية الانسان التي عجنت بالعجز والضعف والفقر والحاجة غير المحدودة من ماهية واجب الوجود، وهو الله القدير القوي الغني المتعال!!

المثال الثاني:

من القواعد الثابتة للنبوة في الحياة الاجتماعية، ان (التعاون) دستور مهيمن على الكون، ابتداءً من الشمس والقمر الى النباتات والحيوانات، فترى النباتات تمد الحيوانات، والحيوانات تمد الانسان، بل ذرات الطعام تمدّ خلايا الجسم وتعاونها.

فأين هذا الدستور القويم دستور التعاون وقانون الكرم وناموس الاكرام من دستور (الصراع) الذي تقول به الفلسفة من انه الحاكم على الحياة الاجتماعية، علماً ان (الصراع) ناشئ فقط لدى بعض الظلمة والوحوش الكاسرة من جراء سوء استعمال فطرتهم، بل أوغلت الفلسفة في ضلالها حتى اتخذت دستور (الصراع) هذا حاكماً مهيمناً على الموجودات كافة، فقررت ببلاهة متناهية:(ان الحياة جدال وصراع).

المثال الثالث:

من النتائج المثلى للنبوة ومن قواعدها السامية في التوحيد، أن (الواحد لا يصدر إلاّ عن الواحد)، أي ان كل مالَه وحدةٌ لا يصدر إلاّ عن الواحد؛ اذ ما دامت في كل شئ ، وفي الاشياء كلها، وحدة ظاهرة، فلابد انها من ايجاد ذاتٍ واحدة. بينما دستور الفلسفة القديمة وعقيدتها هو (ان الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد) أي لا يصدر عن ذات واحدة إلاّ شئ واحد، ثم الاشياء الاخرى تصدر بتوسط الوسائط. هذه القاعدة للفلسفة القديمة تعطي للاسباب القائمة والوسائط نوعاً من الشراكة في الربوبية، وتُظهر ان القدير على كل شئ والغني المطلق والمستغني عن كل شئ بحاجة الى وسائط عاجزة! بل ضلوا ضلالاً بعيداً فأطلقوا على الخالق جل وعلا اسم مخلوق وهو (العقل الاول)! وقسّموا سائر ملكه بين الوسائط، ففتحوا الطريق الى شرك عظيم.

فاين ذلك الدستور التوحيدي للنبوة من هذه القاعدة ــ للفلسفة القديمة السقيمة ــ الملوثة بالشرك والملطخة بالضلالة؟

فان كان الاشراقيون الذين هم أرقى الفلاسفة والحكماء فهماً يتفوهون بهذا السخف من الكلام، فكيف يكون يا ترى كلام مَن هم دونهم في الفلسفة والحكمة من ماديين وطبيعيين؟.

المثال الرابع:

انه من الدساتير الحكيمة للنبوة، ان لكل شئ حِكَماً كثيرة ومنافع شتى حتى ان للثمرة من الحِكَمِ ما يُعدّ بعدد ثمرات الشجرة، كما تُفهم من الآية الكريمة وان من شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده فان كانت هناك نتيجة واحدة ـ لخلقِ ذي حياةٍ ـ متوجهة الى المخلوق نفسه، وحكمة واحدة من وجوده تعود اليه، فان آلافاً من النتائج تعود الى خالقه الحكيم وآلافاً من الحكم تتوجه الى فاطره الجليل.

أما دستور الفلسفة فهو (ان حكمة خلقِ كلِ كائن حي وفائدته متوجهة الى نفسه، أو تعود الى منافع الانسان ومصالحه)! هذه القاعدة تسلب من الموجودات حِكَماً كثيرة انيطت بها، وتعطي ثمرة جزئية كحبة من خردل الى شجرة ضخمة هائلة، فتحوّل الموجودات الى عبث لاطائل من ورائه.

فاين تلك الحكمة الصائبة من هذه القواعد الفاسدة للفلسفة ـ الفارغة من الحكمة ـ التي تصبغ الوجود كله بالعبث!.

ولقد قصرنا الكلام هنا على هذا القدر، حيث اننا قد بحثنا هذه الحقيقة في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة بشئ من التفصيل.

وبعد.. فيمكنك ان تقيس على منوال هذه الامثلة الاربعة آلافاً من النماذج والأمثلة وقد أشرنا الى قسمٍ منها في رسالة (اللوامع).

ونظراً لاستناد الفلسفة الى مثل هذه الاسس السقيمة ولنتائجها الوخيمة فان فلاسفة الاسلام الدهاة، الذين غرّهم مظهر الفلسفة البراق، فانساقوا الى طريقها كابن سينا والفارابي، لم ينالوا إلاّ أدنى درجة الايمان، درجة المؤمن العادي، بل لم يمنحهم حجة الاسلام الامام الغزالي حتى تلك الدرجة.

وكذا ائمة المعتزلة، وهم من علماء الكلام المتبحرين، فلأنهم افتتنوا بالفلسفة وزينتها واوثقوا صلتهم بها، وحكّموا العقل، لم يظفروا بسوى درجة المؤمن المبتدع الفاسق.

وكذا ابو العلاء المعري الذي هو من أعلام ادباء المسلمين والمعروف بتشاؤمه، وعمر الخيام الموصوف بنحيبه اليتمي، وامثالهما من الادباء الاعلام ممن استهوتهم الفلسفة، وانبهرت نفوسهم الامارة بها.. فهؤلاء .. قد تلقوا صفعة تأديب ولطمة تحقير وتكفير من قبل اهل الحقيقة والكمال، فزجروهم قائلين: (ايها السفهاء انتم تمارسون السفه وسوء الادب، وتسلكون سبيل الزندقة، وتربّون الزنادقة في احضان أدبكم!).

ثم ان من نتائج الاسس الفاسدة للفلسفة: ان (انا) الذي ليس له في ذاته إلاّ ماهية ضعيفة كأنه هواء أو بخار، لكن بشؤم نظر الفلسفة، ورؤيتها الاشياء بالمعنى الاسمي، يتميع. ثم بسبب الأُلفة والتوغل في الماديات والشهوات كأنه يتصلب، ثم تعتريه الغفلة والإنكار فتتجمد تلك (الانانية). ثم بالعصيان ـ لاوامر الله ـ يتكدر (أنا) ويفقد شفافيته ويصبح قاتماً. ثم يستغلظ شيئاً فشيئاً حتى يبتلع صاحبه. بل لا يقف (أنا) عند هذا الحد وانما ينتفخ ويتوسع بافكار الانسان ويبدأ بقياس الناس، وحتى الاسباب، على نفسه، فيمنحها فرعونية طاغية ـ رغم رفضها واستعاذتها منها ـ وعند ذلك يأخذ طور الخصم للاوامر الإلهية فيقول:

] من يحي العظام وهي رميم[ (يس:78) وكأنه يتحدى الله عزوجل، ويتهم القدير على كل شئ بالعجز، ثم يبلغ به الأمر ان يتدخل في اوصاف الله الجليلة، فينكر أو يحرّف أو يردّ كل ما لا يلائم هواه، أو لا تعجب فرعونيةَ نفسه. فمثلاً:

اطلقت طائفة من الفلاسفة على الله سبحانه وتعالى: اسم (الموجب بالذات) فنفوا الارادة والاختيار منه تعالى، مكذّبين شهادة جميع الكون على ارادته الطليقة.

فيا سبحان الله! ما اعجب هذا الانسان! ان الموجودات قاطبةً من الذرات الى الشموس لتدل دلالة واضحة على ارادة الخالق الحكيم؛ بتعيّناتها، وانتظامها، وحِكَمها، وموازينها، كيف لا تراها عينُ الفلسفة؟ أعمى الله أبصارهم!

وادّعت طائفة اخرى من الفلاسفة: (ان العلم الإلهي لا يتعلق بالجزئيات) نافين إحاطة علم الله سبحانه بكل شئ، رافضين شهادة الموجودات الصادقة على علمه المحيط بكل شئ.

ثم ان الفلسفة تمنح التأثير للأسباب، وتعطي بيد الطبيعة الايجاد والابداع، فلا ترى الآيات المتلألئة على كل موجود، الدالة على الخالق العظيم ـ كما اثبتناه في (الكلمة الثانية والعشرين) ـ فضلاً عن انها تسند خلق قسم من الموجودات ـ التي هي مكاتيب إلهية صمدانية ـ الى الطبيعة العاجزة الجامدة الفاقدة للشعور، والتي ليست في يديها إلاّ المصادفة العشواء والقوة العمياء، جاعلة لها ـ أي للطبيعة ــ مصدرية في خلق الاشياء، وفاعلية في التأثير! فحجبت آلاف الحِكم المندرجة في الموجودات.

ثم ان الفلسفة لم تهتد الى باب الآخرة الواسع، فانكرت الحشر وادّعت أزلية الارواح، علماً ان الله عز وجل بجميع اسمائه الحسنى، والكون بجميع حقائقه والانبياء والرسل الكرام عليهم السلام بجميع ما جاءوا من الحقائق، والكتب السماوية بجميع آياتها الكريمة.. تبيّن الحشر والآخرة، كما اثبتناه في الكلمة العاشرة (الحشر).

وهكذا يمكنك ان تقيس سائر مسائل الفلسفة على هذه الخرافات السخيفة.

أجل! لكأن الشياطين اختطفوا عقول الفلاسفة الملحدين بمنقار " أنا " ومخاليبه وألقوها في أودية الضلالة، ومزقوها شر ممزق.

فـ(أنا) في العالم الصغير ـ الانسان ـ كالطبيعة في العالم الكبير، كلاهما من الطواغيت:] فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم[ (البقرة : 256).

* * *

ولقد رأيت حادثة مثالية قبل الشروع بتأليف هذه الرسالة بثماني سنوات، عندما كنت في استانبول شهر رمضان المبارك، وكان آنئذٍ سعيد القديم ـ الذي انشغل بالفلسفة ـ على وشك ان ينقلب الى سعيد الجديد.. في هذه الفترة بالذات وحينما كنت أتأمل في المسالك الثلاثة المشارة اليها في ختام سورة الفاتحة بـ ] صراط الذين انعمت عليهم غير المغـضوب عليهم ولا الـضالين[ رأيت تلك الحادثة الخيالية وهي حادثة أشبه ما يكون بالرؤيا. سجلتها في حينها في كتابي (اللوامع) على صورة سياحة خيالية وبما يشبه النظم. وقد حان الآن وقت ذكر معناها وشرحها، حيث انها تسلط الاضواء على الحقيقة المذكورة.

كنت ارى نفسي وسط صحراء شاسعة عظيمة، وقد تلبدت السماء بسحب قاتمة مظلمة، الأنفاس تكاد تختنق على الارض كافة. فلا نسيم ولا ضياء ولا ماء. كل ذلك مفقود.

توهمت ان الارض ملأى بالوحوش والضوارى والحيوانات الضارة. فخطر على قلبي ان في الجهة الاخرى من الارض يوجد نسيم عليل وماء عذب وضياء جميل، فلا مناص اذاً من العبور الى هناك.. ثم وجدتنى وانا اُساق الى هناك دون ارادتي.. دخلت كهفاً تحت الارض، اشبه ما يكون بانفاق الجبال، سرتُ في جوف الارض خطوة خطوة وانا اشاهد أن كثيرين قد سبقوني في المضي من هذا الطريق تحت الارض، دون ان يكملوا السير اذ ظلوا في اماكنهم مختنقين، فكنت أرى آثار اقدامهم، واسمع ـ حيناً ـ اصوات عددٍ منهم .. ثم تنقطع الاصوات.

فيا صديقي الذي يرافقني بخياله في سياحتي الخيالية هذه!

ان تلك الارض هي (الطبيعة) و (الفلسفة الطبيعية). اماالنفق فهو المسلك الذي شقه اهل الفلسفة بافكارهم لبلوغ الحقيقة.أما آثار الاقدام التي رأيتها فهي لمشاهير الفلاسفة كافلاطون وارسطو(1). وما سمعته من اصوات هو أصوات الدهاة كابن سينا والفارابي.. نعم كنت أجد اقوالاً لإبن سينا وقوانين له في عدد من الاماكن، ولكن كانت الاصوات تنقطع كلياً، بمعنى انه لم يستطع ان يتقدم، أي انه اختنق.. وعلى كل حال فقد بينت لك بعض الحقائق الكامنة تحت الخيال لأخفف عنك تلهفك وتشوقك.. والآن اعود الى ذكر سياحتي:

استمر بي السير، واذا بشيئين يجعلان بيدي.

الاول: مصباح كهربائي، يبدد ظلمات كثيفة للطبيعة تحت الارض.

والآخر: آلة عظيمة، تفتت صخوراً ضخمة هائلة امثال الجبال.. فينفتح لي الطريق.

وهُمِس في اذني آنذاك: ان هذا المصباح والآلة، قد منحتا لك من خزينة القرآن الكريم.. وهكذا فقد سرت مدة على هذا المنوال، حتى رأيت نفسي قد وصلت الى الجهة الاخرى، فاذا الشمس مشرقة في سماء صافية جميلة لا سحاب فيها، واليوم يوم ربيع بهيج، والنسيم يهب كأن فيه الروح، والماء السلسبيل العذب يجري. فقد رأيت عالَماً عمّته البهجة ودبّ الفرح في كل مكان، فحمدتُ الله.

ثم نظرت الى نفسي، فرأيت اني لا املكها ولا استطيع السيطرة عليها، بل ان احدهم يختبرني، وعلى حين غرة رأيت نفسي مرة اخرى في تلك الصحراء الشاسعة، وقد اطبقت السحب القاتمة ايضاً فاظلمت السماء، والانفاس تكاد تختنق من الضيق.. واحسست سائقاً يسوقني الى طريق آخر، اذ رأيت أني أسير في هذه المرة على الارض وليس في جوفها في طريقي الى الجهة الاخرى..فرأيت في سيرى هذا اموراً عجيبة ومشاهد غريبة تكاد لا توصف؛ فالبحر غاضب عليّ، والعاصفة تهددني وكل شئ يلقي امامي العوائق والمصاعب. إلاّ ان تلك المشاكل تُذلّل بفضل ما وُهب لي من القرآن الكريم من وسيلة سياحية. فكنت اتغلب عليها بتلك الوسيلة.. وبدأت اقطع السير خطوة خطوة، شاهدت اشلاء السائحين وجنائزهم ملقاة على طرفي الطريق، هنا وهناك فلم يُنهِ إلاّ واحدٌ من ألفٍ هذه السياحة.. وعلى كل حال فقد نجوت من ظلمات تلك السحب الخانقة، ووصلت الى الجهة الاخرى من الارض، وقابلت الشمس الحقيقية الجميلة، وتنفستُ النسيم العليل، وبدأت اجول في ذلك العالم البهيج كالجنة، وانا اردد: الحمد للّه.

ثم رأيت انني لن اُترَك هنا، فهناك مَن كأنه يريد أن يرينى طريقاً آخر، فأرجعَني في الحال الى ما كنت عليه.. تلك الصحراء الشاسعة.. فنظرت فاذا اشياء نازلة من الاعلى كنزول المصاعد (الكهربائية) بأشكال متباينة وانماط مختلفة بعضها يشبه الطائرات وبعضها شبيه بالسيارات، واخرى كالسلال المتدلية.. وهكذا. فايّما انسان يمكن أن يتعلق بأحدى تلك الاشياء، حسب قابليته وقوته، فانه يُعرج به الى الاعلى.. فركبت احداها، واذا أنا في دقيقة واحدة فوق السحب وعلى جبال جميلة مخضوضرة، بل لا تبلغ السحب منتصف تلك الجبال الشاهقة.. ويُشاهد في كل مكان اجمل ضياء، وأعذب ماء وألطف نسيم.. وحينما سرحت نظري الى الجهات كلها رأيت أن تلك المنازل النورانية ـ الشبيهة بالمصاعد ـ منتشرة في كل مكان. ولقد كنت شاهدت مثلها في الجهة الاخرى من الارض في تلكما السياحتين السابقتين.. ولكن لم افهم منها شيئاً، بيد اني الآن افهم أن هذه المنازل انما هي تجليات لآيات القرآن الحكيم.

وهكذا فالطريق الاول: هو طريق الضالين المشـار اليـه بـ ] الـضالين[ وهو مسلك الذين زلّوا الى مفهوم (الطبيعة) وتبنّوا افكار الطبيعيين.. وقد شعرتم مدى صعوبة الوصول الى الحقيقة من خلال هذا السير الملئ بالمشكلات والعوائق.

والطريق الثاني: المشار اليه بـ ] المغـضوب عليهم[ فهو مسلك عَبَدة الاسباب والذين يحيلون الخلق والايجاد الى الوسائط، ويسندون اليها التأثير، ويريدون بلوغ حقيقة الحقائق، ومعرفة الله جل جلاله عن طريق العقل والفكر وحده، كالحكماء المشائيين.

أما الطريق الثالث: المشار اليه بـ ] الذين انعمت عليهم[ فهو الصراط المستقيم والجادة النورانية لأهل القرآن، وهو أقصر الطرق وأسلمه وايسره، ومفتوح امام الناس كافة ليسلكوه، وهو مسلك سماوي رحماني نوراني.





























المقصد الثاني

((يخص تحولات الذرات))

يشير الى ذرة من خزينة هذه الآية الكريمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

] وقال الذين كفروا لاتأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينّـكم عالِمِ الغيب لا يعزب عنه مثقالُ ذرّة في السموات ولا في الارض ولا اصغرُ من ذلك ولا اكبرُ إلا في كتابٍ مبين[ (سورة سبأ: 3).

[ يبين هذا المقصد مثقال ذرة من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، أي: يبين الجوهر الذي تنطوي عليه صنُيديقة الذرة، ويتناول جزءاً ضئيلاً جداً من حركة الذرة ووظيفتها؛ وذلك في نقاط ثلاث مع مقدمة ].



المقدمة

ان تحولات الذرات وجولانها عبارة عن اهتزازات الذرات وتنقلها اثناء كتابة قلم القدرة الإلهية للايات التكوينية في كتاب الكون. فهي ليست كما يتوهمه الماديون والطبيعيون من أنها ألعوبة المصادفة في حركة عشوائية لا معنى لها ولا مغزى؛ ذلك لأن كل ذرة، وكل الذرات تقول في مبدأ حركتها: (بسم الله) ـ كما تقوله جميع الموجودات ـ حيث أنها تحمل أثقالاً هائلة تفوق كثيراً طاقتها المتناهية، كحمل بذرة الصنوبر على اكتافها شجرتها الضخمة. ثم عند انتهاء وظيفتها تقول: (الحمد لله) حيث انها اظهرت أثراً بديعاً كأنه ينشد قصيدة رائعة في الثناء على الصانع الجليل، لما فيه من جمال الاتقان الحكيم، وروعة صورةٍ تنم عن مغزى عميق تتحير منه العقول.. فان شئت فانظر بانعام الى الرمان والذُرة.

نعم! ان تحولات الذرات وتنقلاتها، عبارة عن حركات واهتزازات ذات مغزى عميق، ناشئة من كتابة كلمات القدرة الإلهية ومحو تلك الكلمات في لوح (المحو والاثبات) الذي هو حقيقة الزمان السيال وصحيفته المثالية، استنساخاً من الكتاب المبين الذي هو عنوانٌ للقدرة الإلهية وارادتها، ومحور التصرف في ايجاد الاشياء وتشكيلها من عالم الشهادة والزمان الحاضر، وفقاً لدساتير الامام المبين الذي هو جماع مقومات الاشياء في اصولها وفروعها ـ أي أصل كل شئ مضى وكل نسلٍ آتٍ ـ التي طواها الغيب، مع مميزاتها، وعنوانٌ للعلم الإلهي وامره(1).



النقطة الاولى

وهي مبحثان

المبحث الاول

ان في حركة كل ذرة وفي سكونها، يتلمع نوران للتوحيد، كأنهما شمسان ساطعتان. ولقد اثبتنا بيقين اثباتاً مجملاً في الاشارة الاولى من (الكلمة العاشرة) وفصلناه في (الكلمة الثانية والعشرين) ان كل ذرة من الذرات! إن لم تكن مأمورة باوامر الله تعالى، وإن لم تتحرك بإذنه وفعله وان لم تتحول بعلمه وقدرته، فلابد ان يكون لكل ذرة علمٌ لا نهاية له، وقدرةٌ لا حدّ لها، وبصر يرى كل شئ، ووجهٌ يتوجه الى كل شئ، وأمرٌ نافذ في كل شئ.

لأن كل ذرة من ذرات العناصر، تعمل ـ أو يمكن ان تعمل ـ عملاً منتظماً في جسم كل كائن حي، علماً أن انظمة الاشياء وقوانين تراكيبها مخالف بعضها بعضاً، ولا يمكن عمل شئ مالم تُعلَم انظمته، وحتى لوقامت الذرة بعمل فلا يخلو من خطأ. والحال أن الاعمال تُنجز من دون خطأ. فاذاً: إما أن تلك الذرات العاملة تعمل وفق أوامر مَن يملِك علماً محيطاً بكل شئ، وباذنه، وبعلمه، وبارادته.. أو ينبغي ان يكون لها مثل ذلك العلم المحيط والقدرة المطلقة!

ثم ان كل ذرة من ذرات الهواء، تستطيع ان تدخل في جسم كل كائن حي، وفي ثمرة كل زهرة، وفي بناء كل ورقة، وتعمل في كل ٍمنها. علماً ان بناء كلٍ منها يخالف الآخر ونظامه يباين الآخر، فلو كان معمل ثمرة التين ـ مثلاً ـ شبيهاً بمعمل النسيج، لكان معمل ثمرة الرمان شبيهاً بمعمل السكر. فتصاميم كل منهما، وبناء كل منهما مخالف للآخر.

فهذه الذرات الهوائية تدخل في كلٍ منها ـ أو تستطيع الدخول ـ وتعمل بمهارة فائقة وبحكمة تامة، وتتخذ فيها أوضاعاً معينة، ثم حالما تنتهى وظيفتُها تتركها ماضية الى شأنها.

وهكذا فالذرة المتحركة في الهواء المتحرك؛ إما انها تعلم الصوَر التي اُلبستْ على الحيوانات والنباتات، وعلى ثمراتها وازاهيرها، وتعلم ايضاً مقادير كلٍ منها وانماط تصاميمها! أو أن تلك الذرة مأمورة بأمرِ مَن يعلم ذلك كله وعاملة بارادته.

وكذا كل ذرة ساكنة في التراب الساكن الهادئ، فهي متهيئة لتكون منبتاً لجميع بذور النباتات المزهرة والاشجار المثمرة؛ اذ لو اُلقيت في حفنة تراب ـ المتكونة من ذرات متماثلة كأنها ذرة واحدة ـ ولاقت ما فيها من الذرات؛ فإما انها تجد مصنعاً خاصاً بها، مع ما يحتاجه بناؤها من لوازم ومعدّات، أي ان تكون في تلك الحفنة من التراب معامل معنوية دقيقة عديدة، عدد انواع النباتات والاشجار والاثمار.! أو ان يكون هناك علم واسع وقدرة محيطة بكل شئ، تبدع كل شئ من العدم.. أو ان تلك الاعمال انما تتم بحول وقوة الله القدير على كل شئ والعليم بكل شئ.

لو سافر شخص الى اوروبا، وهو جاهل بوسائل الحضارة جهلاً مطبقاً، وعلاوة على ذلك فهو أعمى لا يبصر، ولو دخل هناك الى جميع المعامل والمصانع، وانجز أعمالاً بديعة في كل صنوف الصناعة وفي انواع الأبنية، بانتظام كامل وحكمة فائقة ومهارة بارعة تحيرت منها العقول.. فلا شك ان مَن له ذرة من الشعور يعرف يقيناً: ان ذلك الرجل لا يعمل ما يعمل من تلقاء نفسه، بل هناك استاذ عليم يلقّنه ويستخدمه.

وايضاً لو كان هناك عاجز، أعمى، مقعد، قابع في كوخه الصغير، لا يحرك ساكناً. اُدخل عليه قليل من حصو، وقطع من عظم، وشئ يسير من قطن، واذا بالكوخ الصغير تصدر منه اطنان من السكر، واطوال من النسيج، وآلاف من قطع الجواهر، مع ملابس في أبهى زينة وأفخر نوع، مع أطعمة طيبة في منتهى اللذة.. أفلا يقول مَن له ذرة من العقل: ان ذلك الاعمى المقعد ما هو إلاّ حارس ضعيف لمصنع معجِز، وخادم لدى صاحبه ذى المعجزات؟

كذلك الامر في حركات ذرات الهواء ووظائفها في النباتات والاشجار والازهار والاثمار، التي كل منها كتابة إلهية صمدانية، ورائعة من روائع الصنعة الربانية، ومعجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الإلهية، فلا تتحرك تلك الذرات ولا تنتقل من مكان الى آخر إلاّ بأمر الصانع الحكيم ذي الجلال وبارادة الفاطر الكريم ذي الجمال.

وقس على هذا ذرات التراب الذي هو منبت لسنابل البذور والنوى، التي كل منها في حُكم ماكنة عجيبة تختلف عن الاخرى، ومطبعة مغايرة للاخرى، وخزينة متباينة عن الاخرى، ولوحة اعلان تُعلن اسماء الله الحسنى متميزة عن الاخرى، وقصيدة عصماء تثني على كمالاته جل وعلا ولا شك ان هذه البذور البديعة ما اصبحت منشأ ً لتلك الاشجار والنباتات إلاّ بأمر الله المالك لأمر (كن فيكون) وكل شئ مسخّر لأمره، ولا يعمل إلاّ باذنه وإرادته وقوته.. وهذا يقين وثابت قطعاً.. آمنا.



المبحث الثاني

هذا المبحث عبارة عن اشارة بسيطة الى ما في حركات الذرات من وظائف وحكَم.

ان الماديين الذين انحدرت عقولُهم الى عيونهم، فلا يرون إلاّ المادة، يرون بحكمتهم الخالية من الحكمة وبفلسفتهم المبنية على اساس العبث في الوجود:

ان تحولات الذرات مربوطة بالمصادفة. حتى اتخذوها قاعدة مقررة لدساتيرهم كلها، جاعلين منها مصدر ايجادٍ للمخلوقات الربانية!

فالذي يملك ذرة من الشعور يعلم يقيناً مدى بُعدهم عن منطق العقل، في اسنادهم هذه المخلوقات المزدانة بحِكَمٍ غزيرة، الى شئ مختلط عشوائي لا حكمة فيه ولا معنى.

أما المنظور القرآني وحكمته، فانه يرى ان تحولات الذرات لها حِكَمٌ كثيرة جداً وغايات لا تحصى ووظائف لاتحد، تشير اليها الآية الكريمة ] وإن من شيءٍ إلاّ يُسبّح بحَمده[ وامثالها من الآيات الكثيرة.

ونحن هنا نشير الى بضعٍ منها فقط، على سبيل المثال:

اولاها:

ان الله سبحانه وتعالى، لأجل تجديد تجليات الايجاد في الوجود، يحرّك الذرات ويسخّرها بقدرته، جاعلاً من كل روحٍ واحدة (نموذجاً)، يُلبسها جسداً جديداً من معجزات قدرته في كل سنة، ويستنسخ من كل كتاب فرد بحكمته التامة آلاف الكتب المتنوعة، ويُظهر حقيقةً واحدة في انماط مختلفة وصور شتى، ويفسح المجال ويعدّ المكان لورود أكوان جديدة وعوالم جديدة وموجودات جديدة، طائفة إثر طائفة.

ثانيتها:

ان مالك الملك ذا الجلال، قد خلق هذه الدنيا ـ ولا سيما وجه الارض ـ على هيئة مزرعة واسعة، أي مهّدها لتكون قابلة لنمو محاصيل الموجوادت ونشوئها ، وظهورها بجدّتها وطراوتها، أي ليزرع فيها معجزات قدرته غير المتناهية ويحصدها.

ففي مزرعته الشاسعة هذه التي هي بسعة سطح الارض، يبرز سبحانه من معجزات قدرته كائنات جديدة، في كل عصر، في كل فصل، في كل شهر، في كل يوم، بل في كل ساعة، فيعطي ساحةَ الارض محاصيل متنوعة جديدة، بتحريك الذرات بحكمة تامة وتوظيفها بنظام متقن. مُبيناً سبحانه وتعالى، بحركات الذرات هذه هدايا رحمته الصادرة من خزينته التي لا تنضب، ونماذج معجزات قدرته التي لا تنفد.

ثالثتها:

انه سبحانه وتعالى يحرّك الذرات بحكمة تامة ويسخرها في وظائف منظمة لأجل اظهار بدائع الموجودات كي تفيد الاسماء الحسنى عن معاني تجلياتها غير المتناهية. فيُخرج سبحانه في مكان محدود ما لايحد من بدائع الصور الدالة على تلك التجليات غير المحدودة ويكتب في صحيفة ضيقة آياتٍ تكوينية لاحدّ لها، تعبّر عن معانٍ سامية غير محدودة.

نعم! ان محاصيل السنة الماضية ونتائجها من الموجودات، ومحاصيل هذه السنة ونتائجها، من حيث الماهية، في حُكم واحد، إلاّ ان معانيها ومدلولاتها متباينة جداً، اذ بتبدل التعينات الاعتبارية تتبدل معانيها وتكثر وتزداد. ومع أن التعينات الاعتبارية والتشخصات الموقتة تبدَّلان، وهما فانيتان في الظاهر، إلاّ ان معانيها الجميلة تحافَظ عليها وتستمر وتبقى وتثبت.

فأوراق هذه الشجرة وازاهيرها وثمراتها التي كانت في الربيع الماضي ـ لأنها لا تحمل روحاً كالانسان ـ هي عين أمثالها في هذا الربيع، اذا نُظر اليها من زاوية الحقيقة، إلاّ ان الفرق هو في التشخصات الاعتبارية.

هذه التشخصات أتت الى هذا الربيع، لتحل محل تشخصات سابقتها، وذلك للافادة عن معاني شؤون الاسماء الإلهية التي تتجدد تجلياتُها باستمرار.

رابعتها:

ان الحكيم ذا الجلال يحرّك الذرات في مزرعة هذه الدنيا الضيقة وينسجها في مصنع الارض، جاعلاً الكائنات سيالةً والموجودات سيارةً، وذلك لأجل إعداد ما يناسب من لوازم أو تزيينات أو محاصيل لعوالم واسعة لاحدّ لها، كعالم المثال وعالم الملكوت الواسع جداً وسائر عوالم الآخرة غير المحدودة. فيهئ سبحانه في هذه الارض الصغيرة، محاصيل ونتائج معنوية كثيرة جداً، لتلك العوالم الكبيرة الواسعة جداً. ويُجري من الدنيا سيلاً لا نهاية له ينبع من خزينة قدرته المطلقة ويصبّه في عالم الغيب، وقسماً منه في عوالم الآخرة.

خامستها:

يحرّك سبحانه وتعالى الذرات بقدرته في حكمة تامة ويسخرّها في وظائف منتظمة اظهاراً لكمالات إلهية لا نهاية لها، وجلوات جمالية لاحدّ لها، وتجليات جلالية لامنتهى لها، وتسبيحات ربانية لاعدّ لها، في هذه الارض الضيقة المحدودة، وفي زمان قليل متناهٍ. فيجعل سبحانه وتعالى الموجودات تسبّح تسبيحات غير متناهية في زمانٍ متناهٍ وفي مكان محدود، مبيناً بذلك تجلياته الجمالية والكمالية والجلالية المطلقة موجداً كثيراً من الحقائق الغيبية، وكثيراً من الثمرات الاخروية، وكثيراً من البدائع المثالية ـ لصور الفانين وهوياتهم الباقية ـ وكثيراً من نسائج لوحية حكيمة. فالذي يحرك الذرات، ويبرز هذه المقاصد العظيمة، وهذه الحكم الجسيمة، انما هو الواحد الأحد، وإلاّ فيجب ان تكون لكل ذرة عقل بكبر الشمس!.

وهكذا فهناك أمثلة كثيرة جداً على تحولات الذرات التي تُحرَّك بحكمة بالغة، كهذه النماذج الخمسة، بل ربما تربو على خمسة آلاف مثال، إلاّ ان اولئك الفلاسفة الحمقى قد ظنوها خالية من الحكمة!

فلقد زعموا ـ في الحقيقة ـ ان الذرات في حركتيها التي تتحرك بهما في نشوة وجذب رباني، احدهما آفاقي والآخر أنفسي، والمستغرقة في ذكر وتسبيح إلهي كالمريد المولوي، انما تقوم بها من تلقاء نفسها، وترقص ذاهلة وتدور.

نخلص من هذا: ان علم اولئك الفلاسفة ليس علماً، بل جهل. وان حكمتهم سخافة وخالية من الحكمة!

(سنذكر في النقطة الثالثة حكمة اخرى مطولة هي السادسة).





النقطة الثانية

ان في كل ذرة شاهدين صادقين على وجود الله سبحانه، وعلى وحدانيته.

أجل! ان الذرة بقيامها بوظائف جسيمة جداً، وحملها لأعباء ثقيلة جداً تفوق طاقتها، في منتهى الشعور، رغم عجزها وجمودها، تشهد شهادة قاطعة على وجود الله سبحانه.

وانها تشهد شهادة صادقة ايضاً على وحدانية الله واحدية مالك الملك والملكوت؛ بتنسيق حركاتها وانسجامها مع النظام العام الجاري في الكون ومراعاتها النظام حيثما حلّت، وتوطّنها هناك كأنه موطنها. أي: لمن الذرة؟ فمواضع جولانها مُلكُه وتعود اليه، بمعنى ان من كانت الذرة له فان جميع الاماكن التي تسير فيها له ايضاً.

اي أن الذرة لكونها عاجزة، وعبئها ثقيلاً جداً، ووظائفها كثيرة لاتحد، تدل على انها قائمة ومتحركة باسم قدير مطلق القدرة وبأمره.

ثم ان توفيق حركتها وجعلها منسجمة مع الانظمة العامة الكلية في الكون، وكأنها على علمٍ بها، ودخولها الى كل مكان دون مانع يمنعها، يدل على انها تعمل ما تعمل بقدرة واحد عليم مطلق العلم وبحكمته الواسعة.

نعم! ان الجندي له علاقة وانتساب مع كلٍ من فصيله، وسريته، وفوجه، ولوائه، وفرقته. كما أن له في كلٍ منها وظيفة معينة على قدر تلك العلاقة. وان تنسيق الحركة والانسجام مع كل هذه العلاقات والارتباطات بمعرفتها ومعرفة وظائفها في كل دائرة، مع القيام بواجبات عسكرية من تدريب واخذ للتعليمات حسب انظمتها، كل ذلك انما يكون بالانقياد الى اوامر القائد الاعظم الذي يقود تلك الدوائر كلها واتباع قوانينه.

فكما ان الامر هكذا في الجندي الفرد، كذلك كل ذرة من الذرات الداخلة في المركبات المتداخل بعضها في بعض، لها اوضاع ملائمة في كلٍِ منها، ومواقع متناسبة تنبني عليها مصالح متنوعة، ووظائف منتظمة شتى، ونتائج متباينة ذات حكمة، فلابد ان توطين تلك الذرة بين تلك المركبات، توطيناً لا يخل بالنتائج والحكم الناشئة من تلك النسب والوظائف، مع الحفاظ على جميع النسب والوظائف، خاصٌ بمالك الملك الذي بيده مقاليد كل شئ.

فمثلاً: ان الذرة المستقرة في بؤبؤ عين (توفيق) لها علاقة مع اعصاب العين الحركية والحسية ، ومع الشرايين والاوردة التي فيها، ومع الوجه، والرأس، ثم مع الجسم، ومع الانسان ككل. فضلاً عن ان لها في كلٍ منها وظيفة وفائدة.

فوجود تلك النسب، في كلٍ منها، والعلاقات والفوائد، مع الحكمة الكاملة والاتقان التام يبين:

ان الذي خلق ذلك الجسد بجميع اعضائه، هو الذي يمكنه ان يمكّن تلك الذرة في ذلك المكان، ولا سيما الذرات الآتية للرزق. فتلك الذرات التي تسير مع قافلة الرزق وتسافر معها، انما تسير بانتظام وتسيح بحكمة تحير العقول. ثم تدخل في اطوار مختلفة وتجول في طبقات متنوعة بنظام دقيق، فتخطو خطوات ذات شعور، من دون ان تخطئ ، حتى تأتي تدريجياً الى الجسم الحي وتصفّى هناك في اربع مصافٍ فيه، الى أن تصل الى الاعضاء والحجيرات المحتاجة الى الرزق، فتمدها به، وتسعفها بقانون الكرم محمولةً على الكريات الحمراء في الدم.

يفهم من هذا بداهة ان الذي أمَرَّ هذه الذرات من خلال آلاف المنازل المختلفة والطبقات المتباينة، وساقها هكذا بحكمة، لابد وبلا ادنى شك هو رزّاق كريم، خلاق رحيم ، تتساوى امام قدرته النجومُ والذرات.

ثم ان كل ذرة من الذرات تقوم بعمل صورة بديعة ونقش رائع في المخلوق بحيث:

إما انها في موقع حاكم مسيطر على كل ذرة من الذرات وعلى مجموعها، ومحكومة في الوقت نفسه تحت أمر كل ذرة من الذرات وأمر مجموعها، وانها تعرف معرفة كاملة، بالصورة البديعة المحيرة للالباب والنقش الرائع الملئ بالحكمة، فتوجدها! وهذا محال بألف محال.. أو أنها نقطة مأمورة بالحركة نابعة من قلم قدرة الله سبحانه وقانون قَدَره.

فمثلاً: أن الاحجار الموجودة في قبة (ايا صوفيا) ان لم تكن مطيعة لأمر بنّائها، ينبغي ان يكون كل حجر منها ماهراً في صنعة البناء كالمعماري سنان(1) نفسه، ويكون حاكماً على الاحجار الاخرى ومحكوماً بأمرها في الوقت نفسه، اي يمكنه ان يحكم الاحجار الاخرى فيقول لها: (هيا ايتها الاحجار لنتحد حتى نحول دون سقوطنا)! وكذلك الامر في الذرات الموجودة في المخلوقات، التي هي اكثر ابداعاً، واكثر اتقاناً واكثر روعة واكثر اثارة للاعجاب، واكثر حكمة من قبة ايا صوفيا بالاف المرات، إن لم تكن هذه الذرات منقادة لأمر الخالق العظيم، خالق الكون، فينبغي اذاً ان تعطى لكلٍ منها اوصاف الكمال التي لا تليق إلاّ باللّه سبحانه.

فيا سبحان الله ! وياللعجب! ان الماديين الزنادقة الكفرة لما انكروا الله الواجب الوجود، اضـطروا حسب مذهبهم للاعتقاد بآلهة باطلة بعدد الذرات. ومن هذه الجهة ترى أن الكافر المنكر لوجود الله سبحانه وتعالى مهما كان فيلسوفاً وعالماً فهو في جهل عظيم، وهو جاهل جهلاً مطلقاً.



النقطة الثالثة

هذه النقطة اشارة الى الحكمة السادسة العظيمة التي وُعد بها في ختام النقطة الاولى، وهي:

لقد ذكر في حاشية السؤال الثاني من الكلمة الثامنة والعشرين:

ان حكمة اخرى من آلاف الحكم التي تتضمنها تحولات الذرات وحركاتها في اجسام ذوي الحياة، هي تنوير الذرات بالحياة وكسبها المعنى والمغزى، لتصبح ذرات لائقة في بناء العالم الاخروي.

نعم! ان الكائن الحيواني والانسان وحتى النبات في حكم مضيف لتلك الذرات ومعسكر تدريب لها، ومدرسة تربوية تتلقى فيها الارشادات؛ بحيث أن تلك الذرات الجامدة تدخل هناك فتتنور، وكأنها تنال التدريب وتتلقى الاوامر والتعليمات، فتتلطف، وتكسب باداء كلٍ منها لوظيفة لياقةً وجدارة، لتصبح ذرات لعالم البقاء والدار الآخرة الحية حياةً شاملة لجميع اجزائها.

سـؤال: بماذا يُعرف وجود هذه الحكمة في حركات الذرات؟

الجـواب:

اولاً: يُعرف وجودُها، بحكمة الله الحكيم سبحانه، تلك الحكمة الثابتة بالانظمة الجارية في الموجودات كافة وبالحكم التي تنطوي عليها؛ اذ الحكمة الالهية التي اناطت حِكماً كلية كثيرة جداً بأصغر شئٍ جزئي، لايمكن ان تترك حركات الذرات سدىً من دون حكمة! تلك الحركات الجارية في سيل الكائنات، والتي تبدي فعالية عظمى في الوجود، والتي هي سبب لإبراز البدائع الحكيمة.

ثم ان الحكمة الالهية وحاكميتها، التي لا تهمل اصغر مخلوق دون أجر، أو دون كمال، أو دون مقام، لما يقوم به من وظيفة، كيف تهمل مأموريها ومستخدميها الكثيرين جداً، الذرات.. دون نور، أو دون أجر.

ثانياً: ان الحكيم العليم يحرك العناصر ويستخدمها لاداء وظائف جليلة، فيرقيها الى درجة المعدنيات، اجراً لها في طريق الكمال.. ويحرك ذرات المعدنيات ويسخرها في وظائف ويعلّمها تسبيحاتها الخاصة بها فيمنحها المرتبة الحية للنباتات.. ويحرك ذرات النباتات ويوظفها، ويجعلها رزقاً للآخرين، فيُنعم عليها برفعها الى المرتبة اللطيفة للحيوانات.. ويستخدم ذرات الحيوانات ـ عن طريق الرزق ـ فيرفعها الى درجة الحياة الانسانية.. وبامرار ذرات جسم الانسان من خلال مصافٍ عدة مراتٍ ومرات، وتنقيتها وجعلها لطيفة، يرقيها الى ألطف مكان وأعز موقع في الجسم وهو الدماغ والقلب.

يفهم مما ذكر: ان حركات الذرات ليست سدىً وليست خالية من الحكمة، بل تُهرع الذرات وتساق الى نوع من الكمال اللائق بها.

ثالثاً: ان قسماً من ذرات الكائن الحي ـ كذرات البذور والنوى ـ ينال نوراً معنوياً، ولطافة ومزيّة، بحيث يكون بمثابة روح وسلطان على سائر الذرات، وعلى الشجرة الضخمة نفسها.

فاعتلاء هذه الذرات ـ من بين مجموع ذرات الشجرة العظيمة ـ هذه المرتبة، انما هو حصيلة ادائها وظائف دقيقة ومهمات جليلة اثناء مراحل نمو الشجرة، مما يدل على ان تلك الذرات حينما تؤدي وظيفتها الفطرية بأمر الخالق الحكيم، تنال لطافة معنوية ونوراً معنوياً ومقاماً رفيعاً وارشاداً سامياً، حسب انواع حركاتها ووفق ما يتجلى عليها من تجليات الاسماء الحسنى، وسمو تلك الاسماء.

الخلاصة:

C ان الخالق الحكيم قد عيّن لكل شئ نقطة كمال يناسب ذلك الشئ، وحدّد نورَ وجودٍ يليق به، فيسوق ذلك الشئ الى نقطة الكمال تلك، باستعداد يمنحه اياه.

فهذا القانون للربوبية مثلما هو جارٍ في جميع النباتات والحيوانات، جارٍ ايضاً في الجمادات، حتى يمنح سبحانه التراب العادي رقياً يبلغ به درجة الألماس ومرتبة الاحجار الكريمة.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون الربوبية).

C وان ذلك الخالق الكريم، اثناء تسخيره الحيوانات لإنفاذ قانون التناسل العظيم، يمنحها لذةً جزئية، أجرةً لأدائها الوظيفة. ويهب للحيوانات المستخدمة لإنفاذ اوامر ربانية ـ كالبلبل والنحل ـ اجرةَ كمالٍ راقية، مقاماً يبث الشوق والمتعة..

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو : (قانون الكرم).

C ثم ان حقيقة كل شئ تتوجه الى تجلي اسمٍ من الاسماء الالهية الحسنى، ومرتبطة بها، وهي كالمرآة العاكسة لأنواره. فذلك الشئ مهما اتخذت من اوضاع جميلة، فالجمال يعود الى شرف ذلك الاسم وسموه؛ اذ يقتضيه ذلك الاسم. فسواءٌ أعَلِم ذلك الشئ أم لم يعلم، فذلك الوضع الجميل مطلوب في نظر الحقيقة.

من هذه الحقيقة يظهر طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون التحسين والجمال).

C ثم ان ما اعطاه الفاطر الحكيم من مقام وكمال، الى شئ ما، بمقتضى دستور الكرم، لايستردّه منه عند انقضاء مدة ذلك الشئ وانتهاء عمره، بل يُبقي ثمراته، ونتائجه، وهويته المعنوية، ومعناه، وروحه ان كان ذا روح.

فمثلاً: يُبقي سبحانه وتعالى معاني الكمالات التي ينالها الانسان وثمراتها، حتى ان شكر المؤمن الشاكر وحمده على ما يأكله من فواكه زائلة، يعيده سبحانه اليه مرة اخرى على صورة فاكهة مجسمة طيبة من فواكه الجنة.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو : (قانون الرحمة).

C ثم ان الخالق الحكيم سبحانه لا يسرف في شئ قط، ولا يعمل عبثاً مطلقاً اذ يستعمل حتى الانقاض المادية للمخلوقات الميتة ـ التي انتهت مهماتُها ـ في الخريف، في بناء مخلوقات جديدة في الربيع.

لذا، فمن مقتضى الحكمة الالهية، ادراج هذه الذرات الارضية الجامدة، وغير الشاعرة، والتي انجزت وظائف جليلة في الارض في قسم من ابنية الآخرة التي هي حية وذات شعور بكل ما فيها، باحجارها واشجارها بدلالة الآية الكريمة ] يوم تبدل الارض غير الارض[ (ابراهيم:48) وباشارة الآية الكريمة ] وان الدار الاخرة لهي الحيوان[ (العنكبوت:64) ولأن ترك ذرات الدنيا المتهدمة في الدنيا نفسها، أو رميها الى العدم اسراف وعبث.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون الحكمة).

C ثم ان كثيراً جداًَ من آثار هذه الدنيا ومعنوياتها وثمراتها، ومنسوجات اعمال المكلفين ـ كالجن والانس ـ وصحائف افعالهم، وارواحهم، واجسادهم، تُرسل الى سوق الآخرة ومعرضها. فمن مقتضى العدل والحكمة ان تُرسل ايضاً الذرات الارضية التي رافقت تلك الثمرات والمعاني وخَدَمَتها مع انقاض هذه الدنيا التي ستدمّر الى العالم الاخروي وتستعمل في بنائه. وذلك بعد تكاملها تكاملاً يخصّها من حيث الوظيفة، اي بعد أن نالت نور الحياة كثيراً وخدمَتها، واصبحت وسيلة لتسبيحات حياتية.

من هذه الحقيقة ينكشف طرف من قانون عظيم هو : (قانون العدل).

C ثم ان الروح مثلما انها مهيمنة على الجسم، فالاوامر التكوينية للمواد الجامدة التي كتبها القدر الالهي، لها سلطان ايضاً على تلك المواد. فتتخذ تلك المواد مواقعها، وتسير بنظام معين وفق ما تمليه الكتابة المعنوية للقدر الالهي.

فمثلاً: في انواع البيض، واقسام النطف، واصناف النوى، واجناس البذور، تنال المواد انواراً مختلفة، مقامات متباينة، حسب تباين الاوامر التكوينية التي سطّرها القدر الالهي بانماط متنوعة واشكال متغايرة؛ اذ إن تلك المواد ـ من حيث هي مادة ـ في ماهية واحدة(1)، الاّ انها تصبح وسيلة لنشوء مالا يحد من الموجودات، فتكون صاحبة مقامات مختلفة وانوار متنوعة، فلابد اذاً لو وجدت ذرة في خدمات حياتية، ودخلت ضمن التسبيحات الربانية التي تسبح بها الحياة مرات ومرات، وادّت مهماتها هناك، فلاشك ان يُكتب في جبهتها المعنوية حِكَم تلك المعاني، ويسجلها قلمُ القدر الإلهي الذي لا يعزُب عنه شئ، وذلك بمقتضى العلم المحيط الإلهي.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون العلم المحيط).

فبناء على ما سبق: فان الذرات اذاً ليست سائبة ولا منفلتة(1).

النتيجة:

ان القوانين السبعة السابقة، اي: قانون الربوبية، وقانون الكرم، وقانون الجمال، وقانون الرحمة، وقانون الحكمة وقانون العدل، وقانون العلم المحيط.. وأمثالها من القوانين العظمى، يلوّح كلٌ منها من طرفٍ ما ينكشف منه، اسمَ الله الاعظم، وتجلٍ أعظم لذلك الاسم الاعظم. ويفهم من ذلك التجلي: ان تحولات الذرات ايضاً في هذه الدنيا ـ كسائر الموجودات ـ تجول حسب ما خطه القدر الالهي من حدود ووفق ما تعطيه القدرة الالهية من اوامر تكوينية وعلى اساس ميزان علمي حساس، لأجل حِكَمٍ سامية، وكأنها تتهيأ للرحيل الى عالم آخر أسمى!(2)

ومن هنا عدت الاجسام الحية كأنها مدرسة تتعلم فيها الذرات السائحة، ومعسكر تدريب، ومضيف تربوي لها، ويصح ان نحكم بحدس صادق أنها كذلك.

الحاصل: مثلما ذكر في (الكلمة الاولى)، واثبت هناك: ان كل شئ يقول (بسم الله). فالذرة ايضاً كجميع الموجودات وكل طائفة منها وكل جماعة من جماعاتها تقول بلسان الحال: (بسم الله) وتتحرك وفقها.

نعم! ان كل ذرة ـ بدلالة النقاط الثلاث المذكورة ـ تقول بلسان حالها في مبدأ حركتها: (بسم الله الرحمن الرحيم) اي: أتحرك باسم الله وبقوته وبحوله وباذنه وفي سبيله، ثم تقول ـ وكل طائفة منها ـ بعد انهاء حركتها بمثل ما يقوله أي مخلوق كان بلسان حاله: الحمد لله رب العالمين.

فكل ذرة تبدي نفسها في حكم ريشةِ قلمٍ صغير للقدرة الالهية في تصوير كل مخلوق بديع الذي هو بمثابة قصيدة ثناء وحمداً لله تعالى.

بل كل ذرة تبين نفسها في صورة طرف ابرة لأذرع معنوية لاحد لها لحاكٍ رباني معظم، تدور الابرة على اسطوانات ـ وهي المصنوعات الربانية ـ فتنطقها بقصائد ثناء وحمد ربانية، وتنشدها اناشيد تسبيحات إلهية..

] دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب[

اللّهم صل على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقّه اداءً

وعلى آله وصحبه واخوانه وسلّم،

وسلّمنا وسلم ديننا

آمين يارب العالمين.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:51 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة التي كشفتْ عن لغز الكون وطلسمه وحلّت سراً عظيماً من اسرار القرآن الحكيم

الكلمة الثلاثون

حرف من كتاب (أنا) الكبير

نقطة من بحر (الذرة) العظيم

هذه الكلمة عبارة عن مقصدين:

المقـصـد الاول: يبحث في ماهية (أنا) ونتائجها.

المقـصـد الثاني: يبحث في حركة (الذرة) ووظائفها.

المقصد الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] إنّا عرضنا الامانةَ على السموات والأرض والجبال فأبَيْنَ أن يحملْنَهاوأشفَقنَ منها وَحَمَلها الانسانُ إنه كان ظلوماً جهولاً[ (الاحزاب:72)

من الخزينة العظمى لهذه الآية الجليلة، سنشير الى جوهرة واحدة من جواهرها، وهي: أن الأمانة التي أبَت السمواتُ والارضُ والجبالُ ان يحملنها، لها معانٍ عدة، ولها وجوه كثيرة. فمعنىً من تلك المعاني، ووجهٌ من تلك الوجوه، هو:(أنا).

نعم ! ان (انا) بذرةٌ، نشأت منها شجرة طوبى نورانية عظيمة، وشجرة زقوم رهيبة، تمدان اغصانَهما وتنشران فروعَهما في أرجاء عالم الانسان من لدن آدم عليه السلام الى الوقت الحاضر.

وقبل ان نخوض في هذه الحقيقة الواسعة نبين بين يديها (مقدمة) تيسّر فهمها. وهي:



المقدمة

ان (انا) مفتاح؛ يفتح الكنوز المخفية للاسماء الإلهية الحسنى، كما يفتح مغاليق الكون. فهو بحد ذاته طلسمٌ عجيب، ومعمىً غريب. ولكن بمعرفة ماهية (انا) ينحَلّ ذلك الطلسم العجيب وينكشف ذلك المعمى الغريب (أنا) وينفتح بدوره لغز الكون، وكنوز عالم الوجوب.

وقد ذكرنا ما يخص هذه المسألة في رسالة (شمة من نسيم هداية القرآن) كالأتي:

((اعلم! ان مفتاح العالم بيد الانسان، وفي نفسه، فالكائنات مع انها مفتحة الابواب ظاهراً إلاّ انها منغلقة حقيقةً فالحق سبحانه وتعالى أودع من جهة الأمانة في الانسان مفتاحاً يفتح كل ابواب العالم، وطلسماً يفتح به الكنوز المخفية لخلاّق الكون، والمفتاح هو ما فيك من (انا). إلاّ ان (انا) ايضاً معمىً مغلق وطلسم منغلق. فاذا فتحتَ (انا) بمعرفة ماهيته الموهومة وسر خلقته انفتح لك طلسم الكائنات كالآتي)).

ان الله جل جلاله وضع بيد الانسان امانةً هي: (انا) الذي ينطوي على إشارات ونماذج يستدل بها على حقائق اوصاف ربوبيته الجليلة وشؤونها المقدسة. اي يكون (انا) وحدة قياسية تُعرَف بها اوصاف الربوبية وشؤون الالوهية.

ومن المعلوم انه لا يلزم ان يكون للوحدة القياسية وجود حقيقي، بل يمكن ان تركَّب وحدة قياسية بالفرض والخيال، كالخطوط الافتراضية في علم الهندسة. أي لا يلزم لـ(أنا) ان يكون له وجود حقيقي بالعلم والتحقيق.

سؤال: لِمَ ارتبطت معرفة صفات الله جلّ جلاله واسمائه الحسنى (بأنانية)(1) الانسان؟

الجواب: ان الشئ المطلق والمحيط، لا يكون له حدود ولانهاية؛ فلا يُعطى له شكل ولا يُحكَم عليه بحكم، وذلك لعدم وجود وجه تعيّنٍ وصورةٍ له؛ لذا لاتُفهم حقيقة ماهيته.

فمثلاً: الضياء الدائم الذي لا يتخلله ظلام ، لا يُشعَر به ولا يُعرَف وجودُه الاّ اذا حُدّد بظلمة حقيقية أو موهومة.

وهكذا، فان صفات الله سبحانه وتعالى كالعلم والقدرة واسماءه الحسنى كالحكيم والرحيم لانها مطلقة لا حدود لها ومحيطة بكل شئ، لا شريك لها ولاندّ، لايمكن الاحاطة بها أو تقييدها بشئ، فلا تُعرف ماهيتها، ولا يُشعر بها؛ لذا لابد من وضع حدٍّ فرضي وخيالي لتلك الصفات والاسماء المطلقة، ليكون وسيلة لفهمها حيث لا حدود ولا نهاية حقيقية لها وهذا ما تفعله (الانانية) أي ما يقوم به (انا)؛ اذ يتصور في نفسه ربوبيةً موهومة، ومالكيةً مفترضة وقدرة وعلماً، فيحدّ حدوداً معينة، ويضع بها حداً موهوماً لصفاتٍ محيطة واسماء مطلقة فيقول مثلاً: من هنا الى هناك لي، ومن بعده يعود الى تلك الصفات. أي: يضع نوعاً من تقسيم الامور، ويستعد بهذا الى فهم ماهية تلك الصفات غير المحدودة شيئاً فشيئاً، وذلك بما لديه من موازين صغيرة ومقاييس بسيطة.

فمثلاً: يفهم بربوبيته الموهومة التي يتصورها في دائرة مُلكه، ربوبيةَ خالقه المطلقة سبحانه وتعالى في دائرة الممكنات.

ويدرك بمالكيته الظاهرية، مالكيةَ خالقه الحقيقية، فيقول: كما انني مالك لهذا البيت فالخالق سبحانه كذلك مالك لهذا الكون.

ويعلم بعلمه الجزئي، علمَ الله المطلق.

ويعرف بمهارته المكتسبة الجزئية، بدائعَ الصانع الجليل، فيقول مثلاً: كما انني شيدتُ هذه الدار ونظّمتها، كذلك لابد من منشئ لدار الدنيا ومنظّم لها.

وهكذا.. فقد اندرجت في (أنا) آلاف الاحوال والصفات والمشاعر المنطوية على آلاف الاسرار المغلقة التي تستطيع ان تدل وتبيّن ـ الى حدٍ ما ـ الصفات الإلهية وشؤونها الحكيمة كلها.

أي أن (أنا) لايحمل في ذاته معنىً، بل يدل على معنىً في غيره ؛ كالمرآة العاكسة، والوحدة القياسية، وآلة الانكشاف، والمعنى الحرفي فهو شعرةٌ حساسة من حبل وجود الانسان الجسيم وهو خيط رفيع من نسيج ثوب ماهية البشر.. وهو حرف (ألفٍ) في كتاب شخصية بنى آدم، بحيث ان ذلك الحرف له وجهان:

وجه متوجه الى الخير والوجود؛ فهو في هذا الوجه يتلقى الفيض ويقبله فحسب، أي يقبل الإفاضة عليه فقط؛ اذ هو عاجز عن ايجاد شئ في هذا الوجه، أي: ليس فاعلاً فيه، لأن يده قصيرة لا تملك قدرة الايجاد.

والوجه الآخر متوجه الى الشر، ويُفضي الى العدم؛ فهو في هذا الوجه فاعل، وصاحب فعل.

ثم ان ماهية (أنا) حرفية، أي يدل على معنىً في غيره، فربوبيته خيالية، ووجوده ضعيف وهزيل الى حدٍ لايطيق ان يحمل بذاته اي شئ كان، ولا يطيق ان يُحمَل عليه شئ، بل هو ميزان ليس إلاّ؛ يبين صفات الله تعالى التي هي مطلقة ومحيطة بكل شئ، بمثل ما يبيّن ميزانُ الحرارة وميزان الهواء والموازين الاخرى مقاديرَ الاشياء ودرجاتها.

فالذي يعرف ماهية (أنا) على هذا الوجه، ويذعن له، ثم يعمل وفق ذلك، وبمقتضاه، يدخل ضمن بشارة قوله تعالى ] قد أفلح مَن زكّيها[ (الشمس:9) ويكون قد أدى الأمانة حقها فيدرك بمنظار (أنا) حقيقة الكائنات والوظائف التي تؤديها. وعندما ترد المعلومات من الآفاق الخارجية الى النفس تجد في (أنا) ما يصدّقها، فتستقر تلك المعلومات علوماً نورانية وحكمة صائبة في النفس، ولا تنقلب الى ظلمات العبثية.

وحينما يؤدي (انا) وظيفته على هذه الصورة، يترك ربوبيته الموهومة ومالكيتَه المفترضة ـ التي هي وحدة قياس ليس إلاّ ـ ويفوّض المُلكَ لله وحده قائلاً: له الملك، وله الحمد، وله الحكم واليه ترجعون، فيلبس لباس عبوديته الحقّة، ويرتقي الى مقام أحسن تقويم.

ولكن اذا نسي (أنا) حكمة خلقه، ونظر الى نفسه بالمعنى الاسمي،تاركاً وظيفته الفطرية،معتقداً بنفسه أنه المالك، فقد خان الأمانة، ودخل ضمن النذير الإلهي:

] وقد خَابَ مَن دسّيها[ (الشمس: 10).

وهكذا فإن إشفاق السموات والارض والجبال من حمل الأمانة، ورهبتهن من شرك موهوم مفترض، انما هو من هذا الوجه من ( الانانية) التي تُولِّد جميع انواع الشرك والشرور والضلالات.

اجل! إن(انا) مع انه ألفٌ رقيق، خيطٌ دقيق، خطٌ مفترض، إلاّ انه ان لم تُعرف ماهيته ينمو في الخفاء ـ كنمو البذرة تحت التراب ـ ويكبر شيئاً فشيئاً، حتى ينتشر في جميع انحاء وجود الانسان، فيبتلعه ابتلاع الثعبان الضخم، فيكون ذلك الانسان بكامله وبجميع لطائفه ومشاعره عبارة عن (أنا). ثم تمده (أنانية) النوع نافخة فيه روح العصبية النوعية والقومية، فيستغلظ بالاستناد على هذه (الانانية) حتى يصيرَ كالشيطان الرجيم يتحدى أوامرالله ويعارضها. ثم يبدأ بقياس كل الناس، بل كل الاشياء على نفسه ووفق هواه، فيقسم مُلك الله سبحانه على تلك الاشياء، وعلى الاسباب فيتردى في شرك عظيم ، يتبيّن فيه معنى الآية الكريمة ] إن الشرك لظلم عظيم[ (لقمان:13). اذ كما ان الذي يسرق اربعين ديناراً من اموال الدولة لابد ان يرضي اصدقاءه الحاضرين معه بأخذ كل منهم درهماً منه كي تسوَّغ له السرقة، كذلك الذي يقول: انني مالك لنفسي، لابد من أن يقول ويعتقد: ان كل شئ مالك لنفسه!

وهكذا، فـ(أنا) في وضعه هذا، المتلبس بالخيانة للامانة، انما هو في جهل مطبق بل هو أجهل الجهلاء، يتخبط في درك جهالة مركبة حتى لو علِمَ آلاف العلوم والفنون، ذلك لأن ما تتلقفه حواسُه وافكارُه من انوار المعرفة المبثوثة في رحاب الكون لايجد في نفسه مادةً تصدّقه وتنوّره وتديمه، لذا تنطفئ كل تلك المعارف، وتغدو ظلاماً دامساً؛ اذ ينصبغ كل ما يرِد اليه بصبغة نفسه المظلمة القاتمة، حتى لو وردت حكمةٌ محضة باهرة فانها تلبس في نفسه لبوس العبث المطلق؛ لأن لون (انا) في هذه الحالة هو الشرك وتعطيل الخالق من صفاته الجليلة وانكار وجوده تعالى. بل لو امتلأ الكون كله بآيات ساطعات ومصابيح هدىً فان النقطة المظلمة الموجودة في (انا) تكسف جميع تلك الانوار القادمة، وتحجبها عن الظهور.

ولقد فصّلنا القول في (الكلمة الحادية عشرة) عن الماهية الانسانية و (الانانية) التي فيها من حيث المعنى الحرفي. واثبتنا هناك اثباتاً قاطعاً كيف انها ميزان حساس للكون، ومقياس صائب دقيق، وفهرس شامل محيط، وخريطة كاملة، ومرآة جامعة، وتقويم جامع. فمن شاء فليراجع تلك الرسالة.

الى هنا نختم المقدمة، مكتفين بما في تلك الرسالة من تفصيل.

فيا اخي القارئ، اذا استوعبت هذه المقدمة، فهيا لندخل معاً الى الحقيقة نفسها.

ان في تاريخ البشرية ـ منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام الى الوقت الحاضرـ تيارين عظيمين وسلسلتين للافكار، يجريان عبر الازمنة والعصور، كأنهما شجرتان ضخمتان أرسلتا اغصانَهما وفروعَهما في كل صوب، وفي كل طبقة من طبقات الانسانية.

احداهما: سلسلة النبوة والدين

والاخرى: سلسلة الفلسفة والحكمة

فمتى كانت هاتان السلسلتان متحدتين وممتزجتين، أي في أي وقت أو عصر إستجارت الفلسفة بالدين وانقادت اليه واصبحت في طاعته، انتعشت الانسانية بالسعادة وعاشت حياة اجتماعية هنيئة. ومتى ما انفرجت الشقة بينهما وافترقتا، احتشد النور والخير كله حول سلسلة النبوة والدين، وتجمعت الشرور والضلالات كلها حول سلسلة الفلسفة.

والآن لنجد منشأ كلٍ من تلكما السلسلتين وأساسهما:

فان سلسلة الفلسفة التي عصت الدين، اتخذت صورة شجرة زقوم خبيثة تنشر ظلمات الشرك وتنثر الضلالة حولها. حتى انها سلّمت الى يد عقول البشر، في غصن القوة العقلية، ثمرات الدهريين والماديين والطبيعيين .. وألقت على رأس البشرية، في غصن القوة الغضبية ، ثمرات النماريد والفراعنة والشدادين(1).. وربّت، في غصن القوة الشهوية البهيمية، ثمرات الآلهة والاصنام ومدّعي الالوهية.

وبجانب هذه الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، نشأت شجرةُ طوبى العبودية لله، تلك هي سلسلة النبوة، فاثمرت ثمرات يانعة طيبة في بستان الكرة الارضية، ومدّتها الى البشرية، فتدلـّت قطوفاً دانية من غصن القوة العقلية: انبياء ومرسلون وصديقون واولياء صالحون.. كما اثمرت في غصن القوة الدافعة: حكاماً عادلين وملوكاً طاهرين طهر الملائكة.. واثمرت في غصن القوة الجاذبة: كرماء واسخياء ذوي مروءة وشهامة في حسن سيرة وجمال صورة ذات عفة وبراءة.. حتى اظهرت تلك الشجرة المباركة:

ان الانسان هو حقاً اكرم ثمرة لشجرة الكون.

وهكذا فمنشأ هذه الشجرة المباركة، ومنشأ تلك الشجرة الخبيثة، هما جهتا (انا) ووجهاه، أي أن (انا) الذي أصبح بذرة أصلية لتلكما الشجرتين، صار وجهاه منشأ كلٍ منهما.

وسنبين ذلك بالآتي:

ان النبوة تمضي آخذة وجهاً لـ (انا).

والفلسفة تُقبل آخذةً الوجه الآخر لـ (انا).

فالوجه الأول الذي يتطلع الى حقائق النبوة:

هذا الوجه منشأ العبودية الخالصة لله. أي أن (انا):

يعرف أنه عبدٌ لله، ومطيع لمعبوده..

ويفهم ان ماهيته حرفية، أي دال على معنىً في غيره..

ويعتقد ان وجوده تَبَعي، أي قائم بوجود غيره وبايجاده..

ويعلم ان مالكيته للاشياء وهمية، أي: ان له مالكية موقتة ظاهرية باذن مالكه الحقيقي..

وحقيقته ظلية ـ ليست اصيلة ـ أي انه ممكنٌ مخلوق هزيل، وظلٌ ضعيف يعكس تجلياً لحقيقة واجبة حقة..

أما وظيفته فهي القيام بطاعة مولاه، طاعة ً شعوريةً كاملة، لكونه ميزاناً لمعرفة صفات خالقه، ومقياساً للتعرف على شؤونه سبحانه.

هكذا نظر الانبياء والمرسلون عليهم السلام، ومَن تبعهم من الاصفياء والاولياء، الى (انا) بهذا الوجه. وشاهدوه على حقيقته هكذا. فادركوا الحقيقة الصائبة، وفوّضوا المُلك كله الى مالك الملك ذي الجلال، واقرّوا جميعاًً، ان ذلك المالك جل وعلا لا شريك له ولا نظير، لا في ملكه ولا في ربوبيته ولافي الوهيته، وهو المتعال الذي لايحتاج الى شئ، فلا معين له ولا وزير، بيده مقاليد كل شئ وهو على كل شئ قدير. وما (الاسباب) إلاّ أستار وحُجب ظاهرية تدل على قدرته وعظمته.. وما (الطبيعة) إلاّ شريعته الفطرية، ومجموعة قوانينه الجارية في الكون، اظهاراً لقدرته وعظمته جل جلاله.

فهذا الوجه الوضئ المنور الجميل، قد أخذ حكم بذرة حية ذات مغزىً وحكمة. خلق الله جل وعلا منها شجرة طوبى العبودية، امتدت اغصانُها المباركة الى انحاء عالم البشرية كافة وزيّنته بثمراتٍ طيبةٍ ساطعة، بدّدت ظلمات الماضي كلها، واثبتت بحق ان ذلك الزمن الغابر المديد ليس كما تراه الفلسفة مقبرةً شاسعة موحشة، وميدان إعدامات مخيفة، بل هو روضة من رياض النور، للارواح التي ألقت عبئها الثقيل لتغادر الدنيا طليقة، وهو مدار أنوار ومعراج منّور متفاوتة الدرجات لتلك الارواح الآفلة لتتنقل الى الآخرة والى المستقبل الزاهر والسعادة الابدية.

أما الوجه الثاني: فقد اتخذته الفلسفة، وقد نظرت الى (انا) بالمعنى الاسمي. أي تقول: ان (انا) يدل على نفسه بنفسه..

وتقضي ان معناه في ذاته، ويعمل لأجل نفسه..

وتتلقى ان وجوده أصيل ذاتي ـ وليس ظلاً ـ أي له ذاتية خاصة به..

وتزعم ان له حقاً في الحياة، وانه مالك حقيقي في دائرة تصرفه، وتظن زعمها حقيقة ثابتة..

وتفهم ان وظيفته هي الرقي والتكامل الذاتي الناشئ من حب ذاته.

وهكذا أسندوا مسلكهم الى اسس فاسدة كثيرة وبنوها على تلك الاسس المنهارة الواهية. وقد اثبتنا بقطعية تامة مدى تفاهة تلك الاسس ومدى فسادها في رسائل كثيرة ولا سيما في (الكلمات) وبالاخص في (الكلمة الثانية عشرة) و(الخامسة والعشرين) الخاصة بالمعجزات القرآنية.

ولقد اعتقد عظماء الفلسفة وروادها ودهاتها، امثال افلاطون وارسطو وابن سينا والفارابي ـ بناء على تلك الاسس الفاسدة ـ بأن الغاية القصوى لكمال الانسانية هي (التشبّه بالواجب)! أي بالخالق جلّ وعلا، فاطلقوه حكماً فرعونياً طاغياً، ومهّدوا الطريق لكثير من الطوائف المتلبسة بأنواع من الشرك، امثال: عَبدة الاسباب وعَبدة الاصنام وعبدة الطبيعة وعبدة النجوم، وذلك بتهييجهم (الانانية) لتجري طليقة في اودية الشرك والضلالة، فسدّوا سبيل العبودية الى الله، وغلّقوا ابواب العجز والضعف والفقر والحاجة والقصور والنقص المندرجة في فطرة الانسان، فضلوا في أوحال الطبيعة ولا نجوا من حمأة الشرك كلياً ولا اهتدوا الى باب الشكر الواسع.

بينما الذين هم في مسار النبوة: فقد حكموا حكماً ملؤه العبودية الخالصة للّه وحده، وقضوا: ان الغاية القصوى للانسانية والوظيفة الاساسية للبشرية هي التخلق بالاخلاق الإلهية، اي التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة ـ التي يأمر بها الله سبحانه ـ وان يعلم الانسانُ عجزَه فيلتجىء الى قدرته تعالى، ويرى ضعفَه فيحتمي بقوته تعالى، ويشاهد فقره فيلوذ برحمته تعالى، وينظر الى حاجته فيستمد من غناه تعالى، ويعرف قصوره فيستغفر ربه تعالى، ويلمس نقصه فيسبّح ويقدّس كماله تعالى.

وهكذا فلأن الفلسفة العاصية للدين قد ضلت ضلالاً بعيداً، صار (انا) ماسكاً بزمام نفسه، مسارعاً الى كل نوع من انواع الضلالة.

وهكذا نبتت شجرة زقوم على قمة هذا الوجه من (انا) غطت بضلالها نصف البشرية وحادت بهم عن سواء السبيل. أما الثمرات التي قدمتها تلك الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، الى انظار البشر فهي الاصنام والآلهة في غصن القوة البهيمية الشهوية؛ اذ الفلسفة تحبذ أصلاً القوة، وتتخذها اساساً وقاعدة مقررة لنهجها، حتى ان مبدأ (الحكم للغالب) دستور من دساتيرها، وتأخذ بمبدأ (الحق في القوة)(1) فاعجبتْ ضمناً بالظلم والعدوان، وحثت الطغاة والظلمة والجبابرة العتاة حتى ساقتهم الى دعوى الالوهية.

ثم انها ملّكت الجمال في المخلوقات، والحُسن في صورها، الى المخلوق نفسه، والى الصورة نفسها، متناسية نسبة ذلك الجمال الى تجلي الجمال المقدس للخالق الجميل والحُسن المنزّه للمصور البديع، فتقول: (ما أجملَ هذا!) بدلاً من أن تقول: (ما أجمل خلقَ هذا)! أي: جعلت ذلك الجمال في حكم صنم جدير بالعبادة!

ثم انها استحسنت مظاهر الشهرة، والحسن الظاهر للرياء والسمعة.. لذا حبّذت المرائين، ودفعتهم الى التمادي في غيّهم جاعلة من امثال الاصنام عابدةً لعبّادها(2).

وربّت في غصن القوة الغضبية على رؤوس البشر المساكين، الفراعنة والنماريد والطغاة صغاراً وكباراً.

أما في غصن القوة العقلية، فقد وضعت الدهريين والماديين والطبيعيين، وامثالهم من الثمرات الخبيثة في عقل الانسانية، فشتتت عقل الانسان أي تشتيت.

وبعد.. فلأجل توضيح هذه الحقيقة، نعقد مقارنة بين نتائج نشأت من الاسس الفاسدة لمسلك الفلسفة، ونتائج تولدت من الاسس الصائبة لمسار النبوة، وسنقصر الكلام في بضعة امثلة فقط من بين الاف المقارنات بينهما.

المثال الاول:

من القواعد المقررة للنبوة في حياة الانسان الشخصية، التخلق باخلاق الله. أي كونوا عباد الله المخلصين، متحلين باخلاق الله محتمين بحماه معترفين في قرارة انفسكم بعجزكم وفقركم وقصوركم.

فأين هذه القاعدة الجليلة من قول الفلسفة: (تشبهوا بالواجب)! التي تقررها غايةً قصوى للانسانية!

اين ماهية الانسان التي عجنت بالعجز والضعف والفقر والحاجة غير المحدودة من ماهية واجب الوجود، وهو الله القدير القوي الغني المتعال!!

المثال الثاني:

من القواعد الثابتة للنبوة في الحياة الاجتماعية، ان (التعاون) دستور مهيمن على الكون، ابتداءً من الشمس والقمر الى النباتات والحيوانات، فترى النباتات تمد الحيوانات، والحيوانات تمد الانسان، بل ذرات الطعام تمدّ خلايا الجسم وتعاونها.

فأين هذا الدستور القويم دستور التعاون وقانون الكرم وناموس الاكرام من دستور (الصراع) الذي تقول به الفلسفة من انه الحاكم على الحياة الاجتماعية، علماً ان (الصراع) ناشئ فقط لدى بعض الظلمة والوحوش الكاسرة من جراء سوء استعمال فطرتهم، بل أوغلت الفلسفة في ضلالها حتى اتخذت دستور (الصراع) هذا حاكماً مهيمناً على الموجودات كافة، فقررت ببلاهة متناهية:(ان الحياة جدال وصراع).

المثال الثالث:

من النتائج المثلى للنبوة ومن قواعدها السامية في التوحيد، أن (الواحد لا يصدر إلاّ عن الواحد)، أي ان كل مالَه وحدةٌ لا يصدر إلاّ عن الواحد؛ اذ ما دامت في كل شئ ، وفي الاشياء كلها، وحدة ظاهرة، فلابد انها من ايجاد ذاتٍ واحدة. بينما دستور الفلسفة القديمة وعقيدتها هو (ان الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد) أي لا يصدر عن ذات واحدة إلاّ شئ واحد، ثم الاشياء الاخرى تصدر بتوسط الوسائط. هذه القاعدة للفلسفة القديمة تعطي للاسباب القائمة والوسائط نوعاً من الشراكة في الربوبية، وتُظهر ان القدير على كل شئ والغني المطلق والمستغني عن كل شئ بحاجة الى وسائط عاجزة! بل ضلوا ضلالاً بعيداً فأطلقوا على الخالق جل وعلا اسم مخلوق وهو (العقل الاول)! وقسّموا سائر ملكه بين الوسائط، ففتحوا الطريق الى شرك عظيم.

فاين ذلك الدستور التوحيدي للنبوة من هذه القاعدة ــ للفلسفة القديمة السقيمة ــ الملوثة بالشرك والملطخة بالضلالة؟

فان كان الاشراقيون الذين هم أرقى الفلاسفة والحكماء فهماً يتفوهون بهذا السخف من الكلام، فكيف يكون يا ترى كلام مَن هم دونهم في الفلسفة والحكمة من ماديين وطبيعيين؟.

المثال الرابع:

انه من الدساتير الحكيمة للنبوة، ان لكل شئ حِكَماً كثيرة ومنافع شتى حتى ان للثمرة من الحِكَمِ ما يُعدّ بعدد ثمرات الشجرة، كما تُفهم من الآية الكريمة وان من شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده فان كانت هناك نتيجة واحدة ـ لخلقِ ذي حياةٍ ـ متوجهة الى المخلوق نفسه، وحكمة واحدة من وجوده تعود اليه، فان آلافاً من النتائج تعود الى خالقه الحكيم وآلافاً من الحكم تتوجه الى فاطره الجليل.

أما دستور الفلسفة فهو (ان حكمة خلقِ كلِ كائن حي وفائدته متوجهة الى نفسه، أو تعود الى منافع الانسان ومصالحه)! هذه القاعدة تسلب من الموجودات حِكَماً كثيرة انيطت بها، وتعطي ثمرة جزئية كحبة من خردل الى شجرة ضخمة هائلة، فتحوّل الموجودات الى عبث لاطائل من ورائه.

فاين تلك الحكمة الصائبة من هذه القواعد الفاسدة للفلسفة ـ الفارغة من الحكمة ـ التي تصبغ الوجود كله بالعبث!.

ولقد قصرنا الكلام هنا على هذا القدر، حيث اننا قد بحثنا هذه الحقيقة في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة بشئ من التفصيل.

وبعد.. فيمكنك ان تقيس على منوال هذه الامثلة الاربعة آلافاً من النماذج والأمثلة وقد أشرنا الى قسمٍ منها في رسالة (اللوامع).

ونظراً لاستناد الفلسفة الى مثل هذه الاسس السقيمة ولنتائجها الوخيمة فان فلاسفة الاسلام الدهاة، الذين غرّهم مظهر الفلسفة البراق، فانساقوا الى طريقها كابن سينا والفارابي، لم ينالوا إلاّ أدنى درجة الايمان، درجة المؤمن العادي، بل لم يمنحهم حجة الاسلام الامام الغزالي حتى تلك الدرجة.

وكذا ائمة المعتزلة، وهم من علماء الكلام المتبحرين، فلأنهم افتتنوا بالفلسفة وزينتها واوثقوا صلتهم بها، وحكّموا العقل، لم يظفروا بسوى درجة المؤمن المبتدع الفاسق.

وكذا ابو العلاء المعري الذي هو من أعلام ادباء المسلمين والمعروف بتشاؤمه، وعمر الخيام الموصوف بنحيبه اليتمي، وامثالهما من الادباء الاعلام ممن استهوتهم الفلسفة، وانبهرت نفوسهم الامارة بها.. فهؤلاء .. قد تلقوا صفعة تأديب ولطمة تحقير وتكفير من قبل اهل الحقيقة والكمال، فزجروهم قائلين: (ايها السفهاء انتم تمارسون السفه وسوء الادب، وتسلكون سبيل الزندقة، وتربّون الزنادقة في احضان أدبكم!).

ثم ان من نتائج الاسس الفاسدة للفلسفة: ان (انا) الذي ليس له في ذاته إلاّ ماهية ضعيفة كأنه هواء أو بخار، لكن بشؤم نظر الفلسفة، ورؤيتها الاشياء بالمعنى الاسمي، يتميع. ثم بسبب الأُلفة والتوغل في الماديات والشهوات كأنه يتصلب، ثم تعتريه الغفلة والإنكار فتتجمد تلك (الانانية). ثم بالعصيان ـ لاوامر الله ـ يتكدر (أنا) ويفقد شفافيته ويصبح قاتماً. ثم يستغلظ شيئاً فشيئاً حتى يبتلع صاحبه. بل لا يقف (أنا) عند هذا الحد وانما ينتفخ ويتوسع بافكار الانسان ويبدأ بقياس الناس، وحتى الاسباب، على نفسه، فيمنحها فرعونية طاغية ـ رغم رفضها واستعاذتها منها ـ وعند ذلك يأخذ طور الخصم للاوامر الإلهية فيقول:

] من يحي العظام وهي رميم[ (يس:78) وكأنه يتحدى الله عزوجل، ويتهم القدير على كل شئ بالعجز، ثم يبلغ به الأمر ان يتدخل في اوصاف الله الجليلة، فينكر أو يحرّف أو يردّ كل ما لا يلائم هواه، أو لا تعجب فرعونيةَ نفسه. فمثلاً:

اطلقت طائفة من الفلاسفة على الله سبحانه وتعالى: اسم (الموجب بالذات) فنفوا الارادة والاختيار منه تعالى، مكذّبين شهادة جميع الكون على ارادته الطليقة.

فيا سبحان الله! ما اعجب هذا الانسان! ان الموجودات قاطبةً من الذرات الى الشموس لتدل دلالة واضحة على ارادة الخالق الحكيم؛ بتعيّناتها، وانتظامها، وحِكَمها، وموازينها، كيف لا تراها عينُ الفلسفة؟ أعمى الله أبصارهم!

وادّعت طائفة اخرى من الفلاسفة: (ان العلم الإلهي لا يتعلق بالجزئيات) نافين إحاطة علم الله سبحانه بكل شئ، رافضين شهادة الموجودات الصادقة على علمه المحيط بكل شئ.

ثم ان الفلسفة تمنح التأثير للأسباب، وتعطي بيد الطبيعة الايجاد والابداع، فلا ترى الآيات المتلألئة على كل موجود، الدالة على الخالق العظيم ـ كما اثبتناه في (الكلمة الثانية والعشرين) ـ فضلاً عن انها تسند خلق قسم من الموجودات ـ التي هي مكاتيب إلهية صمدانية ـ الى الطبيعة العاجزة الجامدة الفاقدة للشعور، والتي ليست في يديها إلاّ المصادفة العشواء والقوة العمياء، جاعلة لها ـ أي للطبيعة ــ مصدرية في خلق الاشياء، وفاعلية في التأثير! فحجبت آلاف الحِكم المندرجة في الموجودات.

ثم ان الفلسفة لم تهتد الى باب الآخرة الواسع، فانكرت الحشر وادّعت أزلية الارواح، علماً ان الله عز وجل بجميع اسمائه الحسنى، والكون بجميع حقائقه والانبياء والرسل الكرام عليهم السلام بجميع ما جاءوا من الحقائق، والكتب السماوية بجميع آياتها الكريمة.. تبيّن الحشر والآخرة، كما اثبتناه في الكلمة العاشرة (الحشر).

وهكذا يمكنك ان تقيس سائر مسائل الفلسفة على هذه الخرافات السخيفة.

أجل! لكأن الشياطين اختطفوا عقول الفلاسفة الملحدين بمنقار " أنا " ومخاليبه وألقوها في أودية الضلالة، ومزقوها شر ممزق.

فـ(أنا) في العالم الصغير ـ الانسان ـ كالطبيعة في العالم الكبير، كلاهما من الطواغيت:] فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم[ (البقرة : 256).

* * *

ولقد رأيت حادثة مثالية قبل الشروع بتأليف هذه الرسالة بثماني سنوات، عندما كنت في استانبول شهر رمضان المبارك، وكان آنئذٍ سعيد القديم ـ الذي انشغل بالفلسفة ـ على وشك ان ينقلب الى سعيد الجديد.. في هذه الفترة بالذات وحينما كنت أتأمل في المسالك الثلاثة المشارة اليها في ختام سورة الفاتحة بـ ] صراط الذين انعمت عليهم غير المغـضوب عليهم ولا الـضالين[ رأيت تلك الحادثة الخيالية وهي حادثة أشبه ما يكون بالرؤيا. سجلتها في حينها في كتابي (اللوامع) على صورة سياحة خيالية وبما يشبه النظم. وقد حان الآن وقت ذكر معناها وشرحها، حيث انها تسلط الاضواء على الحقيقة المذكورة.

كنت ارى نفسي وسط صحراء شاسعة عظيمة، وقد تلبدت السماء بسحب قاتمة مظلمة، الأنفاس تكاد تختنق على الارض كافة. فلا نسيم ولا ضياء ولا ماء. كل ذلك مفقود.

توهمت ان الارض ملأى بالوحوش والضوارى والحيوانات الضارة. فخطر على قلبي ان في الجهة الاخرى من الارض يوجد نسيم عليل وماء عذب وضياء جميل، فلا مناص اذاً من العبور الى هناك.. ثم وجدتنى وانا اُساق الى هناك دون ارادتي.. دخلت كهفاً تحت الارض، اشبه ما يكون بانفاق الجبال، سرتُ في جوف الارض خطوة خطوة وانا اشاهد أن كثيرين قد سبقوني في المضي من هذا الطريق تحت الارض، دون ان يكملوا السير اذ ظلوا في اماكنهم مختنقين، فكنت أرى آثار اقدامهم، واسمع ـ حيناً ـ اصوات عددٍ منهم .. ثم تنقطع الاصوات.

