منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   رسائل ووصايا في التزكية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=15)
-   -   صيقل الإسلام (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=6301)

عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:21 PM

صيقل الإسلام
 

كليات رسائل النور
8
صيقل الإسلام

تأليف
بديع الزمان سعيد النّورسي

ترجمة
إحسان قاسم الصالحي

صيقل الإسلام - ص: 5
هذه المجموعة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
بعد ان اكرمنا المولى الكريم بعميم فضله وجميل توفيقه على اكمال ترجمة "كليات رسائل النور" ونشرها في سبعة مجلدات، آثرت ان اعرج على مؤلفات الاستاذ النورسي القــديمة التي الّفــها في عهد "سعيد القديم" اي قبل شروعه بتأليف رسائل النور سنة 1927 . وذلك لان لهذه الرسائل "القديمة" اهميتها التأريخية من جهة، وقيمتها الفكرية من جهة اخرى، مثلما نبّه اليها الاستاذ المؤلف نفسه في مواضع كثيرة من مكاتيبه التي ارسلها الى طلاب النور. حتى انه ادمج قسماً من هذه الرسائل ضمن موضوعات وفصول تاريخ حياته "سيرة ذاتية" بل اشار الى طلابه القيام بنشر قسم منها على صورة كتيبات مستقلة وذلك بعد إعادة النظر فيها وقراءتها بانعام في ضوء موازين رسائل النور وقواعدها واسسها، فاجرى تصحيحات دقيقة في الرسائل التي تمس الحياة الاجتماعية والسياسية مستخرجاً منها فقرات ومقراً اخرى ومضيفاً اليها جملاً وحاذفاً اخرى، علاوة على وضع هوامش في كثير من المواضع لتوضيح ما غمض واستجلاء ما استتر من المعاني. بمعنى انه نقّح هذه الرسائل تنقيحاً دقيقاً وشذبها تشذيباً كاملاً حتى جعلها جاهزة للنشر يستفيد منها العلماء وعامة الناس ايضاَ.
ونحن بدورنا جعلنا تلك النسخ المصححة المنقحة هي المعول عليها في اثناء ترجمة التركية منها الى العربية، او في تحقيق العربية منها .
فـلله الحمد والمنة اولاً وآخرًا.
وتضم هذه المجموعة الرسائل الآتية:


صيقل الإسلام - ص: 6
1- محاكمات عقلية في التفسير والبلاغة والعقيدة :وهي المسماة بـ "صيقل الاسلام" او"رجتة العلماء".2- قزل ايجاز :
حاشية الاستاذ النورسي على "السلم المنورق "المنظوم لشيخ الاسلام عبدالرحمن الاخضري (983هـ) في علم المنطق ،مع شرح الملا عبد المجيد .3 - تعليقات على برهان الكلنبوي :
وهي رسالة في علم المنطق ايضاً عبارة عن تعليقات وتقريرات الاستاذ النورسي على كتاب "البرهان" للعالم المحقق اسماعيل بن مصطفى الكلنبوى (1205هـ).
وهاتان الرسالتان - في علم المنطق - ألفهما الاستاذ النورسي باللغة العربية. ولم أجر فيهما غير التنسيق والتنظيم على أمل ان يهئ المولى القدير من يتناولهما بالشرح والتوضيح ليعمّ النفع. والرسائل الثلاث رسائل علمية تخاطب العلماء وربما الخواص منهم.
اما بقية الرسائل فالطابع الغالب عليها انها رسائل تسلط الاضواء على الاوضاع الاجتماعية والسياسية في فترة ما قبل الحرب العالمية الاولى، اي انها الفت والدولة العثمانية تعاني ما تعانى فى ايامها الاخيرة، وقد دبت فيها امراض شتى وعلل متنوعة، لذا فهي تداوى تلك الامراض وتقدم الحلول الوافية والعلاجات الشافية لها، وفي الوقت نفسه تضمد الجروح الغائرة التي اصيبت بها الامة الاسلامية جمعاء وتضع البلسم الشافي عليها باسلم وسيلة.
بمعنى ان هذه الرسائل ليست رسائل قديمة قد عفا عليها الزمن، بل تنطوي على دروس اجتماعية وموازين سياسية تنبض بالجدة وتتدفق طراوة ونداوة حيث انها حقائق ثابتة.
والرسائل هي:4- السانحات.
5- المناظرات.


صيقل الإسلام - ص: 7
6- المحكمة العسكرية العرفية:وهي دفاع الاستاذ النورسي امام المحكمــة العسكرية العرفيــة في عهد الاتحاديين، والمسماة بـ "شهادة مَدْرَسَتَيْ المصيبة" اذ عندما طالب الاستاذ اصلاح التعليم وتأسيس جامعة في شرقي الاناضول باسم مدرسة الزهراء القي في مستشفى المجاذيب،وبعده اقتيد الى المحكمة العسكرية بتهمة مطالبته بعودة الشريعة. حيث قال له رئيس المحكمة خورشيد باشا وهو يشير الى الجثث المعلقة على اعواد المشانق:
- وانت ايضاً تطالب بالشريعة!!
وهكذا يعدّ الاستاذ النورسي مستشفى المجاذيب مدرسة مصيبة اولى والسجن مدرسة مصيبة ثانية.7- الخطبة الشامية.
8- الخطوات الست.وقد قدمت عملي ترجمةً وتحقيقاً في مستهل كل رسالة من الرسائل الثمان لهذه المجموعة مع بيان اهمية الرسالة وسبب تاليفها.
ثم ان هذه المجموعة لا تضم مؤلفات سعيد القديم جميعها، بل هناك رسائل اخرى نشرت وقت تأليفها، الا ان المؤلف لم ينشرها في عهد سعيد الجديد. او لم يرَ داعياً الى نشرها، ربما لاندراج كثير من مفاهيمها ضمن رسائل اخرى وهي: "طلوعات، اشارات، نطق، رموز..." علماً ان قسماًً آخر من مؤلفات سعيد القديم قد نشر مستقلاً مثل: "اشارات الاعجاز في مظان الايجاز" و"المثنوي العربي النوري" وكذا "اللوامع" التي نشرت ملحقة بمجموعة "الكلمات".
وقد ارتأينا ان نستعير اسم إحدى رسائل هذه المجموعة وهو "صيقل الإسلام" عنواناً لكامل هذه المجموعة.
والله نسأل ان يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 9
محاكمات

في التفسير والبلاغة والعقيدة
أو
صيقـل الاسلام
"رجتة العلماء"

وصفة طبية: لعصر مريض، وعنصر عليل، وعضو سقيم

تأليف
بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة وتحقيق
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 11
تقديم
العالم الفاضل الاستاذ الدكتور
عبدالملك السعدى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرشدين، وعلى آله واصحابه الهداة المهديين.
وبعد، فالامام النورسي أشهر من أن يُعرّف به؛ اذ قد تجسد في ذاته جميع ما اطلق عليه من الفاظ، فهو سعيد اسماً ومعنى، وبديع زمانه جهاداً وتضحية، ونور شعَّ في ظروف تركية اسلامياً هي بامس الحاجة الى انوار عقليته الجبارة وتوجيهاته السديدة.
فقد عرفتُ النورسي من خلال ثروته العلمية عالماً نابغاً، ومرشداً مبصّراً، وواعظاً مؤثراً، ومجاهداً مثابراً، وصابراً على المكاره جليداً، ومؤلفاً بارعاً .
كيف لا.. وهو الذي افنى حياته بين سجن وإبعاد، وايامه بين ضغط واضطهاد.
وهو الذي زين خزانات العلم بمؤلفاته ورسائله.
لقد ظهر النورسي في ظروف وكأنها تنتظره لإصلاح ما فسد بها واعلاء ما انخفض فيها.
وما هو وجهادهُ إلا لمحة من لمحات
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ونبأٌ من انباء خلود الرسالة المحمدية في ارض الله.
فقد ظهر في عصر رفع الكفر رأسه فيه، واشرأبت اعناق التضليل لتطل بنظراتها المسمومة على دولة لها عراقتها في الحضارة الاسلامية ولها دورها الفعال في تدعيم ركائز العقيدة في بلاد الاناضول.
فقد وقف وقفة الشجاع الصامد، والهزبر الجسور امام ائمة العلمانية ودعاتها فألقم بحججه وكتابته ومناظراته حجراً للأفواه النتنة المتمشدقة بالطعن بالاسلام ولغة القرآن واتهمتها بالرجعية والتخلف.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 12
فالامام سنّ في تركيا المسلمة سنة حسنة له اجرُها واجر مَن عمل بها الى يوم القيامة؛ اذ قابل الشر بالخير، وعالج الفكر بالفكر، فدعوته كانت وما زالت بعده تغرس العقيدة في نفس الشعب التركي وتحفّّز همته وتوقد جذوة الايمان في قلبه كلما اراد اهل الشر اطفاءها.
ولم تكن حركة هذا الامام مقصورة على الشعب التركي المسلم فحسب بل انتشرت الى العالم وذاع صيتُها وخرجت الى ارجاء العالم تحمل بين يديها الامل والبشرى للمؤمنين وايقنوا ان شعباً تخلد فيه حركة كحركة النورسي حريّ به ان تحقق اهدافه في مواصلة الدرب الذي وضعهم الامام عليه .
فقد حصل لهذا الرائد الكبير والمصلح الملهم اتباع يحملون ذلك المشعل الذي اوقده بايديهم داخل تركية وخارجها ليواصلوا المسيرة حتى يرفعوا راية الاسلام على ربوع بلاد الفاتح.
وقد قيّض الله لنشر مؤلفاته وترجمتها رجالاً مخلصين لربهم ولدينهم ولعقيدتهم، ومن بين هؤلاء الرجال الاخ الماجد الاستاذ احسان قاسم الصالحي اذ قد ترجم له العديد من مؤلفاته الى العربية وملأ بها اسواق العراق وخزانات العلماء، فجزاه الله خيراً عن المؤلف وعن المسلمين وبارك له في جهوده.
والاستاذ الصالحي هو الذي عرض عليّ ان اُشرّف ناظري في كتاب من كتب هذا الداعية الكبير، واكحّل اجفاني بما انطوى عليه من حِكمٍ جمة ومعرفة واسعة وعلم غزير.ذلك الكتاب هو "محاكمات عقلية".
وبعد ان تصفحتُ صفحاته وقلبت طرف الطَرْف في سطوره وجنباته واطلعت على كنوز ذخائره وخزانته: وجدته كتاباً قد احتوى على معلومات لها وزنها لدى اهل العلم والمعرفة ولها قيمتها عند اهل الفضل والعرفان. إلا اني وجدت الشيخ رحمه الله قد تأثر في اسلوبه ببلاغة بلغاء كالسكاكي والتفتازاني والجرجاني وغيرهم حيث كانت ظاهرة الغموض تضفو على اسلوبه. وعلامات التعقيد تظهر على عباراته مع انه قد اتجه اتجاهاً روحياً دقيقاً متحدياً كثيراً من اعداء العقيدة مقرناً تحدياته بالتوجيه والنصح والتحذير مما قد ينأى بعيداً بالقارئ عن عنوان الموضوع.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 13
لذا فان حكمي على الكتاب بانه: كتاب علمي رصين وليس كتاباً ثقافياً يسهل تناول ما فيه لكل من له خلفية اسلامية، بل يستفيد منه اهل التخصص بهذا الشأن وليس للعامة فيه نصيب.
ومع هذا فان المكتبة الاسلامية العربية بحاجة الى اخراجه من حيز العدم الى حيز الوجود ليتبوأ مكانته مع اخواته مصنفات المؤلف نفسها والمصنفات الاخرى التي املتها قرائح فطاحل هذه الأمة وافذاذها من رجال الفكر والتأليف.
فللأخوة القائمين بنشر تراث هذا الرجل العظيم مني كل اجلال وتقدير مع دعائي لهم بالتوفيق من العلي القدير.ولهذا الحبر من ابناء امة محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة والرضوان من الرحمن الرحيم.واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعيند. عبد الملك عبد الرحمن السعديالعراق
- الرمادي - الجامع الكبير
تحريراً في 26/7/1410
23/3/1990م



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:22 PM

رد: صقيل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 15
كلمة للقارئ الكريم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:
لقد سمّى الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي مؤلَّفه هذا بـ"رجتة العلماء" أي الوصفة الطبية للعلماء. وذلك لما كان يشعر به ويلمسه من حاجة العلماء ولاسيما علماء عصره، الى تناول مثل هذه العلاجات التى يضمها الكتاب.
فكتب مؤلفه هذا باللغة التركية ثم ترجمها الى لغة العلم السائدة لدى اهل العلم وهي اللغة العربية. الاّ انه اجمل فيه ما فصّل هناك. حتى غدا النص العربي غامضاً مغلقاً - الا للعلماء - مما اضطر الى كتابة "تنبيه" في مستهل الترجمة العربية في طبعتها الاولى وكما مايأتي:
"وجب عليك ان لا تتعجل في مطالعتها وان تسأل اهل الذكر ان كنت لا تعلم، وعليك برفيقتها التركية فانها شرحت معمياتها وقربتها الى افواه افهام العوام".
وفي ختام التنبيه كرّر قوله:
"واسترفق رفيقة تركية القدِّ تفصّل ما اجمل، فعليك بالصحبة معها".
ونرى ايضاً ان الاستاذ النورسي عندما ضُمَّ الى عضوية دار الحكمة الاسلامية التابعة للمشيخة الاسلامية للدولة العثمانية، سجّل هذا الكتاب ضمن كتبه التركية في سجل الدار المذكورة.
بمعنى ان الكتاب قد ألّف اصلاً باللغة التركية ثم لخّصه المؤلف نفسه في عبارات مجملة جداً باللغة العربية.
اخلص من هذا ان السبب الذي دعاني الى ترجمة الكتاب وتحقيقه وعدم الاكتفاء بترجمة المؤلّف العربية هو الغموض الشديد في النص العربي الى حد استعصاء الفهم - الاّ للعلماء - بينما المؤلف التركي يستفيد منه العلماء وكثير من المهتمين والمثقفين.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 16
والسبب الآخر والاهم الذي دعاني الى القيام بالترجمة والتحقيق هو انني لما اكرمني المولى القدير بتحقيق آثار الاستاذ النورسي العربية "المثنوي العربي النوري" ثم "اشارات الاعجاز" و "الخطبة الشامية" رأيت انه من الواجب عليّ تقديم هذا الكتاب للقارئ الكريم باسلوب مفهوم حيث المؤلف عدّه مقدمةً لتفسيره الجليل "اشارات الاعجاز في مظان الايجاز". فـلله الحمد والمنة على توفيقه الكريم وله الفضل اولاً وآخراً.
والكتاب بحد ذاته يحوز اهمية بالغة للمهتمين بالفكر الاسلامي والعلوم الاسلامية اذ يبرز ما كان يدور في اذهان العلماء وكتب التفاسير المتداولة في ذلك العصر - اواخر الدولة العثمانية - فضلاً عن ان الموازين والقواعد التي وضعها المؤلف لتقويم المفاهيم الغريبة والدخيلة في كتب متداولة لدى العلماء، ماتزال تحتفظ تلك الوازين بجدتها وحيويتها وحقيقتها، ولعل هذا هوالسبب الذي ادّى الى تسمية الكتاب بـ "محاكمات عقلية اوصيقل الاسلام" املاً من المؤلف ان يشحذ به سيف الاسلام ويجليه من ادران وصدأ.
كان نهجي في الترجمة والتحقيق الآتي:
اولاً: ترجمة النص التركي المطبوع في دار سوزلر للنشر باستانبول سنة 1977م مع الاعتماد على نسخة من الطبعة الاولى "مطبوعة سنة 1327- 1911م بمطبعة "ابو الضياء باستانبول" وعلى هذه النسخة تصحيحات المؤلف نفسه. تفضّل بها عليّ الاخوة العاملون في دار سوزلر، جزاهم الله خيراً.
ثانياً: مقابلة الترجمة بعد الانتهاء منها بترجمة المؤلف الموجزة بطبعتها الاولى المنشورة تحت اسم "رجتة العلماء". وبطبعتها الثانية المنشورة ضمن كتاب "الصيقل الاسلامي" بمطبعة النور بانقرة سنة 1958م.
ثالثاً: اقتباس بعض عبارات المؤلف العربية من ترجمته.
رابعاً: ضبط الآيات الكريمة وبيان مواضعها من السور.
خامساً: تخريج الاحاديث الشريفة بمعاونة الاخ الكريم فلاح عبد الرحمن.
سادساً: كتابة هوامش لشرح بعض الاصطلاحات العلمية الواردة في الكتاب.
سابعاً: وضع تراجم مختصرة في الهوامش لعدد من الاعلام التي وردت