فيا صديقي الذي يرافقني بخياله في سياحتي الخيالية هذه!

ان تلك الارض هي (الطبيعة) و (الفلسفة الطبيعية). اماالنفق فهو المسلك الذي شقه اهل الفلسفة بافكارهم لبلوغ الحقيقة.أما آثار الاقدام التي رأيتها فهي لمشاهير الفلاسفة كافلاطون وارسطو(1). وما سمعته من اصوات هو أصوات الدهاة كابن سينا والفارابي.. نعم كنت أجد اقوالاً لإبن سينا وقوانين له في عدد من الاماكن، ولكن كانت الاصوات تنقطع كلياً، بمعنى انه لم يستطع ان يتقدم، أي انه اختنق.. وعلى كل حال فقد بينت لك بعض الحقائق الكامنة تحت الخيال لأخفف عنك تلهفك وتشوقك.. والآن اعود الى ذكر سياحتي:

استمر بي السير، واذا بشيئين يجعلان بيدي.

الاول: مصباح كهربائي، يبدد ظلمات كثيفة للطبيعة تحت الارض.

والآخر: آلة عظيمة، تفتت صخوراً ضخمة هائلة امثال الجبال.. فينفتح لي الطريق.

وهُمِس في اذني آنذاك: ان هذا المصباح والآلة، قد منحتا لك من خزينة القرآن الكريم.. وهكذا فقد سرت مدة على هذا المنوال، حتى رأيت نفسي قد وصلت الى الجهة الاخرى، فاذا الشمس مشرقة في سماء صافية جميلة لا سحاب فيها، واليوم يوم ربيع بهيج، والنسيم يهب كأن فيه الروح، والماء السلسبيل العذب يجري. فقد رأيت عالَماً عمّته البهجة ودبّ الفرح في كل مكان، فحمدتُ الله.

ثم نظرت الى نفسي، فرأيت اني لا املكها ولا استطيع السيطرة عليها، بل ان احدهم يختبرني، وعلى حين غرة رأيت نفسي مرة اخرى في تلك الصحراء الشاسعة، وقد اطبقت السحب القاتمة ايضاً فاظلمت السماء، والانفاس تكاد تختنق من الضيق.. واحسست سائقاً يسوقني الى طريق آخر، اذ رأيت أني أسير في هذه المرة على الارض وليس في جوفها في طريقي الى الجهة الاخرى..فرأيت في سيرى هذا اموراً عجيبة ومشاهد غريبة تكاد لا توصف؛ فالبحر غاضب عليّ، والعاصفة تهددني وكل شئ يلقي امامي العوائق والمصاعب. إلاّ ان تلك المشاكل تُذلّل بفضل ما وُهب لي من القرآن الكريم من وسيلة سياحية. فكنت اتغلب عليها بتلك الوسيلة.. وبدأت اقطع السير خطوة خطوة، شاهدت اشلاء السائحين وجنائزهم ملقاة على طرفي الطريق، هنا وهناك فلم يُنهِ إلاّ واحدٌ من ألفٍ هذه السياحة.. وعلى كل حال فقد نجوت من ظلمات تلك السحب الخانقة، ووصلت الى الجهة الاخرى من الارض، وقابلت الشمس الحقيقية الجميلة، وتنفستُ النسيم العليل، وبدأت اجول في ذلك العالم البهيج كالجنة، وانا اردد: الحمد للّه.

ثم رأيت انني لن اُترَك هنا، فهناك مَن كأنه يريد أن يرينى طريقاً آخر، فأرجعَني في الحال الى ما كنت عليه.. تلك الصحراء الشاسعة.. فنظرت فاذا اشياء نازلة من الاعلى كنزول المصاعد (الكهربائية) بأشكال متباينة وانماط مختلفة بعضها يشبه الطائرات وبعضها شبيه بالسيارات، واخرى كالسلال المتدلية.. وهكذا. فايّما انسان يمكن أن يتعلق بأحدى تلك الاشياء، حسب قابليته وقوته، فانه يُعرج به الى الاعلى.. فركبت احداها، واذا أنا في دقيقة واحدة فوق السحب وعلى جبال جميلة مخضوضرة، بل لا تبلغ السحب منتصف تلك الجبال الشاهقة.. ويُشاهد في كل مكان اجمل ضياء، وأعذب ماء وألطف نسيم.. وحينما سرحت نظري الى الجهات كلها رأيت أن تلك المنازل النورانية ـ الشبيهة بالمصاعد ـ منتشرة في كل مكان. ولقد كنت شاهدت مثلها في الجهة الاخرى من الارض في تلكما السياحتين السابقتين.. ولكن لم افهم منها شيئاً، بيد اني الآن افهم أن هذه المنازل انما هي تجليات لآيات القرآن الحكيم.

وهكذا فالطريق الاول: هو طريق الضالين المشـار اليـه بـ ] الـضالين[ وهو مسلك الذين زلّوا الى مفهوم (الطبيعة) وتبنّوا افكار الطبيعيين.. وقد شعرتم مدى صعوبة الوصول الى الحقيقة من خلال هذا السير الملئ بالمشكلات والعوائق.

والطريق الثاني: المشار اليه بـ ] المغـضوب عليهم[ فهو مسلك عَبَدة الاسباب والذين يحيلون الخلق والايجاد الى الوسائط، ويسندون اليها التأثير، ويريدون بلوغ حقيقة الحقائق، ومعرفة الله جل جلاله عن طريق العقل والفكر وحده، كالحكماء المشائيين.

أما الطريق الثالث: المشار اليه بـ ] الذين انعمت عليهم[ فهو الصراط المستقيم والجادة النورانية لأهل القرآن، وهو أقصر الطرق وأسلمه وايسره، ومفتوح امام الناس كافة ليسلكوه، وهو مسلك سماوي رحماني نوراني.





























المقصد الثاني

((يخص تحولات الذرات))

يشير الى ذرة من خزينة هذه الآية الكريمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

] وقال الذين كفروا لاتأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينّـكم عالِمِ الغيب لا يعزب عنه مثقالُ ذرّة في السموات ولا في الارض ولا اصغرُ من ذلك ولا اكبرُ إلا في كتابٍ مبين[ (سورة سبأ: 3).

[ يبين هذا المقصد مثقال ذرة من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، أي: يبين الجوهر الذي تنطوي عليه صنُيديقة الذرة، ويتناول جزءاً ضئيلاً جداً من حركة الذرة ووظيفتها؛ وذلك في نقاط ثلاث مع مقدمة ].



المقدمة

ان تحولات الذرات وجولانها عبارة عن اهتزازات الذرات وتنقلها اثناء كتابة قلم القدرة الإلهية للايات التكوينية في كتاب الكون. فهي ليست كما يتوهمه الماديون والطبيعيون من أنها ألعوبة المصادفة في حركة عشوائية لا معنى لها ولا مغزى؛ ذلك لأن كل ذرة، وكل الذرات تقول في مبدأ حركتها: (بسم الله) ـ كما تقوله جميع الموجودات ـ حيث أنها تحمل أثقالاً هائلة تفوق كثيراً طاقتها المتناهية، كحمل بذرة الصنوبر على اكتافها شجرتها الضخمة. ثم عند انتهاء وظيفتها تقول: (الحمد لله) حيث انها اظهرت أثراً بديعاً كأنه ينشد قصيدة رائعة في الثناء على الصانع الجليل، لما فيه من جمال الاتقان الحكيم، وروعة صورةٍ تنم عن مغزى عميق تتحير منه العقول.. فان شئت فانظر بانعام الى الرمان والذُرة.

نعم! ان تحولات الذرات وتنقلاتها، عبارة عن حركات واهتزازات ذات مغزى عميق، ناشئة من كتابة كلمات القدرة الإلهية ومحو تلك الكلمات في لوح (المحو والاثبات) الذي هو حقيقة الزمان السيال وصحيفته المثالية، استنساخاً من الكتاب المبين الذي هو عنوانٌ للقدرة الإلهية وارادتها، ومحور التصرف في ايجاد الاشياء وتشكيلها من عالم الشهادة والزمان الحاضر، وفقاً لدساتير الامام المبين الذي هو جماع مقومات الاشياء في اصولها وفروعها ـ أي أصل كل شئ مضى وكل نسلٍ آتٍ ـ التي طواها الغيب، مع مميزاتها، وعنوانٌ للعلم الإلهي وامره(1).



النقطة الاولى

وهي مبحثان

المبحث الاول

ان في حركة كل ذرة وفي سكونها، يتلمع نوران للتوحيد، كأنهما شمسان ساطعتان. ولقد اثبتنا بيقين اثباتاً مجملاً في الاشارة الاولى من (الكلمة العاشرة) وفصلناه في (الكلمة الثانية والعشرين) ان كل ذرة من الذرات! إن لم تكن مأمورة باوامر الله تعالى، وإن لم تتحرك بإذنه وفعله وان لم تتحول بعلمه وقدرته، فلابد ان يكون لكل ذرة علمٌ لا نهاية له، وقدرةٌ لا حدّ لها، وبصر يرى كل شئ، ووجهٌ يتوجه الى كل شئ، وأمرٌ نافذ في كل شئ.

لأن كل ذرة من ذرات العناصر، تعمل ـ أو يمكن ان تعمل ـ عملاً منتظماً في جسم كل كائن حي، علماً أن انظمة الاشياء وقوانين تراكيبها مخالف بعضها بعضاً، ولا يمكن عمل شئ مالم تُعلَم انظمته، وحتى لوقامت الذرة بعمل فلا يخلو من خطأ. والحال أن الاعمال تُنجز من دون خطأ. فاذاً: إما أن تلك الذرات العاملة تعمل وفق أوامر مَن يملِك علماً محيطاً بكل شئ، وباذنه، وبعلمه، وبارادته.. أو ينبغي ان يكون لها مثل ذلك العلم المحيط والقدرة المطلقة!

ثم ان كل ذرة من ذرات الهواء، تستطيع ان تدخل في جسم كل كائن حي، وفي ثمرة كل زهرة، وفي بناء كل ورقة، وتعمل في كل ٍمنها. علماً ان بناء كلٍ منها يخالف الآخر ونظامه يباين الآخر، فلو كان معمل ثمرة التين ـ مثلاً ـ شبيهاً بمعمل النسيج، لكان معمل ثمرة الرمان شبيهاً بمعمل السكر. فتصاميم كل منهما، وبناء كل منهما مخالف للآخر.

فهذه الذرات الهوائية تدخل في كلٍ منها ـ أو تستطيع الدخول ـ وتعمل بمهارة فائقة وبحكمة تامة، وتتخذ فيها أوضاعاً معينة، ثم حالما تنتهى وظيفتُها تتركها ماضية الى شأنها.

وهكذا فالذرة المتحركة في الهواء المتحرك؛ إما انها تعلم الصوَر التي اُلبستْ على الحيوانات والنباتات، وعلى ثمراتها وازاهيرها، وتعلم ايضاً مقادير كلٍ منها وانماط تصاميمها! أو أن تلك الذرة مأمورة بأمرِ مَن يعلم ذلك كله وعاملة بارادته.

وكذا كل ذرة ساكنة في التراب الساكن الهادئ، فهي متهيئة لتكون منبتاً لجميع بذور النباتات المزهرة والاشجار المثمرة؛ اذ لو اُلقيت في حفنة تراب ـ المتكونة من ذرات متماثلة كأنها ذرة واحدة ـ ولاقت ما فيها من الذرات؛ فإما انها تجد مصنعاً خاصاً بها، مع ما يحتاجه بناؤها من لوازم ومعدّات، أي ان تكون في تلك الحفنة من التراب معامل معنوية دقيقة عديدة، عدد انواع النباتات والاشجار والاثمار.! أو ان يكون هناك علم واسع وقدرة محيطة بكل شئ، تبدع كل شئ من العدم.. أو ان تلك الاعمال انما تتم بحول وقوة الله القدير على كل شئ والعليم بكل شئ.

لو سافر شخص الى اوروبا، وهو جاهل بوسائل الحضارة جهلاً مطبقاً، وعلاوة على ذلك فهو أعمى لا يبصر، ولو دخل هناك الى جميع المعامل والمصانع، وانجز أعمالاً بديعة في كل صنوف الصناعة وفي انواع الأبنية، بانتظام كامل وحكمة فائقة ومهارة بارعة تحيرت منها العقول.. فلا شك ان مَن له ذرة من الشعور يعرف يقيناً: ان ذلك الرجل لا يعمل ما يعمل من تلقاء نفسه، بل هناك استاذ عليم يلقّنه ويستخدمه.

وايضاً لو كان هناك عاجز، أعمى، مقعد، قابع في كوخه الصغير، لا يحرك ساكناً. اُدخل عليه قليل من حصو، وقطع من عظم، وشئ يسير من قطن، واذا بالكوخ الصغير تصدر منه اطنان من السكر، واطوال من النسيج، وآلاف من قطع الجواهر، مع ملابس في أبهى زينة وأفخر نوع، مع أطعمة طيبة في منتهى اللذة.. أفلا يقول مَن له ذرة من العقل: ان ذلك الاعمى المقعد ما هو إلاّ حارس ضعيف لمصنع معجِز، وخادم لدى صاحبه ذى المعجزات؟

كذلك الامر في حركات ذرات الهواء ووظائفها في النباتات والاشجار والازهار والاثمار، التي كل منها كتابة إلهية صمدانية، ورائعة من روائع الصنعة الربانية، ومعجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الإلهية، فلا تتحرك تلك الذرات ولا تنتقل من مكان الى آخر إلاّ بأمر الصانع الحكيم ذي الجلال وبارادة الفاطر الكريم ذي الجمال.

وقس على هذا ذرات التراب الذي هو منبت لسنابل البذور والنوى، التي كل منها في حُكم ماكنة عجيبة تختلف عن الاخرى، ومطبعة مغايرة للاخرى، وخزينة متباينة عن الاخرى، ولوحة اعلان تُعلن اسماء الله الحسنى متميزة عن الاخرى، وقصيدة عصماء تثني على كمالاته جل وعلا ولا شك ان هذه البذور البديعة ما اصبحت منشأ ً لتلك الاشجار والنباتات إلاّ بأمر الله المالك لأمر (كن فيكون) وكل شئ مسخّر لأمره، ولا يعمل إلاّ باذنه وإرادته وقوته.. وهذا يقين وثابت قطعاً.. آمنا.



المبحث الثاني

هذا المبحث عبارة عن اشارة بسيطة الى ما في حركات الذرات من وظائف وحكَم.

ان الماديين الذين انحدرت عقولُهم الى عيونهم، فلا يرون إلاّ المادة، يرون بحكمتهم الخالية من الحكمة وبفلسفتهم المبنية على اساس العبث في الوجود:

ان تحولات الذرات مربوطة بالمصادفة. حتى اتخذوها قاعدة مقررة لدساتيرهم كلها، جاعلين منها مصدر ايجادٍ للمخلوقات الربانية!

فالذي يملك ذرة من الشعور يعلم يقيناً مدى بُعدهم عن منطق العقل، في اسنادهم هذه المخلوقات المزدانة بحِكَمٍ غزيرة، الى شئ مختلط عشوائي لا حكمة فيه ولا معنى.

أما المنظور القرآني وحكمته، فانه يرى ان تحولات الذرات لها حِكَمٌ كثيرة جداً وغايات لا تحصى ووظائف لاتحد، تشير اليها الآية الكريمة ] وإن من شيءٍ إلاّ يُسبّح بحَمده[ وامثالها من الآيات الكثيرة.

ونحن هنا نشير الى بضعٍ منها فقط، على سبيل المثال:

اولاها:

ان الله سبحانه وتعالى، لأجل تجديد تجليات الايجاد في الوجود، يحرّك الذرات ويسخّرها بقدرته، جاعلاً من كل روحٍ واحدة (نموذجاً)، يُلبسها جسداً جديداً من معجزات قدرته في كل سنة، ويستنسخ من كل كتاب فرد بحكمته التامة آلاف الكتب المتنوعة، ويُظهر حقيقةً واحدة في انماط مختلفة وصور شتى، ويفسح المجال ويعدّ المكان لورود أكوان جديدة وعوالم جديدة وموجودات جديدة، طائفة إثر طائفة.

ثانيتها:

ان مالك الملك ذا الجلال، قد خلق هذه الدنيا ـ ولا سيما وجه الارض ـ على هيئة مزرعة واسعة، أي مهّدها لتكون قابلة لنمو محاصيل الموجوادت ونشوئها ، وظهورها بجدّتها وطراوتها، أي ليزرع فيها معجزات قدرته غير المتناهية ويحصدها.

ففي مزرعته الشاسعة هذه التي هي بسعة سطح الارض، يبرز سبحانه من معجزات قدرته كائنات جديدة، في كل عصر، في كل فصل، في كل شهر، في كل يوم، بل في كل ساعة، فيعطي ساحةَ الارض محاصيل متنوعة جديدة، بتحريك الذرات بحكمة تامة وتوظيفها بنظام متقن. مُبيناً سبحانه وتعالى، بحركات الذرات هذه هدايا رحمته الصادرة من خزينته التي لا تنضب، ونماذج معجزات قدرته التي لا تنفد.

ثالثتها:

انه سبحانه وتعالى يحرّك الذرات بحكمة تامة ويسخرها في وظائف منظمة لأجل اظهار بدائع الموجودات كي تفيد الاسماء الحسنى عن معاني تجلياتها غير المتناهية. فيُخرج سبحانه في مكان محدود ما لايحد من بدائع الصور الدالة على تلك التجليات غير المحدودة ويكتب في صحيفة ضيقة آياتٍ تكوينية لاحدّ لها، تعبّر عن معانٍ سامية غير محدودة.

نعم! ان محاصيل السنة الماضية ونتائجها من الموجودات، ومحاصيل هذه السنة ونتائجها، من حيث الماهية، في حُكم واحد، إلاّ ان معانيها ومدلولاتها متباينة جداً، اذ بتبدل التعينات الاعتبارية تتبدل معانيها وتكثر وتزداد. ومع أن التعينات الاعتبارية والتشخصات الموقتة تبدَّلان، وهما فانيتان في الظاهر، إلاّ ان معانيها الجميلة تحافَظ عليها وتستمر وتبقى وتثبت.

فأوراق هذه الشجرة وازاهيرها وثمراتها التي كانت في الربيع الماضي ـ لأنها لا تحمل روحاً كالانسان ـ هي عين أمثالها في هذا الربيع، اذا نُظر اليها من زاوية الحقيقة، إلاّ ان الفرق هو في التشخصات الاعتبارية.

هذه التشخصات أتت الى هذا الربيع، لتحل محل تشخصات سابقتها، وذلك للافادة عن معاني شؤون الاسماء الإلهية التي تتجدد تجلياتُها باستمرار.

رابعتها:

ان الحكيم ذا الجلال يحرّك الذرات في مزرعة هذه الدنيا الضيقة وينسجها في مصنع الارض، جاعلاً الكائنات سيالةً والموجودات سيارةً، وذلك لأجل إعداد ما يناسب من لوازم أو تزيينات أو محاصيل لعوالم واسعة لاحدّ لها، كعالم المثال وعالم الملكوت الواسع جداً وسائر عوالم الآخرة غير المحدودة. فيهئ سبحانه في هذه الارض الصغيرة، محاصيل ونتائج معنوية كثيرة جداً، لتلك العوالم الكبيرة الواسعة جداً. ويُجري من الدنيا سيلاً لا نهاية له ينبع من خزينة قدرته المطلقة ويصبّه في عالم الغيب، وقسماً منه في عوالم الآخرة.

خامستها:

يحرّك سبحانه وتعالى الذرات بقدرته في حكمة تامة ويسخرّها في وظائف منتظمة اظهاراً لكمالات إلهية لا نهاية لها، وجلوات جمالية لاحدّ لها، وتجليات جلالية لامنتهى لها، وتسبيحات ربانية لاعدّ لها، في هذه الارض الضيقة المحدودة، وفي زمان قليل متناهٍ. فيجعل سبحانه وتعالى الموجودات تسبّح تسبيحات غير متناهية في زمانٍ متناهٍ وفي مكان محدود، مبيناً بذلك تجلياته الجمالية والكمالية والجلالية المطلقة موجداً كثيراً من الحقائق الغيبية، وكثيراً من الثمرات الاخروية، وكثيراً من البدائع المثالية ـ لصور الفانين وهوياتهم الباقية ـ وكثيراً من نسائج لوحية حكيمة. فالذي يحرك الذرات، ويبرز هذه المقاصد العظيمة، وهذه الحكم الجسيمة، انما هو الواحد الأحد، وإلاّ فيجب ان تكون لكل ذرة عقل بكبر الشمس!.

وهكذا فهناك أمثلة كثيرة جداً على تحولات الذرات التي تُحرَّك بحكمة بالغة، كهذه النماذج الخمسة، بل ربما تربو على خمسة آلاف مثال، إلاّ ان اولئك الفلاسفة الحمقى قد ظنوها خالية من الحكمة!

فلقد زعموا ـ في الحقيقة ـ ان الذرات في حركتيها التي تتحرك بهما في نشوة وجذب رباني، احدهما آفاقي والآخر أنفسي، والمستغرقة في ذكر وتسبيح إلهي كالمريد المولوي، انما تقوم بها من تلقاء نفسها، وترقص ذاهلة وتدور.

نخلص من هذا: ان علم اولئك الفلاسفة ليس علماً، بل جهل. وان حكمتهم سخافة وخالية من الحكمة!

(سنذكر في النقطة الثالثة حكمة اخرى مطولة هي السادسة).





النقطة الثانية

ان في كل ذرة شاهدين صادقين على وجود الله سبحانه، وعلى وحدانيته.

أجل! ان الذرة بقيامها بوظائف جسيمة جداً، وحملها لأعباء ثقيلة جداً تفوق طاقتها، في منتهى الشعور، رغم عجزها وجمودها، تشهد شهادة قاطعة على وجود الله سبحانه.

وانها تشهد شهادة صادقة ايضاً على وحدانية الله واحدية مالك الملك والملكوت؛ بتنسيق حركاتها وانسجامها مع النظام العام الجاري في الكون ومراعاتها النظام حيثما حلّت، وتوطّنها هناك كأنه موطنها. أي: لمن الذرة؟ فمواضع جولانها مُلكُه وتعود اليه، بمعنى ان من كانت الذرة له فان جميع الاماكن التي تسير فيها له ايضاً.

اي أن الذرة لكونها عاجزة، وعبئها ثقيلاً جداً، ووظائفها كثيرة لاتحد، تدل على انها قائمة ومتحركة باسم قدير مطلق القدرة وبأمره.

ثم ان توفيق حركتها وجعلها منسجمة مع الانظمة العامة الكلية في الكون، وكأنها على علمٍ بها، ودخولها الى كل مكان دون مانع يمنعها، يدل على انها تعمل ما تعمل بقدرة واحد عليم مطلق العلم وبحكمته الواسعة.

نعم! ان الجندي له علاقة وانتساب مع كلٍ من فصيله، وسريته، وفوجه، ولوائه، وفرقته. كما أن له في كلٍ منها وظيفة معينة على قدر تلك العلاقة. وان تنسيق الحركة والانسجام مع كل هذه العلاقات والارتباطات بمعرفتها ومعرفة وظائفها في كل دائرة، مع القيام بواجبات عسكرية من تدريب واخذ للتعليمات حسب انظمتها، كل ذلك انما يكون بالانقياد الى اوامر القائد الاعظم الذي يقود تلك الدوائر كلها واتباع قوانينه.

فكما ان الامر هكذا في الجندي الفرد، كذلك كل ذرة من الذرات الداخلة في المركبات المتداخل بعضها في بعض، لها اوضاع ملائمة في كلٍِ منها، ومواقع متناسبة تنبني عليها مصالح متنوعة، ووظائف منتظمة شتى، ونتائج متباينة ذات حكمة، فلابد ان توطين تلك الذرة بين تلك المركبات، توطيناً لا يخل بالنتائج والحكم الناشئة من تلك النسب والوظائف، مع الحفاظ على جميع النسب والوظائف، خاصٌ بمالك الملك الذي بيده مقاليد كل شئ.

فمثلاً: ان الذرة المستقرة في بؤبؤ عين (توفيق) لها علاقة مع اعصاب العين الحركية والحسية ، ومع الشرايين والاوردة التي فيها، ومع الوجه، والرأس، ثم مع الجسم، ومع الانسان ككل. فضلاً عن ان لها في كلٍ منها وظيفة وفائدة.

فوجود تلك النسب، في كلٍ منها، والعلاقات والفوائد، مع الحكمة الكاملة والاتقان التام يبين:

ان الذي خلق ذلك الجسد بجميع اعضائه، هو الذي يمكنه ان يمكّن تلك الذرة في ذلك المكان، ولا سيما الذرات الآتية للرزق. فتلك الذرات التي تسير مع قافلة الرزق وتسافر معها، انما تسير بانتظام وتسيح بحكمة تحير العقول. ثم تدخل في اطوار مختلفة وتجول في طبقات متنوعة بنظام دقيق، فتخطو خطوات ذات شعور، من دون ان تخطئ ، حتى تأتي تدريجياً الى الجسم الحي وتصفّى هناك في اربع مصافٍ فيه، الى أن تصل الى الاعضاء والحجيرات المحتاجة الى الرزق، فتمدها به، وتسعفها بقانون الكرم محمولةً على الكريات الحمراء في الدم.

يفهم من هذا بداهة ان الذي أمَرَّ هذه الذرات من خلال آلاف المنازل المختلفة والطبقات المتباينة، وساقها هكذا بحكمة، لابد وبلا ادنى شك هو رزّاق كريم، خلاق رحيم ، تتساوى امام قدرته النجومُ والذرات.

ثم ان كل ذرة من الذرات تقوم بعمل صورة بديعة ونقش رائع في المخلوق بحيث:

إما انها في موقع حاكم مسيطر على كل ذرة من الذرات وعلى مجموعها، ومحكومة في الوقت نفسه تحت أمر كل ذرة من الذرات وأمر مجموعها، وانها تعرف معرفة كاملة، بالصورة البديعة المحيرة للالباب والنقش الرائع الملئ بالحكمة، فتوجدها! وهذا محال بألف محال.. أو أنها نقطة مأمورة بالحركة نابعة من قلم قدرة الله سبحانه وقانون قَدَره.

فمثلاً: أن الاحجار الموجودة في قبة (ايا صوفيا) ان لم تكن مطيعة لأمر بنّائها، ينبغي ان يكون كل حجر منها ماهراً في صنعة البناء كالمعماري سنان(1) نفسه، ويكون حاكماً على الاحجار الاخرى ومحكوماً بأمرها في الوقت نفسه، اي يمكنه ان يحكم الاحجار الاخرى فيقول لها: (هيا ايتها الاحجار لنتحد حتى نحول دون سقوطنا)! وكذلك الامر في الذرات الموجودة في المخلوقات، التي هي اكثر ابداعاً، واكثر اتقاناً واكثر روعة واكثر اثارة للاعجاب، واكثر حكمة من قبة ايا صوفيا بالاف المرات، إن لم تكن هذه الذرات منقادة لأمر الخالق العظيم، خالق الكون، فينبغي اذاً ان تعطى لكلٍ منها اوصاف الكمال التي لا تليق إلاّ باللّه سبحانه.

فيا سبحان الله ! وياللعجب! ان الماديين الزنادقة الكفرة لما انكروا الله الواجب الوجود، اضـطروا حسب مذهبهم للاعتقاد بآلهة باطلة بعدد الذرات. ومن هذه الجهة ترى أن الكافر المنكر لوجود الله سبحانه وتعالى مهما كان فيلسوفاً وعالماً فهو في جهل عظيم، وهو جاهل جهلاً مطلقاً.



النقطة الثالثة

هذه النقطة اشارة الى الحكمة السادسة العظيمة التي وُعد بها في ختام النقطة الاولى، وهي:

لقد ذكر في حاشية السؤال الثاني من الكلمة الثامنة والعشرين:

ان حكمة اخرى من آلاف الحكم التي تتضمنها تحولات الذرات وحركاتها في اجسام ذوي الحياة، هي تنوير الذرات بالحياة وكسبها المعنى والمغزى، لتصبح ذرات لائقة في بناء العالم الاخروي.

نعم! ان الكائن الحيواني والانسان وحتى النبات في حكم مضيف لتلك الذرات ومعسكر تدريب لها، ومدرسة تربوية تتلقى فيها الارشادات؛ بحيث أن تلك الذرات الجامدة تدخل هناك فتتنور، وكأنها تنال التدريب وتتلقى الاوامر والتعليمات، فتتلطف، وتكسب باداء كلٍ منها لوظيفة لياقةً وجدارة، لتصبح ذرات لعالم البقاء والدار الآخرة الحية حياةً شاملة لجميع اجزائها.

سـؤال: بماذا يُعرف وجود هذه الحكمة في حركات الذرات؟

الجـواب:

اولاً: يُعرف وجودُها، بحكمة الله الحكيم سبحانه، تلك الحكمة الثابتة بالانظمة الجارية في الموجودات كافة وبالحكم التي تنطوي عليها؛ اذ الحكمة الالهية التي اناطت حِكماً كلية كثيرة جداً بأصغر شئٍ جزئي، لايمكن ان تترك حركات الذرات سدىً من دون حكمة! تلك الحركات الجارية في سيل الكائنات، والتي تبدي فعالية عظمى في الوجود، والتي هي سبب لإبراز البدائع الحكيمة.

ثم ان الحكمة الالهية وحاكميتها، التي لا تهمل اصغر مخلوق دون أجر، أو دون كمال، أو دون مقام، لما يقوم به من وظيفة، كيف تهمل مأموريها ومستخدميها الكثيرين جداً، الذرات.. دون نور، أو دون أجر.

ثانياً: ان الحكيم العليم يحرك العناصر ويستخدمها لاداء وظائف جليلة، فيرقيها الى درجة المعدنيات، اجراً لها في طريق الكمال.. ويحرك ذرات المعدنيات ويسخرها في وظائف ويعلّمها تسبيحاتها الخاصة بها فيمنحها المرتبة الحية للنباتات.. ويحرك ذرات النباتات ويوظفها، ويجعلها رزقاً للآخرين، فيُنعم عليها برفعها الى المرتبة اللطيفة للحيوانات.. ويستخدم ذرات الحيوانات ـ عن طريق الرزق ـ فيرفعها الى درجة الحياة الانسانية.. وبامرار ذرات جسم الانسان من خلال مصافٍ عدة مراتٍ ومرات، وتنقيتها وجعلها لطيفة، يرقيها الى ألطف مكان وأعز موقع في الجسم وهو الدماغ والقلب.

يفهم مما ذكر: ان حركات الذرات ليست سدىً وليست خالية من الحكمة، بل تُهرع الذرات وتساق الى نوع من الكمال اللائق بها.

ثالثاً: ان قسماً من ذرات الكائن الحي ـ كذرات البذور والنوى ـ ينال نوراً معنوياً، ولطافة ومزيّة، بحيث يكون بمثابة روح وسلطان على سائر الذرات، وعلى الشجرة الضخمة نفسها.

فاعتلاء هذه الذرات ـ من بين مجموع ذرات الشجرة العظيمة ـ هذه المرتبة، انما هو حصيلة ادائها وظائف دقيقة ومهمات جليلة اثناء مراحل نمو الشجرة، مما يدل على ان تلك الذرات حينما تؤدي وظيفتها الفطرية بأمر الخالق الحكيم، تنال لطافة معنوية ونوراً معنوياً ومقاماً رفيعاً وارشاداً سامياً، حسب انواع حركاتها ووفق ما يتجلى عليها من تجليات الاسماء الحسنى، وسمو تلك الاسماء.

الخلاصة:

C ان الخالق الحكيم قد عيّن لكل شئ نقطة كمال يناسب ذلك الشئ، وحدّد نورَ وجودٍ يليق به، فيسوق ذلك الشئ الى نقطة الكمال تلك، باستعداد يمنحه اياه.

فهذا القانون للربوبية مثلما هو جارٍ في جميع النباتات والحيوانات، جارٍ ايضاً في الجمادات، حتى يمنح سبحانه التراب العادي رقياً يبلغ به درجة الألماس ومرتبة الاحجار الكريمة.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون الربوبية).

C وان ذلك الخالق الكريم، اثناء تسخيره الحيوانات لإنفاذ قانون التناسل العظيم، يمنحها لذةً جزئية، أجرةً لأدائها الوظيفة. ويهب للحيوانات المستخدمة لإنفاذ اوامر ربانية ـ كالبلبل والنحل ـ اجرةَ كمالٍ راقية، مقاماً يبث الشوق والمتعة..

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو : (قانون الكرم).

C ثم ان حقيقة كل شئ تتوجه الى تجلي اسمٍ من الاسماء الالهية الحسنى، ومرتبطة بها، وهي كالمرآة العاكسة لأنواره. فذلك الشئ مهما اتخذت من اوضاع جميلة، فالجمال يعود الى شرف ذلك الاسم وسموه؛ اذ يقتضيه ذلك الاسم. فسواءٌ أعَلِم ذلك الشئ أم لم يعلم، فذلك الوضع الجميل مطلوب في نظر الحقيقة.

من هذه الحقيقة يظهر طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون التحسين والجمال).

C ثم ان ما اعطاه الفاطر الحكيم من مقام وكمال، الى شئ ما، بمقتضى دستور الكرم، لايستردّه منه عند انقضاء مدة ذلك الشئ وانتهاء عمره، بل يُبقي ثمراته، ونتائجه، وهويته المعنوية، ومعناه، وروحه ان كان ذا روح.

فمثلاً: يُبقي سبحانه وتعالى معاني الكمالات التي ينالها الانسان وثمراتها، حتى ان شكر المؤمن الشاكر وحمده على ما يأكله من فواكه زائلة، يعيده سبحانه اليه مرة اخرى على صورة فاكهة مجسمة طيبة من فواكه الجنة.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو : (قانون الرحمة).

C ثم ان الخالق الحكيم سبحانه لا يسرف في شئ قط، ولا يعمل عبثاً مطلقاً اذ يستعمل حتى الانقاض المادية للمخلوقات الميتة ـ التي انتهت مهماتُها ـ في الخريف، في بناء مخلوقات جديدة في الربيع.

لذا، فمن مقتضى الحكمة الالهية، ادراج هذه الذرات الارضية الجامدة، وغير الشاعرة، والتي انجزت وظائف جليلة في الارض في قسم من ابنية الآخرة التي هي حية وذات شعور بكل ما فيها، باحجارها واشجارها بدلالة الآية الكريمة ] يوم تبدل الارض غير الارض[ (ابراهيم:48) وباشارة الآية الكريمة ] وان الدار الاخرة لهي الحيوان[ (العنكبوت:64) ولأن ترك ذرات الدنيا المتهدمة في الدنيا نفسها، أو رميها الى العدم اسراف وعبث.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون الحكمة).

C ثم ان كثيراً جداًَ من آثار هذه الدنيا ومعنوياتها وثمراتها، ومنسوجات اعمال المكلفين ـ كالجن والانس ـ وصحائف افعالهم، وارواحهم، واجسادهم، تُرسل الى سوق الآخرة ومعرضها. فمن مقتضى العدل والحكمة ان تُرسل ايضاً الذرات الارضية التي رافقت تلك الثمرات والمعاني وخَدَمَتها مع انقاض هذه الدنيا التي ستدمّر الى العالم الاخروي وتستعمل في بنائه. وذلك بعد تكاملها تكاملاً يخصّها من حيث الوظيفة، اي بعد أن نالت نور الحياة كثيراً وخدمَتها، واصبحت وسيلة لتسبيحات حياتية.

من هذه الحقيقة ينكشف طرف من قانون عظيم هو : (قانون العدل).

C ثم ان الروح مثلما انها مهيمنة على الجسم، فالاوامر التكوينية للمواد الجامدة التي كتبها القدر الالهي، لها سلطان ايضاً على تلك المواد. فتتخذ تلك المواد مواقعها، وتسير بنظام معين وفق ما تمليه الكتابة المعنوية للقدر الالهي.

فمثلاً: في انواع البيض، واقسام النطف، واصناف النوى، واجناس البذور، تنال المواد انواراً مختلفة، مقامات متباينة، حسب تباين الاوامر التكوينية التي سطّرها القدر الالهي بانماط متنوعة واشكال متغايرة؛ اذ إن تلك المواد ـ من حيث هي مادة ـ في ماهية واحدة(1)، الاّ انها تصبح وسيلة لنشوء مالا يحد من الموجودات، فتكون صاحبة مقامات مختلفة وانوار متنوعة، فلابد اذاً لو وجدت ذرة في خدمات حياتية، ودخلت ضمن التسبيحات الربانية التي تسبح بها الحياة مرات ومرات، وادّت مهماتها هناك، فلاشك ان يُكتب في جبهتها المعنوية حِكَم تلك المعاني، ويسجلها قلمُ القدر الإلهي الذي لا يعزُب عنه شئ، وذلك بمقتضى العلم المحيط الإلهي.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون العلم المحيط).

فبناء على ما سبق: فان الذرات اذاً ليست سائبة ولا منفلتة(1).

النتيجة:

ان القوانين السبعة السابقة، اي: قانون الربوبية، وقانون الكرم، وقانون الجمال، وقانون الرحمة، وقانون الحكمة وقانون العدل، وقانون العلم المحيط.. وأمثالها من القوانين العظمى، يلوّح كلٌ منها من طرفٍ ما ينكشف منه، اسمَ الله الاعظم، وتجلٍ أعظم لذلك الاسم الاعظم. ويفهم من ذلك التجلي: ان تحولات الذرات ايضاً في هذه الدنيا ـ كسائر الموجودات ـ تجول حسب ما خطه القدر الالهي من حدود ووفق ما تعطيه القدرة الالهية من اوامر تكوينية وعلى اساس ميزان علمي حساس، لأجل حِكَمٍ سامية، وكأنها تتهيأ للرحيل الى عالم آخر أسمى!(2)

ومن هنا عدت الاجسام الحية كأنها مدرسة تتعلم فيها الذرات السائحة، ومعسكر تدريب، ومضيف تربوي لها، ويصح ان نحكم بحدس صادق أنها كذلك.

الحاصل: مثلما ذكر في (الكلمة الاولى)، واثبت هناك: ان كل شئ يقول (بسم الله). فالذرة ايضاً كجميع الموجودات وكل طائفة منها وكل جماعة من جماعاتها تقول بلسان الحال: (بسم الله) وتتحرك وفقها.

نعم! ان كل ذرة ـ بدلالة النقاط الثلاث المذكورة ـ تقول بلسان حالها في مبدأ حركتها: (بسم الله الرحمن الرحيم) اي: أتحرك باسم الله وبقوته وبحوله وباذنه وفي سبيله، ثم تقول ـ وكل طائفة منها ـ بعد انهاء حركتها بمثل ما يقوله أي مخلوق كان بلسان حاله: الحمد لله رب العالمين.

فكل ذرة تبدي نفسها في حكم ريشةِ قلمٍ صغير للقدرة الالهية في تصوير كل مخلوق بديع الذي هو بمثابة قصيدة ثناء وحمداً لله تعالى.

بل كل ذرة تبين نفسها في صورة طرف ابرة لأذرع معنوية لاحد لها لحاكٍ رباني معظم، تدور الابرة على اسطوانات ـ وهي المصنوعات الربانية ـ فتنطقها بقصائد ثناء وحمد ربانية، وتنشدها اناشيد تسبيحات إلهية..

] دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب[

اللّهم صل على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقّه اداءً

وعلى آله وصحبه واخوانه وسلّم،

وسلّمنا وسلم ديننا

آمين يارب العالمين.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:53 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الحادية والثلاثون

المعراج النبوي

تنبيه:

أن مسألة المعراج نتيجة تترتب على اصول الايمان واركانه، فهي نورٌ يستمد ضوءه من أنوار الاركان الايمانية. فلا تُقام الحجج لإثبات المعراج بالذات للملحدين المنكرين لأركان الايمان، بل لا يُذكَر اصلاً لمن لا يؤمن بالله جلّ وعلا ولا يصدِّق بالرسول الكريم e أو ينكر الملائكة والسموات، الاّ بعد اثبات تلك الاركان لهم مقدماً؛ لذا سنجعل المؤمن الذي ساوَرَتْه الشكوك والأوهام فاستبعد المعراجَ، موضعَ خطابنا، فنبين له ما يفيده ويشفيه بأذن الله. ولكن نلحظ بين آونة واخرى ذلك الملحد الذي يترقب في موضع الاستماع ونسرد له من الكلام ايضاً ما يفيده.

ولقد ذُكِرَت لمعاتٌ من حقيقة المعراج في رسائل اخرى، فاستمددنا العناية من الله سبحانه وتعالى - مع اصرار اخوتي الأحبة - على جمع تلك اللمعات المتفرقة وربطها مع اصل الحقيقة نفسها لجعل مرآةٍ تعكس دفعةً واحدة كمالات جمال الرسول الكريم e .

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] سُبحانَ الذي أسرى بعَبْده، ليلاً منَ المَسجِدِ الحَرَامِ اِلى المَسْجدِ الأقصا الذي باركْنَا حَولهُ لِنُريَهُ مِنْ اياتنا إنَّهُ هُوَ السَّمِيْعُ البَصِيرُ[ (الاسراء:1).

] إنْ هُوَ إلاّ وَحْي يُوحَى ^ عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى ^ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ^ وهو بالأفُقِ الأعلى ^ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلّى ^ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدنَى ^ فأوْحى إلى عَبْدِه مَا أوْحَى ^ ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رأى ^ أفَتُمارونَهُ عَلَى مَا يَرى ^ وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً اُخْرَى ^ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى ^ عِندها جَنَّةُ المَأوَى ^ اِذْ يَغشى السّدْرَةَ ما يَغْشَى ^ ما زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى ^ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبّهِ الكُبْرَى[ (النجم:4ـ18).

نذكر من الخزينة العظمى للآية الكريمة المتصدرة، رمزين إثنين فقط، وهما رمزان يستندان الى دستور بلاغي في ضمير (إنّه) وذلك لعلاقتهما بمسألتنا هذه، بمثل ما بيناهما في رسالة (المعجزات القرآنية).

إن القرآن الكريم يُختِم الآية المذكورة اعلاه بـ ] إنَّه هو السّميعُ البَصيرُ[ وذلك بعد ذكره إسراء الرسول الحبيب e من مبدأ المعراج - أي من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى - ومنتهاه الذي تشير اليه سورة النجم.

فالضمير في (إنّه) إما أن يرجع الى الله تعالى، أو الى الرسول الكريم e .

فاذا كان راجعاً الى الرسول e ، فان قوانين البلاغة ومناسبة سياق الكلام تفيدان، بأن هذه السياحة الجزئية، فيها من السير العمومي والعروج الكلي بحيث انه e قد سَمِع وشاهَدَ كلَّ ما لاقى بَصَره وسمعَه من الآيات الربانية، وبدائع الصنعة الآلهية أثناء ارتقائه في المراتب الكلية للاسماء الإلهية الحسنى البالغة إلى سدرة المنتهى، حتى كان قاب قوسين او أدنى. مما يدل على أن هذه السياحة الجزئية هي في حُكم مفتاحٍ لسياحةٍ كليةٍ جامعة لعجائب الصنعة الإلهية.

واذا كان الضمير راجعاً الى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى يكون عندئذٍ هكذا:

إنه سبحانه وتعالى دعا عبدَه الى حضوره والمثول بين يديه لينيط به مهمةً ويكلّفه بوظيفة، فاسرى به من المسجد الحـرام الى المســجـد الأقـصى الذي هـو مـجمع الانبياء. وبعد اجراء اللقاء معهم واظهاره بأنه الوارث المطلق لأصول أديان جميع الأنبياء، سَيَّره في جولةٍ ضمن مُلكه وسياحةٍ ضمن ملكوته، حتى أبلغه سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.

وهكذا فان تلك السياحة أو السير، وإن كانت معراجاً جزئياً وأن الذي عُرِج به عبدٌ، إلاّ ان هذا العبد يحمل امانة عظيمة تتعلق بجميع الكائنات، ومعه نور مبين ينير الكائنات ويبدّل معنى ملامحها ويصبغها بصبغته. فضلاً عن أن لديه مفتاحاً يستطيع ان يفتح به باب السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

فلأجل كل هذا يصف الله سبحانه وتعالى نفسَه بـ ] إنَّه هو السّميعُ البَصيرُ[ كي يُظهِر ان في تلك الأمانة وفي ذلك النور وفي ذلك المفتاح، من الحِكَم السامية ما يشمل عموم الكائنات، ويعم جميع المخلوقات، ويحيط بالكون اجمع.

هذا وان لهذا السر العظيم اربعة اسس:

اولها: ما سر لزوم المعراج؟

ثانيـها: ما حقيـقة المعراج؟

ثالـثها: ما حـكمة المعراج؟

رابعها: ما ثمـرات المعراج وفوائده؟



الاساس الاول

سرّ لزوم المعراج وحكمة ضرورته

يقال مثلاً:

ان الله سبحانه وتعالى وهو المنزّه عن الجسم والمكان أقرب الى كل شئٍ من كل شئ، كما تنص عليه الآية الكريمة: ] ونحنُ أقربُ اليهِ من حَبلِ الوَريدِ[ (ق: 16) حتى يستطيع كل ولي من أولياء الله الصالحين ان يقابل ربَّه ويناجيه في قلبه.

فلِمَ يوفّق كل ولي الى مناجاته سبحانه في قلبه بينما الولاية الاحمدية تُوفّق اليها بعد سير مديد وسياحة طويلة بالمعراج؟

الجواب: نقرب هذا السر الغامض الى الفهم بذكر مثالين اثنين، فاستمع اليهما، وهما مذكوران في الكلمة الثانية عشرة لدى بيان سر اعجاز القرآن وحكمة المعراج.



C المثال الاول:

ان للسلطان نوعين من المكالمة والمقابلة، وطرازين من الخطاب والكلام والتكريم والالتفات.

الاول: مكالمة خاصة بوساطة هاتف خاص، مع احد رعاياه من العوام، في امرٍ جزئي يعود الى حاجة خاصة له.

والاخر: مكالمة باسم السلطنة العظمى وبعنوان الخلافة الكبرى، وبصفة الحاكمية العامة؛ بأمرٍ رفيع كريم يُظهر عظمته ويبين هيبته، يقصد منها نشر أوامره السلطانية في الآفاق. فهي مكالمة تجري مع أحد مبعوثيه ممن له علاقة مع تلك الامور، أو مع احد كبار موظفيه ممن له علاقة مع تلك الاوامر.

وهكذا بمثل هذا المثال (ولله المثل الاعلى) فان خلاق الكون ومالك الملك والملكوت، والحاكم الأزلي المطلق، له طرازان من المكالمة والالتفات والتكريم:

الاول: جزئي وخاص

والاخر: كلّي وعام.

فالمعراج النبوي مظهر رفيع سامٍ للولاية الاحمدية ظهر بكليةٍ تفوق جميع الولايات وبرفعة وعلو يسمو عليها جميعاً؛ اذ إنه تشرّفٌ بمكالمة الله سبحانه وتعالى ومناجاته باسم رب العالمين وبعنوان خالق الموجودات.

C المثال الثاني:

رجل يمسك مرآة تجاه الشمس. فالمرآة تلتقط - حسب سعتها - نوراً وضياءً يحمل الالوان السبعة من الشمس. فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، ويمكنه ان يستفيد منها فيما اذا وجهها الى غرفته المظلمة أو الى مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرآة على ما تعكسه من نور الشمس وليست بمقدار عِظَم الشمس.

بينما رجل آخر يَدَع المرآة، ويجابه الشمس مباشرة، ويشاهد هيبتها ويدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جداً وينظر الى شعشعة سلطانها الواسع المهيب، ويقابلها بالذات دون حجاب. ثم يـرجع ويفتح من بيــته الصغــير أو من مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس وهي في اعالي السماء، فيجري حواراً مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية، ويناجيها.

وهكذا يستطيع هذا الرجل ان يقوم بهذه المقابلة والمحاورة المؤنسة المكللة بالشكر والامتنان، ويناجي الشمس قائلاً:

((إيهِ يا شمسُ! يا من تربعتِ على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء وزهراءها! يا من أضفيت على الارض بهجة ونوراً ومنحتِ الازهار ابتسامة وسروراً! لقد منحت الدفء والنور معاً لبيتي ومشتلي الصغير كما وهبت النور للدنيا والدفء للارض...)).

بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع ان يناجي الشمس ويحاورها بمثل هذه المحاورة، إذ إن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة وقيودها، ومحصورة بحسب قابلية المرآة واستيعابها للضوء.

وهكذا يظهر تجلي ذات الله الأحد الصمد جل جلاله، وهو نور السموات والارض وسلطان الازل الأبد على الماهية الانسانية بصورتين، تتضمنان مراتب لا حد لها.

الصورة الاولى: ظهور في مرآة القلب برباط رباني وانتساب اليه، بحيث أن لكل انسان حظوة مع ذلك النور الأزلي، وله محاورة ومناجاة معه، سواءٍ كانت جزئية أم كلية، حسب استعداده ووفق تجليات الاسماء والصفات، وذلك في سيره وسلوكه لدى طيّه المراتب. فدرجات الغالبية العظمى للولايات السائرة في ظلال الأسماء الحسنى والصفات الجليلة ومراتبها نابعةٌ من هذا القسم.

الصورة الثانية: تجلٍ لله سبحانه لأسمى فرد في نوع البشر وافضلهم طراً، تجلياً بذاته جلّ وعلا وبأعظم مرتبة من مراتب اسمائه الحسنى؛ لكون الأنسان قادراً على اظهار تجليات الاسماء الحسنى المتظاهرة في الوجود كافة دفعةً واحدة في مرآة روحه، اذ هو أنور ثمرات شجرة الكائنات واجمعها من حيث الصفات والاستعدادات.

إن هذا التجلي هو سر المعراج الاحمدي، بحيث تكون ولايتُه مبدأ لرسالته. الولاية التي تسير في الظل وتمضي فيه - كــالــرجــل الاول في المثال الثانـي - بينما لاظل في الرسالة، بل تتوجه الى أحدية الذات الجليلة مباشرة، كالرجل الثاني في المثال الثاني.

اما المعراج فلأنه كرامة كبرى للولاية الأحمدية ومرتبتها العليا، فقد ارتقت وانقلبت الى مرتبة الرسالة.

فباطن المعراج ولاية؛ اذ قد عرج من الخلق الى الحق سبحانه وتعالى.

وظاهر المعراج رسالة؛ اذ يأتي من الحق سبحانه وتعالى الى الخلق اجمعين.

فالولاية سلوك في مراتب القرب الى الله، وهي بحاجة الى زمانٍ والى طيّ مراتب كثيرة.

اما الرسالة التي هي أعظم نور فهي متوجهة الى انكشاف سر الأقربية الإلهية؛ الذي تكفيه لحظة خاطفة وآن سيّال. ولهذا ورد في الحديث الشريف ما يفيد أنه رجع في الحال.

والآن نوجه كلامنا الى ذلك الملحد الجالس في مقام الاستماع، فنقول:

ما دام هذا العالم شبيهاً بمملكة في غاية الانتظام، وبمدينة في غاية التناسق، وبقصر في غاية الزينة والجمال، فلابد أن له حاكماً، مالكاً، صانعاً.

وحيث ان ذلك المالك الجليل والحاكم الكامل والصانع الجميل موجود، هناك انسان ذو نظرٍ كلي وذو علاقة عامة بحواسه ومشاعره مع ذلك العالم، وتلك المملكة وذلك القصر.. فلابد ان ذلك الصانع الجليل ستكون له علاقة سامية قوية، مع هذا الانسان المالك للنظر الكلي والمشاعر العامة، ولاشك انه سيكون له معه خطاب قدسي وتوجّه علوي.

وحيث ان محمداً النبي الأمين e قد اظهر تلك العلاقة السامية - من بين مَن تشرفوا بها منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام - بأعظم صورة وأجلاها، بشهادة آثاره، اي بحاكميته على نصف المعمورة وخمس البشر، وتبديله الملامح المعنوية للكائنات وتنويره لها.. لذا فهو أليَقُ وأجدرُ مَن يتشرف بالمعراج الذي يمثل اعظم مرتبة من مراتب تلك العلاقة.











الاساس الثاني

ما حقيقة المعراج؟

- الجواب:

انها عبارة عن سير الذات الاحمدي وسلوكه e في مراتب الكمالات.

وهذا يعنى:

ان آيات الربوبية وآثارها التي جلاّها سبحانه وتعالى في تنظيم المخلوقات، باسماءٍ وعناوينَ مختلفة، واظهر عظمة ربوبيته بالايجاد والتدبير في سماء كل دائرة من الدوائر التي أبدعها، كل سماء مدارٌ عظيم لعرشِ الربوبية ومركزٌ جليل لتصرف الالوهية.. هذه الآيات الكبرى والآثار الجليلة أطْلعَها سبحانه وتعالى واحدةً واحدةً لذلك العبد المخصص المختار، فَعَلا به البُراقَ وقطع به المراتب كالبرق من دائرةٍ الى دائرة، ومن منزل الى منزل - كمنازل القمر - ليُريَه ربوبية الوهيته في السموات، ويقابله باخوانه الانبياء فرداً فرداً، كلاً في مقامه في تلك السموات، حتى عَرج به الى مقام (قاب قوسين)، فشرّفَه - بالأحدية - بكلامه وبرؤيته؛ ليجعل ذلك العبد عبداً جامعاً لجميع الكمالات الانسانية، نائلاً جميع التجليات الإلهية، شاهداً على جميع طبقات الكائنات، داعياً الى سلطان الربوبية، مبلّغاً للمرضيات الإلهية، كشافاً لطلسم الكائنات.

هذه الحقيقة الرفيعة يمكن رؤيتها من خلال مثالين اثنين:

C المثال الاول:

وقد اوضحناه في الكلمة الرابعة والعشرين وهو:

ان للسلطان عناوين مختلفة في دوائر حكومته، واوصافاً متباينة ضمن طبقات رعاياه، واسماءٍ وعلاماتٍ متنوعة في مراتب سلطنته، فمثلاً: له اسم الحاكم العادل في دوائر العدل، وعنوان السلطان في الدوائر المدنية، بينما له اسم القائد العام في الدوائر العسكرية وعنوان الخليفة في الدوائر الشرعية... وهكذا له سائر الاسماء والعناوين.. فله في كل دائرة من دوائر دولته مقام وكرسي بمثابة عرش معنوي له؛ وعليه يمكن ان يكون ذلك السلطان الفرد مالكاً لألف اسم واسم في دوائر تلك السلطنة وفي مراتب طبقات الحكومة؛ اي يمكن ان يكون له الف عرش وعرش من العروش المتداخل بعضها في بعض حتى كأن ذلك الحاكم موجود وحاضر في كل دائرة من دوائر دولته.. ويعلم ما يجري فيها بشخصيته المعنوية، وهاتفه الخاص. ويُشاهَد ويَشْهَد في كل طبقة من الطبقات بقانونه ونظامه وبممثليه.. ويراقب ويدير من وراء الحجاب كلَّ مرتبة من المراتب بحكمته وبعلمه وبقوته.. فلكل دائرة مركزٌ يخصّها وموقعٌ خاص بها، أحكامُه مختلفة، طبقاتُه متغايرة.

فمثل هذا السلطان يُسَيّرُ مَنْ يريده ويختاره في جولةٍ واسعة يجوب فيها جميع دوائر تلك السلطنة مُشْهِداً إياه هيبةَ دولته وعظمة سلطانه في كل دائرة منها، مُطْلِعاً إياه على أوامره الحكيمة التي تخص كل دائرة، سائراً به من دائرةٍ الى دائرة من طبقةٍ الى طبقة، حتي يُبْلغه مقامَ حضوره، ومن بعد ذلك يُرسِله مبعوثاً الى الناس، مُودِعاً إياه بعض اوامره الكلية العامة المتعلقة بجميع تلك الدوائر.

وهكذا ننظر بمنظار هذا المثال فنقول:

إن رب العالمين وهو سلطان الأزل والابد له ضمن مراتب ربوبيته شؤون وعناوين مختلفة، لكن يتناظر بعضها مع بعض.. وله ضمن دوائر الوهيته علامات واسماء متغايرة، لكن يُشاهد بعضها في بعضٍ.. وله ضمن اجراءاته العظيمة تجليات وجلوات متباينة، لكن يشابه بعضها بعضاً.. وله ضمن تصرفات قدرته عناوين متنوعة، لكن يُشعر بعضها ببعض.. وله ضمن تجليات صفاته مظاهر مقدسة متفاوته، لكن يُظهر بعضُها بعضاً.. وله ضمن تجليات افعاله تصرفات متباينة، لكن تكمّل الواحدة الاخرى.. وله ضمن صنعته ومصنوعاته ربوبية مهيبة متغايرة، لكن تلحظ احداها الاخرى.

فبناءً على هذا السر العظيم، فقد نظّم سبحانه الكون وفق ترتيب مُذهل يبعث على الحيرة والأعجاب؛ اذ من الذرات التي تُعَدُّ اصغر طبقات المخلوقات الى السموات.. ومن اُولى طبقاتها الى العرش الاعظم، سمواتٌ مبنيّةٌ بعضها فوق بعض، كلُّ سماء هي في حكم سقفٍ لعالم آخر، وبمثابة عرشٍ للربوبية ومركز للتصّرفات الإلهية.

ومع انه يمكن ان تتجلى جميع الأسماء بجميع العناوين في تلك الدوائر وفي الطبقات باعتبار الأحدية، الاّ أنه مثلما يكون عنوان الحاكم العادل هو المستولي والأصل في دائرة العدلية، وسائر العناوين تابعة له ناظرة الى أمره، كذلك (ولله المثل الأعلى) هناك اسمٌ إلهي وعنوان إلهي هو الحاكم المهيمن في كل طبقة من طبقات المخلوقات وفي كل سماء منها، وتكون سائر العناوين ضمنه.

فمثلاً: في ايّ سماء قابل سيدُنا عيسى عليه السلام المتشرف باسم (القدير)، سيدَنا الرسول e ، فالله سبحانه وتعالى متجلٍ في دائرة تلك السماء بالذات بعنوان (القدير).

ومثلاً: ان عنوان (المتكلم) الذي تشرف به سيدُنا موسى عليه السلام هو المهيمن على دائرة السماء التي هي مقام سيدنا موسى عليه السلام.

وهكذا فالرسول الاعظم e ، لأنهُ قد حظي بالاسم الاعظم، ولأن نبوته عامة شاملة، وقد نال جميع تجليات الاسماء الحسنى، فان له علاقة اذن مع جميع دوائر الربوبية..

فلابد أن حقيقة معراجه تقتضي مقابلته الانبياء وهم ذوو مقام في تلك الدوائر، ومروره من جميع الطبقات.

C المثال الثاني:

ان عنوان (القائد الاعظم) الذي هو من عناوين السلطان، له ظهورٌ وجلوةٌ في كل دائرة من الدوائر العسكرية ابتداءً من دائرة القائد العام ورئاسة الأركان - تلك الدائرة الواسعة الكلية - الى دائرة العريف وهي الدائرة الجزئية الخاصة.

فمثلاً: ان الجندي الفرد يرى نموذج القيادة العظمى ومثالَها في شخص العريف، فيتوجّه اليه ويتلقى الاوامر منه. وحالما يكون عريفاً يجد عنوان تلك القيادة في دائرة رئيـسه رئيس العرفاء فيـتوجه اليها. ثـم اذا اصبح رئيساً للعرفاء يرى نموذج القيادة العامة وجلوتها في دائرة الملازم. فلها كرسي خاص في ذلك المقام.. وهكذا يُرى عنوان تلك القيادة العظمى في كل دائرة من دوائر النقيب والرائد والفريق والمشير حسب سعة الدائرة وضيقها.

والآن اذا أراد ذلك القائد الاعظم اناطة وظيفة تتعلق بجميع الدوائر العسكرية بجندي فرد، واراد ترقيته الى مقام رفيع يشاهَد من قبل كل تلك الدوائر ويشهَدها جميعاً، كأنه الناظر والمشرف عليها، فانه - اي القائد الأعظم - سيُسلك بلا شك ذلك الجندي الفرد ويسيّره ضمن تلك الدوائر كلها ابتداءً من دائرة العريف وانتهاء الى دائرته العظمى، دائرة فدائرة، كي يشهَدها ويشاهَد منها. ثم يقبله في مقام حضوره ويشرّفه بكلامه ويُكرمه بأوامره وأوسمته ثم يرسله الى حيث جاء منه في آنٍ واحد وفي اللحظة نفسها.

ينبغي ان نلفت النظر الى نقطة في هذا المثال وهي: إن لم يكن السلطان عاجزاً، له مقدرة روحية معنوية كما له قوة ظاهرة، فانه لا يوكل اشخاصاً امثال الفريق والمشير والملازم، وانما يحضر بذاته في كل مكان، فيصدر الأوامر بنفسه مباشرة متستراً ببعض الأستار ومن وراء أشخاص ذوي مقام، كما يروى ان سلاطين كانوا أولياء كاملين - قد نفّذوا أوامرهم في دوائر كثيرة في صورة بعض الاشخاص.

اما الحقيقة التي ننظر اليها بمنظار هذا المثال فهي:

ان الأمر والحكم يأتي مباشرة من القائد العام الى كل دائرة من الدوائر، وينفَّذ هناك بأمره وارادته وقوته؛ حيث لا عجز فيه.

وهكذا على غرار هذا المثال:

ففي كل طبقة من طبقات المخلوقات وطوائف الموجودات - من الذرات الى السيارات ومن الحشرات الى السموات - التي تجري فيها وتنفَّذ بكمال الطاعة والامتثال أوامر سلطان الازل والابد وشؤون حاكم الارض والسموات، الآمر المطلق المالك لأمرِ (كن فيكون).. تُشاهَد - في كل منها - دائرة ربوبيةٍ جليلة وطبقة حاكمية مهيمنة، بطبقات متنوعة وطوائف متباينة، صغيرة وكبيرة، جزئية وكلية، متوجهة كل منها الى الاخرى.

فلأجل فهم جميع المقاصد الإلهية العليا والنتائج العظمى المندرجة في الكون.. من خلال مشاهدة وظائف عبوديةٍ متنوعة لجميع الطبقات.. ولإدراك ما يرضي ذا العظمة والكبرياء، برؤية سلطان ربوبيته الجليلة وهيبة حاكميته العزيزة.. ولأجل ان يكون داعياً الى الله سبحانه تعالى.. فلابد أن يكون هناك سيرٌ في تلك الطبقات، وسلوكٌ في تلك الدوائر، الى أن يدخل في العرش الاعظم الذي هو عنوان دائرته العظمى سبحانه وتعالى، ويدخل في (قاب قوسين) اي يدخل في مقامٍ بين (الامكان والوجوب) المشار اليه بـ(قاب قوسين)، ويقابل الذات الجليلة الجميلة.

فهذا السير والسلوك والمقابلة هو حقيقة المعراج.

وكما يحصل لكل انسان سريانٌ بعقله في سرعة الخيال، ولكل ولي جَوَلان بقلبه في سرعة البرق، ولكل مَلَكٍ دَوَرانٌ بجسمه النوراني في سرعة الروح من العرش الى الفرش ومن الفرش الى العرش، ولأهل الجنة عروجٌ في سرعة البُراق من ميدان الحشر الى الجنة والى ما يزيد على بُعد خمسمائة سنة.. فان الجسم المحمدي e الذي هو مخزن أجهزته السامية ومدار وظائف لا تحد لروحه العالية سيرافق تلك الروح المحمدية التي هي نور، وفي قابلية النور، وألطف من قلوب الأولياء، وأرق من ارواح الاموات، وأشفّ من اجسام الملائكة، واكثر ظرافة من الجسد النجمي والبدن المثالي.. سيرافقها حتماً وسيعرج معها الى العرش الاعظم..

والآن لننظر الى الملحد الذي هو في مقام الاستماع..

p فيرد على البال: أن ذلك الملحد يقول في قلبه: انا لا أؤمن بالله، ولا اعرف الرسول، فكيف اصدق بالمعراج؟

ونحن نقول له:

ما دامت هذه الكائنات موجودة فعلاً، وتُشاهد فيها افعالٌ وايجاد.. وان الفعل المنتظم لا يكون بلا فاعل، والكتاب البليغ لا يكون بلا كاتب، والنقش البديع لا يكون بلا نقّاش.. فلابد من فاعل لهذه الافعال الحكيمة المالئة للكائنات، ولابد من نقاش وكاتب لهذه النقوش البديعة والرسائل البليغة التي تملأ وجه الأرض وتتجدد كل موسم وموسم.. وحيث ان وجود حاكمَين في أمرٍ ما يفسد نظام ذلك الشئ.. وان هناك انتظاماً كاملاً وتناسقاً تاماً، من جناح الذباب الى قناديل السموات.. اذن فان ذلك الحاكم واحدٌ أحدٌ؛ لأن الصنعة والحكمة في كل شئ هما من الابداع والاتقان بحيث يلزم ان يكون صانع ذلك الشئ قديراً مطلقاً، مقتدراً على كل شئ وعليماً بكل شئ، إذ لو لم يكن واحداً للزم وجود آلهة بعدد الموجودات، ولغدا كل إله ضد الآخر ومثله! وعندئذٍ يكون بقاء هذا النظام دون فساد محالاً في ألف محال!

ثم ان طبقات هذه الموجودات لما كانت اكثر انتظاماً وطاعةً للاوامر بألف مرة من جيش منظم كما هو مشاهَد بالبداهة؛ اذ ان كل انتظام من إنتظام حركات النجوم والشمس والقمر الى انتظام ازهار اللوز.. يبدي انتظاماً بديعاً وكاملاً فيما منحها القديرُ الأزلي من شارات وأوسمة وألبسها من لباس قشيب، وعيّن لها من حركات واعمال، يفوق ما يبديه الجيش من نظام وطاعة الف الف مرة.. لذا فلهذه الكائنات حكيم مطلق الحكمة محتجبٌ وراء الغيب، تترقب موجوداتُها أوامَره لتمتثل بها.

وما دام ذلك الحكيم المطلق سلطاناً ذا جلال؛ بشهادة جميع اجراءاته الحكيمة، وبما يظهره من آثار جليلة.. ورباً رحيماً واسع الرحمة؛ بما يُبديه من آلاء واحسانات.. وصانعاً بديعاً يحب صنعته كثيراً، بما عرضه من مصنوعات بديعة.. وخالقاً حكيماً يريد إثارة اعجاب ذوي الشعور وجلب استحسانهم بما نشره من تزيينات جميلة وصنائع رائعة.. ويُفهم مما أبدعه من جمال يأخذ بالالباب في خلق العالم أنه يريد إعلام ذوي الشعور من مخلوقاته: ما المقصود من هذه التزيينات؟ ومن أين تأتي المخلوقات والى اين المصير؟.. فلا ريب ان هذا الحاكم الحكيم والصانع العليم سيُظهر ربوبيته الجليلة.

وحيث انه يريد تعريف نفسه ويحببها الى ذوي الشعور؛ بما اظهره من آثار اللطف والرحمة، وبما بث من بدائع الصنعة.. فلا شك أنه سيخبر بوساطة مبلّغ امين، ما يريده من ذوي الشعور، وبمَ يرضى عنهم؟ وعليه فيعلن حتماً ربوبيته بوساطة مَن يخصصه من ذوي الشعور.. ويشرّف داعياً منهم بقرب حضوره، جاعلاً منه واسطة اعلان عن مصنوعاته المحبوبة لديه.. وسيعيّن معلماً يظهر كمالاته بتعليم مقاصده العليا الى سائر ذوي الشعور.. وسيعيّن مرشداً يدلّ على مغزى الموجودات كيلا يبقى ما ادرج في هذا الكون من طلسم دون كشف، وما اخفى في هذه الموجودات من شؤون الربوبية دون معنى.. وسيعيّن رائداً يُعَلِّمُ مقاصدهُ كيلا يبقى عبثاً دون نفع ما اظهره من محاسن الصنعة، أو نشره أمام الانظار.. وسيرفع أحدَهم ويعرُجُ به الى مقامٍ اعلى من جميع ذوي الشعور ويُعَلّمُهُ مرضياتِهِ ويُرْسِلُهُ اِليهم.

فما دامت الحقيقة والحكمة تقتضيان هذا، فان أليَقَ وأجدرَ مَن يوفي حق هذه الوظائف هو محمد e فلقد ادّى تلك الوظائف فعلاً باكمل صورة.. والشاهد العدل الصادق على ذلك هو ما أسس من عالم الاسلام وما أظهره من نور الاسلام المبين؛ لذا فلأجل ما سبق يلزم أن يعرج ويعلو بهذا النبي الكريم e علواً مباشراً الى مقام رفيع يسمو على جميع الكائنات ويتجاوز جميع الموجودات، كي يحظى بالمثول بين يدي رب العالمين.

فالمعراج يفيد هذه الحقيقة.

حاصل الكلام: ان الحكيم المطلق قد زيّن هذه الكائنات العظيمة ونظّمها اظهاراً لأمثال هذه المقاصد العظمى والغايات الجليلة.. وان في هذه الموجودات نوعَ الانسان الذي يستطيع ان يشاهد هذه الربوبية العامة بجميعِ دقائقها، وهذه الالوهية الجليلة بجميع حقائقها.. فلا ريب أن ذلك الحكيم المطلق سيتكلم مع الانسان وسيُعْلِمُه مقاصدَه.

وحيث أن كل انسان لا يستطيع ان يرقى الى اعلى مقام كلي متجرداً من الجزئية والسفلية، فلا جرم ان بعضاً من افرادٍ خواص من بين اولئك الناس سيكلَّف بتلك الوظيفة، ليكون ذا علاقة مع جهتين معاً، اي يكون انساناً ليعلّم الناس، وفي الوقت نفسه يكون ذا روح في غاية السمو ليحظى بشرف الخطاب الإلهي مباشرة.

وبعد، فلأن افضل مَن بلّغ مقاصد رب العالمين من بين البشر، وكشف طلسمها وحلّ لغز الخلق، وأكمل مَن دعا الى عظمة محاسن الربوبية هو محمد e ، فلا ريب ان سيكون له من بين البشر سيرٌ وسلوك معنوي سام بحيث يكون له معراجاً في صورة سير وسياحة في العالم الجسماني، وسيقطع المراتب الى ما وراء طبقات الموجودات وبرزخ الاسماء وتجلى الصفات والافعال المعبر عنها بسبعين الف حجاب.

فهذا هو المعراج.

p ويرد على البال ايضاً:

انك ايها المستمع تقول من اعماق قلبك: إن رباً هو أقرب الينا من كل شئ، ماذا يعني المثول بين يديه بعد قطع مسافة الوف السنين والمرور من سبعين الف حجاب؟ كيف اعتقد بهذا؟

ونحن نقول:

ان الله سبحانه وتعالى أقرب الى كل شئ من كل شئ، الاّ ان كل شئ بعيدٌ عنه بُعداً مطلقاً.

فلو فرضنا ان للشمس شعوراً وكلاماً، فانها تستطيع ان تتكلم معك بالمرآة التي في يدك، وتتصرف فيك ما تشاء. فبينما هي اقرب اليك من بؤبؤ عينك الشبيهة بالمرآة، فأنت بعيدٌ عنها بأربعة الاف سنة تقريباً. ولا يمكنك التقرب اليها بحال من الاحوال. حتى لو ترقيت الى مقام القمر، وعلوت الى نقطة مقابلة لها مباشرة، فلا تكون سوى ما يشبه مرآة عاكسة لها.

وهكذا فان الله جل جلاله وهو شمس الأزل والابد (ولله المثل الاعلى) أقربُ الى كل شئ من كل شئ، مع ان كلَّ شئ بعيدٌ عنه بعداً مطلقاً. الاّ مَن يقطع جميع الموجودات، ويتخلص من الجزئية ويرتقى في مراتب الكلية متدرجاً مرتبة مرتبة ويمضي عبر آلاف الحجب ويتقرب الى اسم محيط بالموجودات كلها، فيقطع مراتب كثيرة امامه، ثم بعد ذلك يتشرف بنوع من القرب.

ومثال آخر: ان الجندي الفرد بعيد جداً عن الشخصية المعنوية للقائد الاعظم، فهو ينظر الى قائده من مسافة في غاية البعد ومن خلال حُجب معنوية كثيرة، فيراه في نموذج مصغّر في مرتبة العريف.

اما القرب الحقيقي من الشخصية المعنوية للقائد الاعظم، فيلزمه المضي في مراتب كلية كثيرة كمراتب الملازم والنقيب والرائد وهكذا. بينما القائد الاعظم موجود عنده ويراه بأمره وقانونه ومراقبته وحكمته وعلمه، وهو موجود بذاته ازاءه ان كان قائداً في المعنى - والروح - كما هو في الصورة والظاهر.

ولما كانت هذه الحقيقة قد أثبتت اثباتاً قاطعاً في الكلمة السادسة عشرة نكتفي هنا بهذا القدر المختصر.

p ويرد على البال أيضاً:

انك تقول من كل قلبك: انني انكر وجود السموات ولا اؤمن بالملائكة، فكيف اصدّق سيرَ انسانٍ وتجواله في السموات ومقابلته الملائكة؟

نعم! لا شك ان إراءة شئ وإفهامَ أمرٍ الى مَن كان مثلك وقد أسْدِلَتَ الغشاوة على بصره وانحدر عقلُه الى عينه فلم يعُد يرى الاّ المادة، شئٌ صعب وعسير. ولكن لشدة نصاعة الحق ووضوحه يراه حتى العميان. لذا نقول:

انه من المتفق عليه ان الفضاء العلوي مملوء (بالاثير) فالضوء والكهرباء والحرارة وامثالها من السيالات اللطيفة دليل على وجود مادة مالئة للفضاء.

فكما تدل الثمرات على شجرتها، والازهار على روضتها، والسنابل على مزرعتها، والاسماك على بحرها بالبداهة، فهذه النجوم ايضاً تقتحم عيون العقول دالة بالضرورة على وجود روضتها ومَنشَئها ومزرعتها وبحرها.

فما دام العالم العلوي مبنياً باشكال متنوعة، كلٌ منها يبين احكاماً مختلفة في اوضاع مختلفة، فان منشأ تلك الاحكام - اي السموات - مختلفة ايضاً بعضها عن بعض؛ إذ كما أن في الانسان أنماطاً من وجود معنوي - عدا الجسم المادي - كالعقل والقلب والروح والخيال والحافظة وغيرها، ففي العالم ايضاً الذي هو على صورة انسان اكبر، وفي الكائنات التي هي شجرة ثمرة الانسان، عوالم اخرى سوى العالم الجسماني، فضلاً عن أن لكل عالَمٍ من العوالم سماءه ابتداءً من عالم الارض حتى عالم الجنة.

ونقول بمناسبة الملائكة:

ان الأرض وهي من السيارات المتوسطة الحجم وصغيرة وكثيفة بالنسبة للنجوم، إن كانت مليئة بما لا يعد ولا يحصى من انماط الحياة والشعور - وهما اثمن شئ في الموجودات وانورها - فكيف بالسموات التي هي بحار واسعة تسبح فيها نجوم كأنها عمارات مزدانة وقصور شاهقة بالنسبة للأرض التي هي بيت مظلم صغير؟

اذن فالسموات مساكن ذوي شعورٍ وذوي حياةٍ، وباجناس متنوعة وباعداد لا تعد ولا تحصى، وهم الملائكة والروحانيات. وحيث اننا اثبتنا اثباتاً قاطعاً وجود السموات وتعددها في تفسيرنا المسمى بــ(اشارات الاعجاز في مظان الايجاز) وذلك في تفسير قوله تعالى: ] ثم استوى الى السماء فَسوّيهُن سَبْعَ سمواتٍ[ (البقرة:29) وكذا أثبتنا وجود الملائكة اثباتاً لا يدنو منه الشك في الكلمة التاسعة والعشرين، نوجز هنا البحث ونحيله الى تلكما الرسالتين.

الحاصل: ان وجود السموات التي قد سوّيت من الاثير واصبحت مسَار الضوء والحرارة والجاذبية وامثالها من السيارات اللطيفة، وظلت ملائمة لحركات النجوم والكواكب السيارة كما أشار اليها الحديث الشريف ( السماء موجٌ مكفوف)(1) قد أخذت اوضاعاً مختلفة واشكالاً متباينة، من درب التبانة (المسمى بمجرة السماء) الى اقرب كوكب سيار الينا، في سبع طبقات، كل منها بحكم سقف لعالم آخر، من عالم الارض الى عالم البرزخ الى عالم المثال، والى عالم الآخرة.. هكذا تقتضي الحكمة ومنطق العقل.

p ويرد على البال ايضاً:

ايها الملحد! انت تقول: اننا لا نصعد بالطائرة الى الأعالي الاّ بشق الانفس ونصل بصعوبة بالغة الى مسافة بضع كيلومترات، فكيف يمكن لإنسان ان يقطع بجسمه مسافة الوف السنين ثم يعود الى حيث اتى في بضع دقائق؟!

ونحن نقول:

ان جسماً ثقيلاً كالارض يقطع في الدقيقة الواحدة مسافة ثمان وثمانين ومائة ساعة تقريباً بحركته السنوية، حسب ما توصلتم اليه من علم. اي تقطع الأرض مسافة خمسٍ وعشرين الف سنة في السنة الواحدة!

أليس قادراً يا ترى ذلك القدير ذو الجلال الذي يسيّر هذه الأرض بهذه الحركات المنتظمة الدقيقة على ان يأتي بانسان الى العرش؟ وألا تستطيع تلك الحكمة التي تُجري الأرض الثقيلة - كالمريد المولوي - بقانون رباني يُطلَق عليه اسم جاذبية الشمس، ان ترقى بجسم انسانٍ الى عرش الرحمن كالبرق بجاذبة رحمة الرحمن وبانجذاب محبة نور السموات والارض؟

p ويرد على البال أيضاً!

انك تقول: هب انه يستطيع ان يرقى ويعرج الى السماء، ولكن لماذا عُرج به؟ واي ضرورة للعروج؟ اما كان يكفيه ان يعرج بقلبه وروحه كما يفعله الاولياء الصالحون؟

ونحن نقول:

ما دام الصانع الجليل قد أراد اظهار آياته الكبرى له e في مُلكه وملكوته، واراد اطلاعه على منابع ومصانع هذا العالم، واراد اراءته النتائج الاخروية لأعمال البشر.. فلا شك في ان يصحب معه الى العرش، بصَرَه الذي هو في حكم مفتاح لعالم الـمُبصرات، وسمعَه الذي يطّلع به على آيـات عالم المســموعــات. كما ان من مقتضى العقل والحكمة ان يصحب معه الى العرش جسمَه المبارك ايضاً الذي هو في حكم ماكنة آلاتٍ واجهزةٍ تدور عليها وظائف روحه التي لا تحد؛ اذ كما تجعل الحكمة الإلهية الجسم رفيقاً للروح في الجنة، حيث الجسد مناط كثير من وظائف العبودية وما لا يحد من اللذائذ والآلام، فلابد ان ذلك الجسد المبارك سيرافق الروح. وحيث ان الجسم يدخل الجنة مع الروح، فانه من محض الحكمة ايضاً جعل جسده المبارك رفيقاً للذات المحمدي e الذي عرج به الى سدرة المنتهى التي هي جسد جنة المأوى.

p ويرد على البال ايضاً:

انك تقول: انه محال عقلاً قطع مسافة الوف السنين، في بضع دقائق؟

ونحن نقول:

ان الحركات فيما صنعه الصانع الجليل في غاية الاختلاف والتباين. فمثلاً: ان مدى اختلاف سرعة الصوت والضوء والكهرباء والروح والخيال معلوم لدينا. فسرعة الكواكب السيارة ايضاً - كما هو معلوم علمياً - فيها من الاختلاف ما يحير العقول.

فكيف تبدو حركة جسمه اللطيف e الذي اكتسب بالعروج سرعةً فتبع روحَه السامية،تلك الحركة السريعة سرعة الروح مخالفة للعقل؟

فانت بنفسك اذا نمتَ عشر دقائق، تتعرض الى حالات قد لا تتعرض لها في اليقظة في سنة. حتى ان ما يراه الانسان في الرؤيا في دقيقة واحدة وما يسمع فيها من كلام وما ينطق به من اقوال اذا ما جُمعَ وضُم بعضُه الى بعض فانه يلزمه مدة يوم او اكثر في عالم اليقظة.

فالزمان الواحد اذن بالنسبة لشخصين، يمكن ان يكون في حكم يومٍ واحد لأحدهما وسنةٍ واحدة للآخر.

فانظر الى هذا المعنى بمنظار هذا المثال:

لنفترض وجود ساعة لقياس سرعة حركات الانسان والطلقة والصوت والضوء والكهرباء والروح والخيال. وفي هذه الساعة عقارب، عقرب يعدّ الساعات، وآخر يعدّ الدقائق في دائرة اوسع من الاولى ستين مرة، وعقرب آخر يعدّ الثواني في دائرة اوسع من هذه ستين مرة، وآخر يعدّ الثوالث في دائرة اوسع من هذه ستين مرة.. وهكذا عقارب الروابع والخوامس والسوادس والسوابع والثوامن والتواسع والعواشر. اي تكون للساعة عقارب عجيبة كل منها يدور في دائرة اوسع من التي قبلها بستين ضعفاً.

فلو كانت دائرة العقرب العادّ للساعات بقدر ساعتنا اليدوية الصغيرة، فيلزم ان تكون دائرة العقرب العادّ للعواشر بمقدار المدار السنوي للأرض أو اكبر منه.

والآن لنفترض ان هناك شخصين:

احدهما: كأنه قد ركب عقرب الساعات فيراقب ويطّلع على ما حوله.

والآخر: كأنه قد ركب عقرب العواشر ويشاهد ما حوله.

فالفرق بين ما يشاهده الشخصان من اشياء في زمان واحد، هو نسبة الفرق بين ساعتنا اليدوية ومدار الأرض السنوي، اي ان الفرق هائل جداً، وهكذا فلأن الزمان عبارة عن لونٍ من الوان الحركة وصبغتها أو شريط لها، فالحكم الجاري في الحركات جارٍ ايضاً في الزمان؛ إذ بينا نشاهد في ساعة واحدة بقدر ما يشاهده الراكب ذو الشعور على عقرب الساعات، وحقيقة عمره هي بالقدر نفسه، فان الرسول الاعظم e في الزمان نفسه - كالراكب على عقرب العواشر - في تلك الساعة المعينة يركب براق التوفيق الإلهي ويقطع جميع دوائر الممكنات كالبرق ويرى آيات الـمُلك والملكوت ويرتقي الى نقطة دائرة الوجوب، ويتشرف باللقاء والكلام، ويحظى برؤية الجمال الإلهي ويتلقى العهد والأمر الإلهي لأداء وظيفة ثم يعود. وقد عاد فعلاً.. وهو كذلك.

p ويرد على البال ايضاً:

انكم تقولون: نعم يجوز، ولربما يمكن ان يحدث! ولكن لا يقع فعلاً كل ما هو محتمل الوقوع وممكن، اذ كيف يصح ان يُحكَم على شئ ليس له مثيل، بمجرد أحتمال وقوعه؟

ونحن نقول:

ان امثال المعراج كثيرة لا تحصى. فكل ذي نظر مثلاً يرقى بنظره من الأرض الى كوكب (نبتون) في ثانية واحدة.. وكل ذي علم يذهب بعقله راكباً قوانين الفلك الى ما وراء النجوم والكواكب في دقيقة واحدة.. وكل ذي ايمان يُركب فكرَه على أفعال الصلاة واركانها مودعاً الكائنات وراء ظهره فيذهب الى الحضور الإلهي بما يشبه المعراج.. وكل ذي قلب وولي كامل يستطيع ان يمضي بالسير والسلوك من العرش ومن دائرة الاسماء والصفات في اربعين يوماً.. حتى ان الشيخ الكيلاني والامام الرباني وامثالهما من الأفذاذ قد حصل لهم عروج روحي الى العرش في دقيقة واحدة، كما يخبرون بروايات صادقة.. وان الملائكة الذين هم اجسام نورانية يحصل لهم ذهاب واياب من العرش الى الفرش ومن الفرش الى العرش في زمن قصير جداً.. وان اهل الجنة يعرجون من المحشر الى روضات الجنات في زمان قصير.

فهذا القدر من الامثلة الكثيرة يبين قطعا ان سلطان جميع الاولياء والمرسلين وامام جميع المؤمنين وسيد جميع اهل الجنة ومقبول جميع الملائكة ذلكم الرسول الكريم e بلاشك يحصل له معراج يكون مدار سيره وسلوكه الى الله بما يليق مقامه الرفيع.

فهذه هي الحكمة بعينها، وفي غاية المعقولية، وهي واقعة فعلاً دون أدنى ريب.



الاساس الثالث

ما حكمة المعراج؟

الجواب: ان حكمة المعراج هي من الرفعة والسمو بحيث يعجز الفكر البشري عن ادراكها، وهي من العمق والغور بما يقصر عن تناولها، وهي من الدقة واللطف بما يدق عن أن يراها العقل بمفرده..

ولكن على الرغم من عدم القدرة على ادراك حقائق هذه الحكمة واستيعابها، فانه يمكن ان يُعرَف وجودُها ببعض الاشارات كما يأتي:

لأجل اظهار نور وحدته سبحانه وتعالى وتجلي أحديته في طبقات المخلوقات، اصطفى خالق الكائنات ورب العالمين فرداً متميزاً بمعراجٍ - هو كخيطِ اتصال نوراني بين منـتهــى طبقات كثــرة الموجــودات الى مبدأ الوحدة - متخــذاً ايــاه موضــع خطابه، باسم جميع المخلوقات.. معلماً إياه - وبه - مقاصده الإلهية باسم ذوي الشعور.. ليشهد بنظره جمال صنعته وكمال ربوبيته في مرآة مخلوقاته، ويُشهِد الآخرين آثار الجمال والكمال.

اذ ما دام رب العالمين له جمال مطلق وكمال مطلق - بشهادة آثاره ومصنوعاته - وان الجمال والكمال محبوبان لذاتيهما، فمالك ذلك الجمال والكمال اذن له محبة بلا نهاية لجماله وكماله، وتلك المحبة تظهر بوجوهٍ عدة وانماط كثيرة في المصنوعات؛ فيولي سبحانه مصنوعاته حبَّه لما يرى فيها من أثر جماله وكماله..

ولما كان أحب المصنوعات وأسماها لديه ذوو الحياة.. وأحب ذوي الحياة واسماهم ذوو الشعور.. واحب ذوي الشعور - باعتبار جامعية الاستعدادت - هو ضمن الانسان.. فاحب انسان اذن هو ذلك الفرد الذي انكشفت استعداداته انكشافاً تاماً فاظهر اظهاراً كاملاً نماذج كمالاته سبحانه المنتشرة في المصنوعات والمتجلية فيها.

وهكذا، فصانع الموجودات لأجل مشاهدة جميع انواع تجلي المحبة المبثوثة في جميع الموجودات في نقطةٍ، في مرآة.. ولأجل اظهار جميع انواع جماله - بسرّ الاحدية - اصطفى مَن هو ثمرة منوّرة من شجرة الخلق، ومَن قلبُه في حكم نواة قادرة على استيعاب حقائق تلك الشجرة الاساسية.. اصطفاه بمعراج - هو كخيط اتصال نوراني بين النواة والثمرة، أي من المبدأ الاول الى المنتهى - مُظهراً محبوبية ذلك الفرد الفذ أمام الكائنات؛ فرقاه الى حضوره، وشرّفه برؤية جماله، واكرمه بأمره، وأناط به وظيفةً جعل ما عنده من حكمةٍ قدسية تسري الى الآخرين.

سنرصد هذه الحكمة الإلهية من خلال مثالين اثنين:

C الأول: وهو ما بيناه مفصلاً في الكلمة الحادية عشرة وكما يأتي:

اذا ما وُجدت لسلطان عظيم خزائن كثيرة جداً ملأى بانواع لا تعد ولا تحصى من الجواهر النفيسة والالماسات الفريدة، وكانت له مهارة فائقة في بدائع الصنعة، وله معرفة واسعة بفنون عجيبة لا تحصر، واحاطة تامة بها، مع اطلاع شامل على علوم بديعة لا حد لها، وعلم كـامل بهــا.. فــلاشـــك ان ذلك الســلطان ذا البــدائع والفنون سيريد فتح معرض عام، يعرض فيه معروضاته القيمة - حيث ان كل ذي جمال وكمال يريد مشاهدة واشهاد جماله وكماله - وذلك ليصرف انظار الاهلين الى رؤية عظمة سلطنته ويُشهِدهم شعشعة ثروته وخوارق صنعته وعجائب معرفته، وذلك ليشاهد جمالَه وكمالَه المعنويين على وجهين:

وجه: بنظره الثاقب الدقيق.

وآخر: بنظر الآخرين.

وبناء على هذه الحكمة؛ سيشرع هذا السلطان العظيم حتماً بتشييد قصر عظيم واسع مهيب، ويقسّمه تقسيماً بارعاً الى دوائر وطوابق ومنازل فخمة، موشحاً كل قسم بجواهر ومرصعات خزائنه المتنوعة، مجمّلاً اياه بأجمل ما ابدعته يدُ صنعته وألطفها، منظماً إياه بأدق دقائق فنونه وحكمته. وبعد ذلك سيبسط موائد واسعة عامرة، بما يليق بكل طائفة، معدّاً بها ضيافة عامة سخية تزخر بانواع نعمه وانماط اطعمته اللذيذة.

ثم يدعو رعاياه الى هذه الضيافة الكريمة، ومشاهدة كمالاته البديعة، ويجعل احدهم رسولاً بينه وبينهم، فيدعوه اليه مروراً من ادنى الطبقات الى اعلاها، ويسيّره دائرة فدائرة، وطبقة فوق طبقه.. مُشهداً اياه معامل تلك الصنعة البديعة، ومخازن ما يَرِدُ من الطبقات الدنيا من محاصيل، حتى يبلغه دائرته الخاصة، فيشرّفه بقبوله الى حضرته، مظهراً له ذاته المباركة، التي هي اصل جميع كمالاته.. فيعلّمه كمالاته الذاتية ويرشده الى حقائق القصر. ويسنّمه وظيفة مرشد رائد للمتفرجين ويرسله اليهم ليعرّف الأهلين صانعَ القصر؛ بما في القصر مـن اركان نقـوشه وعجائب صنعته، ويعلّم ما فـي النقوش من رموز، وما في الصنائع من اشارات.. ويعرّف الداخلين الى القصر؛ ما هذه المرصعات المنظومة والنقوش الموزونة؟ وكيف انها تدل على كمالات مالك القصر وابداعه؟ ويرشدهم الى اداب السير والتفرج ويلقنهم مراسيم التشريفات للمثول أمام السلطان العظيم الذي لا يُرى.. كل ذلك وفق ما يرضيه ويطلبه.

وهكذا (ولله المثل الاعلى) فان الصانع الجليل، سلطان الأزل والأبد، قد أراد رؤية واراءة جماله المطلق، وكماله المطلق، فبنى قصر العالم هذا في أبدع ما يكون، بحيث ان كل موجود فيه يذكر كمالاته بألسنة كثيرة، ويدل على جماله باشارات عديدة، حتى ان الكائنات تُظهِر بكل موجود فيها؛ كم من كنــوز معنـوية مخفية ضمن كل اسم من اسماء الله الحسنى، وكم من لطائف مستترة ضمن كل عنوان

مقدس!. بل ان دلالتها هذه هي من الوضوح والجلاء ما جعل جميع الفنون والعلوم بجميع دساتيرها قاصرة عن بلوغ ما في كتاب الكون من بدائع الأدلة منذ زمن آدم عليه السلام، علماً أن ذلك الكتاب لم يُفصِح بعدُ عن عُشرِ معشار ما يعبَّر عنه من معاني الاسماء والكمالات الإلهية.

وهكذا فالصانع ذو الجلال والجمال والكمال الذي شيّد هذا القصر البديع معرضاً لرؤية جماله وكماله المعنوي واراءته، تقتضي حكمتُه، ان يعلّم احد ذوي الشعور في الارض معاني آيات ذلك القصر، لئلا تبقى معانيه عبثاً لا نفع لهم منها.. وان يرقيه الى العوالم العلوية التي هي منابع ما في ذلك القصر من أعاجيب، ومخازن ما فيه من محاصيل.. وان يرفعه الى درجة عالية هي فوق جميع مخلوقاته ويشرّفه بقرب حضوره، ويسيّره في عوالم الآخرة، مكلفاً اياه بوظائف ومهماتٍ، ليكون معلماً لعموم عباده.. داعياً اياهم الى سلطان ربوبيته.. مُبلّغاً اياهم بوظائف مرضيات الوهيته.. مفسراً لهم آياته التكوينية في القصر.. وامثالها من الوظائف الاخرى التي يبين بها سبحانه للعالمين اجمع فضلَ هذا المختار وعظمة منزلته بما قلّده من أوسمة المعجزات، ويُعَـلِّمهم - بالقرآن الكريم - انه المبلّغ الصادق والترجمان الأمين.

وهكذا، فقد بينّا بضع حكَمٍ للمعراج من بين حِكَمه الكثيرة، وذلك في ضوء هذا المثال وعليك ان تقيس بقية الحِكَم على منواله.

C المثال الثاني:

اذا ما ألّف شخص عليم كتاباً معجزاً بحيث أن كل صحيفة منه تزخر بحقائق ما في مائة كتاب، كل سطر منه يحوي على معاني لطيفة لما في مائة صحيفة، كل كلمة منه تنطوي على حقائق ما في مائة سطر، كل حرف منه يُعبّر عن معاني ما في مائة كلمة.. وكانت جميع معاني ذلك الكتاب وجميع حقائقه تشير الى الكمالات المعنوية لذلك الكاتب البديع المعجز وتتوجه نحوها..

فاذا كان الأمر هكذا، فلا ريب ان ذلك الكاتب المعجز لا يترك كتابه المعجَز هذا دون فائدة، ولا يغلق ابواب هذه الخزينة التي لا تنفَدْ، بل محال ان يدعها معطلة لا طائل وراءها.. لذا سيعلّم أفراداً معينين معاني ذلك الكتاب لئلا يبقى ذلك الكتاب القيم مهملاً دون معنى.. ولتظهر كمالاتهُ المخفية. وتجد طريقها الى الكمال، ويُشاهد جمالَه المعنوي ليُحَبَّ ويُحَبِّبَ صاحبه، اي أنه سيعلّم احداً مفردات ذلك الكتاب، بجميع معانيه وحقائقه، ملقناً اياه درساً درساً من اول صحيفة فيه الى آخر صحيفة، حتى يمنحه الشهادة عليه.

وهكذا فالمصور الجميل سبحانه وتعالى الذي كتب هذه الكائنات اظهاراً لكمالاته، وابرازاً لجماله وحقائق اسمائه المقدسة.. كتبها كتابةً بديعة، لا أبدع منها؛ إذ تدل جميع الموجودات - بما لا يحد من الجهات - على اسمائه الحسنى وعلى صفاته الجليلة وعلى كمالاته المطلقة وتعبّر عنها.

ومن المعلوم ان كتاباً - مهما كان - ان لم يُعْرَف معناه، فسيذهب هباءً منثوراً، وستسقط قيمتُه الى العدم، فكيف بكتاب كهذا الذي يتضمن كل حرف فيه الوف المعاني؟ فلا يمكن ان تسقط قيمته قطعاً ولا يمكن ان يذهب هباءً قط!

فكاتب ذلك الكتاب المعجز سيعلّمه حتماً، ويفهّم قسماً منه - حسب استعدادات كل طائفة - مَن هو أعم نظراً وأشمل شعوراً وأكمل استعداداً.

ولاجل تدريس مثل هذا الكتاب وتعليمه تعليماً كلياً وشاملاً جميع حقائقه، تقتضي الحكمة سيراً وسلوكاً في غاية السمو والرفعة، اي يلزم مشاهدةً وسيراً ابتداءً من نهاية طبقات الموجودات الكثيرة - التي هي أولى صفحات هذا الكتاب - وانتهاء الى دائرة الأحدية التي هي منتهى صفحاته.

وهكذا يمكنك مشاهدة شئٍ من الحكم السامية للمعراج في ضوء هذا المثال.

والآن نلتفت الى الملحد القابع في مقام الاستماع، وننصت الى ما يجول في قلبه لنشاهد أي طور من الاطوار قد تلبّس..

C فالذي يرد الى الخاطر ان قلبه يقول:

لقد بدأت اخطو خطوات في طريق الايمان، ولكن هناك ثلاثة اشكالات ومعضلات لا استطيع حلّها واستيعابها!

الاول: لِمَ اختُصَّ بهذا المعراج العظيم محمدٌ e .

الثاني: كيف يكون ذلك النبي الكريم e نواة هذه الكائنات؟ حيث تقولون: ان الكائنات قد خلقت من نوره. وفي الوقت نفسه هو آخر ثمرة من ثمرات الكائنات وأنورها!. ماذا يفيد هذا الكلام؟

الثالث: تقولون فيما بينتموه سابقاً: ان العروج الى العالم العلوي انما كان لأجل مشاهدة المعامل والمصانع الاساس لما في العالم من آثار، ولرؤية مخازن ومستودعات نتائج الآثار.. ماذا يعني هذا الكلام؟

الاشكال الاول:

الجواب: ان إشكالكم الاول هذا، قد حُلَّ مفصلاً في الكلمات الثلاث والثلاثين ضمن كتاب الكلمات، الا اننا نشير هنا مجرد اشارة مجملة على صورة فهرس موجز الى كمالات النبي الكريم e ، ودلائل نبوته، وانه هو الأحرى بهذا المعراج العظيم.

اولاً: ان الكتب المقدسة، التوراة والانجيل والزبور تضم بشارات بنبوة الرسول الكريم e واشارات اليه، رغم تعرضها الى التحريفات طوال العصور، وقد استنبط في عصرنا هذا العالم المحقق حسين الجسر عشراً ومائة بشارة منها، واثبتها في كتابه الموسوم بـ(الرسالة الحميدية).

ثانياً: انه ثابت تاريخياً - ورويت بروايات صحيحة - بشارات كثيرة بشّر بها الكهان من امثال الكاهنين المشهورين: شِق وسطيح، قبيل بعثته e واخبرا انه نبي آخر الزمان.

ثالثاً: ما حدث ليلة مولده e من سقوط الاصنام في الكعبة وانشقاق إيوان كسرى وامثالها من مئات الارهاصات والخوارق المشهورة في كتب التأريخ.

رابعاً: نبعان الماء من بين اصابعه الشريفة وسقيه الجيش به، وانين الجذع في المسجد وانشقاق القمر كما نصت عليه الآية الكريمة ] وانشق القمر[ وامثالها من المعجزات الثابتة لدى العلماء المحققين والتي تبلغ الألف قد اثبتتها كتب السير والتأريخ.

خامساً: لقد اتفق الاعداء والاولياء بما لا ريب فيه ان ما يتحلى به e من الاخلاق الفاضلة هو في اسمى الدرجات، وان ما يتصف به من سجايا حميدة في دعوته هو في اعلى المراتب، تشهد بذلك معاملاته وسلوكه مع الناس. وان شريعته الغراء تضم اكمل الخصال الحسنة، تشهد بذلك محاسن الاخلاق في دينه القويم.

سادساً: لقد اشـرنا فــي الاشارة الثانية من الكلمة العاشرة الى ان الرسول الكريم e هو الذي اظهر اعلى مراتب العبودية واسماها بالعبودية العظيمة في دينه تلبية لأرادة الله في ظهور الوهيته بمقتضى الحكمة.

وانه هو كذلك ـ كما هو بديهي - اكرم دالّ على جمالٍ في كمال مطلق لخالق العالم وافضل معرّف لبّى ارادة الله سبحانه في اظهار ذلك الجمال بوساطة مبعوث كما تقتضيه الحكمة والحقيقة.

وانه هو كذلك - كما هو مشاهد - اعظم دالّ على كمال صنعةٍ في جمال مطلق لصانع العالم، وباعظم دعوة واندى صوت، فلبّى ارادة الله جل وعلا في جلب الانظار الى كمال صنعته والاعلان عنها.

وانه هو كذلك - بالضرورة - اكمل مَن أعلن عن جميع مراتب التوحيد، فلبّى ارادة رب العالمين في اعلان الوحدانية على طبقات كثرة المخلوقات.

وانه هو كذلك - بالضرورة - أجلى مرآة وأصفاها لعكس محاسن جمال مالك العالم ولطائف حُسنه المنزّه - كما تشير اليه آثاره البديعة - وهو أفضل مَن أحبَّه وحببَّه، فلبّى ارادته سبحانه في رؤية ذلك الجمال المقدس واراءته بمقتضى الحقيقة والحكمة.

وأنه هو كذلك - بالبداهة - اعظم مَن عرَّف ما في خزائن الغيب لصانع هذا العالم - تلك الخزائن الملأى بأبدع المعجزات واثمن الجواهر - وهو أفضل مَن اعلن عنها ووصفها، فلبّى ارادته سبحانه في اظهار تلك الكنوز المخفية.

وأنه هو كذلك - بالبداهة - اكمل مرشد بالقرآن الكريم للجن والانس بل للروحانيين والملائكة، واعظم مَن بيّن معاني آثار صانع هذه الكائنات التي زيّنها باروع زينة ومكّن فيها ارباب الشعور من مخلوقاته لينعموا بالنظر والتفكر والاعتبار، فلّبى ارادته سبحانه في بيان معاني تلك الآثار وتقدير قيمتها لأهل الفكر والمشاهدة.

وانه هو كذلك - بالبداهة - احسن من كشف بحقائق القرآن عن مغزى القصد من تحولات الكائنات والغاية منها، واكمل مَن حلّ اللغز المحير في الموجودات. وهو اسئلة ثلاثة معضلة: مَن انت؟ ومن اين؟ والى اين؟ فلبّى ارادته سبحانه في كشف ذلك الطلسم المغلق لذوي الشعور بوساطة مبعوث.

وانه هو كذلك - بالبداهة - اكمل مَن بيّن المقاصد الإلهية بالقرآن الكريم وأحسن مَن وضح السبيل الى مرضاة رب العالمين، فلبّى ارادته سبحانه في تعريف ما يريده من ذوي الشعور وما يرضاه لهم بوساطة مبعوث، بعدما عرّف نفسه لهم بجميع مصنوعاته البديعة وحببها اليهم بما أسبغ عليهم من نعَمه الغالية.

وانه هو كذلك - بالبداهة - اعظم من استوفى مهمة الرسالة بالقرآن الكريم وادّاها أفضل اداء في اسمى مرتبة وابلغ صورة واحسن طراز، فلبّى ارادة رب العالمين في صرف وجه هذا الانسان من الكثرة الى الوحدة ومن الفاني الى الباقي، ذلك الانسان الذي خلقه سبحانه ثمرةً للعالم ووهب له من الاستعدادات ما يسع العالم كله وهيأه للعبودية الكلية وابتلاه بمشاعر متوجهة الى الكثرة والدنيا.

وحيث ان اشرف الموجودات هم ذوو الحياة، وانبل الأحياء هم ذوو الشعور، واكرم ذوي الشعور هم بنو آدم الحقيقيون الكاملون، لذا فالذي ادّى من بين بني الانسان المكرم تلك الوظائف المذكورة آنفاً وأعطى حقها من الاداء في افضل صورة واعظم مرتبة من مراتب الاداء، لا ريب، انه سيعرج - بالمعراج العظيم - فيكون قاب قوسين أو أدنى، وسيطرق باب السعادة الابدية وسيفتح خزائن الرحمة الواسعة، وسيرى حقائق الايمان الغيبية رؤية شهود، ومن ذا يكون غير ذلكم النبي الكريم e ؟

سابعاً: يجد المتأمل في هذه المصنوعات المبثوثة في الكون أن فيها فعل التحسين في منتهى الجمال وفعل التزيين في منتهى الروعة، فبديهي أن مثل هذا التحسين والتزيين يدلان على وجود ارادة التحسين وقصد التزيين لدى صانع تلك المصنوعات فتلك الارادة الشديدة تدل بالضرورة على وجود رغبة قوية سامية ومحبة مقدسة لدى ذلك الصانع نحو صنعته...

لذا فمن البديهي أن يكون أحب مخلوق لدى الخالق الكريم الذي يحب مصنوعاته هو مَن يتصف بأجمع تلك الصفات، ومَن يُظهر في ذاته لطائف الصنعة اظهاراً كاملاً، ومن يعرفها ويعرِّفها، ومَن يحبِّب نفسه ويستحسن - باعجاب وتقدير - جمال المصنوعات الاخرى.

فمَن الذي جعل السموات والارض ترن بصدى (سبحان الله... ما شاء الله... الله اكبر) من اذكار الاعجاب والتسبيح والتكبير تجاه ما يرصّع المصنوعات من مزايا تزينّها ومحاسن تجمّلها ولطائف وكمالات تنورها؟ ومن الذي هزّ الكائنات بنغمات القرآن الكريم فانجذب البر والبحر اليها في شوق عارم من الاستحسان والتقدير في تفكر واعلان وتشهير، في ذكر وتهليل؟ من ذا يكون تلك الذات المباركة غير محمد الأمين e ؟.

فمثل هذا النبي الكريم e الذي يضاف الى كفة حسناته في الميزان مثل ما قامت به امتُه من حسنات بسر (السبب كالفاعل)... والذي تضاف الى كمالاته المعنوية الصلوات التي تؤديها الامة جميعاً.. والذي يُفاض عليه من الرحمة الإلهية ومحبتها ما لا يحدهما حدود فضلاً عما يناله من ثمرات ما اداه من مهمة رسالته من ثواب معنوي عظيم.. نعم، فمثل هذا النبي العظيم e لا ريب أن ذهابه الى الجنة، والى سدرة المنتهى، والى العرش الاعظم، فيكون قاب قوسين أو أدنى، أنما هو عين الحق، وذات الحقيقة ومحض الحكمة.

الاشكال الثاني:

ايها القاعد في مقام الاستماع! ان هذه الحقيقة التي استشكلتها هي عميقة الغور في ذاتها، وهي عالية سامية الى حدّ لا يبلغها العقل، بل لا يقترب منها، ومع هذا فانها تُرى بنور الايمان.

ونحن هنا سنحاول ان نقرّب الى الافهام شيئاً من تلك الحقيقة العالية ببعض الأمثلة، التي تساعد على ذلك، وهي على النحو الآتي: اذ ما نظر الى هذه الكائنات نظر الحكمة، بدت كأنها شجرة عظيمة وفي معناها، فكما ان الشجرة لها اغصان واوراق وازاهير وثمرات، ففي العالم السفلي - الذي هو شقّ من شجرة الخلقة - تشاهد ايضاً ان العناصر بمثابة اغصانه، والنباتات والاشجار في حكم اوراقه، والحيوانات كأنها ازاهـيره، والأنـاسي كأنهم ثمراته. فالقانون الإلهي الجاري على الاشجار يلزم ان يكون جارياً ايضاً على هذه الشجرة العظمى، وذلك بمقتضى اسم الله (الحكيم)؛ لذا فمن مقتضى الحكمة ان تكون شجرة الخلقة هذه ناشئة ايضاً من نواة، وان تكون النواة جامعةً علـى نمـاذج واسس سائر العوالم فضلاً عن احتوائه على العالم الجسماني؛ لان النواة الاصلية للكائنات المتضمنة لألوف العوالم ومنشأها لا يمكن ان تكون مادة جامدة قط. وحيث انه ليست هناك شجرة من غير نوع شجـرة الكائنات قد سبقـتها، فـان المعنـى والنور الذي هو في حكم المنشأ والنواة لها قد تجسّد بثمرة في شجرة الكائنات وألبس ملابس الثمرة، وذلك لأن النواة لا تكون مجرّدة عارية دائماً، اذ ما دامت لم تلبس لباس الثمرة في اول الفطرة، فستلبسها في الأخير.

وما دام الانسان هو تلك الثمرة، وان افضل ثمرات نوع البشر وانورها واحسنها واعظمها واشرفها وألطفها واجملها وأنفعها هو محمد e - كما اثبت سابقاً - الذي جلب نظر عموم المخلوقات بفضائله، وحصر نظر نصف الارض وخمس البشرية في ذاته المباركة واستقطب انظار العالمين الى محاسنه المعنوية بالمحبة والتبجيل والاعجاب.. فلابد أن النور الذي هو نواة تَشَكّلِ الكائنات سيتجسد في ذاته e وسيظهر بصورة ثمرة الختام.

ايها المستمع! لا تستبعد خلق هذه الكائنات البديعة العظيمة من ماهيةٍ جزئيةٍ لانسان. فان القدير ذا الجلال الذي يخلق شجرة صنوبر ضخمة - وكأنها عالم بذاته - من نواة صغيرة لها، كيف لا يخلق، أو يعجز عن خلق الكائنات من نور محمد e ؟

نعم، ان شجرة الكائنات شبيهة بشجرة طوبى الجنة؛ جذعها وجذورها متوغلة في العالم العلوي، واغصانها وثمراتها متدلية الى العالم السفلي؛ لذا فان هناك خيطاً ذا علاقة نورانية ابتداءً من مقام الثمرة في الاسفل الى مقام النواة الأصلية.

فالمعراج النبوي صورة وغلاف لخيط العلاقة النورانية ذاك، حيث فتح الرسول الكريم e ذلك الطريق ودرج فيه بولايته، وعاد برسالته، وترك الباب مفتوحاً، ليسلكه اولياء امته الذين يتبعونه سلوكاً بالروح والقلب فيدرجوا في تلك الجادة النورانية تحت ظلال المعراج النبوي، ويعرجوا فيها الى مقامات عالية كل حسب استعداداته وقابلياته.

ولقد اثبتنا سابقاً؛ ان الصانع الجليل قد أنشأ هذه الكائنات وزيّنها وكأنها قصر بديع لأجل مقاصد وغايات جليلة.. فالرسول الكريم e الذي هو محور تلك المقاصد ومدارها لابد ان يكون موضع عنايته سبحانه قبل خلق الكائنات، وان يكون اول مَن حظي بتجليه جلّ جلاله.

اذن فهو الأول معنىً، والآخر وجوداً.

وحيث ان الرسول الكريم e اكمل ثمرات الخلق، ومدار قيمة جميع الثمرات، ومحور ظهور جميع المقاصد، يلزم ان يكون نوره اول من نال تجلي الايجاد.

الاشكال الثالث:

هذه الحقيقة لها من السعة مالا تستطيع اذهاننا البشرية الضيقة الاحاطة بها واستيعابها. ولكن نستطيع النظر اليها من بعيد.

نعم، ان المعامل المعنوية للعالم السفلي، وقوانينه الكلية، انما هي في العوالم العلوية. وان نتائج اعمال ما لا يحد من المخلوقات التي تعمّر الأرض - وهي بذاتها محشر المصنوعات - وكذا ثمرات الافعال التي يقوم بها الجن والانس.. كلها تتمثل في العوالم العلوية أيضاً.

حتى ان اشارات القرآن الكريم، ومقتضى اسم الله (الحكيم) والحكمة المندرجة في الكائنات مع شهادات الروايات الكثيرة وأمارات لا حد لها.. تدلّ على ان الحسنات تتمثل بصورة ثمرات الجنة والسيئات تتشكل بصورة زقوم جهنم.

نعم ان الموجودات الكثيرة قد انتشرت على وجه الارض انتشاراً عظيماً.. وانماط الخلقة قد تشعبت عليه الى درجة كبيرة.. بحيث ان اجناس المخلوقات واصناف المصنوعات التي تتبدل وتملأ وتخلى منها الأرض تفوق كثيراً المصنوعات المنتشرة في الكون كله.

وهكذا فمنابع هذه الكثرة والجزئيات ومعادنها الأساس لابد انها قوانين كلية، وتجليات كلية للاسماء الحسنى، بحيث ان مظاهر تلك القوانين الكلية وتلك التجليات الكلية وتلك الأسماء المحيطة، هي السموات، التي هي بسيطة - غير مركبة - وصافية الى حدٍ ما والتي كل واحدة منها في حكم عرشٍ لعالمٍ، وسقف له، ومركز تصرف. حتى ان احدى تلك العوالم هي جنة الماوى التي هي عند سدرة المنتهى.

ولقد اخبر المخبر الصادق e بما معناه: ان التسبيحات والتحميدات التي تُذكر في الأرض تتجسد بصورة ثمرات الجنة.

فهذه النقاط الثلاث تبين لنا:

ان مخازن ما في الارض من النتائج والثمرات الحاصلة انما هي هناك، وان محاصيلها متوجهة ومُساقة الى هناك.

فلا تقل ايها المستمع: كيف تصبح: (الحمد لله) التي اتلفظها في الهواء ثمرة مجسمة في الجنة؟ لأنك عندما تلفظ كلمة طيبة وانت يقظ في النهار قد تتراءى لك في الرؤيا بصورة تفاح لذيذ فتأكله. وكذلك كلامك القبيح نهاراً قد تبلعه في الرؤيا شيئاً مُرّاً علقماً. فان اغتبت أحداً فاذا بك تُجبر على اكل ميت!.

اذن فكلماتك الطيبة او الخبيثة التي تتلفظها في عالم الدنيا الذي هو عالم منام، تأكلها ثمراتٍ في عالم الآخرة الذي هو عالم اليقظة، وهكذا ينبغي الاّ تستبعد أكلك هذا!



الاساس الرابع

ما ثمرات المعراج وفوائده؟

الجواب: ان لهذا المعراج العظيم الذي هو شجرة طوبى معنوية فوائد جليلة جمة، وثمرات يانعة يتدلى منها ما يزيد على خمسمائة ثمرة وفائدة، الا اننا سنذكر هنا خمساً منها فقط على سبيل المثال:

الثمرة الاولى

هي رؤية حقائق الاركان الايمانية، رؤية عين وبصر، أي: رؤية الملائكة والجنة والآخرة، بل حتى رؤية الذات الجليلة، فهذه الرؤية والمشاهدة الحقة وهَبَت للكائنات اجمع وللبشرية خاصة خزينة عظيمة لا تنفد، ونوراً أزلياً لا يخبو، وهدية ابدية ثمينة لا تقدّر بثمن؛ إذ أخرج ذلك النور الكائنات قاطبة مما يُتوهم أنها تتردى في اوضاع فانية زائلة مضطربة أليمة.. واظهرها على حقيقتها؛ أنها كتابات صمدانية، ورسائل ربانية قدسية، ومرايا جميلة تعكس جمال الأحدية. مما أدخل السرور والفرح في قلوب جميع ذوي الشعور بل ابهج الكائنات كلها..

ومثلما اخرج ذلك النورُ الكائنات من اوضاع أليمة موهومة أخرج الانسان العاجز امام اعداء لا حدّ لهم، الفقير الى حـاجــات لا نـهــاية لها من اوضــاع فانية ضالة يتخبط فيها. فكشف عن صورته الحقيقية بأنه معجزةٌ من معجزات قدرة الله سبحانه، ومخلوقه الذي هو في أحسن تقويم، ونسخةٌ جامعة من رسائله الصمدانية، ومخاطَبٌ مُدرك لسلطـان الازل والأبد وعبدُه الخاص، ومستحسنُ كمالاته وخليلُه المحبوب، والمعجَبُ بجماله المقدس وحبيبهُ، والضيفُ المكرم لديه والمرشحُ لجنته الباقية.

فيا له من سرور بالغ لا منتهى له، وشوقٍ عارم لا غاية له يمنحه هذا النور لكل من يعتبر نفسه انساناً!

الثمرة الثانية

وهي أنه أتى بأسس الاسلام، وفي مقدمتها (الصلاة). تلك الاسس التي تمثل مرضيات رب العالمين، حاكم الازل والابد.. وقد أتى بها هدية قيّمة وتحفة طيبة الى الجن والانس كافة.

ان معرفة تلك المرضيات الربانية وحدها لتثير لدى الانسان من الرغبة والشوق والتطلع الى فهمها ما لا يمكن وصفه، فضلاً عما تورث من سعادة وانشراح وسرور؛ اذ لا جرم ان كل انسان يرغب رغبة جادة أن يعرف – ولو من بعيد – ما يطلب منه سلطانُه الذي أنعم عليه ويشتاق بلهفة ان يعرف ماذا يريد منه مَن أولاه نعمه وأحسن اليه؟ وحتى اذا ما عرف مرضياته يغمره سرور بالغ ويشيع فيه الرضى والاطمئنان بل حتى انه يتمنى من قلبه كله قائلاً: (يا ليت هناك واسطة بيني وبين مولاي لأعرف ما يريد مني، وماذا يرغب ان اكون عليه؟).

نعم، ان الانسان الذي هو في اشد الفاقة الى مولاه سبحانه وتعالى في كل آن، وفي كل أحواله وشؤونه، وقد نال من أفضاله الكريمة، ونعمه السابغة ما لا يعد ولا يحصى، وهو على يقين من أن الموجودات كلها في قبضة تصرفه سبحانه، وما يتألق من سنا الجمال والكمالات على الموجودات، ما هو الاّ ظل ضعيف بالنسبة لجماله وكماله سبحانه.. اقول: ترى كم يكون هذا الانسان مشتاقاً ومتلهفاً لمعرفة ما يرضي هذا الرب الجليل، وإدراك ما يطلبه منه!. لعلك تقدّر هذا!

فهاهو ذا الرسول الكريم e قد أتى بمرضيات رب العالمين وقد سمعها سماعاً مباشراً بحق اليقين من وراء سبعين الف حجاب، أتى بها ثمرة من ثمرات المعراج وقدّمها هدية طيبة الى البشرية جمعاء.

نعم، ان الانسان الذي يتطلع الى معرفة ماذا يحدث في القمر؟ واذا ما ذهب احدهم الى هناك وعاد فأخبر بما فيه ربما يضحي الكثير لأجل ذلك الخبر، وتأخذه الحيرة والاعجاب كلما عرف اخبار ما هنالك..!!

اقول ان كان وضع الانسان هكذا مع اخبار مَن ذهب الى القمر، فكيف تكون لهفته وشوقه لتلقي اخبار مَن يأتي عن مالك الملك ذي الجلال الذي ليس القمر في ملكه الاّ كذباب يطير حول فراش، يطير ذلك الفراش حول سراج من الوف السرج التي تضئ مضيفه..

نعم، لقد رأى الرسول الكريم e شؤون هذا الملك العظيم ذي الجلال وشاهد بدائع صنعته وخزائن رحمته في عالم البقاء. وعاد بعد رؤيته لها وحدّث البشر بما رآه وشاهده.

فان لم ينصت البشر الى هذا الرسول الكريم e انصات شوق ورغبة وبكل تبجيل واعجاب، فافهم مدى مجافاتهم العقلَ ومجانبتهم الحكمة.

الثمرة الثالثة

انه شاهد كنوز السعادة الابدية ودفائن النعيم المقيم، وتسلّم مفتاحها، وأتى به هدية للانس والجن.

نعم، انه شاهد ببصره - بالمعراج - الجنة الخالدة، ورأى التجليات الابدية لرحمة الرحمن ذي الجلال، وادرك ادراكاً بحق اليقين السعادة الابدية، فزفّ بشرى وجود السعادة الابدية الى الجن والانس.. تلك البشرى العظيمة التي يعجز الانسان عن وصفها، اذ بينما الاوضاع الموهومة تحيط بالجن والانس حيث تُصفَع الموجودات كلها بصفعات الزوال والفراق في دنيا لا قرار لها، وسـيل الزمان وحركات الذرات تجرفها الى بحر العـدم والفراق الابدي.. نعم! فبينا هذه الاوضاع المؤلمة التي تزهق روح الجن والانس تحيط بهما من كـل جانب، اذا بتلك البـشرى السارة تُزَفّ اليهما.. فقس - في ضوء هذا - مدى ما تورثه تلك البـشرى من سعادة وانشراح وسرور لدى الجن والانس اللذين يظنان انهما محكومٌ عليهما بالاعدام الابدي، وانهما فانيـان فناء مطلقاً! ثم افهم بعد ذلك قيمة تلك البشرى! فلو قيل لمحكوم عليه بالاعدام وهو يخطو خطواته نحـو المشنـقة: ان السلطان قد تكرم بالعفو عنك فضلاً عن انه منحك بيتاً عنده. فلك ان تتصور مدى ما يفتح هذا الكلام من آفاق السرور والفرح لدى ذلك المحكوم عليه بالاعدام. ولكي تستطيع ان تتصور قيمة هذه الثمرة وهذه البشرى العظيمة، اجمع جميع ذلك السرور والفرح بعدد الجن والانس لِتقدر مدى قيمة تلك البشرى!

الثمرة الرابعة

هي رؤية جمال الله سبحانه وتعالى.. فكما حظي بها e فقد أتى: بأنه يمكن لكل مؤمن ان يحظى بتلك الثمرة الباقية ايضاً. فأهدى بهذا هدية عظيمة للجن والانس. ولعلك تتمكن ان تقدّر مدى اللذة الكامنة في تلك الثمرة المهداة ومدى حلاوتها وجمالها ونفاستها من خلال هذا المثال:

ان كل من يحمل قلباً حياً، لا شك انه يحب من كان ذا جمال وكمال وإحسان، وهذه المحبة تتزايد وفق درجات ذلك الجمال والكمال والاحسان، حتى تبلغ درجة العشق والتعبد. فيضحي صاحبها بما يملك في سبيل رؤية ذلك الجمال، بل قد يضحي بدنياه كلها لأجل رؤيته مرة واحدة. واذا علمنا ان نسبة ما في الموجودات من جمال وكمال واحسان الى جماله وكماله واحسانه سبحانه وتعالى لا يبلغ ان يكون لُميعات ضئيلة بالنسبة للشمس الساطعة. فاذن تستطيع ان تدرك - ان كنت انساناً حقاً - مدى ما يورثه من سعادة دائمة ومدى ما يبعث من سرور ولذة ونعمة، التوفيق الى رؤية مَن هو الأهل لمحبة بلا نهاية وشوق بلا نهاية ورؤية بلا نهاية في السعادة بلا نهاية.

الثمرة الخامسة

وهي ان الانسان - كما فهم من المعراج - ثمرة قيمة من ثمرات الكائنات جليل القدر، ومخلوق مكرم محبوب لدى الصانع الجليل. هذه الثمرة الطيبة اتى بها الرسول الكريم e بالمعراج، هدية الى الجن والانس، فرفعت تلك الثمرة الانسانَ من كونه مخلوقاً صغيراً وحيواناً ضعيفاً وذا شعور عاجز الى مقام رفيع ومرتبة عالية، بل الى ارقى مقام عزيز مكرم على جميع المخلوقات. فمنحت هذه الثمرة الانسانَ من الفرح والسرور والسعادة الخالصة ما يُعْجَز عن وصفه؛ لأنه:

اذا قيل لجندي فرد: لقد اصبحت مشيراً في الجيش، كم يكون امتنانه وحمده وسروره وفرحه ورضاه؟ لا يُقدَّر حتماً؛ بينما الانسان المخلوق الضعيف والحيوان الناطق.. والعاجز الفاني، الذليل امام ضربات الزوال والفراق، لو قيل له: انك ستدخل جنة خالدة وتتنعم برحمة الرحمن الواسعة الباقية، وتتنزّه في مُلكه وملكوته الذي يسع السموات والارض، وتتمتع بها بجميع رغبات القلب في سرعة الخيال وفي سعة الروح وجولان العقل وسريانه.. وفوق كل هذا ستحظى برؤية جماله سبحانه في السعادة الابدية.

فكل انسان، لم تنحط انسانيته يستطيع ان يدرك مدى الفرح والسرور اللذين يغمران ذلك الذي يقال له مثل هذا الكلام.

والآن نتوجه الى ذلك القاعد في مقام الاستماع، فنقول له:

مزّق عنك قميص الالحاد، وارمه بعيداً، واستمع بأذن المؤمن، وتقلّد نظر المسلم، فسأبين لك قيمة بضع ثمرات ضمن مثالين صغيرين:

المثال الاول:

هب اننا معك في مملكة واسعة. اينما تتوجه فيها بالنظر فلا ترى الاّ العداء، فكل شئ عدوّ لنا، وكل شئ يضمر عداوة للآخر، وكل ما فيها غريب عنا لا نعرفه، وكل زاوية منها ملأى بجنائز تثير الرعب والدهشة. وتتعالى اصوات من هنا وهناك وهي اصوات نياح واستغاثات اليتامى والمظلومين. فبينما نحن في مثل هذه المآسي والآلام، اذا بأحدٍ يذهب الى سلطان المملكة ويأتي منه ببشرى سارة للجميع.

فاذا ما بدّلتْ تلك البشرى ما كان غريباً عنا احباباً اودّاء.. واذا ما غيّرتْ شكل مَن كنا نراه عدواً الى صورة اخوان احباء.. واذا ما اظهرت لنا الجنائز الميتة المخيفة على صورة عبّاد خاشعين قانتين ذاكرين الله مسبحين بحمده.. واذا ما حوّلت تلك الصياحات والنواحات الى ما يشبه الحمد والثناء والشكر.. واذا ما بدلت تلك الاموات والغصب والنهب الى ترخيص وتسريح من اعباء الوظيفة.. واذا كنا نحن نشارك الآخرين في سرورهم فضلاً عن سرورنا.. عند ذلك يمكنك ان تقدّر مدى السرور الذي يعمنا بتلك البشرى العظيمة.

وهكذا فإحدى ثمرات المعراج هي نور الايمان، فلو خلت الدنيا من هذه الثمرة، اي اذا ما نُظر الى الكائنات بنظر الضلالة، فلا ترى الموجودات الاّ غريبة، متوحشة، مزعجة، مضرة، والاجسام الضخمة - كالجبال - جنائز تثير الدهشة والخوف. والاجل جلاد يضرب اعناق الموجودات ويرميها الى بئر العدم. وجميع الاصوات والاصداء ما هي الاّ صراخ ونعي ناشئان من الفراق والزوال..

فبينما تصوِّر لك الضلالة الموجودات هكذا، اذا بثمرة المعراج التي هي حقائق الايمان تنور الموجودات كلها وتبينها انها احباء متآخية، في تسبيح وذكر لربها الجليل، والموت والزوال تسريح من الوظيفة وراحة منها. وتلك الأصوات تسبيحات وتحميدات.. وهكذا، فان شئت ان ترى هذه الحقيقة بأوضح صورتها فراجع (الكلمة الثانية) من (الكلمات الصغيرة).

المثال الثاني:

هب اننا معك في صحراء كبرى. تحيط بنا عواصف رملية من كل جانب، وظلمة الليل تحجب عنا كل شئ حتى لا نكاد نرى ايدينا. والجوع يفتك بنا والعطش يلهب افئدتنا، ولا معين لنا ولا ملجأ.. تصوّر هذه الحالة التي نضطرب فيها. واذا بشخص كريم يمزّق حجاب الظلام ثم يأتي الينا، وفي معيته مركبة فارهة هدية لنا، فيقلّنا بها الى مكان أشبه ما يكون بالجنة. كل شئ فيه على ما يرام، كل شئ مهئ ومضمون لنا.. يتولانا مَن هو في منتهى الرحمة والشفقة والرأفة، وقد أعدّ لنا كل ما نحتاجه من وسائل الاكل والشرب..

أظنك تقدّر الآن كم نكون شاكرين لفضل ذلك الشخص الكريم الذي اخذنا من موضع اليأس والقنوط الى مكان كله امل وسرور.

فتلك الصحراء الكبرى هي هذه الدنيا. وتلك العواصف الرملية هي حركات الذرات وسيول الزمان التي تضطرب بها الموجودات وهذا الانسان المسكين.. كل انسان قلق ومضطرب يتوجس خيفة مما يخفيه له مقبل ايامه المظلمة المخيفة.. هكذا تريه الضلالة فلا يعرف بمن يستغيث، وهو يتضوّر جوعاً وعطشاً..

وهكذا فمعرفة مرضيات الله سبحانه، وهي ثمرة من ثمرات المعراج، تجعل هذه الدنيا مضيفاً لمضيِّف جواد كريم. وتجعل الاناسي ضيوفه المكرمين، ومأموريه في الوقت نفسه وضمن له مستقبلاً زاهياً كالجنة، وممتعاً ولذيذاً كالرحمة، وساطعاً باهراً كالسعادة الابدية.

فاذا تصورت هذا وذاك فعندئذ يمكنك ان تقيس مدى لذة تلك الثمرة وجمالها وحلاوتها!

ان من كان في مقام الاستماع يقول:

- حمداً لله وشكراً الف شكرٍ فقد نجوت بفضله من الالحاد، فسلكت طريق الايمان والتوحيد. وغنمت الايمان.. والحمد لله.

ونحن نقول له:

ايها الأخ! نهنئك بالايمان، ونسأله تعالى أن يجعلنا ممن ينالون شفاعة الرسول الكريم e .

اللهم صل على من انشق باشارته القمرُ، ونبع من اصابعه الماءُ كالكوثرِ صاحبِ المعراج وما زاغ البصرُ، سيدنا محمد وعلى آله واصحابه اجمعين. من أول الدنيا الى آخر المحشر.

] سبحانك لا علَم لنا الاّ ما عَلّمتنا إنك انتَ العليمُ الحكيمُ[

] ربَّنا تقبَّل منّا انك انت السميعُ العليمُ[

] ربنّا لا تؤاخذْنا ان نسينا أو أخطأنا[

] ربنّا لا تُزِغ قلوبنَا بعدَ إذْ هَدَيْتَنا[

] ربنَّا أتمم لنا نورَنا واغفر لَنا إنك على كل شيءٍ قديرٌ[

] واخِرُ دَعْويهم أن الحمدُ لله رَبِّ العَالمينَ[

ذيل

الكلمة التاسعة عشرة والحادية والثلاثين

معجزة انشقاق القمر

بسم الله الرحمن الرحيم

] اقتَرَبت الساعةُ وانشق القَمَر^ وإنْ يَرَوا آيةً يُعرِضوا ويقولوا سحرٌ مستمرٌ[ (القمر:1ـ 2)

ان فلاسفة ماديين – ومن يقلّدونهم تقليداً اعمى – يريدون ان يطمسوا ويخسفوا معجزة انشقاق القمر الساطع كالبدر، فيثيروا حولها اوهاماً فاسدة، اذ يقولون: ((لو كان الانشقاق قد حدث فعلاً لعرفه العالم، ولذكرته كتب التاريخ كلها!)).

الجواب: ان انشقاق القمر معجزة لإثبات النبوة، وقعت امام الذين سمعوا بدعوى النبوة وانكروها، وحدثت ليلاً، في وقت تسود فيه الغفلة، واُظهِرت آنياً، فضلاً عن ان اختلاف المطالع ووجود السحاب والغمام وامثالها من الموانع تحول دون رؤية القمر، علماً ان اعمال الرصد ووسائل الحضارة لم تكن في ذلك الوقت منتشرة؛ لذا لا يلزم ان يرى الانشقاق كلُ الناس، في كل مكان، ولا يلزم ايضاً ان يدخل كتب التاريخ.

فاستمع الآن الى نقاط خمس فقط من بين الكثير منها، تبدد باذن الله سُحبَ الاوهام التي تلبّدتعلى وجه هذه المعجزة الباهرة:

C النقطة الاولى:

ان تعنت الكفار في ذلك الزمان معلوم ومشهور تاريخاً، فعندما أعلن القرآن الكريم ] انشق القمر[ وبلغ صداه الآفاق، لم يجرؤ أحد من الكفار - وهم يجحدون القرآن - ان يكذّب بهذه الآية الكريمة. اي ينكر وقوع الحادثة. اذ لو لم تكن الحادثة قد وقعت فعلاً في ذلك الوقت، ولم تكن ثابتة لدى اولئك الكفار، لاندفعوا بشدة ليبطلوا دعوى النبوة، ويكذّبوا الرسول e . بينما لم تنقل كتب

التأريخ والسير شيئاً من اقوال الكفار حول انكارهم حدوث الانشقاق، الا ما بيّنته الآية الكريمة ] ويقولوا سحر مستمر[ وهو ان الذين شاهدوا المعجزة من الكفار قالوا: هذا سحر فابعثوا الى أهل الآفاق حتى تنظروا أرأوا ذلك أم لا؟. ولما حان الصباح أتت القوافل من اليمن وغيرها فسألوهم، فأخبروهم: انهم رأوا مثل ذلك. فقالوا: إن سحر يتيم ابي طالب قد بلغ السماء!

C النقطة الثانية:

لقد قال معظم ائمة علم الكلام، من امثال سعد التفتازاني: ((ان انشقاق القمر متواتر، مثل فوران الماء من بين اصابعه الشريفة e وارتواء الجيش منه، ومثل حنين الجذع من فراقه e الذي كان يستند اليه اثناء الخطبة، وسماع جماعة المسجد لأنينه. اي ان الحادثة نقلته جماعة غفيرة عن جماعة غفيرة يستحيل تواطؤهم على الكذب، فالحادثة متواترة تواتراً قطعياً كظهور المذنب قبل الف سنة وكوجود جزيرة سرنديب التي لم نرها)).

وهكذا ترى أن إثارة الشكوك حول هذه المسألة القاطعة وامثالها من المسائل المشاهدة شهوداً عياناً انما هي بلاهة وحماقة، اذ يكفي فيها انها من الممكنات وليست مستحيلاً.

علماً ان انشقاق القمر ممكن كانفلاق الجبل ببركان.

C النقطة الثالثة:

ان المعجزة تأتي لأثبات دعوى النبوة عن طريق اقناع المنكرين، وليس ارغامهم على الايمان. لذا يلزم اظهارها للذين سمعوا دعوى النبوة، بما يوصلهم الى القناعة والاطمئنان الى صدق النبوة. أما إظهارها في جميع الاماكن، أو إظهارها اظهاراً بديهياً بحيث يضطر الناس الى القبول والرضوخ فهو منافٍ لحكمة الله الحكيم ذي الجلال، ومخالف ايضاً لسر التكليف الإلهي. ذلك لأن سر التكليف الإلهي يقتضي فتح المجال امام العقل دون سلب الاختيار منه.

فلو كان الخالق الكريم قد ترك معجزة الانشقاق باقية لساعتين من الزمان، واظهرها للعالم اجمع ودخلت بطون التاريخ كما يريدها الفلاسفة لكان الكفار يقولون انها ظاهرة فلكية معتادة. وما كانت حجة عـلى صدق النبوة، ولا مـعجزة تخص الرسول الاعظم e . او لكانت تصبح معجزة بديهية ترغم العقل على الايمان وتسلبه من الاختيار وعندئذٍ تتساوى ارواح سافلة كالفحم الخسيس من امثال ابي جهل، مع الارواح العالية الصافية كالالماس من امثال ابي بكر الصديق رضي الله عنه، اي لكان يضيع سر التكليف الإلهي.

ولأجل هذا فقد وقعت المعجزة آنياً، وفي الليل، وحين تسود الغفلة، وغدا اختلاف المطالع والغمام وامثالها حُجباً امام رؤية الناس لها. فلم تدخل بطون كتب التاريخ.

C النقطة الرابعة:

ان هذه المعجزة التي وقعت ليلاً، وآنياً، وعلى حين غفلة، لا يراها كل الناس دون شك في كل مكان. بل حتى لو ظهرت لبعضهم، فلا يصدِّق عينه، ولوصدّقها، فان حادثة كهذه مروية من شخص واحد لا تكون ذات قيمة للتاريخ.

ولقد ردّ العلماء المحققون ما زيد في رواية المعجزة من أن القمر بعد انشقاقه قد هبط الى الارض! قالوا: ربما ادخل هذه الزيادة بعض المنافقين ليسقطوا الرواية من قيمتها ويهونوا من شأنها.

ثم ان في ذلك الوقت: كانت سُحب الجهل تغطى سماء انكلترا، والوقت على وشك الغروب في اسبانيا، وامريكا في وضح النهار، والصباح قد تنفس في الصين واليابان.. وفي غيرها من البلدان هناك موانع اخرى للرؤية. فلا تشاهد هذه المعجزة العظيمة فيها.

فاذا علمت هذا فتأمل في كلام الذي يقول: (ان تأريخ انكلترا والصين واليابان وامريكا وامثالها من البلدان لا تذكر هذه الحادثة، اذن لم تقع!). اي هذرٍ هذا.. ألا تباً للذين يقتاتون على فتات اوربا..

C النقطة الخامسة:

ان انشقاق القمر ليس حادثة حدثت من تلقاء نفسها، بناء على اسباب طبيعية وعن طريق المصادفة! بل أوقعها الخالق الحكيم - رب الشمس والقمر - حدثاً خارقاً للسنن الكونية، تصديقاً لرسالة رسوله الحبيب e ، واعلاناً عن صدق دعوته، فابرزه سبحانه وتعالى وفق حكمته وبمقتضى ســر الارشــــاد والتكـليف وحكمة تبليغ الرسالة، وليقيم الحجة على من شاء من المشاهدين له، بينما اخفاه - اقتضاء لحكمته سبحانه ومشيئته - عمن لم تبلغهم دعوة نبيه e من الساكنين في اقطار العالم، وحَجَبه عنهم بالغيوم والسحاب وباختلاف المطالع وعدم طلوع القمر، أو شروق الشمس في بعض البلدان وانجلاء النهار في اخرى وغروب الشمس في غيرها.. وامثالها من الاسباب الداعية الى حَجب رؤية الانشقاق.

فلو اُظهرت المعجزة الى جميع الناس في العالم كله فإما انها كانت تبرز لهم نتيجة اشارة الرسول الاعظم e واظهاراً لمعجزة نبوية، وعندها تصل الى البداهة، اي يضطر الناس كلهم الى التصديق، اي يُسلب منهم الاختيار، فيضيع سر التكليف، بينما الايمان يحافظ على حرية العقل في الاختيار ولا يسلبها منه.. أو أنها تبرز لهم كحادثة سماوية محضة، وعندها تنقطع صلتها بالرسالة الأحمدية ولا تبقى لها مزيّة خاصة.

الخلاصة: ان انشقاق القمر لا ريب فيه. فلقد أثبت اثباتاً قاطعاً. وسنشير هنا الى وقوعه بستة براهين قاطعة(1) من بين الكثير منها، وهي: اجماع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين وهم العدول. واتفاق العلماء المحققين من المفسرين لدى تفسيرهم ] وانشق القمر[ ونقل جميع المحدّثين الصادقين في رواياتهم وقوعه بأسانيد كثيرة وبطرق عديدة(2). وشهادة جميع اهل الكشف والالهام من الأولياء الصادقين الصالحين و تصديق ائمة علم الكلام المتبحرين رغم تباين مسالكهم ومشاربهم. وقبول الامة التي لا تجتمع على ضلالة كما نص عليه الحديث الشريف(3).

كل ذلك يبين انشقاق القمر ويثبته اثباتاً قاطعاً يضاهي الشمس في وضوحها.



حاصل الكلام:

كان البحث الى هنا باسم التحقيق العلمي، إلزاماً للخصم. اما بعد هذا فسيكون الكلام باسم الحقيقة ولأجل الايمان. فقد نطق التحقيق العلمي هكذا. أما الحقيقة فتقول:

ان خاتم ديوان النبوة e وهو القمر المنير لسماء الرسالة، وقد سمَتْ ولايةُ عبوديته الى مرتبة المحبوبية، فاظهرت الكرامة العظمى والمعجزة الكبرى بالمعراج، اي بجولان جسمٍ ارضي في آفاق السموات العلى، وتعريف اهل السموات به، فأثبتت بتلك المعجزة ولايتَه العظمى لله ومحبوبيته الخالصة له وسمّوه على اهل السموات والملأ الاعلى.. كذلك فقد شق سبحانه القمر المعلق في السماء والمرتبط مع الارض باشارة من عبده في الأرض، فاظهر معجزته هذه، اثباتاً لرسالة ذلك العبد الحبيب، حتى اصبح e كالفلقين المنيرين للقمر، فعرج الى أوج الكمالات بجناحَي الولاية والرسالة النورانيين. حتى بلغ قاب قوسين أو أدنى واصبح فخراً لأهل السموات كما هو فخر لأهل الارض.

عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والتسليمات ملء الارض والسموات.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللهم بحق من انشق القمر باشارته اجعل قلبي وقلوب طلبة رسائل النور الصادقين كالقمر في مقابلة شمس القرآن.. آمين. آمين.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:55 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثانية والثلاثون

هذه الكلمة ذيل يوضح اللمعة الثامنة من الكلمة الثانية والعشرين. وهي تفسير لأول لسان من خمسة وخمسين لساناً من ألسنة الموجودات الشاهدة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، والتي اشير اليها في رسالة ((قطرة من بحر التوحيد))(1) وهي في الوقت نفسه حقيقة من الحقائق الزاخرة للآية الكريمة ] لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[ لبست ثوب التمثيل.

الموقف الأول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] لوكان فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[ (الانبياء: 22)

(لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شئ قدير واليه المصير)

كنت قد بينت في احدى ليالي رمضان المبارك؛ ان في كلٍ من الجمل الاحدى عشرة من هذا الكلام التوحيدي بشارة سارة، ومرتبة من مراتب التوحيد. وقد بسطت الكلام بسطاً يقرب من فهم العوام لتوضيح ما في جملة (لا شريك له ") وحدها من معانٍ جميلة؛ وذلك على صورة محاورة تمثيلية ومناظرة افتراضية، واتخاذ لسان الحال على هيئة لسان المقال. وادرج الآن تلك المحاورة اسعافاً لطلب اخوتي الاعزاء الذين يعينونني في شؤوني، ونزولاً عند رغبة رفقائي في المسجد ونظراً لطلبهم. وهي على النحو الآتي:

نفترض شخصاً يمثل الشركاء الذين يتوهمهم جميع انواع اهل الشرك والكفر والضلال من امثال عبدة الطبيعة والمعتقدين بتأثير الاسباب والمشركين. ونفرض ان ذلك الشخص المفترض يريد أن يكون رباً لشئ من موجودات العالم، ويدّعي التملك الحقيقي له!

وهكذا فقد قابل ذلك المدّعي اولاً ما هو أصغر شئ في الموجودات وهو الذرة، فقال لها بلسان الطبيعة وبلغة الفلسفة المادية أنه ربها ومالكها الحقيقي!

فاجابته تلك الذرة بلسان الحقيقة وبلغة الحكمة الربانية المودعة فيها:

انني اؤدي وظائف واعمالاً لا يحصرها العدّ. فأدخل في كل مصنوع على اختلاف انواعها، فان كنت ايها المدّعي مالكاً علماً واسعاً يحيط بجميع تلك الوظائف وصاحب قدرة شاملة توجّه جميعها، ولك حكم نافذ وهيمنة كاملة على تسخيري وتوجيهي مع امثالي(1) من الذرات العاملة والمتجولة في الوجود.. وكذا لو كنت تتمكن من أن تكون مالكاً حقيقياً للموجودات التي أنا جزء منها - كالكريات الحمر - وتتصرف فيها بانتظام تام.. فلك أن تدّعي المالكية عليّ، وتسند أمري الى غير خالقي سبحانه.. والاّ فاسكت! اذ لا تقدر على أن تتدخل في شؤوني فضلاً عن انك لا تستطيع أن تكون رباً لي؛ لأن ما في وظائفنا واعمالنا وحركاتنا من النظام المتقن الكامل بحيث لن يقدر عليه من لم يكن ذا حكمة مطلقة وعلم محيط، فلو تدخّل غيره لأفسد.

فأنّى لك ايها المدعي أن تمد اصبعك في شؤوننا وانت العاجز الجامد الاعمى الأسير بيد الطبيعة والمصادفة العمياويين!

فقال المدعي ما يقوله الماديون:

- اذن كوني مالكة لنفسك، فَلِمَ تقولين انك تعملين في سبيل غيرك؟ فاجابته الذرة:

- لو كان لي عقل جبار كالشمس وعلم محيط كضوئها وقدرة شاملة كحرارتها وحواس ومشاعر واسعة كالالوان السبعة في ضيائها ووجه متوجّه الى كل مكان أسيح فيه وعين ناظرة وكلام نافذ الى كل موجود أتوجه اليه.. ربما كنت أتغابى مثلك فأدّعي الحاكمية لنفسي!. تنحّ عني فليس لك موضع فينا.

وعندما يئس داعية الشرك من الذرة. قابل كرية حمراء من الدم، علّه يظفر منها بشئ. فقال لها بلسان الاسباب ولغة الطبيعة ومنطق الفلسفة:

- انا لكِ رب ومالك!

فردّت عليه الكرية الحمراء بلسان الحقيقة وبلغة الحكمة الربانية:

- انني لست وحيدة منفردة، فأنا وأمثالي جميعاً في جيش الدم الكثيف، نظامنا واحد ووظائفنا موحدة، نسير تحت إمرة آمر واحد. فان كنت تقدر على أن تملك زمام جميع ما في الدم من امثالي، ولك حكمة دقيقة وقدرة عظيمة تحكمان سيطرتهما على جميع خلايا الجسم التي نجول فيها ونُستخدم لإنجاز مهمات فيها بكل حكمة وانتظام، فهاتها. فلربما يكون عندئذٍ لدعواك معنى. ولكنك ايها المدعي لا تملك سوى قوة عمياء وطبيعة صماء فلا تقدر على أن تتدخل في شؤوننا ولو بمقدار ذرة، فضلاً عن ادّعاء التملك علينا؛ لأن النظام الذي يهيمن علينا دقيق وصارم الى حدّ لا يمكن أن يحكمنا الاّ من يرى كل شئ ويسمع كل شئ ويعلم كل شئ ويفعل ما يشاء. ولهذا فاسكت. اذ لا تدع وظائفنا الجليلة ودقتها ونظامها مجالا ً لنا لنسمع هذرك.. وهكذا تطرده الكرية الحمراء.

ولما لم يجد ذلك المدّعي بغيته فيها. ذهب فقابل خلية في الجسم فقال لها بمنطق الفلسفة ولسان الطبيعة:

- لم اتمكن من ان اُسمع دعواي الى الذرة، ولا الى الكرية الحمراء، فلعلي اجد منك اُذناً صاغية؛ لأنك لست الاّ حجيرة صغيرة حاوية على اشياء متفرقة! ولهذا فانني قادرة على صنعك . فكوني مصنوعتي ومملوكتي حقاً!

فقالت لها الخلية بلغة الحكمة والحقيقة:

انني صغيرة جداً حقاً، ولكن لي وظائف جليلة وجسيمة، ولي علاقات وروابط وثيقة ودقيقة جداً مع جميع خلايا الجسم. فلي وظائف متقنة مع جميع الاوعية الدموية من شرايين واوردة واعصاب محركة وحسية، ومع جميع القوى التي تنظم الجسم كالقوة الجاذبة والدافعة والمولّدة والمصوّرة وامثالها؛ فان كان لك ايها المدّعي علم واسع وقدرة شاملة تنشئ تلك العروق والاعصاب والقوى المودعة في الجسم وتنسقها وتستخدمها في مهماتها.. وكذا ان كانت لديك حكمة شاملة وقدرة نافذة تستطيع ان تتصرف في شؤون اخواتي من خلايا الجسم كلها، والتي تتشابه في الاتقان والروعة النوعية، فهيا اظهرها، ثم ادّع بانك تتمكن من صنعي. والاّ فاغرب عنا. فان الكريات الحمر تزودني بالارزاق، والكريات البيضاء تدافع عني تجاه الامراض المهاجمة. فلي اعمال جسام، لا تشغلني عنها. فان عاجزاً قاصراً أعمى مثلك ليس له حق التدخل في شؤوننا الدقيقة ابداً؛ لأن فينا من النظام المحكم الكامل(1) ما لو يحكمنا غير الحكيم المطلق والقدير المطلق والعليم المطلق لفسد نظامنا وانفرط عقدنا.

وهكذا يئس المدّعي من الخلية كذلك، ولكنه قابل جسم الانسان، فقال له كما يقول الماديون، بلسان الطبيعة العمياء والفلسفة الضالة:

- انت ملكي. فانا الذي صنعتك، أو في الأقل لي حظٌ فيك!

فردّ عليه ذلك الجسم الانساني بحقيقة النظام الحكيم الذي فيه:

- ان كان لك ايها المدعي علم واسع وقدرة شاملة لها التصرف المطلق في جميع اجسام البشر من امثالي، لوضع العلامات الفارقة الظاهرة في وجوهنا، والتي هي طابع القدرة وختم الفطرة.. وكــذا لــو كــانـت لـك ثروة طــائــلة وحــاكمية مهيمــنــة تتحكم في مخازن أرزاقي الممتدة من الهواء والماء الى النبــاتـات والحيوانات.. وكذا لو كانت لك حكمة لا حدّ لها وقدرة لا منتهى لها بحيث تمكّن اللطائف المعنوية الراقية الواسعة من روح وقلب وعقل في بودقة صغيرة مثلي وتسيّرها بحكمة بالغة الى العبودية، فأرنيها ثم ادّع الربوبية لي، والاّ فاسكت، فان صانعي الجليل قادر على كل شئ عليم بكل شئ بصير بكل شئ، بشهادة النظام الاكمل الذي يسيّرني، وبدلالة طابع الوحدانية الموجود في وجهي، فلا يقدر عاجز وضال مثلك أن يمدّ اصبعه الى صنعته البديعة ابداً ولا أن يتدخل فيها ولو بمقدار ذرة.

فانصرف داعية الشرك حيث لم يستطع ان يجد موضعاً للتدخل في الجسم، فقابل نوع الانسان، فحاور نفسه قائلاً: ربما أجد في هذه الجماعة المتشابكة المتفرقة موضعاً، فأتدخل في احوال فطرتهم ووجودهم مثلما يتدخل الشيطان بضلاله في أفعالهم الاختيارية وشؤونهم الاجتماعية. وعندها اتمكن من أن اجري حكمي على جسم الانسان الذي طردني هو وما فيه من خلايا.

ولهذا خاطب نوع الانسان بلسان الطبيعة الصماء والفلسفة الضالة ايضاً:

- انتم ايها البشر تبدون في فوضى، فلا أرى نظاماً ينظمكم، فانا لكم رب ومالك، أو في الاقل لي حصة فيكم.

فردّ عليه حالاً نوع الانسان بلسان الحق والحقيقة وبلغة الحكمة والانتظام:

- ان كنت مالكاً - ايها المدعي - قدرةً تتمكن من أن تُلبس الكرة الارضية حلّة قشيبة ملونة بألوان زاهية منسوجة بكمال الحكمة بخيوط انواع النباتات والحيوانات التي تنوف على مائة الف نوع الشبيهة بنوعنا الانساني، وتكون بوسعها نسج ذلك البساط البديع المفروش على الارض من خيوط مئات الالوف من انواع الكائنات الحية، والتي هي في ابدع نقش واجمله.. وفــضلاً عن خـلق هذا البساط الرائع، تجدده دوماً وبحكمة تامة! فان كانت لديك قدرة محيطة وحكمة شاملة كهذه، بحيث تتصرف في كرة الارض التي نحن من ثمارها، وتدبّر شؤون العالم الذي نحن بذوره، فترسل بميزان الحكمة لوازم حياتنا الينا من اقطار العالم كله.. وان كنت تنطوي - ايها المدعي- على اقتدار يخلق علامات القدرة الإلهية المميزة الموحدة في وجوهنا، وفي امثالنا من السالفين والآتين.. فان كنــت مالــكاً لما ذكـرنا فلربما يكون لك حقّ ادّعاء الربوبية علىّ. والاّ فاخرس! ولا تقل انني اتمكن من أن أتدخل في شــؤون هــؤلاء الــذين يبدون في اخــتــلاط وتشـــابك، اذ الانتظــام عــنــدنا على أتمه، وتلك الاوضاع التي تظنها فوضى انما هي استنساخ للقدرة الإلهية بكمال الانتظام على وفق القدر الإلهي. فلئن كان النظام دقيقاً في ادنى درجات الحياة كالنباتات والحيوانات ويرفض اي تدخلٍ كان، فكيف بنا ونحن في قمة مراتب الحياة؟ أليس الذي يبدو اختلاطاً وفوضى هو نوع من كتابة ربانية حكيمة؟ أفيمكن للذي مكّن خيوط النقوش البديعة لهذا البساط، كلٌ في موضعه المناسب، وفي اي جزء وطرف كان، ان يكون غير صانعه، غير خالقه الحقيقي، فهل يمكن أن يكون خالق النواة غير خالق ثمرتها؟ وهل يمكن أن يكون خالق الثمرة غير خالق شجرتها؟ ولكنك اعمى لا تبصر! ألاترى معجزات القدرة في وجهي وخوارق الصنعة في فطرتي؟ فان استطعت ان تشاهدها، فستدرك أن خالقي لا يخفى عليه شئ ولا يصعب عليه أمر، ولا يعجزه شئ، يدير النجوم بيسر ادارة الذرات، ويخلق الربيع الشاسع بسهولة خلق زهرة واحدة، وهو الذي ادرج فهرس الكون العظيم في ماهيتي بانتظام دقيق، أفيمكن لعاجز أعمى مثلك أن يحشر نفسه فيتدخل في ابداع هذا الخالق العظيم والصانع الجليل.. ولهذا فاسكت واصرف وجهك عني.. فيمضى مطروداً.

ثم يذهب ذلك المدّعي الى البساط الزاهي المفروش على وجه الارض والحلة القشيبة المزينة التي اُلبست، فخاطبه باسم الاسباب وبلغة الطبيعة ولسان الفلسفة:

- انني اتمكن من التصرف في شؤونك، فانا اذن مالك لك ولي حظ فيك في الأقل.

وعند ذلك تكلم ذلك البساط المزركش، وتلك الحلة القشيبة(1) وخاطبا ذلك المدعي بلغة الحقيقة وبلسان الحكمة المودعة فيهما:

- ان كانت لك قدرة نافذة واتقان بديع يجعلانك تنسج جميع هذه البسط المفروشة والحلل البهية التي تخلع على الارض بعدد القرون والسنين ثم تنزعها عنها بنظام تام وتنشرها على حبل الزمان الماضي، ومن بعد ذلك تخيط ما تخلع عليها من حلل زاهرة بنقوشها وتفصّل تصاميمها في دائرة القدر.. وكذا ان كنت مالكاً ليد معنوية ذات قدرة وحكمة بحيث تمتد الى كل شئ ابتداءً من خلق الارض الى دمارها، بل من الازل الى الأبد، فتجدد وتبدّل أفراد لحمة بساطي هذا وسداه.. وكذا ان كنت تستطيع أن تقبض على زمام الارض التي تلبسنا وتكتسي بنا وتتستر.. نعم إن كنت هكذا فادعّ الربوبية عليّ.. والاّ فاخرج مذموماً مدحوراً من الارض. فليس لك مقام هنا؛ اذ فينا من تجليات الوحدانية وأختام الأحدية بحيث مَن لم يكن جميع الكائنات في قبضة تصرفه ولم ير جميع الاشياء بجميع شؤونها دفعة واحدة، ولم يستطع أن يعمل اموراً لا تحد في آن واحد، ولم يكن حاضراً ورقيباً في كل مكان ومنزّهاً عن المكان والزمان.. لا يتمكن أن يكون مالكاً لنا ابداً، بل لا يمكن أن يتدخل في امورنا مطلقاً. اي من لم يكن مالكاً لقدرة مطلقة وحكمة مطلقة وعلم مطلق، لا يمكن أن يتحكم فينا ويدّعي المالكية علينا.

وهكذا يذهب المدّعى مخاطباً نفسه: لأذهب الى الكرة الارضية علني استغفلها وأجد فيها موضعاً.. فتوجه اليها قائلاً لها(2) باسم الاسباب وبلسان الطبيعة مرة اخرى:

- ان دورانك هكذا دون قصد يشف عن انك سائبة دون مالك. ولهذا يمكن ان تكوني طوع أمري!

فردت عليه الارض بصيحة كالصاعقة منكرة دعواه بلسان الحق والحقيقة المضمرة فيها:

- لا تهذر ايها الاحمق الابله!. كيف اكون هملاً بلا مالك ومولى! فهل رايت في ثوبي الذي البسه خيطاً واحداً فقط نشازاً بغير حكمة ومن دون اتقان! حتى تزعم ان حبلى على غاربي وانني بلا مولى ولا مالك؟ انظر فحسب الى حركاتي، ومنها حركتى السنوية(1) التي اسير فيها مسافة خمس وعشرين الف سنة في سنة واحدة فقط، منجزة وظائفي الملقاة عليّ بكمال الميزان والحكمة.. فان كانت لديك حكمة مطــلـقــة وقدرة مطلـقة فــتسيـّر وتجــري معي رفــقائــي من الســيــارات العــشر من امثالي في افلاكها العظمى، وتخلق الشمس المنيرة التي هي قائدنا وامامنا والتي تربطنا واياها جاذبة الرحمة فتديرنا وتجري بنا انا والسيارات جميعاً حول الشمس بنظام تام وحكمة كاملة. نعم ايها المدعّي ان كانت لديك قدرة مطلقة وحكمة مطلقة على ادارة هذه الامور الجسام وتدبيرها فادّع بدعواك. والاّ فاترك هذا الهذيان المفرط، وسحقاً لك في جهنم وبئس المصير، فلا تشغلني عن مهماتي العظيمة. اذ إن ما فينا من الانتظام الرائع والتناسق المهيب والتسخير الحكيم يدل بوضوح على ان جميع الموجودات من الذرات الى النجوم والى الشموس طوع أمر صانعنا ومسخّرة له. اذ مثلما ينظم الشجرة بسهولة ويزّين ثمراتها فانه بالسهولة نفسها ينظم الشمس بسياراتها. فهو الحكيم ذو الجلال والحاكم المطلق ذو الكمال.

ثم يتوجه ذلك المدعي الى الشمس بعد أن لم يجد له موضع قدم في الارض فحاورنفسه قائلاً: إن هذه الشمس شئ عظيم، لعلّي أجد فيها ثغرة أمرر فيها دعواي واسخّر بدوري الارض كذلك.

فقال للشمس بلسان الشرك وأضاليل الفلسفة الشيطانية، وكما يقوله المجوس:

- انت يا شمس سلطانة العالم، وانت حتماً مالكة لنفسك، وتتصرفين في العالم كيف تشائين.

وعلى الفور اجابته الشمس بلسان الحق والحقيقة:

- كلا والف مرة كلا.. بل لست الاّ مأمورة مطيعة مسخرة بوظيفة تنوير مستضاف سيدي. فلست مالكة لنفسي ابداً بل لست مالكة حتى لجناح ذبابة ملكاً حقيقياً، لأن في جسم الذباب من الجواهر المعنوية النفيسة، كالعين والاذن ومن بدائع الصنعة، ما لا املكه قط وما هو خارج عن طوقي. وهكذا يوبّخ المدّعي.

فينبرى ذلك المدّعي قائلا بلسان الفلسفة المتغطرسة المتفرعنة:

- ما دمت لست مالكة لنفسك، بل خادمة، فاذن انت مملوكة لي وتحت تصرفي باسم الاسباب.

فردت عليه الشمس رداً قوياً باسم الحق والحقيقة وبلسان العبودية قائلة:

- انما انا اكون مملوكة لمن خلق نجوماً عالية من امثالي، واسكنَها في سمائه بكمال حكمة، وأدارها بكمال هيبة، وزيّنها بكمال زينة.

ثم ان ذلك المدّعي بدأ يحدّث نفسه: ان النجوم مختلطة مزدحمة، وهي مشتتة متباعدة بعضها عن بعض، فلعلي أجد منها موضعاً باسم موكلي فاظفر منها بشئ.. فيدخل بين النجوم.

فقال لها كما يقول الصابئة عباد النجوم باسم الاسباب وفي سبيل شركائه وبلسان الفلسفة الطاغية:

ـ ايتها النجوم! ان حكاماً كثيرين يتحكمون فيكم لشدة تشتتكم وتبعثركم.

فاجابته نجمة واحدة نيابة عن النجوم: ما اشد بلاهتك ايها المدعي الاحمق.ألا ترى علامة التوحيد وطغراء الاحدية على وجوهنا، ألا تفهمها؟. ألا تعلم انظمتنا الراقية وقوانين عبوديتنا الصارمة؟ اتظننا بلا نظام؟

فنحن مخلوقون عبيداً لواحد أحد يمسك في قبضته امورنا وامور السموات التي هي بحرنا والكائنات التي هي شجرتنا وفضاء العالم الواسع الذي هو مسيرنا. فنحن شواهد نورانية كالمصابيح المنيرة ايام المهرجانات نبيّن كمال ربوبيته سبحانه، ونحن براهين ساطعة نعلن عن سلطنة ربوبيته، فكل طائفة منا خدمة عاملون نورانيون ندل على عظمة سلطنته في منازل علوية سفلية دنيوية برزخية اخروية.

نعم، اننا معجزة باهرة من معجزات قدرة الواحد الأحد. وثمرة يانعة لشجرة الخلقة. وبرهان منور للوحدانية. فنحن للملائكة منزل وطائرة ومسجد، وللعوالم العلوية مصباح وشمس، وعلى سلطنة الربوبية شاهد، ولفضاء العالم وقصره زينة وزهرة. وكأننا اسماك نورانية تسبح في بحر السماء، وعين جميلة لوجه السماء(1). فكما ان كلاً منا هكذا فان في مجموعنا: سكوت في سكون.. وحركة في حكمة.. وزينة في هيـبة.. واستواء خلقة في انتــظام.. واتقان صنــعة في مــوزونية. لهــذا نشهد بألسنة غير محدودة على وحدانية صانعنا الجليل وبأحديته وصمدانيته وعلى اوصاف جمـاله وكماله وجــلاله ونعــلن هذه الشـهادة على اشهاد الكائنات جــمـيعــها.. أفبعــد هذا تـتـهمــنــا ونحن العـبيد الطـاهرين المطـيعـين المسخرين باننا في فوضى واختلاط وعبث بل بلا مولى ومالك؟ فانك لا شك تستحق التأديب على اتهامك هذا.. فترجم نجمةٌ واحدة ذلك المدعي فتطرحه من هناك الى قعر جهنم وبئِس المصير. وتقذف معه الطبيعة ومدّعيها الى وادي الأوهام(1) وتلقي المصادفة الى بئر العدم، والشركاء الى ظلمات الامتناع والمحال، والفلسفة المعادية للدين الى اسفل سافلين.

فترتل تلك النجمة مع النجوم كلها قوله تعالى:

] لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[

معلنة أن لا مجال لشريك قط ولا حدّ له ان يتدخل حتى في ادنى شئ اعتباراً من جناح ذبابة الى قناديل السماء.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك ودلاّل وحدانيتك في مشهر كائناتك وعلى آله وصحبه اجمعين.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَانْظُر اِلى آثَارِ رَحْمتِ الله كَيْفَ يُحيْىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها[ (سورة الروم:50)



هذه الفقرة العربية تشير الى زهرة واحدة من البستان الازلي لهذه الآية الكريمة .

حتى كأن الشجرة المزهّرة.. قصيدة منظومة محرّرة .. وتُنشد للفاطر المدائح المبهّرة.

او فتحتْ بكثرةٍ عيونَها المبصّرة.. لتنظر للصانع العجائب المنشّرة.

او زيّنت لعيدها اعضاءها المـخـضّرة.. ليشهدَ سُلطانُها آثارَه المنوّرة .. وتشهر في الـمحـضر مرصّعات الجوهر.. وتعلن للبشر حكمة خلق الشجر.. بكنزها المدخر من جود رب الثمر.

سبحانه ما احسن احسانه! ما ازين برهانه ما أبين تبيانه!.

خيال بيند ازين اشجار ملائك را جسد آمد سماوي با هزاران نى.. ازين نيها شنيدت هوش ستايشهاى ذات حي.. ورقهارا زبان دارند همه هو هو ذكر آرند بدر معناى حي حي.. جو لا إله الاّ هو برابر ميزند هر شئ.. دمادام كويدند يا حق سراسر كويدند يا حى برابر ميزند الله.

] ونزّلنا من السماءِ ماءً مُباركاً[ (ق:9).

ذيل صغير

للموقف الاول

فاستمع للآية الكريمة:

] أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها...[ الى آخر الآية (ق:6)

ثم انظر الى وجه السماء! كيف ترى سكوتاً في سكونة، حركة في حكمة، تلألؤاً في حشمة، تبسماً في زينة، مع انتظام الخلقة، مع اتزان الصنعة. تشعشُعُ سراجِها، تهلُلُ مصباحِها تلألؤ نجومها، تعلن لأهل النهى، سلطنة بلا انتهاء.

هذه الفقرات (العربية) انما هي ترجمة بعض معاني الآية الكريمة المتصدرة، وهي تعني: ان الآية الكريمة تلفت نظر الانسان الى وجه السماء الجميل المزّين. ليرى بتلك الملاحظة وانعام النظر؛ سكوتاً وصمتاً في سكون وهدوء، وليعلم ان السماء قد اتخذت ذلك الوضع الهادئ، بأمر قدير مطلق القدرة وبتسخيره. اذ لولا تلك القدرة المطلقة، اي لو كانت السماء مفلوتة الزمام، طليقة في حركاتها وسكناتها، لكانت تلك الاجرام الهائلة، المتداخل بعضها في البعض، وتلك الكرات الضخمة، تحدث بحركاتها الرهيبة اصواتاً مدوية مخيفة تصم سمع الكائنات قاطبة، ولحدث من الاختلاط والاضطراب ما تتلاشى من شدته الكائنات كلها، اذ من المعلوم انه لو ثار عشرون جاموساً في حقل لاختلط الحابل بالنابل، ولتسبب الدمار والهرج والمرج، فكيف باجرام سماوية اضخم من ارضنا بألف مرة، تنطلق في سرعةٍ هي أسرع من القذيفة بسبعين مرة، كما هو ثابت في علم الفلك! فافهم من هذا ان الهدوء الذي يعم الاجرام ويخيم على السماء انما يبيّن مدى سعة قدرة القدير ذي الكمال ومدى هيمنة تسخير الصانع الجليل لها، ومدى انقياد النجوم وخضوعها لأوامره تعالى.

(حركةً في حكمة): ثم ان الآية الكريمة تأمر ايضاً بمشاهدة ما في وجه السماء من حركة ضمن حكمة. اذ إنها حركات عظيمة تسير ضمن حكمة دقيقة واسعةٍ تتحير منها الالباب ويقف امامها الانسان باعجاب واكبار.. فكما ان صناعاً ماهراً يدير دواليب معمل وتروسه على وفق حكمة محددة، انما يبين بعلمه هذا درجة مهارته ودقة صنعته ضمن عظمة المعمل وانتظامه، كذلك القدير المطلق الجليل (وله المثل الاعلى) الذي يعطى للشمس وسياراتها وضعاً خاصاً شبيهاً بوضع معمل عظيم. فيدير تلك الكرات الهائلة، كأنها احجار مقلاع صغيرة، ودواليب معمل بسيط، يديرها حول الشمس، امام الأنظار ليدرك الانسان بتلك النسبة طلاقة قدرته وسعة حكمته.

(تلألؤا في حشمة، تبسماً في زينة): اي أن في وجه السماء ايضاً سطوعاً باهراً وتهللاً مهيباً، وتبسماً وبشاشة في زينة وجمال، مما يبيّن عظمة سلطنة الصانع الجليل، ومدى الدقة في صنعته الجميلة. اذ كما أن إضاءة مصابيح وانوار واظهار مظاهر الفرح والبهجة في يوم اعتلاء السلطان العرش، إنما هو لبيان درجة كماله في مضمار الرقي الحضاري. كذلك السموات العظيمة بنجومها المهيبة تُظهر لنظر المتأمل كمال سلطنة الصانع الجليل وجمال صنعته البديعة.

(مع انتظام الخلقة، مع اتزان الصنعة): تقول العبارة: انظر الى انتظام المخلوقات في وجه السماء، وافهم وزان المصنوعات بموازين دقيقة، وادرك من هذا: ما اوسع قدرة صانع هذه المخلوقات ومَا اعمّ حكمته!

نعم! ان ادارة مواد صغيرة او اجرام وحيوانات، وتدويرها وتسخيرها، وسوق كل منها الى طريق خاص يعيّن بميزان مخصص، تبين مدى قدرة القائم بها ومدى حكمته ومدى طاعة تلك المواد والحيوانات وانقيادها لأوامره. كذلك الأمر في السموات الواسعة جداً. فانها تبين بعظمتها المحيرة، وبنجومها الجسيمة التي لا يحصرها العد وبحركاتها الفائقة، مع عدم تجاوزها عمّا قدّر لها من حدود ولو قيد أنملة وعدم تخلفها عنها ولو بلحظة، وعدم توانيها عن اداء ما وكل بها من واجب ولو بعشر معشار الدقيقة.. اقول انها تبين للانظار ان صانعها وخالقها الجليل يظهر ربوبيته الجليلة باجرائه هذه الامور بميزان دقيق خاص.

(تشعشع سراجها، تهلل مصباحها، تلألؤ نجومها، تعلن لأهل النهى سلطنة بلا انتهاء).

اي ان تسخير الشمس والقمر والنجوم الوارد في آيات كثيرة امثال هذه الآية المتصدرة وما ورد في سورة (النبأ) وغـيــرها، كلها تبين أن تعليــق ســراج كالشمس في سقف السماء المزين، وهو السراج الوهاج الذي يشع النور وينشر الدفء وجعل ذلك النور كأنه حبر لكتابة مكاتيب الله الصمدانية على صحيفة الصيف والشتاء بخطوط الليل والنهار.. وكذا جعل القمر ميلاً لساعة زمانية كبرى، وآلة لقياس المواقيت وتعليقه في الاعالي شبيهاً بالساعات المنصوبة على الابراج. وذلك بجعله في منازل أهلّةٍ متفاوتة، حتى لكأن الله سبحانه يضع في كل ليلة هلالاً جديداً غير السابق على وجه السماء، ثم يعيد ويجمع تلك الأهلة ويحركها في منازلها بميزان كامل وحساب دقيق. ثم ان تزيين وجه السماء وتجميله بالنجوم الملألئة المبتسمة في قبة السماء، لا شك انه من شعائر ربوبية لا منتهى لعظمتها، وهي في الوقت نفسه اشارات الى الوهية جليلة لا منتهى لكمالها. كل ذلك يدعو ارباب الفكر والعقل الى الايمان والتوحيد.

انظر الى الصحيفة الملونة الزاهية لكتاب الكون.

كيف صوّرها قلم القدرة المذهّب.

لم تبق نقطة مظلمة لأبصار أرباب القلوب.

فكأنه سبحانه قد حرّر آياته من نور.

انظر! ما اعظمها من معجزة حكمة، تقود الى الاذعان!

وما اسماها من مشاهد بديعة في فضاء الكون!

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره ختم الحكمة النيّر على الوجود.

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة.

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

فنحن لأهل السموات مساجد سيارة ومساكن دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيرة، ولا يسمع اقوالنا البينة، فنحن آيات ناطقة بالحق.

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.