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 17
في الكتاب ولمؤلفاتهم ممن لم ينالوا حظاً من الشهرة عند القارئ مع اغفال المشاهير المعروفين عندهم.
وبعد ان تم العمل بفضل الله وددت ان لو قام احد العلماء الافاضل بمراجعة ما قمت به من تحقيق وترجمة. علّه يرشدني الى ما فيه الاصوب. فشاء الله ان يكون ذلك العالم هو الشيخ الجليل والعالم المبجّل والاستاذ القدير الدكتور عبد الملك السعدي فما ان عرضت عليه الفكرة حتى رحب بها وقبلها بتواضع جم. فقرأ الكتاب قراءة عالم مدقق ونبّهني على نقاط قد غفلت عنها ووضع هوامش ذيّلتها باسمه. ثم كلل جهدي بمقدمة قيّمة نافعة باذن الله فجزاه الله عنا خير جزاء.
والله نسال ان يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 19
محاكمات

في التفسير والبلاغة والعقيدة
أو
صيقـل الاسلام
"رجتة العلماء"

وصفة طبية: لعصر مريض، وعنصر عليل، وعضو سقيم

تألبف
بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة وتحقيق
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 21
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وبالله التوفيق
التحيات للحاكم الحكيم الرحمن الذي لم يزل.. الذي فضلنا بالاسلام، وهدانا الى الصراط المستقيم بشريعته الغراء، تلك التي صدّق العقل والنقل معاً حقائقها الثابتة، الراسخة في ارض الحقيقة اصولها، المنتشرة في سماء الكمالات فروعها، الحاملة بسعادة الدارين ثمارها.
والذي ارشدنا الى الحق المبين، بقرآنه المعجز البيان: الذي بيّن بقواعده - من كتاب العالم - قوانين الله العميقة الجارية بيد القدر، المسطّرة بقلم الحكمة على صفحة الوجود، فيحقق باحكامه العادلة رقي البشرية وسمو نظامها ودقة اتزانها، فاصبح حقاً مرشداً وهادياً الى سواء السبيل.
والصلاة الدائمة على سيد الكونين وفخر العالمين الذي: يشهد لرسالته ويدل على معجزاته ويدعو الى ما أتى به من خزينة الغيب من كنز عظيم: العالم بانواعه واجناسه، حتى لكأن كل نوع يرحّب بمقدمه بلسانه الخاص، كما يستنطق سلطان الازل أوتار الارض والسموات، فينشد كل وتر بلسان نغمات معجزاته، فيرنّ ذلك الصدى الجميل الى الأبد ما دامت هذه القبة الزرقاء.
فالسماء تبارك رسالته، بألسنة معراجها وملائكتها وقمرها.
والارض تفخر بمعجزاته، بألسنة حجرها وشجرها وحيوانها.
وجو الفضاء يبشر بنبوته،بجنّه، ويظللها ويحميها بسحائبه.
والماضي يبشر بالفجر الصادق لذلك السراج المنير، بتصديق الانبياء وتلويحات الكتب ورموز الكهان.
والحال الحاضرة - اعنى خير القرون، قرن السعادة النبوية - تشهد على ثبوت نبوته بلسان الحال، بالانقلاب العظيم الذي احدثته في طبائع العرب، وتحويلهم دفعةً من البداوة الصرفة الى المدنية المحضة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 22
والمستقبل يشكر بلسان الحكمة ارشاداته ويستقبل موكبه الميمون باحداثه وبتحقيقاته.
والبشرية قاطبة بعلمائها ومحققيها تشهد انه مرسل من عنده تعالى، ولا سيما المستمعون الى محمد صلى الله عليه وسلم بلسانه الفصيح وبكلامه البليغ، والذي هو كالشمس يضئ نفسه كما يضئ غيره.
والله سبحانه وتعالى بلسان قرآنه الحكيم يعلن رسالته ويستقرئها.
جمله شيران جهان بستهء اين سلسله اند
روبه ازحيله جه سان بكسلد اين سلسله را1
اما بعد
فان هذا الفقير، الغريب، النورسي، الذي يستحق ان يُطلق عليه اسم بدعة الزمان الاّ انه اشتهر - دون رضاه - بـ(بديع الزمان). فهذا المسكين يستغيث ألماً من حرقة فؤاده على تدني الامة ويقول: آه.. آه... واأسفى..
لقد انخدعنا فتركنا جوهر الاسلام ولبابه، وحصرنا النظر في قشره وظاهره.
وأسأنا الفهم، فأسأنا الأدب معه، وعجزنا عن ان نوفيه حقّه حق الايفاء وما يستحقه من الاحترام، حتى رغِبَ عنّا، ونَفَر منّا، وتستر بسحائب الاوهام والخيالات. والحق معه، اذ: نزّلنا الاسرائيليات منزلة أصوله، وادخلنا الحكايات في عقائده، ومزجنا مجازاته بحقائقه. فبخسنا حقه، فجازانا بالاذلال والسفالة في الدنيا.. ولا خلاص لنا الاّ باللواذ برحمته.
أيها الاخوة المسلمون، هيا لنعتذر اليه، ونطلب رضاه فنمدّ اليه معاً متفقين يد الصداقة نبايعه ونعتصم بحبله المتين.
أعلن بلا حرج ولاتردد: ان الذي دفعني وشجعني الى مبارزة افكار العصور الخوالي، والتصدي للخيالات والاوهام التي تقوّت واحتشدت منذ مئات السنين.. انما هو اعتقادي ويقيني بأن:

_____________________
1 بيت شعر باللغة الفارسية ورد في "مكتوبات الامام الرباني"بالفارسية رقم 27 و 58 من الجزء الاول. وفي الترجمة العربية ص 36، 70 من ج1.
هل يقـطع الثــــعلب المحــتال ســلسلةً قيدتْ بها أُســـد الدنيا بأســـرهم (المترجم)



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 23
الحق سينمو، نمو البذرة النابتة، وإن تسترت تحت التراب. وان اهله سينتصرون وان كانوا قلة وضعفاء بظلم الاحوال.
واعتقادي: ان حقيقة الاسلام هي التي ستسود قارات العالم وتستولي عليها.
نعم! ان الاسلام هو الذي سيعتلي عرش الحقائق والمعارف، فلا يكشفها ولا يفتحها الاّ الاسلام... الأمارات تبدو هكذا..
ذلك لأن الذي حال دون استيلاء الشريعة الغراء استيلاءً تاماً في الماضي - في تلك الصحراء الموحشة والجهل المطبق الذي تربع على عرشه التعصب الذميم، وضرب فيه التقليد أطنابه، في بلاد الجهل المخيم بالسفساف والاستبداد المقيت - أقول ان الذي حال دون هيمنة الشريعة في الماضي هيمنة تامة هي أمور ثمانية، وقد محقت - وكذلك الآن تمحق - ثلاث حقائق.
هذه الموانع هي التي ادت الى كسوف شمس الاسلام.
اما الموانع التي في الاجانب فهي: التقليد والجهل وتعصبهم وسيطرة القسس عليهم.
أما الموانع التي عندنا فهي: الاستبداد المتنوع، وسوء الخلق، والأحوال المضطربة. واليأس الذي تنجم منه العطالة.
اما المانع الثامن، وهو أهم الموانع، والبلاء النازل فهو توهمنا - نحن والاجانب - بخيال باطل؛ وجود تناقض وتصادم بين بعض ظواهر الاسلام وبعض مسائل العلوم. فمرحى لجهود المعرفة الفياضة وانتشارها، وبخٍ بخٍ لعناء العلوم الغيورة، اللتين أمدّتا تحري الحقائق وشحنتا الانسانية، وغرستا ميل الانصاف في البشرية فجهزتا تلك الحقائق بالاعتدة لدفع الموانع، فقضت وستقضي عليها قضاءً تاماً.
نعم! ان اعظم سبب سلب منا الراحة في الدنيا، وحرم الاجانب من سعادة الآخرة، وحجب شمس الاسلام وكسفها هو: سوء الفهم وتوهم مناقضة الاسلام ومخالفته لحقائق العلوم.
فيا للعجب! كيف يكون العبد عدوّ سيده، والخادم خصم رئيسه، وكيف يعارض الابن والده!! فالاسلام سيد العلوم ومرشدها ورئيس العلوم الحقة ووالدها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 24
ولكن، يا للأسف.. هذا الفهم الخطأ، هذا الفهم الباطل، قد أجرى حكمه الى الوقت الحاضر، فألقى بشبهاته في النفوس، وأوصد أبواب المدنية والمعرفة في وجه الأكراد وأمثالهم. فذعروا من توهم المنافاة بين ظواهر من الدين لمسائل من العلوم. فكروية الأرض - مثلاً - وهي اولى مرتبة من مراتب الجغرافية التي هي أول منزل من منازل العلوم، هذه المسألة البديهية توهموها منافية للمسائل الست التي سنذكرها، ولم يتحرجوا من المكابرة فيها والاصرار عليها.
فيامن يمعن النظر في كتابي هذا.
اعلم! ان ماأريد ان أسديه بهذا الكتاب من خدمة هو:
رد شبهات اعداء الدين الذين يبخسون الاسلام حقه، باظهار الطريق المستقيم الذي عليه الاسلام ودفع أوهام أهل الافراط والغلو المغرمين بظاهر الاسلام دون حقيقته، والذين يستحقون لقب "الصديق الاحمق" ببيان الجانب الآخر من ذلك الطريق السوي.. وامداد علماء الاسلام الاوفياء الصادقين العقلاء وهم المرشدون الحقيقيون الاصلاء الذين يسعون في اظهار هذا الصراط القويم، يحدوهم الامل الكامل في النصر، ويمهدون السبيل الى مستقبل عالم الاسلام الزاهر.

زبدة الكلام:
ان ما أقصده بهذا الكتاب: صقل ذلك السيف الألماسي وشحذه.
فان سألت:
- لِمَ هذا الاضطراب والقلق، وماجدوى سرد البراهين على ماصار كالعلوم المتعارفة؟ اذ المسائل التي تمخضت عن تلاحق الافكار1 وكشفيات التجارب صارت واضحة وضوح البديهة. فايراد البراهين عليها من قبيل الاعلام بالمعلوم؟!
أقول جواباً:
- ان معاصريّ - مع الأسف - وان كانوا أبناء القرن الثالث عشر الهجري الا انهم تذكار القرون الوسطى من حيث الفكر والرقي. وكأنهم فهرس، ونموذج، واخلاط ممتزجة لعصور خلت - من القرن الثالث الى الثالث عشر الهجري - حتى غدا كثير من بديهيات هذا الزمان مبهمة لديهم
_____________________
1 تلاحق الافكار أي تعاقبها وترتب بعضها على بعض. (المترجم)



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 25
المقدمة

هذا الكتاب مبني على ثلاث مقالات وثلاثة كتب:
المقالة الاولى: تبحث في عنصر الحقيقة أو في صقل الاسلام بمقدمات ومسائل.
المقالة الثانية: تكشف عن عنصر البلاغة.
المقالة الثالثة: تبين عنصر العقيدة والاجوبة اليابانية1.
أما الكتب: فهي تحقيق علمي ونوع تفسير لما أشار اليه القرآن من علم السماء
وعلم الارض وعلم البشر2.
_____________________
1 حضر القائد العام الياباني استانبول سنة 1907 م أي اواخر حكم السلطان عبد الحميد الثاني ووجّه جملة من الاسئلة الدينية الى المشيخة الاسلامية، فوجّه العلماء بدورهم تلك الاسئلة مع اسئلة اخرى الى الاستاذ النورسي، اورد قسماً من اجوبته التي تخص العقيدة في المقالة الثالثة من هذا الكتاب وخصّ (الشعاع الخامس) للاجوبة التي تخص اشراط الساعة والدجال . المترجم.
2 لم يتيسر للمؤلف تأليف هذه الكتب الثلاثة، اذ باشر بتأليف تفسيره »اشارات الاعجاز« في خضم معارك الحرب العالمية الاولى، ولم يتمه ايضاً حيث صرفه المولى القدير الى تأليف رسائل النور انقاذاً للايمان. المترجم.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:23 PM

رد: صقيل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 27
المقالة الاولى
عنصر الحقيقة
مقدمات ومسائل

ان من دساتير أهل العلم المحققين الاستناد الى مقدمات، بلوغاً الى
الهدف والقصد. لذا ننصب سلماً ذا اثنتي عشرة مرتبة:


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 29
المقدمة الاولى

من الاصول المقررة انه:
اذا تعارض العقل والنقل، يعدّ العقل أصلاً ويؤوّل النقل، ولكن ينبغي لذلك العقل ان يكون عقلاً حقاً.
ثم قد تحقق أيضاً:
ان مقاصد القرآن الاساسية وعناصره الأصلية المنبثة في كل جهاته أربعة: اثبات الصانع الواحد، والنبوة، والحشر الجسماني، والعدل.
أي: ان القرآن هو وحده الكفيل بالاجابة عن الاسئلة التي تسألها الحكمة (الفلسفة) من الكائنات: من أين؟ وبأمر مَن تأتون؟ مَن سلطانكم ودليلكم وخطيبكم؟ ما تصنعون؟ والى أين تصيرون؟ ولهذا فذِكرُ الكائنات في القرآن الكريم - مما سوى المقاصد - انما هو ذكر استطرادي لبيان طريق الاستدلال على الصانع الجليل بانتظام الصنعة. نعم! الانتظام يشاهد، بل يُظهر نفسه بكل وضوح. فالصنعة المنتظمة تشهد على وجود الصانع وعلى قصده وارادته شهادة صادقة قاطعة، اذ تتراءى في كل جهة من جهات الكون وتتلألأ من كل جانب.. وتعرض جمال الخلق الى أنظار الحكمة. حتى لكأن كل مصنوع لسان يسبّح بحكمة صانعه، كل نوع يشهد مشيراً باصبعه الى حكمة الصانع.
فمادام المقصد هو هذا، وما دمنا نتعلم من كتاب الكائنات الرموز والاشارات الدالة على الانتظام، وان النتيجة الحاصلة واحدة، فكيفما كان تشكّل الكائنات في ذاتها، فلا علينا، اذ لا تتعلق بنا.
ولكن كل فرد من أفراد الكائنات، الذي دخل ذلك المجلس القرآني الرفيع موظفٌ بأربع وظائف.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 30
الاولى: اعلان عظمة الخالق الجليل بانتظامه واتفاقه مع غيره.
الثانية: اظهاره ان الاسلام زبدة العلوم الحقيقية، حيث ان كلاً من الافراد موضوعٌ وخلاصة لعلمٍ من العلوم الحقيقية .
الثالثة: اثبات تطابق الاسلام مع القوانين والنواميس الالهية الجارية في العالم وانطباقه عليها لينمو الاسلام ويترعرع بامداد تلك النواميس الفطرية، حيث ان كل فرد من الكائنات نموذج لنوع.
نعم! ان الاسلام، الدين المبين، يتميز بهذه الخاصية عن سائر الاديان المترددة بين الهوى والهوسات، لفقدانها الجذور العريقة الممدة لها. فتارة تضئ واخرى تنطفئ، وتتغير بسرعة.
الرابعة: توجيه الافكار الى حقائق الاشياء والحث عليها والتنبيه اليها، من حيث ان كل فرد منها نموذج لحقيقة من الحقائق.
فمثلاً: ان القَسَم بالاجرام العلوية والسفلية في القرآن الكريم، انما هو لتنبيه الغافلين دوماً وحثهم على التفكير. فالقَسَم القرآني قرع العصا لمن غطّ في نوم الغفلة.
فالذي تحقق الآن هو الآتي:
ان القرآن الكريم الذي هو معجز، وفي أسمى بلاغة وأرفعها، يسلك بلا ريب أوضح طرق الاستدلال وأصوبها وأقصرها وأوفقها لأساليب اللغة العربية، اي انه يراعي حسيّات العوام لأجل افهامهم وارشادهم، اي يذكر الدليل وهو انتظام الكون بوجه يكون معروفاً لديهم وتأنس به عقولهم.. وبخلافه يكون الدليل أخفى من المدّعى مما ينافي طريق الارشاد ومنهج البلاغة ومذهب الاعجاز.
فمثلاً: لو قال القرآن: أيها الناس! انظروا الى الكرة الارضية الطائرة في انجذاب ونشوة والسائرة في جو الفضاء، وتأملوا في الشمس المستقرة مع حركتها والاجرام العلوية المرتبط بعضها ببعض بالجاذبة العامة، وتدبّروا في العناصر الكثيرة المرتبط بعضها ببعض بأواصر كيمياوية في شجرة الخلقة المنتشرة فروعها في الفضاء غير المحدود.. لتتصوروا عظمة الصانع!! او انظروا بمجهر عقولكم الى قطرة ماء، التي تستوعب عالماً من الحيوانات، بأن الله على كل شئ قدير.!!


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 31
فلو قال القرآن هذا، أما كان الدليل اخفى وأغمض من المدّعى واحوج الى التوضيح؟ أما كان ذلك تنويراً للحقيقة بشئ مظلم بالنسبة لهم! أو تكليفهم بأمر غير معقول هو مغالطة انفسهم تجاه بداهة حسّهم!
ان اعجاز القرآن اجلّ واطهر من ان يقع على ذيله الصافي اللامع غبار إخلال الافهام. ولقد لوّح القرآن الكريم الى المقصد الحقيقي في معاطف الآيات البينات وتلافيفها، كما جعل قسماً من ظواهر الآيات مناراً ومرشداً الى المقصد، كالكناية عليه.
ومن الأصول المقررة أيضاً:
ان الصدق والكذب، أو التصديق والتكذيب في الكنايات وأمثالها لايرجعان الى صورة المعنى، اي الى "المعاني الاولى" كما يعبر عنها فن البيان، بل يتوجهان الى المقصد والغرض، اي الى "المعاني الثانوية". فكما اذا قيل : "طويل النجاد" فالحكم صحيح والكلام صدق ان كان الشخص طويل القامة وان لم يكن له سيف. وكما تكون الكلمة الواحدة في كلام، قرينة المجاز1 للاستعارة، فان طائفة من الآيات الكريمة، كأنها كلمة واحدة لكلام الله، تكون قرائن لحقائق وجواهر سائر أخواتها، وترجمان وادلاء على ما في ضمائر جاراتها من أسرار.
حاصل الكلام:
من لم يضع هذه الحقيقة نصب العين، وعجز عن موازنة الايات، ولم يتمكن من الحكم بينها حكماً عدلاً، يكون كالبكتاشي الذي قال لتسويغ تركه الصلاة؛ ان القرآن يقول:
(لا تقربوا الصلاة).. أما ما بعده فلست حافظاً للآية! ألا يكون هذا موضع هزء في نظر الحقيقة؟!
_____________________
1 أي الاشارة التي تخص المجاز، أي التي تجعل الكلمة مجازاً حتماً وهي القيد الذي يحول الكلمة عن معناها الحقيقي. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 32
المقدمة الثانية