الموقف الثاني

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] قل هو الله أحد^ الله الصمد[

((لهذا الموقف ثلاثة مقاصد))

المقصد الاول

ان داعية اهل الشرك والضلال الذي هوى الى الارض برجمٍ من نجمة، تخلى عن ذلك النمط من الدعوى، لانه عجز عن ان يجد في اي موضع كان، مثقال ذرة من الشرك، ابتداءً من الذرات الى المجرات، الاّ انه عاد - كالشيطان - وحاول تشكيك اهل التوحيد في التوحيد، وذلك بإلقاء الشبهات فيما يخص الاحدية والوحدانية من خلال ثلاثة اسئلة مهمة.

C السؤال الأول:

انه يقول بلسان الزندقة: يا اهل التوحيد! انني لم اتمكن من ان اجد شيئاً باسم موكلي، وعجزت عن ان اقع على شئ اتشبث به يؤيد دعاوي في الموجودات كافة، فلم اتمكن ان اثبت صواب مسلكي. ولكن كيف تثبتون انتم وجود واحدٍ أحدٍ قدير مطلق القدرة؟ فلِمَ ترون انه لا يمكن قطعاً أن تدخل ايدي اخرى مع قدرته.

الجواب: لقد اُثبت في الكلمة الثانية والعشرين اثباتاً قاطعاً ان جميع الموجودات من الذرات الى السيارات كل منها برهان نيّر على وجوب وجوده سبحانه، وهو الواجب الوجود والقدير المطلق، فكل سلسلة من السلاسل الموجودة في العالم دليل قاطع على وحدانيته، وقد اثبت القرآن الكريم هذا، بما لا يحد من البراهين، الاّ انه يزيد من ذكر البراهين الظاهرة لعموم المخاطبين.

ففي قوله تعالى ] ولَئن سألتَهم مَن خَلَقَ السموات والارضَ لَيقولُنّ الله[ (الزمر:38).. وقوله تعالى] ومِن آياته خَلقُ السموات والارض واختلافُ ألسِنَتِكُم وألوانِكُم[ (الروم:22) وامثالها من الآيات العديدة يعرض القرآن الكريم خلق السموات والارض برهاناً على الوحدانية بدرجة البداهة. فكل مَن يملك شعوراً مضطر الى تصديق خالقه في خلقه السموات والارض كما في قوله تعالى: ] ليقولُنّ الله[ .

ولقد بينا في الموقف الاول بوضوح ختمَ التوحيد وسكّته على الموجودات، ابتداءً من ذرة واحدة الى السيارات والى السموات. فالقرآن الكريم يطرد الشرك وينفيه ابتداءً من النجوم والسموات وانتهاءً الى الذرات، بمثل هذه الآيات الجليلة، فيشير ويومىء الى:

أن القدير المطلق الذي خلق السموات والارض في نظام بديع لابد وان تكون المنظومة الشمسية - التي هي من دوائر مصنوعاته - في قبضته بالبداهة.

وما دام ذلك القدير المطلق يمسك الشمس وسياراتها في قبضته وينظمها ويسخّرها، ويديرها. فلابد ان الارض التي هي جزء من تلك المنظومة ومرتبطة بالشمس في قبضته سبحانه وضمن ادارته وتدبيره ايضاً.

وما دامت الكرة الارضية ضمن تدبيره سبحانه وضمن ادراته، فالبداهة تكون المصنوعات التي تُخلق وتكتب على وجه الارض التي هي بمثابة ثمرات الارض وغاياتها في قبضة ربوبيته سبحانه.

وما دامت جميع المصنوعات المنشورة والمنثورة على وجه الارض والتي تجمّلها وتزيّنها وتملؤها وتفرغها منها كل حين في قبضة قدرته وعلمه، وانها توزن وتنظم بميزان عدله وحكمته، وان جميع الانواع في قبضة قدرته سبحانه، فلابد ان افرادها المنتظمة المتقنة - التي كل منها بمثابة مثال مصغر للعالم وفهرس انواع الكائنات، وفهارس مصغرة - تكون بالبداهة في قبضة ربوبيته سبحانه وايجاده وضمن ادارته وتربيته.

ومادام كل ذي حياة في قبضة تدبيره وتربيته، فلابد ان الحجيرات والكريات والاعضاء والاعصاب - التي تشكل وجود ذلك الكائن الحي - في قبضة علمه وقدرته بالبداهة.

وما دامت كل حجيرة وكل كرية دموية منقادة لأوامره سبحانه، وضمن تدبيره وتصريفه الامور، وتتحرك وفق قانونه. فلابد ان جميع موادها الاساسية، وجميع ذراتها التي تنسج منها نقوش صنعها في قبضة قدرته، وضمن دائرة علمه بالضرورة، ولابد أنها تتحرك بانتظام وتؤدي الوظائف على أتم وجه بأمره وإذنه وقوته.

وما دامت حركة كل ذرة واداؤها الوظائف، بقانونه وإذنه وامره، فلابد ان تشخصات الوجه وملامحه ووجود العلامات الفارقة المميزة لكل فرد عن الآخر سواءً في الملامح، أو في الألسنة، انما هو بعلمه وحكمته بالبداهة.

فتدبّر في هذه الآية الكريمة التي تبين مبدأ هذه السلسلة (المذكورة) ومنتهاها:

] ومن آياته خَلقُ السموات والارض واختلافُ ألسِنَتِكُم وألوانِكُم، انّ في ذلك لايات للعالمين[ (الروم:22).

فيا داعية اهل الشرك! ان البراهين التي تثبت مسلك التوحيد وتدل على قدير مطلق القدرة قوية كثيرة بقوة سلسلة الكائنات، اذ مادام خلق السموات والارض يدل على صانع قدير، ويدل على قدرته المطلقة، وعلى كمال تلك القدرة لديه، فلابد من استغناء مطلق عن الشركاء، اي لا حاجة الى شركاء في اية جهة كانت. فإذ لا احتياج - كما ترى - فَلِمَ اذن تنساق في هذا المسلك المظلم؟ ما الذي يدفعك الى الدخول هناك؟ وحيث لا حاجة الى شركاء، والكائنات كلها مستغنية عن الشركاء استغناءً مطلقاً فلا شك ان وجود شريك للالوهية والربوبية وفي الايجاد ايضاً ممتنع محال؛ لان القدرة التي يملكها صانع السموات والارض قدرة لا منتهى لها وهي في غاية الكمال - كما اثبتنا - ولو وجد شريك يلزم ان تكون قدرة اخرى متناهية تغلب تلك القدرة غير المتناهية والتي هي في غاية الكمال وتستولى على موضعٍ منها فتمنع لا تناهيها وتجعلها في وضع عجز معنوي، وتحدّها وهي غير محدودة بالذات، بمعنى ان شيئاً متناهياً يُنهي مالا يتناهى وهو في كمال لاتناهيه ويجعله متناهياً!! وهذا هو أبعد المحالات وابعد الممتنعات عن العقل والمنطق.

ثم ان الشركاء مستغنىً عنها، وممتنعة بالذات، كما ان وجودها محال، فادعاء الشركاء اذن ادعاء تحكّمى ليس إلاّ. اذ لعدم وجود سبب لإدعاء تلك الدعوى عقلاً ومنطقاً وفكراً يُعدّ كلاماً لا معنى له، ويطلق على مثل هذه الدعوى في علم الاصول مصطلح: تحكمى، بمعنى انه دعوىً مجردة لا معنى لها.

ومن الدساتير المقررة في علم الكلام والاصول:

(لا عبرة للاحتمال غير الناشئ عن دليل، ولا ينافي الإمكان الذاتي اليقينَ العلمى).

مثال ذلك: من الممكن والمحتمل ان تتحول بحيرة (بارلا) الى دبس وينقلب الى دهن، وهذا احتمال ولكن هذا الاحتمال لا ينشأ من أمارة، فلا يؤثر ولا يلقي شكاً ولا شبهة في يقيننا العلمي بأن البحيرة من ماء.

وعلى غرار هذا فقد سألنا من كل ناحية من نواحي الموجودات، ومن كل زاوية من زوايا الكائنات،ومن كل شئ ابتداءً من الذرات الى السيارات - كما في الموقف الاول - ومن خلق السموات والارض الى اختلاف ألوان الانسان وألسنته - كما يشاهد في هذا الموقف الثاني - فكان الجواب: شهادة صدق للوحدانية بلسان الحال، ودلالة قاطعة بوجود ختم التوحيد المضروب على كل شئ، وقد شاهدتَه بنفسك ايضاً.

لذا فلا توجد اية امارة في موجودات الكائنات يمكن ان يبنى عليها احتمال الشرك. بمعنى ان دعوى الشرك دعوى تحكمية بحتة، أو كلام لا معنى له، ودعوى مجردة عن الحقيقة، لذا فان من ادّعى الشرك بعد هذا فهو اذن في جهالة جهلاء وبلاهة بلهاء.

فأمام هذه الحجج الدامغة يبقى داعية اهل الضلالة مبهوتاً لا يتمكن من النطق بشىء إلاّ انه يقول: ان ما في ا لكائنات من ترتيب الاشياء، أمارةٌ على الشرك، اذ كل شئ مربوط بسبب، بمعنى ان للاسباب تأثيراً حقيقياً، واذ لها تأثير، فيمكن ان تكون شركاء!.

الجواب: ان المسببات قد رُبطت بالاسباب بمقتضى المشيئة الإلهية وحكمتها، ولإستلزام ظهور كثير من الاسماء الحسنى، يُربط كل شئ بسبب. ولقد اثبتنا في كثير من المواضع، وفي كلمات متعددة اثباتاً قاطعاً أنه ليس للاسباب تأثير حقيقي في الايجاد والخلق، ونقول هنا:

ان الانسان بالبداهة هو اشرف الاسباب واوسعها اختياراً واشملها تصرفاً في الامور، وهو في اظهر افعاله الاختيارية، كالأكل والكلام والفكر - التي كل منها عبارة عن سلسلة عجيبة وفي غاية الانتظام والحكمة - ليس له نصيب منها الاّ واحداً من مائة جزء من السلسلة.

فمثلاً: سلسلة الافعال التي تبدأ من الاكل وتغذية الحجيرات حتى تبلغ تشكل الثمرات، ليس للانسان - ضمن هذه السلسلة الطويلة - الاّ مضغه للطعام. ومن سلسلة التكلم ليس له الاّ ادخال الهواء الى قوالب مخارج الحروف واخراجه منها. علماً ان كلمة واحدة في فمه مع كونها كالبذرة، الاّ انها في حكم شجرة حيث انها تثمر ملايين الكلمات نفسها في الهواء وتدخل الى اسماع ملايين المستمعين بينما لا تصل الى هذه الشجرة المثالية والسنبل المثالي الاّ يد خيال الانسان.. فأنّى لليد القصيرة للاختيار ان تصل اليه.

فان كان الانسان وهو أشرف الموجودات واكثرها اختياراً، مغلول اليد عن الايجاد الحقيقي، فكيف بالجمادات والبهائم والعناصر والطبيعة، كيف تكون متصرفة تصرفاً حقيقياً؟!.

فتلك الاسباب ما هي الاّ اغلفة المصنوعات الربانية، وظروف الهدايا الرحمانية، وخَدمة لتقديمها فلاشك ان الصحون التي تُقدّم فيها هدايا السلطان او القماش المغلف للهدية أو الجندي الذي سُـلّمت بيده هدية السلطان لن يكون شريكاً للسلطان قطعاً. فمَن توهم ذلك فقد تفوه بهذيان ما بعده هذيان.

وهكذا ليست للاسباب الظاهرية والوسائط الصورية حصة في الربوبية الإلهية قطعاً، وليست لها الاّ القيام بخدمات العبودية.

المقصد الثاني

بعد ان عجز داعية اهل الشرك عن اثبات مسلك الشرك، ويئس من اثباته في اية جهة كانت، رغب في محاولة إلقاء شكوكه وشبهاته لهدم مسلك اهل التوحيد.

C فسأل السؤال الثاني قائلاً:

- يا اهل التوحيد! أنتم تقولون: ] قل هو الله احد ^ الله الصمد[ أي ان خالق العالم واحد، أحد، صمدٌ، وهو خالق كل شئ، بيده مقاليد كل شئ، وهو الأحد الفرد، بيده مفاتيح كل شئ، أخذ بناصية كل شئ، يتصرف في الاشياء كلها في آن واحد، باحوالها كافة دون أن يمنع شئٌ شيئاً.. كيف يمكن تصديق حقيقة عجيبة كهذه؟ فهل يمكن لواحد مشخّص ان يقوم باعمال غير متناهية في اماكن غير متناهية وبلاصعوبة؟

الجواب: يجاب عن هذا السؤال ببيان سر الأحدية والصمدانية، الذي هو في غاية العمق ومنتهى الرفعة ونهاية السعة، حتى ان فكر الانسان يقصر عن فهم ذلك السر العظيم الاّ بمنظار التمثيل ورصد المَثَل. وحيث أنه لا مِثل ولا مثيل لذات الله سبحانه ولا لصفاته الجليلة، الاّ ما كان من المَثَل والتمثيل في شؤونه الحكيمة. لذا نشير الى ذلك السر بأمثلة مادية:

المثال الاول:

كما اثبتنا في الكلمة السادسة عشرة ان شخصاً واحداً يكسب صفة كلية بوساطة المرايا، ومع كونه جزئياً حقيقياً يصبح في حكم كلّي مالكٍ لشؤون كثيرة.

وكما ان الزجاج والماء وامثالهما من المواد تكون مرايا للاشياء الجسمانية (المادية) وتُكسب الشئ المادي صفة كلية، كذلك الهواء والاثير وبعض موجودات عالم المثال يصبح في حكم مرايا ويتحول الى صورة وسائط للسير والسياحة، في سرعة البرق والخيال، بحيث يتجول اولئك النورانيون والروحانيون في تلك المرايا الطاهرة، وفي تلك المنازل اللطيفة في سرعة الخيال، فيدخلون في آن واحد الوف الاماكن والمواضع. وحيث انهم نورانيون وصورهم في المرايا هي عينُهم ومالكةٌ لصفاتهم - بخلاف الجسمانيين - فانهم يسيطرون على تلك الاماكن كأنهم موجودون فيها بذواتهم. بينما صور الجسمانيين الكثيفة، ليست عينها، كما انها ليست مالكة لصفاتها، فهي ميتة.

مثلاً: الشمس، مع انها جزئي مشخّص، الاّ انها تصبح في حكم كلي بوساطة المواد اللماعة، اذ تعطي صورتها ومثالها الى كل مادة لمّاعة على سطح الارض، والى كل قطرة ماء، والى كل قطعة زجاج - كل حسب قابليته - فتكون حرارة الشمس وضياؤها وما فيه من الوان سبعة، مع نوع من صورة ذاتها المثالية موجودةً في كل جسم لـمّاع.

فلو فُرض ان للشمس علماً وشعوراً لكانت كل مرآة، شبيهة بمنزلها وبمثابة عرشها وكرسيّها وتلتقى بذاتها كل شئ، وتتصل - كما في الهاتف - مع كل ذي شعور بوساطة المرايا.. بل حتى ببؤبؤ عينه، فما يمنع شئ شيئاً ولا تحجب مخابرةٌ بالهاتف مخابرة اخرى. فمع انها موجودة في كل مكان الاّ انها لا يحدها مكان.

فالشمس التي هي في حكم مرآة مادية وجزئية وجامعة لإسمٍ واحدٍ من الف اسم واسم من الاسماء الإلهية الحسنى، وهو ((النور)) ان كانت مع تشخصها تنال الى هذه الدرجة من الافعال الكلية وتكون في اماكن كلية، أفلا يستطيع ذلك الجليل ذو الجلال باحديته الذاتية ان يفعل ما لا يتناهى من الافعال في آن واحد؟!

المثال الثاني:

لما كانت الكائنات في حكم شجرة، يمكن اتخاذها اذن مثالاً لإظهار حقائق الكائنات. فنأخذ هذه الشجرة الضخمة التي امام غرفتنا، وهي شـجرة الـدُلب العـظيمة، بوصفها مثـالاً مـصغراً للكائـنات. وسنبين تجلي الأحدية في الكائنات بوساطتها، على النحو الآتي:

ان لهذه الشجرة ما لايقل عن عشرة آلاف ثمرة، ولكل ثمرة ما لايقل عن مئات من البذور المجنحة، اي أن كل هذه الاثمار العشرة الاف والمليون من البذور تكون موضع الايجاد والاتقان في آن واحد، بينما توجد العقدة الحياتية في البذرة الأصلية لهذه الشجرة، وفي جذرها وفي جذعها، وهي شئ جزئي ومشخص من تجلي الارادة الإلهية ونواة من الامر الرباني، وبهذا التجلي الجزئي تتكون مركزية قوانين تشكيل الشجرة، الموجودة في بداية كل غصن وداخل كل ثمرة وجنب كل بذرة، بحيث لا تدع شيئاً ناقصاً لأي جزء من اجزاء الشجرة ولا يمنعها مانع.

ثم ان ذلك التجلي الواحد للارادة الإلهية والأمر الرباني، لا ينتشر الى كل مكان، كانتشار الضياء والحرارة والهواء، لأنه لا يترك اثراً في تلك المسافات البعيدة للاماكن التي يذهب اليها، وفي المصنوعات المختلفة، بل لا يُرى له اثر قط. اذ لو كان ذلك بالانتشار لبان الاثر. وانما يكون جنب كل جزء من الاجزاء دون تجزئة ولا انتشار. ولا تنافي تلك الافعال الكلية احديته وذاتيته.

لذا يصح ان يقال: ان ذلك التجلي للارادة وذلك القانون الأمري، وتلك العقدة الحياتية موجودة جنب كل جزء من الاجزاء، ولا ينحصر في اي مكان اصلاً. حتى كأن في هذه الشجرة المهيبة عيوناً واذاناً لذلك القانون الامري، بعدد الاثمار والبذور، بل ان كل جزء من اجزاء الشجرة في حكم مركز لحواس ذلك القانون الأمري، بحيث لا تكون المسافات البعيدة مانعاً بل وسيلةَ تسهيلٍ وتقريب - كأسلاك الهاتف - فالأبعد كالأقرب سواء بسواء.

فما دمنا نشاهد تجلياً جزئياً واحداً من تجليات صفة الارادة للأحد الصمد، في مليونٍ من الامكنة، ويكون مبعث ملايين الافعال، دون داع الى وساطة، فلابد من لزوم اليقين بدرجة الشهود، بقدرة الذات الجليلة على التصرف في شجرة الخلق، بجميع اجزائها وذراتها معاً، بتجلٍ من تجليات قدرته وارادته سبحانه وتعالى.

وكما اثبتنا واوضحنا في الكلمة السادسة عشرة، نقول هنا:

ان مخلوقات عاجزة ومسخّرة كالشمس، ومصنوعات شبه نورانية مقيّدة بالمادة كالروحاني، ان كان يمكن أن توجد في موضع واحد وفي عدة مواضع في الوقت نفسه، بسر النورانية؛ اذ بينما هو جزئي مقيّد يكسب حكماً كلياً مطلقاً، يفعل باختيار جزئي اعمالاً كثيرة في آن واحد.. فكيف اذن بمن هو مجرد عن المادة، ومقدّس عنها، ومَن هو منزّه عن التحديد بالقيد وظلمة الكثافة ومبرأ عنها، بل ما هذه الانوار والنورانيات كلها الاّ ظلال كثيفة لأنوار اسمائه الحسنى، وما جميع الوجود والحياة كلها وعالم الارواح وعالم المثال الاّ مرايا شبه شفافة لإظهار جمال ذلك القدوس الجليل الذي صفاته محيطة بكل شئ وشؤونه شاملة كل شئ.

تُرى اي شئ يستطيع ان يتستر عن توجه أحديته في تجلي صفاته المحيطة، وتجلي افعاله بارادته الكلية وقدرته المطلقة وعلمه المحيط بكل شئ؟

وأي شئ يصعب عليه؟ واي شئ يستطيع أن يتخفى عنه؟

أوَ يمكن أن يمنع شئٌ شيئاً؟ أفيمكن أن يخلو موضع من حضوره؟ ألا يكون له بصر يبصر كل موجود وسمع يسمع كل موجود، كما قال ابن عباس رضى الله عنه؟

أوَ لا تكون سلسلة الاشياء كالاسلاك والعروق لجريان اوامره وقوانينه بسرعة؟ أفلا تكون الموانع والعوائق وسائل ووسائط لتصرفه؟ أوَ لا تكون الاسباب والوسائط حجباً ظاهرية بحتة؟

وأي شئ يصعب عليه؟ واي شئ يستطيع أن يتخفى عنه؟

أوَ يمكن أن يمنع شئٌ شيئاً؟ أفيمكن أن يخلو موضع من حضوره؟ ألا يكون له بصر يبصر كل موجود وسمع يسمع كل موجود، كما قال ابن عباس رضى الله عنه؟

أوَ لا تكون سلسلة الاشياء كالاسلاك والعروق لجريان اوامره وقوانينه بسرعة؟ أفلا تكون الموانع والعوائق وسائل ووسائط لتصرفه؟ أوَ لا تكون الاسباب والوسائط حجباً ظاهرية بحتة؟

ألا يكون في كل مكان وهو المنزّه عن المكان؟ أيمكن ان يكون محتاجاً الى التحيز والتمكّن؟ أيمكن ان يكون البُعد والصِغَر وحُجب طبقات الوجود موانع لقُربه وتصرفه وشهوده؟ وهل يمكن ان تلحق بالذات المقدسة لله سبحانه المجردّ عن المادة، الواجب الوجود، نور الانوار الواحد الأحد، المنزّه عن القيود، المبرأ عن الحدود، المقدس عن القصور، والمعلّى عن النقصان خواص الماديات والممكنات والكثيفات والكثيرات والمقيدات، وما يلزم المادة والامكان والكثافة والكثرة والتقيد والمحدودية من امور، امثال التغير والتبدل والتجزؤ؟

أيليق به العجز؟ أيقرب القصور من طرف عزته الجليلة جل جلاله.؟!

حاشَ لله، وكلا. وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.



خاتمة المقصد الثاني

بينما كنت متأملاً ومستغرقاً في تفكر يخص الأحدية، نظرت الى ثمرات شجرة الدلب القريبة من غرفتي، فخطر الى القلب تفكر متسلسل بعبارات عربية، فكتبتُه كما ورد بالعربية وسأذكر توضيحاً مختصراً له.

فالبذورُ والاثمارُ، والحبوبُ والازهارُ معجزاتُ الحكمة.. خوارقُ الصنعة.. هدايا الرحمة.. براهينُ الوحدة.. شواهدُ لطفِه في دار الاخرة.. شواهدُ صادقة بان خلاّقها على كل شيء قدير وبكل شيء عليم. قد وَسِع كل شيء بالرحمة والعلم والخلق والتدبير والصنع والتصوير. فالشمسُ كالبذرة، والنجمُ كالزهرة، والارضُ كالحبة، لا تثقل عليه بالخلق والتدبير، والصنُع والتصوير. فالبذور والاثمار مرايا الوحدة في اقطار الكثرة، اشاراتُ القَدَر، رموزاتُ القُدْرَة بان تلك الكثرة من منبع الوحدة، تصدُرُ شاهدةً لوحدِة الفاطر في الصنع والتصوير. ثم الى الوحدة تنتهي ذاكرةً لِحكمة الصانعِ في الخلق والتدبير.. وتلويحات الحكمة بأن خالق الكل - بكُلِّية النَظَر الى الجزئي - ينظُرُ ثَمَّ الى جزئه، اذ إن كان ثمراً فهو المقصود الأظهرُ مِن خلق هذا الشجر..

فالبشر ثمرٌ لهذه الكائنات، فهو المقصود الأظهر لخالق الموجودات. والقلبُ كالنواة، فهو المرآة الأنور، لصانع المخلوقات من هذه الحكمة. فالانسان الاصغرُ في هذه الكائنات هو المدار الاظهرُ للنشر والمحشر في هذه الموجودات، والتخريبِ والتبديلِ والتحويلِ والتجديد لهذه الكائنات.

ومبدأ هذه الفقرة العربية هو:

فسبحان مَن جعل حديقةَ ارضِه مَشْهَر صَنعتِه، مَحْشَرَ فِطرتَه، مَظْهَر قُدرته، مَدار حِكمته، مَزْهَر رحمته، مَزْرَع جنته، ممرَّ المخلوقات، مَسيلَ الموجودات، مَكيلَ المصنوعات.

فمُزَيَّنُ الحيواناتِ، مُنَقّشُ الطيورات، مثمَّرُ الشجرات، مزهَّرُ النباتات؛ معجزاتُ عِلمه، خوارقُ صُنعه، هدايا جُودِه، براهينُ لطفه.

تبسُّمُ الازهارِ من زينةِ الاثمار، تسجُّعُ الاطيارِ في نَسمةِ الأسحار، تهزُّجُ الأمطارِ على خدودِ الازهار، ترحُّمُ الوالدات على الاطفالِ الصغارِ.. تعرُّفُ ودودٍ، تودّد رحمن، ترحُّم حنّان، تحنن منّان، للجن والانسان، والروح والحيوان والملك والجان.

وتوضيح هذا التفكر الذي ورد باللغة العربية هو:

ان جميع الاثمار وما فيها من بذيرات، معجزات الحكمة الإلهية.. خوارق الصنعة الإلهية.. هدايا الرحمة الإلهية.. براهين مادية للوحدانية.. بشائر الألطاف الإلهية في الدار الآخرة.. شواهد صادقة بأن خلاّقها على كل شئ قدير، وبكل شئ عليم.. فالبذور والاثمار، مرايا الوحدة في اقطار عالم الكثرة، وفي اطراف هذه الشجرة المتشعبة كالعالم، تُصرِف الانظارَ من الكثرة الى الوحدة.

فكل ثمر وبذر يقول بلسان الحال: لا تتشتت في هذه الشجرة الضخمة الممتدة الاعضاء والعروق فكل ما فيها فينا، كثرتُها داخلة ضمن وحدتنا، حتى ان البذرة - وهي كقلب الثمرة - هي الاخرى مرآة مادية للوحدانية، فهي تذكر الاسماء الحسنى ذكراً قلبياً خفياً بمثل ما تذكرها الشجرة ذكراً جهرياً.

فكما ان تلك الاثمار والبذور مرايا للوحدانية، فهي اشارات مشهودات للقدر، رموزات مجسمات للقدرة، بحيث ان القدر يشير بها، والقدرة تقول بها رمزاً: ان هذه الشجرة باغصانها المتشابكة قد نمت من بذرة، فهي تدل على وحدانية صانعها في الايجاد والتصوير، ثم تجمع حقيقتها في ثمرةٍ بعد تشعب اغصانها وفروعها وتدرج معانيها كلها في بذرة. فتدل على حكمة خالقها الجليل في الخلق والتدبير.

وكذلك شجرة الكائنات هذه، فهي تأخذ وجودها من منبع الوحدانية وتتربى بها، وتثمر ثمرة الانسان الدال على الوحدانية في هذه الكثرة من الموجودات. فالقلب يرى سر الوحدانية بعين الايمان في هذه الكثرة.

وكذا، فان تلك الاثمار والبذور؛ تلويحات الحكمة الربانية، فالحكمة تنطق بها وتُشعر اهلَ الشعور بما يأتي:

ان النظر الكلي والتدبير الكلي في هذه الشجرة، بكل شموليتهما وسعتهما، يتوجهان الى هذه الثمرة؛ لأن تلك الثمرة مثال مصغر لتلك الشجرة، وهي المقصود منها. وذلك النظر الكلي والتدبير العمومي ينظر الى ما في داخل الثمرة من بذر ايضاً. اذ البذرة تحمل معاني الشجرة وفهرسها. بمعنى ان الذي يدبّر امور الشجرة، واسماءه التي لها علاقة بتدبيرها متوجهة الى كل ثمرة من ثمرات الشجرة، التي هي المقصودة من ايجاد الشجر..

وهذه الشجرة الضخمة قد تقلّم وتكسّر بعض اغصانها، للتجديد، لأجل تلك الثمرات الصغيرة، وتُطعّم لتثمر ثمرات باقية، ابهى جمالاً وازهى لطافة.

كذلك الانسان الذي هو ثمرة شجرة الكائنات؛ اذ المقصود من ايجادها انما هو الانسان، وغاية ايجاد الموجودات هي الانسان. وبذرة تلك الثمرة، قلب الانسان، وهو أنور مرآة للصانع الجليل واجمعها.

وهكذا بناء على هذه الحكمة، اصبح الانسان الصغير هذا محور انقلابات عظيمة للحشر والنشور، وسبباً لدمار الكائنات وتبديلها، اذ ينسد باب الدنيا لأجل محاكمته ويفتح باب الآخرة لأجله.

واذ ورد بحثٌ في الآخرة، فقد آن أوان ذكر حقيقة بليغة تبيّن جانباً من جزالة بيان القرآن الكريم وقوة تعابيره في معرض اثبات الحشر وهي:

ان نتيجة هذا التفكر تبيّن انه لأجل محاكمة الانسان وفوزه بالسعادة الابدية، يدمّر الكون كله اذا لزم الأمر. فالقوة القادرة على التدمير والتبديل موجودة فعلاً وهي ظاهرة ومشهودة، الاّ أن للحشر مراتب:

منها ما يلزم معرفته، والايمان به فرض، وقسم آخر يظهر حسب درجات الترقيات الروحية والفكرية ويكون علمه والمعرفة به ضرورياً.

فالقرآن الكريم لأجل اثبات أبسط وأسهل مرتبة من مراتب الحشر اثباتاً قاطعاً يبين قدرة قادرة على فتح اوسع دائرة من دوائر الحشر واعظمها.

فمرتبة الحشر - الذي يلزم العموم الايمان به - هي: ان الناس بعد الموت، تذهب ارواحهم الى مقامات اخرى واجسادهم تَرمُّ الاّ عجب الذنب - الذي هو جزء صغير لا يندثر من جسم الانسان وهو في حكم بذرة - وان الله سبحانه ينشئ من هذا الجزء الصغير جسد الانسان يوم الحشر ويبعث اليه روحه.

فهذه المرتبة من الحشر سهلة الى درجة ان لها الملايين من الامثلة في كل ربيع. الاّ أن القرآن الكريم لأجل اثبات هذه المرتبة السهلة، يبيّن احياناً قدرة قادرة على حشر جميع الذرات ونشرها واحياناً يبين آثار قدرة وحكمة تتمكن من ارسال المخلوقات كافة الى الفناء والعدم ثم اعادتها من هناك.. ويبين في بعض آياته آثار وتدابير قدرة وحكمة لها من المقدرة على نثر النجوم وشق السماوات وفطرها. وتبين آيات اخرى تدابير قدرة وحكمة قادرة على اماتة جميع ذوي الحياة وبعثهم بصيحة واحدة، دفعة واحدة، ويبين في اخرى تجليات قدرة وحكمة قادرة على حشر ما على الارض من ذوي الحياة، ونشره كل على انفراد. ويبين احياناً آثار قدرة وحكمة قادرة على بعثرة الارض كلها ونسف الجبال وتبديلها الى صورة اجمل منها.بمعنى انه مما سوى مرتبة الحشر الذي هو مفروض على الجميع الايمان به ومعرفته، فان كثيراً من مراتبه يمكن أن تتحقق بتلك القدرة والحكمة. فاذا ما اقتضت الحكمة الربانية قيامها، فلابد أنه سيقيمها جميعاً مع حشر الانسان ونشره، أو سيقيم بعضاً مهماً منها.

سؤال: تقولون: انك تستعمل في (الكلمات) القياس التمثيلي كثيراً. بينما القياس التمثيلي لا يفيد اليقين حسب علم المنطق؛ اذ يلزم البرهان المنطقي في المسائل اليقينية، اما القياس التمثيلي فيستعمل في المطالب التي يكفيها الظن الغالب، كما هو لدى علماء اصول الفقه.

فضلاً عن انك تذكر التثميلات في اسلوب الحكاية. والحكاية تكون خيالية، ليست حقيقية وقد تكون مخالفة للواقع.

الجواب: نعم! لقد ورد في علم المنطق: ان القياس التمثيلي لا يفيد اليقين العلمي. الاّ أن للقياس التمثيلي نوعاً هو أقوى بكثير من البرهان اليقيني للمنطق. بل هو اكثر يقيناً من الضرب الاول من الشكل الاول للمنطق. وذلك القسم هو:

اظهار جزء وطرف من حقيقة كلية بتمثيل جزئي. ثم بناء الحكم على تلك الحقيقة، وبيان قانون تلك الحقيقة في مادة خاصة، كي تُعرف منها تلك الحقيقة العظمى، وتُرجع اليها المواد الجزئية.

فمثلاً: الشمس توجد قريبة من كل شئ لـمّاع - بوساطة النورانية - مع انها ذات واحدة. فبهذا المثال يُبيّن قانون حقيقة هي:

انه لا قيد للنور والنوراني، فالبعيد والقريب سواء. القليل والكثير يتساوى. فلا يحدّه مكان.

ومثلاً: ان تشكيل اثمار الشجرة واوراقها وتصويرها في آن واحد، بطراز واحد، بسهولة تامة، وعلى اكمل وجه، من مركز واحد، بقانون امري واحد. انما هو مثال لإراءة جزء من حقيقة عظمى وطرف من قانون كلي.

فتلك الحقيقة وقانونها يثبتان اثباتاً قاطعاً ان تلك الكائنات الهائلة، كهذه الشجرة، يجري عليها قانون الحقيقة هذا، فهي كالشجرة ميدان جولان سر الاحدية ذاك.

فالقياسات التمثيلية في (الكلمات) كلها من هذا الطراز بحيث تكون أقوى من البرهان القاطع المنطقي واكثر يقيناً منه.

الجواب عن السؤال الثاني:

من المعلوم في فن البلاغة، انه اذا كان المعنى المقصود للّفظ والكلام يراد لقصد آخر يعرف بـ(لفظ الكنائي) ولا يكون المعنى الأصلى في اللفظ الكنائي مناط صدق وكذب. بل المعنى الكنائي هو الذي يكون مدار الصدق والكذب. فلو كان المعنى الكنائي صدقاً، فالكلام صدق، وان كان المعنى الاصلي كذباً، فلا يفسد كذب هذا صدق ذاك. ولكن لو لم يكن المعنى الكنائي صدقاً، وكان المعنى الاصلي صدقاً، فالكلام كذب.

مثلاً: (طويل النجاد) اي: شخصٌ حزام سيفه طويل. هذا الكلام كناية عن طول قامة ذلك الشخص، فان كان طويلاً حقاً، فالكلام صدق وصواب وإن لم يكن له سيف ولا نجاد، ولكن ان لم يكن الرجل طويل القامة وله سيف ونجاد طويل فالكلام كذب، لأن المعنى الاصلي غير مقصود.

فالحــكايـات الــواردة في الكلمة العاشرة والكلمة الثانية والعشرين وامثالهما، هي من الكنايات بحيث أن الحقائق التي تختم بها الحكايات - وهي في منتهى الصدق والصواب والمطابقة مع الواقع - هي المعاني الكنائية لتلك الحكايات، فمعانيها الأصلية انما هي منظار تمثيلي. فكيفما كان لا يفسد صدقها وصوابها. فضلاً عن أن تلك الحكايــات انما هــي تمثيــلات اُظهر فيها لســان الحـال في صورة لسان المقال، وأبرز فيها الشخص المعنوي في صورة شخص مادي وذلك لأجل افهام العامة.





المقصد الثالث

ان داعية اهل الضلالة، بعدما أخذ الجواب القاطع المقنع الملزم، عن سؤاله الثاني(1) يسأل هذا السؤال، وهو الثالث فيقول:

C ان في القرآن:(احسن الخالقين) (ارحم الراحمين) وامثالهما من الكلمات القرآنية التي تُشعر بوجود خالقين وراحمين آخرين.

ثم انكم تقولون: ان رب العالمين له كمال لا منتهى له، فهو جامع لأقصى نهاية مراتب انواع الكمالات كلها، بينما كمالات الاشياء تعرف باضدادها؛ اذ لولا الالم لما كانت اللذة كمالاً، ولولا الظلام لما تحقق الضياء، ولولا الفراق لما اورث الوصال لذة، وهكذا؟

الجواب: نجيب عن الشق الاول من السؤال بخمس اشارات:

الاشارة الاولى:

ان القرآن الكريم يبين التوحيد من اوله الى آخره، ويثبته اثباتاً قاطعاً، وهذا بحد ذاته دليل على أن تلك الانواع من الكلمات القرآنية ليست كما تفهمونها. بل قوله تعالى (احسن الخالقين) يعني: هو في احسن مراتب الخالقية، فليس له اية دلالة على وجود خالق آخر، اذ الخالقية لها مراتب كثيرة كسائر الصفات فقوله تعالى (احسن الخالقين) يعني: ان الخالق الجليل هو في احسن مراتب الخالقية واقصى منتهاها.



الاشارة الثانية:

ان(احسن الخالقين) وامثالها من التعابير القرآنية لا تنظر الى تعدد الخالقين بل تنظر الى انواع المخلوقية. اي ان الخالق الذي يخلق كل شئ، يخلقه بأفضل طراز واجمل مرتبة. وقد بيّن هذا المعنى قوله تعالى ] احسن كل شئ خَلَقه[ وامثاله من الآيات الكريمة.

الاشارة الثالثة:

ان الموازنة الموجودة في التعابير القرآنية: (احسن الخالقين) (الله اكبر) (خير الفاصلين) (خير المحسنين) وامثالها، ليست موازنة وتفضيلاً بين صفات واقعية لله سبحانه وتعالى، والمالكين لنماذج تلك الصفات والافعال، لأن جميع الكمالات الموجودة في الكون قاطبة في الجن والانس والملك، ظلٌ ضعيف بالنسبة لكماله جل وعلا، فكيف يمكن عقد موازنة بينهما؟ وانما الموازنة هي بالنسبة لنظر الناس ولاسيما لأهل الغفلة.

نورد مثالاً للتوضيح:

جندي يقدم اتم الولاء والطاعة لعريفه في الجيش، ويرى الحسنات والخيرات منه، وقد لا يخطر بباله، السلطان الاّ نادراً، بل لو خطر بباله، فإنه يقدم امتنانه وشكره ايضاً الى العريف، فيقال لمثل هذا الجندي: ان السلطان اكبر من عريفك، فقدّم شكرك اليه وحده. فهذا الكلام ليس موازنة بين القيادة المهيبة للسلطان في الواقع، وقيادة العريف الجزئية الصورية، لأن موازنة كهذه، وتفضيلاً من هذا النوع لا معنى لهما اصلاً. وانما الموازنة معقودة حسب ما لدى الجندي من اهمية وارتباط بعريفه، بحيث يفضّله على غيره، فيقدم شكره وثناءه اليه، ويحبه وحده.

ومثل هذا، فالاسباب الظاهرية التي هي في وهم اهل الغفلة في حكم خالقٍ، ومنعمٍ، والتي تكون حجاباً دون المنعم الحقيقي، اذ يتشبثون بها ويرون ورود النعمة والاحسان من تلك الحجب والاسباب، فيقدمون ثناءهم ومدحهم اليها. يقول القرآن الكريم لهم: الله اكبر. أحسن الخالقين. خير المحسنين. أي توجهوا اليه واشكروه.

الاشارة الرابعة:

تعقد الموازنة والتفضيل بين الموجودات الحقيقية مثلما تعقد بين الاشياء الفرضية والامكانية. ثم ان اكثر ماهيات الاشياء فيها مراتب متعددة، وكذا في ماهيات الاسماء الإلهية الحسنى والصفات الجليلة المقدسة يمكن ان توجد مراتب كثيرة. فالله سبحانه في أكمل تلك المراتب للصفات والاسماء من المراتب المتصوّرة والممكنة، وفي احسنها. والكون كله وما فيه من كمالات شاهد صدق لهذه الحقيقة، وقوله تعالى ] وله الاسماء الحسنى[ وصف لأسمائه كلها يعبّر عن هذا المعنى.

الاشارة الخامسة:

هذه الموازنة والمفاضَلة لا تقابل ما سواه تعالى، بل له جلّ وعلاّ نوعان من التجليات والصفات.

الاولى: تدبيره وتصريفه الامور على صورة قانون عام، يجري تحت ستار الاسباب وحجاب الوسائط، بسر الواحدية.

الثانية: تدبيره وتصريفه الامور تدبيراً مباشراً خاصاً، دون حجاب الاسباب، بسر الأحدية. فاحسانه المباشر وايجاده المباشر وتجلّى كبريائه المباشر هو أعظم واجمل واعلى - بسر الأحدية - من احسانه وايجاده وكبريائه المشاهدة اثارها بالاسباب والوسائط.

فمثلاً: ان جميع موظفي السلطان، وقوّاده انما هم حجب لا غير، لو كان السلطان من الاولياء، وكان الحكم والاجراءات كلها بيده.

فتدبير الامور وتصريفها، لدى هذا السلطان نوعان:

الاول: الاوامر التي يصدرها، والاجراءات التي ينجزها بقانون عام من خلال وسائط الموظفين والقواد الظاهريين، وحسب قابلية المقام.

الثاني: احساناته المباشرة واجراءاته المباشرة التي لا تتم من خلال قانون عام ولم يتخذ فيها الموظفين الظاهريين حجباً، فهذه اجمل وارفع من تلك التي تتم بصورة غير مباشرة.

(ولله المثل الاعلى) فهو سبحانه سلطان الازل والابد، وهو رب العالمين، قد جعل الاسباب حجباً لاجراءاته، اظهاراً لعزة ربوبيته وعظمتها، فضلاً عن انه وضع في قلوب عباده هاتفاً خاصاً وامرهم بقوله تعالى ] اياك نعبد واياك نستعين[ اي بعبودية خاصة ليتوجهوا اليه مباشرة تاركين الاسباب وراءهم ظهرياً، وبهذا يصرف سبحانه وجوه عباده من الكائنات اليه تعالى.

ففي قوله تعالى (احسن الخالقين) (ارحم الراحمين) (الله اكبر) هذا المعنى المذكور.

أما الشق الثاني من سؤال داعية اهل الضلال، فجوابه في خمسة رموز:

الرمز الاول:

يقول في السؤال: كيف يكون للشئ كمال ما لم يكن له ضد؟

الجواب: صاحب هذا السؤال يجهل الكمال الحقيقي، اذ يظنه نسبياً، بينما المزايا والفضائل والتقدم على الآخرين، الحاصلة كلها نتيجة النظر الى الاشياء الاخرى والمفاضلة معها، ليست فضائل حقيقية وكمالاً حقيقياً بل هي فضائل نسبية، فهي ضعيفه واهية تسقط من الاعتبار باهمال الغير.

مثلاً: لذة الحرارة وميزتها هي بتأثير البرودة، واللذة النسبية للطعام بتأثير ألم الجوع.

فاذا ما انتفت تلك التأثيرات، قلّت اللذة وتضاءلت. بينما اللذة والمحبة والكمال والفضيلة الحقيقية هي التي لا تبنى على تصور الغير، بل تكون موجودة في ذاتها. وتكون حقيقية مقررة بالذات كلذة الوجود ولذة الحياة ولذة المحبة ولذة المعرفة ولذة الايمان ولذة البقاء ولذة الرحمة ولذة الشفقة.. وحُسن النور وحسن البصر وحسن الكلام وحسن الكرم وحسن السيرة وحسن الصورة.. وكمال الذات وكمال الصفات وكمال الافعال.. وامثالها من المزايا الذاتية التي لا تتبدل بوجود غيرها او عدمه.

فكمالات الصانع الجليل والفاطر الجميل والخالق ذي الكمال كمالات حقيقية، ذاتية، لا يؤثر فيها ما سواه تعالى. بل ما سواه مظاهر ليس الاّ.

الرمز الثاني:

لقد قال السيد الشريف الجرجاني في كتابه (شرح المواقف) ان سبب المحبة: إما اللذة أو المنفعة أو المشاكلة - بين بني الجنس - أو الكمال، لأن الكمال محبوب لذاته.

اي: ايّما شئ تحبه، فإما انك تحبه للذّة، او للمنفعة او للمشاكلة الجنسية - كالميل الى الاولاد - او كونه كمالاً. فان كان السبب كمالاً فلا يلزم اي سبب آخر او غرض آخر، فهو محبوب لذاته.

مثلاً محبة الناس لأصحاب الفضائل من الاقدمين، فهم يولون لهم محبتهم واعجابهم على الرغم من عدم وجود رابطة وعلاقة تربطهم بهم، فكمال الله سبحانه وكمال مراتب اسمائه الحسنى كمال حقيقي، لذا فهو محبوب لذاته. والله سبحانه وتعالى الذي هو محبوب بالحق، وحبيب حقيقي يحب كماله الحقيقي وجمال صفـاته واســمائه الحـسـنى بمحبة لائـقة به جـل وعـلا، ويحب ايضاً محاسن مخلوقاته وصنعته ومصنوعاته التي هي مظاهر ذلك الكمال ومراياه، فيحب انبياءه واولياءه ولا سيما سيد المرسلين وسلطان الاولياء حبيب رب العالمين.

اي لمحبته سبحانه لجماله يحب حبيبَه e اذ هو مرآة ذلك الجمال.. ولمحبته لاسمائه الحسنى يحب حبيبه e واخوانه، اذ هو المدرك الشاعر لتلك الاسماء.. ولمحبته لصنعته سبحانه يحب حبيبه e وامثاله، اذ هو الدال على صنعته والمعلن عنها.. ولمحبته لمصنوعاته سبحانه يحب حبيبه e وَمن هم خلفه من المقتدين بهديه، اذ هو الذي يقدّر قيمة المصنوعات ويباركها بـ: ما اجمل صنعتها!.. ولمحبته لمحاسن مخلوقاته يحب حبيبه e ومن تبعه واخوانه، اذ هو الجامع لمكارم الاخلاق.

الرمز الثالث:

ان جميع انواع الكمال الموجودة في الكون كله آيات لكمال ذات جليلة واشارات الى جماله سبحانه بل جميع الحسن والكمال والجمال ما هو الاّ ظل ضعيف بالنسبة لكماله الحقيقي. نشير الى خمسة حجج لهذه الحقيقة:

الحجة الاولى: ان القصر الفخم المنقش المزين يدل بالبداهة على صانع ماهر؛ فالفعل المكمل الرائع وهو الصنعة والنقش البديع يدل بالضرورة على فاعل وصنّاع ومهندس كامل ويشير الى عناوينهم واسمائهم: النقاش المصور وامثالها. وتلك الاسماء الكاملة ايضاً تدل بلاشك على صفة الصنعة المكملة لدى ذلك الصنّاع. وذلك الكمال في الصنعة والصفات يدل بالبداهة على كمال استعداد ذلك الصنّاع وكمال قابليته. وذلك الاستعداد الكامل والقابلية الكاملة يدلان بالضرورة على كمال ذات الصنّاع نفسه وعلى سمو ماهيته. وعلى غرار هذا، فقصر العالم، هذا الاثر المزيّن المكمل، يدل بالبداهة على افعـال في غايـة الكمال، لأن انـواع الكـمال التـي في الاثر نابعة من كمال تلك الافعال، وكمال الافعال يدل بالضرورة على فاعل كامل وعلى كمال اسمائه، كالمدبر والمصور والحكيم والمزيّن وامثالها من الاسماء المتعلقة بالأثر. أما كمال الاسماء والعناوين فانه يدل بلا ريب على كمال اوصاف ذلك الفاعل؛ لأن الصفات ان لم تكن كاملة فالاسـماء النـاشـئة منها لن تكون كاملة. وكمال تلك الاوصاف يدل بالبداهة على كمال الشؤون الذاتية، لأن مبادىء الصـفات هـي تلك الـشـؤون الذاتـية. أما كمال الشـؤون الذاتية فانه يدل بعلم اليقين على كمال ذاتٍ جليلة صاحبة الشؤون، ويدل عليه دلالة قاطعة بحيث ان ضياء ذلك الكمال قد اظهر حسن الجمال والكمال في هذا الكون على الرغم من مروره من حجب الشؤون والصفات والاسماء والافعال والآثار.

تُرى ما اهمية كمال نسبي ينظر الى الغير والى الامثال والى التفوق على الاضداد، بعد ثبوت وجود كمال ذاتي حقيقي ثبوتاً الى هذا الحد؟ ألا يكون خافتاً منطفئاً؟!

الحجة الثانية: عندما ينظر الى هذا الكون بنظر العبرة، يشعر الوجدان والقلب، بحدسٍ صادق، ان الذي يجمّل هذه الكائنات ويزيّنها بانواع المحاسن لا شك ان له جمالاً وكمالاً لا منتهى لهما، ولهذا يظهر الجمال والكمال في فعله.

الحجة الثالثة: من المعلوم ان الصنائع الموزونة المنتظمة الجميلة تستند الى برنامج في غاية الحسن والاتقان، والبرنامج الكامل المتقن الجميل يستند الى علم جميل والى ذهن حسن، والى قابلية روحية كاملة، وهذا يعنى ان الجمال المعنوي للروح يظهر في الصنعة بالعلم.

فهذه الكائنات وما فيها، مع جميع محاسنها المادية التي لا تعد ولا تحصى، ما هي الاّ ترشحات محاسن معنوية وعلمية، وتلك المحاسن والكمال العلمي والمعنوي لاشك انها جلوات حسن وجمال وكمال سرمدي.

الحجة الرابعة: من المعلوم أن المشع للنور يستلزم أن يكون متنوراً، وكل مضئ يستلزم ان يكون ذا ضوء، والاحسان يرد من الغنى، واللطف يظهر من اللطيف. لذا فاضفاء الحسن والجمال على الكائنات ومنح الموجودات انواعاً من الكمالات المختلفة، يدل على جمال سرمدي، كدلالة الضوء على الشمس.

ولما كانت الموجودات تجري جريان النهر العظيم وتلتمع بالكمال ثم تمضي. فمثلما يلتمع ذلك النهر بجلوات الشمس، فان سيل الموجودات هذا يلتمع مؤقتاً بلمعات الحسن والجمال والكمال ثم يمضي الى شأنه. ويفهم من تعاقب اللمعات، بأن جلوات حبابات النهر الجاري وجمالها ليست ذاتية، بل هو جمال ضياء شمس منورة وجلواتها، فالمحاسن والكمالات التي تلتمع مؤقتاً على سيل الكائنات انما هي لمعات جمال اسماء مَن هو نور سرمدي.

نعم! تفاني المرآةِ زوالُ الموجوداتِ مع التجلّي الدائم مع الفيـض الملازمِ، مِن اظهر الظواهر من أبهر البواهر على ان الجمال الظاهر، أن الكمال الزاهر ليسا مُلْكَ المظاهر، مِن أفصح تبيانٍ من اوضحِ برهانٍ، للجمال المجرَّدِ للاحسان المجَدَّدِ، للواجب الوجودِ للباقي الودود.

الحجة الخامسة: من المعلوم أنه اذا روى اشخاص مختلفون أتوا من طرق متباينة وقوع حادثة معينة بالذات، فان هذا يدل بالتواتر الذي يفيد اليقين على وقوع الحادثة قطعاً.

فلقد اتفق جميع اهل الكشف والذوق والشهود من الطبقات المختلفة للمحققين والطرق المختلفة للاولياء والمسالك المختلفة للاصفياء والمذاهب المختلفة للحكماء المحققين.. اتفق هؤلاء المختلفون في المشرب والمسلك والاستعداد والعصر، بالكشف والذوق والمشاهد على أن ما يظهر على الكائنات ومرايا الموجودات من المحاسن والكمالات انما هو تجليات كمال ذاتٍ جليلة وتجليات جمال اسمائه الحسنى جل جلاله.. اقول ان اتفاق هؤلاء جميعاً حجة قاطعة لا تتزعزع واجماع عظيم لا يجرح.

اظن ان داعية الضلال مضطر الى الفرار، ساداً اذنيه، لئـلا يســمع حقائق هذا الرمز.

نعم! ان الرؤوس المظلمة لا تتحمل - كالخفاش - رؤية هذه الانوار، ولهذا نحن بدورنا لا نعير لها اهمية تذكر.

الرمز الرابع:

ان لذة الشئ وحسنه وجماله يرجع الى مظاهره اكثر من رجوعه الى اضداده وامثاله، فمثلاً: الكرم صفة جميلة لطيفة، فالكريم يتلذذ لذة ممتعة من تلذذ مَن يكرمهم، ويستمتع بفرحهم اكثر ألف مرة من لذة نسبية يحصل عليها من تفوقه على اقرانه من المكرمين.

وكذا الشفيق والرحيم، يتلذذ كل منهما، لذة حقيقية بقدر راحة من يشفق عليهم من المخلوقات.

فاللذة التي تحصل عليها الوالدة من راحة اولادها ومن سعادتهم قوية راسخة الى حد تضحي بروحها لأجل راحتهم، حتى ان لذة تلك الشفقة تدفع الدجاجة الى الهجوم على الاسد حماية لأفراخها.

فاللذة والحسن والكمال والسعادة الحقيقية في الاوصاف الراقية الرفيعة اذن لا ترجع الى الاقران ولا تنظر الى الاضداد، بل الى مظاهرها ومتعلقاتها، فان جمال رحمة ذي الجمال والكمال، الحي القيوم، الحنان المنان، الرحمن الرحيم ينظر ويتوجه الى المرحومين الذين نالوا رحمته، ولا سيما الى اولئك الذين نالوا انواع رحمته الواسعة وشفقته الرؤوفة في الجنة الخالدة. وله جل وعلا ما يشبه المحبة - تليق بذاته سبحانه - بمقدار سعادة مخلوقاته وبمدى تنعمهم وفرحهم، وله شؤون سامية مقدسة جميلة منزّهة ذات معانٍ تليق به سبحانه وتعالى، ما لا نستطيع ان نذكرها - لعدم وجود اذن شرعي - من التعابير المنزهة للغاية والمقدسة الجليلة والتي يعبّر عنها باللذة المقدسة والعشق المقدس والفرح المنزّه والسرور القدسي، بحيث أن كلاً منها هي اسمى وارفع وانزه بما لا يتناهى من درجات العلو والسمو والنزاهة مما يظهر في الكائنات وما نشعر به من العشق والسرور بين الموجودات.. كما اثبتناه في مواضع كثيرة.

وان شئت ان تنظر الى لمعة من لمعات تلك المعاني الجليلة فانظر اليها بمنظار هذا المثال:

شخص سخي كريم ذو شفقة ورأفة، أعدّ ضيافة جميلة للفقراء المحتاجين، فبسط ضيافته الفخمة على احدى سفنه الجوالة، واطلع عليهم وهم يتنعمون بانعامه تنعماً بامتنان، ترى كم يكون ذلك الشخص الكريم مسروراً فرحاً، وكم يبتهج بتنعم هؤلاء الفقراء وتلذذ الجياع منهم، ورضى المحتاجين منهم، وثنائهم جميعاً عليه، يمكنك ان تقيسه بنفسك.

وهكذا فالانسان الذي لا يملك ملكاً حقيقياً لضيافة صغيرة، وليس له من هذه الضيافة إلاّ إعدادها وبسطها، ان كان يستمتع وينشرح الى هذا القدر لدى اكرامه الآخرين في ضيافة جزئية، فكيف بالذي تنطلق له آيات الحمد والشكر، وترفع اليه اكف الثناء والرضى بالدعاء والتضرع، من الجن والانس والاحياء كافة، الذين حملهم في سفينـة ربانية جبارة تلـك هـي الـكرة الارضـيـة، ويـسيـّرها فيسيـح بهم في عباب فضاء العالم، واسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة داعياً جميع ذوي الحياة الى تلك الضيافة التي هي من قبيل فطور بسيط بالنسبة لما بسط في دار البقاء التي كل جنة من جنانه كسفرةٍ مفروشة امامهم مشحونة بكل ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين، اعدّها لعباده الذين لا يحصون وهم في منتهى الحاجة وغاية الشوق الى لذائذ لا تحد اشباعاً للطائف لاتحد، ليتناولوا من تلك الضيافة الحقيقية وليتنعموا تنعماً حقيقياً في زمن خالد ابدي. فقس بنفسك على هذا ما نعجز عن التعبير عنه من المعاني المقدسة للمحبة والتعابير المنزهة لنتائج الرحمة المتوجهة الى الرحمن الرحيم.

ومثلاً:

اذا قام صنّاع ماهر بصنع حاكٍ جميل ينطق من دون حاجة الى اسطوانة، ووضعه موضع التجربة والعرض للاخرين. فعبّر الجهاز عما يريده منه وعمل على افضل وجه يرغب فيه، فكم يكون مفتخراً متلذذاً برؤية صنعته على هذه الصورة، وكم يكون مسروراً، حتى انه يردد في نفسه: بارك الله..

وهكذا فإن كان انسان صغير عاجز عن الايجاد والخلق يغمره السرور الى هذه الدرجة بمجرد صنعه صنعة صغيرة، فكيف بالصانع الجليل الذي خلق هذا الكون على صورة موسيقى وحاك عظيم، وبخاصة صدى تسبيحات الاحياء على الارض ولا سيما ما وضع في رأس الانسان من حاكٍ رباني وموسيقى إلهية، حتى تقف حكمة البشر وعلومه أمامه في ذهول وحيرة.

نعم ان جميع المصنوعات تُظهر ما يطلب منها من نتائج، تظهرها في منتهى الجمال والكمال، بانقيادها للاوامر التكوينية - التي تعبّر عنها بالعبادات المخصوصة والتسبيحات الخصوصية والتحيات المعينة - وتحقق بهذا المقاصد الربانية المطلوبة منها، فيحصل من الافتخار والامتنان والسرور وغيرها من المعاني المقدسة والشؤون المنزهة التي نعجز عن التعبير عنها، وهي سامية مقدسة بحيث اذا اتحدت جميع عقول البشر في عقل واحد لعجز عن بلوغ كنهها والاحاطة بها.

ومثلاً:

ان حاكماً عادلاً يجد لذة ومتعة عندما يأخذ حق المظلوم من الظالم ويجعل الحق يأخذ نصابه، ويفتخر لدى صيانته الضعفاء من شرور الاقوياء، وينسرّ لدى منحه كل فرد ما يستحقه من حقوق. فلك ان تقيس على هذا، المعاني المقدسة الواردة من احقاق الحكيم المطلق والعادل المطلق والقهار الجليل، الحقّ في الموجودات كافة، وليس على الجن والانس وحدهم. اي الحاصلة من منحه سبحانه وتعالى شروط الحياة في صورة حقوق الحياة للمخلوقات قاطبة، ولاسيما الاحياء باحسانه اليهم باجهزة تحافظ على حياتهم وبحمايتهم من اعتداء المعتدين وبايقافه الموجودات الرهيبة عند حدّها، ولاسيما المعاني المقدسة المنبعثة من التجلي الاعظم للعدالة الكاملة والحكمة التامة في الحشر الاعظم في الدار الآخرة على الأحياء كافة فضلاً عن الجن والانس.

وهكذا على غرار هذه الامثلة الثلاثة، ففي كل اسم من الف اسم من الاسماء الإلهية الحسنى طبقات حُسن وجمال وفضل وكمال كثيرة جداً، كما ان فيها مراتب محبة وفخر وعزة وكبرياء كثيرة جداً. ومن هنا قال الاولياء المحققون الذين حظوا باسم الودود: ان جوهر الكون كله هو المحبة وان حركة الموجودات بالمحبة، فقوانين الانجذاب والجذب والجاذبية التي تجرى في الموجودات انما هي آتية من المحبة. وقد قال احدهم:

كل ذرات الوجود في نشوة المحبة.

الفلك نشوان والملك نشوان

النجوم والسموات نشاوى

القمر والشمس نشويان والارض نشوى

والعناصر والنباتات والاشجار نشاوى.

بمعنى ان كل شئ نشوان من شراب المحبة بتجلي المحبة الإلهية، كل حسب استعداده، ومن المعلوم ان كل قلب يحب مَن يحسن اليه، ويحب الكمال الحقيقي ويعشق الجمال السامي ويزيد حبه لمن يحب مَن يحبهم ويشفق عليهم ويحسن اليهم.

ترى ما مدى العشق والمحبة التي تليق بمن له في كل اسم من اسمائه ألف كنز وكنز من الاحسان والانعام.. ومن يُسعد كل من نحبهم.. ومن هو منبع الوف انواع الكمالات.. ومن هو مبعث الوف طبقات الجمال.. ومن هو مسمى الف اسم واسم.. وهو الجميل ذو الجلال والمحبوب ذو الكمال.

ألا يفهم من هذا مدى الأحقية في نشوة الكون طراً بمحبته؟

ولأجل هذا السر قال قسم من الاولياء الذين نالوا شرف الحظوة باسم ((الودود)): ((لمعة من محبة الله تغنينا عن الجنة)).

ومن ذلك السر ايضاً، ورد في الحديث الشريف ما معناه: ان رؤية جمال الله في الجنة تفوق جميع لذائذ الجنة.

فكمالات المحبة ومزاياها هذه، انما تحصل ضمن دائرة الواحدية والاحدية باسمائه سبحانه وبمخلوقاته. بمعنى: ان ما يتوهم من كمالات خارج تلك الدائرة ليست كمالات قطعاً.

الرمز الخامس: خمس نقاط:

النقطة الاولى: يقول داعية اهل الضلال: لقد لُعنت الدنيا في احاديثكم(1)، وذُكرت انها جيفة، ونرى أن اهل الولاية واهل الحقيقة يحقرون الدنيا ويستهينون بها ويقولون: انها فاسدة، قذرة، بينما تبينها انت: انها مبعث كمالٍ إلهي وحجة له، وتذكرها ذكر عاشق لها.

الجواب: الدنيا لها ثلاثة وجوه:

الوجه الاول: ينظر الى اسماء الله الحسنى ويبين آثار تلك الاسماء ونقوشها، وتؤدي الدنيا - بهذا الوجه - وظيفة مرآة لتلك الاسماء بالمعنى الحرفي، فهذا الوجه مكاتيب صمدانية لا تحد. لذا يستحق العشق لا النفور، لأنه في غاية الجمال.

الوجه الثاني: وجه ينظر الى الآخرة، فهو مزرعة الآخرة، مزرعة الجنة، موضع ازهار ازاهير الرحمة الإلهية. وهذا الوجه جميل كالوجه الأول يستحق المحبة لا التحقير.

الوجه الثالث: وجه ينظر الى اهواء الانسان، ويكون ستار الغافلين، وموضع لعب اهل الدنيا واهوائهم. هذا الوجه قبيح دميم، لأنه فانٍ، زائلٍ، مؤلم،خداع.

فالتحقير الوارد في الحديث الشريف، والنفور الذي لدى اهل الحقيقة هو من هذا الوجه.

أما ذكر القرآن الكريم للموجودات بأهمية بالغة واعجاب واطراء فهو متوجه الى الوجهين الاوليين، وان الدنيا المرغوبة فيها لدى الصحابة الكرام وسائر اولياء الله في الوجهين الاوليين.

والآن نذكر اولئك الذين يحقرون الدنيا وهم اربعة اصناف:

الاول: هم اهل المعرفة الإلهية، فهم يحقرونها لأنها تحجب عن معرفة اللّّه سبحانه وتستر عن محبته والعبادة له.

الثاني: هم اهل الآخرة. فإما أن ضرورات الحياة الدنيوية ومشاغلها تمنعهم عن الاعمال الاخروية، او انهم يرون الدنيا قبيحة بالنسبة لكمالات الجنة وجمالها ومحاسنها التي يشاهدونها بايمان شهودي.

نعم فكما اذا قورن رجل جميل مع سيدنا يوسف عليه السلام يبدو قبيحاً بلا شك. كذلك تبدوجميع مفاتن الدنيا القيمة تافهة بالنسبة لنعيم الجنة.

الثالث: يحقّر الدنيا لأنه لا يحصل عليها، وهذا التحقير ناتج من محبة الدنيا لا من النفور منها.

الرابع: يحقّر الدنيا لأنه يحصل عليها الاّ انها لا تظل عنده، بل ترحل عنه، فهو بدوره يغضب، ولا يجد غير تحقير الدنيا ليسلّي نفسه فيقول: انها قذرة. فهذا التحقير ايضاً ناتج من محبة الدنيا.

بينما التحقير المطلوب هو الناتج من حب الآخرة ومن معرفة الله. بمعنى أن التحقير المقبول هو القسمان الاوليان.

اللّهم اجعلنا منهم آمين بحرمة سيد المرسلين e .

عبدالرزاق 02-02-2011 11:56 AM

رد: الكلمات
 
الموقف الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

] وان من شيء الاّ يسبّح بحمده[

هذا الموقف عبارة عن نقطتين وهي مبحثان

المبحث الاول

ان في كل شئ وجوهاً كثيرة جداً متوجهة - كالنوافذ - الى الله سبحانه وتعالى، بمضمون الآية الكريمة ] وان من شيء الاّ يسبّح بحمده[ اذ ان حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند الى الاسماء الإلهية الحسنى، فحقيقة كل شئ تستند الى اسم من الاسماء او الى كثير من الاسماء. وان الاتقان الموجود في الاشياء يستند الى اسم من الاسماء، حتى ان علم الحكمة الحقيقي يستند الى اسم الله (الحكيم) وعلم الطب يستند الى اسم الله (الشافي) وعلم الهندسة يستند الى اسم الله (المقدّر).. وهكذا كل علم من العلوم يستند الى اسم من الاسماء الحسنى وينتهي اليه، كما ان حقيقة جميع العلوم وحقيقة الكمالات البشرية وطبقات الكمّل من البشر، تستند كلها الى الاسماء الإلهية الحسنى، حتى قال اولياء محققون ان:

((الحقائق الحقيقية للاشياء، انما هي الاسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الاشياء فهي ظلال تلك الحقائق)) بل يمكن مشاهدة آثار تجلي عشرين اسماً من الاسماء على ظاهر كل ذي حياة فحسب.

نحاول تقريب هذه الحقيقة الدقيقة والعظيمة الواسعة في الوقت نفسه الى الاذهان بمثال، نصفّيه بمصاف ونحلله بمحللات مختلفة، ومهما يطل البحث بنا فانه يعدّ قصيراً، فينبغي عدم السأم.

اذا اراد فنان بارع في التصوير والنحت، رسم صورة زهرة فائقة الجمال، وعمل تمثال حسناء رائعة الحسن، فانه يبدأ اول ما يبدأ بتعيين بعض خطوط الشكل العام لكل منهما.. فتعيينه هذا انما يتم بتنظيم، ويعمله بتقدير يستند فيه الى علم الهندسة، فيعيّن الحدود وفقه.. فهذا التنظيم والتقدير يدلان على انهما فُعلا بعلمٍ وبحكمة. اي ان فعلَي التنظيم والتحديد يتمان وفق (بركار) العلم والحكمة، لذا تحكُم معاني العلم والحكمة وراءَ التنظيم والتحديد، اذن ستبيّن ضوابط العلم والحكمة نفسها.. نعم، وها هي تبيّن نفسها، اذ نشاهد الفنان قد بدأ بتصوير العين والاذن والانف للحسناء واوراق الزهرة وخيوطها اللطيفة الدقيقة داخل تلك الحدود التي حدّدها.

والآن نشاهد ان تلك الاعضاء التي عُيّنت وفق (بركار) العلم والحكمة أخذت صيغة الصنعة المتقنة والعناية الدقيقة، لذا تحكمُ معاني الصنع والعناية وراء (بركار) العلم والحكمة.. اذن ستبين نفسها.. نعم، وها قد بدات قابلية الحسن والزينة في الظهور مما يدل على أن الذي يحرك الصنعة والعناية هو ارادة التجميل والتحسين وقصد التزيين، لذا يحكمان من وراء الصنعة والعناية؛ وها قد بدأ (الفنان) باضفاء حالة التبسم لتمثال الحسناء، وشرع بمنح اوضاع حياتية لصورة الزهرة، اي بدأ بفعلَي التزيين والتنوير. لذا فالذي يحرك معنى التحسين والتنوير هما معنيا اللطف والكرم.. نعم! ان هذين المعنيين يحكمان، بل يهيمنان الى درجة كأن تلك الزهرة لطفٌ مجسم وذلك التمثال كرمٌ متجّسد. تُرى ما الذي يحرك معاني الكرم واللطف، وما وراءهما غير معاني التودد والتعرف. اي تعريف نفسه بمهارته وفنه وتحبيبها الى الآخرين.. وهذا التعريف والتحبيب آتيان من الميل الى الرحمة وإرادة النعمة.. وحيث أن الرحمة وارادة النعمة من وراء التودد والتعرّف، فستملآن اذن نواحي التمثال بانواع الزينة والنعم، وستعلقان على الصورة، صورة الزهرة الجميلة هدية ثمينة.. وها نحن نشاهد أن (الفنان) قد بدأ بملء يدي التمثال وصدره بنعمٍ قيمة ويعلّق على صورة الزهرة درراً ثمينة.. بمعنى ان معاني الترحم والتحنن والاشفاق قد حرّكت الرحمة وإرادة النعمة.. وما الذي يحرك معاني الترحم والتحنن هذه، وما الذي يسوقهما الى الظهور لدى ذلك المستغنى عن الناس، غير ما في ذاته من جمال معنوي وكمال معنوي يريدان الظهور. إذ إن اجمل ما في ذلك الجمال، وهو المحبة، وألذ ما فيه وهو الرحمة، كل منها - اي المحبة والرحمة - يريد اراءة نفسه بمرآة الصنعة، ويريد رؤية نفسه بعيون المشتاقين، لأن الجمال - وكذا الكمال - محبوب لذاته، يحب نفسه اكثر من اي شئ آخر، حيث أنه حُسن وعشق في الوقت نفسه، فاتحاد الحسن والعشق آتٍ من هذه النقطة.. ولما كان الجمال يحب نفسه، فلابد أنه يريد رؤية نفسه في المرايا، فالنعم الموضوعة على التمثال، والثمرات اللطيفة المعلقة على الصورة، تحمل لمعةً براقة من ذلك الجمال المعنوي - كل حسب قابليته - فتُظهر تلك اللمعات الساطعة نفسها الى صاحب الجمال، والى الآخرين معاً.

وعلى غرار هذا المثال ينظم الصانع الحكيم (ولله المثل الاعلى) الجنة والدنيا والسموات والارض والنباتات والحيوانات والجن والانس والملك والروحانيات، اي بتعبير موجز ينظم سبحانه جميع الاشياء كليّها وجزئيها.. ينظمها جميعاً بتجليات اسمائه الحسنى ويعطي لكل منها مقداراً معيناً حتى يجعله يستقرىء اسم (المقدر، المنظم، المصور).

وهكذا بتعيينه سبحانه وتعالى حدود الشكل العام لكل شئ تعييناً دقيقاً يُظهر اسم (العليم، الحكيم). ثم يرسم بمسطرة العلم والحكمة ذلك الشئ ضمن الحدود المعينة، رسماً متقناً الى حد يُظهر معاني الصنع والعناية، اي اسمي: الصانع، الكريم.. ثم يضفي على تلك الصورة جمالاً وزينة، بفرشاة العناية وباليد الكريمة للصنعة، فان كانت الصورة انساناً اضفى على اعضائه كالعين والانف والاذن الواناً من الحسن والجمال.. وان كانت الصورة زهرة اضفى سبحانه الى اوراقها واعضائها وخيوطها الرقيقة الواناً من الجمال والرواء والحسن.. وان كانت الصورة ارضاً منح معادنها ونباتاتها وحيواناتها الواناً من الزينة وضروباً من الجمال والحسن.. وان كانت الصورة جنة النعيم اسبغ على قصورها الواناً من الحسن وعلى حورها انواعاً من الزينة.. وهكذا قس على هذا المنوال.

ثم يزّين ذلك الشئ وينوره بطرازٍ بديع من الزينة والنور حتى تحكُم عليه معاني اللطف والكرم فتجعل ذلك الموجود المزيَّن وذلك المصنوع المنوَّر لطفاً مجسماً وكرماً متجسداً يذكّر باسمى (اللطيـف، الكريم) والذي يسـوق ذلك اللطف والكرم الى هذا التجلي انما هو التودد والتعرّف، اي شؤون تحبيب ذاته الجليلة الى ذوي الحياة وتعريف ذاته الى ذوي الشعـور حتى يُقرأ على ذلـك الشـئ اسـماً (الودود والمعروف) اللذين هما وراء اسمي (اللطيف، الكريم) بل يُسمعان قراءته لذينك الاسمين من حال المصنوع نفسه. ثم يجمّل سبحانه ذلك الموجود المزيّن، وذلك المخلوق الجميل، بثمرات لذيذة، بنتائج محبوبة، فيحوّل - جـل وعـلا - الزينة الى نعمة، واللطفَ الى رحمة، حتى يدفع كل مشاهد يقرأ اسمي (المنعم، الرحيم) حيث تشف تجليات ذينك الاسمين من وراء الحجب الظاهرية. ثم ان الذي يسوق اسمي الرحيم والكريم وهو المستغني المطلق، الى هذا التجلي انما هو شؤون (الترحم والتحنن) مما يجعل المشاهد يقرأ على الشئ اسمي (الحنان، الرحمن). والذي يسوق معاني الترحم والتحنن الى التجلي، جمال وكمال ذاتيان، يريدان الظهور، مما يدفع المشاهد الى قراءة اسم (الجميل)، واسمي (الودود، الرحيم) المندرجين فيه؛ اذ الجمال محبوب لذاته. والجمال وذو الجمال يحب نفسه بالذات فهو حسن وَهو محبة. وكذا الكمال محبوب لذاته، اي محبوب بلا داعٍ الى سبب، فهو مُحبٌّ وهو محبوب.

فما دام جمالٌ في كمال لا نهاية له، وكذا كمالٌ في جمال لا نهاية له، يُحبُّ كلٌ منهما غاية الحب ومنتهاه، وهما يستحقان المحبة والعشق، فلابد انهما يريدان الظهور في مرايا، ويريدان شهود لمعاتهما وتجلياتهما - حسب قابلية المرايا - واشهادها الآخرين.

وهذا يعني ان الجمال الذاتي والكمال الذاتي للصانع ذي الجلال، والحكيم ذي الجمال، والقدير ذي الكمال، يريدان الترحم والتحنن، فيسوقان اسمي (الرحمن، الحنان) الى التجلي. والترحم والتحنن يسوقان اسمي (الرحيم والمنعم) الى التجلي، وذلك باظهار الرحمة والنعمة معاً. والرحمة والنعمة تقتضيان شؤون التودد والتعرف وتسوقان اسمي (الودود والمعروف) الى التجلي فيظهران على المصنوع. والتودد والتعرف يحركان معنى اللطف والكرم ويستقرآن اسمي (اللطيف والكريم)، في بعض نواحي المصنوع. وشؤون اللطف والكرم تحرك فعلَي التزيين والتنوير فتستقرىء اسمي (المزيّن المنور) بلسان حُسن المصنوع ونورانيته. وشؤون التزيين والتحسين تقتضي معاني الصنع والعناية وتستقرىء اسمي (الصانع المحسن) في السيماء الجميل لذلك المصنوع. وذلك الصنع والعناية تقتضيان العلم والحكمة فيستقرىء المصنوع اسمي (العليم والحكيم) في اعضائه المنتظمة الحكيمة. ولاشك ان ذلك العلم والحكمة تقتضيان افعال التنظيم والتصوير والتشكيل، فيستقرىء المصنوع بشكله وبهيئته، اسمي (المصوّر المقدّر).

وهكذا خلق الصانع الجليل مصنوعاته كلها، حتى يستقرئ القسم الغالب منها ولا سيما ذوي الحياة، كثيراً جداً من الاسماء الحسنى، وكأنه سبحانه قد ألبس كل مصنوع عشرين حلّة متباينة متراكبة، او كأنه لف مصنوعه ذلك بعشرين غطاء وستره بعشرين ستاراً، وكتب على كل حلة، وعلى كل ستار اسماءه المختلفة.

ففي زهرة واحدة جميلة، وفي حسناء لطيفة، مثلاً في ظاهر خلقهما صحائف كثيرة جداً - كما في المثال - يمكنك ان تأخذهما مثالاً تقيس عليهما المصنوعات الاخرى العظيمة.

الصحيفة الاولى: هيئة الشئ التي تبين شكله العام ومقداره، والتي تذكّر باسماء: يا مصور يا مقدر يا منظم.

الصحيفة الثانية: صور الاعضاء المتباينة المنكشفة ضمن تلك الهيئة البسيطة للزهرة والانسان، التي تُسطر في تلك الصحيفة اسماء كثيرة امثال: العليم، الحكيم.

الصحيفة الثالثة: اضفاء الحسن والزينة على الاعضاء المتباينة لذينك المخلوقين بانماط متنوعة من الحسن والزينة حتى تكتب في تلك الصحيفة اسماء كثيرة من امثال: الصانع، البارئ.

الصحيفة الرابعة: الزينة والحسن البديع الموهوبان الى ذينك المصنوعين، حتى كأن اللطف والكرم قد تجسما فيهما، فتلك الصحيفة تذكّر وتقرأ اسماء كثيرة امثال: يا لطيف. يا كريم.

الصحيفة الخامسة: تعليق ثمرات لذيذة على تلك الزهرة، ومنح الاولاد المحبوبين والاخلاق الفاضلة لتلك الحسناء، يجعلان تلك الصحيفة، تستقرئ اسماء كثيرةً امثال: يا ودود يا رحيم يا منعم.

الصحيفة السادسة: صحيفة الإنعام والإحسان التي تقرأ اسماء أمثال: يا رحمن يا حنان.

الصحيفة السابعة: ظهور لمعات حسن وجمال واضحة في تلك النعم وتلك النتائج حتى تكون أهلاً لشكر خالص عُجن بشوق وشفقة حقيقيين، ومستحقاً لمحبة خالصة طاهرة، فتكتب تلك الصحيفة وتقرأ اسماء: يا جميل ذا الكمال يا كامل ذا الجمال.

نعم، ان كانت زهرة جميلة واحدة، وإنسية حسناء جميلة، يُظهران الى هذا الحد من الاسماء الحسنى في صورتهما الظاهرية المادية فقط، فالى اي حد من السمو والكلية تستقرىء جميع الازهار، وجميع ذوي الحياة والموجودات العظيمة الكلية، الاسماء الحسنى الإلهية. يمكنك أن تقيس ذلك بنفسك.

ويمكنك في ضوء ذلك أن تقيس ايضاً مدى ما يقرأه الانسان وما يستقرؤه من الاسماء الحسنى امثال: الحي، القيوم، المحيي، في كلٍ من صحائف الحياة واللطائف الانسانية كالروح والقلب والعقل.

وهكذا.. فالجنة زهرة. والحور زهرة. وسطح الارض زهرة، والربيع زهرة، والسماء زهرة ونقوشها البديعة والنجوم والشمس زهرة والوان ضيائها السبعة اصباغ نقوش تلك الزهرة.

والعالم انسان جميل عظيم، مثلما أن الانسان عالم مصغر، فنوع الحور، وجماعة الروحانيات، وجنس الملك، وطائفة الجن، ونوع الانسان، كل من هؤلاء قد صُوّر ونُظم واُوجد في حكم انسان جميل. كما ان كلاً منهم مرايا متنوعة متباينة لإظهار جماله سبحانه وكماله ورحمته ومحبته.. وكل منهم شاهد صدقٍ لجمالٍ وكمال ورحمة ومحبة لا منتهى لها.. وكل منهم آيات جمال وكمال ورحمة ومحبة.

فهذه الانواع من الكمالات التي لا نهاية لها، حاصلة ضمن دائرة الواحدية والاحدية، وهذا يعني ان ما يُتوهم من كمالات خارج تلك الدائرة ليست كمالاتٍ قطعاً.

فافهم من هذا:

استناد حقائق الاشياء الى الاسماء الحسنى، بل الحقائق الحقيقية انما هي تجليات تلك الاسماء.

وان كل شئ بجهات كثيرة وبألسنة كثيرة يذكر صانعه ويسبّحه ويقدّسه. وافهم من هذا معنىً واحداً من معاني الآية الكريمة:

] وان من شيء الاّ يسبّح بحمده[

وقل: سبحان من اختفى بشدة ظهوره.

وافهم سراً من اسرار خواتيم الآيات وحكمة تكرار امثال: وهو العليم القدير. وهو الغفور الرحيم. وهو العزيز الحكيم.

فان لم تستطع ان تقرأ في زهرة واحدة الاسماء الحسنى وتعجز عن رؤيتها بوضوح، فانظر الى الجنة وتأمل في الربيع وشاهد سطح الارض، عند ذلك يمكنك ان تقرأ بوضوح الاسماء المكتوبة على الجنة وعلى الربيع وعلى سطح الارض، التي هي ازاهير كبيرة جداً لرحمة الله الواسعة.





المبحث الثاني

من الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين

ان ممثل أهل الضلالة والداعية لها، اذ لم يجد ما يبني عليه ضلالته، وعندما تفوته البينة وتلزمه الحجة يقول:

اني أرى ان سعادة الدنيا، والتمتع بلذة الحياة، والرقي والحضارة، والتقدم الصناعي هي في عدم تذكر الآخرة وفي عدم الايمان بالله وفي حب الدنيا وفي التحرر من القيود وفي الاعتداد بالنفس والاعجاب بها.. لذا سقتُ أكثر الناس ولا زلت أسوقهم - بهمة الشيطان - الى هذا الطريق.

الجواب: ونحن بدورنا نقول باسم القرآن الكريم:

أيها الانسان البائس! عُد الى رُشدك! لا تصغ الى داعية أهل الضلالة. ولئن ألقيت السمع اليه ليكونن خسرانك من الفداحة ما يقشعر من هول تصوره الروحُ والعقلُ والقلبُ. فأمامك طريقان:

الاول: هو طريق ذو شقاء يريك إياه داعية الضلالة.

الثاني: هو الطريق ذو السعادة الذي يبينه لك القرآن الحكيم.

ولقد رأيتَ كثيراً من الموازنات بين ذينك الطريقين في كثير من (الكلمات) ولا سيما في (الكلمات الصغيرة) والآن انسجاماً مع البحث تأمل في واحدةٍ من ألفٍ من المقارنات والموازنات وتدبَّرها، وهي:

ان طريق الشرك والضلالة والسفاهة والفسوق يهوي بالانسان الى منتهى السقوط والى أسفل سافلين، ويُلقي على كاهله الضعيف العاجز في غمرة آلام غير محدودة عبئاً ثقيلاً لا نهاية لثقله، ذلك لان الانسان ان لم يعرف الله سبحانه وتعالى وإن لم يتوكل عليه، يكون بمثابة حيوانٍ فانٍ؛ يتألم دوماً ويحزن باستمرار، ويتقلب في عجز وضعف لا نهاية لهما، ويتلوى في حاجة وفقر لا نهاية لهما، ويتعرض لمصائب لا حد لها، ويتجرع آلام الفراق من التي استهواها ونسج بينه وبينها خيوط العلاقات، فيقاسي وما زال يقاسي، حتى يغادر ما بقي من أحبائه نهاية المطاف ويفارقهم جزعاً وحيداً غريباً الى ظلمات القبر.

وسيجد نفسه طوال حياته أمام آلام وآمال لا نهاية لهما، مع أنه لا يملك سوى ارادة جزئية، وقدرة محدودة، وحياة قصيرة، وعمر زائل، وفكر آفل.. فتذهب جهودُه في تطمينها سدىً؛ ويسعى هباء وراء رغباته التي لا تحد. وهكذا تمضي حياتُه دون أن يجني ثمراً.

وبينما تجده عاجزاً عن حمل أعباء نفسه، تراه يحمّل عاتقَه وهامته المسكينة أعباء الدنيا الضخمة، فيتعذب بعذاب محرق أليم قبل الوصول الى عذاب الجحيم.

ان اهل الضلالة لا يشعرون بهذا الألم المرير والعذاب الروحي الرهيب اذ يلقون أنفسهم في أحضان الغفلة ليُبطلوا شعورهم ويخدّروا إحساسهم - مؤقتاً - بسُكرها.. ولكن ما أن يدنو أحدُهم من شفير القبر حتى يرهف إحساسه ويضاعف شعوره بهذه الآلام دفعةً واحدة؛ ذلك لأنه إن لم يكن عبداً خالصاً لله تعالى فسيظن أنه مالكٌ نفسَه، مع أنه عاجز بارادته الجزئية وقدرته الضيئلة حتى عن ادارة كيانه وحده أمام أحوال هذه الدنيا العاصفة اذ يرى عالماً من الاعداء يحيط به ابتداءً من أدق الميكروبات وانتهاء بالزلازل المدمرة على أتم استعداد للانقضاض عليه والاجهاز على حياته، فترتعد فرائصُه ويرتجف قلبُه رعباً وهلعاً كلما تخيل القبر ونظر اليه.

وبينما يقاسي هذا الانسان ما يقاسي من وضعه اذا بأحوال الدنيا التي يتعلق بها ترهقه دوماً، واذا بأوضاع بني الانسان الذي يرتبط بهم تنهكه باستمرار، ذلك لظنه أن هذه الاحداث والوقائع ناشئة من لعب الطبيعة وعبث المصادفة، وليست من تصرف واحدٍ أحد حكيمٍ عليمٍ، ولا من تقدير قادرٍ رحيمٍ كريمٍ، فيعاني مع آلامه هو آلام الناس كذلك، فتصبح الزلازل والطاعون والطوفان والقحط والغلاء والفناء والزوال وما شابهها مصائب قاتمة وبلايا مزعجة معذبّة!