قد يكون بديهياً ما هو نظري1 في الماضي. هكذا تحقق، ففي العالم ميل للاستكمال وبه يتبع العالمُ قانونَ التكامل. ولأن الانسان من ثمرات العالم واجزائه ففيه كذلك ميل الترقي المستمد من الميل للاستكمال. وميل الترقي هذا ينمو ويترعرع مستمداً من تلاحق الافكار الذي ينبسط بتكمل المبادئ واكتمال الوسائل، وتكمل المبادئ يلقي - من صلب الخلقة - بذور علوم الأكوان ملقحاً رحم الزمان التي تربي تلك البذور وتنبتها، فتستوي بالتجارب المتعاقبة التدريجية.
وبناءً على هذا، فان مسائل كثيرة في هذا الزمان قد أصبحت في عداد البديهيات والعلوم المعتادة، بينما كانت في السابق أموراً نظرية، شديدة الخفاء والغموض، ومحتاجة الى سرد البراهين، اذ نرى كثيراً من مسائل الجغرافية والفلك والكيمياء والهندسة العملية؛ يعرفها حتى صبيان هذا الزمان، بل يلعبون بها لعبهم بالملاعيب وذلك بتكمل المبادئ وبرقي الوسائط وبكشفيات تلاحق الافكار، علماً انها كانت نظرية وخفية على "ابن سينا" وامثاله من الفلاسفة. مع انه لو وزن "ابو الفلسفة" بمئات من فلاسفة هذا الزمان لرجحهم في الذكاء وقوة الفكر وكمال الحكمة وسعة القريحة. فالنقص اذاً ليس في "ابن سينا" فهو ابن الزمان، بل في أبيه الزمان.
أليس بديهياً انه لو لم تكتشف الدنيا الجديدة (أمريكا) - واشتهر به كولومبس - لاقتدر على اكتشافها والحاقها بهذه الدنيا القديمة أبسط الملاحين؟ اذ بدلاً من تبحر فكر المكتشف الأول واقتحامه المهالك تكفي الآن سفينة صغيرة وبوصلة.
ومع هذا يلزم اخذ الحقيقة الآتية بنظر الاعتبار وهي:
ان المسائل قسمان؛ قسم يؤثر فيه تلاحق الافكار، بل يتوقف عليه، كالتعاون في الماديات لرفع صخرة كبيرة.
_____________________
1 البديهي ما لا يحتاج الى نظر واستدلال ، والنظري هو ما يحتاج الى نظر واستدلال. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 33
والقسم الثاني؛ لا تأثير للتعاون وتلاحق الافكار فيه من حيث الاساس. فالواحد والالف سواء. كالقفز في الخارج من مرتفع الى آخر، او المرور من موضع ضيق. فكل فرد والكل سواء، ولا يجدي التعاون.
فبناءً على هذا القياس:
فان قسماً من العلوم هو كرفع الصخر، بحاجة الى التعاون وتلاحق الافكار. واغلب هذا القسم هو من العلوم المادية.
أما القسم الثاني، وهو الشبيه بالمثال الثاني، فتكمّله دفعي، او شبيه الدفعي. وأغلب هذا القسم هو من المعنويات ومن العلوم الالهية.
ولكن على الرغم من ان تلاحق الأفكار لايغير ماهية هذا القسم الثاني ولا يكمله ولا يزيده، الاّ انه يفيض وضوحاً وظهوراً وقوة في مسالك براهينه.
ويجب ملاحظة مايأتي:
ان من توغل كثيراً في شئ، أدّى به في الغالب الى التغابي في غيره.
فبناء على هذا:
من توغل في الماديات تبلّد في المعنويات وظل سطحياً فيها.
فنظراً الى هذه النقطة:
لايكون حكم الحاذق في الماديات حجة في المعنويات بل غالباً لايستحق سماعه.
نعم، اذا ما راجع مريض مهندساً بدلاً من طبيب، ظناً منه ان الطب كالهندسة. وأخذ بوصفة المهندس، فقد أخذ لنفسه تقريراً بنقله الى مستشفى مقبرة الفناء، وعزّى أقرباءه.
وكذلك مراجعة احكام الماديين في المعنويات التي هي الحقائق المحضة والمجردات الصرفة واستشارة ارائهم وافكارهم، تعني الاعلان عن سكتة القلب الذي هو اللطيفة الربانية، وعن سكرات العقل الذي هو الجوهر النوراني.
نعم! ان الذين يبحثون عن كل شئ في الماديات عقولهم في عيونهم، والعين عاجزة عن رؤية المعنويات.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 34
المقدمة الثالثة

ان دخول طائفة من الاسرائيليات وقسم من الفلسفة اليونانية ضمن دائرة الاسلام وظهورها بزي الدين الجميل، شوشت الافكار. وذلك:
ان اولئك القوم، العرب النجباء، كانوا أمة أمية في الجاهلية. ولكن لمّا تجلّى الحق فيهم وتيقظ استعداد حسياتهم بمشاهدة الدين المبين، وجّهوا رغباتهم وميولهم كلها في معرفة الدين وحده. ولم يك نظرهم المتوجه الى الكون من نوع التفصيل الفلسفي بل نظر استطرادٍ للاستدلال ليس الاّ.
وما كان يلهم ذوقهم المرهف الطبيعي الاّ محيطهم الواسع الرفيع المنسجم مع فطرتهم، والقرآن الكريم هو وحده المربي لفِطَرهم الاصيلة النقية ومعلمها.. ولكن الامة العربية - بعد ذلك - أخذت تحتضن الاقوام الاخرى فدخلت معلومات سائر الملل وعلومها ايضاً حظيرة الاسلام، ثم وجدت الاسرائيليات المحرّفة منفذاً الى خزائن خيال العرب، فأسالت مجرىً الى تلك الخزائن، باسلام عدد من علماء اهل الكتاب كـ"وهب و كعب" فامتزجت الاسرائيليات بالافكار الصافية، فضلاً عن ذلك وجدت الاحترام والتقدير، لأن الذين اهتدوا من علماء اهل الكتاب قد تكاملوا بشرف الاسلام ونالوا به مكانة فائقة، لذا غدت معلوماتهم الملفقة كأنها مقبولة ومسلّم بها فلم تردّ، بل وجدت اذاناً صاغية لها من دون تنقيد، وذلك لعدم مصادمتها باصول الاسلام ولانها كانت تروى كحكايات لاأهمية لها.. ولكن يا للأسف. قبلت تلك الحكايات بعد فترة من الزمن كأنها حقائق وأصبحت سبباً لكثير من الشبهات والشكوك.
إذ ان هذه الاسرائيليات قد تكون مرجعاً لبعض ايماءات الكتاب والسنة، ومصدراً لبعض مفاهيمهما - بوجود علاقة - الاّ انها لا تكون معنى للآيات الكريمة والاحاديث الشريفة. بل لو صحت ربما تكون افراداً من معاني مايصدُق عليه مفهوم