فهذا الانسان الذي اختار بنفسه هذا الوضع المفجع، لا يثير اشفاقاً عليه، ولا رثاء على حاله.. مثله في هذا كمثل الذي ذكر في الموازنة بين الشقيقين في (الكلمة الثامنة) من أن رجلاً لم يقنع بلذة بريئة ونشوة نزيهة وتسلية حلوة ونزهة شريفة مشروعة، بين أحبة لطفاء في روضة فيحاء وسط ضيافة كريمة، فراح يتعاطى الخمر النجسة ليكسب لذة غير مشروعة، فسكر حتى بدأ يخيّل اليه أنه في مكان قذر، وبين ضوارٍ مفترسة، تصـيبه الرعـشـة كأنه في شـتـاء، وبدأ يستـصرخ ويستـنـجد فلم يشفق عليه احد؛ لأنه تصور أصدقاءه الطيبين حيوانات شرسة، فحقرهم وأهانهم.. وتوهم الاطعمة اللذيذة والاواني النظيفة التي في صالة الضيافة أحجاراً ملوثة، فباشر بتحطيمها.. وظن الكتب القيمة والرسائل النفيسة في المجلس نقوشاً عادية وزخارف لا معنى لها، وشرع بتمزيقها ورميها تحت الاقدام.. وهكذا.

فكما لا يكون هذا الشخص - وأمثاله - أهلاً للرحمة ولا يستحق الرأفة، بل يستوجب التأديب والتأنيب، كذلك الحال مع مَن يتوهم بسُكر الكفر وجنون الضلالة الناشئين من سوء اخيتاره أن الدنيا التي هي مضيف الصانع الحكيم لعبةَ المصادفة العمياء، وألعوبة الطبيعة الصماء.. ويتصور تجديد المصنوعات لتجليات الاسمآء الحسنى وعبورها الى عالم الغيب مع تيار الزمن، بعد أن أنهت مهامها واستنفدت أغراضها كأنها تصب في بحر العدم ووادي الانعدام وتغيب في شواطىء الفناء.. ويتخيل أصوات التسبيح والتحميد التي تملأ الاكوان والعوالم أنيناً ونواحاً يطلقه الزائلون الفانون في فراقهم الابدي.. ويحسب صحائف هذه الموجودات التي هي رسائل صمدانية رائعة خليطاً لا معنى له ولا مغزى.. ويخال باب القبر الذي يفتح الطريق الى عالم الرحمة الفسيح نفقاً يؤدي الى ظلمات العدم.. ويتصور الأجَل الذي هو دعوة الوصال واللقاء بالاحباب الحقيقيين أوان فراق الاحبة جميعهم!.

نعم! ان الذي يعيش في دوامة هذه التصورات والاوهام يلقي نفسه في أتون عذاب دنيوي أليم، ففضلاً عن أنه لا يكون أهلاً لرحمة ولا لرأفة، يستحق عذاباً شديداً، لتحقيره الموجودات - باتهامها بالعبثية - وتزييفه الاسماء الحسنى - بانكار تجلياتها - وانكاره الرسائل الربانية بردّه شهاداتها على الوحدانية.

فيا أيها الضالون السفهاء، ويا أيها التعساء الاشقياء!

تُرى هل يُجدي أعظم علومكم، وأعلى صروح حضارتكم وأرقى مراتب نبوغكم وأنفذ خطط دهائكم شيئاً أمام هذا السقوط المخيف المريع للانسان؟ وهل يستطيع الصمود حيال هذا اليأس المدمّر للروح البشرية التواقة الى السلوان؟ وهل يقدر ما تطلقون من (طبيعة) لكم، وما تسندون اليه الآثار الإلهية من (أسباب) عندكم، وما تنسبون اليه الاحسانات الربانية من (شريك) لديكم، وما تتباهون به من (كشوفاتكم) وما تعتزون به من (قومكم)، وما تـعـبـدون مـن (معبودكم) الباطل.. هل يستطيع كل أولئك من انقاذكم من ظلمات الموت الذي هو أعدام أبدي لديكم؟ وهل يستطيع كل أولئك من امراركم من حدود القبر بسلامة، ومن تخوم البرزخ بأمان، ومن ميدان الحشر باطمئنان، ويتمكن أن يعينكم على عبور جسر الصراط بحكمة، ويجعلكم أهلاً للسعادة الابدية والحياة الخالدة؟.

انكم لا محالة ماضون في هذا الطريق، اذ ليس بمقدوركم أن توصدوا باب القبر دون أحد. فأنتم مسافرو هذا الطريق لا مناص. ولابد لمن يمضي في هذا الطريق من ان يستند ويتكل على مَن له علم محيط شامل بكل دروبه وشعابه وحدوده الشاسعة، بل تكون جميع تلك الدوائر العظيمة تحت تصرفه وضمن أمره وحكمه.

فيا أيها الضالون الغافلون!

أن ما أودع في فطرتكم من استعداد المحبة والمعرفة، ومن وسائط الشكر ووسائل العبادة التي يلزم أن تبذل الى ذات الله تبارك وتعالى، وينبغي أن تتوجه الى صفاته الجليلة وأسمائه الحسنى، قد بذلتموها - بذلاً غير مشروع - لأنفسكم وللدنيا، فتعانون مستحقين عقابَها، وذلك بسر القاعدة (ان نتيجة محبة غير مشروعة مقاساة عذاب أليمٍ بلا رحمة). لأنكم وهبتم انفسكم المحبة التي تخص الله سبحانه وتعالى، فتعانون بلايا محبوبتكم التي لا تعد اذ لم تمنحوها راحتها الحقيقة.. وكذا لا تسلمون أمرَها بالتوكل الى المحبوب الحق وهو الله القدير المطلق، فتقاسون الألم دائماً.. وكذا فقد أوليتم الدنيا المحبة التي تعود الى اسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة المقدسة، ووزعتم آثار صنعته البديعة وقسمتموها بين الاسباب المادية، فتذوقون وبال عملكم؛ لأن قسماً من أحبائكم الكثيرين يغادرونكم مُدبرين دون توديع، ومنهم مَن لا يعرفونكم أصلاً، وحتى اذا عرفوكم لا يحبونكم، وحتى اذا أحبوكم لا ينفعونكم، فتظلون في عذاب مقيم من أعذبة فراقٍ لا حد له ومن آلام زوال يائس من العودة.

فهذه هي حقيقة ما يدعيه أهل الضلالة، وماهية ما يدعون اليه من (سعادة الحياة) و (كمال الانسان) و (محاسن الحضارة) و (لذة التحرر)!!

ألا ما أكثف حجاب السفاهة والسكُر الذي يخدّر الشعور والاحساس!

ألا قل: تباً لعقل أولئك الضالين!.

أما الصراط المستقيم أو الجادة المنورة للقرآن الكريم، فانه يداوي جميع تلك الجروح التي يعاني منها أهل الضلالةويضمدها بالحقائق الايمانية، ويبدد كل تلك الظلمات السابقة في ذلك الطريق، ويسد جميع ابواب الضلالة والهلاك، بالآتي:

انه يداوي ضعفَ الانسان، وعجزه، وفقره، واحتياجَه بالتوكل على القدير الرحيم، مُسلّماً أثقال الحياة وأعباء الوجود الى قدرته سبحانه والى رحمته الواسعة دون أن يحملها على كاهل الانسان، بل يجعله مالكاً لزمام نفسه وحياته، واجداً له بذلك مقاماً مريحاً، ويعرّفه بأنه ليس بحيوانٍ ناطق، بل هو انسان بحق وضيف عزيز مكرم عند الملك الرحمن.

ويداوي أيضاً تلك الجروح الانسانية الناشئة من فناء الدنيا وزوال الاشياء، ومن حب الفانيات، يداويها بلطف وحنان باظهاره الدنيا دار ضيافة الرحمن ومبيناً أن ما فيها من الموجودات هي مرايا الاسماء الحسنى، وموضحاً أن مصنوعاتها رسائل ربانية تتجدد كل حين باذن ربها، فينقذ الانسان من قبضة ظلمات الاوهام.

ويداوي أيضاً تلك الجروح التي يتركها الموت، الذي يتلقاه أهل الضلالة فراقاً أبدياً عن الاحبة جميعاً، ببيانه أن الموت مقدمة الوصال واللقاء مع الاحباء الذين رحلوا الى عالم البرزخ والذين هم الآن في عالم البقاء، ويثبت أن ذلك الفراق هو عين اللقاء.

ويزيل كذلك أعظم خوف للانسان باثباته أن القبر باب مفتوح الى عالم الرحمة الواسعة، والى دار السعادة الابدية، والى رياض الجنان، والى بلاد النور للرحمن الرحيم، مبيناً أن سياحة البرزخ التي هي أشد ألماً وأشقى سياحة عند أهل الضلالة، هي أمتع سياحة وآنسها وأسرها إذ ليس القبر فم ثعبان مرعب، بل هو باب الى روضة من رياض الجنة.

ويقول للمؤمن:

إن كانت ارادتك واختيارك جزئية، ففوّض أمرك لارادة مولاك الكلية.. وإن كان اقتدارك ضعيفاً فاعتمد على قدرة القادر المطلق.. وان كانت حياتك فانية وقصيرة ففكّر بالحياة الباقية الابـدية.. وان كان عمرك قصــيراً فلا تحزن فإن لــك عمــراً مديداً.. وان كان فكرك خافتاً فادخل تحت نور شمس القرآن الكريم، وانظر بنور الايمان كي تمنحك كل آية من الآيات القرآنية نوراً كالنجوم المتلألئة الساطعة بدلاً من ضوء فكرك الباهت.. وان كانت لك آمال وآلام غير محدودة فان ثواباً لا نهاية له ورحمة لا حد لها ينتظرانك.. وان كانت لك غايات ومقاصد لا تحد، فلا تقلق متفكراً بها فهي لا تُحصر في هذه الدنيا، بل مواضعها ديار اخرى، ومانحها جواد كريم واسع العطاء.

ويخاطب الانسان أيضاً ويقول:

أيها الانسان! أنت لستَ مالكاً لنفسك.. بل أنت مملوكٌ للقادر المطلق القدرة، والرحيم المطلق الرحمة، فلا ترهق نفسَك بتحميلها مشقة حياتك، فان الذي وهب الحياة هو الذي يديرها.

ثم أن الدنيا ليست سائبة دون مالك، كي تقلق عليها وتكلف نفسك حمل أعبائها وترهق فكرك في أحوالها. ذلك لأن مالكها حكيم ومولاها عليم، وأنت لستَ الاّ ضيفاً لديه، فلا تتدخل بفضولٍ في الامور، ولا تخلطها من غير فهم.

ثم ان الانسان والحيوان ليسوا موجودات مهملة، بل موظفون مأمورون تحت هيمنة حكيم رحيم وتحت اشرافه. فلا تجرّع روحَك ألماً بالتفكر في مشاق أولئك وآلامهم ولا تقدّم رأفتك عليهم بين يدي رحمة خالقهم الرحيم.

ثم أن زمام أولئك الذين اتخذوا طور العداء معك ابتداء من الميكروبات الى الطاعون والطوفان والقحط والزلازل، بل زمام كل شئ بيد ذلك الرحيم الكريم سبحانه، فهو حكيم لا يصدر منه عبث، وهو رحيم واسع الرحمة، فكل ما يعمله فيه اثر من لطف ورأفة.

ويقول أيضاً:

أن هذا العالم مع أنه فانٍ فانه يهيئ لوازم العالم الابدي.. ومع أنه زائل ومؤقت الا أنه يؤتي ثمرات باقية، ويظهر تجليات رائعة من تجليات الاسماء الحسنى الخالدة.. ومع ان لذائذه قليلة وآلامه كثيرة، الا أن لطائف الرحمن الرحيم وتكرمه وتفضله هي بذاتها لذات حقيقية لا تزول، أما الآلام فهي الاخرى تولد لذّات معنوية من جهة الثواب الاُخروي. فما دامت الدائرة المشروعة كافية ليأخذ كل من الروح والقلب والنفس لذّاتهــا ونــشــواتها جميعاً، فــلا داعــي اذن أن تـلــج في الدائرة غير المشروعة، لأن لذة واحدة من هذه الدائرة قد يكون لها ألف ألم وألم، فضلاً عن أنها سبب الحرمان من لذة تكريم الرحمن الكريم، تلك اللذة الخالصة الزكية الدائمة الخالدة.

هكذا تبين مما سبق بأن طريق الضلالة يردي الانسان الى أسفل سافلين، الى حد تعجز أية مدنية كانت وأية فلسفة كانت عن ايجاد حل له، بل يعجز الرقي البشري وما بلغه من مراتب العلم عن اخراجه من تلك الظلمات السحيقة التي في الضلالة.

بينما القرآن الكريم يأخذ بيد الانسان - بالايمان والعمل الصالح - ويرفعه من أسفل سافلين الى أعلى عليين، ويبين له الدلائل القاطعة ويبسط أمامه البراهين الدامغة على ذلك، فيردم تلك الاغوار العميقة بمراتب رقي معنوي وبأجهزة تكامل روحي.. وكذا ييسر له - بسهولة مطلقة - رحلته الطويلة المضنية العاصفة نحو الابدية، ويهوّنها عليه؛ وذلك بابرازه الوسائط والوسائل التي يمكن أن يقطع بها مسافة ألف سنة، بل خمسين ألف سنة في يوم واحد.

وكذا يضفي على الانسان جلباب العبودية ويكسبه طور عبد مأمور، وضيف موظف لدى الذات الجليلة، وذلك بتعريفه أن الله سبحانه هو مالك الازل والابد، فيضمن له راحة تامة في سياحته في الدنيا المضياف أو في منازل البرزخ في ديار الآخرة.. فكما أن الموظف المخلص للسلطان يتجول بيسر تام في دائرة مملكة سلطانه، ويتنقل من تخوم ولاياته بوسائط سريعة كالطائرة والباخرة والقطار، كذلك الانسان المنتسب بالايمان الى المالك الازلي فانه يمر بالعمل الصالح من منازل الدنيا المضياف ومن دوائر عالمي البرزخ والحشر ومن حدودهما الواسعة الشاسعة بسرعة البَرق والبُراق حتى يجد السعادة الابدية.. فيثبت القرآن الكريم هذه الحقائق إثباتاً قاطعاً ويبرزها عياناً للأصفياء والأولياء.

ثم تستأنف حقيقته قائلة:

أيها المؤمن لا تبذل ما تملكه من قابلية غير محدودة للمحبة الى نفسك التي هي أمارة بالسوء وهي قبيحة ناقصة، وشريرة مضرة لك، ولا تتخذها محبوبتك ومعشوقتك، ولا تجعل هواها معبودك، بل اجعل محبوبك مَن هو أهلٌ لمحبة غير متناهية.. ذلكم القادر على الاحسان اليك احساناً لا نهاية له، والقادر على اسعادك سعادة لا منتهى لها، بل يسعدك كذلك بما يجـزل من احسـاناته علـى جميع مَن ترتبط معهم بعلاقات، فهو الذي له الكمال المطلق والجمال المقدس والمنزّه عن كل نقص وقصور وزوال وفناء.. فجماله لا حدود له وجميع أسمائه جميلة وحسنى.

نعم ان في كل اسم من أسمائه أنوار حُسنٍ وجمال لا نهاية لها؛ فالجنة بجميع لطائفها وجمالها ونعيمها انما هي تجلٍ لإظهار جمال رحمته ورحمة جماله، وجميع الحسن والجمال والمحاسن والكمالات المحبوبة والمحببة في الكون كله ما هي الا اشارة الى جماله ودلالة على كماله سبحانه.

ويقول أيضاً:

ايها الانسان! ان ينابيع المحبة المتفجرة في أعماقك والمتوجهة الى الله سبحانه والمتعلقة بأسمائه الحسنى والمولهة بصفاته الجليلة لا تجعلها مبتذلة بتشبثها بالموجودات الفانية، ولا تهدرها دون فائدة على المخلوقات الزائلة؛ ذلك لأن الآثار والمخلوقات فانيتان، بينما الاسماء الحسنى البادية تجلياتها وجمالها على تلك الآثار وعلى تلك المصنوعات باقية دائمة.. ففي كل اسم من الاسماء الحسنى وفي كل صفة من الصفات المقدسة آلاف من مراتب الإحسان والجمال وآلاف من طبقات الكمال.

فانظر الى اسم (الرحمن) فحسب لترى: أن الجنة احدى تجلياته، والسعادة الابدية احدى لمعاته، وجميع الارزاق والنعم المبثوثة في أرجاء الدنيا كافة احدى قطراته.

فأنعم النظر وتدبر في الآيات الكريمة التي تشير الى هذه الموازنة بين ماهية أهل الضلالة وأهل الايمان من حيث الحياة ومن حيث الوظيفة.

] لقد خَلَقنا الانسانَ في أحسنِ تقْويم ^ ثم رَدَدْناه أسفلَ سافلين ^ إلاّ الذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون[ (التين:4ـ 6).

والآية الاخرى

] فما بَكَتْ عليهم السماءُ والارضُ[ (الدخان:44) هذه الآيات تشير الى عقبى كل منهما. تأمل فيهما لتجد مدى سموهما واعجازهما في بيان ما عقدناه من الموازنة والمقارنة.

أما الآيات الأولى. فنحيل بيان حقيقة ما تتضمنه من اعجاز في ايجاز الى الكلمة (الحادية عشرة) التي تبينها بياناً مفصلاً. وأما الآية الثانية، فسنشيرـ اشارة فحسب - الى مدى افادتها عن حقيقة سامية وهي كالآتي:

انها تخاطب قائلة: ان السموات والارض لا تبكيان على موت أهل الضلالة. وتدل بالمفهوم المخالف أن السَّموات والارض تبكيان على رحيل أهل الايمان عن الدنيا. أي لما كانَ أهل الضلالة ينكرون وظائف السموات والارض ويتهمونهما بالعبثية ولا يدركون معاني ما يؤديانه من مهام، فيبخسون حقهما، بل لا يعرفون خالقَهما ولا دلالاتهما على صانعهما، فيستهينون بهما، ويتخذون منهما موقف العداء والاهانة والاستخفاف، فلابد ألاّ تكتفي السموات والارض بعدم البكاء عليهم، بل تدعوان عليهم بل ترتاحان لهلاكهم.

وتقول كذلك بالمفهوم المخالف، أن السَّموات والارض تبكيان على موت أهل الايمان لأنهم يعرفون وظائفهما، ويقدرونهما حق قدرهما، ويصدقون حقائقهما الحقة، ويفهمون - بالايمان - ما تفيدان من معانٍ، حيث أنهم كلما تأملوا فيهما قالوا باعجاب: (ما أجمل خلقهما! وما أحسن ما تؤديان من وظائف!). فيمنحونهما ما يستحقان من القيمة والاحترام، حيث يبثون حبهم لهما بحبهم للّه، أي لأجل الله، باعتبارهما مرايا عاكسة لتجليات أسمائه الحسنى. ولهذا تهتز السَّموات، وتحزن الارض، لموت أهل الايمان وكأنهما تبكيان على زوالهم.

سؤال مهم

تقولون:

ان المحبة ليست اختيارية، لا تقع تحت ارادتنا، فانا بمقتضى حاجتي الفطرية احب الاطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة، وأحب والديّ وأولادي وزوجتي التي هي رفيقة حياتي، وأحب الأنبياء المكرمين والأولياء الصالحين، وأحب شبابي وحياتي وأحب الربيع وكل شئ جميل، وبعبارة أوجز أنا احب الدنيا، ولِمَ لا احب كل هذه؟.. ولكن كيف استطيع ان اقدّم جميع هذه الانواع من المحبة للّه، واجعل محبتي لأسمائه الحسنى ولصفاته الجليلة ولذاته المقدسة سبحانه؟ ماذا يعني هذا؟.

الجواب: عليك ان تستمع الى النكات الاربع الآتية:

C النكتة الاولى:

ان المحبة وان لم تكن اختيارية، الاّ انها يمكن ان يُحوَّل وجهُها بالارادة من محبوب الى آخر؛ كأن يظهرَ قبحُ المحبوب وحقيقته مثلاً، أو يُعرَف انه حجابٌ وستار لمحبوب حقيقي يستحق المحبة، أو مرآة عاكسة لجمال ذلك المحبوب الحقيقي، فعندها يمكن ان يُصرَف وجهُ المحبة من المحبوب المجازي الى المحبوب الحقيقي.

C النكتة الثانية:

نحن لا نقول لك: لا تحمل ودّاً ولا حباً لكل ما ذكرتَه آنفاً. وانما نقول اجعل محبتك لما ذكرته في سبيل الله ولوجهه الكريم:

فالتلذذ بالاطعمة الشهية وتذوق الفواكه الطيبة مع التذكر بأنها احسانٌ من الله سبحانه وإنعام من الرحمن الرحيم، يعني المحبة لإسم (الرحمن) واسم (المنعم) من الاسماء الحسنى، علاوة على انه شكر معنوي. والذي يدلنا على ان هذه المحبة لم تكن للنفس والهوى بل لإسم (الرحمن) هو كسب الرزق الحلال مع القناعة التامة ضمن الدائرة المشروعة، وتناوله بالتفكر في انه نعمة من الله مع الشكر له.

ثم ان محبتك للوالدين واحترامهما، انما يعودان الى محبتك لله سبحانه؛ اذ هو الذي غرس فيهما الرحمة والشفقة حتى قاما برعايتك وتربيتك بكل رحمة وحكمة. وعلامة كونهما محبة لوجه الله تعالى، هي المبالغة في محبتهما واحترامهما عندما يبلغان الكبر، ولا يبقى لك فيهما من مطمع. فتُكثر من الشفقة عليهما والرحمة لهما رغم ما يشغلانك بالمشاكل ويثقلان كاهلك بالمشقة. فالآية الكريمة: ] إمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الكِبَرَ أحدُهما أو كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما اُفٍِّ وَلاَ تَنْهَرهُما وَقُلْ لَهُما قَولاً كَريماً ^ وَاخْفـِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِن الرَحمةِ وَقُلْ رَبِّ اِرحَمْهُما كَما رَبياني صَغيراً[ (الاسراء:23 ـ24). تدعو الأولاد الى رعاية حقوق الوالدين في خمس مراتب، وتبين مدى اهمية برّهما وشناعة عقوقهما..

وحيث ان الوالد لا يقبل ان يتقدمه احد سوى إبنه اذ لا يحمل في فطرته حسداً إليه مما يسد على الولد طريق مطالبة حقه من الوالد؛ لأن الخصام إما ينشأ من الحسد والمنافسة بين اثنين او ينشأ من غمط الحق، فالوالد سليم معافى منهما فطرة، لذا لا يحق للولد إقامة الدعوى على والده، بل حتى لو رأى منه بغياً فليس له ان يعصيه ويعقّه. بمعنى ان من يعقّ والديه ويؤذيهما ما هو الاّ انسان ممسوخ حيواناً مفترساً.

أما محبة الاولاد فهي كذلك محبةٌ لله تعالى وتعود اليه، وذلك بالقيام برعايتهم بكمال الشفقة والرحمة بكونهم هبة من الرحيم الكريم. أما العلامة الدالة على كون تلك المحبة لله وفي سبيله فهي الصبر مع الشكر عند البلاء، ولا سيّما عند الموت والترفع عن اليأس والقنوط وهدر الدعاء بل يجب التسليم بالحمد عند القضاء. كأن يقول: ان هذا المخلوق محبوب لدى الخالق الكريم، ومملوك له، وقد أمنَّني عليه لفترة من الزمن، فالآن اقتضت حكمته سبحانه أن يأخذه مني الى مكان آمن وأفضل. فان تك لي حصة واحدة ظاهرية فيه، فله سبحانه الف حصة حقيقية فيه. فلا مناص اذن من التسليم بحكم الله.

أما محبة الاصدقاء وودّهم، فان كانوا من اصحاب الايمان والتقوى فان محبتهم هي في سبيل الله وتعود اليه سبحانه بمقتضى (الحب في الله).

ثم ان محبة الزوجة وهي رفيقة حياتك، فعليك بمحبتها على أنها هدية أنيسة لطيفة من هدايا الرحمة الإلهية. واياك ان تربط محبتك لها برباط الجمال الظاهري السريع الزوال، بل اوثقها بالجمال الذي لا يزول ويزداد تألقاً يوماً بعد يوم، وهو جمال الاخلاق والسيرة الطيبة المنغرزة في انوثتها ورقّتها. وان احلى ما فيها من جمال واسماه هو في شفقتها الخالصة النورانية. فجمال الشفقة هذا، وحُسن السيرة يدومان ويزدادان الى نهاية العمر. وبمحبتهما تُصان حقوق هذه المخلوقة اللطيفة الضعيفة، والاّ تفقد حقوقها في وقت هي احوج ما تكون اليها، بزوال الجمال الظاهري.

أما محبة الانبياء عليهم السلام والأولياء الصالحين فهي ايضاً لوجه الله وفي سبيله من حيث انهم عباد الله المخلصون المقبولون لديه جل وعلا. فمن هذه الزاوية تصبح تلك المحبة للّه.

والحياة ايضاً التي وهبها الله سبحانه وتعالى لك وللأنسان، هي رأس مال عظيم تستطيع أن تكسب به الحياة الاُخروية الباقية. وهي كنز عظيم يحوي اجهزة وكمالات خالدة.. من هنا فالمحافظة عليها ومحبتها من هذه الزواية، وتسخيرها في سبيل المولى عزوجل تعود الى الله سبحانه ايضاً.

ثم ان محبة الشباب وجماله ولطافته، وتقديره من حيث انه نعمة ربانية جميلة، ثم العمل على حسن استخدامه، هي محبة مشروعة، بل مشكورة.

ثم محبة الربيع والشوق اليه تكون في سبيل الله ومتوجهة الى اسمائه الحسنى، من حيث كونه اجمل صحيفة لظهور نقوش الاسماء الحسنى النورانية واعظم معرض لعرض دقائق الصنعة الربانية البديعة.. فالتفكر في الربيع من هذه الزاوية محبة متوجهة الى الاسماء الحسنى.

وحتى حب الدنيا والشغف بها ينقلب الى محبة لوجه الله تعالى فيما اذا كان النظر اليها من زواية كونها مزرعة الآخرة، ومرآة الاسماء الحسنى، ورسائل ربانية الى الوجود، ودار ضيافة موقتة (وعلى شرط عدم تدخل النفس الامارة في تلك المحبة). ومجمل القول:

اجعل حبك للدنيا وما فيها من مخلوقات بالمعنى (الحرفي) وليس بالمعنى (الاسمي) اي لمعنى ما فيها وليس لذاتها. ولا تقل لشئ: (ما اجمل هذا) بل قل: (ما اجمله خلقاً) أو (ما اجمل خلقه)! واياك ان تترك ثغرة يدخل منها حبٌ لغير الله في باطن قلبك، فان باطنه مرآة الصمد، وخاص به سبحانه وتعالى. وقل:

اللّهم ارزقنا حبك وحب ما يقرّبنا اليك.

وهكذا فان جميع ما ذكرناه من انواع المحبة، إن وجهت الوجهة الصائبة على الصورة المذكورة آنفاً، اي عندما تكون لله وفي سبيله، فانها تورث لذة حقيقية بلا ألم. وتكون وصالاً حقاً بلا زوال، بل تزيد محبة الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن انها محبة مشروعة وشكر لله في اللذة نفسها، وفكر في آلائه في المحبة عينها.

مثال للتوضيح:

اذا اهدى اليك سلطان عظيم(1) تفاحة - مثلاً - فانك ستكّن لها نوعين من المحبة، وستلتذ بها بشكلين من اللذة:

الاولى:

المحبة التي تعود الى التفاحة، من حيث انها فاكهة طيبة فيها لذة بقدر ما فيها من خصائص، هذه المحبة لا تعود الى الســلـطــان. بل مَن يأكلــها بــشراهــة امامه يبدي محبته للتفاحة وليس للسلطان، وقد لا يعجب السلطان ذلك التصرف منه، وينفر من تلك المحبة الشديدة للنفس. علاوة على أن لذة التفاحة جزئية وهي في زوال. اذ بمجرد الانتهاء من اكلها تزول اللذة وتورث الاسف.

أما المحبة الثانية:

فهي للتكرمة السلطانية والتفاتته اللطيفة التي ظهرت بالتفاحة.. فكأن تلك التفاحة نموذج للتوجه السلطاني، او هي ثناء مجسّم منه. فالذي يتسلم هدية السلطان حباً وكرامةً يبدي محبته للسلطان وليس للتفاحة. علماً ان في تلك التفاحة التي صارت مظهراً للتكرمة لذة تفوق وتسمو على الف تفاحة اخرى. فهذه اللذة هي الشكران بعينه، وهذه المحبة هي محبة ذات احترام وتوقير يليق بالسلطان.

وهكذا فاذا ما وجّه الانسان محبته الى النعم والفواكه بالذات وتلذذ عن غفلة بلذاتها المادية وحدها، فتلك محبة نفسانية تعود الى هوى النفس، وتلك اللذات زائلة مؤلمة. أما اذا كانت المحبة متوجهة الى جهة التكرمة الربانية ونحو ألطاف رحمته سبحانه وثمرات احسانه، مقدّراً درجات الاحسان واللطف ومتلذذاً بها بشهية كاملة، فهي شكر معنوي، وهي لذة لا تورث ألماً.

C النكتة الثالثة:

ان المحبة المتوجهة الى الاسماء الحسنى لها طبقات: فقد تتوجه بالمحبة الى الاسماء الحسنى بمحبة الآثار الإلهية المبثوثة في الكون - كما بيناه سابقاً - وقد تتوجه بالمحبة الى الاسماء الحسنى لكونها عناوين كمالات إلهية سامية، وقد يكون الانسان مشتاقاً الى الاسماء الحسنى لحاجته الماسة اليها، وذلك لجامعية ماهيته وعمومها وحاجاته غير المحدودة، اي يحب تلك الاسماء بدافع الحاجة اليها.

ولنوضح ذلك بمثال:

تصور وانت تستشعر عجزك وحاجتك الشديدة الى مَن يساعدك ويعينك لإنقاذ مَن تحن عليهم وتشفق على اوضاعهم من الاقارب والفقراء، وحتى المخلوقات الضعيفة المحتاجة، اذا بأحدهم يبرز في الميدان، ويُحـسن لأولئك ويتفـضل عليهم ويسبغ عليهم نِعَمه بما تريده وترغبه.. فكم تطـيـب نفسـك وكم ترتاح الـى إسـمه (المنعم) و (الكريم).. وكـم تـنـبـسط أسـاريرك وتـنـشرح من هـذيـن الاسـمين، بل كم يأخذ ذلك الشخص من اعجابك وتقديرك، وكم تتوجه اليه بالحب بذينك الاسمين والعنوانين!.

ففي ضوء هذا المثال تدبّر في اسمين فقط من الاسماء الحسنى وهما: (الرحمن) و (الرحيم) تجد أن جميع المؤمنين من الآباء والاجداد السالفين وجميع الاحبة والاقارب والاصدقاء، هؤلاء الذين تحبهم وتحن اليهم وتشفق عليهم، يُنعَمون في الدنيا بانواع من النعم اللذيذة، ثم يُسعَدون في الآخرة بما لذّ وطاب من النعم، بل يزيدهم سبحانه وهو الرحمن الرحيم سعادة ونعيماً بلقاء بعضهم بعضاً وبرؤية الجمال السرمدي هناك.. فكم يكون اسم (الرحمن) و (الرحيم) جديرين اذن بالمحبة؟ وكم تكون روح الانسان تواقة اليهما؟ قس بنفسك ذلك لتدرك مدى صواب قولنا؛ الحمد لله على رحمانيته ورحيميته.

ثم انك تتعلق بالموجودات المبثوثة على الارض وتتألم بشقائها، حتى لكأن الارض برمتها مسكنك الجميل وبيتك المأنوس؛ فاذا ما انعمت النظر تجد في روحك شوقاً عارماً وحاجة شديدة الى اسم (الحكيم) وعنوان (المربي) للذي ينظم هذه المخلوقات كافة بحكمة تامة وتنظيم دقيق وتدبير فائق وتربية رحيمة.

ثم اذا انعمت النظر في البشرية جمعاء تجدك تتعلق بهم وتتألم لحالهم البائسة وتتألم أشد الألم بزوالهم وموتهم، واذا بروحك تشتاق الى اسم (الوارث الباعث) وتحتاج الى عنوان (الباقي، الكريم، المحيي، المحسن) للخالق الكريم الذي ينقذهم من ظلمات العدم ويسكنهم في مسكن اجمل من الدنيا وافضل منها.

وهكذا فلأن ماهية الانسان عالية وفطرته جامعة فهو محتاج بألف حاجة وحاجة الى ألف اسم واسم من الاسماء الحسنى والى كثير جداً من مراتب كل اسم. فالحاجة المضاعفة هي الشوق، والشوق المضاعف هو المحبة والمحبة المضاعفة كذلك هي العشق، فحسب تكمّل روح الانسان تنكشف مراتبُ المحبة وفق مراتب الاسماء. ومحبة جميع الاسماء ايضاً تتحول الى محبة ذاته الجليلة سبحانه، اذ إن تلك الاسماء عناوين وتجليات ذاته جلّ وعلا.

والآن سنبين من بين ألف اسم واسم من الاسماء الحسنى مرتبة واحدة فقط وعلى سبيل المثال من بين الف مرتبة ومرتبة لإسم العدل والحكم والحق والرحيم على النحو الآتي:

ان شئت أن تشاهد ما في نطاق الحكمة والعدل من اسم (الرحمن الرحيم، الحق) ضمن دائرة واسعة عظمى فتأمل في هذا المثال:

جيش يضم اربعمائة طائفة متنوعة من الجنود، كل منها تختلف عن الاخرى فيما يعجبها من ملابس، وتتابين فيما تشتهيه من اطعمة وتتغاير فيما تستعمله بيُسر من اسلحة، وتتنوع فيما تتناوله من علاجات تناسبها.. فعلى الرغم من هذا التباين والاختلاف في كل شئ، فان تلك الطوائف الاربعمائة لا تتميز الى فرق وافواج، بل يتشابك بعضها في بعض من دون تمييز.. فاذا ما وُجد سلطانٌ واحد يعطي لكل طائفة ما يليق بها من ملابس، وما يلائمها من ارزاق، وما يناسبها من علاج، وما يوافقها من سلاح، بلا نسيانٍ لأحد ولا التباس ولا اختلاط، ومن دون أن يكون له مساعد ومعين، بل يوزعها كلها عليهم بذاته، بما يتصف به من رحمة ورأفة وقدرة وعلم معجز واحاطة تامة بالامور كلها، مع عدالة فائقة وحكمة تامة.. نعم، اذا ما وُجد سلطان كهذا الذي لا نظير له، وشاهدتَ بنفسك اعماله المعجزة الباهرة، تدرك عندئذٍ مدى قدرته ورأفته وعدله. ذلك لأن تجهيز كتيبة واحدة تضم عشرة اقوام مختلفين باعتدة متباينة وألبسة متنوعة أمر عسير جداً، حتى يُلجأ الى تجهيز الجيش بطراز معين ثابت من الالبسة والاعتدة مهما اختلفت الاجناس والاقوام.

فاذا شئت - في ضوء هذا المثال - أن ترى تجلي اسم الله (الحق) و (الرحمن الرحيم) ضمن نطاق العدل والحكمة، فسرّح نَظَرَك في الربيع الى تلك الخيام المنصوبة على بساط الأرض لأربعمائة الفٍ من الامم المتنوعة، الذين يمثلون جيش النباتات والحيوانات، أنعم النظر فيها تجد ان جميع تلك الامم والطوائف، مع انها متداخلة، وألبستهم مختلفة وارزاقهم متفاوتة واسلحتهم متنوعة وطرق معيشتهم متباينة وتدريبهم وتعليماتهم متغايرة، وتسريحاتهم واجازاتهم متميزة.. وهم لا يملكون ألسنة يطالَبون بها تأمين حاجاتهم وتلبية رغابتهم.. مع كل هذا فان كلاً منها تدار وتربى وتراعى باسم (الحق والرحمن والرزاق والرحيم والكريم) دون التباس ولا نسيان ضمن نطاق الحكمة والعدل بميزان دقيق وانتظام فائق.. فشَاهِد هذا التجلي وتأمّل فيه؛ فهل يمكن أن يتدخل أحد غير الله سبحانه وتعالى في هذا العمل الذي يُدار بمثل هذا النظام البديع والميزان الدقيق؟ وهل يمكن لأي سبب مهما كان أن يمدّ يده ليتدخل في هذه الصنعة الباهرة والتدبير الحكيم والربوبية الرحيمة والادارة الشاملة غير الواحد الأحد الحكيم القدير على كل شئ؟..

C النكتة الرابعة:

تقول انني احمل انواعاً متباينة من المحبة في نفسي، تتعلق بالاطعمة اللذيذة، وبنفسي وزوجتي وبأولادي ووالديّ وبأحبابي وأصدقائي، وبالأولياء الصالحين والأنبياء المكرمين، بل يتعلق حبي بكل ما هو جميل، وبالربيع الزاهي خاصة وبالدنيا عامة.. فلو سارت هذه الأنواع المختلفة من المحبة وفق ما يأمر به القرآن الكريم، فما تكون نتائجها وما فوائدها؟.

الجواب: ان بيان تلك النتائج وتوضيح تلك الفوائد كلها يحتاج الى تأليف كتاب ضخم في هذا الشأن، لذا سنشير هنا الى نتيجة واحدة او نتيجتين منها اشارة مجملة. وسنبين اولاً النتائج التي تحصل في الدنيا، ثم بعد ذلك نبين النتائج التي ستظهر في الآخرة. وهي كالآتي:

لقد ذكرنا سابقاً: ان انواع المحبة التي لدى ارباب الغفلة والدنيا والتي لا تنبعث الاّ لإشباع رغبات النفس، لها نتائج أليمة وعواقب وخيمة من بلايا ومشقات، مع ما فيها من نشوة ضئيلة وراحة قليلة.

فمثلاً: الشفقة تصبح بلاءً مؤلماً بسبب العجز، والحب يغدو حُرقة مفجعة بسبب الفراق، واللذة تكون شراباً مسموماً بسبب الزوال.. أما في الآخرة فستبقى دون جدوى ولا نفع، لأنها لم تكن في سبيل الله تعالى، او تكون عذاباً أليماً ان ساقت الى الوقوع في الحرام.

سؤال: كيف يظل حب الانبياء الكرام والأولياء الصالحين دون نفع أو فائدة؟

الجواب: مثلما لا ينتفع النصارى المعتقدون بالتثليث من حبهم لسيدنا عيسى عليه السلام، وكذا الروافض من حبهم لسيدنا علي رضى الله عنه!

أما ما ذكرته من انواع المحبة فان كانت وفق ارشاد القرآن الكريم وفي سبيل الله سبحانه وتعالى ومحبة الرحمن الرحيم، فان نتائج جميلة تثمر في الدنيا، فضلاً عن نتائجها الطيبة الخالدة في الآخرة.

اما نتائجها في الدنيا:

فان محبتك للاطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة فهي نعمة إلهية لا يشوبها ألم، ولذة لطيفة في الشكر بعينه.

أما محبتك لنفسك أي إشفاقك عليها، والجهد في تربيتها وتزكيتها، ومنعها عن الاهواء الرذيلة، تجعلها منقادة اليك، فلا تسيرّك ولاتقيدك باهوائها بل تسوقها انت الى حيث الهدى دون الهوى.

أما محبتك لزوجتك وهي رفيقة حياتك، فلأنها قد أسست على حُسن سيرتها وطيب شفقتها، وكونها هبة من الرحمة الإلهية، فستولها حباً خالصاً ورأفة جادة، وهي بدورها تبادلك هذه المحبة مع الاحترام والتوقير، وهذه الحالة تزداد بينكما كلما تقدمتما في العمر، فتقضيان حياة سعيدة هنيئة باذن الله.. ولكن لو كان ذلك الحب مبنياً على جمال الصورة الذي تهواه النفس، فانه سرعان ما يخبو ويذبل، وتفسد الحياة الزوجية ايضاً.

أما محبتك للوالد والوالدة، فهي عبادة تُثاب عليها ما دامت في سبيل الله، ولا شك انك ستزيد الحب والاحترام لهما عندما يبلغان الكبر، وتكسب لذة روحية خالصة وراحة قلبية تامة لدى القيام بخدمتهما وتقبيل ايديهما وتبجيلهما باخلاص، فتتوجه الى المولى القدير، وانت تشعر هذا الشعور السامي والهمة الجادة، بأن يطيل عمرهما لتحصل على مزيد من الثواب.. ولكن لو كان ذلك الحب والاحترام لأجل كسب حطام الدنيا ونابعاً من هوى النفس، فانه يولد ألماً روحياً قاتماً ينبعث من شعور سافل منحط واحساس دنئ وضيع هو النفور من ذينك الموقرَين اللذين كانا السبب لحياتكَ انت، واستثقالهما وقد بلغا الكبر وباتا عبئاً عليك، ثم الأدهى من ذلك تمني موتهما وترقّب زوالهما!

أما محبتك لأولادك، اي حبك لمن استودعك الله اياهم أمانةً، لتقوم بتربيتهم ورعايتهم.. فحب اولئك المؤنسين المحبوبين من خلق الله، انما هو حب مكلل بالسعادة والبهجة، وهو نعمة إلهية في الوقت نفسه، فاذا شعرت بهذا فلا يَنْتَبك الحزن على مصابهم ولا تصرخ متحسراً على وفاتهم. اذ - كما ذكرنا سابقاً - ان خالقهم رحيم بهم حكيم في تدبير امورهم وعند ذلك تقول ان الموت بحق هؤلاء لهو سعادة لهم. فتنجو بهذا من ألم الفراق وتتفكر ان تستدر رحمته تعالى عليك.

أما محبتك للأصدقاء والأقرباء، فلانها لوجه الله تعالى، فلا يُحول فراقهم ولا موتهم عن دوام الصحبة معهم، ودوام اخوتكم ومحبتكم ومَوانستكم؛ اذ تدوم تلك الرابطة الروحية والحب المعنوي الخالص، فتـدوم بدورهمـا لـذة اللـقـاء ومتعة الوصال.. ولكن ان لم يكن ذلك الحب لأجله تعالى ولا في سبيله، فان لذة لقاء يوم واحد يورث آلام الفراق لمائة يوم(1).

أما محبتك للأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحين، فان عالم البرزخ الذي هو عالم مظلم موحش في نظر ارباب الضلالة والغفلة تراه منازل من نور تنورت باولئك المنورين، وعندها لا تستوحش من اللحاق بهم، ولا تجفل من عالم البرزخ، بل تشتاق اليه، وتحن اليه من دون أن يعكر ذلك تمتعك بالحياة الدنيا.. ولكن لو كان حبهم شبيهاً بحب ارباب المدنية لمشاهير الانسانية، فان مجرد التفكر في فناء اولئك الأولياء الكاملين، وترمم عظامهم في مقبرة الماضي الكبرى، يزيد ألماً على آلام الحياة، ويدفع المرء الى تصور موته وزواله حيث يقول سأدخل يوماً هذه المقبرة التي ترمم عظام العظماء! يقوله بكل مرارة وحسرة وقلق.. بينما في المنظور الأول يراهم يقيمون براحة وهناء في عالم البرزخ الذي هو قاعة المستقبل ورواقه، بعد ان تركوا ملابسهم الجسدية في الماضي.. فينظر الى المقبرة نظرة شوق وأنس.

ثم أن محبتك للأشياء الجميلة والامور الطيبة، لما كانت محبة في سبيل الله، وفي سبيل معرفة صانعها الجليل بحيث يجعلك تقول: ما اجمل خلقه!. فان هذه المحبة في حد ذاتها تفكر ذو لذة ومتعة، فضلاً عن انها تفتح السبيل امام اذواق حب الجمال والشوق الى الحسن لتتطلع الى مراتب اذواق اسمى وارفع ، وتريه هناك كنوز تلك الخزائن النفيسة فيتملاها المرء في نشوة سامية عالية؛ ذلك لان هذه المحبة تفتح آفاقاً امام القلب ليحوّل نظره من آثار الصانع الجليل الى جمال افعاله البديعة، ومن جمال الافعال الى جمال اسمائه الحسنى، ومن جمال الاسماء الحسنى الى جمال صفاته الجليلة، ومن جمال الصفات الجليلة الى جمال ذاته المقدسة.. فهذه المحبة وبهذا السبيل انما هي عبادة لذيذة وتفكر رفيع ممتع في الوقت نفسه.

أما محبتك للشباب، فلأنك قد احببت عهد شبابك لكونه نعمة جميلة لله سبحانه، فلا شك انك ستصرفه في عبادته تعالى ولا تقتله غرقاً في السفه وتمادياً في الغي؛ اذ العبادات التي تكسبها في عهد الشباب انما هي ثمرات يانعة باقية خالدة أثمرها ذلك العهد الفاني، فكلما جاوزت ذلك العـهـد وطـعـنـت في السـن حصلت على مزيد من ثمراته الباقية، ونجوت تدريجياً من آفات النفس الأمارة بالسوء وسيئات طيش الشباب. فترجو من المولى القدير ان يوفقك الى كسب المزيد من العبادة في الشيخوخة، لتكون أهلاً لرحمته الواسعة. وتربأ بنفسك ان تكون مثل اولئك الغافلين الذين يقضون خمسين سنة من عمر شيخوختهم وشيبهم أسفاً وندماً على ما فقدوه من متاع الشباب في خمس او عشر سنوات. حتى عبّر أحد الشعراء عن ذلك الندم والأسف بقوله:

ألا لَيتَ الشَبابَ يعودُ يوماً فاُخبره بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ

أما محبتك للمناظر البهيجة ولا سيّما مناظر الربيع، فحيث انها مشاهدة لبدائع صنع الله واطلاع عليها، فذهاب ذلك الربيع لا يزيل لذة المشاهدة ومتعة التفرج، اذ يترك وراءه معانيه الجميلة، حيث الربيع اشبه ما يكون برسالة ربانية زاهية تفتح للمخلوقات. فخيالك والزمن شبيهان بالشريط السينمائي يديمان لك لذة المشاهدة هذه، ويجددان دوماً تلك المعاني التي تحملها رسالة الربيع. فلا يكون حبك اذن مؤقتاً ولا مغموراً بالأسف والأسى، بل صافياً خالصاً لذيذاً ممتعاً.

أما حبك للدنيا، فلانه حب لله ولأجله سبحانه، فان موجوداتها المثيرة للرعب والدهشة تصبح لك اصدقاء مؤنسين، ولأنك تتوجه اليها بالحب من حيث كونها مزرعة الآخرة، تستطيع ان تجني من كل شئ فيهاما يمكن ان يكون ثمرة من ثمار الآخرة، أو تغنم منها ما يمكن أن يكون رأس مال للآخرة. فمصائبها اذن لا تخيفك وزوالها وفناؤها لا يضايقك. وهكذا تقضي مدة أقامتك فيها، وانت ضيف مكرم.. ولكن لو كان حبك لها كحب ارباب الغفلة، فقد قلنا لك مراراً: ستغرق نفسك وتفنى بحبٍ ساحقٍ، خانق، زائل، لا طائل وراءه ولا نفع!.

وهكذا فقد حاولنا ان نُري لطيفة واحدة من مئات اللطائف التي تعود لكلٍ مما ذكرتَه، عندما يكون حبك له وفق ارشاد القرآن الكريم، واشرنا في الوقت نفسه الى واحد من مئات اضرار ذلك الحب إن لم يكن وفق ما يأمر به القرآن الكريم.

فان كنت تريد أن تدرك نتائج هذه الانواع المختلفة من المحبة في دار البقاء وعالم الاخرة، مثلما اشارت اليها الآيات البينات للقرآن الكريم، فسنبين لك بياناً مجملاً فائدة واحدة اُخروية من فوائد تلك الأنواع المشروعة من المحبة، وذلك في تسع اشارات، بعد ان نقدم بين يديها مقدمة:



المقدمة

ان الله سبحانه وتعالى، بالوهيته الجليلة، ورحمته الجميلة، وربوبيته الكبيرة، ورأفته الكريمة، وقدرته العظيمة، وحكمته اللطيفة، قد زيّن هذا الانسان الصغير بحواسَ ومشاعر كثيرة جداً، وجمّله بجوارح واجهزة واعضاء مختلفة عديدة؛ ليُشعر طبقات رحمته الواسعة ويذيقه انواع آلائه التي لا تعد، ويعرّفه اقسام احساناته التي لا تحصى، ويُطلعه عبر تلك الاجهزة والاعضاء الكثيرة على انواع تجلياته التي لا تُحد لألف اسم واسم من اسمائه الحسنى، ويحببها اليه، ويجعله يحسن تقديرها حق قدرها.

فلكل عضو - من تلك الاعضاء الكثيرة - ولكل جهاز وآلة منها وظائفها المتنوعة وعباداتها المتباينة كما ان لذائذها مختلفة وآلامها متغايرة وثوابها متميز.

فمثلاً: العين، تشاهد الجمال في الصور، وترى معجزات القدرة الإلهية الجميلة في عالم الشهود، فتؤدي وظيفتها بتقديم الشكر لله من خلال نظرتها ذات العبرة. ولا يخفى على أحد مدى ما فيها - اي الرؤية - من لذةٍ وما يحصل من زوالها من ألم، لذا لا داعي لتعريف لذة الرؤية وألم فقدانها.

ومثلاً: الأذن، تشعر بلطائف الرحمة الإلهية السارية في عالم المسموعات، بسماعها انواع الاصوات ونغماتها اللطيفة المختلفة. فلها عبادة خاصة بها، ولذة تخصها، وثواب يعود اليها.

ومثلاً: حاسة الشم التي تشعر بلطائف الرحمة الإلهية الفواحة من شذى انواع العطور والروائح، فان لها لذتها الخاصة به ضمن ادائها شكرها الخاص، ولا شك ان لها ثواباً خاصاً بها.

ومثلاً: حاسة الذوق التي في الفم. فهي تؤدي وظيفتها وتقدم بشكرها المعنوي بانماط شتى من خلال ادراكها مذاقات انواع الاطعمة ولذائذها.

وهكذا فلكل جهاز من اجهزة الانسان ولكل حاسة وجارحة، ولكل لطيفة من لطائفه المهمة - كالقلب والروح والعقل وغيرها - وظائفها المختلفة، لذائذها المتنوعة الخاصة بها، فمما لا ريب فيه ان الخالق الحكيم الذي سخّر هذه الاجهزة لتلك الوظائف سيجزى كلاً منها بما يلائمها ويستحقها من جزاء.

ان النتائج العاجلة للأنواع المتعددة من المحبة - المذكورة سابقاً - يشعر بها كل انسان شعوراً وجدانياً، ويستدل على شعوره هذا ويتيقن منه بحدس صادق.

اما نتائجها الاُخروية فقد اثبتتها اثنتا عشرة حقيقة من الحقائق الساطعة للكلمة العاشرة والاسس الستة الباهرة للكلمة التاسعة والعشرين.

أما تفصيلها فهو ثابت قطعاً بالقرآن الكريم الذي هو أصدق كلام وابلغ نظام وهو كلام الله الملك العزيز العلام، في تصريح آياته البينات وتلويحها وفي رموزها واشاراتها.. لذا لا نرى داعياً لإيراد براهين مطولة في هذا الشأن، علماً اننا سردنا براهين كثيرة جداً في (كلمات) اخرى وفي المقام الثاني العربي من الكلمة الثامنة والعشرين الخاصة بالجنة وفي الكلمة التاسعة والعشرين.

الاشارة الاولى:

ان النتيجة الاُخروية للمحبة المشروعة المكللة بالشكر للّه، نحو الاطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة في الدنيا، هي تلك الاطعمة والفواكه الطيبة اللائقة بالجنة الخالدة.. كما ينص عليه القرآن الكريم. هذه المحبة، محبة ذات اشتياق واشتهاء لتلك الجنة وفواكهها. حتى ان الفاكهة التي تأكلها في الدنيا وتذكر عليها (الحمد لله) تتجسم في الجنة فاكهة خاصة بها وتقدّم اليك طيبة من طيبات الجنة. فأنت تأكل هنا فاكهة، وهناك (الحمد لله) مجسمة في فاكهة من فواكه الجنة.. وحيث انك تقدم شكراً معنوياً لذيذاً برؤيتك الانعام الإلهي والالتفات الرباني في الاطعمة والفواكه التي تتناولها هنا، فستسلم اليك هناك في الجنة اطعمة لذيذة وفواكه طيبة، كما هو ثابت في الحديث الشريف وباشارات القرآن الكريم، وبمقتضى الحكمة الإلهية ورحمتها الواسعة.

الاشارة الثانية:

ان نتيجة المحبة المشروعة نحو النفس، اي محبتها المبنية - في الدنيا - على رؤية نقائصها دون محاسنها، ومحاولة إكمالها، وتزكيتـها ورعايتـها بالشفـقة والرأفة، ودفعها الى سبيل الخير، هي اعطاء البارئ عز وجلّ محبوبين يليقون بها وبالجنة، فالنفس التي عـافـت - في الـدنيـا - هـواهـا وشـهواتها وتركـت رغباتهـا في سبيل الله، وأستعمل ما فيها من اجهزة متنوعة على أفضل وجه وأتمه، سيمنحها البارئ الكريم سـبحانه - مكـأفـاة علـى هـذه المحـبـة المشـروعـة المـكـلـلـة بالعبـودية لله - الحور العين المترفلات بسبعين حلة من حلل الجنة المتنوعة بانواع لطائفها وزينتها، والمتجملات بسبعين نوعاً من انواع الحسن والجمال حتى كأنهن جنة مجسمة مصغرة تنبض بالروح والحياة، لتقرّ بها عينُ النفس التي اطاعت الله وتهدأ بها المشاعر التي اطمأنت الى اوامر الله.. فهذه النتيجة لا ريب فيها، اذ الآيات الكريمة تصرح بها يقيناً.

ثم ان نتيجة المحبة المتوجهة نحو الشباب في الدنيا، اي صرف قوة الشباب ونضارته في العبادة والتقوى، هي شباب دائم خالد في دار البقاء والنعيم المقيم.

الاشارة الثالثة:

أما النتيجة الأخروية لمحبة الزوجة المؤسسة على حُسن سيرتها وجميل خصلتها ولطيف شفقتها، والتي تصونها عن النشوز وتجنبها الخطايا والذنوب، فهي:

جعل تلك الزوجة الصالحة محبوبة ومحبة وصديقة صدوقة وأنيسة مؤنسة، في الجنة، جمالُها ابهى من الحور العين، زينتها ازهى من زينتهن، حسنها يفوق حسنهن.. تتجاذب مع زوجها اطراف الحديث، يستذكران احداث ايام خلت.. هكذا وعد الرحيم الكريم. فما دام قد وعد فسيفى بوعده حتماً.

الاشارة الرابعة:

أما نتيجة محبة الوالدين والاولاد فهي ان الرحمن الرحيم جل وعلا يُحسن الى تلك العائلة السعيدة المحظوظة - رغم تفاوت مراتبهم في الجنة - لقاء بعضهم البعض والمعاشرة والمجالسة والمحادثة فيما بينهم بما يليق بالجنة ودار البقاء، كما هو ثابت بنص القرآن الكريم. وينعم على اولئك الآباء بملاطفة اولادهم الذين توفوا في دار الدنيا قبل سن البلوغ، ويجعلهم لهم ولداناً مخلّدين، في ألطف وضع وأحبّه الى نفوسهم، وبهذا تطمئن رغبة مداعبة الاطفال المغروزة في فطرة الانسان، فيستمتعون بمتعة خالدة وذوق دائم في الجنة، حيث خُلّد لهم اطفالُهم الصغار - الذين لم يبلغوا سن التكليف - ولقد كان يُظن أن ليس في الجنة مداعبة الاطفال، لأنها ليست محلاً للتوالد. ولكن الجنة لأنها تحوى افضل لذائذ الدنيا واجودها، فملاطفة الاولاد ومداعبة الاطفال لابد انها موجودة فيها بأفضل صورها واجمل اشكالها.. فيا بشرى أولئك الآباء الذين فقدوا اطفالهم في دار الدنيا!.

الاشارة الخامسة:

ان نتيجة محبتك لصالح الأصدقاء والأقرباء التي يتطلبها (الحب في الله)، انما هي في جلوسكم على سُرُر متقابلين ومؤانستكم بلطائف الذكريات، ذكريات ايام الدنيا وخواطرها الجميلة، وقضاء وقت ممتع وجميل بهذه المحاورة والمجالسة. كما هو ثابت بنص القرآن الكريم.

الاشارة السادسة:

أما نتيجة محبة الأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحين حسب ما بينه القرآن الكريم - فهي كسب شفاعة اولئك الأنبياء الكرام والأولياء الصالحين في عالم البرزخ، وفي الحشر الأعظم فضلاً عن الاستفاضة - بتلك المحبة - من فيوضات مقاماتهم الرفيعة ومراتبهم العالية اللائقة بهم.

نعم، ان الحديث الشريف ينص على أن (المرء مع من احب) فالانسان اذن يستطيع ان يرتفع الى أعلى مقام وارفعه بما نسج مع صاحبه من اواصر المحبة وبانتمائه اليه واتباعه له.

الاشارة السابعة:

ان محبتك للاشياء الجميلة وللربيع، اي نظرك اليها من زواية قولك: (ما اجمل خلقه!) وتوجيه محبتك الى ما وراء ذلك الشئ الجميل من جمال الافعال وانتظامها، والى ما وراء تلك الافعال المنسقة من جمال تجليات الاسماء الحسنى، والى ما وراء تلك الاسماء الحسنى من تجليات الصفات الجليلة.. وهكذا.. ان نتيجة هذه المحبة المشروعة هي:

مشاهدة جمالٍ اسمى من ذلك الجمال الذي شاهدته في المصنوعات بالوف الوف المرات. اي مشاهدة تجليات الاسماء الحسنى وجمال الصفات الجليلة بما يليق بالجنة ودار البقاء. حتى قال الامام الرباني السرهندي رضى الله عنه: (ان لطائف الجنة انما هي تمثلات الاسماء الحسنى) فتأمل!.

الاشارة الثامنة:

أما محبتك للدنيا محبةً مشروعة، اي محبتك لها مع التأمل والتفكر في وجهيَها الجميلين اللذين هما: مزرعة الآخرة ومرآة التجليات للأسماء الحسنى فان نتيجتها الاُخروية هي أنه:

سيُهَب لك جنة تسع الدنيا كلها، ولكنها لا تزول مثلها، بل هي خالدة دائمة. وستُظهر لك في مرايا تلك الجنة تجليات الاسماء الحسنى بأزهى شعشعتها وبهائها، تلك التي رأيت بعض ظلالها الضعيفة في الدنيا.

ثم ان محبة الدنيا في وجهها الذي هو مزرعة للآخرة، اي باعتبار الدنيا مشتلاً صغيراً جداً لاستنبات البذور لتتسنبل في الآخرة وتثمر هناك، فان نتيجتها هي:

أثمار جنة واسعة تسع الدنيا كلها، تنكشف فيها جميع الحواس والمشاعر الانسانية التي يحملها الانسان في الدنيا كبُذيرات صغيرة، انكشافاً تاماً ونمواً كاملاً، وتتسنبل فيها بُذيرات الاستعدادات الفطرية حاملة جميع انواع اللذائذ والكمالات.. هذه النتيجة ثابتة بمتقضى رحمة الله الواسعة وحكمته المطلقة. وهي ثابتة كذلك بنص الحديث الشريف واشارات القرآن الكريم.

ولما كانت محبتك للدنيا ليست لذلك الوجه المذموم الذي هو راس كل خطيئة، وانما هي محبة متوجهة الى وجهَيها الآخرين اي الى الأسماء الحسنى والآخرة، وقد عقدت - لأجلهما - اواصر المحبة معها وعمّرت ذينك الوجهين على نية العبادة، حتى كأنك قمت بالعبادة بدنياك كلها.. فلابد ان الثواب الحاصل من هذه المحبة يكون ثواباً اوسع من الدنيا كلها، وهذا هو مقتضى الرحمة الإلهية وحكمتها.

ثم لان المحبة قد حصلت معها بمحبة الآخرة وكونها مزرعة لها، وبمحبة الله سبحانه، وكونها مرآة لإظهار اسمائه الحسنى.. فلاشك ان تقابل هذه المحبة بمحبوب اوسع من الدنيا كلها، وما هو الاّ الجنة التي عرضها السّموات والأرض.

سؤال: ما فائدة الجنة الواسعة سعة الدنيا؟

الجواب: لو كان من الممكن ان تتجول بسرعة الخيال في اقطار الارض كلها، وتزور اغلب النجوم التي في السماء، لكنت تقول عندئذٍ: ان العالم كله لي. فلا يزاحم حكمك هذا ولا ينافيه وجود الملائكة والناس الآخرين والحيوانات معك في هذا العالم الواسع.

وكذلك يمكنك ان تقول: ان تلك الجنة لي، حتى لو كانت مليئة بالقادمين اليها.

وقد بينا في رسالة (الجنة) - وهي الكلمة الثامنة والعشرون - معنى الحديث الوارد من انه يُعطى لبعض اهل الجنة جنة سعتها خمسمائة سنة، وكذا بيناه في رسالة (الاخلاص).

الاشارة التاسعة:

ان نتيجة الايمان بالله ومحبته سبحانه هي:

رؤية جمال مقدس وكمال منزّه للذات الجليلة سبحانه وتعالى - كما هي ثابتة بالحديث الصحيح(1) والقرآن الكريم - هذه الرؤية التي تساوي ساعة منها الف الف سنة من نعيم الجنة(2)، ذلك النعيم الذي ساعة منه تفوق الف الف سنة من حياة الدنيا الهنيئة، كما هو ثابت لدى اهل العلم والكشف بالاتفاق.

ويمكنك قياس مدى الشوق واللهفة التي تنطوي عليهما فطرة الانسان لرؤية ذلك الجمال المقدس والكمال المنزّه، ومدى ما فيها من رغبة جياشة وتوق شديد وإلتياع لشهودهما، بالمثال الآتي:

كل انسان يشعر في وجدانه بلهفة شديدة لرؤية سيدنا سليمان عليه السلام الذي اوتي الكمال ويشعر ايضاً بشوقٍ عظيم نحو رؤية سيدنا يوسف عليه السلام الذي اُوتي شطر الجمال. فيا ترى كم يكون مدى الشوق واللهفة لدى الانسان لرؤية جمال مقدس وكمال منزّه، الذي من تجليات ذلك الجمال والكمال، الجنة الخالدة بجميع محاسنها ونعيمها وكمالاتها التي تفوق بما لا يحد من المرات جميع محاسن الدنيا وكمالاتها..

اللّهم ارزقنا في الدنيا حبَّك وحبَّ ما يقرّبنا اليك، والاستقامة كما امرتَ، وفي الآخرة رحمتَك ورؤيتك.

] سبحانك لا عِلمَ لَنا الاّ ما عَلّمْتَنا إنَكَ أنَت العَليم الحَكيم[

اللّهمَ صلّ وَسَلم على مَن أرسَلته رَحمة للعالمين

وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين

تنـــبيه

لا تعدّ التفصيلات الواردة في ختام هذه الكلمة طويلة، بل هي مختصرة بالنسبة لأهميتها، اذ تحتاج الى اطناب اكثر.

والمتكلم في (الكلمات) كلها، ليس انا، فلست المتكلم فيها، بل الحقيقة هي التي تتكلم باسم (الاشارات القرآنية) وان الحقيقة تنطق بالحق وتقول الصدق.

لذا ان رأيتم خطأً فاعلموا يقيناً ان فكري قد خالط البحث وعكّر صفوه وأخطأ دون ارادتي.

مناجاة

يا رب! ان من لا يُفتح له باب قصر عظيم، يدق ذلك الباب بصدى صوت من هو مقبول مأنوس لدى البواب.

فانا الضعيف المسكين ادق باب رحمتك بنداء عبدك المحبوب لديك (اويس القرني) وبمناجاته، فكما فتحتَ له باب رحمتك يا إلهي، افتحه لي يارب كذلك.اقول كما قال:

إلهي انت ربي وانا العبد

وانـت الخـالق وانا المخلوق

وانت الرزاق وانا المرزوق

وانت المالك وانا المملوك

وانت العزيز وانا الذليل

وانت الغني وانا الفقير

وانت الحــي وانا الميت

وانت الباقي وانا الفاني

وانت الكريم وانا اللئيم

وانت المحسن وانا المسئ

وانت الغفور وانا المذنب

وانت العظيم وانا الحقير

وانت القوي وانا الـضعيف

وانت المعطي وانا السائل

وانت الامين وانا الخائف

وانت الجواد وانا المسكين

وانت المجيب وانا الداعي

وانت الشافي وانا المريـض

فاغفر لي ذنوبي وتجاوز عني واشف امراضي يا الله يا كافـي يا رب يا وافي يا رحيم يا شافي يا كريم يا معافي. فاعف عني من كل ذنب وعافني من كل داء

وارض عني ابداً برحمتك يا ارحم الراحمين..

] وآخر دعواهم ان الحمد لله ربِّ العالمين[ .

عبدالرزاق 02-02-2011 12:09 PM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثالثة والثلاثون

((وهي عبارة عن ثلاثٍ وثلاثين نافذة))

هذه الكلمة هي ((الكلمة الثالثة والثلاثون)) من جهة وهي ((المكتوب الثالث والثلاثون)) من جهة اخرى.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] سَنُريهِمْ آيَاتِنَا فىِ الافَاقِ وَفى اَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ اَنَّهُ الْحَقُّ اَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ اَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ[ (فصلت:53)

سؤال: نرجو أن توضح لنا توضيحاً مجملاً ومختصراً، ما في هذه الآية الكريمة الجامعة من دلائل على وجوب وجود الله سبحانه، وعلى وحدانيته وأوصافه الجليلة وشؤونه الربانية، سواءً أكان وجه الدلائل في العالم الأصغر او الأكبر، أي في الانسان أو الكون. فلقد أفرط الملحدون وتمادوا في غيّهم حتى بدأوا يجاهرون بقولهم: الى متى نرفع اكفّنا وندعو: ((وهو على كل شيء قدير))؟.

الجواب: ان ما كُتِبَ في كتاب (الكلمات) من ثلاث وثلاثين (كلمة)، ما هي الاّ ثلاث وثلاثون قطرة تقطّرت من فيض هذه الآية الكريمة. يمكنكم ان تجدوا ما يقنعكم بمراجعتها. أما هنا فسنشير مجرد اشارة الى رشحاتِ قطرةٍ من ذلك البحر العظيم. فنمهد لها بمثال:

ان الذي يملك قدرة معجزة ومهارة فائقة اذا ما أراد ان يبني قصراً عظيماً فلا شك أنه قبل كل شئ يرسي اسسه بنظام متقن، ويضع قواعده بحكمة كاملة، وينسّقه تنسيقاً يلائم لما يُبنى لأجـلـه مـن غـايـات ومـا يرجـى منه من نتائج. ثم يبدأ بتقسيمه وتفصيله بما لديه من مهارة وابداع الى أقسام ودوائر وحجرات، ثم نراه ينظم تلك الحجرات ويزيّنها بروائع النقوش الجميلة، ثم ينوّر كل ركن من أركان القصر بمصابيح كهربائية عظيمة، ثم لأجل تجديد إحسانه واظهار مهارته نراه يجدد ما فيه من الاشياء ويبدّلها ويحوّلها. ثم يربط بكل حجرة من الحجرات هاتفاً خاصاً يتصل بمقامه، ويفتح من كلٍ منها نافذةً يُرى منها مقامه الرفيع.

وعلى غرار هذا المثال (ولله المثل الأعلى) فالصانع الجليل - الذي له ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى - أمثال: الحاكم الحكيم، والعدل الحَكَم، والفاطر الجليل، الذي ليس كمثله شئ. أراد - وإرادته نافذة - خلقَ شجرة الكائنات العظيمة، وايجاد قصر الكون البديع.. هذا العالم الأكبر.. فوضع أسس ذلك القصر وأصول تلك الشجرة في ستة أيام بدساتير حكمته المحيطة وقوانين علمه الأزلي. ثم صوّره وأحسن صوره بدساتير القضاء والقدر وفصّله تفصيلاً دقيقاً الى طبقات وفروع علوية وسفلية. ثم نظّم كل طائفة من المخلوقات وكل طبقة منها بدساتير العناية والإحسان. ثم زيّن كل شئٍ وكل عالم، بما يليق به من جمال - فزيّن السماء مثلاً بالنجوم وجمّل الأرض بالأزاهير ـ ثم نوّر ميادين تلك القوانين الكلية وآفاق تلك الدساتير العامة بتجليات أسمائه الحسنى، ثم أمدّ الذين يستغيثون به مما يلاقونه من مضايقات تلك القوانين الكلية فتَوجَّه اليهم باسم (الرحمن الرحيم)، أي أنه وضع في ثنايا قوانينه الكلية ودساتيره العامة من الاحسانات الخاصة والاغاثات الخاصة والتجليات الخاصة ما يمكّن كل شئ أن يتوجَّه اليه سبحانه في كل حين ويسأله كل ما يحتاجه. وفَتَح من كل منزل، ومن كل طبقة، ومن كل عالم، ومن كل طائفة، ومن كل فرد، ومن كل شئ نوافذ تتطلع اليه وتظهره، أي تُبين وجوده الحق ووحدانيته، فأودع في كل قلب هاتفاً يتصل به.

وبعد؛

فسوف لا نقحم أنفسنا فيما لا طاقة لنا به من بحث هذه النوافذ التي لا تعد ولا تحصى، بل نحيلها الى علم الله المحيط بكل شئ، الاّ ما نشير من اشارات مجملة فقط الى ثلاث وثلاثين نافذة منها، تألّقت من لمعات آيات القرآن الكريم فاصبحت (الكلمة الثالثة والثلاثين) أو (المكتوب الثالث والثلاثين) وقد حصرناها في ثلاثٍ وثلاثين نافذة تبركاً بالأذكار التي تأتي عقب الصلوات الخمس. وندع ايضاحاتها المفصّلة الى الرسائل الاخرى.



النافذة الاولى

نشاهد في الموجودات جميعها ولا سيما الأحياء منها إفتقاراً الى حاجات مختلفة ومطاليب متنوعة لا تحصى.. وان تلك الحاجات تُساقُ اليها من حيث لا تحتسب، وتلك المطاليب تترى عليها كُلٌ في وقته المناسب.. علماً بأنَّ أيدي ذوي الحاجة تقصر عن بلوغ أدنى حاجاتها فضلاً عن أوسع غاياتها ومقاصدها.. فإن شئتَ فتأمل في نفسك تجدها مغلولة الأيدي إزاء كثير مما يلزم حواسك الظاهرة، أو يشبع رغباتك الباطنة.. فقس على نفسك نفوس جميع الأحياء، وتأمل فيها تجد أن كل كائن منها يشهد بفَقره وحاجاته المقضيّة من غير حول منه ولا قوة على الواجب الوجود، ويشير بهما الى وحدانيته سبحانه وتعالى، كما يدل عليه بمجموعه كدلالة ضوء الشمس على الشمس نفسها ويبين للعقل المنصف أنه سبحانه في منتهى الكرم والرحمة والربوبية والتدبير.

فما أبغض جهلك.. وألعنَ غفلتك.. أيها الجاهل الغافل المكابر.. كيف تفسر هذه الفعالية الحكيمة والبصيرة والرحيمة؟!

أبالطبيعة الصماء؟ أم بالقوة العمياء؟ أم بالمصادفة العشواء؟ أم بالأسباب الجامدة العاجزة؟

النافذة الثانية

بينما تتردد الأشياء بين الوجود والتشخص وتحار بين طرق الإمكانات والاحتمالات غير المتناهية، اذا بها تُمنح صورة مميزة لها، غايةً في الإنتظام والحكمة..

تأمل في العلامات الفارقة الموجودة في وجه كُلِّ إنسان، تلك العلامات التي تميّزه عن كل واحد من أبناء جنسه، وأمعن النظر فيما أودع فيه بحكمة بديعة من حَوَاسَّ ظاهرةٍ ومشاعر باطنة.. ألا يثبت ذلك أن هذا الوجه الصغير آية ساطعة للأحدية؟

فكما أن كل وجه يدل - بمئات الدلائل - على وجود صانعٍ حكيم، ويشهد على وحدانيته، فمجموع الأوجه ايضاً، وفي الأحياء كافة تبيّن للبصيرة النافذة أنها آية كبرى جليلة للخالق الواحد الأحد.

فيا أيها المنكر.. أتقدر أن تحيل هذه العلامات والاختام التي لا تقلد، أو أن تسند الآية الكبرى للاحد الصمد الساطعة في مجموعها.. الى غير بارئها المصور؟

النافذة الثالثة

إنَّ أنواع النبات، وطوائف الحيوان، المنتشرة على الارض هي أكثر من اربعمائة ألف نوع وطائفة(1)، وكأنها جيش هائل عظيم، فنرى ان كل نوع من هذا الجيش له رزقه المختلف عن الآخر وصورته المتباينة، وأسلحته المتنوعة وملابسه المتميزة، وتدريبه الخاص وتسريحه المتفاوت من الخدمة.. وتجري هذه كلها في نظام متقن، ووفق تقدير دقيق.

فإدارة هذا الجيش العظيم، وتربية افراده، دونما نسيان لأحد ولا التباس، لهي آية ساطعة كالشمس للواحد الأحد.

فمن ذا يستطيع أنْ يمدَّ يد المداخلة في هذه الادارة المعجزة من دون مالكها القدير الذي لا حدّ لقدرته، ولا حدود لعلمه، ولا نهاية لحكمته! ذلك لأن الذي يعجز عن إدارة وتربية هذ الأنواع المتداخلة ببعضها والأمم المكتنفة بعضها في بعض، دفعةً واحدة وفي آن واحد، يعجز كلياً عن مباشرة خلق واحد منها، اذ لو حصلت مداخلته في أي منها لظَهَر أثرُه، وبان النقصُ والقصور] فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُور[ (الملك:3).

فلا فطور ولا نقص، اذن فلا شريك.

النافذة الرابعة

هي أستجابة الخالق لجميع الأدعية المنطلقة بلسان استعدادات البذور، وبلسان احتياجات الحيوانات، وبلسان اضطرار المستغيثين من بني الانسان..

نعم، انَّ الاستجابة لجميع هذه الادعية غير المحدودة استجابة فعليةً، باديةٌ أمامنا، نشاهدها رأي العين.

فكما يشير كُلّ منها الى (الواجب الوجود) والى الوحدانية، فان مجموع تلك الاستجابات تدل بالبداهة - وبمقياس أوسع وأعظم على خالق رحيم كريم مجيب، وتوجِّه الأنظار اليه سبحانه.

النافذة الخامسة

اذا أمعنا النظر في الأشياء، ولا سيما الأحياء، نشاهدها وكأنها قد خرجت من يد الخلق لتوها، وبرزت الى الوجود بروزاً فجائياً... فبينما ينبغي ان تكون الاشياء المركبة آنياً وعلى عجل بسيطةَ التركيب ومشوهة الشكل، ومن دون إتقان، نراها تُخلَقُ في أتقن صنعة وأبدعها؛ هذا الإتقان والإبداع الذي يتطلب مهارة فائقةً..

ونراها في أروع نقش وأدق صورة؛ هذه الروعة والدقة التي تحتاج الى صبر عظيم وزمن مديد..

ونراها في زينة فاخرة وجمال أخاذ؛ هذه الزينة وهذا الجمال اللذان يستدعيان آلات تجميل متنوعة، ووسائل زينة كثيرة...

فهذا الإتقان المعجِز، والصورة البديعة، والهيأة المنسقة، والابداع الآني، كلٌ منه يشهد على وجود الصانع الحكيم، ويشير الى وحدانية ربوبيته. كما أن مجموعه يبيّن بوضوح (الواجب الوجود) القدير الحكيم، ويبين وحدانيته سبحانه.

فيا أيها الغافل عن ربه، الحائر في أمر الموجودات..هيَّا.. بماذا توضح هذا الأمر وتفسره؟ أفتفسره بالطبيعة العاجزة البليدة الجاهلة؟ أم تريد أن تقترف بجهلك خطأ لا حدود له، فتقلد الطبيعة صفات الألوهية، وتنسب اليها بهذه الحجة معجزات قدرة ذلك الصانع الجليل المنزّه عن كل نقص وعيب، فترتكب ألف محال ومحال.

النافذة السادسة

] اِنّ في خَلْقِ السَّمواتِ والاْرضِ وَاخْتِلافِ الَّيْل وَالنَّهارِ وَالفُلْكِ الّتى تَجْرى في البَحرِ بمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمآ اَنَزَلَ الله مِنَ السَّمآءِ مِنْ مآءٍ فَاحيا بِهِ الارضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فيها من كُلِّ دَآبةٍ وَتَصْريفِ الرِّياحِ وَالسّحَابِ الـمُسخَّرِ بَيْنَ السَمَآءِ والارضِ لاياتٍ لِقَوْمٍ يَعقِلوُنَ[ (البقرة: 164).

هذه الآية الكريمة كما أنها تبين وجود الله سبحانه وتعالى وتدل على وحدانيته، فهي في الحقيقة نافذة عظيمة جداً تطل على الاسم الأعظم من الأسماء الحسنى. وزبدة خلاصتها:

ان جميع عوالم الكون علوّيها وسفليّها، تدل بألسنة مختلفة على نتيجة واحدة، أي على ربوبية صانعٍ حكيمٍ واحد، وكما يأتي:

ان جريان الأجرام في (السماوات) بمنتهى النظام لبلوغ غايات جليلة، ونتائج سامية - بتقرير علم الفلك نفسه - إنما يدل على وجود الهٍ قدير ذي جلال ويشهد على وحدانيته وربوبيته الكاملة.

كما ان التحولات المنتظمة في (الأرض) والمشاهَدة في المواسم لحصول منافع عظيمة ومصالح شتى - بتقرير الجغرافية - إنما تدل دلالة واضحة على ذلكم القدير ذي الجلال، وتشهد على وحدانيته وربوبيته الكاملة.

ثم ان جميع (الحيوانات) التي تملأ البر والبحر والتي يُرْسَلُ رزقُ كُلٍّ منها برحمة واسعة، وتُكسى بأثواب متنوعة، بحكمة تامة، وتجهّز بحواس مختلفة،بربوبية كاملة.. يشير كل منها الى ذلك القدير ذي الجلال، ويشهد على وحدانيته، كما أن مجموعها ككل يدل معاً وبمقياس واسع جداً على عظمة الألوهية وكمال الربوبية.

وكذا الحال في (النباتات) الموزونة المنتظمة التي تفرش الأرض والبساتين والزروع، كل منها يدل على ذلك الصانع الحكيم، ويشير الى وحدانيته بما تحمل من أزاهير جميلة، وما تنتج هذه الازاهير من ثمار موزونة، وما على هذه الثمار من نقوش رائعة، فكما ان كلاً منها على حدة يدل عل الصانع فإن مجموعَها يظهر جمال رحمته سبحانه، وكمال ربوبيته.

ثم ان (القطرات) المسخرة لحِكَمٍ غزيرة، ولغايات سامية، ومنافعَ جليلة، وفوائد جمّةً، والتي تُرسل من السحب الثقال المعلقة بين السماء والأرض، تدل بعدد القطرات على ذلك الصانع الحكيم، وتشهد على وحدانيته وكمال ربوبيته.

كما أن (الجبال) الراسيات، وما في أجوافها من معادن، وما لكلٍ منها من خواص، وما أدّخر فيها من غايات شتى، والمعدّة لمصالح عدة، كل منها على حدة وبمجموعها معاً، تدل دلالة أقوى من الشمّ الرواسي على ذلك الصانع الحكيم وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته.

ثم ان أنواع (الازاهير) الجميلة اللطيفة المنثورة عل التلال والروابي والصحارى، وقد أضفى عليها البهاء والجمال، كُلُّ منها يدل على ذلك الصانع الحكيم ويشهد على وحدانيته، مثلما أن مجموعها العام يدل على عظيم سلطانه وكمال ربوبيته.

ثم ان أنواع (الاوراق) وأشكالها المنسقة، واهتزازاتها اللطيفة الجذابة في النباتات والاشجار والأعشاب كافة تشهد بعدد الأوراق على ذلك الصانع الحكيم، وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته.

ثم ان (نمو الاجسام) بخطوات هادفة مطردة، وتجهيز كل منها بأنواع من الاجهزة المتوجهة معاً الى تكوين الثمار، وكأنه توجُّهٌ شعوري، يجعل كل جسم نامٍ بأجزائه ومجموعه، يشهد لذلك الصانع الحكيم ويشير الى وحدانيته، ويدل دلالة أعظم على قدرته المحيطة، وحكمته الشاملة، وصنعته الجميلة، وربوبيته الكاملة.

ثم ان إيداع (النفس) في الجسد، وتمكين (الروح) من كل كائن حيواني بحكمة تامة، وتسليحه بأسلحة متنوعة، وتزويده بأعتدة مختلفة بنظام كامل، وتوجيهه الى مهمات جليلة، واستخدامه في وظائف متنوعة بحكمة تامة، يشير إشارات بعدد الحيوانات بل بعدد أجهزتها وأعضائها الى وجود ذلك الصانع الحكيم، ويشهد على وحدانيته، مثلما أن مجموعها الكلي يدل دلالة ساطعة على جمال رحمته وكمال ربوبيته.

ثم أن جميع (الإلهامات) الغيبية التي ترشد قلوب الناس وتُفقِّهها بالعلوم والحقائق، وتُعلّم الحيوان الاهتداء الى توفير ما يحتاجه من حاجات... هذه الإلهامات الغيبية بأنواعها المختلفة تُشعِرُ كُلَّ ذي بصيرة بوجود رب رحيم وتشير الى ربوبيته.

ثم ان جميع (المشاعر) المتنوعة والحواس المختلفة - الظاهرة منها والباطنة - والتي تجني الازاهير المعنوية من بستان الكون، وكون كل حاسة منها مفتاحاً لعالم من العوالم المختلفة في الكون الواسع، تدل كالشمس على وجود صانع حكيم عليم، وخالق رحيم، ورزاق كريم، وتشهد على واحديته وأحديته وكمال ربوبيته.

فهذه النوافذ الأثنتا عشرة، كلٌ منها تمثل وجهاً لنافذة واسعة، فتدل بأثني عشر لوناً من ألوان الحقيقة على أحدية الله سبحانه، ووحدانيته وكمال ربوبيته.

فيا أيها المكذّب الشقي!.. كيف تستطيع أن تسدَّ هذه النافذة الواسعة سَعَةَ الأرض.. بل الواسعة سعة مدارها السنوي.؟! وبأي شئ يمكنك ان تطفئ منبع هذا النور الساطع كالشمس؟. وبأي ستار من ستائر الغفلة يمكنك أن تخفيه..؟!

النافذة السابعة

ان ما يبدو عياناً في جميع المصنوعات المبثوثة على صفحات الكون من مظاهر النظام والموازنة التامة، وما تتشكل فيه من صور الزينة والجمال، وما يشاهد من سهولة متناهية في انبعاثها الى الوجود وتملكها للحياة، وما هي عليه من تشابه بعضها للبعض الآخر في المظاهر أو الماهيات فضلاً عن استجاباتها الفطرية الواحدة للأحداث الكونية.. كل من هذه المظاهر والخصائص دليل واسع سعة الكون على الخالق القدير، وشهادة صادقة قاطعة على وحدانيته سبحانه وقدرته المطلقة.

وكذا ان (ايجاد مركبات) منتظمة لا تعد ولا تحصى من عناصر جامدة بسيطة التركيب، يشهد شهادة قاطعة بعدد المركبات على ذلك الخالق القدير الواجب الوجود سبحانه، ويشير إشارة صريحة الى وحدانيتة، فضلاً عن أن مجموعها العام يبين بياناً باهراً كمال قدرته ووحدانيته.

وكذا ان ما يشاهد من (تمايز) واضح و (افتراق) كامل أثناء تجدد الموجودات - بالتحليل والتركيب - رغم كونها في منتهى الإختلاط والامتزاج يدل دلالة واضحة على ذلك الحكيم المطلق الحكمة، والعليم المطلق العلم، والقدير المطلق القدرة، ويشير الى وجوب وجوده سبحانه وكمال قدرته.

فخذ مثلاً: تسنبل الحبوب المدفونة في جوف الأرض، ونمو أصول الأشجار الى نباتات مختلفة وأشجار متباينة، رغم الاختلاط والتشابك، وكذلك تميُّز المواد المختلفة الداخلة في النباتات والاشجار المتنوعة الى اوراق زاهية وألوان جميلة، وثمار لطيفة رغم الامتزاج الشديد. بل حتى تمايز وتجزءُ المواد الغذائية الدقيقة الداخلة في حجيرات الجسم بحكمة كاملة وبميزان دقيق رغم الامتزاج والاختلاط.

وكذا ان تسخير (ذرات) جامدة عاجزة جاهلة للقيام بمهام في غاية الانتظام والشعور والقدرة والحكمة، وجعل (عالم الذرات) ما يشبه مزرعة عظيمة هائلة تزرع فيها كل حين عوالم، وتحصد اخرى بحكمة تامة.. كلها دلائل واضحة على وجوب وجود ذلكم القدير ذي الجلال، وذلكم الخالق ذي الكمال، وتشهد شهادة قوية على كمال قدرته، وعظيم ربوبيته، وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته.

وهكذا تؤدي بنا هذه الطرق الأربع الواسعة الى نافذة عظيمة جداً تنفتح على المعرفة الإلهية، حيث يطل منها نظر العقل الحاد على وجود الخالق الحكيم.