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 35
الآية والحديث. ولكن المفتونين بالظاهر1 الذين لم يجدوا - بسوء اختيارهم - مصدراً غيره، ولم يتحرّوا عنه، فسّروا قسماً من الايات والاحاديث بتطبيق الاسرائيليات عليهما. والحال ان الذي يفسر القرآن ليس الاّ القرآن والحديث الصحيح، والاّ فلا يفسر القرآن بالانجيل والتوراة المنسوخة احكامهما والمحرفة قصصهما.
ان المعنى شئ ومايصدُق عليه المعنى شئ آخر. غير انه اقيم ما يمكن ان يكون مصداقاً لشئ مقام المعنى، فاختلط كثير من الامكانات والاحتمالات مع الوقائع.
ثم لما ترجمت الفلسفة اليونانية في عصر المأمون، لضمها الى الفكر الاسلامي، تلك الفلسفة الناشئة من منبع كثير من الاساطير والخرافات، حملت معها شيئاً من العفونات، وتداخلت في افكار العرب الصافية، فشوشت الافكار الى حدٍ ما، وفتحت طريقاً من التحقيق الى التقليد، كما انها صرفتهم عن الاستنباط بقرائحهم الفطرية من معدن ماء حياة الاسلام الى الافتقار بالتتلمذ على تلك الفلسفة المانعة للكمال.
نعم، فكما ان العلماء المحققين دوّنوا قواعد علوم العربية،عندما فسدت باختلاط الأعاجم، حفاظاً على سلامة مَلَكة الكلام المُضرى، كذلك حاول قسم من علماء الاسلام الناقدين فرز الفلسفة وتمييز الاسرائيليات لمّا دخلتا دائرة الاسلام.
ولكن يا للأسف لم يوفقوا كلياً، فلم يبق الأمر عند حده، اذ لما صرفت الهمة الى تفسير القرآن الكريم... طبّق عدد من الظاهريين منقوله على بعض الاسرائيليات، ووفقوا بين قسم من معقوله والفلسفة المذكورة، لما رأوا من شموله على المنقول والمعقول، وكذا الحديث النبوي، فبدلاً من ان يستخرج المقاصد من عين الكتاب والسنة استنبط طائفة مطابقةً وعلاقةً بين بعض نقلياتهما الصادقة وبعض الاسرائيليات المحرفة، وبين عقلياتهما الحقيقية وهذه الفلسفة الموهومة المموّهة، ظناً منهم ان هذه المطابقة والمشابهة تفسيرٌ لمعاني الكتاب والسنة وبيان لمقاصدهما!
_____________________
1 ترد في ثنايا الكتاب اصطلاحات مشابهة لهذا، فتارة: الظاهريون، واخرى : اهل الظاهر ، واخرى: المغرمون بالظاهر.. الخ. والمقصود: اولئك الذين يولون اهمية لظاهر الشئ دون حقيقته، ولا يمكنهم درك حقيقة الشئ، أو لا يعرفونها معرفة جيدة، او يتوقفون في ظاهر الشئ او النص دون تأويله وتوجيهه. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 36
كلا.. ثم كلا! لأن مصداق الكتاب المبين اعجازهُ. والقرآن يفسّر بعضه بعضاً، ومعناه فيه، وصَدَفُه درّ مثله لا قشر. وحتى لو فُرض ان القصد من اظهار هذه المطابقة هو تزكية ذلك الشاهد الصادق، فهو عبث أيضاً، اذ القرآن المبين أسمى وأغنى من أن يفتقر الى تزكية العقل والنقل اللذين ألقيا اليه المقاليد، لأنه إن لم يزكهما فشهادتهما لا تسمع.
نعم! يجب البحث عن الثريا في السماء لا في الارض. فابحث عن معاني القرآن في أصدافه، لا في جيبك الحاوي على اخلاط، فانك لن تجد شيئاً، وحتى لو وجدت فالقرآن يرفضه، اذ لايحمل طغراء البلاغة.
ومن المقرر: ان المعنى هو ما صبّته الالفاظ في الصماخ نافذاً في الذهن، منتشراً منه الى الوجدان، مفتحاً منه أزاهير الافكار. والاّ فليس هو ماتسرب في خيالك من احتمالات لكثرة توغل امور اخرى، او ماسرقته وملأت جيبك من أباطيل الفلسفة واساطير الحكايات، ثم أخفيته في معاطف الايات والاحاديث ثم اظهرته ممسكاً به في يدك تبرزه وتنادي: " هذا هو المعنى، هلموا لأخذه!!" فيأتيك الجواب: ياهذا! ان المعنى الذي استخرجته مزيف، عليه علامة التقليد يردّه نقاّد الحقيقة، وسلطان الاعجاز يطرد من ضرب سكته، وحكيم البلاغة يسجن وهمك في خيالك بشكوى الاية عليك، لما تعرضت الى نظامها ونظام الحديث. وطالب الحقيقة لا يقبله منك حتماً اذ يقول لك: ان معنى الاية درّ وهذا مَدَر ومفهوم الحديث مهج وهذا همج.
مَثل للتنوير: من أمثال الأكراد الادبية: ان رجلاً اسمه (علو) كان يسرق العسل، فاشير عليه بأن ستظهر سرقتك وينكشف أمرك. فجمع الزنابير في كوارة، لأجل الخداع والتمويه، فكان يسرق العسل ويدّخره في الكوارة، واذا ماسأله أحد يقول: هذا العسل صنعته نحلي، مهندسة العسل. ثم يحدث الزنابير بلغة مشتركة بينهما "فز فز ز وه هه نكفين ز من" أ ي: عليكم الدوي والطنين ومنى العسل!
فيا أيها المؤوّل بالتشهي والهوى، لا تتسل بهذا التشبيه، فهذا ضرب للمثل. اذ المعنى الذي أوردته ليس عسلاً بل سمّاً، فان تلك الالفاظ - القرآنية والنبوية - ليست نحلاً بل كالملائكة توحي أرواح الحقائق الى القلب والوجدان لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد.. ان الحديث النبوي معدن الحياة، وملهم الحقائق.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 37
نحصل مما سبق:
ان الافراط والتفريط كلاهما مضران، وربما التفريط اكثر ضرراً الاّ ان الافراط اكثر ذنباً، لانه يسبب التفريط.
نعم! لقد فتح باب السماح بالافراط، فاختلطت الاشياء المزيفة بتلك الحقائق الرفيعة. ولما شاهد اهل التفريط والنقد غير المنصفين هذه المزيفات بين تلك الحقائق التي لا تقدر بثمن، ذعروا واشمأزوا، وظنوها كلها مزيفة تافهة ملوثة، ظلماً واجحافاً.. كلا وحاش لله...
ترى لو وجدت نقود مزيفة في كنز، ادخلت اليه من الخارج، او لو شوهد تفاح فاسد سقط الى بستان من غيره، أمن الحق والانصاف عدّ الكنز كله مزيفاً، او البستان كله فاسداً، ومن ثم تركهما لانهما ملوثان معيوبان مشوبان؟!

خاتمة:
أقصد من هذه المقدمة: ان الافكار العامة تريد تفسيراً للقرآن الكريم.
نعم! ان لكل زمان حكمه، والزمان كذلك مفسّر. أما الاحوال والاحداث فهي كشافة. وان الذي يستطيع ان يكون استاذاً على الافكار العامة هو الافكار العلمية العامة ايضاً.
فبناءً على هذا واستناداً اليه أريد تشكيل مجلس شورى علمي، منتخب من العلماء المحققين، كل منهم متخصص في علم. ليقوموا بتأليف تفسير للقرآن الكريم بالشورى بينهم، تحت رياسة الزمان الذي هو مفسّر عظيم، ويجمعوا المحاسن المتفرقة في التفاسير، ويهذّبوها ويذهّبوها.
وهذا الامر مشروط بان تكون الشورى مهيمنة في كل شئ. والافكار العامة مراقبة. وحجية الاجماع حجة عليه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 38
المقدمة الرابعة