فيا أيها الغافل الشقي بغفلته! إن لم تُرِد بعد هذا كله رؤيته ومعرفته عدّ نفسك من الانعام!

النافذة الثامنة

ان جميع الأنبياء عليهم السلام الذين هم أصحاب الارواح النيّرة في النوع الإنساني مستندين الى معجزاتهم الظاهرة الباهرة، وجميع الأولياء الذين يمثلون أقطاب القلوب المنورة معتمدين على كشفياتهم وكراماتهم، وجميع الأصفياء العلماء الذين يمثلون أرباب العقول النورانية مستندين الى تحقيقاتهم العلمية.. يشهدون جميعاً على وجوب وجود الواحد الأحد الخالق لكل شئ، ويدلون على كمال ربوبيته ووحدانيته.

هذه النافذة واسعة جداً ومنورة مضيئة ساطعة، وهي مفتوحة أبداً لإظهار ذلك المقام الرفيع للربوبية.

فيا أيها المنكر الحيران!.. بِمَ تَعْتَدّ وتفتخر، حتى لا تلقي لهذه الحقائق سمعاً؟! لعلّك تظن أنك بإطباق جفنيك تستطيع أن تجعل نهار الدنيا ليلاً.. ألا هيهات..!

النافذة التاسعة

ان (العبادات) التي تؤديها الكائنات بأسرها تدل بالبداهة على معبود مطلق..

نعم!.. ان العبودية الخالصة التي يؤديها الملائكة والروحانيات عموماً، والثابتة بشهادة الذين عَبَروا الى عالم الارواح من البشر، واستبطنوا بواطن الوجود. والتقوا هناك الملائكة والروحانيات، وشاهدوهم في عباداتهم وتسابيحهم..

وقيام جميع ذوي الحياة - مهما كانوا - بمهامهم التي خلقوا لها على أتم نظام، وامتثالهم للأوامر الإلهية امتثال عبد مأمور..

وأداء جميع الجمادات خدماتها المتسمة بعبودية كاملة على أتم طاعة..

ان جميع هذه العبادات المشاهدة تشير الى المعبود الحق الواجب الوجود والى وحدانيته.

وان جميع (المعارف) الحقة التي يحملها جميع العارفين نتيجة اخلاصهم في عبوديتهم للّه.. والشكر المثمر النابع من صميم قلوب الشاكرين.. والاذكار المنورة التي ترطب ألسنة الذاكرين.. والحمد المزيد للنعمة الذي يلهج به الحامدون.. والتوحيد الحقيقي المصدَّق بآيات جميع الموجودات الذي يبثه الموحدون.. والحب الإلهي وعشقه الصادق الذي يشيعه المحبون والواجدون.. ورغبات المريدين الخالصة في الله، وحزم ارادتهم في السير اليه.. والإنابة الصادقة، والتوسل الحزين لدى المنيبين..

كل هذه الظواهر المنبعثة من جميع هؤلاء الذين يحمل كل منهم قوة التواتر والاجماع، تدل دلالة قوية على وجوب وجود ذلكم المعبود الأزلي؛ المعروف، المذكور، المشكور، المحمود، الواحد، المحبوب، المرغوب، المقصود، وتدل على كمال ربوبيته ووحدانيته.

ثم إنّ جميع العبادات المقبولة التي يتعبد بها الكاملون من الناس، وما ينبعث من تلك العبادات المُرضية من فيوضات ومناجاة ومشاهدات وكشفيات، جميعها تدل دلالة قوية جداً على ذلك الموجود الباقي، وذلك المعبود الأبدي وعلى أحديته وكمال ربوبيته.

فهذه النافذة المضيئة والواسعة جداً، تنفتح من ثلاث جهات انفتاحاً على الوحدانية.

النافذة العاشرة

] وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَاَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ في الْبَحْرِ بِاَمْرِهِ وَسَخَّر لَكُمُ الاَنْهَارَ^ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دآئِبَيْنِ وَسَخّرَ لَكُمُ الّيلَ والنَّهارَ^ وَآتيكمُ مِنْ كُلِّ مَا سَألتُمُوهُ وَاِنْ تَعدّوا نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا[ (ابراهيم: 32ـ 34).

إن معاونة الموجودات بعضها للبعض الآخر وتجاوبها فيما بينها، وتساندها في الوظائف والواجبات.. يدل على أن كل المخلوقات تحت تربية ورعاية مُربٍّ واحد أحد. وأن الكل تحت أمر مدبر واحد أحد.. وان الكل تحت تصرف واحد أحد.. ذلك لأن (دستور التعاون) بين الموجودات، يجري ابتداءً من الشمس، التي تهئ بأمر الله لوازم الحياة للأحياء، ومن القمر الذي يعلمنا المواقيـت، وانتهاءً الى امداد الضوء والهواء والماء والغذاء لذوي الحياة، وامداد النباتات للحيوانات، وامـداد الحيوانات للانسان، بل حتى امداد كل عضو من اعـضاء الجسم للآخر، وامداد ذرات الغذاء لحجيرات الجسم.. فخضوع هذه الموجودات الجامدة الفاقدة للشعور وانقيادها لدستور التعاون وارتباطها معاً ارتباط تفاهم وتجاوب في منتهى الحكمة، وفي منتهى الايثار والكرم، وجعل كل منها يسـعى لاغاثة الآخر وإمداده بلوازم حياته، ويهرع لقضاء حاجياته واسعافه، تحت ظل قانون الكرم وناموس الرأفة، ودستور الرحمة.. كل ذلك يدل بداهة على أن جميعها مخلوقات مأمورات ومسخرات عاملات للواحد الأحد، الفرد الصمد، القدير المطلق القدرة، والعليم المطلق العلم، والكريم المطلق الكرم.

فيا أيها المتفلسف المفلس! ما تقول في هذه النافذة العظيمة؟ أيمكن للمصادفة التي تعتقد بها أن تتدخل في هذه الأمور..؟

النافذة الحادية عشرة

] اَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُ الْقُلُوبُ[ (الرعد: 28).

انه لا خلاص للقلوب والارواح من قبضة القلق الرهيب، ومن دوامات الإضطراب والخوف، ومن ظمأ الضلالة وحرقة نار البعد عن الله الاّ بمعرفة خالق واحد أحد.. اذ ما ان يُسلَّم أمر القلوب والارواح، وأمر كل الموجودات الى خالق واحد احد حتى تجد راحتها، وتحظى بخلاصها من عناء تلك الزلازل النفسية المدمّرة وتسكن من ذلك القلق وتستقر وتطمئن..

لأنه ان لم يُسنَد أمر الموجودات كافة الى واحد أحد، فسَيُحالُ خلق كل شئ اذن الى ما لا يُحدُّ من الأسباب.. وعندها يكون ايجاد شئ واحدٍ مشكلاً وعويصاً كخلق الموجودات كلها، ولقد أثبتنا في الكلمة الثانية والعشرين انه:

إن فُوِّض أمرُ الخلق الى الله، فقد فوّض اذن ما لا يحدُّ من الاشياء الى الواحد الأحد، والاّ فسيكون أمر كل شئ بيد ما لا يحدُّ من الاسباب، وفي هذه الحالة يكون خلق ثمرة واحدة مثلاً فيه من المشكلات والصعوبات بقدر الكون كله، بل أكثر. ولنوضح ذلك بمثال:

فكما ان تفويض ادارة جندي واحد الى أمراء عديدين فيه مشاكل عديدة جداً، بينما تفويض ادارة مائة جندي الى ضابط واحد فيه سهولة بالغة كأدارة جندي واحد، كذلك اتفاق ما لا يحد من الأسباب في ايجاد شئ واحد فيه مئات الاضعاف من الاشكالات. بينما في ايجاد الواحد الأحد للأشياء العديدة، فيه مئات الأضعاف من السهولة.

وهكذا فما يستشعره الانسان من لهفة الى الحقيقة وتَوقٍ اليها، يجعله دائم القلق والإضطراب ما لم يبلغها. فلا يجد الاطمئنان والسكون الاّ بتوحيد الخالق ومعرفة الله سبحانه ذلك لأن سلوك سبيل الكفر الذي فيه ما لا يحد من الاضطرابات والمشاكل محال، ولا حقيقة له اصلاً. بينما التوحيد فيه من السهولة المطلقة في خلق الموجودات بهذه الكثرة والابداع بحيث لا يدع للانسان مجالاً الاّ سلوكه، ولا غرو لأنه أصيل وحقيقي.

فيا مَن يتبع الضلالة.. ويا أيها الشقي المسكين!.. تأمل طريق الضلالة ما أظلمه وما أشده ايلاماً لوجدان الانسان، فلا تحاول قط ان تقحمه.. ثم تأمل في طريق التوحيد فما أصفاه وما أبسمه فاسلكه وانجُ بنفسك!

النافذة الثانية عشرة

] سَبِّحْ اِسْمَ رَبِّكَ الاَعلى^ اَلذَّى خَلَقَ فَسَوّى^ وَالّذىِ قَدَّرَ فَهَدى[ (الأعلى:1-3) .

هذه الآيات الكريمة ترشدنا الى أن جميع الأشياء ولا سيما الأحياء تظهر الى الوجود وكأنها خرجت من قالب مصمَّم تصميماً حكيماً يَهَبُ لكلّ شئٍ مقداراً منتظماً وصورةً بديعة يشفّان عن حكمة واضحة. فنرى في الجسم خطوطاً متعرجة، وانحناءات وانعطافات تنشأ عنها فوائد شتى للجسم، ومنافع عديدة تسهل له أمر أداء وظيفته التي خلق من أجلها على أتم وجه.

فالموجود له صورة معنوية في علم الله تمثل مقدراته الحياتية، وهي تلازم الصورة المادية وتنتقل معها في مراحل نموها، ثم تتبدل تلك الصورة والمقادير في مسيرة حياته تبدلاً يلائم الحكمة في خلقه وينسجم كلياً مع المصالح المركبة عليه، مما يدل بالبداهة على ان صور تلك الاجسام ومقاديرها تُفصَّل وتُقدَّر تقديراً معيناً في دائرة القدر الإلهي، الجليل الحكيم ذي الكمال، وتُنظَّم تلك الصور وتُنسَّق بيد القدرة الإلهية وتمنحها الوجود المعيّن المقدّر.

فتلك الموجودات غير المحدودة تدل على الواجب الوجود، وتشهد بألسنةٍ لا تحد على وحدانيته وكمال قدرته.

تأمّل فيما يحويه جسمك واعضاؤك أيها الانسان من حدود متعرجة والتواءات دقيقة.. وتأمل في فوائدها ونتائج خدماتها وشاهد كمال القدرة في كمال الحكمة.

النافذة الثالثة عشرة

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه[

ان كل شئ يذكر خالقه ويسبّحه بلسانه الخاص، كما هو المفهوم من هذه الآية الكريمة.

نعم، ان التسبيحات المرفوعة من قبل الموجودات سواء بلسان الحال أو المقال، تدل دلالة واضحة على وجود ذات مقدسة لواحد أحد..

نعم، ان دلالة الفطرة صادقة، وشهادتها لا ترّد. ولا سيما اذا كانت الشهادة صادرة عن دلالة الحال، وبخاصة اذا توافرت الدلالات من جهات عدة، فهي شهادة صادقة لا تقبل الشك قطعاً.

فتأمل الآن في صور الموجودات المتناسقة، تَرَها قد اتفقت كما تتفق الدوائر المتداخلة في توجهها نحو نقطة المركز؛ لذا فهي تنطوي على دلالات بلسان الحال وبأنماط لا حدَّ لها وعلى شهادات الفطرة بانواع لا حدّ لها، اذ كل صورة منها لسان شاهد بحد ذاته. وهيئتها المتناسقة هي الأخرى لسان شاهد صادق، بل حياة الموجود كلها لسان ذاكر بالتسبيح.

ولقد اثبتنا في الكلمة الرابعة والعشرين؛ ان جميع هذه التسبيحات البادية للمتأمل، والمنبعثة بألسنة الحال أو المقال من جميع الموجودات وتحياتها وشهاداتها الدالة على ذات مقدسة مباينة، تُظهر بوضوح ذلك الواحد الأحد الواجب الوجود، وتدل على كمال ألوهيته سبحانه.

النافذة الرابعة عشرة

] قُلْ مَنْ بيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ[ (المؤمنون:88)

] وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلاَ عِنْدَنَا خَزَآئِنُهُ[ (الحجر:21)

] مَا مِنْ دَآبَّةٍ اِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِها[ (هود:56)

] ان ربي على كل شيء حَفيظ[ (هود:57)

يفهم من هذه الآيات الكريمة أن كل شئ، في كل شأنٍ من شؤونه، مفتقرٌ الى الخالق الواحد الأحد ذي الجلال. فإلقاء نظرة فاحصة على ما هو منبسط بين أيدينا من موجودات الكون، نشاهد مظاهرَ قوةٍ مطلقة تنضح من خلال ضعفٍ مطلقٍ مشاهَدٍ..

ونشاهد آثارَ قدرة مطلقة تَبين من بين ثنايا عجز مطلقٍ ملموس. كالحالات الخارقة التي تظهرها بذور النباتات وأصولها أثناء نموها وانتباه العقد الحياتية فيها.

ونرى ايضاً مظاهر غنى مطلق تتظاهر ضمن فقر مطلق وجدب تامّ. كما في الثروة الطافحة، وأوضاع الخصب الغامر للأرض والنباتات في الربيع بعد أن كانت في يبوسة وجدب في الشتاء.

ونرى ترشحات حياة مطلقة في بواطن جمود مطلق، وخمود تام، كما هو في انقلاب العناصر الجامدة - كالتراب والماء - الى مواد تنبض بالحياة في الكائنات الحية.

ونرى مظاهر شعور كامل طَي جهل مطبق، كما هو في حركات كل شئ وجريانه - ابتداءً من الذرات الى المجرات - تلك الحركات المتسمة بالشعور الكامل والانسجام التام مع نظام الكون كله، والملائمة ملائمة تامة مع مقتضيات الحياة ومطاليب الحكمة المقصودة من الوجود.

فالقدرة الكامنة في الضعف والعجز..

والقوة التي تتراءى ضمن معدن الضعف..

والثروة والغنى الموجودان في ذات الفقر..

وأنوار الحياة والشعور المحيط المشعَّان من خلال الجمود والجهل..

فكل مظهر من هذه المظاهر يفتح من جانبه نوافذ تظهر بالبداهة والضرورة وجوب وجود ووحدانية ذات مقدسة لقدير مطلق القدرة. وغني مطلق الغنى، لقوي مطلق القوة وعليم مطلق العلم. وحي قيوم...

فضلاً عن أن مجموعها يشهد على وحدته، ويبين الصراط السوي بياناً واضحاً وبمقياس أعظم.

فيا أيها الغافل المتردي في مستنقع الطبيعة!

إن لم تعرف عظمة القدرة الربانية، ولم تنبذ مفوم خلاقية الطبيعة، فما عليك الاّ ان تسند الى كل شئ في الوجود، بل حتى الى ذرة، قوة هائلة لا حدود لها، وقدرة عظيمة لا منتهى لها، وحكمة بالغة لا حد لحدودها، ومهارة فائقة بلا نهاية. بل عليك ان تسند الى كل شئ بصراً نافذاً الى كل شئ، وإدارة حازمة تحيط بكل شئ!!.

النافذة الخامسة عشرة

] اَلذَّي اَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ[ (السجدة:7)

إن كُلَّ شئ قد فصّل على قدِّ قامة ماهيته، تفصيلاً متقناً، ووُزنَ بميزان دقيق كامل الوزن عليها، ونُظم تنظيماً تاماً فيها، ونُسق تنسيقاً بارعاً، وصُنع بمهارة، واُلبس أجمل صورة، وألطف ثوب، وأبهى طراز، من أقرب طريق اليه، وأسهل شكل يُعينه على أداء مهمته، ووُهب له وجود ينضح حكمةً، لا عبث فيه ولا اسراف.

فخذ مثلاً، الطيور؛ لباسها الريش الناعم اللطيف. فهل يمكن أن تلبس ثوباً أنسب لها ولحكمة خلقها منه..

أيّ لطف وجمال حين تنظّفه! وأي يسر وسهولة حين تحركه وتستخدمه في شتى أمورها الحياتية والمعاشية!.

وهكذا، كل ما في الوجود شاهد ناطق - كهذا المثال - على الخالق الحكيم. وكل منه اشارة واضحة الى قدير عليم مطلق القدرة والعلم.

النافذة السادسة عشرة

ان ما يشاهد على سطح الأرض من انتظام واطراد في خلق المخلوقات، وتدبير أمورها، وتجديدها باستمرار في كل موسم، يدل بالبداهة على حكمة عامة تغمر الموجودات. هذه الحكمة العامة تدل بالضرورة على حكيم مطلق الحكمة، اذ لا صفة دون موصوف.

ثم إن أنواع الزينة البديعة التي تؤطر ستار الحكمة العامة الذي يتلفع الوجود به، تدل بالبداهة على عناية فائقة عامة، وهذه العناية تدل بالضرورة على خالق كريم.

ان أنواع اللطف والكرم، وألوان الرفق والإحسان المرسومة على ستار العناية الذي يغطي الوجود كله، تدل بالبداهة على رحمة واسعة، وهذه الرحمة الواسعة تدل بالضرورة على (الرحمن الرحيم).

ثم ان أنواع الرزق، وانماط الإعاشة، المزهرة على أغصــان الرحمـة التي تظلل بافنانها كُلَّ شئ، والمعدّة للأحياء المحتاجة الى الرزق، وإعاشتها إعاشة تلائمها تماماً، يدل بالبداهة على رزاقية ذات تربية ورعاية.. وربوبية ذات رأفة ورحمة..

وهذه التربية والإدارة تدلان بالضرورة على رزاّق كريم.

نعم، ما على الأرض من مخلوقات تُربّى بحكمة كاملة، وتُزيَّن بعناية كاملة، وتُسبغ عليها النعم برحمة كاملة، وتُمدُّ بوسائل عيشها برأفة كاملة، فكُلٌّ منها لسان ناطق ومشير الى الله الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزّاق.

وكُلٌ منها ايضاً يشير الى وحدانيته.

كما أنَّ ما على الأرض من حكمة ظاهرة يُستَشَف منها القصد والارادة..

وما عليها من عناية عامة التي تتضمن تلك الحكمة..

وما عليها من رحمة تسع الوجود والتي تتضمن العناية والحكمة..

وما عليها من رزق شامل عام للأحياء واعاشة كريمة لطيفة، والتي تتضمن الرحمة والعناية والحكمة...

فكل من هذه المظاهر وبمجموعها تدل دلالة عظيمة جداً على الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، وتدل على وجوب وجوده سبحانه وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته.اذ إن ما في الحكمة من عناية، وما في العناية من رحمة، وما في الرحمة من إعاشة وإرزاق دلالات قاطعة وبمقياس واسع جداً على الواجب الوجود بمثل دلالة الألوان السبعة على ضوء الشمس الذي يملأ النهار نوراً.

فيا أيها الغافل الحائر الجاحد!

كيف تفسر هذه التربية المكللة بالحكمة البالغة، والكرم الشامل، والرحمة الواسعة، والرزق الوفير، وبِمَ توضح هذه المظاهر المعجزة؟

أفيمكن تفسيرها بالمصادفة العشواء؟ أم يمكن توضيحها بالقوة الميتة موات قلبك؟ أم يمكن ذلك بالطبيعة الصمَّاء صمَم عقلك؟ أم بالأسباب العاجزة الجامدة الجاهلة مثلك؟ أم تريد ان ترتكب خطأً جسيماً - ما بعده خطأ - وهو اطلاقك صفات البارئ الجليل المنزّه المتعال والقدير العليم السميع البصير، على (الطبيعة) العاجزة الجاهلة الصمَّاء العمياء؟

فبأي قوة يمكنك أن تطفئ سراج هذه الحقيقة الساطعة سطوع الشمس؟ وتحت أي ستار من أستار الغفلة يمكنك أن تسترها؟

النافذة السابعة عشرة

] إنَّ في السّمواتِ والاَرْضِ لايَاتٍ لِلْمؤمِنينَ[ (الجاثية:3)

اذا تأملنا وجه الارض المبسوط أمامنا نَرى:

ان سخاءً مطلقاً يتجلى في إيجاد الأشياء. فبينما يقتضي السخاء ان تكون الأشياء في فوضى وعدم انتظام، اذا بنا نشاهدها في غاية الانسجام ومنتهى الانتظام. شاهدْ جميع النباتات التي تزيّن وجه الأرض تَرَ هذه الحقيقة.

ونرى أيضاً سرعة مطلقة تتبين في إيجاد الأشياء. فبينما تقتضي السرعة ان تكون الأشياء مشوهة الصورة، مختلة المادة، ومضطربة الميزان، وينقصها الإتقان، إذا بنا نشاهدها في غاية التقدير والضبط والسبك، ومنتهى الدقة والموازنة. لاحظ جميع الأثمار التي تجمل وجه الأرض حيث تبدو هذه الحقيقة فيها على احسن وجه.

ونرى ايضاً وفرةً وغزارةً مطلقة في ايجاد الأشياء، فبينما تقتضي الكثرة ان تكون الأشياء تافهة ومبتذلة وربما قبيحة، اذا بنا نشاهدها في اتقان رائع، وصنعة بديعة وجمال أخَّاذ. أنظر وتأمل في جميع الأزهار التي ترصّع وجه الأرض. ألا يبدو ذلك فيها تماماً!.

ونرى ايضاً سهولة مطلقة تبدو في إيجاد الأشياء. فبينما تقتضي السهولة ان تكون الأشياء بسيطة ومفتقرة الى الإتقان والمهارة. اذا بنا نشاهدها في كمال الإبداع وروعة المهارة. شاهد البذور وأمعن النظر في النوى، تلك العلب الدقيقة الحاملة في مادّة تركيبها فهارس أجهزة الشجر وخرائط أجسام النبات.

ونرى ايضاً بُعداً مطلقاً يفصُل بين أزمنة وأمكنة إيجاد الأشياء، فبينما تقتضي هذه الأبعاد المهولة أن تأتي الأشياء مختلفة ومتباينة، اذا بنا نشاهدها في اتفاق تام في الصفات والخواص. شاهد أنواع الحبوب المزروعة في أقطار الأرض كافة رغم البعد الزماني والمكاني الذي يفصل بينها.

ونرى ايضاً اختلاطاً مطلقاً، وتشابكاً متيناً في إيجاد الأشياء. فبينما يقتضي هذا الأختلاط تداخل المواد بعضها في البعض الآخر وتشابكها، اذا بنا نشاهدها في تمايز كامل، وتخصص منتظم. شاهد البذور المنثورة المدفونة تحت التراب، وأمعن النظر في تمايزها أثناء نموها وتسنبلها، رغم تشابه تراكيبها. وتأمل في المواد المختلفة الداخلة في بنية الأشجار، وتحوّلها الى مختلف الأشكال من الأوراق الرقيقة، والأزهار الزاهية، والثمار اللطيفة. وتأمل في انواع الطعام والأغذية المختلفة الداخلة في المعدة، وتمايز بعضها عن البعض، ودخول كل منها الى العضو الذي يناسبها بل الى الحجيرة التي تلائمها بتمايز واضح.. شاهد آثار القدرة المطلقة، من خلال الحكمة المطلقة.

ونرى ايضاً وفرة متناهية في الأشياء، وكثرة كاثرة من أنواعها وأشكالها. فبينما تقتضي هذه الوفرة أن تكون الأشياء رخيصة بسيطة، اذا بنا نشاهدها في غاية النفاسة ومنتهى الجودة. شاهد الأثار البديعة المعدَّة لمائدة الأرض، وأمعن النظر في ثمرة واحدة، ولتكن ثمرة التوت مثلاً. ألا تمثل هذه الثمرة نموذجاً رائعاً لحلوى مصنوعة بيد القدرة الإلهية؟ شاهد كمال الرحمة، من ثنايا كمال الأبداع.

وهكذا نشاهد على وجه الأرض جميعه؛ جودة ونفاسة في المصنوعات رغم وفرتها غير المتناهية.. ونرى ضمن هذه الوفرة تميزاً للموجودات رغم اختلاطها وتشابكها.. ونجد في هذا الإختلاط والتشابك اتفاقاً وتشابهاً في الموجودات رغم البعد فيما بينها.. ونبصر من ثنايا هذا التوافق جمالاً رائعاً في الموجودات ورعاية بالغة بها رغم السهولة المتناهية في ايجادها. ونلمح ضمن هذه الرعاية التامة تقديراً دقيقاً بلا اسراف وموازنة حسَّاسة رغم السرعة في ايجادها.. ونلاحظ ضمن هذا التقدير والموازنة وعدم الإسراف ابداعاً في الصنعة وروعة فيها رغم كثرتها المتناهية. ونشاهد ضمن هذه الروعة في الصنعة انتظاماً بديعاً رغم السخاء المطلق في إيجادها..

فإذا تأملنا في هذه الامور كلها، نراها تدل دلالة واضحة أوضح من دلالة النهار على الضياء، واسطع من دلالة الضياء على الشمس؛ على وجوب وجود قدير ذي جلال، وحكيم ذي كمال، ورحيم ذي جمال، وتشهد على وحدانيته، وأحديته وكمال قدرته وجمال ربوبيته، وتبين بجلاء سراً من اسرار الآية الكريمة: ] لَهُ الاَسْمَآءُ الْحُسْنى[ .

وبعد؛ فيا أيها الغافل العنيد، ويا أيها الجاهل المسكين!

بماذا تفسر هذه الحقيقة العظمى التي تراها رأي العين؟ وبماذا توضح هذه الأوضاع الخارقة المعروضة أمامك؟ والى مَن تسند أمر هذه المصنوعات البديعة العجيبة؟ وبأي ستار من ستائر الغفلة يمكنك أن تستر هذه النافذة الواسعة سعة الأرض نفسها؟

أين المصادفة التي تعتقد بها والطبيعة التي تعتمد عليها وهي بلا شعور؟ بل أين أوهام الضلالة التي تستند اليها، وتلازمها وترافقها وتصادقها؟! أين جميعها أمام هذه الحقائق المحيرة والأحوال البديعة المذهلة؟

أليس محالاً في مائة محال أن تدخل المصادفة في أمثال هذه الأمور؟ أوَليس محالاً في ألف محال أن يسند واحد من هذه الأمور الى الطبيعة ناهيك عن جميعها؟!

أم انك تعتقد في الطبيعة الجامدة العاجزة امكان امتلاكها لمكائن معنوية في كل شئ؟ وبعدد الأشياء كلها؟ فيا للضلالة!

النافذة الثامنة عشرة

] اَوَلَم يَنْظُروُا في مَلكُوتِ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ[ (الاعراف: 185)

تأمل في هذا المثال الذي سبق وأن ذكرناه في الكلمة الثانية والعشرين:

إنَّ أثراً رائعاً كالقصر الفخم، كامل الاجزاء، منتظم الاركان، متقن البناء، يدل بالبداهة على فعلٍ مُتقَنٍ.أي أن البِنَاءَ يدُلُّ على صنعة البنَّاء وفِعله. والفعل الكامل المتقن يدل بالضرورة على فاعلٍ حاذقٍ، ومعماري ماهر. وهذه العناوين؛ فاعل حاذق معماري ماهر بَنَّاء مُتْقِنٌ، تدل بالبداهة على صفات كاملة لا نقص فيها يتصف بها ذلك الفاعل، أي تدل، على مَلَكة الإبداع عنده. وان الصفات الكاملة ومَلَكة الابداع الكاملة، تدل بالبداهة على وجود استعداد كامل وقابلية تامة، والاستعداد الكامل هذا يدل على ذات رفيعة، وروح عالية.

(ولله المثل الأعلى) فهذه الآثار المتجددة البادية للعيان والتي تملأ الأرض بل الكون، تدل بالبداهة على أفعال في منتهى الكمال. وان عنــاوين هـذه الافعال الظاهرة من خلال منتهى الإتقــان وغاية الحكــمة تــدل بالبداهــة على فاعل كــاملٍ منزّهٍ عن النقص في عنـاوينه وأسمائه. لأنَّ الأفعال المتقــنة والحكيـمة مـعـلومٌ بـداهةً أنهـا لا تحصل دونما فاعل. وان العناوين التي هي في منتهى الكمال تدل على صفات هي في منتهى الكمال لذلك الفاعل لأنه كما يُشتق اسم الفاعل من المصدر حسب علم الصرف، فان منشأ العناوين ومصادر الأسماء هي الصفات. والصفات التي هي في منتهى الكمال، لا شك أنها تدل على شؤون ذاتية هي في منتهى الكمال. والقابلية الذاتية او تلك الشؤون الذاتية التي نعجز عن التعبير عنها، تدل بحق اليقين على ذات منزهة في كمال مطلق.

وحيث ان كل أثر من الآثار البديعة الماثلة أمامنا في الكون وفي جميع المخلوقات هو كاملٌ بديع بحد ذاته.. وان هذا الاثر البديع يشهد على فعل.. والفعل يشهد على اسم. والاسم يشهد على صفة.. والصفة تشهد على شأن.. والشأن يشهد على ذات. لذا فانَّ كلاً منها مثلما يشهد شهادة صادقة على صانع جليل واحد أحد واجب الوجود، ويشير الى احديته.. أي مثلما أن هناك شهادات واشارات بعدد المخلوقات الى التوحيد، فإن كلاً منها ايضاً مع مجموع الآثار والمخلوقات في الكون إنما هو معراج عظيم لمعرفة الله سبحانه، له من القوة ما للمخلوقات جميعاً.. فضلاً عن أنه برهان دامغ على الحقيقة، لا يمكن ان تدنو منه أية شبهة مهما كانت..

والآن أيها الغافل الجاحد! بماذا تستطيع أن تجرح هذا البرهان القوي قوة الكون؟ وبماذا تستر هذه النافذة الواسعة التي تبين شعاعات الحقيقة من ألف نافذة ونافذة، بل من نوافذ بعدد المخلوقات؛ وبأي غطاء الغفلة يمكنك ان تسترها؟!

النافذة التاسعة عشرة

] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَواتُ السَّبْعُ وَالارضُ وَمَنْ فيهِنَّ وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه[ (الاسراء:44)

نعم، مثلما أودع الصانع الجليل حكماً لا تُعَدُّ، ومعاني ساميةً لا تحصى في الأجرام السماوية، فزيَّن تلك السماوات بكلمات الشموس والأقمار والنجوم لتعبّر عن جلاله وجماله سبحانه.. كذلك ركّب جلَّ وعلا في موجودات جو السماء حِكَماً عالية، وعلّق عليها معاني سامية، ومقاصد عظمى، وأنطق جو السماء بكلمات الرعود والبروق وقطرات الأمطار ليُعْلَمَ بها، ويُعَرّفَ عن طريقها كمال حكمته، وجمال رحمته.

ومثلما جعل سبحانه وتعالى كرة الأرض تتكلم بكلماتٍ ذات مغزى، وأنطَقَها بما بثَّ فيها من الحيوانات والنباتات التي هي كلمات بليغة، مبيّناً بذلك كمال صنعته للوجود.. كذلك جعل النباتات والأشجار نفسها تنطق بلسان أوراقها وأزهارها وثمارها، معلنةً كمال صنعته سبحانه، وجمال رحمته جلَّ جلاله.. وجعل الزهرة ايضاً، والثمرة كذلك وهي كلمة واحدة من تلك الكلمات.. جعلها البارئ المصور تتكلم بلسان بُذيراتها الدقيقة فأشار بها سبحانه الى دقائق صنعته، وكمال ربوبيته، لمن يُحسن الرؤية من ذوي الاحساس والشعور.

فدونك إنْ شئتَ الاستماع الى ما لا يحد من كلمات التسبيح والأذكار في الكون.

وسنستمع الآن الى ذلك النمط من الكلام متمثلاً في كلام زهرة واحدة من بين أزهار العالم، وسنصغي الى أفادة سنبلة واحدة من بين سنابل الأرض، لنزداد يقيناً كيف أن هذا كله يشهد شهادة صادقة على مصداقية التوحيد.

نعم، ان كل نبات وكل شجر، دليل واضح على صانعه، وشاهد صدق على وحدانية خالقه بمختلف الألسنة، بحيث أن تلك الشهادة تجعل المدقق المتمعن فيها في حيرة وذهول، فيقول: يا سبحان الله.. ما أجمل شهادة هذا على أحقية التوحيد!

نعم، انه واضح جلي كوضوح النبات نفسه، وجميل كذلك كجمال النبات نفسه، تلك التسبيحات التي يهمس بها كل نبات في إشراق تبسمه، عند تفتح زهره، ونضج ثمره، وتسنبل سنبله، لأنه بالثغر الباسم لكل زهرة، وباللسان الدقيق للسنبل المنتظم، وبكلمات البذور الموزونة، والحبوب المنسقة، يظهر (النظام) الذي يدل على (الحكمة)..

وهذا النظام كما هو مشاهد، في ثنايا (ميزان) دقيق حسّاس، يدل على (العِلم) ويبينه ويبرزه، وذلك (الميزان) هو ضمن (الصنعة الدقيقة) التي تدل على (المهارة الفائقة). وتلك الصنعة الدقيقة والنقوش البديعة هي الأخرى ضمن الزينة الرائعة التي تبين (اللطف والكرم). وتلك الزينة البهيجة هي بدورها معبّقة بالروائح الطيبة الفواحة، والعطور الزكية اللطيفة التي تظهر (الرحمة والاحسان).

فتلك الأوضاع والحالات، التي لها معانٍ عميقة متداخلة، ومكتنفة بعضها ببعض، لسان شهادة عظمى للتوحيد، بحيث تعرِّف الصانع ذا الجلال بأسمائه المقدسة الحسنى، وتصفه باوصافه الجليلة السامية، وتشرح وتفسر انوار تجليات أسمائه الحسنى، وتعبّر عن تودّده وتحبّبه سبحانه وتعالى.

فلئن استمعتَ الى شهادة كهذه من زهرة واحدة فقط، وتمكنت من الأصغاء الى الشهادة العظمى الصادرة من جميع الأزهار في جميع البساتين الربانية على سطح الأرض، واستمعت الى ذلك الاعلان المدوي الهائل الذي تعلنه تلك الازهار في وجوب وجوده سبحانه ووحدانيته، فهل تبقى لديك ثمة غفلة! أو أية شبهة؟ وإنْ بقيتْ لديك غفلة، فهل يمكن أن يطلق عليك بأنك إنسان ذو شعور سامٍ متجاوب مع مشاعر الكون وأحاسيسه؟!.

فتعالَ لنتأمل شجرة.. نحن أمام نشوء الاوراق ونموها في الربيع بانتظام ودقة متناهية، وأمام تفتح الأزهار وخروجها من اكمامها بشكل موزون، وأمام نمو الثمار بحكمة ورحمة..

فهلاَّ أمعنت النظر في منظر ملاعبة النسيم للأوراق برقة وبراءة كبراءة الطفولة النقية الرقيقة.

وشاهد من فم الشجرة، كيف تنطق هذه الألسن وتفصح عن حالها؛لسان الأوراق المخضرة بيد الكرم.. ولسان الأزهار المبتسمة بنشوة اللطف.. ولسان الثمار الفرحة بتجلي الرحمة.. كُلٌ منها يعبّر عن ذلك (الميزان) الدقيق العادل الذي هو ضمن (النظام) البديع المحكم، وفي هذا الميزان الدقيق الذي يدل على (العدل) نقوشُ صنعةٍ دقيقة بديعة، وزينة فائقة تضم مذاقات متنوعة، وروائح مختلفة طيبة لطيفة، تدل على الرحمة والاحسان، وفي تلك المذاقات اللطيفة بذور ونوى هي بحد ذاتها معجزة من معجزات القدرة الإلهية، ألا يدل ذلك بوضوح، ويظهر بجلاء وجوب وجود خالق كريم ورحيم، محسن، منعم، مُجمِّل، مُفضِّلٍ، واحد، أحد، ويشهد كذلك على جمال رحمته سبحانه وكمال ربوبيته؟

فان استطعت ان تسمع هذا من لسان حال جميع الأشجار على سطح الأرض معاً، فستفهم، بل سترى؛ كم من الجواهر الجميلة النفيسة الرائعة في خزينة الآية الكريمة: ] يُسَبِّحُ لله مَا فىِ السّمواتِ وَالاَرضِ[ (الحشر:24).

فيا أيها الغافل المسكين، ويا مَنْ يظن نفسَه هملاً دون حساب، ويا مَنْ يغرق في نكران الجميل والكفران!.

ان الكريم ذا الجمال يعرّف نفسه ويحبّبُها اليك بهذا الحشد من الألسنة التي لا تعد ولا تحصى، وإن اردت أن تصرف نفسك عن ذلك التعريف، فما عليك الاّ ان تكمم جميع هذه الأفواه، وتسكت تلك الألسنة كافة.

وأنّى لك هذا!!

فما دام اسكات تلك الألسنة الناطقة بالتوحيد غير ممكن، فما عليك إلاّ الاصغاء والانصات اليها. والاّ فلن تنجو بمجرد سد الأذن بأصابع الغفلة، لأن عملك هذا لا يسكت الكون. فالكون جميعاً، والموجودات كافة ناطقة بالتوحيد. فدلائل التوحيد وأصداؤه شواهد عدل لا تنقطع ولا تنتهي أبداً. فلا بد أنها ستُدينك.

النافذة العشرون (1)

] فَسُبْحَانَ الّذى بِيَدهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ[ (يس:83)

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاّ بَقَدرٍ مَعْلُومٍ^ وَاَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَاَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ ماءً فَاَسْقَيْنَاكُمُوُهُ وَمَآ اَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنينَ[ (الحجر:21ـ22)

كما يُشاهَدُ كمال الحكمة، وجمال الاتقان في الجزئيات والفرعيات، وفي النتائج والفوائد، فان العناصر الكلية، والمخلوقات العظيمة التي تبدو مختلطة ومتشابكة، وتوهِمُ أنها لعبة المصادفة، تتخذ أيضاً أوضاعاً تتسم بالحكمة والاتقان، رغم الاختلاط الظاهر عليها، فمثلاً:

النور أو الضوء، بدلالة وظائفه الحكيمة الأخرى إنما هو للأعلان عن مصنوعات الله سبحانه، وعرضها بإذنه أمام الأنظار، أي أن الضوء مسخّر من لدن خالق حكيم، ليُظِهر به سبحانه عجائبَ مخلوقاته، ويُعرض تحت شعاعه بدائعَ مصنوعاته، في معارض سوق العالم.

وانظر الآن الى الرياح؛ تَرَ أنها تجري لإنجاز وظائف مهمة وخدمات جليلة، يشهد بهذا ما يُحَمَّلُ على وظائفها الحكيمة من منافع كريمة.

فموجات الأعاصير إذن، هي تصريفٌ وتسخيرٌ من لدن الخالق الحكيم. وما يُشَاهَدُ من عصفها وشدّةِ هبوبها، فلأسراعها في تنفيذ الأوامر الربانية وامتثالها لِحُكمها.

وانظر الآن الى الينابيع والجداول والأنهار، وتأمل في تفجرها من الأرض أو الجبال، تجد أنه لا مصادفة فيها ولا عبث قط. اذ تترتب عليها الفوائد والمصالح التي هي آثار رحمة إلهية واضحة، اما النتائج الحاصلة منها فهي موزونة محسوبة، وكذلك إدخارها وخزنها في الجبال إنما يجري ضمن حساب دقيق، ووفق حاجات الأحياء، ومن بعد ذلك تفجيرها وإرسالها بميزان هو الغاية في الحكمة.. كل ذلك دلالات وشواهد ناطقة ان ذلك التسخير والادخار إنما يتم من لدن ربّ حكيم.. وما نراه من شدة فورانها وتفجرها من الأرض إنما هو تَوقُها العظيم لأمتثال الأوامر الربانية حال صدورها.

وأنظر الآن الى أنواع الأحجار، وأشكال الصخور، ودقائق الجواهر، وصفات المعادن، تأمل في تزييناتها ومزاياها التي تترتب عليها منافع شتَّى، تجد أن ما يتعلق بها من فوائد حكيمة، ومن انسجام تام بين نتائجها التي تصير اليها، ومقتضيات الحياة، ومن ثمة ملاءمتها لمتطلبات الانسان، وقضاؤها لحاجاته وحاجات اخرى للأحياء.. كل ذلك دلالات على أن ذلك التزيين والتنظيم والتدبير والتصوير، إنما هو من لدن رب حكيم.

وأنظر الآن الى الأزهار والأثمار، تجد أن بِشْرَ وجوهها، وحلاوة مطعوماتها، وجمالها الأخاذ، ونقوشها البديعة، وشذى عطرها الطيب، كلها بمثابة دعاة وأدلاّء الى ضيافة الرب الكريم، والمنعم الرحيم. وهي رسائل تعريف به بين يدي موائده المنصوبة على الأرض كافَّة، فكل لون من الألوان المختلفة، وكل رائحة من الروائح المتنوعة، وكل طعم من الطعوم المتباينة، يدل على ذلك الخالق الكريم، ويعرّف ذلك المنعم الرحيم بلسانه الخاص.

وانظر الآن الى الطيور.. تجد أن هديلها وتغريدها وزقزقتها، ليس الاّ من إنطاق خالقٍ حكيم.. فمناجاة بعضها بعضاً، وما تسكبه في لحونها من أشجان لمِمّا يأخذ بالألباب.

وأنظر الآن الى السحب الثقال، تجد أن صوت أهازيج الأمطار المنسكبة منها، وجلجلة رعود السماء ليس عبثاً قط، اذ إن إحداث تلك الأصوات العجيبة في فضاء واسع، وإنزال قطرات باعثة على الحياة، وعصرها من السحب الثقال، وارضاع الأحياء بها، وإغاثة المتلهفين عليها، تبين بوضوح أن تلك الأهازيج والجلجلة تحمل من الحِكَم البليغة و المغزى العميق، حتى لكأنّ تلك القطرات تهتف بأمر الرب الكريم بأولئك العطاش المستغيثين قائلة: (بشراكم... ها نحن مقبلون اليكم من رب رحيم).

وانظر الآن الى السماء، وتمعن في القمر وحده - من بين أجرام السماء التي لا حصر لها - تجد ان حركاتـها جميعاً ومن ضمنها القمر منسقة أجمل تنسيق وأحكمه، ومقدّرة أعظـم تقدير بيد قدير حكيم، إذ تتعلق عليها حِكمٌ غزيرة، وثيقة الصلة بالأرض. وحيث أننا قـد فصلنا هذا في موضع آخر، نكتفي هنا بهذا القدر.

وهكذا يفتح كُلٌ ممـا ذكرناه من العناصر الكلية - ابتداءً من الضوء وانتهاءً بالقمر - نافذة واسعة جداً تبين وجود الله سبحانه، وتظهر وحدانيته، وتعلن عـن كمال قدرته وعظمة سلطنته، بمقياس أعظم وأكبر وبألوان شتى، وأنواع مختلفة.

فيا أيها الغافل!

إن كنت تقدر على إسكات هذه الأصوات المدوية كرعود السماء، وان كنت تستطيع ان تطفئ هذه الأضواء الساطعة. فيمكنك عندئذ ان تنسى الخالق الكريم. وإلاّ عُد الى رشدك، وتوجَّه الى شطر عقلك وقل: سبحان من ] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالاَرضُ وَمَنْ فيهِنَّ[ (الاسراء:44).



النافذة الحادية والعشرون

] وَالشّمْسُ تَجْرى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذلِكَ تَقْديرُ الْعَزيزِ الْعَليم[ (يس:38)

إنَّ الشمس التي هي سراج هذه الكائنات، إنَّما هي نافذة مضيئة ساطعة كنورها تتطلع منها المخلوقات الى وجود خالق الكون ووحدانيته.

فالسيارات الأثنتا عشرة - مع كرتنا الأرضية - والتي يطلق عليها اسم (المنظومة الشمسية) تجري بنظام متقن، وِفْقَ حكمة تامَّة، وحسبَ ميزان دقيق، رغم الاختلاف الشديد فيما بينها، من حيث كتلها وجرمها ومن حيث صغرها وكبرها، ورغم التفاوت الواسع فيما بينها من حيث قربها وبعدها من الشمس، ورغم التنوع الهائل في حركاتها وسرعاتها.

نعم، فرغم هذا كله تجري السيارات في أفلاكها سابحة مشدودة الوثاق بالشمس، مرتبطة معها بقانون إلهي، هذا القانون هو الذي يطلق عليه علماء الفلك اسم (الجاذبية).. فهي تجري بنظام دقيق دون خطأ - ولو بمقدار ثانية واحدة - وتنقاد انقياداً تاماً، وبطاعة مطلقة لهذا القانون، كانقياد المصلين المأمومين لإمامهم.. وهذا دليل وأيّ دليل - بأوسع مقياس وأعظمه - على عظمة القدرة الربانية ووحدانية الربوبية.. فان استطعت أن تقدّر عظمة هذا الأمر بنفسك فافعل، لترى مدى العظمة والحكمة في جعل تلك الاجرام الجامدة، وتلك الكتل الهائلة وهي بلا شعور تجري في منتهى النظام وكمال الميزان، وفي غاية الحكمة، وعلى صور متباينة، وضمن مسافات مختلفة، وبحركات متنوعة، ومن بعد ذلك تسخيرها جميعاً وِفْقَ نظام بديع رائع!

فلو كانت للمصادفة أي تدخل - مهما كان ضيئلاً - في مثل هذه الأمور الجسام، لتوقعنا حدوث أخطاء تنجم عنها انفلاقات كونية عظيمة، واصطدامات هائلة، تدمر الكون وتجعله هباءً منثوراً.

لأنه لو سُمِحَ للمصادفة أن تلعب لعبتها، فلربما تُوقِفُ أحدَ هذه الأجرام الهائلة - بلا سبب - وتخرجه عن محوره، وبذلك تمهد السبيل لاصطدامات لا حدَّ لها بين أجرام لا يحصرها العدّ. فقدّر اذن مدى الهول المريع الناجم من اصطدام أجرام اضخم من كرتنا الأرضية بآلاف الأضعاف.

سنفوّض عجائب أمور المنظومة الشمسية وغرائبها الى العلم الإلهي، المحيط بكل شئ، ونحصر ذهننا في تأمل كرتنا الأرضية، التي هي مأمورة واحدة من تلك السيارات الاثنتي عشرة، وثمرة من الثمار اليانعة لشجرة المنظومة الشمسية، فنرى:

ان سيارتنا هذه تُسخَّر بأمر ربَّاني - كما بيناه في المكتوب الثالث - لأجل ان تنهض بخدمات جليلة، ومهامّ جسيمة خلال سيرٍ وتجوال طويل، فتدور حول الشمس لتظهر بجريها ودورانها هذا عظمة الربوبية وكبرياء الألوهية، وكمال الرحمة والحكمة. فكأن الأرض سفينة عظيمة لرب العالمين مشحونة بعجائب مخلوقاته سبحانه، او هي كمسكن متجول لذوي الحياة والشعور من عباده، أسكنهم فيها، ويجريهم بها للنزهة والتفرج في أرجاء الفضاء هذا.

والقمر ايضاً كأنه عقارب ساعة، مشدودة بالأرض تدلنا على الزمن والأوقات،و قد اُعطيتْ له مهام أخرى - عدا مهمة كونه ساعة للأرض - في منازل أخرى من هذا الفضاء.

وهكذا يتبين أن سيارتنا المباركة هذه، قد أعطي لها من الحِكَم الدقيقة، والوظائف الجليلة في سياحتها هذه، مما يثبت ويدل باوضاعها، ويشهد شهادة قوية كقوة الأرض وعظمتها على القدير المطلق القدرة، وعلى وحدانيته سبحانه. وقس البقية على ارضنا.

ثم ان جعل السيارات تدور دوراناً حكيماً حول محور الشمس، وشدّها بعرى معنوية - يطلق عليها اسم الجاذبية - بالشمس، ومن بعد ذلك تنظيم إدارتها، وتنسيق أمرها جميعاً، لا يتم الاّ بتقدير القدير الحكيم، فضلاً عن ان سَوق الشمس لتجري بسرعة مذهلة - فتقطع مسافة خمس ساعات في ثانية واحدة الى برج (هرقل أو نحو) شمس الشموس حسب تقدير العلماء ليس الاّ بأمر سلطان الأزل والأبد، وبقدرته المطلقة، وكأنه سبحانه يستعرض بجيش المنظومة الشمسية وجنودها المنقادين لأمره مناورةً عسكرية إظهاراً لعظمة ربوبيته للعالمين أجمع.

فيامَنْ يرى نفسه أنه قد تعلَّم شيئاً من الفلك! قل لي بربك أيمكن لمصادفة ان يكون لها شأن في أمور عظيمة كهذه؟

أم يمكن لسبب من الأسباب التي تراها ذا تأثير في حوادث الأكوان أن يصل بيده اليها؟! أو لقوةٍ أياً كانت أن تدنو منها؟

هل تعتقد أن سلطاناً ذا عزّةٍ وجلال يسمح لشريك أياً كان أن يتدخل في أمر ملكه العظيم، مظهراً بذلك عجزه وقصوره؟! حاش لله وكلاّ.

أو هل يمكن ان يسلم سبحانه أمور ذوي الحياة الذين هم ثمرة الكون ونتيجته وغايته وخلاصته الى الأغيار؟! أو يسمح ولو بمقدار ضئيل بمداخلة هذه الأغيار في شؤونه الحكيمة؟

وهل يرضى العقل أن تُترك سدىً خلاصة تلك الثمرات، وأكمل نتائجها وخليفة الأرض، والضيف المكرم للسلطان.. أن يسلّم أمره الى الطبيعة والمصادفة فيهوي بذلك بعظمة السلطنة، وكمال الحكمة؟! حاشَ لله وكلاّ... وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

النافذة الثانية والعشرون

] اَلَمْ نَجْعَلِ الاَرْضَ مِهَاداً^ وَالْجِبَالَ اَوْتَاداً^ وَخَلَقْنَاكُمْ اَزْوَاجاً..[ (النبأ:6-8)

] فَاْنْظُرْ اِلى آثارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحىْىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذَلِكَ لَمُحيىِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ..[ (الروم:50)

لو تصورنا أن الكرة الأرضية رأس مخلوق عظيم، فاننا نجد في هذا الرأس الهائل في الكبر مائة ألف فم وكل فم له مائة ألف لسان، وكل لسان يبين بمائة ألف برهان (الواجب الوجود) الواحد الأحد، القدير على كل شئ، والعليم بكل شئ. وكل لسان ينطق بمائة ألف شهادة صادقة على وحدانيته سبحانه، وأوصافه المقدسة وأسمائه الحسنى.

فها ننظر الى الأرض في بداية خلقها فهي في حالة من السيولة والميوعة، فخُلقَت منها الصخور الصماء، وخُلق منها التراب.. فلو كانت الأرض باقية على حالتها الأولى من الميوعة لتعذرت الحياة عليها، ولتعذر إتخاذها مسكناً صالحاً لأي نوع من أنواع السكنى. ولو كانت تلك الصخرة المهولة الصلدة - المتحولة من الميوعة - باقية على صلابتها لتعسرت الاستفادة منها. إذن فالذي منح الأرض وضعاً ملائماً للعيش لابد أن يكون ذلك الخالق الحكيم الذي يرى بحكمته المطلقة مَنْ في الأرض جميعاً، ويهئ لهم حاجاتهم كافةً.

ثم نتأمل الجبال الشامخات التي تسند الأرض وتمسكها وتشدُّ كيانها أثناء دورانها... فنرى ان انقلابات هائلة تحدث في جوف الارض وهذه الانقلابات يتولد عنها الكثير من الغازات والأبخرة فتنفثها وتزفرها من خلال الجبال على صورة زلازل وبراكين، كيلا يصرفها عن القيام بحركتها المنتظمة وأداء مهماتها الأساسية ما يحدث في جوفها من أحداث، كما أنها تشكل بارتفاعات سفوحها سدوداً أمام طغيان البحار على ترابها، ولتصبح خزائن المياه الاحتياطية لحاجات الأحياء ولتمشيط الهواء وتصفيته من الغازات المضرة ليصبح صالحاً للتنفس ولتجمع شتات الماء من كل مكان وتدخره للأحياء ولتكون كنوزاً لمعادن متنوعة تتوقف عليها إدامة حياة الكائنات.

فهذه الأوضاع وكثير غيرها، تشهد شهادة ناطقة على القدير المطلق والحكيم والرحيم وعلى وحدانيته سبحانه.

فيا أيها المتباهي بعلم الجغرافية! قل لي كيف تفسر هذه الأمور؟ اية مصادفة يمكنها ان تمسك بزمام الأرض المشحونة بالمصنوعات العجيبة، وتجعلها تسبح في فضاء تقطع فيه مسافة أربع وعشرين سنة في سنة واحدة، دون أن يتبعثر ما عليها من معارض العجائب...؟!

ثم أمعن النظر فيما على الأرض من بديع الصنائع. وكيف ان العناصر كلها قد سُخِّرت لمهام حكيمةٍ، حتى تراها كأنها تنظر نظرةَ إجلال واحترام الى ضيوف القدير الحكيم، الجالسين حول مائدة الأرض، فتهرع الى خدمتهم جميعاً.

ثم أمعن النظر في ملامح الأرض وسيمائها، وفي مطرزات تعاريجها، ونقوش انحناءات سطحها، والتواءات جسمها، ولاحظ شكلها وألوانها الزاهية المتنوعة بتنوع تربتها، والتي تتسم بالحكمة والإبداع، وتثير الحيرة والإعجاب.. فدونك الأنهار والسواقي والبحار والجداول وسفوح الجبال، فانها كلها قد هُيئت ومُهدت لتكون سكناً للمخلوقات ووسائط نقلهم من مكان الى آخر.

ثم ألا ترى ان ملأها - يعني الأرض - بكمال الحكمة والنظام البديع بمئات الألوف من أجناس النباتات وأنواع الحيوانات وبعث الحياة البهيجة فيها. ثُمَّ إعفاءَها بالمـوت مـن وظـائـفها التـي كانت تـقوم بهـا.. هذه الـظـاهـرة تـتـوالى وتـترى

بانتظام دقيق. حتَّى إذا اُفرِغَتِ الأرض منها بوشر مجدداً بملئها.. ألا يعني هذا ان (البعث بعد الموت) حق لا ريب فيه.

أوَ ليست كل هذه الظواهر شهادات صادقة ناطقة بمئات الآلاف من الألسنة على القدير ذي الجلال، الحكيم ذي الكمال، وعلى وحدانيته سبحانه؟!

والخلاصة: ان الأرض التي هي بمثابة قلب الكون، قد اصبحت مَشْهَرَاً لعجائب مصنوعات الله البديعة، ومحشراً لغرائب مخلوقاته الجميلة، وممراً لقافلة موجوداته الوفيرة، ومسجداً لعباده المتراصين صفوفاً عليها، ومقراً لأداء عباداتهم.. هذه الأرض تظهر من شعاع التوحيد ما يملأ الكون نوراً وضياءً.

فيا أيها المعتدّ بعلم الجغرافية! إذا كان رأس الأرض هذه يعرّف ربَّ العالمين بمائة ألف فم، وفي كل فم مائة ألف لسان، وأنت تعرض عن هذا التعريف، وتغمس رأسك في مستنقع الطبيعة، ففكر إذن في مصير جريمتك. الى اي عقاب يسوقك هذا الإعراض والإنكار؟. أحذر وأنتبه وأرفع رأسك من المستنقع الآسن وقل: آمنت بالله الذي بيده ملكوت كل شئ.

النافذة الثالثة والعشرون

] اَلّذى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيوة[ (الملك:2).

ان الحياة هي أسطع معجزة من معجزات القدرة الربانية وأجملها، وأقوى برهان من براهين الوحدانية وأبهرها، وأجمع مرآة من مرايا تجليات الصمدانية وألمعها.

نعم! ان الحياة وحدها تبيّن الحي القيوم باسمائه الحسنى وصفاته الجليلة وشؤونه الحكيمة.

فالحياة كالنور.. فكما ان نور الشمس يحصل من امتزاج الالوان السبعة لطَيف الشمس، كذلك (الحياة) تحصل من امتزاج صفات كثيرة امتزاجاً دقيقاً.. وهي - أي الحياة - كدواء ناتج من امتزاج موادَّ كثيرة متنوعة إمتزاجاً مقدراً تقديراً محكماً.

فالحياة إذن حقيقة مركبة من صفات كثيرة جداً. فصفات منها تنبسط وتنكشف ويظهر تمايزها واختلافها بعضها عن البعض الآخر، من خلال مسيلها في قنوات الحواس، التي تأخذ كُل حاسة منها لوناً من الوان هذه الصفات والاسماء.

أما القسم الأعظم منها فانه يعلن عن نفسه من خلال الأحاسيس المفعمة (بالحياة).

ثم ان (بالحياة) تتضمن الرزق والرحمة والعناية والحكمة، التي كُلُّ منها سارية في الكائنات ومهيمنة على أمرها وخلقها وتدبيرها، فكأنَّ الحياة تقود أولئك جميعاً معها أينما حلَّت. اذ حالما تحل (بالحياة) في أيما جسم، اذا باسم (الحكيم) يتجلى فيه ايضاً حيث يشرع ببناء عشه بناءً متقناً وينظمه تنظيماً حكيماً. وفي الوقت نفسه يتجلّى اسم (الكريم) أيضاً حيث يرتّب مسكنه وينسقه ويزيّنه وفق حاجاته ويظهر آنئذٍ اسم (الرحيم) متجلياً ايضاً فيسبغ أفضاله وألطاف إنعامه لأدامة الحياة وبلوغ كمالها، وفي الوقت نفسه يتجلى اسم (الرزاق) بادياً للعيان حيث يهئ المقومات الغذائية - المادية والمعنوية - لبقاء تلك الحياة وانبساطها، بل يدخر قسماً منها في الجسم..

أي ان الحياة كالبؤرة التي تتجمع فيها الأشعة الضوئية المختلفة، فتتداخل الصفات المتنوعة في الحياة بعضها في بعض تداخلاً يجعل كل صفة منها عين الأخرى، فكأن الحياة - بكاملها – (علمٌ) كما أنها (قدرة) في الوقت نفسه، وهي (حكمة) و (رحمة) سواء بسواء..

وهكذا أصبحت (الحياة) بناءً على ماهياتها الجامعة هذه، مرآة تعكس (الصمدانية) التي تتمثل فيها شؤون الذات الربانية. ومن هذا السر أيضاً نجد أن (الحي القيّوم) جلَّ وعلا، قد خلق الحياة بكثرة هائلة، ووفرة شاملة، وبثها في أرجاء الوجود كافة، جاعلاً كل شئ يحوم حول الحياة، ويُسخَّر لأجلها، فلا غرو أن وظيفة الحياة جليلة.

نعم، ان القيام بأداء مهمة (المرآة العاكسة) لتجليات (الصمدانية) ليس أمراً سهلاً ولا وظيفة هينة، اذ نرى أمامنا ماثلةً للعيان انواعاً لاتعد ولا تحصى من (الحياة) تُخلق كل حين، وإن أرواحها - التي هي أصولها وذواتها - تُخلق دفعةً واحدةً من العدم، وترسل انواعاً غفيرة من الأحياء الى ميدان الحياة مباشرةً..

ألا يدل كل هذا على وجوب وجود ذات الجليل الأقدس و (الحي القيوم) الذي له الصفات القدسية والأسماء الحسنى أوضح من دلالة لمعان أشياء الأرض على الشمس؟ فكما أن الذي لا يعتقد بوجود الشمس، ويتجاهل صفاتها المشاهدة على الاشياء، لا شك مضطر الى إنكار النهار الملئ بنور الشمس، كذلك الذي لا يعتقد بوجود ذلكم (الحي القيوم، المحيي والمميت) الذي يتجلى نورُهُ بشمس الأحدية على الوجود كله، فهو مضطر ايضاً الى إنكار وجود الأحياء التي تملأ الأرض، بل تملأ الماضي والمستقبل معاً.. وعندها لا يرى لنفسه موقعاً إلاّ بين الأنعام أو أضل منها، فيكون بمستوى الجمادات.

النافذة الرابعة والعشرون

] لا اِلهَ اِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَالَيْهِ تُرْجَعُونَ[ (القصص:88)

ان الموت كالحياة برهان ساطع للربوبية، وهو حجة في غاية القوة على الوحدانية، مثل الحياة، اذ بدلالة الآية الكريمة:

] اَلّذى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ[

ان الموت ليس عدماً، ولا اِعداماً، ولا فناءً، ولا لعبة العبث، ولا إنقراضاً بالذات من غير فاعل، بل هو: تسريح من العمل، من لدن فاعل حكيم، وهو استبدال مكان بمكان، وتبديل جسم بجسم، وانتهاءٌ من وظيفة، وانطلاق من سجن الجسم، وخلق منتظم جديد وِفقَ الحكمة الإلهية. كما بينا في المكتوب الاول.

نعم، كما ان الموجودات الحية المبثوثة في الأرض كافة، تشير بحياتها الى الخالق الحكيم والى وحدانيته. فتلك الأحياء تشهد بموتها أيضاً على سرمدية ذلك الحي الباقي، وتشير الى وحدانيته جلَّ شأنه. وحيث أننا بحثنا في (الكلمة الثانية والعشرين) ان الموت برهان قاطع على الوحدانية، وحجة دامغة على السرمدية، لذا نحيل البحث اليها. الاّ أننا نبين هنا نكتة مهمة فقط وهي:

ان الأحياء مثلما تدل بوجودها على الخالق الحي فأنها تشهد بموتها على سرمدية الحي الباقي وعلى وحدانيته. ولنأخذ شاهداً على ذلك سطح الأرض، فأن النظام الرائع الباسط هيمنته على الأرض بأسرها والذي يبدو لنا من خلال مظاهره عياناً يشهد شهادة صادقة على الصانع القدير.

فعندما يسدل الشتاء كفنه الثلجي الأبيض على وجه الأرض الربيعي، وتموت الأحياء التي كانت تزخر بالحياة فوقها؛ فأن منظر هذا الموت ينقل نظر الإنسان الى أبعد من اللحظة الراهنة، فيركب متنَ الخيال ليذهب بعيداً الى الماضي الذي درجت اليه جنائز كل ربيع راحل، فتتفتح عندئذ أمام النظر مشاهد من الموت والحياة أوسع من هذا المنظر المحصور في الحاضر الراهن.

لأن كل ربيع راحل مما لا يُحصى من الاربِعَةِ، كان مشحوناً ملء الأرض بمعجزات القدرة الإلهية، وهو يُشعِرُ الانسان بمجئ موجودات تتدفق بالحياة وتملأ الأرض كلها في ربيع مقبل.

فنجد بهذا أن موت الربيع يشهد شهادة بمقياس عظيم جداً، وبصورة رائعة جداً وبدرجة من القوة أكثر على الخالق ذي الجلال، والقدير ذي الكمال، والحي القيوم، والنور السرمدي، ويشير الى وحدانيته، وسرمديته تبارك وتعالى. فيبين - هذا الموت - دلائل باهرة الى حدّ يرغمك معه على القول بداهةً [ آمنت بالله الواحد الأحد].

الخلاصة: انه حسب الحكمة التي تتضمنها الآية الكريمة:] وَيُحْيْىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا[ فان الأرض الحية هذه كـما أنها تشهد على الخالق الحكيم سبحانه بحياتها، فانها بموتها تلفت النظر الى التأمل في معجزات القدرة الإلهية التي تطرز جناحي الزمن؛ الماضي والمستقبل، فيعرض الله سبحانه بهذا الموت أمام نظر الانسان ألوفاً من الاربِعَةِ بدلاً من ربيع واحد، فبدلاً من أن تشهد على قدرته سبحانه معجزةٌ واحدة وهي هنا الربيع الحاضر تشهد عليها بهذا الموت الذي حلَّ في الربيع الحاضر ألوفُ المعجزات.

فكل ربيع من تلك الألوف من الأربِعَةِ، يشهد شهادة أقوى على الوحدانية من الربيع الحاضر، لأنَّ الذي أرتحل الى جهة الماضي قد أرتحل اليه بأسباب قدومه الظاهرة التي ليس لها صفة البقاء، فالأسباب التي تذهب وتأتي ليست لها إذن تأثير قط في إحلال ربيع جديد عقب الربيع الراحل، بل القدير ذو الجلال الذي لا يحول ولا يزول هو الذي خلقه من جديد وربطه بحكمته بالأسباب الظاهرة، وأرسله على الصورة الرائعة الى ميدان الشهود.

أما وجوه الأرض التي ســتأتي في المستقبل، والمــزهــرة بالربيــع النابـض بالحياة، فهي تشهد شهادةً أقوى من شهادتها على الربيع الحاضر، لأن كل ربيع يأتي في المستقبل إنما يأتي اليها من العدم، ومن غير شئ، ويبعث الى المكان المعين، ومن ثمة تُحمَّلُ عليه وظيفة خاصة.

فيا أيها الغافل المطموس في أوحال الطبيعة، والغارق فيها!

إنَّ مَنْ لا تظهر يدُ حكمته وقدرته في المستقبل الآتي كله، ومَنْ لا يترك بصمات هذه اليد على الماضي الذاهب كله، كيف يستطيع - وأنَّى له ذلك - أن يتدخل في حياة هذه الأرض؟ فهل يمكن للمصادفة والطبيعة اللتين هما من غير شئ أن يتدخلا في أمر الحياة على الأرض؟

إن كنت صادقاً وراغباً في نجاة نفسك من هذه الورطة، فادنُ من الحقيقة وقل:

ان الطبيعة إن كانت شيئاً موجوداً فهي كُرَّاس القدرة الإلهية ليس الاّ. أما المصادفة فهي ليست الاّ ستار الحكمة الإلهية الخفية الذي يسترُ جهلَنا.

عبدالرزاق 02-02-2011 12:12 PM

رد: الكلمات
 
النافذة الخامسة والعشرون

إن المضروب يدل بالضرورة على فاعل، وهو الضارب، والمصنوع المُتْقَنُ يستوجب الصانِعَ المتقِنَ، ووجود الولد يقتضي الوالد، والتحت يستلزم الفوق... وهكذا..

وقد أطلق العلماء على أمثال هذه الصفات مصطلح (الامور الإضافية) أي النسبية، أي لا يحصل الواحد دون الآخر.

فجميع ما في هذه الأمور من (إمكان) سواء في جزئيات الكون أو كلياته، تدل على (الوجوب). وما يُشَاهدُ في الجميع من انفعالات تدل على فعل واحد، وما يشاهد في جميعها من مخلوقية تدل على الخالقية، وما يشاهد فيها من كثرة وتركيب يستلزم الوحدة.

فالوجوب، والفعل، والخالقية، والوحدة، تستلزم بالبداهة والضرورة مَنْ هو الموصوف بــ(الواجب، الفاعل، الخالق، الواحد) الذي هو ليس ممكناً ولا منفعلاً ولا مخلوقاً ولا كثيراً ولا مركّباً.

وعلى هذا الأساس فان ما في الكون من إمكان، وما فيه من إنفعال، وما فيه من مخلوقية، وما فيه من كثرة، وما فيه من تركيب، يشهد شهادة واضحة على ذاتِ واجب الوجود، الواحد الأحد، خالق كل شئ الفعال لما يريد.

الخلاصة: كما يُشاهَدُ (الوجوب) من خلال (الإمكان) ويُشَاهَدُ (الفعل) من خلال (الأفعال) وتُشاهَدُ (الوحدة) من خلال (الكثرة)، وكما يدل وجود كل منها على وجود الآخر دلالة قاطعة، كذلك الصفات المشاهدة على الموجودات كـ (المخلوقية، والمرزوقية) (أي كون الموجود مخلوقاً ومرزوقاً) تدل على شؤون (الخالقية والرزاقية) دلالة قاطعة.. فوجود هذه الصفات أيضاً يدل بالضرورة وبالبداهة على (الخلاّق الرزّاق، والصانع الرحيم)...

أي أن كل موجود يشهد على (الذات الأقدس لواجب الوجود) وعلى مئات من اسمائه الحسنى بما يحمل من مئاتٍ من أمثال تلك الصفات.

فإن لم تقبل أيها الإنسان بجميع هذه الشهادات فينبغي لك إذن إنكار أمثال تلك الصفات كلها.

النافذة السادسة والعشرون (1)

ان أنواع الجمال الزاهر، وأشكال الحسن الباهر، التي تتلألأ على وجوه الكائنات السريعة الأفول، ثم تتابع هذا الجمال وتجدده بتجدد هذه الكائنات، واستمراره باستمرار تعاقبها.. إنما يظهر أنه ظِلٌ من ظلال تجليات جمال سرمدي لا يحول ولا يزول. تماماً كما ان تلألأ الحباب على وجه الماء الرقراق، وتتابع هذا اللمعان في تتابع الحباب يدل على أن الحباب والزبد والتموجات التي تطفو على سطح الماء إنما تمثل مرايا عاكسة لأشعة شمسٍ باقية.. فتلمّع أنواع الجمال أيضاً على الموجودات السيالة في نهر الزمان الجاري يشير الى جمال سرمدي خالد، ويدل على ان تلك الموجودات انما تمثل اشارات وعلامات على ذلك الجمال.

ثمَّ ان ما يخفق به قلب الكون من حُبّ جاد وعشق صادق يدل على معشوق دائمٍ باقٍ... إذ كما لا يظهر شئٌ في الثمرة ما لم يوجد في الشجرة نفسها، فكذلك العشق الإلهي العَذْب الذي يستحوذ على قلب الانسان - وهو ثمرة شجرة الكون - يبين أن عشقاً خالصاً ومحبةً صادقة بأشكال شتّى، مغروزة في كيان الكون كله، وتتظاهر بأشكال شتّى. هذا الحب المالك قلب الكون يفصح عن محبوب خالد سرمدي.

ثُمَّ إنَّ ما تمور به قلوب اليقظين الراشدين من أصفياء الناس، وما يشعرون به من انجذاب، وما يؤرقهم من وَجْد، وما يحسون به من جذبات، وما تتدفق به صدورهم من توق وحنين، إنما يدل على أن حنايا ضلوع الكون تعاني ما يعاني الانسان، وتكاد تتمزق من شدة انجذابها وعظيم جذباتها، التي تتظاهر بصور متنوعة. وهذا الجذب لا ينشأ إلاّ من جاذب حقيقي، وجاذبية باقية أبدية.

ثم ان أرقَّ الناس طبعاً وألطفهم شعوراً، وأنورهم قلباً، وهم الأولياء الصالحون من أهل الكشف والشهود قد أعلنوا متفقين على أنهم قد تبددت ظلمات نفوسهم باشراق أنوار تجليات ذي الجلال، وذاقوا حلاوة تعريف الجميل ذي الجلال، وتودّده اليهم.

فاعلانهم هذا شهادة ناطقة على (الواجب الوجود) وتعريف نفسه عن طريقهم للانسان..

ثم ان قلم التجميل والتحسين الذي يبدع نقوشه في وجه الكائنات، يدل بوضوح على جمال أسماء مالك ذلك القلم المبدع..

وهكذا فالجمال الذي يشع من وجه الكون.. والعشق الذي يخفق به قلبه.. والانجذاب الذي يمتلئ به صدره.. والكشف والشهود الذي تبصره عينه.. والروعة والإبداع في مجموع الكون كله.. يفتح نافذة لطيفة جداً ونورانية ساطعة أمام العقول والقلوب اليقظة، يتجلى منها ذلك الجميل ذو الجلال، الذي له الأسماء الحسنى، وذلك المحبوب الباقي والمعبود الأزلي.

فيا أيها المغرور التائه في ظلمات المادية! ويا أيها الغافل المتقلب في ظلمات الأوهام والمختنق بحبال الشبهات! عُد الى رشدك، واسمُ سمواً لائقاً بالانسان، أنظر من خلال هذه المنافذ الاربعة، وشاهد جمال الوحدانية، وأظفر بكمال الايمان، وكن انساناً حقيقياً.

النافذة السابعة والعشرون

] الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكيلٌ[ (الزمر:62).

سنطل من هذه النافذة على ما في موجودات الكون من (أسباب ومسبـَّبات) فـنرى ان اسمـى الأسبـاب وأشرفها قاصـرةٌ يدُهـا عـلى بلوغ أدنى المسببات وعاجزة عن ادراك ما ينجم عنها. فالأسباب إذن ليست الاّ ستائر وحجباً، فالذي يوجِد (المسبَّبات) هوغير الأسباب. ولنوضح الكلام بمثال:

القوة الحافظة في ذهن الانسان، وهي بحجم حبة من خردل موضوعة في زاوية من زوايا دماغه، نراها وكأنها كتاب جامع شامل، بل مكتبة وثائقية لحياة الانسان، حيث تضم مستندات جميع أحداث حياته من دون اختلاط ولا سهو. تُرى أي سبب من الأسباب يمكن ان يبرز لتوضيح وتفسير هذه المعجزة الظاهرة للقدرة الإلهية؟ أهو تلافيف الدماغ؟ أم أن ذرّات حجيرات الدماغ وهي بلا شعور تستطيع الحفظ والتسجيل؟ ام رياح المصادفات العشوائية؟

فلا يمكن أن تكون هذه المعجزة الباهرة الاّ من إبداع (صانعٍ حكيمٍ) جعلَ تلك (القوة الحافظة) مكتبة أو سجلاً يضم صحائف أعمال الأنسان، ليذكّره بأن ربَّه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ احصاها، وليعرضه أمام المشهد الأعظم يوم الحساب.. خذ (القوة الحافظة) في ذهن الانسان، وقس عليها سائر المسبّبات من بيوض ونوى وبذور وأمثالها من المعجزات البديعة المصغرة، تَرَ أينما وليتَ نظرك وفي أي مصنوع كان، فإنك أمام خوارق إبداع لا يقوى عليها سببٌ من الأسباب، بل حتى لو اجتمعت الأسباب جميعها لأيجاد تلك الصنعة الخارقة لأظهرت عجزها عجزاً تاماً ولو كان بعضها لبعض ظهيراً.

ولنأخذ الشمس مثلاً - التي يُظَنّ أنها سبب عظيم - فلو قيل لها مفترضين فيها الشعور والإختيار: أيتها الشمس العظيمة! هل تستطيعين إيجادَ جسم ذبابة واحدة؟ فلاشك أنها ستردُّ قائلة:

إنَّ ما وهبني ربي من ضياء، وأغدق عليَّ من حرارة وألوان، لا يؤهلني للخلق، ولا يمنحني ما يتطلبه إيجاد ذبابة من عيون وسمع وحياة، لستُ مالكة لشئ منها قط، فهذا الأمر هو فوق طاقتي كلياً.

نعم، كما أن الابداع الظاهر على (المسبَّبات) وروعة جمالها قد عَزَلت الأسباب وسلبتها قدرة الخلق، ودلَّتنا بلسان حالها على مسبِّب الأسباب، وسلَّمتْ الأمور كلها بيد الله كما جاء في الآية الكريمة:] وَالَيه يُرْجَعُ الاَمْرُ كُلُّهُ[ (هود:123) كذلك النـتائج التـي نيطت بالمسبَّبات، والغـايات الناشئة والفـوائد الحاصلة منها، تظهر جميعاً بداهـةً أن وراء حجاب الأسباب ربّاً كريماً، حكيماً، رحيماً، وأن ما نراه من أشياء ليست إلاّ من صنعه وإبداعه سبحانه.

ذلك لأن (الأسباب) التي هي بلا شعور عاجزة كلياً عن ملاحظة - مجرد ملاحظة - غاية لشئٍ مُسَبّبٍ، بينما اي مخلوق يرد الوجود لا تُناط به حكمة واحدة بل حكمٌ عديدة جداً وفوائد جمَّة وغايات شتى. أي أن الرب الحكيم والكريم هو الذي يُوجِد الأشياء ثم يرسلها الى هذا العالم ويجعل تلك الفوائد غاية وجودها. فمثلاً:

ان الأسباب الظاهرة لتكوين المطر، عاجزة عجزاً مطلقاً، وبعيدةٌ كل البعد عن أن تشفق على الحيوانات، أو تلاحظ أمورها وترحمها وتنزل لأجلها.

إذن فالذي تكفّل برزقها هو الخالق الجليل الذي يرسل المطر ويغيثها رحمة بها، وكأنه - أي المطر - رحمة متجسمة لكثرة ما فيه من آثار الرحمة والفوائد الجمة. ومن هنا أطلق على المطر اسم (الرحمة).

ثم ان التزيينات البديعة والجمال المبتسم على النباتات والحيوانات التي تملأ وجه المخلوقات قاطبة، وجميع المظاهر الجمالية عليها، تدل على أن وراء ستار الغيب مدبّراً يريد أن يعرِّف نفسه ويحبّبها بهذه المخلوقات الجميلة البديعة وتدل على وجوب وجوده ووحدانيته.

إذن فالتزيينات الرائعة في الأشياء، وما في مظاهرها من جمال بديع، وكيفياتها المتسمة بالحكمة، كلها تدل قطعاً على صفتي التعريف والتوّدد. وهاتان الصفتان - التعرف والتودّد - تشهدان بالبداهة على صانع قدير معروف ودود، فضلاً عن شهادتهما على وحدانيته سبحانه..

وزبدة الكلام: ان السبب الذي نراه شيئاً عادياً جداً، وعاجزاً عجزاً تاماً، قد استند اليه مسبَّبٌ في منتهى الإتقان والنفاسة. فهذا (المسبَّب) المتقن لا بد أنه يعزل ذلك السبب العاجز عن القيام بايجاده.

ثم ان غاية (المسبَّب) وفوائده ترفع الأسباب الجاهلة والجامدة فيما بينها وتسلمها الى يد الصانع الحكيم.

ثم ان التزيينات المنقوشة على ملامح (المسبَّب) وما يتجلى عليها من عجائب الرحمة تشير الى صانع حكيم يريد ان يُعرِّف قدرتَهُ الى ذوي الشعور من مخلوقاته، ويحبّب نفسه اليهم.

فيا عابد الأسباب. أيها المسكين!. ما تفسير هذه الحقائق المهمة الثلاث التي وضعناها بين يديك؟ وكيف يمكنك ان تقنع نفسك بأوهامك؟ ان كنت راشداً فمزّق حجاب الأسباب وقل: (هو الله وحده لا شريك له) وتحرر من الأوهام المضلّة.

النافذة الثامنة والعشرون

] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمواتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلافُ اَلْسِنَتِكُم وَالْوَانِكُمْ اِنَّ في ذلِكَ لاياتٍ لِلْعَالمينَ[ (الروم:22)

لو نتأمل في هذه الكائنات فسنشاهد أنَّ في كل شئ ابتداءً من حجيرات الجسم وانتهاءً بمجموع العالم كله، حكمة شاملة، ونظاماً متقناً.

فلدى فحصنا لحجيرات الجسم نجد أن تدبيراً بالغ الاهمية ينظّم شؤون تلك الحجيرات المتناهية في الصغر؛ ينظمها حسبَ أوامر مَنْ يرى مصالح الجسم كله، ويدير اموره. فكما أن قسماً من الأغذية يدَّخر في الجسم على صورة شحوم داخلية تُصرف عند الحاجة، كذلك نجد في كل من تلك الحجيرات الصغيرة قابلية إدِّخار دقيقة. ثم ننظر الى النباتات فنجد أنها مشمولة بتربية خاصة. وننظر الى الحيوانات فنجد أنها تعيش في بحبوحة من الكرم العميم. وننظر الى أركان الكون العظيمة فنجد أن ادارةً وتنويراًً في منتهى العظمة يكتنفانه من كل جوانبه ويفضيان به الى غايات عظيمة وجليلة. وننظر الى مجموع الكون كله، فاذا به يتجلى أمامنا وكأنه مملكة منسقة الأرجاء، أو مدينة رائعة الجمال، أو قصر منيف باذخ، وإذا بنا أمام أنظمة دقيقة ترقى به لبلوغ حكم عالية وغايات سامية.

فكما أثبتنا في الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين:

ان الموجودات مرتبطة ببعضها ارتباطاً معنوياً وثيقاً الى حد لا يدع مجالاً قط لمداخلة أي شريك، حتى بمقدار ذرة واحدة من المداخلة، ابتداءً من الذّرات وانتهاءً بالمجرات.

فَمَنْ لم يكن مسخِّراً لحُكمه جميع المجرات والنجوم والسيارات ويملك زمام أمورها ويتصرف بمقاليد شؤونها، لا يمكنه ان يُوقِعَ حُكمَهُ، ويُمْضي أمرهُ على ذرة واحدة، أي - بعبارة أخرى - مَنْ يكون رباً حقيقياً على ذرة واحدة ينبغي ايضاً أن يكون مالكاً لمقاليد الكون كله.

وفي ضوء ما أوضحنا وأثبتنا في (الموقف الثاني) من الكلمة الثانية والثلاثين: أنه من يعجز عن الهيمنة على السماوات كلها يعجز عن رسم خطوط سيماء الانسان، أي إن لم يكن ربّاً لما في السماوات والأرض، لا يستطيع أن يخط ملامح وجه انسان، ويضع عليه علاماته الفارقة.

وهكذا تجد أمامك نافذة واسعة سعة الكون كله فإذا ما أطْلَلْتَ منها تجد - حتى بعين العقل - أن الآيات الكريمة الآتية، قد كُتبت بحروف كبيرة واضحة على صفحات الكون كله:

] الله خَالِقُ كُلِّ شـَيْءٍ وَهُوَ عَلىَ كُلِّ شيء وكيلٌ ^ لَهُ مَقَـالـيدُ السَّمواتِ وَالاَرْضِ[ (الزمر:62 - 63).

لذا فَمَنْ لا يستطيع رؤية هذه الحروف البارزة العظيمة المسطرة على صحيفة الكائنات، فما هو إلاّ واحد من ثلاثة إما فاقد عقله..أو فاقد قلبه. أو آدمي الصورة أنعامي التطلعات.

النافذة التاسعة والعشرون

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاَّ يسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ (الاسراء:44)

كنت سارحاً في رفقة غربتي، أسوح مع الفكر، وأجول مع الخيال والتأمل، فقادتني قدماي الى سفح رابية مزدانة بالخضرة، فرنت اليَّ - على استحياء - من وسط هذا البساط الأخضر، زهرة صفراء ساطعة الصفرة، وألوت بجيدها اليَّ تناغيني بودّ ومحبَّة، فأثارت مشاعري وأشواقي الى زهرات مثلها كنت التقيَها في ربوع بلدتي (وان) وفي سائر المدن الأخرى التي كانت تحتضن غربتي مرةً بعد أخرى، فانثال هذا المعنى فجأةً على قلبي، وها أنذا أسرده كما ورد:

هذه الزهرة الرقيقة ليست الاّ طغراء على صفحة الجمال، وختم يختم به خالقُ الجمال رسالته الخضراء الى العالم، فَمَنْ كانت هذه الزهرة طغراءه ونقشه على البساط الأخضر فأن جميع الأنواع من هذه الزهرة إذن هي أختامه على بسط الأرض جميعاً، وعلامات وحدة صنعه.

وعقب هذه الصورة المتخيلة ورد الى القلب هذا التصور؛ إن الختم المختوم به أية رسالة كانت إنما يدل على صاحب الرسالة. فهذه الزهرة إنما هي ختم رحماني على رسالة الرحمن. وهذه الرسالة هي سفح التل الصغير المسطور فيها الكلمات البليغة للنباتات والأعشاب، والمحفور فوقها أنواع الزخارف الحكيمة الإتقان. فهذه الرسالة إذن تعود لصاحب الختم هذا.

ثم أوغلت في التأمل أكثر فأكثر. فاذا بهذا السفح الجميل يتحول في نظري ويأخذ صورة ختم كبير وواضح على رسالة هذه الفلاة الممتدة بعيداً. وانتصب السهل المنسبط أمام خيالي رسالةً رحمانيةً رائعةً، ختمُها هذا السفح الجميل. وقد أفضى بي هذا التصور الى هذه الحقيقة:

كما أن كلّ ختم على أية رسالة يشير الى صاحبها، فكل شئ كالختم يُسنِد جميعَ الأشياء التي تحيط به الى خالقه الرحيم، وكأنه ختم رحماني. فكل شئ من حوله يمثل رسالةً لخالقه الرحيم.

وهكذا، فما من شئ الاّ ويغدو نافذة توحيد عظيمة الى حد يسلّم جميع الأشياء الى الواحد الأحد... كل شئ - ولا سيما الأحياء - يملك من النقوش الحكيمة والإتقان البديع بحيث أن الذي خلقه على هذه الصورة البديعة قادرٌ على خلق جميع الأشياء، أي أن الذي لا يستطيع أن يخلق جميع الأشياء لا يمكن أن يخلق شيئاً واحداً.

أيها الغافل!

تأمل في وجه الكائنات تجد أن صحيفة الموجودات ما هي الاّ بمثابة رسائل متداخلة بعضها في البعض الآخر، مبعوثة من قبل الأحد الصمد. وان كل رسالة منها قد خُتِمَتْ بما لا يُعدُّ من أختام التوحيد.تُرى مَنْ يجرأ على تكذيب شهادات هذه الأختام غير المتناهية؟ أية قوة يمكنها أن تكتم أصوات هذه الشهادات الصادقة؟ وأنت إذا ما أنصتَّ بأذن القلب لأيٍ منها تسمعها تردد: اَشْهَدُ اَنْ لآ اِلهَ إلاَّ الله.

النافذة الثلاثون

] لَوْ كَانَ فيهمآ الِهَةٌ اِلاّ الله لَفَسَدَتَا[ (الأنبياء:22)

] كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَاِلَيْهِ تُرجْعَوُنَ[ (القصص:88)

هذه نافذة يطل منها علماء الكلام الذين سلكوا في سبيل إثبات وجود الله سبحانه طريقاً مدعماً بأدلة (الإمكان) و (الحدوث). ونحن إذ نحيل تفاصيل تلك الأدلة الى مظانها من أمهات كتب العلماء الأعلام كـ(شرح المواقف) و (شرح المقاصد) نذكر هنا شعاعات من فيض نور القرآن غمرت القلبَ، ونفذَتْ اليه من خلال هذه النافذة.

إنَّ الآمرية أو الحاكمية تقتضي رفض المنافسة، وردَّ المشاركة، ودفع المداخلة أياً كانت. ومن هنا نرى أنه إذا وجد مختاران في قرية اختلَّ نظام القرية، واضطرب أمن الناس وراحتهم، وإذا ما كان هناك مديران في ناحية، أو محافظان في محافظة واحدة، فان الحابل يختلط بالنابل، وإذا ما وجد سلطانان في بلاد فان الفوضى تضرب اطنابها في أركان البلاد كلها، ويسببان من القلاقل والاضطرابات ما لا يُحمد عقباها.

فلئن كان الانسان الذي هو عاجز ومحتاج الى معاونة الآخرين، والذي يحمل ظلاً جزئياً ضعيفاً من الآمرية أو الحاكمية، لا يقبل مداخلة أحدٍ من مثيله في شؤونه، ويردُّ المنافس رداًّ شديداً. نعم، لئن كان الانسان العاجز هذا شأنه فكيف بآمرية القدير المطلق وحاكمية السلطان الأعظم ربّ العالمين.؟

قِسْ بنفسك كيف سيسود قانون ردّ المداخلة ويهيمن على الكون كله. أي أن الوحدة أو الإنفراد من لوازم الألوهية، ومقتضى الربوبية، التي لا تنفك عنها. فان رُمْتَ برهاناً قاطعاً على هذا، وشاهداً صادقاً عليه، فدونك النظام الأكمل، والإنسجام الأجمل المشاهدان في الكون. فتلمس النظام البديع سائداً في كل شئ ابتداءً من جناح ذبابة وانتهاءً بقناديل السماء، حتى يجعل هذا النظامُ المتقنُ العقلَ مشدوهاً أمامه ويردّد من إعجابه: سبحان الله.. ما شاء الله كان.. تبارك الله.. ويهوي ساجداً لعظمة مُبدعه. فلو كان هناك موضعٌ ولو بمقدار ذرةٍ لشريكٍ مهما كان، أو مداخلة في شــؤون الكون مهما كــان نوعها، لَفَسد نظــام السماوات والأرض ولبدت آثار الفساد عياناً، ولَمَا كانت هذه الصورة البديعة الماثلة أمامنا... وصدق الله العظيم الذي يقول: ] لَوْ كَانَ فيهِمآ الِهَةٌ اِلاَّ الله لَفَسَدتَا[ (الانبياء:22) علما أن الآية الكريمة الآتية:] فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ^ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ اِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسيرٌ[ (الملك:3 - 4).

انه مهما كان الانسان جاداً في تحرّيه القصور، فسيرجع خائباً، مما يدلنا أن النظام والانتظام هما في غاية الكمال. أي أن انتظام الكائنات شاهد قاطع على الوحدانية.

أما بصدد (الحدوث) فقد قال علماء الكلام:

إن العالم متغير، وكل متغير حادث، وكل مُحْدَثٍ لابد له من مُحْدِث، أي: موجِد، لذا فالكون لابد له من (موجِدٍ قديم)..

ونحن نقول:

نعم، ان الكون حادث، حيث نشاهد في كل عصر وفي كل سنة بل في كل موسم عالَماً يرحل ويحطُّ آخرُ مكانه، تمضي كائنات، وتأتي أخرى. فالقدير ذو الجلال هو الذي يوجِد هذا العالم من العدم في كل سنة، بل في كل موسم، بل في كل يوم، ويعرضه امام ارباب الشعور ثم يأخذه الى الغيب، ويأتي مكانه بآخر، وهكذا ينشر الواحدَ تلو الآخر في تعاقب مستمر، معلقاً تلك العوالم بشكل متسلسل على شريط الزمان.

فترى الربيع معجزة باهرة من معجزات القدير الجليل، يُوجِدُ فيه الأشياء من (العدم) ويجدد تلك العوالم الشاسعة من غير شئ مذكور. فالذي يبدل تلك العوالم، ويجددها ضمن العالم الأكبر، ليس الاّ رب العالمين الذي بسط سطح الأرض مائدةً عامرةً لضيوفه الكرام.

أما موضوع (الإمكان) فقد قال المتكلمون:

إنَّ (الإمكان) متساوي الطرفين، أي اذا تساوى العدم والوجود بالنسبة الى شئ ما، فلابُدَّ من مخصّص ومرجّح وموجد.

لأن الممكن لا يمكنه بداهةً ان يُوجِدَ ممكناً آخر مثله. أي لا يمكنُ ان يُوجَدَ الممكنُ الآخر، لأنَّ وجوده يكونُ سلسلةً دائرةً مغلوقةً من (الممكنات). فلابدَّ إذن من (واجب الوجود) يوجِدُ الأشياء كلها..

ولقد فنَّد علماء الكلام فكرة (الدّور والتسلسل) وأثبتوا بطلانها باثنى عشر برهاناً سُميت بالبراهين (العرشية والسلمية) وقطعوا سلسلة الأسباب والمسبَّبات وأثبتوا بذلك (الواجب الوجود).

ونحن نقول:

إنَّ اظهار الختم الخاص للخالق الجليل على كل شئ المختوم به كل شئ لهو أسهل وأقوى وضوحاً من برهان (انقطاع سلسلة الأسباب) ثم بلوغ اثبات الخالق جلَّ وعلا.

ولقد درجت بفيض القرآن جميعُ (الكلمات) و (النوافذ) على هذا المدرج السهل القاطع. ومع ذلك فان بحث (الإمكان) واسع جداً، إذ يبينُ الخالقَ من جهات لا حصر لها، وليس منحصراً بما سلكه المتكلمون من طريقٍ لإثبات الصانع باثبات انقطاع التسلسل، فالطريق واسعة بلا حدود، اذ تؤدي الى معرفة لا حدود لها لمعرفة واجب الوجود.

وتوضيح ذلك كالآتي:

بينما نرى كُلَّ شئٍ، في وجوده وفي صفاته وفي مدة بقائه وحياته، متردداً ضمن طرق إمكانات واحتمالات لا حدَّ لها، إذا بنا نشاهده قد سلك من بين تلك الجهات التي لا حدَّ لها طريقاً منتظماً خاصاً به، وتُمنح كل صفة من صفاته كذلك بهذا الطراز المخصَّص، بل تُوهَبُ له بتخصيص معين صفات وأحوال يبدّلها باستمرار ضمن حياته وبقائه..

إذن فَسَوقُ كل شئٍ الى طريق معينة، واختيار الطريق المؤدية الى حِكَم معينة، من بين طرق غير متناهية. إنما هو بإرادة مخصِّص، وبترجيح مُرجِّح، وبأيجاد موجدٍ حكيم. إذ ترى الشئ يُلبَس لباس صفات منتظمة، وأحوال منسقة معينة مخصصة له، ثم تراه يُساق - أي هذا الشئ - ليكون جزءاً من جسم مركب، فيخرج بهذا من الإنفراد، وعندئذٍ تزداد طرق الإمكانات أكثر، لأنَّ هذا الجزء يمكن أن يتخذ ألوفاً من الأشكال والأنماط في ذلك الجسم المركب، والحال إننا نرى أنه يُمنح له وضع معين ذو فوائد ومصالح، ويُختارُ له هذا الوضع من بين ما لا يُحدّ من الأوضاع التي لا جدوى له فيها. أي يُساق الى أداء وظائف مهمة وبلوغ منافع شتى لذلك الجسم المركب.

ثم نراه قد جُعل جزءاً من جسم مركب آخر، فتزداد طرق الإمكانات أكثر، لأن هذا الجسم كذلك يمكن أن يتشكل بألوف الأنماط، بينما نراه قد أختير له وضعٌ معين ضمن الألوف المؤلفة من الطرز والأنماط، فيساق الى أداء وظائف اخرى... وهكذا كلما اوغلتَ في الإمكانات تبيّن لك بجلاء ان جميع هذه الطرق توصلك الى مدبّر حكيم، وتجعلك تقتنع اقتناعاً تاماً بأن كل شئ يساق الى وظيفة بأمر آمر عليم. حيث أن جميع المركبات مركبة من أجزاء، وهذه مركبة من أجزاء اخرى.. وهكذا فكل جزء موضوع في موضع معين من المركب، وله وظائفه المخصصة في ذلك المكان.. يشبه ذلك علاقة الجندي مع فصيله وسريته ولوائه وفرقته والجيش كله. فله علاقات معينة ذات حكمة مع جميع تلك التشكيلات العسكرية المتداخلة، وله مهمات ذات تناسق معين مع كل منها.. وبمثل الخلية التي في بؤبؤ عينك، لها علاقة وظيفية مع عينك، ولها وظيفة ذات حكمة ومصالح مع الرأس ككل حتى لو اختلط شئ جزئي بتلك الخلية لاختلت ادارة الجسم وصحته، ولها علاقة خاصة مع الشرايين والأوردة والأعصاب، بل علاقة وظيفية مع الجسم كله، مما يثبت لنا أن تلك الخلية قد اعطيَ لها ذلك الموضع المعين في بؤبؤ العين وأختير لها ذلك المكان من بين ألوف الأمكنة، للقيام بتلك المهام. وليس ذلك الاّ بحكمة صانع حكيم.

فكل موجودات الكون على هذا الغرار، فكل منها يعلن بذاته، بصفاته، عن صانعه بلسانه الخاص، ويشهد على حكمته بسلوكه في طريق معينة ضمن طرق امكانات لا حد لها. وكلما دخل الى جسم مركب اعلن بلسان آخر عن صانعه ضمن تلك الطرق التي لا تحد من الإمكانات. وهكذا يشهد كل شئ على صانعه الحكيم وإرادته وإختياره، شهادةً بعدد تلك الطرق من طرق الإمكانات التي لا تحد، وبعدد المركبات وإمكاناتها وعلاقاتها التي فيها، الى أن تصل الى أعظم مركب. لأن الذي يضع شيئاً ما بحكمة تامة في جميع المركبات، ويحافظ على تلك العلاقات فيما بينها لا يمكن أن يكون الاّ خالق جميع المركبات.

أي ان شيئاً واحداً بمثـابة شـاهـد بألـوف الألسنـة عـلـيـه سبحانه وتعالى. بـل ليس هناك ألوف الشهادات على وجوده سبحانه وحكمته واختياره وحدها، بل الشهادات موجودة ايضاً بعدد الكائنات، بل بعدد صفات كل موجود وبعدد مركباته. وهكذا ترد من زاوية (الإمكان) شهادات لا تحدّ على (الواجب الوجود).

فيا أيها الغافل! قل لي بربك أليس صمّ الأذان عن جميع هذه الشهادات التي يملأ صداها الكون كله لهو صمم ما بعده صممٌ، وجهل ما بعده جهل؟

النافذة الحادية والثلاثون

] لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فى اَحْسَنِ تَقْويمٍ[ (التين:4)

] وَفىِ الاْرضِ آيَاتٌ لِلْموُقنينَ^ وَفى اَنْفُسِكُمْ اَفَلاَ تُبْصِرونَ[ (الذاريات:20ـ21)

نحنُ هنا أمام نافذة الانسان، نتطلع من خلال نفس الانسان الى نور التوحيد، ونحن إذ نحيل تفاصيل ذلك الى الكتب والأسفار المدونة من قبل ألوف الأولياء الصالحين الذين بحثوا في نفس الانسان بأسهاب، نود ان نشير الى بضع اشارات مستلهمة من فيض نور القرآن الكريم، وهي كما يأتي:

ان الانسان هو نسخة جامعة لما في الوجود من خواص، حتى يُشعِرُهُ الحقُّ سبحانه وتعالى جميع اسمائه الحسنى المتجلية بما اودع في نفس الانسان من مزايا جامعة. نكتفي في بيان هذا بما ذكرناه في (الكلمة الحادية عشرة) وفي رسائل أخرى، غير أننا نبين هنا ثلاث نقاط فقط:

النقطة الأولى:

إن (الانسان) مرآةٌ عاكسة لتجليات الأسماء الإلهية الحسنى، وهو مرآة لها ثلاثة أوجه:

الوجه الاول: كما أن الظلام سبب لرؤية النور، أي أن ظلام الليل وشدّته يبين النور ويظهره بشكل أكثر وضوحاً.. فالأنسان ايضاً يُعرِّف بضَعفه وعَجزه وبفقره وحاجاته، وبنقصه وقصوره، قدرةَ القدير ذي الجلال، وقوتَهُ العظيمة، وغناه المطلق، ورحمته الواسعة.

فيكون الانسان بهذا كأنه مرآة عاكسة لكثير من تجليات الصفات الإلهية الجليلة. بل حتى ان ما يحمله من ضعف شـديد، وما يكتـنـفـه من اعـداء لا حد لهم، يجعله يتحرى دائماً عن مرتكز يرتكز عليه، ومستند يستند اليه. فلا يجد وجدانه الملهوف إلاّ الله سبحانه.

وهو مضطر ايضاً الى تحري نقطة استمداد يستمد منها حاجاته التي لا تتناهى، ويسد بها فقره غير المتناهي، ويشبع آماله التي لا نهاية لها، فلا يجد في غمرة تحريه الا الاستناد - من هذه الجهة - الى باب غني رحيم، فيتضرع اليه بالدعاء والتوسل.

أي أن في كل وجدان نافذتين صغيرتين من جهة نقطة الاستناد والاستمداد، فيتطلع الانسان منهما دوماً الى ديوان رحمة القدير الرحيم.

أما الوجه الثاني: فهو أن الانسان مرآة لتجليات الأسماء الحسنى، اذ ان ما وهِبَ من نماذج جزئية من (العلم، والقدرة، والبصر، والسمع، والتملك، والحاكمية) وأمثالها من الصفات الجزئية، يصبح مرآة عاكسة يُعرَف منها الصفات المطلقة لله سبحانه وتعالى، وادراك علمه وقدرته وبصره وسمعه وحاكميته وربوبيته، فيفهم تلك الصفات المطلقة للربوبية بالنسبة لمحدوديتها عنده.. ولا شك أنه بعد ذلك سيحاور نفسه ويقول مثلاً:

كما أنني قد قمت ببناء هذا البيت، وأعلم تفاصيله، وأشاهد جميع جوانبه وأجزائه، وأديره بنفسي، فأنا مالكه، كذلك لابد لهذا الكون العظيم من مبدعٍ ومالكٍ يعرف اجزاءه معرفة كاملة، ويبصر كل صغيرة وكبيرة فيه، ويديره.

الوجه الثالث: لكون الانسان مرآة عاكسة للأسماء الحسنى، فهو ايضاً مرآة عاكسة لها من حيث نقوشها الظاهرة عليه. ولقد وضِحَ هذا بشئ من التفصيل في مستهل (الموقف الثالث) من الكلمة (الثانية والثلاثين( ان (الماهية) الجامعة للأنسان، فيها أكثر من سبعين نقشاً ظاهراً من نقوش الأسماء الإلهية الحسنى، فمثلاً:

يبين الأنسان من كونه مخلوقاً، اسمَ الصانع (الخالق) ويُظهر من حسن تقويمه اسمَ (الرحمن الرحيم) ويدلّ من كيفية تربيته ورعايته على اسم (الكريم) واسم (اللطيف). وهكذا يُبرز الانسان نقوشاً متنوعة ومختلفة للأسماء الحسنى المتنوعة بجميع أعضائه وأجهزته، وجوارحه وبجميع لطائفه ومعنوياته، وبجميع حواسه ومشاعره.

أي كما أن في الأسماء الحسنى أسماً أعظم لله تعالى، فهناك نقش أعظم في نقوش تلك الأسماء وذلك هو الانسان.

فيا مَنْ يعدّ نفسه انساناً حقاً، إقرأ نفسك بنفسك، وإن لم تفعل فلربما تهبط من مرتبة الانسانية الى مرتبة الإنعام.

النقطة الثانية:

تشير هذه النقطة الى سرٍ مهمٍ من أسرار الأحدية، وتوضيحه كما يأتي:

كما أن روح الإنسان، ترتبط بعلاقات وأواصر مع جميع أنحاء جسم الانسان، حتى تجعل جميع اعـضائه وجميع اجزائه، في تعاون تامٍّ فيما بينها، أي أن الروح - التي هي لطيفة ربانية وقانون أمري اُلبس الوجود الخارجي بالأوامر التكوينية التي هي تجلي الإرادة الإلهية - لا يحجبها شئ عن إدارة شؤون كل جزء من اجزاء الجسم، ولا يشغلها شئٌ عن تفقدها، وإيفاء حاجات الجسم بكل جزء من أجزائه، فالبعيد والقريب إزاءها سواء، ولا يمنع شئ شيئاً قط، إذ تقدر على مدّ عضو واحد بأمداد من سائر الأعضاء، وتستطيع ان تسوق الى خدمته الأعضاء الأخرى. بل تقدر أن تعرف جميع الحاجات بكل جزء من أجزاء الجسم، وتُحِسُّ من خلال هذا الجزء بجميع الاحساسات، وتدير من هذا الجزء الواحد الجسمَ بأكمله، بل تتمكن الروح أن ترى وتسمع بكل جزء من اجزاء الجسم ان كانت قد اكتسبت نورانية اكثر..

فما دامت الروح التي هي قانون أمري من قوانين الله سبحانه - لها هذه القدرة لإظهار أمثال هذه الاجراءات في العالم الصغير وهو الانسان، فكيف يصعب إذن على الإرادة المطلقة (ولله المثل الاعلى)، وعلى قدرته المطلقة من القيام بأفعال لا حدَّ لها في العالم الأكبر، وهو الكون، وسماع أصوات لا حد لها فيه، وبأجابة دعوات لا نهاية لها تنطلق من موجوداته؟ فهو سبحانه يفعل ما يشاء في آن واحد، فلا يؤده شئ ولا يحتجب عنه شئ، ولا يمنع منه شئٌ شيئاً، ولا يُشغله شئ عن شئٍ. يرى الكل في آن واحد، ويسمع الكل في آن واحد. فالقريب والبعيد لديه سواء، إذا أراد شيئاً يسوق له كُلَّ شئ، يبصر كُلَّ شئ من أي شئ كان، يسمع أصوات كل شئ، ويعرف كلَّ شئ بكل شئ، فهو ربُّ كل شئ.

النقطة الثالثة:

ان للحياة ماهية عظيمة مهمة، ووظيفة ذات أهمية بالغة، وحيث أن هذا البحث قد فصل في (نافذة الحياة) من (النافذة الثالثة والعشرين) وفي المكتوب العشرين - الكلمة الثامنة منه - لذا نحيل البحث اليهما، وننبه هنا الى ما يأتي:

ان النقوش الممزوجة في الحياة والتي تظهر على صورة حواسّ ومشاعر، هذه النقوش تشير الى اسماء إلهية حسنى كثيرة، والى شؤون ذاتية لله سبحانه وتعالى. فتكون الحياة من هذه الوجهة مرآة عاكسة ساطعة لتجليات الشؤون الذاتية للحي القيوم.

ولما كان وقتنا لا يتسع لأيضاح هذا السر لأولئك الذين لم يرتضوا بالله ربّاً، والذين لم يبلغوا بعد مرتبة الايمان اليقين، لذا سنغلق هذا الباب.







النافذة الثانية والثلاثون

] هُوَ الّذى اَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدينِ الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّه وكَفى بِاللّهِ شَهيداً^ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله..[ (الفتح:28 - 29)

] قُلْ يَآ اَيُّها النَّاسُ اِنّى رَسُولُ الله اِلَيْكُمْ جَميعاً الَّذى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ لا إلهَ اِلاّ هُوَ يُحْيي وَيُميتُ..[ (الاعراف:158)

هذه النافذة هي نافذة تخص شمس سماء الرسالة، بل شمس شموس النبوة، حبيب رب العالمين، محمداً عليه أفضل الصلاة والتسليم.

ان هذه النافذة ساطعة سطوع الشمس، وواسعة سعة الكون، ومنورة نورانية النهار. وحيث أننا قد أثبتنا (النبوة) إثباتاً قاطعاً في الكلمة الحادية والثلاثين، رسالة (المعراج) وفي الكلمة التاسعة عشرة، رسالة (دلائل النبوة) وفي المكتوب التاسع عشر، رسالة (المعجزات الأحمدية) لذا فنحن نستعيد هنا بذاكرتنا بعض ما هو مذكور في تلك الرسائل، ونحيل اليها، إلاّ أننا نقول:

ان الرسول الإكرم عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي هو برهان التوحيد الناطق، قد أعلن التوحيد واظهره بجلاء، وبيّنه للبشرية أبلغ بيان، في جميع سيرته العطرة، وبكل ما وهبه الله من قوة، فهو الذي يملك بجناحي الرسالة والولاية قوة إجماع وتواتر جميع الأنبياء الذين أتوا قبله، وقوة تواتر واجماع جميع الأولياء والأصفياء الذين أتوا بعده. وفتح بهذه القوة الهائلة نافذة واسعة عظيمة سَعَة العالم الاسلامي إزاء معرفة الله سبحانه، فبدأ يتطلع منها ملايين العلماء المحققين والأصفياء والصديقين أمثال: الإمام الغزالي والإمام الرباني ومحي الدين بن عربي والشيخ الكيلاني، فهؤلاء وغيرهم يتطلعون من هذه النافذة المفتوحة، ويبينونها للآخرين.

فهل هناك من ستار يا ترى يمكن اسداله على هذه النافذة العظيمة! وهل أنَّ مَنْ لا ينظر من هذه النافذة يملك شيئاً من العقل، فاحكم أنت!





النافذة الثالثة والثلاثون

] اَلْحَمْدُ للهِ الَّذى اَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً[ (الكهف:1)

] الر كِتَابٌ اَنْزَلْنَاهُ اِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ اِلىَ النّورِ[ (ابراهيم:1)

تأمل وأعلم ان ما ذُكر في جميع (النوافذ) السابقة ما هو إلاَّ بضع قطرات من بحر (القرآن الكريم)، فاذا كان الأمر هكذا فانك تستطيع الآن قياس الامداء العظيمة لأنوار التوحيد التي تفيض من بحر الحياة في القرآن الكريم، ولو أننا نظرنا - مجرد نظرة بسيطة ومجملة - الى منبع جميع تلك النوافذ، وكنزها وأصلها وهو القرآن العظيم، لوجدناه نافذة جامعة ساطعة تشع نوراً فياضاً لا حدَّ له، وحيث ان الكلمة الخامسة والعشرين (رسالة إعجاز القرآن) والاشارة الثامنة عشرة من المكتوب التاسع عشر، قد بحثتا سعة هذه النافذة وسطوعها، بما فيه الكفاية، لذا نحيل البحث اليهما.

وختاماً نرفع أكفنا ضارعين أمام عرش الرحمن جل جلاله الذي انزل علينا هذا القرآن الكريم رحمةً ونوراً وهدايةً وشفاءً ونقول:

] رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ اِنْ نَسِينآ اَوْ اَخْطَاْنَا[

] رَبَّنَا لاَ تُزغْ قُلوُبَنَا بَعْدَ اِذْ هَدَيْتَنَا[

] رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنّآ اِنّكَ اَنْتَ السّميعُ الْعَليمُ ^ وَتُب عَلَيْنَآ اِنَّكَ اَنْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ[ .















تنـبيه

هذا المكتوب (الثالث والثلاثون) الذي يضم ثلاثاً وثلاثين نافذة، نسأل الله تعالى أن يكون زاداً لمن لا إيمان له، فيدعوه الى حظيرة الإيمان.. ويشدَّ من إيمان الذي يجد في إيمانه ضعفاً فيقويه.. ويجعل الإيمان القوي التقليدي إيماناً تحقيقياً راسخاً.. ويوسع من آفاق الايمان التحقيقي الراسخ.. ويهب لمن كان إيمانه واسعاً مدارج الرقي في المعرفة الإلهية التي هي الأساس في الكمال الحقيقي، ويفتح أمامه مشاهد أكثر نورانية وأشدّ سطوعاً.

لأجل هذا، فليس لك ان تقول:

أكتفي بنافذة واحدة دون الأخرى، ذلك لأن القلب يطلب حظه رغم أن العقل قد انتفع، والروح هي الأخرى تطالب بحظها، بل حتى الخيال يطالب بقبسٍ من ذلك النور. أي ان كل نافذة من النوافذ لها فوائد متنوعة، ومنافع شتى. ولقد كان المخاطب الأساس في رسالة (المعراج) السابقة، هو المؤمن، وكان الملحد في موضع الاستماع، أما هذه الرسالة فالمخاطب الأساس فيها هو المنكر الجاحد، والمؤمن هو في موضع الاستماع.

ولما كنت قد كتبتُ هذا المكتوب في غاية السرعة - بناءً على سبب مهم - لذا فقد بقي على حاله، ولم أراجع مسودته، ولم أدخل عليها أي تعديل، فلا جرم أنْ سيكون فيه شئٌ من القصور والتشوش في بعض العبارات، وفي طريقة العرض. فأرجو من إخواني ان ينظروا اليه بعين الصفح والسماح، ويصححوا - إن استطاعوا - ما بدر مني من خطأ، ويدعوا لي بالمغفرة. والسلام على مَن اتبع الهدى.. والـمَلامُ على من إتبع الهوى.

] سُبحَانَك لا عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلَّمْتَنا اِنَّكَ انْتَ العليم الحكيمُ[

اللّهم صلِّ على مَنْ أرسلته رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم..

آمين

اللوامع

من بين هلال صومٍ وهلال العيد

ازاهير تفتحت عن نوى الحقائق وديوان شعر إيماني لطلاب النور

تنبيه:

ان هذا الديوان الموسوم بـ(اللوامع) لا يجري مجرى الدواوين الاخرى على نمط واحد متناولاً عدداً من المواضيع؛ ذلك لأن المؤلف المحترم قد وضح فيه المقولات البليغة المختصرة جداً لأحد مؤلفاته القديمة (نوى الحقائق)، ولأنه قد كتب على اسلوب النثر، زد على ذلك لا يجنح الى الخيالات والانطلاق من احاسيس غير موزونة، كما هو في سائر الدواوين. فلا يضم هذا الديوان بين دفتيه الاّ ما هو موزون بميزان المنطق وحقائق القرآن والايمان. فهو درس علمي بل قرآني وايماني ألقاه المؤلف على مسامع ابن أخيه وامثاله من الطلاب الذين لازموه. ولقد اقتدى استاذنا واستفاض من نور ] وما علّمناه الشعر[ فما كان له ميل الى النظم والشعر ولم يشغل نفسه بهما ابداً، كما بيّنه في التنبيه المتصدر للأثر وادركنا نحن ايضاً منه هذا الامر.

وقد تم تأليف هذا الديوان الشبيه بالمنظوم خلال عشرين يوماً، بعد سعي متواصل لساعتين او زيادة نصف ساعة من الزمان يومياً، مع كثرة المشاغل والمهام الجليلة لـ(دار الحكمة الاسلامية). ان تأليفاً كهذا ضمن هذا الوقت القصير جداً، مع ما في كتابة صحيفة واحدة من المنظوم صعوبة تفوق عشر صفحات من غيره، ومع وروده فطرياً وطبعه كما ورد دون أن يطرأ عليه تصحيح أو تشذيب أو تدقيق.. يجعلنا نراه خارقة من خوارق رسائل النور، فلا نعلم ديوان شعر مثل هذا يسهل قراءته نثراً دون تكلّف .

نسأل الله ان يجعل هذا المؤلَّف النفيس بمثابة المثنوي (الرومي) لطلاب النور، اذ هو خلاصة قيمة لرسائل النور وفي حكم فهرس يبشر بقدومها ويشير اشارة مستقبلية اليها، تلك الرسائل التي ظهرت بعد عشر سنوات واكتملت في غضون ثلاث وعشرين سنة.

صنغور، محمد فيضي، خسرو

من طلاب النور

تنـبيه

لم اقدّر النظم والقافية قدرهما، لعدم معرفتي بهما، فالمرء عدوّ لما جهل.

ولم أشأ قط تغيير صورة الحقيقة لتوافِق اهواء القافية، نظير (التضحية بصافية فداء للقافية)(1) ولأجل هذا فقد ألبستُ أسمى الحقائق أردأ الملابس في هذا الكتاب الخالي من القافية والنظم. وذلك:

اولاً:

لأنني لا أعلم أفضل من هذا. فكنت احصر فكري في المعنى وحده، دون اللفظ.

ثانياً:

أردت أن ابين بهذا الاسلوب نقدي لأولئك الشعراء الذين ينحتون الجسد ليوافق اللباس!

ثالثاً:

أردت اشغال النفس ايضاً بالحقائق العالية مع انشغال القلب بها في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان.

ولأجل هذه الاسباب اُختير هذا الاسلوب الشبيه باساليب المبتدئين.

ولكن ايها القارىء الكريم!

لئن كنت قد أخطأت - وانا اعترف به - فإياك أن تخطىء فتنظر الى الاسلوب المتهرئ ولا تنعم النظر في تلك الحقائق الرفيعة، ومن ثم تهوّن من شأنها.

ايضاح

ايها القارئ الكريم!

انني اعترف سلفاً بضجري من فقر قابليتي في صنعة الخطّ وفن النظم، اذ لا استطيع الآن حتى كتابة إسمي كتابة جيدة، ولم اتمكن طوال حياتي من نظم بيتٍ واحد أو من وزنه.

ولكن، وعلى حين غرّة ألحّتْ على فكري رغبةٌ قويةٌ في النظم، وقد كانت روحي ترتاح لما في كتاب (قول نوالاسيسيبان)(1) من نظمٍ فطري عفوي على نمط مدائح تصف غزوات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. فاخترتُ لنفسي طراز نظمه، وكتبتُ نثراً شبيهاً بالنظم. ولم اتكلف للوزن قطعاً. فليقرأه مَن شاء نثراً قراءة سهلة دون تذكّر النظم والاهتمام به، بل عليه أن يعدّه نثراً ليفهم المعنى، اذ هناك ارتباط في المعنى بين القِطعَ، وعليه الاّ يتوقف في القافية(2). فكما تكون الطاقية والطربوش بلا شُرّابة كذلك يكون الوزن ايضاً بلا قافية، والنظم بلا قاعدة. بل اعتقد انه لو كان اللفظ والنظم جذابين صنعةً يُشغلان فكر الانسان بهما ويشدّانه اليهما، فالأولى اذن ان يكون اللفظ بسيطاً من غير تزويق لئلا يصرف النظر اليه.

ان استاذي ومرشدي في هذا الكتاب: القرآن الكريم.

وكتابي الذي أقرأه: الحياة

ومخاطبي الذي أوجّه له الكلام: نفسي.

أما أنت ايها القارئ العزيز، فمستمعٌ ليس الاّ، والمستمع لا يحق له الانتقاد، بل يأخذ ما يعجبه ولا يتعرض لما لا يعجبه.

ولما كان كتابي هذا نابعاً من فيض الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك(3)، فإنني آمل ان يؤثر في قلب اخي في الدين، فيهدي لي بظهر الغيب دعاءً بالمغفرة أو قراءة سورة الفاتحة.

الداعي (1)

قبري المهدّم(2) يضم تسعاً وسبعين جثة (3) لسعيد ذي الآثام والآلام وقد غدا تمام الثمانين شاهد قبري

والكل يبكي(4) لضياع الاسلام.

فيئن ذلك القبر الملئ بالاموات مع شاهده.

وغداً انطلقُ مسرعاً الى ساحة عقباي

وانا على يقينٍ: أن مستقبل آسيا بأرضها وسمائها

يستسلم ليد الاسلام البيضاء

اذ يمينه يمن الايمان

يمنح الطمأنينة والامان للأنام(5).

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

برهانان عظيمان للتوحيد

C هذا الكون بذاته برهان عظيم.

اذ لسان الغيب ولسان الشهادة يسبّحان بالتوحيد، توحيد الرحمن. ويذكُران بصوت هائل: (لا إله الاّ هو).

فكل ذرات الكون، وحجيراته، وأركانه، وأعضائه؛ لسان ذاكر يلهج مع ذلك الصوت الداوي بـ:(لا إله الاّ هو).

في تلك الألسنة تنوّع، وفي تلك الاصوات مراتب، الاّ انها تنطلق معاً بـ: (لا إله إلاّ هو).

هذا الكون انسان أكبر.. يذكر ربَّه بصوت عالٍ، والأصوات الرقيقة لأجزائه وذراته كلها تدوي مع ذلك الصوت الهادر:(لا إله الاّ هو).

نعم ان هذا العالم يتلو آيات القرآن في حلقة ذكر عظيمة.

وهذا القرآن المشرق المنور يترنم مع ذوي الأرواح كلها بـ:(لا إله الاّ هو).

هذا الفرقان الحكيم، برهان ناطق لذلك التوحيد. آياتُه كلها ألسنة صادقة.. وأشعة ساطعة بالايمان.. فالجميع يذكر معاً: (لا إله الاّ هو).

فاذا ما ألصقتَ الأذن بصدر هذا الفرقان، ستسمع من أعمق الأعماق صدىً سماوياً صريحاً ينبعث :(لا إله الاّ هو).

فذلك الصوت اللطيف، صوت رفيع عالٍ، في منتهى الجدية وغاية الإيناس، ونهاية الصدق والاخلاص. ومدعم بالبرهان القاطع المقنع.. يقول مكرراً :(لا إله الاّ هو).

هذا البرهان المنور، جهاتُه الست شفافة رائقة اذ:

عليه نقش الاعجاز الظاهر.

وفيه يلمع نور الهداية، ويقول:(لا إله الاّ هو).

تحته نسيج البرهان والمنطق.

في يمينه استنطاق العقل، ويصدّقه بـ :(لا إله الاّ هو).

وفي شماله - الذي هو يمين - استشهاد الوجدان.

امامه الحسن والخير.

وهدفه السعادة.

مفتاحه دائماً:(لا إله الاّ هو).

ومن ورائه الذي هو أمام. أي استناده؛ سماوي وهو: الوحي المحض.

فهذه الجهات الست منيرة مضيئة، يتجلى في بروجها :(لا إله الاّ هو).

فأنّى للوهم ان يسترق منها السمع، وانّى للشبهة ان تطرق بابها.

أفيمكن ان يدخل ذلك المارق هذا الصرح البارق الشارق!!

فأسوار سوره شاهقة، وكل كلمة منه مَلَك ناطق بــ:(لا إله الاّ هو).

فذلك القرآن العظيم بحر ناطق للتوحيد.

لنأخذ قطرة منه مثالاً؛ (سورة الاخلاص). نتناولها رمزاً قصيراً مما لا يعد من الرموز.

انها تردّ الشرك بجميع أنواعه ردّاً قاطعاً. وتثبت سبعة أنواع من التوحيد في جملها الست: ثلاث جملٍ منها مثبتة وثلاث منها منفية.

الجملة الاولى: (قل هو):اشارة بلا قرينة، أي هو تعيين بالاطلاق، ففي ذلك التعيين تعيّن. أي: لا هو الاّ هو. وهذا اشارة الى توحيد الشهود. فلو استغرقت البصيرةُ النافذة الى الحق في التوحيد، لقالت: (لا مشهود الاّ هو).

الجملة الثانية: (الله أحد) تصريح بتوحيد الألوهية، اذ الحقيقة تقول بلسان الحق: (لا معبود الاّ هو).

الجملة الثالثة: (الله الصمد) صدف لدرّين من درر التوحيد.

الأول: توحيد الربوبية: فلسان نظام الكون يقول: (لا خالق الاّ هو).

الثاني: توحيد القيومية: أي: ان لسان الحاجة الى مؤثر حقيقي في الكون كله يقول: (لا قيوم الاّ هو).

الجملة الرابعة: (لم يلد) يستتر فيها توحيد الجلال، ويردّ أنواع الشرك، ويقطع دابر الكفر:

لان الذي يتغير ويتناسل ويتجزأ لاشك انه ليس بخالق ولا قيوم ولا إله.

و (لم يلد): يردّ مفهوم البنوة والتولد، اذ يقطع قطعاً شرك بنوة عيسى وعزير (عليهما السلام) والملائكة أو العقول. فلقد ضل كثير من الناس، وهووا في غياهب الضلال من هذا الشرك.

خامستها: (ولم يولد) توحيد سرمدي يشير الى اثبات الأحدية.

فمن لم يكن واجباً قديماً أزلياً لا يكون إلهاً، أي: إن كان حادثاً زمانياً، أو متولداً مادةً، أو منفصلاً عن أصل، لا يمكن ان يكون إلهاً لهذا الكون.

هذه الجملة تردّ شرك عبادة الأسباب، وعبادة النجوم، وعبادة الأصنام، وعبادة الطبيعة.

سادستها: (ولم يكن) توحيد جامع، أي: لا نظير له في ذاته، ولا شريك له في أفعاله. ولا شبيه له في صفاته. كل ذلك مندمج معاً يوجه النظر الى (لم).

فهذه الجمل الست متضمنة سبع مراتب من مراتب التوحيد، كل منها نتيجة للأخرى، وبرهان لها في الوقت نفسه.

أي ان (سورة الاخلاص) تشتمل على ثلاثين سورة من سور الاخلاص سورٍٍ منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضها بعضاً.

لا يعلم الغيب الا الله.

السبب ظاهري بحت

تقتضي عزة الالوهية وعظمتها، ان تكون الاسباب الطبيعية أستاراً بين يدي قدرته تعالى أمام نظر العقل.

ويقتضي التوحيد والجلال، ان تسحب الاسبابُ الطبيعية يدَها عن التأثير الحقيقي في آثار القدرة الإلهية(1).

الوجود غير منحصر في العالم الجسماني

ان انواع الوجود المختلفة التي لا تحصى، لا تنحصر في هذا العالم، عالم الشهادة.

فالعالم الجسماني (المادي) شبيه بستار مزركش ملقىً على عوالم الغيب المنورة.

الاتحاد في قلم القدرة يعلن التوحيد

ان ظهور أثر الابداع في كل زاوية من زوايا الفطرة يردّ ـ بالبداهة - ايجاد الاسباب لها.

ان نقش القلم نفسه والقدرة عينها، في كل نقطة في الخلقة، يرفض - بالضرورة - وجود الوسائط.

لا شئ دون الاشياء كلها

ان سر التساند والترابط، المستتر في الكائنات كلها، المنتشر فيها.. وكذا انبعاث روح التجاوب والتعاون من كل جانب.. يبين:

أنه ليست الاّ قدرة محيطة بالعالم كله، تخلق الذرة وتضعها في موضعها المناسب.

فكل حرف وكل سطر من كتاب العالم، حيّ، تسوقه الحاجة، وتعرّف الواحد الآخر، فيُلبي النداء اينما انطلق.

وبسر التوحيد تتجاوب الآفاق كلها، اذ توجّه القدرة كل حرف حي الى كل جملة من جمل الكتاب وتبصّرها.

حركة الشمس للجاذبية، وهي لشدّ منظومتها

الشمس شجرة مثمرة، تنتفض لئلا تسقط ثمارها السيارات المنتشية المنجذبة اليها.. ولو سكنتْ بصمتها وسكونها لزالت الجذبةُ، وتبخرت النشوةُ، وبكتْ - شوقاً اليها - مجاذيبُها السيارات المنتظمة في الفضاء الوسيع.

الاشياء الصغيرة مربوطة بالكبيرة

ان الذي خلق عين البعوضة، هو الذي خلق الشمس ودرب التبانة.. والذي نظّم معدة البرغوث هو الذي نظّم المنظومة الشمسية.. والذي ادرج الرؤية في العين وغرز الحاجة في المعدة هو الذي كحّل عين السماء باثمد النور وبسط سفرة الاطعمة على وجه الارض.



في نظم الكون اعجاز عظيم

شاهد الاعجاز في تأليف الكون؛ فلو اصبح كلُ سببٍ من الاسباب الطبيعية فاعلاً مختاراً مقتدراً - بفرضٍ محال - لسجدتْ تلك الاسبابُ عاجزةً ذليلةً أمام ذلك الاعجاز قائلة: سبحانك.. لا قدرة فينا.. ربنا انت القدير الازلي ذو الجلال.

كل شئ امام القدرة سواء

] ما خَلْقُكُمْ ولا بَعْثُكُم الاّ كنفسٍ واحدة[

القدرة الإلهية ذاتية وأزلية لا يتخللها العجز أصلاً، فلا مراتب فيها، ولا تداخلها العوائق قطعاً، فالكل والجزء ازاءها سواء، لا يتفاوتان؛ لأن كل شئ مرتبط بالاشياء كلها.

فمن لا يقدر على خلق كل الاشياء لا يقدر على خلق شئ واحد.

مَن لم يقبـض على زمام الكون كلّه لا يقدر على خلق ذرة

ان من لا يملك قبضة قوية يرفع بها ارضنا والشموس والنجوم التي لا تحصى، ويضعها على هامة الفضاء، وفوق صدره، بانتظام واتقان، ليس له ان يدّعي الخلق والايجاد قطعاً.

احياء النوع كإحياء الفرد

كما ان إحياء ذبابة غطت في نومٍ شبيه بالموت في الشتاء، ليس عسيراً على القدرة الإلهية، كذلك احياء هذه الدنيا بعد موتها، بل احياء ذوي الارواح قاطبة، سهلٌ ويسير علىها.

الطبيعة صنعة إلهية

الطبيعة ليست طابعة، بل مطبع.. ولا نقاشة بل نقش، ولا فاعلة بل قابلة للفعل.. ولا مصدراً، بل مسطر.. ولا ناظماً بل نظام.. ولا قدرة بل قانون.

فهي شريعة ارادية، وليست حقيقة خارجية.

الوجدان يعرف الله بوَجْده ونَشوته

في الوجدان انجذاب وجذب، مندمجان فيه دوماً، لذا ينجذب، والانجذاب انما يحصل بجذبِ جاذبٍ.

وذو الشعور ينجذب انجذاباً، إذا ما بدا ذو الجمال وتجلّى ببهاء دون حُجُب.

هذه الفطرة الشاعرة تشهد شهادة قاطعة على الواجب الوجود ذي الجلال والجمال. شاهدها الاول ذلك الجذب.. والآخر ذلك الانجذاب.

شهادة الفطرة صادقة

لا كذبَ في الفطرة، فما تقوله صدق؛ فميلان النمو الكامن في النواة يقول: سأنمو وأثمر. والواقع يصدّقه.

في داخل البيضة، يقول ميلان الحياة، في تلك الاعماق: سأكون فرخاً .. ويكون باذن الله فعلاً، ويُصدّق كلامه.

واذا نوت غرفة من ماء داخل كرة من حديد الانجماد، فان ميلان انبساطها اثناء البرودة يقول: توسَّع ايها الحديد، أنا محتاج الى مكان اوسع. فيحاول الحديد الصلب الاّ يكذّبه، بل ما فيه من اخلاص وصدق الجنان يفتّت ذلك الحديد.

كلٌ ميلٍ من هذه الميول، أمرٌ تكويني، حكمٌ إلهي، شريعة فطرية، تجلٍّ للإرادة الإلهية في ادارة الاكوان.

فكلُ ميل، وكل امتثال، انقيادٌ لأمر إلهي تكويني.

فالتجلي في الوجدان جلوة كهذه، بحيث أن الانجذاب والجذبة صافيان كالمرآة المجلوة، ينعكس فيهما نور الايمان وتجلّي الجمال الخالد.

النبوة ضـرورية للبشرية

ان القدرة الإلهية التي لا تترك النمل من دون أمير، والنحل من دون يعسوب، لا تترك حتماً البشر من دون نبي، من دون شريعة.

نعم هكذا يقتضي سرٌُ نظام العالم.

المعراج معجزة للملائكة مثلما انشقاق القمر معجزة للانسان

المعراجُ ولايةٌ عظمى في نبوة مسلَّمة بها رأته الملائكة رؤية حقة كرامةً.

ركب النبي الباهر (البُراق) وغدا بَرقاً، فدار الوجود كالقمر مشاهداً عالم النور ايضاً.

فكما ان انشقاق القمر معجزةٌ حسيّة عظمى للانسان المنتشر في عالم الشهادة، فهذا المعراج ايضاً هو أعظم معجزة لساكني عالم الارواح.

كلمة الشهادة برهانها فيها

كلمتا الشهادة: كل منها شاهدة للاخرى، ودليل، وبرهان.

فالأولى: برهان لِمّي للثانية، والثانية: برهان إنّي للاولى(1).

الحياة طراز من تجلّي الوحدة

الحياة نور الوحدة.

فالتوحيد يتجلى بالحياة في هذه الكثرة.

نعم! ان تجلّياً من تجليات الوحدة يجعل الكثرة الكاثرة من الموجودات، وجوداً واحداً؛ لأن الحياة تجعل الشئ الواحد مالكاً لكل شئ.. بينما كل الاشياء عند فاقد الحياة عدم.

الروح قانون اُلبس وجوداً خارجياً

الروح قانون نوراني، وناموس اُلبس وجوداً خارجياً. اُودع فيه الشعور.

فهذا الروح الموجود - وجوداً خارجياً - وذاك القانون المعقول - المدرك عقلاً - اصبحا اخوين وصديقين.

اذ هذا الروح آتٍ من عالم الأمر، ومن صفة الارادة، كالقوانين الفطرية الثابتة الدائمة.

وان القدرة الإلهية تكسو الروحَ وجوداً حسياً، وتودع فيه الشعور، فتجعل سيالة لطيفة صَدَفة لذلك الجوهر.

ولو ألبست قدرةُ الخالق القوانينَ الجارية في الانواع، وجوداً خارجياً، لأصبح كل منها روحاً. ولو نزع الروحُ هذا الوجودَ، وطرح عنه الشعور، لأصبح قانوناً باقياً.

الوجود بلا حياة كالعدم

الضياء والحياة، كلاهما كشّافان للموجودات.

ان لم يكن هناك نور الحياة، فالوجود معرّض للعدم، بل هو كالعدم.

نعم! إن ما لا حياة فيه غريب، يتيم، حتى لو كان قمراً.

النملة بالحياة اكبر من الارض

اذا وازنت النملة بميزان الوجود، فالكون الذي تنطوي عليه النملة بسر الحياة، لا تسعه كرتنا الارضية.

فلو قارنا هذه الكرة الارضية - التي اراها حية ويراها البعض ميتة - مع النملة، فانها لا تعدل نصف رأس هذا الكائن المجهز بالشعور.

النصرانية ستسلِّم أمرها للاسلام

ستجد النصرانية امامها الانطفاء أو الاصطفاء. وسوف تلقي السلاح وتستسلم للاسلام. لقد تمزقت عدة مرات، حتى آلت الى (البروتستانتية) ولم تسعفـها كذلك، وتمـزق الستار مرة اخرى، فوقعت في ضلالة مطلقة. الاّ أن قسماً منها اقترب مـن التوحيد، وسيجد فيه الفلاح. وهي الآن على وشك التمزق(1)، ان لم تنطفىء فانها تتصفّى وتكون ملك الاسلام (اذ تجد نفسها امام الحقائق الاسلامية الجامعة لاسس النصرانية الحقيقية).

هذا سر عظيمٌ اشار اليه الرسول الكريم e بنزول عيسى عليه السلام، وأنه سيكون من امته ويعمل بشريعته.

النظر التقليدي يرى المحال ممكناً

لقد اشتهرت حادثة: انه بينما كان الناس يراقبون هلال العيد، ولم ير أحد شيئاً،اذا بشيخ هرم يحلف أنه قد رأى الهلال، ثم تبين ان ما رآه لم يكن هلالاً بل شعرة بيضاء تقوست من اهدابه. فاصبحت تلك الشعرة هلالاً له. فأين تلك الشعرة المقوسة من الهلال؟.

فهلا فهمت هذا الرمز!

لقد أصبحت حركات الذرات شعرات مظلمة لأهداب العقل، أسدلت على البصر المادي واعمته، فلم يعد يرى الفاعلَ لتشكيل الانواع كلها. وهكذا تقع الضلالة.

فأين حركات الذرات من نظّام الكون؟.

ان توهم صدور تلك الانواع من تلك الحركات محال في محال.

القرآن لا يحتاج الى وكيل بل الى مرآة

ان ما في المصدر من قدسية هي التي تحض جمهور الأمة والعوام على الطاعة وتسوقهم الى امتثال الاوامر اكثر من قوة البرهان.

ان تسعين بالمئة من احكام الشريعة مسلَّمات وضروريات دينية، شبيهة باعمدة من الالماس، أما المسائل الاجتهادية الخلافية الفرعية، فلا تبلغ الاّ عشرة بالمئة. فلا ينبغي ان يكون تسعون عموداً من الالماس تحت حماية عشرة منها من ذهب، ولا تابعة لها.

ان معدن اعمدة الالماس وكنزها: الكتاب والسنة. فهي ملكهما ولا تُطلب الاّ منهما.

اما الكتب الاخرى والاجتهادات فينبغي ان تكون مرايا عاكسة للقرآن أو مناظير اليه ليس الاّ. اذ إن تلك الشمس المنيرة المعجزة لا ترضى لها ظلاً ولا وكيلاً.

المبُطل يأخذ الباطل بظن الحق

ان الانسان يقصد الحق ويتحراه دوماً، لما يحمل من فطرة مكرّمة، وقد يعثر على باطل فيظنه حقاً ويحافظ عليه، وقد يقع عليه الضلالُ من دون اختيار وهو ينقّب عن الحقيقة، فيظنه حقاً ويصدّقه.

مرايا القدرة كثيرة

ان مرايا القدرة الإلهية كثيرة جداً، كلٌ منها يفتح نوافذ أشفّ وألطف من الاخرى الى عالم من عوالم المثال.

فابتداءً من الماء الى الهواء، ومن الهواء الى الاثير، ومن الاثير الى عالم المثال، ومن عالم المثال الى عالم الارواح، ومن عالم الارواح الى الزمان، ومن الزمان الى الخيال، ومن الخيال الى الفكر، كلها مرايا متنوعة تتمثل فيها الشؤون الإلهية السيالة. فتأمل باُذنك في مرآة الهواء ترَ الكلمة الواحدة تصبح مليوناً من الكلمات.

هكذا يسطّر قلمُ القدرة الإلهية سرّ هذا التناسل والاستنساخ العجيب.





اقسام التمثلات مختلفة

ينقسم التمثل في المرآة الى اربع صور:

فإما أنها صورة تمثل الهوية فحسب، او تمثل معها الخاصية، او تمثل الهوية ونور الماهية، أو ماهية الهوية.

فان شئت مثالاً، فدونك الانسان والشمس، والمَلَك والكلمة.

ان تمثلات الكثيف تصبح امواتاً متحركة في المرآة.

وتمثلات روح نورانية في مراياها كل منها حية مرتبطة، ونور منبسط. ان لم يكن عينه فليس هو غيره.

فلو كانت للشمس حياة، لكانت حرارتُها حياتها، وضياؤها شعورَها.فصورتُها المنعكسة في المرآة تملك هذه الخواص.

فهذا هو مفتاح هذه الاسرار:

ان جبرائيل عليه السلام وهو في سدرة المنتهى يتمثل في صورة دحية الكلبي في المجلس النبوي وفي اماكن اخرى كثيرة.

وان عزرائيل يقبض الارواح في مكان وفي اماكن كثيرة لا يعلمها الاّ الله.

وان الرسول e يظهر لأمته في وقت واحد، في كشف الاولياء، وفي الرؤى الصادقة، ويقابلهم جميعاً بشفاعته لهم يوم القيامة يوم الحشر الاعظم. وأن الابدال في الاولياء يظهرون هكذا في اماكن عدة في آن واحد.

قد يكون المستعد مجتهداً لا مشرعاً

كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد وحائز على شروطه، له أن يجتهد لنفسه في غير ما ورد فيه النص، من دون أن يلزم الاخرين به، اذ لا يستطيع أن يشرّع ويدعو الامة الى مفهومه. اذ فهمه يُعدّ من فقه الشريعة ولكن ليس الشريعة نفسها، لذا ربما يكون الانسان مجتهداً ولكن لا يمكن ان يكون مشرّعاً. فالدعوة الى اي فكر كان مشروطة بقبول جمهور العلماء له، والاّ فهو بـدعـة مـردودة. تنحصر بصاحبها ولا تتعداه. لأن الإجماع وجمهور الفقهاء هم الذين يميزون ختم الشريعة عليه.



نور العقل يشعّ من القلب

على المفكرين الذين غشيَهم ظلامٌ ان يدركوا الكلام الآتي:

لا يتنور الفكر من دون ضياء القلب.

فإن لم يمتزج ذلك النور وهذا الضياء، فالفكر ظلامٌ دامس يتفجّر منه الظلم والجهل. فهو ظلام قد لبس لبوس النور (نور الفكر) زوراً وبهتاناً.

ففي عينك نهار لكنه بياض مظلم، وفيها سواد لكنه منور.

فان لم يكن فيها ذلك السواد المنور، فلا تكون تلك الشحمة عيناً، ولا تقدر على الرؤية.

وهكذا، لا قيمة لبصر بلا بصيرة.

فإن لم تكن سويداء القلب في فكرة بيضاء ناصعة، فحصيلةُ الدماغ لا تكون علماً ولا بصيرة.

فلا عقل دون قلب.

مراتب العلم في الدماغ مختلفة وملتبسة

في الدماغ مراتب، يلتبس بعضها ببعض، احكامها مختلفة.

يحصل التخيل اولاً، ثم يأتي التصور، ثم يرد التعقل، ثم التصديق، ثم يصبح اذعاناً ثم يأتي الالتزام، ثم الاعتقاد. فاعتقادك بشئ غير التزامك به.

وعن كلٍ من هذه المراتب تصدر حالة:

فالصلابة تصدر عن الاعتقاد، والتعصب عن الالتزام، والامتثال عن الاذعان، والالتزام عن التصديق، ويحصل الحياد في التعقل، والتجرد في التصور، والسفسطة في التخيل إن عجز عن المزج.

إن تصوير الامور الباطلة تصويراً جيداً جرحٌ للاذهان الصافية واضلال لها.

لا يُلقَّن مالا يُستوعب من علم

ان العالم المرشد الحقيقي يهب للناس علمه في سبيل الله دون انتظار عوض ويصبح كالشاة لا كالطير، فالشاة تُطعم بَهْمتها لبناً خالصاً والطير تلقم فراخها قيئها الملئ باللعاب.



التخريب أسهل والــضعيف يكون مخرّباً

ان وجود الشئ يتوقف على وجود جميع اجزائه، بينما عدمه يحصل بانعدام جزءٍ منه، لذا يكون التخريب أسهل .

ومن هنا يميل الضعيفُ العاجز الى التخريب وارتكابِ اعمال سلبية تخريبية. بل لا يدنو من الايجابية ابداً.

ينبغي للقوة ان تخدم الحق

ان لم تمتزج دساتير الحكمة ونواميس الحكومة وقوانين الحق وقواعد القوة بعضها ببعض ولم يستمد كل من الآخر ولم يستند اليه، فلا تكون مثمرة ولا مؤثرة لدى جمهور الناس. فتُهمَل شعائر الشريعة وتعطّل، فلا يستند اليها الناس في امورهم ولا يثقون بها.

الشئ يتـضمن ضـدَّه احياناً

سيكون زمان يُخفي الضدُّ ضدَّهُ، واذا باللفظ ضد المعنى في لغة السياسة. واذا بالظلم(1) يلبس قلنسوة العدالة، واذا بالخيانة ترتدي رداء الحمية بثمن زهيد. ويُطلق اسم البغي على الجهاد في سبيل الله ويسمّى الأسر الحيواني والاستبداد الشيطاني حرية.

وهكذا تتماثل الاضداد، وتتبادل الصور، وتتقابل الاسماء، وتتبادل المقامات المواضعَ.

السياسة الدائرة على المنفعة وحش رهيب

ان السياسة الحاضرة الدائرة رحاها على المنافع وحشٌ رهيبٌ، فالتودد الى وحش جائع لا يدرّ عطفه بل يثير شهيته، ثم يعود ويطلب منك اجرة انيابه واظفاره!

تتعاظم جناية الانسان لعدم تحدد قواه

ان القوى المودعة في الانسان لم تُحدد فطرةً خلافاً للحيوان، فالخير والشر الصادران عنه لا يتناهيان. فاذا ما اقترن غرورٌ من هذا وعنادٌ من ذاك، يولدان ذنباً عظيما(2) الى حد لم يعثر له البشر على إسم. ان هذا دليل على وجود جهنم، اذ لا جزاء له الاّ النار.

ومثلاً: يتمنى احدُهم أن تحل بالمسلمين مصيبة كي يظهر صدق كلامه وصواب تنبؤه!!.

ولقد أظهر هذا الزمان ايضاً: ان الجنة غالية ليست رخيصة وان جهنم ليست زائدة عن الحاجة.

رُبَّ خير يكون وسيلة لشر

ان المزية التي يتحلّى بها الخواص، في الحقيقة سبب لدفعهم الى التواضع وانكار الذات. ولكن مع الاسف اصبحت وسيلة للتحكم بالآخرين والتكبر عليهم.

وكذلك عجز الفقراء وفقر العوام، هما داعيان في الحقيقة للاشفاق عليهم، ولكن مع الاسف انجرا - في الوقت الحاضر - الى سوقهم الى الذل والأسر.

لو حصل شرف ومحاسن في شئٍ ما، فانه يُسند الى الخواص والرؤساء. أما ان حصلت منه السيئات والشرور فانه توزع على الافراد والعوام.

فالشرف الذي نالته العشيرة الغالبة يقابل بـ: احسنت يا شيخ العشيرة!

ولكن لو حصل العكس فيقال: سحقاً لافرادها

وهذا هو الشر المؤلم في البشر!



ان لم تكن للجماعة غاية وهدف فالانانية تقوى

ان لم يكن لفكر الجماعة غاية وهدف مثالي، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت، تحولت الاذهان الى انانيات الافراد وحامت حولها.

اي: يتقوى (أنا) كل فرد، وقد يتحدد ويتصلب حتى لا يمكن خرقه ليصبح (نحن) فالذين يحبون (أنا) أنفسهم لا يحبون الآخرين حباً حقيقياً.

انتعاش الاضـطرابات بموت الزكاة وحياة الربا

ان معدن جميع انواع الاضطرابات والقلاقل والفساد واصلها، وان محرك جميع انواع السيئات والاخلاق الدنيئة ومنبعها كلمتان اثنتان أو جملتان فقط:

الكلمة الاولى: اذا شبعتُ انا فمالي إن مات غيري من الجوع.

الكلمة الثانية: تحمّل انتَ المشاق لأجل راحتي، اعمل انت لآكل أنا. لك المشقة وعليّ الاكل.

والداء الشافي الذي يستأصل شأفة السم القاتل في الكلمة الاولى هو: الزكاة، التي هي ركن من اركان الاسلام.

والذي يجتث عرق شجرة الزقوم المندرجة في الكلمة الثانية هو: تحريم الربا.

فان كانت البشرية تريد صلاحاً وحياة كريمة فعليها ان تفرض الزكاة وترفع الربا.

على البشرية قتل جميع انواع الربا ان كانت تريد الحياة

لقد انقطعت صلة الرحم بين طبقة الخواص والعوام. فانطلقت من العوام اصداء الاضطرابات وصرخات الانتقام،ونفثات الحسد والحقد. ونزلت من الخواص على العوام نار الظلم والاهانة وثقل التكبر ودواعي التحكم.

بينما ينبغي ان يصعد من العوام: الطاعة والتودد والاحترام والانقياد، بشرط ان ينزل عليه من الخواص: الاحسان والرحمة والشفقة والتربية.

فان ارادت البشرية دوام الحياة فعليها ان تستمسك بالزكاة وتطرد الربا.

اذ إن عدالة القرآن واقفة بباب العالم وتقول للربا: (ممنوع، لا يحق لك الدخول ارجع!).

ولكن البشرية لم تصغ الى هذا الأمر، فتلقّت صفعة قوية(1). وعليها ان تصغي اليه قبل أن تتلقى صفعة اخرى أقوى وأمرّ.

لقد كسر الانسان قيد الأسر وسيكسر قيد الأجر

لقد قلتُ في رؤيا:

ان الحروب الطفيفة بين الدول والشعوب تتخلى عن مواضعها الى صراعات اشد ضرواة بين طبقات البشر؛ لأن الانسان لم يرض في ادواره التاريخية بالأسر، بل كسر الاغلال بدمه. ولكن الآن اصبح أجيراً يتحمل أعباءه، وسيكسرها يوماً ما.

لقد اشتعل رأس الانسان شيباً، بعد أن مرّ بادوار خمسة:

الوحشية والبداوة والرق وأسر الاقطاع، وهو الآن أجير. هكذا بدأ وهكذا يمضي.

الطريق غير المشروع يؤدي الى خلاف المقصود

( القاتل لا يرث)(1) دستور عظيم

ان الذي يسلك طريقاً غير مشروع لبلوغ مقصده، غالباً ما يجازى بخلاف مقصوده.. فمحبة اوروبا غير المشروعة وتقليدها والألفة بها كان جزاؤها العداء الغادر من المحبوب! وارتكاب الجرائم.

نعم، فالفاسق محروم لا يجد لذةً ولا نجاة.

في الجبرية والمعتزلة حبة من حقيقة

يا طالب الحقيقة!

ان الشريعة تنظر الى الماضي والى المصيبة غير نظرتها الى المستقبل والى المعصية.

اذ تنظر الى الماضي والى المصائب بنظر القدر الإلهي، فالقول هنا للجبرية.

اما المستقبل والمعاصي فتنظر اليهما بنظر التكليف الإلهي، فالقول هنا للمعتزلة. وهكذا تتصالح الجبرية والمعتزلة.

ففي هذه المذاهب الباطلة تندرج حبة من حقيقة، لها محلها الخاص بها، وينشأ الباطل من تعميمها.

العجز والجزع شأن الـضعفاء

ان رمت الحياة، فلا تتشبث بالعجز فيما يمكن حلّه.

وان رمت الراحة فلا تستمسك بالجزع فيما لا علاج له.

قد يؤدي الشئ الصغير الى عظائم الامور

ستكون هناك احوال، بحيث ان حركة بسيطة عندها تسمو بالانسان الى اعلى عليين.

وكذا تحدث حالات، بحيث أن فعلاً بسيطاً يردي بصاحبه الى اسفل سافلين.

آن واحد يعدل سنة عند بعـضهم

فطرة الانسان قسمان: قسم يسطع في الحال، وقسم آخر يتألق بالتدرج، ويسمو رويداً رويداً.

فطبيعة الانسان تشبه كليهما معاً. وهي تتبدل حسب الشروط والاحوال.

فتمضي احياناً بشكل تدريجي، واحياناً تتفجر ناراً مضيئة تفجر البارود الاسود.

ورب نظرة تحول الفحم ألماساً.

وربّ مسّ يحول الحجر اكسيراً.

فنظرة من النبي e يقلب الاعرابي الجاهل عارفاً بالله منوراً في الحال.

وان سألت ميزاناً، فدونك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الاسلام وبعده.

ومثالهما: البذرة والشجرة التي اعطت ثمارها اليانعة دفعة واحدة.

فحوّل ذاك النظر النبوي وهمّته الفطرَ المتفحمة

في الجزيرة العربية الى ألماسات لامعات.

وتحولت السجايا المظلمة المحرقة - كالبارود الاسود - الى خصال فاضلة نيّرة.

الكذب لفظ كافر

حبة واحدة من صدق تبيد بيدراً من الاكاذيب.

ان حقيقة واحدة تهدم صرحاً من خيال.

فالصدق اساس عظيم وجوهر ساطع،

وربما يتخلى عن مكانه للسكوت، ان كان فيه ضرر، ولكن لا موضع للكذب قطعاً، مهما يكن فيه من فائدة ونفع.

ليكن كلامك كله صدقاً ولتكن احكامك كلها حقاً،

ولكن عليك أن تدرك هذا: انه لاحق لك أن تبوح بالصدق كله.

اتخذ هذه القاعدة دستوراً لك:

(خذ ما صفا دع ما كدر). فانظر بُحسن وشاهد بُحسن ليكون فكرك حسناً، وظُن ظناً حسناً، وفكّر حسناً لتجد الحياة اللذيذة الهانئة.

ان الامل المندرج في حسن الظن ينفخ الحياة في الحياة،

بينما اليأس المخبوء في سوء الظن ينخر سعادة الانسان ويقتل الحياة.

مجلس في عالم المثال

(موازنة بين الحضارة الحاضرة والشريعة الغراء، والدهاء العلمي والهدى الإلهي)

ابان الهدنة، نهاية الحرب العالمية الاولى، وفي ليلة من ليالي الجمعة، دخلت مجلساً مهيباً في عالم المثال، وذلك في رؤيا صادقة، فسألوني:

- ماذا سيحدث لعالم الاسلام عقب هذه الهزيمة؟

اجبت بصفتي ممثلاً عن العصر الحاضر، وهم يستمعون اليّ:

- ان هذه الدولة التي اخذت على عاتقها - منذ السابق - حماية استقلال العالم الاسلامي، واعلاء كلمة الله بالقيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء عن العالم الاسلامي الذي هو كالجسد الواحد حاملة راية الخلافة، اقول: ان هذه الدولة، وهذه الامة الاسلامية، ستعوّض عن هذا البلاء الذي أصابها، سعادة يرفل بها العالم الاسلامي، وحرية يتمتع بها، وستتلافى المصائب والاضرار الماضية، فالذي يكسب ثلاثمائة بدفع ثلاثٍ لا شك انه غير خاسر، وذو الهمة يبدل حاله الحاضرة الى مستقبل زاهر. فهذه المصيبة قد بعثت الشفقة والاخوة والترابط بين المسلمين بعثاً خارقاً.

ان تنامي الاخوة بين المسلمين يُسرع في هزّ المدنية الحاضرة ويقرب دمارها، وستتبدل صورة المدنية الحاضرة، وسيقوض نظامها. وعندها تظهر المدنية الاسلامية، وسيكون المسلمون اول من يدخلونها بارادتهم.

وان اردت الموازنة بين المدنية الشرعية والمدنية الحاضرة، فدقق النظر في اسس كلٍ منهما ثم انظر الى آثارهما.

ان اسس المدنية الحاضرة سلبية، وهي اسس خمسة، تدور عليها رحاها.

فنقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض، ومن هذا تنشأ الخيانة.

هدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة: التزاحم والتخاصم، ومن هذا تنشأ الجناية.

دستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام: التنازع والتدافع، ومن هذا تنشأ السفالة.

رابطتها الاساس بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها، وتتقوى بابتلاع الآخرين وشأن القومية السلبية والعنصرية: التصادم المريع، وهو المشاهد. ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك.

وخامستها: هي ان خدمتها الجذابة، تشجيع الاهواء والنوازع، وتذليل العقبات امامهما، واشباع الشهوات والرغبات. وشأن الاهواء والنوازع دائماً: مسخ الانسان، وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الانسانية وتمسخ مسخاً معنوياً.

ان معظم هؤلاء المدنيين، لو قلبتَ باطنهم على ظاهرهم، لرأيت في صورتهم سيرة القرد والثعلب والثعبان والدب والخنزير.

نعم! ان خيالك ليمس فراء تلك الحيوانات وجلودها.. وآثارهم تدل عليهم.

انه لا ميزان في الارض غير ميزان الشريعة. انها رحمة مهداة نزلت من سماء القرآن العظيم.

أما اسس مدنية القرآن الكريم، فهي ايجابية تدور سعادتها على خمسة اسس ايجابية.

نقطة استنادها: الحق بدل القوة، ومن شأن الحق دائماً: العدالة والتوازن. ومن هذا ينشأ السلام ويزول الشقاء.

وهدفها: الفضيلة بدل المنفعة، وشأن الفضيلة: المحبة والتقارب، ومن هذا تنشأ السعادة وتزول العداوة.

دستورها في الحياة: التعاون بدل الخصام والقتال، وشأن هذا الدستور: الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات.

وخدمتها للمجتمع: بالهدى بدل الاهواء والنوازع، وشأن الهدى: الارتقاء بالانسان ورفاهه الى ما يليق به مع تنوير الروح ومدّها بما يلزم.

رابطتها بين المجموعات البشرية: رابطة الدين والانتساب الوطني وعلاقة الصنف والمهنة واخوة الايمان. وشأن هذه الرابطة: اخوة خالصة، وطرد العنصرية والقومية السلبية.

وبهذه المدنية يعم السلام الشامل، اذ هو في موقف الدفاع ضد اي عدوان خارجي.

والآن! ندرك لِمَ اعرض العالم الاسلامي عن المدنية الحاضرة، ولم يقبلها، ولم يدخل المسلمون فيها بارادتهم.

انها لا تنفعهم، بل تضرهم. لانها كبّلتهم بالاغلال، بل صارت سماً زعافاً للانسانية بدلاً من ان تكون لها ترياقاً شافياً؛ اذ ألقت ثمانين بالمائة من البشرية في شقاء، لتعيش عشرة بالمائة منها في سعادة مزيفة. اما العشرة الباقية فهم حيارى بين هؤلاء وهؤلاء.

وتتجمع الارباح التجارية بايدي أقلية ظالمة، بينما السعادة الحقة، هي في اسعاد الجميع، أو في الأقل ان تصبح مبعث نجاة الاكثرية.

والقرآن الكريم النازل رحمة للعـالمين لا يقبل الاّ طرازاً من المدنية التي تمنح السعادة للجميع او الاكثرية، بينما المدنية الحاضرة قد اطلقت الاهواء والنوازع من عقالها، فالهوى حر طليق طلاقة البهائم، بل اصبح يستبد، والشهوة تتحكم، حتى جعلتا الحاجات غير الضرورية في حكم الضرورية. وهكذا مُحيت راحة البشرية؛ اذ كـان الانسان في البداوة محتاجاً الى اشياء اربعة، بينما، افقرته المدنية الحاضرة الآن وجعلته في حاجة الى مائة حاجة وحاجة. حتى لم يعد السعي الحـلال كافياً لسد النفقات، فدفعت المدنية البشرية الى ممارسة الخداع والانغماس فـي الحرام. ومن هنا فسدت اسس الاخلاق، اذ أحاطت المجتـمع والبشرية بهالة من الهيبة ووضعت في يدها ثروة الناس فاصبح الفرد فقيراً وفاقداً للأخلاق.

والشاهد على هذا كثير، حتى ان مجموع ما ارتكبته البشرية من مظالم وجرائم وخيانات في القرون الاولى قاءتها واستفرغتها هذه المدنية الخبيثة مرة واحدة. وسوف تصاب بالمزيد من الغثيان في قابل أيامها(1) ومن هنا ندرك لِمَ يتوانى العالم الاسلامي في قبولها ويتحرج. ان استنكافه منها له مغزى، يلفت النظر.

نعم! ان النور الإلهي في الشريعة الغراء يمنحها خاصة مميزة وهي: الاستقلال الذي يؤدي الى الاستغناء.

هذه الخاصية لا تسمح ان يتحكم في ذلك النور دهاء(1) روما - الممثل لروح هذه المدنية - ولا يطعّم بها ولا يمتزج معها. ولن تكون الشريعة تابعة لذلك الدهاء.

اذ الشريعة تربي في روح الاسلام الشفقة وعزة الايمان. فلقد اخذ القرآن بيده حقائق الشريعة. كل حقيقة منها عصا موسى (في تلك اليد). وستسجد له تلك المدنية الساحرة سجدة تبجيل واعجاب.

والآن دقق النظر في هذا:

كانت روما القديمة واليونان يملكان دهاءً، وهما دهاءان توأمان، ناشئان من أصل واحد. احدهما غلب الخيال عليه. والآخر عبد المادة. ولكنهما لم يمتزجا، كما لا يمتزج الدهن بالماء. فحافظ كل منهما على استقلالها، رغم مرور الزمان، ورغم سعي المدنية لمزجهما، ومحاولة النصرانية لذلك. الاّ ان جميع المحاولات باءت بالاخفاق.

والآن، بدلت تلكما الروحان جسديهما، فاصبح الألمان جسد احدهما والفرنسيون جسد الآخر. وكأنهما قد تناسخا منهما.

ولقد أظهر الزمان: ان ذينك الدهاءين التوأمين قد ردّا أسباب المزج بعنف، ولم يتصالحا الى الوقت الحاضر.

فلئن كان التوأمان، الصديقان، الاخوان الرفيقان في الرقي قد تصارعا ولم يتصالحا، فكيف يمتزج هدى القرآن - وهـو من اصل مغاير ومعــدن آخر ومطلع مختلف - مع دهاء روما وفلسفتها؟! فذلك الدهاء، وهذا الهدى مختلفان في المنشأ.

الهدى نزل من السماء.. والدهاء خرج من الارض.

الهدى فعّال في القلب، يدفع الدماغ الى العمل والنشاط. بينما الدهاء فعال في الدماغ، ويعكرّ صفو القلب ويكدّره.

الهدى ينور الروح حتى تثمر حباتها سنابل، فتتنور الطبيعة المظلمة، وتتوجه الاستعدادات نحو الكمال. ولكن يجعل النفس الجسمانية خادمة مطيعة. فيضع في سيماء الانسان الساعي الجاد صورة المَلَك.

أما الدهاء فيتوجّه مقدماً الى النفس والجسم ويخوض في الطبيعة، ويجعل النفس المادية مزرعة لإنماء الاستعداد النفساني وترعرعه. بينما يجعل الروح خادمة، حتى تتيبس بذورها وحباتها، فيضع في سيماء الانسان صورة الشيطان.

الهدى يمنح السعادة لحياة الانسان في الدارين وينشر فيهما النور والضياء، ويدفع الانسان الى الرقي. اما الدهاء الاعور كالدجال، فيفهم الحياة انها دار واحدة فحسب، لذا يدفع الانسان ليكون عبد المادة، متهالكاً على الدنيا حتى يجعله وحشاً مفترساً.

نعم! ان الدهاء يعبد الطبيعة الصماء، ويطيع القوة العمياء.

أما الهدى فانه يعرف الصنعة المالكة للشعور، ويقدّر القدرة الحكيمة.

الدهاء يسدل على الارض ستار الكفران.. والهدى ينثر عليها نور الشكر والامتنان.

ومن هذا السر: فالدهاء أعمى أصم.. والهدى سميع بصير.

اذ في نظر الدهاء: لا مالك للنعم المبثوثة على الارض ولا مولى يرعاها، فيغتصبها دون شكران، اذ الاقتناص من الطبيعة يولد شعوراً حيوانياً.

أما في نظر الهدى فان النعم المبسوطة على الارض هي ثمرات الرحمة الإلهية، وتحت كلٍ منها يد المحسن الكريم. مما يحض الانسان على تقبيل تلك اليد بالشكر والتعظيم.

زد على ذلك:

فمما ينبغي الاّ ننكر ان في المدنية محاسن كثيرة، الاّ انها ليست من صنع هذا العصر، بل هي نتاج العالم وملك الجميع، اذ نشأت بتلاحق الافكار وتلاقحها، وحث الشرائع السماوية - ولا سيما الشريعة المحمدية - وحاجة الفطرة البشرية. فهي بضاعة نشأت من الانقلاب الذي احدثه الاسلام. لذا لا يتملكها احدٌ من الناس.

وهنا عاد رئيس المجلس فسأل قائلاً:

يا رجل هذا العصر! ان البلاء ينزل دوماً نتيجة الخيانة، وهو سبب الثواب. ولقد صفع القدر صفعته ونزل القضاء بهذه الامة. فبأىٍ من اعمالكم قد سمحتم للقضاء والقدر حتى أنزل القضاء الإلهي بكم البلاء ومسّكم الضر؟ فان سبب نزول المصائب العامة هو خطأ الاكثرية من الناس.

قلت:

ان ضلال البشرية وعنادها النمرودي وغرورها الفرعوني، تضخّم وانتفش حتى بلغ السماء ومسّ حكمة الخلق، وأنزل من السموات العلا ما يشبه الطوفان والطاعون والمصائب والبلايا.. تلك هي الحرب العالمية الحاضرة. اذ أنزل الله سبحانه لطمة قوية على النصارى بل على البشرية قاطبة. لأن أحد أسبابها التي يشترك فيها الناس كلهم هو الضلال الناشئ من الفكر المادي، والحرية الحيوانية، وتحكّم الهوى.

أما ما يعود الينا من سبب فهو:

اهمالنا اركان الاسلام وتركنا الفرائض؛ اذ طلب منا سبحانه وتعالى ساعة واحدة من اربع وعشرين ساعة، طلبها لأجلنا نحن، لأداء الصلوات الخمس، فتقاعسنا عنها. واهملناها غافلين، فجازانا بتدريب شاق دائم لأربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات، أي أرغمنا على نوع من الصلاة!

وانه سبحانه طلب منا شهراً من السنة نصوم فيه رحمة بأنفسنا. فعزّت علينا نفوسُنا فأرغمنا على صوم طوال خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا.

وانه سبحانه طلب منا الزكاة عُشراً أو واحداً من اربعين جزءاً من ماله الذي اعطاه لنا، فبخلنا وظلمنا وخلطناه بالحرام، ولم نعطها طوعاً. فأرغمنا على دفع زكاة متراكمة. وانقذنا من الحرام، فالجزاء من جنس العمل.

ان العمل الصالح نوعان:

احدهما: ايجابي واختياري.

والآخر: سلبي واضطراري.

فالآلام والمصائب كلها اعمال صالحة سلبية اضطرارية، كما ورد في الحديث الشريف وفيه سلواننا وعزاؤنا.

ولهذا، فلقد تطهرت هذه الامة المذنبة وتوضأت بدمها. وتابت توبة فعلية.

وكان ثوابها العاجل رفع خُمس هذه الامة العثمانية - اي اربعة ملايين من الناس - الى مرتبة الولاية ومنحهم درجة الشهادة والمجاهدين.. هكذا كفّر عن الذنوب.

استحسن مَن في المجلس الرفيع المثالي هذا الكلام.

وانتبهتُ من نومي، بل قد نمتُ مجدداً باليقظة. لأنني اعتقد ان اليقظة رؤيا والرؤيا نوع من اليقظة.

سعيد النورسي هنا

عبدالرزاق 02-02-2011 12:14 PM

رد: الكلمات
 
ممثل العصر هناك

***

اذا تسلَّم الجهلُ المجازَ حوّله الى حقيقة

اذا وقع المجاز من يد العلم الى يد الجهل ينقلب حقيقة ويفتح ابواباً الى الخرافات. فلقد رأيتُ ايام صباي خسوف القمر، سألتُ والدتي عن السبب، فقالت: ابتلعه الثعبان. قلت: لِمَ يشاهد اذن؟. قالت: الثعابين هناك نصف شفافة!

وهكذا ظُن المجاز حقيقة. اذ يخسف القمر بأمر إلهي بحيلولة الارض بين الشمس والقمر وعند نقطتي تقاطع مدارهما وهما الرأس والذنب.

وقد اطلق على ذينك القوسين الموهومين اسم (التنين) اي الثعبان ولكن الاسم الذي اطلق حسب تشبيه خيالي تحوّل الى مسمىً (حقيقي).

المبالغة ذم ضـمني

اذا وصفت شيئاً فصفْه على ما هو عليه. اعتقد ان المبالغة في المدح ذم ضمني. لا احسان اكثر من الاحسان الإلهي.

الشهرة ظالمة

الشهرة مستبدة متحكمة، اذ تُمَلِّكُ صاحبَها مالا يملِكْ

فالخواجة نصر الدين (جحا) لا يملك من لطائفه المنتشرة غير العُشر.

وهالة الخيال التي وضعت حول رستم السيستاني قد أغارت على مفاخر ايران لعصر كامل. فلقد انتعش الغصب وتضخم ذلك الخيال، حتى اختلط بالخرافات والقى الانسان فيها.



***



الذين يعزلون الدين عن الحياة يردون المهالك

ان خطأ (تركيا الفتاة)(1) نابع من عدم معرفتهم أن الدين اساس الحياة. فظنوا ان الامة شئ والاسلام شئ آخر؛ وهما متمايزان! ذلك لأن المدنية الحاضرة. اوحت بذلك واستولت على الافكار بقولها: أن السعادة هي في الحياة نفسها. الاّ ان الزمان أظهر الآن أن نظام المدنية فاسد ومضرّ(2). والتجارب القاطعة اظهرت لنا: أن الدين حياة للحياة ونورها واساسها.

احياء الدين احياء لهذه الأمة. والاسلام هو الذي ادرك هذا.

ان رقي امتنا هو بنسبة تمسكها بالدين، وتدنيها هو بمقدار اهمالها له، بخلاف الدين الآخر. هذه حقيقة تاريخية، قد تنوسيت.

***

الموت ليس مرعباً كما يُتوهم

الموت تبديل مكان وتحويل موضع وخروج من سجن الى بستان. فليطلب الشهادة من يريد الحياة . والقرآن الكريم ينص على حياة الشهيد.

الشهيد الذي لم يذق ألم السكرات يُعدّ نفسه حياً. وهو يرى نفسه هكذا، الاّ أنه يجد حياته الجديدة نزيهة طاهرة اكثر من قبل، فيعتقد انه لم يمت. والنسبة بين الاموات والشهداء شبيهة بالمثال الآتي:

رجلان يتجولان في الرؤيا في بستان زاهر جامع لأنواع اللذائذ.

احدهما يعرف ان الذي يراه هو رؤيا، لذا لا يستمتع كثيراً، وربما يتحسر. والآخر يظن ان ما يراه في الرؤيا حقيقة في عالم اليقظة فيستمتع ويتلذذ حقيقة.

الرؤيا ظلُ عالم المثال، وعالم المثال ظلُ عالم البرزخ، ومن هنا تتشابه دساتير هذه العوالم.

السياسة الحاضـرة شيطان في عالم الافكار ينبغي الاستعاذة منها

ان سياسة المدنية الحاضرة تضحي بالاكثرية في سبيل الاقلية، بل تضحي قلةٌ قليلة من الظلمة بجمهور كبير من العوام في سبيل مقاصدها.

اما عدالة القرآن الكريم، فلا تضحى بحياة برئ واحد، ولا تهدر دمه لأي شئ كان، لا في سبيل الاكثرية، ولا لأجل البشرية قاطبة. اذ الآية الكريمة ] مَن قَتَل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الارض فكأنما قَتَل الناسَ جميعاً[ (المائدة: 32) تضع سرّين عظيمين امام نظر الانسان:

الاول: العدالة المحضة، ذلك الدستور العظيم الذي ينظر الى الفرد والجماعة والشخص والنوع نظرة واحدة، فهم سواء في نظر العدالة الإلهية مثلما انهم سواء في نظر القدرة الإلهية. وهذه سنة دائمة. الاّ ان الشخص يستطيع - برغبة من نفسه - ان يضحي بنفسه، من دون ان يُضحّى به قطعاً، حتى في سبيل الناس جميعاً. لأن ازهاق حياته وازالة عصمته وهدر دمه بإبطال حق الناس جميعاً شبيه بازالة عصمتهم جميعاً وهدر دمائهم جميعاً.

والسر الثاني: هو لو قتل مغرورٌ بريئاً دون ورع، تحقيقاً لحرصه واشباعاً لنزواته وهوى رغباته، فانه مستعد لتدمير العالم والجنس البشري ان استطاع.

***

الــضعف يشجع الخصم

ايها الخائف الضعيف!

ان خوفك وضعفك يذهبان سدىً، لا طائل وراءه، بل يكونان عليك لا لك. لانهما يشجعان الآخرين ويثيران شهيتهم لإفتراسك.

ان لله ان يختبر عبده وليس للعبد ان يختبر ربه.

أيها المرتاب!

ان مصلحة محققة لا يضحى بها في سبيل مضرة موهومة. فعليك بالسعي والنتيجة موكولة الى الله تعالى. فان لله ان يختبر عبده ويقول لك ان قمتَ بهذا سأكافئك بكذا، ولكن ليس للعبد ان يختبر ربه قائلاً: فليوفقني الله تعالى في هذا لأعمل هذا كذا. فان قال هكذا فقد تجاوز حدّه.

وقد قال ابليس يوماً لعيسى بن مريم عليه السلام: مادام الأمر كله للّه، ولن يصيبك الاّ ما كتبه عليك فارمِ نفسك من ذروة هذا الجبل، وانظر ماذا يفعل بك؟

فقال له عيسى عليه السلام:

يا ملعون إن لله أن يختبر عبده وليس للعبد أن يختبر ربه!

***

لا تفرط فيما يعجبك

قد يكون دواء مرضٍ داءً لداء آخر وينقلب بلسَمُه الشافي سماً زعافاً، اذ لو جاوز الدواءُ حدَّه انقلبَ الى ضدّه.

***

عين العناد ترى المَلَك شيطاناً

امر العناد هو: انه اذا ما ساعد شيطانٌ امرءاً قال له: انه (مَلَكٌ) وترحّم عليه. بينما اذا رأى مَلكاً في صف مَن يخالفه في الرأي؛ قال: (انه شيطان قد بدّل لباسه) فيعاديه ويلعنه.

***

لا تثر الاختلاف لأجل الأحق بعد وجدانك الحق

يا طالب الحقيقة!