الشهرة تملّك الانسان ما لا يملك؛ اذ من سجايا البشر؛ اسناد الشئ الغريب او الثمين الى من اشتهر بجنسه، لإظهاره اصيلاً. أي: لأجل ان يروّج كلامه ويزينه أو لئلا يكذََّب، او لاغراض اخرى، يحيل نتائج افكار أمة او محاسن اطوارها الى شخص ما - ظلماً وعدواناً - ويشاهد صدورها عنه! بينما ذلك الشخص نفسه من شأنه ردّ تلك الهدية المهداة له ظلماً وتعسفاً؛ اذ لو عرض على شهير في صنعة جميلة او خصلة راقية امرٌ، وقيل له - بغير حق -: ان هذا من صنع يدك - مثلاً- فانه يردّه حتماً ويتبرأ منه ويشمئز، قائلاً حاشَ لله، ذلك لان نظره النافذ في ماوراء الحسن الظاهر يبصر اخلال ذلك الامر بجمال تلك الصنعة الناشئ من تناسقها وانتظامها.
فبناءً على هذه السجية، واستناداً الى القاعدة المشهورة: "اذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه" يضطر الناس الى اسناد قوة عظيمة وعظمة فائقة وذكاء خارق.. وامثالها من لوازم خوارق العادات الى ذلك الشخص الشهير، ليوائم مافي خيالهم، وليمكّن له ان يكون مرجعاً ومصدراً لجميع ما ينسب اليه من أمور خارقة. فيتجسم ذلك الشخص في اذهانهم اعجوبة من اعاجيب الخلق.
فان شئت فانظر الى صورة "رستم بن زال" المعنوية، الذي نما في خيال العجم، ترى العجب العجاب. فانه لما اشتهر بالشجاعة اغتصب مفاخر الايرانيين وأغار عليها بقوة الشهرة، وبحكم الاستبداد الذي لم يتخلص منه الايرانيون قط. وهكذا ضخمت تلك الشخصية واستعظمت في الخيالات.
ولما كان الكذب يردفه كذب ويسوق اليه، استلزمت هذه الشجاعة الخارقة للعادة، عمراً خارقاً، وقامة خارقة، وما يكتنفهما من لوازمهما!.. حتى تجسم ذلك الخيال في الذهن وهو يصرخ: "انا نوع منحصر في شخص". لامن ابناء البشر بل ككائن خرافي يدور في حكايات الناس ويتقدم الخرافات فاتحاً الطريق الى امثاله.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 39
يا من يريد رؤية الحقيقة مجرّدة! انعم النظر في هذه المقدمة؛ لان باب الخرافات ينفتح من هذا الموضع، وباب التحقيق (العلمي) ينسد به، زد على ذلك ففي هذه الارض القاحلة الجرداء يضيع على الانسان أخذ العبرة من القصة، ويفوته البناء على اسس المتقدمين كما يمليه الترقي، ولايتجرأ على التصرف في ميراث الاسلاف ولا الزيادة عليه.
فان شئت قل للخواجة نصر الدين الشهير بـ(جحا الرومي): أهذه الاقوال الغريبة كلها لك؟ فسيكون جوابه: "هذه الاقوال تملأ المجلدات، وتحتاج الى عمر مديد. واقوالي كلها ليست من نوادر الكلم، فأنا عالم من العلماء تسعني زكاة ما نسبوا اليّ من اقوال. اما الباقي فارفضه واردّه لانها تقلب ظرافتي الى التصنع".
فيا هذا! من هذا العرق تنبت الخرافات والموضوعات، ومنه تتفرع، وهو الذي يزيل قوة الصدق.
خاتمة:
ان احساناً يزيد على الاحسان الالهي ليس باحسان.
ان حبة من حقيقة تفضل بيدراً من الخيالات.
الاطمئنان والقناعة بالاحسان الالهي في التوصيف فرض.
يجب الاّ يخل بنظام المجتمع مَن كان داخلاً فيه.
أصل الشئ تبيّنه ثمرته. شرف الشئ في ذاته لا في نسله.
اذا اختلطت في بضاعة، بضاعةٌ اخرى، فانها تنقص من قيمة الاولى وان كانت الثانية قيّمة ونفيسة، بل تسبب حجزها.
والان، بناءً على هذه النقاط، أقول:
ان اسناد قسم من الاحاديث الموضوعة الى "ابن عباس" رضي الله عنه وامثاله من الصحابة الكرام، لأجل الترغيب او الترهيب، اثارةً للعوام وحضاً لهم، انما هو جهل عظيم.
نعم! ان الحق مستغن عن هذا، والحقيقة غنية عنه. فنورهما كافيان لإنارة القلوب. تسعنا الاحاديث الصحيحة المفسّرة الحقيقية للقرآن الكريم ونثق بها ونطمئن الى التواريخ الصحيحة الموزونة بميزان المنطق.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:24 PM

رد: صقيل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 40
المقدمة الخامسة

اذا وقع المجاز من يد العلم الى يد الجهل ينقلب الى حقيقة، ويفتح الباب للخرافات1 اذ المجازات والتشبيهات اذا ما اقتطفتهما يسار الجهل المظلم من يمين العلم المنور، او استمرتا وطال عمرهما، انقلبتا الى "حقيقة" مستفرغة من الطراوة والنداوة، فتصير سراباً خادعاً بعدما كانت شراباً زلالاً، وتصبح عجوزاً شمطاء بعدما كانت فاتنة حسناء.
نعم! ان شعلة الحقيقة انما تتلمع من المجاز بشفافيته. ولكن بتحوله الى حقيقة يصبح كثيفاً قاتماً يحجب الحقيقة الاصلية. فهذا التحول قانون فطري، فان اردت شاهداً عليه راجع اسرار تجدد اللغات وتغيراتها، والاشتراك والترادف في الامور. انصت اليها جيداً تسمع حتماً:
ان كثيراً من الكلمات او الحكايات او الخيالات او المعاني التي كان السلف يتذوقونها، لم توافق الرغبات الشابة لى الخلف، لانها غدت عجوزاً لا زينة لها. لذا اصبحت سبباً لدفعهم الى ميل التجدد والرغبة في الايجاد، والجرأة على التغيير. هذه القاعدة جارية في اللغات مثلما هي جارية في الخيالات والمعاني والحكايات. ولهذا لاينبغي الحكم على اي شئ بظاهره؛ اذ من شأن المحقق:
سبر غور الموضوع.. والتجرد من المؤثرات الزمانية.. والغوص في اعماق الماضي.. ووزن الامور بموازين المنطق.. ووجدان منبع كل شئ ومصدره.
ومما اطلعني على هذه الحقيقة ودلّني عليها هو حدوث خسوف القمر زمن صباي، اذ سألت والدتي عنه، فاجابت : لقد ابتلع الثعبان القمر. فقلت: فَلِمَ يشاهد القمر؟ قالت: ان ثعابين السماء شبه شفافة.
فانظر كيف تحول التشبيه الى حقيقة! فحجبت حقيقة الحال، اذ شبّه أهل الفلك تقاطع مائل القمر بمنطقة البروج في الرأس والذنب، بثعبانين او تنينين؛ حيث ان
_____________________
1 فصلت هذه المسألة في اللمعة الرابعة عشرة من مجموعة اللمعات. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 41
القمر او الشمس اذا اتى احدهما الى الراس والاخر الى الذنب وتوسطتهما الارض، يخسف القمر.
يا من لايسأم من كلامي المختلط هذا! انعم النظر ايضاً في هذه المقدمة وانظر اليها بدقة متناهية، فكثيرجداً من الخرافات، والخلافات، انما تنشأ من هذا الاصل. فينبغي الاسترشاد بالمنطق والبلاغة.
خاتمة:
يجب ان يكون للمعنى الحقيقي ختم خاص وعلامة واضحة متميزة. والمشخّص لتلك العلامة هو الحُسن المجرد الناشئ من موازنة مقاصد الشريعة.
أما جواز المجاز فيجب ان يكون على وفق شروط البلاغة وقواعدها، والاّ فرؤية المجاز حقيقة والحقيقة مجازاً، او اراءتهما هكذا، امدادٌ لسيطرة الجهل ليس الاّ.
ان ميل التفريط من شأنه حمل كل شئ على الظاهر.. حتى لينتهي الامر تدريجياً الى نشوء مذهب الظاهرية مع الاسف. وان حب الافراط من شأنه النظر