ان كان الاتفاق في الحق اختلافاً في الأحق، يكون الحقُ أحقَّ من الأحقِّ، والحسنُ أحسنَ من الأحسن.

***

الاسلام دين السلام والأمان، يرفـض النزاع والخصام في الداخل

ايها العالم الاسلامي! ان حياتك في الاتحاد.

ان كنت طالباً للاتحاد فاتخذ هذا دستورك:

لابد أن يكون (هو حق) بدلاً من (هو الحق). و (هو حسن) بدلاً من (هو الحسن).

اذ يحق لكل مسلم أن يقول في مسلكه ومذهبه: ان هذا (حق) ولا اتعرض لما عداه. فان يك جميلاً فمذهبي أجمل. بينما لا يحق له القول في مذهبه: ان هذا هو (الحق) وما عداه باطل. وما عندي هو (الحسن) فحسب وغيره قبيح وخطأ!

ان ضيق الذهن وانحصاره على شئ، ينشأ من حب النفس ثم يكون داءً. ومنه ينجم النزاع.

فالادوية تتعدد حسب تعدد الادواء، ويكون تعددها حقاً.. وهكذا الحق يتعدد. والحاجات والاغذية تتنوع، وتنوعها حق.. وهكذا الحق يتنوع.

والاستعدادات ووسائل التربية تتشعب، وتشعبها حق.. وهكذا الحق يتشعب.

فالمادة الواحدة قد تكون داءً ودواءً حسب مزاجين اثنين..

اذ تعطى نسبية مركبة وفق أمزجة المكلفين، وهكذا تتحقق وتتركب.

ان صاحب كل مذهب يحكم حكماً مطلقاً مهملاً من دون ان يعين حدود مذهبه، اذ يدعه لاختلاف الأمزجة، ولكن التعصب المذهبي هو الذي يولد التعميم ولدى الالتزام بالتعميم ينشأ النزاع.

كانت هناك هوّات سحيقة بين طبقات البشر، قبل الاسلام. مع بُعدٍ شاسع عجيب بينهما. فاستوجب تعدد الانبياء وظهورهم في وقت واحد، كما استوجب تنوع الشرائع وتعدد المذاهب.

ولكن الاسلام أوجد انقلاباً في البشرية فتقارب الناس واتحد الشرع واصبح الرسول واحداً.

وما لم تتساو المستويات فان المذاهب تتعدد. ومتى ما تساوت وأوفت التربية الواحدة بحاجات الناس كافة تتحد المذاهب.

***

في ايجاد الاضداد وجمعها حكمة عظيمة

الذرة والشمس في قبـضة القدرة سواء

يا اخي ياذا القلب اليقظ!

ان القدرة تتجلى في جمع الأضداد؛

فوجود الالم في اللذة والشر في الخير والقبح في الحسن والضر في النفع والنقمة في النعمة والنار في النور.. فيه سر عظيم. أتعرف لماذا؟

انه لكي تثبت الحقائق النسبية وتتقرر، وتتولد اشياء كثيرة من شئ واحد وتنال الوجود وتظهر.

فالنقطة تتحول خطاً بسرعة الحركة، واللمعة تتحول بالدوران دائرة من نور. فوظيفة الحقائق النسبية في الدنيا هي حبات تنشأ منها سنابل، اذ هي التي تشكل طينة الكائنات وروابط نظامها وعلائق نقوشها.

اما في الآخرة فهذه الاوامر النسبية تصبح حقائق حقيقية.

فالمراتب التي في الحرارة انما هي ناشئة من تخلل البرودة فيها. ودرجات الحسن هي من تداخل القبح، فالسبب يصبح علة.

فالضوء مدين للظلام، واللذة مدينة للألم، ولا متعة للصحة من دون المرض، ولولا الجنة لما عذبت جهنم، فهي لا تكمل الاّ بالزمهرير، بل لولاه لما احرقت جهنم احراقاً تاماً.

فذلك الخلاّق القديم أظهر حكمته العظيمة في خلق الاضداد، فتجلت هيبته وبهاؤه.

وذلك القدير الدائم اظهر قدرته في جمع الاضداد، فظـهرت عظمته وجلاله.

فما دامت تلك القدرة الإلهية لازمة للذات الجليلة، فبالضرورة لا ضد في تلك الذات. ولا يتخللها العجز، ولا مراتب في القدرة، ونسبتها واحدة لكل شئ، لا يثـقل عليها شئ. وقد اصبحت الشمس مشكاةً لضوء تلك القدرة، وغدا وجه الارض مرآة لتلك المشـكاة بل حتى عيون الندى اصبحت مرايا لها. فالوجه الواسع للبحر مرآة لتلك الشمس كما تظهرهاحبابات ذلك الوجه المتموج. وعيون الندى تتلمع كالنجوم. كل منها يبين الهوية نفسها. فـفي نظر الشمس يتساوى البحر والندى، فالقدرة نظير هذا. اذ بؤبؤ عين الندى شُميسة تلمع، والشمس الضخمة هي ندى صغير، يستلم بؤبؤ عينها الـنور من شمـس القدرة الإلهية فتدور دوران القمر حول تلك القدرة. والسموات بحر عظيم لا ساحل له. تتماوج على وجهها بأمر الرحمن الحبابات، تلك هي الشموس والنجوم.

وهكذا تجلت القدرة ونثرت على تلك القطرات لمعات النور.

فكل شمس قطرة وكل نجم ندى. وكل لمعة صورة.

فتلك الشمس العظيمة - الشبيهة بالقطرة - انعكاس خافت لتجلي ذلك الفيض العظيم فلميعةٌ من ذلك الفيض تُحوّل الشمس كوكباً دريّاً

وذلك النجم الشبيه بالندى يمكّن تلك اللميعة من عينه، وتغدو سراجاً، وعينه زجاجة ، تزيد المصباح ضياءً.

ادفن مزاياك تحت تراب الخفاء لتنمو

ياذا المزايا ويا صاحب الخاصية!

لا تظلِم بالتعيّن والتشخص، فلو بقيتَ تحت ستار الخفاء، منحتَ اخوانك بركةً واحساناً.اذ من الممكن ظهورك في كل أخٍ لك، وان يكون هو أنت بالذات، وبهذا تجلب الانظار والاحترام الى كل اخ.

بينما تلقي الظل هنا، بالتعين والتشخص، بعد ان كنت شمساً هناك. فتُسقط شأن اخوانك وتقلل من احترامهم.

بمعنى ان التعيّن والتشخص امران ظالمان.

فلئن كان هذا هو امر المزايا الصحيحة، وصاحبها الصادق وانت تراه، فكيف بكسب الشهرة والتشخص بالتصنع الكاذب والرياء؟!

فهو اذن سر عظيم وحكمة إلهية ونظام أكمل، ان فرداً خارقاً في نوعه يمنح القيمة والأهمية الى افراد نوعه بالستر والخفاء، ودونك المثال:

الولي في الانسان، والأجل في العمر، فقد ظلا مخفيين. وكذا ساعة الاجابة في الجمعة وليلة القدر في رمضان، والاسم الاعظم في الاسماء الحسنى.

والسر اللطيف في هذه الامثلة وقيمتها العظيمة هي:

ان في الإبهام اظهاراً وفي الإخفاء اثباتاً.

فمثلاً في إبهام الأجل موازنة لطيفة بين الخوف والرجاء، موازنة بين توهم البقاء في الدنيا وثواب العاقبة.

فالعمر المجهول الذي يستغرق عشرين سنة ارجح من الف سنة من عمر معلوم النهاية، لأنه بعد قضاء نصف هذا العمر يكون المرء كأنه يخطو خطوات الى منصة الاعدام. فالحزن المستمر المتلاحق لا يدع صاحبه يتمتع بالراحة والسلوان.





لا رحمة أوسع من رحمته تعالى

ولا غـضب اشد من غـضبه سبحانه

لا رحمة تفوق رحمة الله، ولا غضب يفوق غضبه.

فدع الأمور للعادل الرحيم. اذ فرط الشفقة أليم وفرط الغضب ذميم.

الاسراف باب السفاهة وهي تقود الى السفالة

يا أخي المسرف!

لقمتان مغذيتان؛ أحداهما بقرش والاخرى بعشرة، هما سيّان قبل دخولهما الفم، وسيّان كذلك بعد مرورهما من الحلقوم.

فلا فرق الاّ ذوق يدوم لبضع ثوان، للغافل الأحمق؛ اذ تخدعه حاسة الذوق دوماً بهذا الفرق،

فهذه الحاسة حارسة الجسم وناظرة مفتشة للمعدة.

ولها تأثير سلبي لا ايجابي، ان أصبحت وظيفتها ارضاء الحارس.

كي يديم الذوق للغافل، فيتعكر صفو وظيفتها بدفع احد عشر قرشاً بدلاً من واحد، فيجعلها تابعة للشيطان.

لا تتقرب من هذا، فيسوقك الى أبشع أنواع الاسراف. وأفظع أنواع التبذير.

***

حاسة الذوق مأمورة البرق

لا تجعل اللذة همها فتفسدها

(1)لقد أسـس سبحانه بفضل ربوبيته وحكمته وعنايته في فم الانسان وانفه مركزين : وضع فيهما حراسَ حدودِ هذا العالم الصغير وعيونه. ونصب كل عرق، بمثابة الهاتف، وجعـل كل عصب في حكم البرق. وجعلت عنايته الكريمة حاسةَ الشم مأمورة ارسال المكـالمات الهاتفية، وحاسة الذوق موظفة ارسال البرقيات.

ومن رحمة ذلك الرزاق الحقيقي انه وضع قائمة الاثمان على الأرزاق، تلك هي: الطعم، واللون، والرائحة.

فهذه الخواص الثلاثة - من حيث الإرزاق - لوحة اعلان، وبطاقة دعوة، وتذكرة رخصة، ومنادية الزبائن وجالبة المحتاجين.

وقد منح ذلك الرزاق الكريم، الاحياء المرزوقة أعضاءً للذوق والرؤية والشم. وزين الاطعمة بمختلف ألوان الزينة والجمال.. ليسلّي بها القلوب المشتاقة ويثير شوق غير المبالين.

فحالما يدخل الطعام الفم، تخبر حاسة الذوق انحاء الجسم برقياً به، وتبلّغ الشم هاتفياً نوع الطعام الوارد وصنفه.

فالحيوانات المتباينة في الرزق والحاجات، تتصرف وفق تلك الاخبار وتتهيأ على حسبها. أو يأتي الجواب بالرد، فيلفظ الفم الطعام خارجاً، بل قد يبصق عليه.

ولما كانت حاسة الذوق مأمورة من قبل العناية الإلهية فلا تفسدها بالتذوق المستمر، ولاتخدعها بالتلذذ دوماً.

اذ ستنسى ما الشهية الحقة؟ لورود الشهية الكاذبة اليها، تلك التي تأخذ بلبها.. فيجازى صاحبها بالمرض ويعاقب بالعلل جراء خطئها.

اعلم ان اللذة الحقيقية، انما تنبع من شهية حقيقية.

وان الشهية الحقة الصادقة تنبع من حاجة حقيقية صادقة.

وفي هذه اللذة الحقة - الكافية للانسان ـ يتساوى السلطان والشحاذ.

***

نوع النظر كالنية يقلب العادات الى عبادات

لاحظ بدقة، هذه النقطة:

كما تصبح العادات المباحة بالنية عبادات.

كذلك تكون العلوم الكونية بنوع النظر معارف إلهية.

فاذا ما نظرت الى هذه العلوم نظراً حرفياً، مع دقة الملاحظة والتفكر العميق، من حيث الصنعة والاتقان. أي ان تقول: (ما أبدع خلق هذا! ما أجمل صنع الصانع الجليل!) بدلاً من قولك: (ما أجمله).

نعم، اذا ما نظرت الى الكون من هذه الزاوية تجد ان نقوش المصور الجليل ولمعةَ القصد والاتقان في نظامه وحكمته تنور الشبهات وتبددها.

وعندها تتبدل العلوم الكونية معارف إلهية.

ولكن لو نظرت الى الكائنات بالمعنى الاسمي، ومن حيث «الطبيعة» أي انها تولدت بذاتها، فعندها تتحول دائرة العلوم الى ميدان جهل.

فيا لضياع الحقائق في الأيادي الوضيعة.

وما أكثر الامثلة الشاهدة على هذه الحقيقية.

في مثل هذا الزمان لا يأذن الشرع لنا باختيار الترفّه

كلما نادت اللذائذ ينبغي الاجابة: (كانني أكلت).

فالذي جعل هذا دستوراً له، لم يأكل مسجداً(1).

لم يكن أكثر المسلمين في السابق جائعين. فكان الترفّه جائز الاختيار الى حدٍ ما. اما الآن فمعظمهم يبيتون جياعاً، فلم يعد لناإذنٌ شرعي للتلذذ.

اذ إن معيشة السواد الأعظم وغالبية المسلمين بسيطة. فينبغي الاقتداء بهم في الطعام الكفاف البسيط.

وهذا هو الأفضل بألف مرة من الانسياق وراء أقلية مسرفة أو ثلة من السفهاء في ترفههم في الطعام.

***

سيكون عدم النعمة نعمة

قوة الذاكرة نعمة، ولكن يرجّح عليها النسيان في شخص سفيه وفي زمن البلاء. والنسيان كذلك نعمة، لانه لا يذيق الاّ آلام يوم واحد وينسي الآلام المتراكمة.

***

في كل مصيبة جهة خير

أيها المبتلى ببلية!

ان نعمةً ما مندرجةٌ ضمن كل مصيبة. لاحظها بدقة لتشاهدها.

اذ كما توجد درجة حرارةٍ في كل شئ، ففي كل مصيبة توجد درجة من النعمة.

شاهد درجة النعمة هذه في البلية الصغرى، وفكّر بالعظمى واشكر ربك الرحيم.

والاّ، فكلما استعظمتها جفلتَ منها، لأنك اذا ما تأسفت عليها تستعظم وتكبر حتى تتضخم ويصيبك الرعب منها. واذا ما زدتها بالقلق والأوهام، تتوأمتْ بعد ان كانت واحدة، لأن صورتها الوهمية التي في القلب تنقلب الى حقيقة ثم تعود تُنزل بضرباتها الموجعة على القلب.

لا تظهر بزي الكبير فتصغر

يا من يحمل (أنا) مضاعفاً، ويحمل في رأسه غروراً وكبراً! عليك ان تعرف هذا الميزان!

لكل شخص نافذة يطل منها على المجتمع ـ للرؤية والاراءة ـ تسمى مرتبة. فاذا كانت تلك النافذة أرفع من قامة قيمته، يتطاول بالتكبر. اما اذا كانت أخفض من قامة همته يتواضع بالتحدّب ويتخفض، حتى يشهد في ذلك المستوى ويشاهَد.

ان مقياس العظمة في الكاملين هو التواضع.

اما الناقصون القاصرون فميزان الصُغر فيهم هو التكبر.

***

تتغير ماهية الخصال بتغير المنازل

خصلة واحدة في مواضع متباينة وصورة واحدة تكون تارة غولاً بشعاً وتارة مَلَكاً رقيقاً ومرةً صالحة واخرى طالحة. أمثلة ذلك الآتي:

ان عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي، لو كانت في القوي لكانت تكبراً وغروراً. وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف لو كان في الضعيف لكان تذللاً ورياءً.

ان جدّية ولي الأمر في مقامه وقارٌ، اما لينه فذلةٌ.

كما ان جديته في بيته دليل على الكبر، ولينه دليل على التواضع.

ان صفح المرء عن المسيئين وتضحيته بما يملك، عمل صالح. بينما هو خيانة وعمل طالح ان كان متكلماً عن الجماعة.

ان التوكل في ترتيب المقدمات كسل، بينما تفويض الأمر الى الله في ترتّب النتيجة توكل يأمر به الشرع.

ان رضى المرء عن ثمرة سعيه وقسمته قناعةٌ ممدوحة. تقوي فيه الرغبة في مواصلة السعي. بينما الاكتفاء بالموجود قناعة لا ترغب، بل تقاصر في الهمة.

وهناك أمثلة كثيرة على هذا.

فالقرآن الكريم يذكر الصالحات و التقوى ذكراً مطلقاً. ويرمز في ابهامهما الى تأثير المقامات والمنازل. فايجازه تفصيل. وسكوته كلام واسع.

الحق يعلو

ايها الصديق! سألني احدهم ذات يوم:

لما كان (الحق يعلو) أمراً حقاً لا مراء فيه، فلِمَ ينتصر الكافرُ على المسلم، وتغلُب القوة على الحق؟.

قلت: تأمل في النقاط الاربع الآتية، تنحل المعضلة.

C النقطة الاولى:

لا يلزم ان تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كل حقٍّ حقاً، كما لا يلزم ايضاً ان تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كلِّ باطلٍ باطلاً.

فالنتيجة اذن: ان وسيلةً حقة (ولو كانت في باطل) غالبةٌ على وسيلةٍ باطلة (ولو كانت في الحق).

وعليه يكون: حقٌ مغلوب لباطل، مغلوبٌ بوسيلته الباطلة، اي مغلوبٌ موقتاً، والاّ فليس مغلوباً بذاته، وليس دائماً، لأن عاقبة الأمور تصير للحق دوماً.

أما القوة، فلها من الحق نصيبٌ، وفيها سرٌّ للتفوق كامنٌ في خلقتها.

C النقطة الثانية:

بينما يجب أن تكون كلُّ صفةٍ من صفات المسلم مسلمةً مثله، الا ان هذا ليس أمراً واقعاً، ولا دائماً!

ومثله، لا يلزم ايضاً ان تكون صفات الكافر جميعها كافرةً ولا نابعةً من كفره.

وكذا الأمر في صفات الفاسق، لا يشترط ان تكون جميعُها فاسقة، ولا ناشئة من فسقه.

إذن، صفةٌ مسلمةٌ يتصف بها كافرٌ تتغلب على صفةٍ غير مشروعة لدى المسلم. وبهذه الوساطة (والوسيلة الحقة) يكون ذلك الكافر غالباً على ذلك المسلم (الذي يحمل صفة غير مشروعة).

ثم ان حقّ الحياة في الدنيا شامل وعام للجميع. والكفر ليس مانعاً لحق الحياة الذي هو تجلٍ للرحمة العامة والذي ينطوي على سر الحكمة في الخلق.

C النقطة الثالثة:

لله سبحانه وتعالى تجليان ــ يتجلى بهما على المخلوقات ــ وهما تجليان شرعيان صادران من صفتين من صفات كماله جل وعلا.

اولهما:

الشرع التكويني ـ أو السنة الكونية ـ الذي هو المشيئة والتقدير الإلهي الصادر من صفة (الارادة الإلهية).

والثاني:

الشريعة المعروفة الصادرة من صفة (الكلام الرباني).

فكما ان هناك طاعةً وعصياناً تجاه الاوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعةٌ وعصيانٌ تجاه الاوامر التكوينية.

وغالباً ما يرى الاول ـ مطيع الشريعة والعاصي لها ـ جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني ـ مطيع السنن الكونية والعاصي لها ـ غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا.

فكما ان ثواب الصبر النصرُ.

وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل.

كذلك ثواب السعي الغنى،

وثواب الثبات التغلب.

مثلما ان نتيجة السمِّ المرضُ.

وعاقبةَ الترياقِ والدواء الشفاء والعافية.

وتجتمع احياناً اوامر الشريعتين معاً في شئ.. فلكلٍ جهة.

فطاعةُ الأمر التكويني الذي هو حق، هذه الطاعة غالبة ـ لأنها طاعة لأمر إلهي ـ على عصيان هذا الأمر بالمقابل، لأن العصيان ـ لأي أمر تكويني ـ يندرج في الباطل ويصبح جزءاً منه.

فاذا ما اصبح حقٌ وسيلةً لباطلٍ فسينتصر على باطلٍ اصبح وسيلةً لحق، وتظهر النتيجة:

حقٌ مغلوب أمام باطل! ولكن ليس مغلوباً بذاته، وانما بوسيلته. اذن فــ(الحق يعلو) يعلو بالذات، والعقبى هي المرادة ــ فليس العلو قاصراً في الدنيا ـ الاّ ان التقيّد والأخذ بحيثيات الحق مقصود ولابد منه.

C النقطة الرابعة:

ان ظلَّ حقٌ كامناً في طور القوة ـ اي لم يخرج الى طور الفعل المشاهَد ـ أو كان مشوباً بشـئ آخــر، أو مغشــوشــاً، وتطلّب الأمر كشــف الحق وتــزويده بـقــوة جديدة، وجعله خالصاً زكياً، يُسلّط عليه مؤقتاً باطلٌ حتى يخلُص الحق ـ نتيجة التدافع ـ من كل درن فيكون طيباً.

ولتظهر مدى قيمة سبيكة الحق الثمينة جداً.

فاذا ما انتصر الباطل في الدنيا ـ في مكان وزمان معينين ـ فقد كسب معركة ولم يكسب الحرب كلها، لأن (العاقبة للمتقين) هي المآل الذي يؤول اليه الحق.

وهكذ الباطل مغلوب ـ حتى في غلبه الظاهر ـ وفي (الحق يعلو) سرٌّ كامن عميق يدفع الباطل قهراً الى العقاب في عقبى الدنيا أو الآخرة، فهو يتطلع الى العقبى. وهكذا الحق غالب مهما ظهر انه مغلوب!.

***

دساتير اجتماعية

ان شئت دساتير في المجتمع فدونك:

ان العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة اصلاً..

فالتماثل سبب مهم للتضاد.

واما التناسب فهو اساس التساند.

منبع التكبر اظهار صغر النفس

ومنبع الغرور ضعف القلب.

وقد أصبح العجز منشأ الخلاف.

اما حب الاستطلاع فهو استاذ العلم.

الحاجة أم الاختراع.

والضيق معلم السفاهة.

ولقد أصبح الضيق منبع السفاهة. ومنبع الضيق نفسه هو اليأس وسوء الظن.

فالضلالة ضلالة الفكر.

والظلمات تعم القلب.

والاسراف يكون في الأمور الجسدية.

اضلت النساء البشرية بخروجهن من بيوتهن فعليهن العودة اليها

)اذا تأنث الرجال السفهاء بالهوسات اذاً ترجل النساء الناشزات بالوقاحات)(1) لقد اطلقت المدنية السفيهة النساء من أعشاشهن. وامتهنت كرامتهن. وجعلتهن متاعاً مبذولاً.

بينما شرعُ الاسلام يدعو النساء الى اعشاشهن رحمة بهنّ. فكرامتهن فيها، وراحتهن في بيوتهن وحياتهن في دوام العائلة.

الطهـر زينتـهـن

الخُـلق هيبتـهـن

العـفة جـمالهـن

الشفقة كمالهـن

الاطفال لهوهـن.

ولا تصمد ازاء جميع هذه الاسباب المفسدة الاّ ارادة من حديد.

كلما دخلتْ حسناء في مجلس تسود فيه الأخوة، أثارت فيهم عروق الرياء والمنافسة والحسد والأنانية، فتتنبه الأهواء الراقدة.

ان تكشّف النساء تكشفاً دون قيد، أصبح سبباً لتكشّف اخلاق البشر السيئة وتناميها.

هذه الصور التي هي جنائز مصغرة، وأموات متبسمة، لها دور خطير جداً في الروح الرعناء للانسان المتحضر. بل ان تأثيرها مخيف مرعب(1). ان الهياكل والتماثيل الممنوعة شرعاً والصور المحرمة، اما انها ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى منجمد. أو طلسم يجلب تلك الأرواح الخبيثة.

***

سعة تصرف القدرة، تردّ الوسائط

ان شمسنا تصبح كالذرة ازاء تصرف قدرة القدير ذي الجلال وسعة تأثيرها.

ان مساحة تصرفه العظيم في النوع الواحد واسعة جداً.

خذ القوة الجاذبة بين ذرتين، ثم ضعها قرب القوة الجاذبة الموجودة في شمس الشموس وفي درب التبانة.

واجلب المَلَك الذي يحمل حبة البَرَد مع المَلَك الشبيه بالشمس الذي يحمل الشمس.

وضع أصغر سمكة ـ صغر الابرة ـ جنب الحوت العظيم وبعد ذلك تصوَّر التجلي الواسع للقدير ذي الجلال واتقانه الكامل في أصغر شئ وفي أكبره.

عندها تعلم ان الجاذبية والنواميس كلها ان هي الاّ وسائل سيالة وأوامر عرفية، وليست الاّ اسماء وعناوين لتجلي القدرة وتصرف الحكمة.

فهذا هو التفسير لا غير.

فكّر في هذه الأمور معاً تجد بالضرورة؛ ان الاسباب الحقيقية والوسائط المعينة، وكذا الشركاء، ما هي الاّ أمور باطلة وخيال محال في نظر تلك القدرة الجليلة.

ان الحياة كمال الوجود.

ولجلالة مقامها أقول:

لِمَ لا تكون كرتنا وعالمنا مسخراً مطيعاً كالحيوان؟

فللّه سبحانه كثير من أمثال هذه الحيوانات الطائرة منتشرة في الفضاء الواسع تنشر البهاء والجمال والعظمة والهيبة.

انه سبحانه يديرها ويسيّرها في بستان خلقه.

فالنغمات التي تبعثها تلك الكائنات والحركات التي تقوم بها هذه الطيور.. تلك الأقوال والأحوال تسبيحات وعبادات للقديم الذي لم يزل، وللحكيم الذي لا يزال.

ان كرتنا الأرضية كثيرة الشبه بالحيوان، إذ انها تبرز آثار الحياة، فلو صغرت كبيضة صغيرة ــ بفرض محال ــ لتحولت الى حيوان لطيف.

ولو كبر حيوان مجهرى كروي واصبح كالكرة الأرضية، لصار شبيهاً بها.

فلو صغر عالمنا صغر الانسان وانقلبت نجومه الى ما يشبه الذرات، ربما يكون حيواناً ذا شعور. والعقل يجد مجالاً في هذا الاحتمال.

فالعالَم اذن عابدٌ مسبّح بأركانه،

كل ركن مسخّر مطيع، للخالق القدير القديم.

فليس من الضروري ان يكون الكبير كمّاً كبيراً نوعاً.

بل الساعة الصغيرة صغر الخردل ابدع صنعة وأعظم جزالة من كبيرتها التي هي بكبر (ايا صوفيا)..

فخلق الذبابة أعجب من خلق الفيل.

لو كتب قرآنٌ بقلم القدرة بالجواهر الفردات للأثير على جزءٍ فردٍ، فان دقة صفحاته تعادل في صنعة الاتقان القرآن الكريم المكتوب بمداد النجوم في صحيفة السماء. فهما سيّان في الجزالة والابداع.

فالصنعة الباهرة بالجمال والكمال للمصور الازلي مبثوثة هكذا في كل جهة، والاتحاد الكامل الاتم في كمالها يعلن التوحيد.

خذ هذا الكلام البيّن بعين الاعتبار.

***

الملائكة أمة مأمورة لتنفيذ الشريعة الفطرية

الشريعة الإلهية اثنتان:

وهما آتيتان من صفتين إلهيتين، والمخاطب انسانان وهما مكلفان بهما.

اولاهما: الشريعة التكوينية الآتية من صفة الارادة الإلهية، وهي الشريعة والمشيئة الربانية التي تنظّم أحوال العالم ــ الانسان الاكبر ــ وحركاته التي هي ليست اختيارية. وقد يطلق عليها خطأ ً اسم الطبيعة.

اما الأخرى: فهي الشريعة الآتية من صفة الكلام الإلهي، هذه الشريعة تنظم أفعال الانسان الاختيارية، ذلك العالم الأصغر. وتجتمع الشريعتان أحياناً معاً.

اما الملائكة فهم أمة عظيمة، جند الله، حَمَلة الشريعة الاولى وممثلوها وممتثلوها.

قسم منهم عباد مسبّحون.

وقسم منهم مستغرقون في العبادة وهم مقربو العرش الأعظم.

***

كلما رقّت المادة اشتدت الحياة فيها

الحياة أساس الوجود وأصله. والمادة تابعة لها وقائمة بها.

فاذا ما قارنت الحواس الخمس في الانسان والحيوان المجهري تجد:

كم يكبر الانسان عن ذلك المجهري، فان حواسه ادنى من حواسه بالنسبة نفسها. فذلك المجهري يسمع صوت أخيه ويرى رزقه.

فلو كَبُر كبر الانسان لتوسعت حواسه الى حدّ محيّر للالباب. فحياته تنشر الشعاع، وبصرُه نور سماوي يضاهي البرق.

والانسان نفسه ليس كائناً ذا حياة مركّب من كتلة من موات. بل هو حجيرة كبيرة مركبة من مليارات من الحجيرات الحية.

[ان الانسان كصورة (يس) كُتب فيها سورة (يس)].

فتبارك الله أحسن الخالقين.

الفلسفة المادية طاعون معنوي

الفلسفة المادية طاعون معنوي، حيث سبّبت في سريان حمّى مهلكة في البشرية(1)، وعرّضها للغضب الإلهي.

فكلما توسعت قابلية التمرد والانتقاد ـ بالتلقين والتقليد ـ توسّع ذلك الطاعون ايضاً وانتشر.

فانبهار الانسان بالعلوم، وانغماره في تقليد المدنية الحاضرة اعطاه الحرية وروح الانتقاد والتمرد، فظهر الضلال من غروره.

***

لا تعطُّلَ في الوجود، العاطل يسعى في الوجود في سبيل العدم

ان أشد الناس شقاءً واضطراباً وضيقاً هو العاطل عن العمل، لأن العطل هو (عدم) ضمن الوجود، اي موت ضمن حياة.

اما السعي فهو حياة الوجود ويقظة الحياة.

***

الربا ضرر محض في الاسلام

الربا يسبب العطل، ويطفىء جذوة الشوق الى السعي.

ان ابواب الربا ووسائطه، هذه البنوك، انما تعود بالنفع الى أفسد البشر وأسوأهم. وهم الكفار.. والى أسوأ هؤلاء وهم الظلمة، والى اسوأ هؤلاء وهم أسفههم.

ان ضرر الربا على العالم الاسلامي ضرر محض. والشرع لا يرى تحقيق رفاهية البشر قاطبة في كل حين.اذ الكافر الحربي، لاحرمة له ولاعصمة لدمه.

القرآن يحمي نفسه بنفسه وينفذ حكمه (1)

رأيت شخصاً قد ابتلي باليأس، وأصيب بالتشاؤم. يقول:

لقد قلّ العلماء في هذه الايام، وغلبت الكميةُ النوعيةَ، نخشى ان ينطفئ ديننا في يوم من الايام.

قلت: كما لا يمكن اطفاء نور الكون ولا يمكن اطفاء ايماننا الاسلامي، كذلك سيسطع الاسلام في كل آن ان لم تطفأ منارات الدين، معابد الله، معالم الشرع، تلك هي شعائر الاسلام، الاوتاد الراسخة في الارض.

فلقد اضحى كل معبد من معابد الله معلّماً بطبعه يعلّم الطبائع.

وصار كلُ مَعْلَمٍ من معالم الشرع استاذاً، يلقن الدين بلسان حاله. من دون خطأ ولا نسيان!

واصبحت كل شَعيرة من شعائر الاسلام، عالماً حكيماً بذاته، يدرّس روح الاسلام ويبسطه امام الانظار بمرور العصور.

حتى كأن روح الاسلام قد تجسم في شعائره. وكأن زلال الاسلام قد تصلب في معابده، عموداً سانداً للايمان، وكأن احكام الاسلام قد تجسدت في معالمه. وكأن اركان الاسلام قد تحجرت في عوالمه، كل ركن عمود من الألماس يربط الارض بالسماء. ولا سيما هذا القرآن العظيم، الخطيب المعجز البيان، يلقي خطاباً ازلياً في اقطار عالم الاسلام.. لم تبقَ ناحيةٌ ولا زاوية الاّ واستمعت له واهتدت بهديه. حتى صار حفظُه مرتبة جليلة يسري فيها سر الآية الكريمة ] .. وانا له لحافظون..[ وغدت تلاوته عبادة الانس والجان.

فيه تعليم، فيه تذكير بالمسلّمات. اذ النظريات تنقلب الى مسلّمات بمرور الازمان، ثم الى بديهيات حتى لا تدع حاجة الى بيان.

فقد خرجت الضروريات الدينية من طور النظريات. فالتذكير بها اذن كافٍ والتنبيه وافٍ، والقرآن شاف في كل وقت وآن، اذ فيه التنبيه والتذكير.

ويقظة المسلمين وصحوتهم الاجتماعية تسلّم لكل فرد ما يخص العموم من الدلائل، وتضع لهم الميزان.

فايمان كل شخص لا ينحصر بدليله، ولا يستند الوجدان اليه وحده، بل والى اسباب لا تحد في قلب الجماعة ايضاً.

فلئن كان رفض مذهب ضعيف يصعب كلما مرّ عليه الزمن. فكيف بالاسلام الذي هيمن طوال هذه العصور هيمنة تامة، وهو المستنِد الى اساسين عظيمين هما: الوحي الإلهي، والفطرة السليمة.

لقد التحم الاسلام وتغلغل في اعماق نصف المعمورة، بأسسه الراسخة وآثاره الباهرة. فسرى روحاً فطرياً فيه. فأنّى يستُره كسوفٌ وقد انزاح عنه الكسوف تواً.

ولكن وياللاسف يحاول بعض الكفرة البلهاء واهل السفسطة ان يتعرضوا لأسس هذا القصر الشاهق العظيم، كلما سنحت لهم الفرصة.

ولكن هيهات.. فهذه الاسس لا تتضعضع ابداً.

فليخرس الالحاد الآن، ولقد افلس ذلك الديوث.

ألا تكفيه تجربة الكفران ومزاولة الكذب والبهتان.

كانت هذه الدار، دار الفنون (الجامعة). في مقدمة قلاع عالم الاسلام تجاه الكفر والطغيان، بيد أن اللامبالاة والغفلة والعداوة، تلك الطبيعة الثعبانية المنافية للفطرة، شقّت فرجة خلف الجبهة فهاجم منها الالحاد، واهتزت عقيدة الامة ايّ اهتزاز.

فلابد أن تكون طليعة الحصون المستنيرة بروح الاسلام، اكثَرها صلابة وازيدها انتباهاً ويقظة، هكذا تكون والاّ فلا. فلا ينبـغي ان يُخدع المسلمون.

ان القـلب مستـقر الايمـان، بينما الدماغ مرآة لنوره، وقد يكون مجاهداً وقد يزاول كنس الشبهات وادران الاوهام.

فان لم تدخل الشبهات التي في الدماغ الى القلب لا يزيغ ايمان الوجدان.

ولو كان الايمان في الدماغ ــ كما هو ظن البعض ــ فالاحتمالات الكثيرة والشكوك تصبح اعداءاً ألدّاء لروح الايمان الذي هو حق اليقين.

ان القلب والوجدان محل الايمان.

والحدس والالهام دليل الايمان.

وحسّ سادس طريق الايمان.

والفكر والدماغ حارس الايمان.

تدعو الحاجة الى التذكير بالمسلّمات اكثر من تعليم النظريات

لقد استقرت في القلوب الضروريات، والمسلّمات الشرعية.

ويحصل المطلوب بمجرد التنبيه للاطمئان، والتذكير للاستشعار. والعبارة العربية(1) تنبّه وتذكّر على أفضل وجه واسماه ولهذا؛ فخطبة الجمعة باللغة العربية كافية ووافية للتنبيه على الضروريات والتذكير بالمسلّمات. اذ تعليم النظريات ليس مقصود الخطبة.

ثم ان هذه العبارة العربية تمثل شعار الوحدة الاسلامية في اعماق وجدان الاسلام الذي يرفض التشتت.

الحديث يقول للآية: بلوغك محال

اذا قارنت بين الحديث والآية، ترى بالبداهة ان أبلغ البشر (وهو مبلّغ الوحي الإلهي) لا يبلغ ايضاً شأوَ بلاغة الآية، فالحديث لا يشبهها.

بمعنى إن ما يصدر من فم النبوة من كلام ليس دائماً كلام النبي.

بيان موجز لاعجاز القرآن

رأيت في الماضي فيما يرى النائم: انني تحت جبل (آرارات). انفلق الجبل على حين غرة، وقذف صخوراً بضخامة الجبال الى انحاء العالم، فهزّ العالم وتزلزل.

وفجأة وقف بجنبي رجل، قال لي: بيّن بايجاز ما تعرفه مجملاً من أنواع الاعجاز... اعجاز القرآن.

فكرتُ في تعبير الرؤيا، وأنا ما زلت فيها وقلت:

ان ما حدث هنا من انفلاق مثالٌ لما يحدث في البشرية من انقلاب، وسيكون هدى القرآن بلا ريب عالياً ومهيمناً في هذا الانقلاب. وسيأتي يوم يبين فيه اعجازه.

أجبتُ ذلك السائل قائلاً:

ان اعجاز القرآن يتجلى من سبعة منابع كلية، ويتركب من سبعة عناصر.

المنبع الأول:

سلاسة لسانه من فصاحة اللفظ؛ اذ تنشأ بارقة بيانه من جزالة النظم، وبلاغة المعنى، وبداعة المفاهيم، وبراعة المضامين، وغرابة الاساليب. فيتولد نقش بياني عجيب، وصنعة لسان بديع، من امتزاج كل هذه في نوع اعجاز لا يملّ الانسان من تكراره أبداً.

أما العنصر الثاني:

فهو الاخبار السماوي عن الغيوب في الحقائق الغيبية الكونية والاسرار الغيبية للحقائق الإلهية. فمن أمور الغيب المنطوية في الماضي، ومن الأحوال المستترة الباقية في المستقبل تنشأ خزينة علم الغيوب. فهو لسان عالم الغيوب يتكلم مع عالم الشهادة، في أركان (الايمان) يبينها بالرموز، والهدف هو نوع الانسان، وما هذا الاّ نوع من لمعة نورانية للاعجاز.

اما المنبع الثالث فهو:

ان للقرآن جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده.

لفظه:يتضمن احتمالات واسعة ووجوهاً كثيرة بحيث ان كل وجهٍ تستحسنه البلاغة، ويستصوبه علم اللغة العربية، ويليق بسر التشريع.

في معناه: لقد أحاط ذلك البيان المعجز بمشارب الأولياء واذواق العارفين ومذاهب السالكين، وطرق المتكلمين، ومناهج الحكماء، بل قد تضمن كلَّها. ففي دلالاته شمولٌ وفي معناه سعة.

فما أوسع هذا الميدان ان أطللت من هذه النافذة!.

الاستيعاب في الاحكام: هذه الشريعة الغراء قد اُستنبطتْ منه، اذ قد تضمن طراز بيانه جميع دساتير سعادة الدارين، ودواعي الأمن والاطمئنان، وروابط الحياة الاجتماعية، ووسائل التربية، وحقائق الأحوال.

استغراق علمه: لقد ضم ضمن سُورِ سوره العلوم الكونية والعلوم الإلهية، مراتب ودلالات ورموزاً واشارات.

في المقاصد والغايات: لقد راعى الرعاية التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، والاتحاد في المقاصد والغايات، فحافظ على الميزان.

وهكذا الجامعية الباهرة في احاطة اللفظ وسعة المعنى واستيعاب الاحكام واستغراق العلم وموازنة الغايات.

اما العنصر الرابع:

فافاضته النورانيةَ حسب درجة فهم كل عصر، ومستوى أدب كل طبقة من طبقاته وعلى وفق استعدادها ورتب قابليتها.

فبابُه مفتوح لكل عصر ولكل طبقة من طبقاته، حتى كأن ذلك الكلام الرحماني ينزل في كل مكان في كل حين.

فكلما شاب الزمان شبّ القرآنُ وتوضحت رموزه، فذلك الخطيب الإلهي يمزق ستار الطبيعة وحجاب الاسباب فيفجّر نورَ التوحيد من كل آية، في كل وقت. رافعاً راية الشهادة شهادة التوحيد على الغيب.

ان علو خطابه يلفت نظر الانسان ويدعوه الى التدبّر؛ اذ هو لسان الغيب يتكلم بالذات مع عالم الشهادة.

يُخلَص من هذا العنصر: أن شبابيته الخارقة شاملة محيطة، وأنسيته جعلته محبوب الانس والجان، وذلك بالتنزلات الإلهية الى عقول البشر لتأنيس الأذهان، والمتنوعة بتنوع أساليب التنزيل.

أما المنبع الخامس:

فنُقولُه واخبارُه في اسلوب بديع غزير المعاني، فينقل النقاط الأساس للاخبار الصادقة كالشاهد الحاضر لها. ينقل هكذا لينبّه بها البشر.

ومنقولاته هي الآتية: اخبار الأولين وأحوال الآخرين وأسرار الجنة والجحيم، حقائق عالم الغيب، واسرار عالم الشهادة، والاسرار الإلهية والروابط الكونية. تلك الاخبار المشاهَدة شهود عيان حتى انه لا يردّها الواقع ولا يكذّبها المنطق بل لا يستطيع ردّها ابداً ولو لم يدركها.

فهو مطمَح العالم في الكتب السماوية، اذ ينقل الاخبار عنها مصدّقاً بها في مظان الاتفاق، ويبحث فيها مصححاً لها في مواضع الاختلاف.

ألا انه لمعجزة هذا الزمان ان يصدر مثل هذه الأمور النقلية من " أميّ " !

اما العنصر السادس:

فانه مؤسس دين الاسلام ومتضمنه. ولن تجد مثل الاسلام ان تحريت الزمان والمكان، لا في الماضي ولا في المستقبل. انه حبل الله المتين، يمسك الأرض لئلا تفلت، ويديرها دوراناً سنوياً ويومياً. فلقد وضع وقاره وثقله على الأرض، وساسها وقادها وحال بينها وبين النفور والعصيان.

أما المنبع السابع:

فان الأنوار الستة المفاضة من هذه المنابع الستة يمتزج بعضها مع بعض، فيصدر شعاع حُسنٍ فائق، ويتولد حدس ذهني، وهو الوسيلة النورانية.

والذي يصدر عن هذا: ذوق، يُدرَك به الاعجاز.

لساننا يعجز عن التعبير عنه، والفكر يقصر دونه.

فتلك النجوم السماوية تُشاهَد ولا تُستمسك.

طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان يحمل أعداء القرآن روح التحدي والمعارضة..

وتولدت في أوليائه واحبائه.. روح التقليد والشوق اليه.

وهذا هو بذاته برهان للاعجاز،

اذ كُتبت من جراء هاتين الرغبتين الشديدتين ملايين الكتب بالعربية، فلو قورنت تلك الملايين من الكتب مع القرآن الكريم، لقال كلُ من يشاهد ويسمع، حتى أكثر الناس عامية، دونك الذكي الحكيم:

ان هذه الكتب بشرية.. وهذا القرآن سماوي.

وسيحكم حتماً:

ان هذه الكتب كلها لا تشبه هذا القرآن ولا تبلغ شأوه قطعاً.

لذا فإما انه أدنى من الكل. وهذا معلوم البطلان وظاهر بالبداهة.

اذن فهو فوق الكل.

ولقد فتح أبوابه على مصراعيه للبشر ونشر مضامينه أمامهم طوال هذه المدة الطويلة. ودعا لنفسه الأرواح والأذهان.

ومع هذا لم يستطع البشر معارضته، ولا يمكنهم ذلك. فلقد انتهى زمن الامتحان.

ان القرآن لا يقاس بسائر الكتب ولا يشبهها قطعاً.

اذ نزل في عشرين سنة ونيف نجماً نجماً ــ لحكمة ربانية ــ لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقطعاً. ولأسباب نزول مختلفة متباينة. وجواباً لأسئلة مكررة متفاوتة. وبياناً لحادثات أحكام متعددة متغايرة. وفي أزمان نزول مختلفةمتفارقة. وفي حالات تَلَقٍّ متنوعة متخالفة. ولأفهام مخاطبين متعددة متباعدة. ولغايات ارشاداتٍ متدرجة متفاوتة.

وعلى الرغم من هذه الأسس فقد أظهر كمال السلاسة والسلامة والتناسب والتساند في بيانه وجوابه وخطابه، ودونك علم البيان وعلم المعاني.

وفي القرآن خاصية لا توجد في أي كلام آخر: لأنك اذا سمعت كلاماً من أحدٍ فانك ترى صاحب الكلام خلفه أو فيه فالاسلوب مرآة الأنسان.

أيها السائل المثالي!

لقد أردت الاعجاز، وها قد أشرتُ اليه.

وان شئت التفصيل، فذلك فوق حدّي وطوقي. أتقدر الذبابة مشاهدة السماوات؟

وقد بيّن كتاب (اشارات الاعجاز) واحداً من أربعين نوعاً من ذلك الاعجاز، ولم تفِ مائة صفحة من تفسير لبيان نوع واحد.

بل أنا الذي أريد منك التفصيل، فقد تفضّل المولى عليك بفيضٍ من الهامات روحية.

لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الاهواء والنزوات والدهاء..

شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء.

اذ الحالة التي ترضى الأذواق الرفيعة للكاملين من الناس وتُطمئنهم، لا تسرّ أصحاب الاهواء الصبيانية وذوي الطبائع السفيهة، ولا تسلّيهم، فبناءً على هذه الحكمة؛

فان ذوقاً سفيهاً سافلاً، ترعرع في حمأة الشهوة والنفسانية، لا يستلذ بالذوق الروحي، ولا يعرفه أصلاً.

فالأدب الحاضر؛ المترشح من أدب أوروبا، عاجز عن رؤية ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية، من خلال نظرته الروائية، بل هو عاجز عن تذوقها، لذا لا يستطيع ان يجعل معياره محكّاً له.

والأدب يجول في ثلاثة ميادين، دون ان يحيد عنها:

ميدان الحماسة والشهامة..

ميدان الحسن والعشق..

ميدان تصوير الحقيقة والواقع..

فالأدب الأجنبي:

في ميدان الحماسة؛

لا ينشد الحق، بل يلقّن شعور الافتتان بالقوة بتمجيده جَور الظالمين وطغيانهم.

وفي ميدان الحسن والعشق؛

لا يعرف العشق الحقيقي، بل يغرز ذوقاً شهوياً عارماً في النفوس.

وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع؛

لا ينظر الى الكائنات على انها صنعة إلهية، ولا يراها صبغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة ويصور الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها.. لذا يكون تلقينه عشق الطبيعة، وتأليه المادة، حتى يمكّن حبها في قرارة القلب، فلا ينجو المرء منه بسهولة.

ثم ان ذلك الأدب المشوب بالسفه، لا يغني شيئاً عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منه أيضاً، ولربما يهدئها وينيّمها.

وفي حسبانه انه قد وجد حلاً، وكأن العلاج الوحيد، وهو رواياته. وهي:

في كتاب.. ذلك الحي الميت.

وفي سينما.. وهي أموات متحركة.

وفي مسرح.. الذي تبعث فيه الأشباح وتخرج سراعاً من تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي!

هذه هي أنواع رواياته.

وأنّى للميت ان يهب الحياة!..

وبلا خجل ولا حياء!.. وضع الأدب الأجنبي لساناً كاذباً في فم البشر.. وركّب عيناً فاسقة في وجه الانسان.. وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة.

فمن أين سيعرف هذا الأدب؛ الحسنَ المجرد.

حتى لو أراد ان يُري القارئ الشمسَ؛ فانه يذّكره بممثلة شقراء حسناء.

وهو في الظاهر يقول: (السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالانسان)..

ثم يبين نتائجها المضرة..

الاّ انه يصورها تصويراً مثيراً الى حد يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، اذ يضرم في الشهوات، ويهيج النزوات. حتى لا يعود الشعور ينقاد لشئ.

T اما أدب القرآن الكريم:

فانه لا يحرك ساكن الهوى، لا يثيره، بل يمنح الانسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوّق عشق الجمال، والشوق الى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبداً.

فهو لا ينظر الى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعة إلهية، صبغة رحمانية، دون ان يحير العقول.

فيلقّن نور معرفة الصانع..

ويبين اياته في كل شئ..

والأدبان.. كلاهما يورثان حزناً مؤثراً. الاّ انهما لا يتشابهان.

فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ من فقدان الأحباب، وفقدان المالك. ولا يقدر على منح حزن رفيع سامٍ .

اذ استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء يملاؤه بالالام والهموم حتى يغدو العالم مليئاً بالاحزان، ويلقي الانسان وسط اجانب وغرباء دون أن يكون له حامٍ ولامالك! فيظل في مأتمه الدائم..

وهكذا تنطفىء أمامه الآمال.

فهذا الشعور الملئ بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الانسان، فيسوقه الى الضلال، والى الالحاد، والى انكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة الى الصواب، بل قد لا يعود أصلاً.

أما أدب القرآن الكريم:

فانه يمنح حزناً سامياً علوياً، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم.

ينظر الى الكائنات؛ على أنها صنعة إلهية، رحيمة، بصيرة بدلاً من طبيعة عمياء. بل لا يذكرها اصلاً، وانما يبين القدرة الإلهية الحكيمة، ذات العناية الشاملة، بدلاً من قوة عمياء.

فلا تلبس الكائنات صورة مأتم موحش، بل تتحول ـ امام ناظريه ـ الى جماعة متحابّة، اذ في كل زاوية تجاوب. وفي كل جانب تحابب. وفي كل ناحية تآنس.. لا كدر ولا ضيق.

هذا هو شأن الحزن العاشقي.

وسط هذا المجلس يستلهم الانسان شعوراً سامياً، لا حزناً يضيق منه الصدر.

الأدبان.. كلاهما يعطيان شوقاً وفرحاً.

فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي؛ شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون ان يمنح الروح شيئاً من الفرح والسرور.

بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم؛ شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به الى المعالي.

وبناءً على هذا السر:

فقد نهت الشريعة الغراء عن اللهو، وما يُلهي.. فحرّمت بعض آلات اللهو، واباحت أخرى.

بمعنى:

ان الآلة التي تؤثر تأثيراً حزيناً حزناً قرآنياً وشوقاً تنزيلياً، لا تضر. بينما ان أثرت في الانسان تأثيراً يتيمياً وهيّجت شوقاً نفسانياً شهوياً. تحرم الآلة.

تتبدل حسب الاشخاص هذه الحالة..

والناس ليسوا سواء.

الاغصان تقدم الثمرات باسم الرحمة الالهية

ان اغصان شجرة الخليقة تقدم ثمرات النعم وتوصلها ظاهراً الى أيدي الأحياء في كل ناحية من أنحاء العالم.

بل تقدم اليكم تلك الثمرات بتلك الاغصان من يد الرحمة ويد القدرة.

فقبّلوا يد الرحمة تلك، بالشكر،

وقدّسوا يد القدرة تلك، بالامتنان.

بيان الطرق الثلاث المشار اليها في ختام سورة الفاتحة

يا اخي! يا من امتلأ صدره بالامل المشرق! امسكْ خيالك في يدك، وتعال معي.. نحن الآن في ارض واسعة، ننظر الى جوانبها، دون ان يرانا أحد، ولكن اُلقي علينا غيم اسود مظلم فهبط على جبالٍ شمٍ، حتى غطى وجه ارضنا بالظلمات، بل كأنه سقف صلب كثيف.. الاّ انه سقف تُرى الشمس من جهته الاخرى.

ولكننا نحن تحت ذلك الغيم الكثيف، لا نكاد نطيق ضيق الظلمات، ويخنقنا الضجر والانقباض، ففقدان الهواء مميت!.

واذ نحن في هذه الحالة من الضيق الخانق انفتحت امامنا ثلاث طرق تؤدي الى ذلك العالم المضئ. ولقد اتيناه مرةً وشاهدناه من قبل. فمضينا من الطرق الثلاث، كل على انفراد:

T الطريق الاولى:

معظم الناس يمرون منها، فهي سياحة حول العالم؛ والسياحة تشدّنا اليها.. فها نحن ندرج في الطريق نسير مشياً على الاقدام.. فها تجابهنا بحار الرمال في هذه الصحراء الواسعة.. انظر كيف تغضب علينا. وتستطير غيظاً وتزجرنا زجراً.. وانظر الى امواجٍ كالجبال لهذا البحر العظيم.. انها تحتد علينا وها نحن في الجهة الاخرى.. والحمد للّه. نتنفس الصعداء.. نرى وجه الشمس المضئ. ولكن لا أحد يقدّر مدى ما قاسينا من اتعاب وآلام.

ولكن وا أسفى! لقد رجعنا مرة ثانية الى هذه الارض الموحشة التي اطبقت عليها الغيوم بالظلمات ونحن احوج ما نكون الى عالم مضئ يفتح بصيرتنا.

ان كنت ذا شجاعة فائقة فرافقني في الطريق المليئة بالمخاطر، سنخوضها بشجاعة.

وهي طريقنا الثانية:

نثقب طبيعة الارض، ننقب فيها لننفذ ونبلغ الجهة الاخرى. نمضي في انفاق فطرية في الارض والخوف يحيطنا.. فلقد شاهدتُ ــ في زمن ما ــ هذه الطريق ومضيت فيها بوجل واضطراب ولكن كانت في يدي آلة أو مادة تذيب ارض الطبيعة وتخرقها وتمهد السبيل.. تلك المادة اعطانيها القرآن الكريم في الطريق الثالثة.

يا اخي! لا تتركني. اتبعني. لا تخف ابداً. انظر فها امامك كهوف ومغارات كالانفاق تحت الارض، تنتظرنا وتسهّل لنا الطريق الى الجهة الاخرى.

لا تروعك صلابة الطبيعة، فان تحت ذلك الوجه العبوس القمطرير وجه مالكها الباسم. ان تلك المادة القرآنية مادة مشعة كالراديوم.

بشراك يا اخي! فلقد خرجنا الى العالم المنور.. انظر الى الارض الجميلة، والسماء اللطيفة المزينة.. الا ترفع رأسك يا أخي لتشاهد هذا الذي غطى وجه السماء كلها وسما عليها وعلى الغيوم. انه القرآن الكريم.. شجرة طوبى الجنة.. مدّت اغصانها الى ارجاء الكون كله. وما علينا الاّ التعلق بهذا الغصن المتدلي والتشبث به، فهو بقربنا ليأخذنا الى هناك.. الى تلك الشجرة السماوية الرفيعة.

ان الشريعة الغراء نموذج مصغر من تلك الشجرة المباركة.

فلقد كان باستطاعتنا اذن بلوغ ذلك العالم المضئ بتلك الطريق.. طريق الشريعة، من دون ان نرى صعوبة وكللاً.

بيد أننا اخطأنا السير. فلنرجع القهقرى الى ما كنا فيه لنسلك الطريق المستقيم.. فانظر فها هي:

T طريقنا الثالثة:

الداعية العظيم يقف منتصباً على هذه الشواهق الراسية.. انه ينادي مؤذناً بحيهلوا الى عالم النور.. انه يشترط علينا الدعاء والصلاة.. انه المؤذن الاعظم محمد الهاشمي e .

انظر الى هذه الجبال.. جبال الهدى، وقد اخترقت الغيوم، انها تناطح السموات.

وانظر الى جبال الشريعة الشاهقة انها جمّلت وجه ارضنا وأزهرتها. وعلينا أن نحلّق بالهمة لنرى الضياء هناك ونرى نور الجمال.

نعم! فها هنا.. اُحُد التوحيد.. ذلك الجبل الحبيب العزيز.

وها هناك.. جودي الاسلام.. ذلك الجبل الاشم.. جبل السلامة والاطمئنان.

وها هو جبل القمر، القرآن الازهر.. يسيل منه زلال النيل. فاشرب هنيئاً ذلك الماء العذب السلسبيل.

فتبارك الله أحسن الخالقين. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

فيا اخي!

اطرح الآن الخيال، وتقلّد العقل.

ان الطريقين الاُوليين، هما طريق: (المغضوب عليهم والضالين) ففيهما مخاطر كثيرة، فهما شتاء دائم لا ربيع فيهما. بل ربما لا ينجو الاّ واحد من مائة شخص قد سلك فيهما.. كأفلاطون وسقراط.

أما الطريق الثالثة: فهي سهلة قصيرة، لأنها مستقيمة، الضعيف والقوي فيها سيّان. والكل يمكنه ان يمضي فيها.

أما أفضل الطرق واسلمها فهو:

ان يرزقك الله الشهادة أو شرف الجهاد.

فها نحن الآن على عتبة النتيجة.

ان الدهاء العلمي يسلك في الطريقين الأوليين.

أما الهدى القرآني، وهو الصراط المستقيم، فهو الطريق الثالثة فهي التي تبلغنا هناك.

اللّهم اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين.

كل الالام في الـضلالة وكل اللذائذ في الايمان

((حقيقة كبرى تزيّت بزي الخيال))

ايها الصديق الفطن!

ان شئت ايها العزيز ان ترى الفرق الواضح بين (الصراط المستقيم) ذلك المسلك المنور (وطريق المغضوب عليهم والضالين) ذلك الطريق المظلم! تناول اذن يا اخي وهْمَك واركب متن الخيال. سنذهب سوية الى ظلمات العدم، تلك المقبرة الكبرى المليئة بالاموات. ان القدير الجليل قد أخرجنا من تلك الظلمات بيد قدرته، واركبنا هذا الوجود، وأتى بنا الى هذه الدنيا.. الخالية من اللذة الحقة.

فها نحن قد اتينا الى هذا العالم، عالم الوجود.. هذه الصحراء الواسعة. وأعيُننا قد فُتحت فنظرْنا الى الجهات الست، وصوّبنا نظرنا الى الامام واذا البلايا والالام تريد الانقضاض علينا كالاعداء.. ففزعنا منها، وتراجعنا عنها.

ثم نظرنا الى اليمين والى الشمال مسترحمين العناصر والطبائع، فرأيناها قاسية القلوب لا رحمة فيها، وقد كشرت عن اسنانها تنظر الينا بنظرات شزرة. لا تسمع دعاءً ولا تلين بكثرة التوسل. فرفعنا ابصارنا مضطرين الى الاعلى مستمدين العون من الاجرام، ولكن رأيناها مرعبة مهيبة، تهددنا، اذ إنها كالقذائف المنطلقة تسير بسرعة فائقة تجوب بها انحاء الفضاء، من دون اصطدام! يا تُرى لو أخطأت سيرها وضلّت، اذاً لانفلق كبد العالم، عالم الشهادة. والعياذ باللّه. أليس امره موكولاً الى المصادفة، هل يأتي منها خير؟! فصرفنا انظارنا عن هذه الجهة يائسين، ووقعنا في حيرة أليمة، وخفـضنا رؤوسنا وفي صدورنا استترنا، ننظر الى نفوسنا ونطالع ما فيها.. فاذا بنا نسمع ألوف صيحات الحاجات والوف أنّات الفاقات، تنطلق كلها من نفوسنا الضعيفة. فنستوحش منها في الوقت الذي ننتظر منها السلوان، لاجدوى اذن من هذه الجهة كذلك. لجأنا الى وجداننا، نبحث عن دواء. ولكن وا أسفاه لا دواء. بل علينا وقع العلاج، اذ تجيش فيه الوف الآمال والرغبات والوف المشاعر والنزعات، الممتدة الى اطراف الكون.. تراجعنا مذعورين.. نحن عاجزون عن اغاثتها. فلقد تزاحمت الآمال في الانسان حتى امتدت اطرافها من الازل الى الأبد، بل لو ابتلعت الدنيا كلها لما شبعت.

وهكذا اينما ولّينا وجوهنا، قابَلَنا البلاء.. هذا هو طريق (الضالين والمغضوب عليهم) لأن النظر مصوّب الى المصادفة والضلال.

وحيث أننا قلّدنا ذلك المنظار، وقعنا في هذه الحال، ونسينا موقتاً الصانع والحشر والمبدأ والمعاد. انها أشد ايلاماً للروح من جهنم واشد احراقاً منها.. فما جنينا من تلك الجهات الست الاّ حالة مركبة من خوف واندهاش وعجز وارتعاش وقلق واستيحاش مع يتم ويأس.. تلك التي تعصر الوجدان..

فلنحاول دفعها ولنجابهها..

فنبدأ مقدماً بالنظر الى قدرتنا. فوا أسفاه! انها عاجزة ضعيفة.

ثم نتوجه الى تطمين حاجات النفس العطشى، تصرخ دون انقطاع ولكن ما من مجيب ولا من مغيث لإسعاف تلك الآمال التي تستغيث!

فظننا كل ما حولنا اعداءً.. كل شئ غريب. فلا نستأنس بشئ، ولا شئ يبعث الاطمئنان.. فلا متعة ولا لذة حقيقية.

ومن بعد ذلك كلما نظرنا الى الاجرام، امتلأ الوجدان خوفاً وهلعاً ووحشة، والعقول اوهاماً وريباً.

فيا أخي!

هذه هي طريق الضلال. وتلك ماهيتها. فلقد رأينا فيها ظلام الكفر الدامس.

هيا الآن يا اخي لنرجع الى العدم، ثم لنعود منه، فطريقنا هذه المرة في (الصراط المستقيم) ودليلنا العناية الإلهية، وإمامُنا القرآن الكريم.

نعم! لما ارادنا المولى الكريم، اخرجتنا قدرتُه من العدم، رحمةً منه وفضلاً. واركبنا قانون المشيئة الإلهية، وسيّرنا على الاطوار والادوار.. ها قد أتى بنا، وخلع علينا خلعة الوجود وهو الرؤوف، واكرمنا منزلة الأمانة، شارتُها الصلاة والدعاء.

كل دور وطور منزل من منازل الضعف في طريقنا الطويلة هذه، وقد كتب القدر على جباهنا أوامره لتيسير امورنا، فاينما حللنا ضيوفاً نُستقبل بالترحاب الاخوى. نسلّمهم ما عندنا ونتسلّم من اموالهم.. هكذا تجري التجارة في محبة ووئام. يغذّوننا، ثم يحمّلوننا بالهدايا، ويشيّعوننا.. هكذا سرنا في الطريق، حتى بلغنا باب الدنيا، نسمع منها الاصوات.

وها قد اتيناها ودخلناها، وطأت اقدامنا عالم الشهادة، معرض الرحمن، مشهر مصنوعاته، وموضع صخب الانسان وضجيجه. دخلناها ونحن جاهلون بكل ما حولنا، دليلنا وإمامنا مشيئة الرحمن، ووكيلها عيوننا اللطيفة.

ها قد فتحت عيونُنا، أجلناها في اقطار الدنيا.. أتذكر مجيئنا السابق الى ههنا؟ كنا ايتاماً غرباء، بين اعداء لا يعدّون من دون حامٍ ولا مولى.

أما الآن، فنور الايمان (نقطة استناد) لنا، ذلك الركن الشديد تجاه الاعداء.

حقاً، ان الايمان بالله نورحياتنا، ضياء روحنا، روح ارواحنا، فقلوبنا مطمئنة بالله لا تعبأ بالاعداء، بل لا تعدّهم اعداء.

في الطريق الاولى، دخلنا الوجدان، سمعنا الوف الصيحات والاستغاثات، ففزعنا من البلاء. اذ الآمال والرغبات والمشاعر والاستعدادات لا ترضى بغير الأبد. ونحن نجهل سبيل اشباعها. فكان الجهل منا، والصراخ منها.

أما الآن، فاللّه الحمد والمنة، فقد وجدنا (نقطة استمداد) تبعث الحياة في الآمال والاستعدادات، وتسوقها الى طريق أبد الآباد. فيتشرب الاستعداد منها والآمال ماء الحياة، وكلٌ يسعى لكماله.

فتلك النقطة المشوقة، نقطة الاستمداد، هي القطب الثاني من الايمان، وهو الايمان بالحشر. والسعادة الخالدة هي درّة ذلك الصدف.

ان برهان الايمان هو القرآن والوجدان، ذلك السر الانساني.

ارفع رأسك يا اخي، وألق نظرة في الكائنات، وحاورها، أما كانت موحشة في طريقنا الاولى والآن تبتسم وتنشر البشر والسرور؟ الا ترى قد اصبحت عيوننا كالنحلة تطير الى كل جهة في بستان الكون هذا، وقد تفتحت فيه الازهار في كل مكان، وتمنح الرحيق الطهور. ففي كل ناحية انس وسلوان، وفي كل زاوية محبة ووئام.. فهي ترتشف تلك الهدايا الطيبة، وتقطّر شهد الشهادة، عسلاًِ على عسل.

وكلما وقعت انظارنا على حركات النجوم والشموس، تسلِّمها الى يد حكمة الخالق، فتستلهم العبرة وجلوة الرحمة. حتى كأن الشمس تتكلم معنا قائلة:

«يا اخوتي! لا تستوحشوا مني ولا تضجروا! فأهلاً وسهلاً بكم. فقد حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً. انتم اصحاب المنزل، وانا المأمور المكلف بالاضاءة لكم. انا مثلكم خادم مطيع سخرّني الأحد الصمد للاضاءة لكم، بمحض رحمته وفضله. فعليّ الاضاءة والحرارة وعليكم الدعاء والصلاة.

فيا هذا! هلاّ نظرت الى القمر.. الى النجوم.. الى البحار.. كل يرحب بلسانه الخاص ويقول: حياكم وبياكم. فأهلاً وسهلاً بكم!

فانظر يا اخي بمنظار التعاون، واستمع بصماخ النظام، كل منها يقول: (نحن ايضاً خدّام مسخرون. نحن مرايا رحمة الرحمن. لا نسأم من العمل ابداً. لا تتضايقوا منا).

فلا تخيفنكم نعرات الزلازل وصيحات الحوادث، فهي ترنمات الاذكار ونغمات التسبيحات، وتهاليل التضرعات.. نعم ان الذي ارسلكم الى هنا، هو ذلك الجليل الجميل الذي بيده زمام كل اولئك.. ان عين الايمان تقرأ في وجوهها آيات الرحمة.

ايها المؤمن ياذا القلب اليقظ!

ندع عيوننا لتخلد الى شئ من الراحة، ونسلّم آذاننا للايمان بدلاً منها.

ولنستمع من الدنيا الى نغمات لذيذة.. فالاصوات التي كانت تتعالى في طريقنا السابقة ــ وظنناها اصوات مآتم عامة ونعيات الموت.. هي اصوات اذكار في هذه الطريق وتسابيح وحمد وشكر.

فترنمات الرياح ورعدات الرعود ونغمات الامواج.. تسبيحات سامية جليلة وهزجات الامطار وسجعات الاطيار.. تهاليل رحمة وعناية..

كلها مجازات تومئ الى حقيقة.

نعم! ان صوت الاشياء، صدى وجودها، يقول: انا موجود.

وهكذا تنطق الكائنات كلها معاً وتقول: ايها الانسان الغافل لا تحسبنا جامدات! فالطيور تنطق، في تذوق نعمةٍ، أو نزول رحمةٍ فتزقزق باصوات عذبة، بافواه دقيقة ترحاباً بنزول الرحمة المهداة. حقاً النعمة تنزل عليها، والشكر يديمها، وهي تقول رمزاً: ايتها الكائنات! يا اخوتي! ما اطيب حالنا! ألا نُربّى بالشفقة والرأفة.. نحن راضون عما نحن عليه من احوال.. وهكذا تبث اناشيدها بمناقيرها الدقيقة، حتى تحول الكائنات كلها الى موسيقى رفيعة.

ان نور الايمان هو الذي يسمع اصداء الاذكار وانغام التسابيح، حيث لا مصادفة ولا اتفاقية عشواء.

ايها الصديق!

ها نحن نغادر هذا العالم المثالي، ونقف على عتبة العقل وندخل ميدانه، لنزن الامور بميزانه كي نميّز الطرق المختلفة.

فطريقنا الاولى: طريق المغضوب عليهم والضالين. تورث الوجدان حساً أليماً وعذاباً شديداً حتى في اعمق اعماقه، فتطفح تلك المشاعر المؤلمة الى الوجوه، فنخادع انفسنا مضطرين للنجاة من تلك الحالة، ونحاول التسكين والتنويم وابطال الشعور وإلغائه.. وإلاّ لا نطيق تجاه استغاثات وصيحات لا تنقطع! فالهوى يبطل الحس ويخدّر الشعور، والشهوات الساحرة تطلب اللهو، كي تخدع الوجدان وتستغفله وتنيم الروح وتسكّنها لئلا تشعر بالألم. لأن ذلك الشعور يحرق الوجدان حتى لا يكاد يطاق صراخه من شدة الالم.. ألا ان ألم اليأس لا يطاق حقاً!

اذ كلما ابتعد الوجدان عن الصراط المستقيم اشتدت عليه تلك الحالة، حتى ان كل لذة تترك أثراً من الألم، ولا تجدي بهرجة المدنية الممزوجة بالشهوات والهوى واللهو.. انها مرهم فاسد وسمّ منوّم للضيق الذي يولده الضلال.

فيا صديقي العزيز!

لقد شعرنا بالراحة من حالتنا في الطريق الثانية المنورة، فتلك هي منبع اللذات وحياة الحياة، بل تنقلب فيها الآلام الى لذائذ.. هكذا عرفناها، فهي تبعث الاطمئنان الى الروح ــ حسب قوة الايمان ــ والجسد متلذذ بلذة الروح، والروح تتنعم بنعم الوجدان.

ان في الوجدان سعادة عاجلة مندرجة فيه، انها فردوس معنوي مندمج في سويداء القلب. والتفكر يقطّرها ويذيقها الانسان. أما الشعور فهو الذي يُظهرها.

ونعلم الآن: انه بمقدار تيقظ القلب، وحركة الوجدان، وشعور الروح، تزداد اللذة والمتعة، وتنقلب نار (الحياة) نوراً وشتاؤها صيفاً.

وهكذا تنفتح ابواب الجنان على مصراعيها في الوجدان، وتغدو الدنيا جنة واسعة تجول فيها ارواحنا، بل تعلو علو الصقور، بجناحي الصلاة والدعاء.

واستودعكم الله يا صديقي الحميم. ولندع معاً كلٌ لأخيه. نفترق الآن والى لقاءٍ.

اللّهم اهدنا الصراط المستقيم.

جواب موجّه الى الكنيسة الانكليكية

سأل ذات يوم قسيس حاقد، ذلك السياسي الماكر، العدوّ الألدّ للاسلام، عن اربعة امور طالباً الإجابة عنها في ستمائة كلمة. سألها بغية اثارة الشبهات، مستنكراً ومتعالياً، وبشماتة متناهية، وفي وقت عصيب حيث كانت دولته تشد الخناق في مضايقنا.

فينبغي الإجابة بـ: تباً لك! تجاه شماتته، وبالسكون عليه بسخط تجاه مكره ودسيسته، فضلاً عن جواب مسكت ينزل به كالمطرقة تجاه انكاره. فأنا لا أضعه موضع خطابي، بل اجوبتنا لمن يلقي السمع وينشد الحق وهي الاتية:

فلقد قال في السؤال الأول: ما دين محمد e ؟. قلت: انه القرآن الكريم. أساس قصده ترسيخ اركان الايمان الستة وتعميق اركان الاسلام الخمسة.

ويقول في الثاني: ماذا قدّم للفكر وللحياة؟ قلت: التوحيد للفكر، والاستقامة للحياة. وشاهدي في هذا: قوله تعالى ] قل هو الله أحد[ ] فاستقم كما اُمرت[ .

ويقول في الثالث: كيف يعالج الصراعات الحاضرة؟. اقول: بتحريم الربا وفرض الزكـاة. وشاهـدي قوله تعـالى: ] واحل الله البيـع وحرم الربـا[ ] يمحـق الله الــربا[ ] واقيموا الصلاة واتوا الزكاة[ .

ويقول في الرابع: كيف ينظر الى الاضطرابات البشرية؟ اقول: السعي هو الاساس، والاّ تتكدس ثروة الانسان بيد الظالمين، ولا يكنزوها. وشاهدي قوله تعالى: ] وأن ليس للانسان الاّ ما سعى[ ] والذين يكنزون الذهـب والفـضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم[ (1).

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا فرد، يا حي، يا قيوم، يا حكم، يا عدل. يا قدوس

بحق الاسم الاعظم وبحرمة القرآن المعجز البيان وبكرامة الرسول الاعظم e ، ادخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنة الفردوس والسعادة الابدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الايمان والقرآن دوماً وابداً.. آمين واكتب في صحيفة حسناتهم ألف حسنة لكل حرف من حروف كتاب (الكلمات)... آمين. وأحسن اليهم الثبات والدوام والاخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا ارحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والانس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

بإسم جميع طلاب النور

سعيد النورسي



باسمه سبحانه

لقد كانت ترجمة كليات رسائل النور الى اللغة العربية ونشرها غاية المنى لمؤلّفها الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وقد حث عليها في رسائل عديدة. حتى أنه كان يأمل قيام علماء من الازهر أو من بلاد الشام على ترجمة (مجموعة عصا موسى). وقبل ارتحاله الى دار البقاء ارسل احد طلبته الى العراق ومصر بغية الاتصال بالعلماء هناك على أمل الشروع بترجمة الرسائل. وفعلاً تمت ترجمة ونشر عدد قليل من رسائل صغيرة في الشام.

ولما درّس الاستاذ من كان حوله من الطلاب (المثنوي العربي النوري) و تفسير (اشارات الاعجاز) وهما مؤلفان باللغة العربية، أمر بطبعهما (بالرونيو) ونشرهما، كما بعث (المثنوي العربي النوري) الى علماء في العالم ولا سيما الى علماء في العالم الاسلامي. وقد نشرت وقتئذٍ بعض الرسائل من قبل عدد من الفضلاء.

أما الآن فقد ظهرت ولله الحمد، الترجمة الأمينة الكاملة لكليات رسائل النور بفضل الله وكرمه وشمول عنايته، بجهود ذوي علم فاضلين متعاونين مخلصين صادقين وهمتهم كشخص معنوي جاد وهيئة علمية دؤوبة، اذ قام الأخ احسان قاسم الصالحي واخوة صادقون معه في خدمة نور القرآن والايمان بترجمتها ونشرها.

ومن التوافق العجيب والتشابه الغريب أن تظهر هذه المترجمات في ظروف عصيبة واوقات صعبة تمر على العراق شبيهة تماماً بالسنين الحالكة الاولى لتأليف رسائل النور. ولم تظهر هذه المترجمات إلا بفضل إمداد معنوي وحماية شاملة ورعاية تامة القتها رحمة الرحمن الرحيم على اولئك الاخوة الصادقين فوجّهت انظارهم الى حقائق رسائل النور وعزفتهم عن الاحداث السياسية المتقلبة. وهكذا تجلت العناية الربانية، فبذلوا ما وسعهم لنشر انوار القرآن والايمان، واصبحت الادعية المرفوعة من انحاء العالم الاسلامي والتهاني القلبية بظهور المترجمات مدداً لهم يشد من عزائمهم على مواصلة العمل. فللّه الحمد والمنة ان تمت ترجمة كليات رسائل النور على هذه الصورة الكاملة وعرضت أمام انظار العالم الاسلامي على هيئة مجموعات.

ولما كان استاذنا المحترم بديع الزمان سعيد النورسي يكتب دعاءً جامعاً ختام كل مجموعة من مجموعات رسائل النور المنشورة، لذا ثبّتنا الدعاء نفسه اعلاه لما نعتقد بأن كتابته ختام المترجمات العربية ايضاً كانت من رغبات استاذنا المعنوية.

ونلفت نظر القراء الكرام الى ما يأتي:

كان استاذنا يقول: ان رسائل النور درس قرآني يوافق أفهام هذا العصر. وقد علق هذه اللوحة على ظهر الباب الخارجي لمحل اقامته في كل من اسبارطة واميرداغ، وكان يستقرئها كل زائر له:

الى جميع اخوتي الاعزاء الراغبين في مقابلتي وزيارتي ابيّن لهم الاتي:

انني لا اطيق مقابلة الناس ما لم تكن هناك ضرورة، اذ التسمم الحالي، والـضعف الذي اعترى جسمي، وكذا الشيخوخة والمرض.. كل ذلك جعلني عاجزاً عن التكلم كثيراً. ولأجل هذا ابلّغكم يقيناً أن كل كتاب من رسائل النور انما هو (سعيد). فما من رسالة تطالعونها إلاّ وتستفيدون فوائد افـضل من مواجهتي بعشرة اضعاف، بل تواجهونني مواجهة حقيقية. فلقد قررت: ان اذكر في دعواتي وقراءاتي صباح كل يوم اولئك الراغبين في لقائي لوجه الله بديلاً عن عدم استطاعتهم من اللقاء، وسأستمر على هذا القرار.

سعيد النورسي

وبعد وفاة استاذنا الجليل تبين أنه يواصل خدمة الايمان والقرآن برسائله، رسائل النور وكأنه على قيد الحياة مرشداً كاملاً وإماماً للعصر.

اجل.. اجل.. ان التحاق ابناء الجيل الجديد افواجاً افواجاً في كل مكان بقافلة النور واسترشادهم برسائل النور يثبت اثباتاً فعلياً مجسماً هذه الحقيقة. ونحن على ثقة من ان الرسائل المترجمة الى العربية تؤدي العمل نفسه وتحمل المعنى نفسه والروح نفسها.

والحمد لله هذا من فضل ربي والخير والنور والسعادة كلها من الله وحده.

ومن الله التوفيق والسداد.



من طلاب النور الذين خدموا

الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي

عبدالله، حسني، بايرام، صونغور



بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واما بنعمة ربك فحدّث[

حمداً لله بما لا يتناهى من الحمد، حمداً لله بما يليق من الحمد، حمداً لله بما هو أهله. فاللّهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام الأصفياء والمتقين وحبيب رب العالمين وعلى آله الأطهار وصحبه الابرار.

واذ أبتهل الى المولى القدير أن مَنّ علينا هذه النعمة العظمى، نعمة ترجمة رسائل النور. أتضرع اليه تعالى أن يوزعني شكر نعمته هذه، ويديمها علينا جميعاً.. ولقد عزمنا على نشر (كليات رسائل النور) كاملة في مجموعات بإذن الله تعالى وسنفرد منها مجلداً كاملاً لحياة الاستاذ المؤلف مع دراسة مفصلة عن رسائل النور، لذا لم نَر داعياً الى تقديم الكتاب بنبذة عن المؤلف والمؤلَّف كما هو معتاد.

ومع هذا أراني مضطراً الى ان اضع هذه الملاحظات امام القارئ الكريم في ختام هذه (الكلمات):

ان الذي يواكب خيالاً زمن تأليف رسائل النور ونشرها يجد أن الأمة، أمة الإسلام تمر في أحلك فترات حياتها، حيث تجتاح سيول الظلمات، ظلمات الفتن العاتية أرجاء العالم الاسلامي كافة، وتغزو الشبهات والأفكار الباطلة العقول والقلوب من كل صوب، فأظلمت النفوس واختنقت الارواح حتى انقطع الرجاء..

في هذه الفترة الحرجة من حياة الامة مَنّ الله عزوجل على هذه الأمة فقيّض الاستاذ سعيد النورسي للذود عن حياض الإيمان وبيان انوار القرآن، وشرح صدره للتتلمذ على يدي القرآن العظيم والتزود من نبعه الفيّاض، حتى استنار قلبه وسطع فكره وارتوت روحه من زلال القرآن ونور الايمان فأملى على من حوله من محبيه ما استلهمه من نور الكتاب المبين هذه اللفتات القرآنية والمعارف الإلهية والفيوضات الإيمانية، فكانت هذه الرسائل التي أطلق عليها اسم (رسائل النور).

وهذه المجموعة (الكلمات) التي تضم ثلاثاً وثلاثين كلمة هي عمدة رسائل النور، اذ الكلمة الثالثة والثلاثون منها عبارة عن ثلاث وثلاثين مكتوباً، جُمعت في مجموعة مستقلة سميت بـ (االمكتوبات). وانبثقت من المكتوب الحادي والثلاثين ثلاث وثلاثون لمعة هي مجموعة (اللمعات). وتشعبت من اللمعة الحادية والثلاثين منها مجموعة (الشعاعات) التي تضم خمسة عشر شعاعاً.

فرسائل النور مائة وثلاثون ونيف من الرسائل مع خمس عشرة رسالة باللغة العربية.. كل منها رسالة مستقلة بحد ذاتها اي لا تلجئ القارئ الكريم الى البحث عن الرسائل الاولى كي يحيط فهماً بالتالية منها، بل هو حر في اختيار الرسالة من أية مجموعة كانت بغير اعتبار لتسلسلها. وإن لقيه شئ من الغموض سواء في العبارة أو في المعنى فسيلاقيه حتماً توضيح وبيان في موضع آخر.

وقد وضعنا هوامش لتوضيح بعض العبارات أو المصطلحات، كما وضعنا ارقام الآيات الكريمة واسماء سورها، وكذا خرّجنا الاحاديث الشريفة من مظانها من الكتب الموثوقة، وأبقينا ما لم نستطع على تخريجه كما هو، علّنا نظفر في قابل الأيام بنصيحة أخوية من عالم ضليع بالحديث النبوي الشريف.

وقد يلفت نظر القارئ الكريم ما يذكره الاستاذ المؤلف من مفاهيم علمية أو مصطلحاتها التي كانت دارجة زمن تأليف الرسالة، الاّ انها تبدلت وتغيرت بمرور الزمن، كمولّد الحموضة ومولّد الماء، أو عدد المسلمين في العالم.. أو ما شابهها من الامور، فترجمناها نصاً دون أن نحشر فيها شيئاً من عندنا الاّ ما اشرنا اليه بهامش، وذلك حفاظاً على امانة الترجمة.

واسم هذه المجموعة (سوزلر) ترجمناه بـ(الكلمات) لأن الاستاذ المؤلف نفسه قد ذكر في الشعاع الأول: ان (سوزلر) تعنى (الكلمات) باللغة العربية. أما اسم الديوان الملحق بهذه المجموعة (لمعات) فقد ترجمناه بـ(اللوامع) لئلا يلتبس مع اسم مجموعة (اللمعات).

ولقد حرصت كل الحرص في الترجمة ان اكون اميناًً ما استطعت، محافظاً على المعنى الذي يقصده الاستاذ المؤلف، مما تطلب مني طول النظر في الرسائل كلها والتأمل في عباراتها والامعان في معانيها. لذا تحاشيت التقيد بحرفية النص، لاعتقادي بعدم إيفائه الغرض، اذ لا يوحي المعنى الذي يريده المؤلف الى روح القارئ، ولا يخفى مدى الصعوبة البالغة في نقل المعنى من لغة الى اخرى ولا سيما المعاني الواسعة العميقة التي يحصرها الاستاذ النورسي في عبارات دقيقة وجمل موجزة، ولكن بفضل الله العميم وبعنايته الشاملة ذُللت تلك الصعوبات، اذ هيأ سبحانه وتعالى للأمر اساتذة كرماء ممن درسوا ودرّسوا قواعد اللغة العربية وآدابها، وعلماء أفاضل ممن لهم الباع الطويل في التفسير والحديث والعلوم الاسلامية، واخوة صادقين تولوا مهمة التبييض والتنقيح ومقابلة النصوص. بل كنت استنصح كل قارئ واستشير كل من له خبرة في هذا الموضوع ليدلّني على الصواب. مما أضفى على الترجمة جمالاً في العبارة ودقّة في التعبير وبعداً عن الاخطاء ما امكن وتطابقاً في المعنى، حتى سلمت - في نظري - من عورات الركاكة وعيوب العجمة. والحمدلله اولاً وآخراً، وهذا من فضل ربي الذي أسبغ عليّ نعمه ظاهرة وباطنة رحمةً منه تعالى لضعفي ورأفة بعجزي فأمدّني باولئك الميامين من ذوي الاقلام القوية والفكر الخصب والرأي السديد، الذين آزروني وشدّوا من عزيمتي على الاستمرار في العمل بغير كلل، حتى ظهرت المترجمات الى ساحة النشر ببركة اخلاصهم وصدق نواياهم. ولولا علمي بأن هؤلاء الاخوة البررة لا يحبذون ذكر اسمائهم، لما ترددت في ذكرهم فرداً فرداً. ولئن لم اذكرهم باسمائهم فهم مذكورون لدى العلي القدير بما قدّموا من عمل جليل خالص زكي في سبيل نشر الايمان ورفع راية القرآن.

فالى كل اولئك الاخوة الأكارم، والى الاخوات الفاضلات، والى كل من أعانني في أيّ شأن من شؤون الترجمة، تصحيحاً وتهذيباً وتشذيباً وتبييضاً ودعاءً وحثاً، أقدم عظيم شكري ومزيد امتناني راجياً المولى القدير ان يجزل ثواب عملهم الخالص ويرزقهم واياي حبّه وحب من يحبّه والعمل الذي يبلغنا الى حبه.

وأملي في الله عظيم ان يكون القارئ العزيز ايضاً كريماً يصفح عن الزلات ويغض الطرف عن الهفوات ويدعو لنا بظهر الغيب خالص الدعوات ويرشدنا الى مافيه الخير والسداد.

ومما يزيد شكري وحمدي لله تعالى ان مسك الختام لهذه المجموعة الاولى هو دعاء الاستاذ النورسي نفسه بقلم أوصيائه وطلابه الذين رافقوه ولازموه طوال سني حياته المباركة حتى وافاه الأجل ورحل الى عالم الآخرة فرحمة الله عليه رحمة واسعة ونفعنا بعلومه القرآنية وخدمته الأيمانية.

والله نسأل أن يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

احسان قاسم الصالحي

وراثة النبوة 05-27-2011 03:15 PM

رد: الكلمات
 
جزاكم الله خيرا على هذا الجهد المبارك


الساعة الآن 01:38 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى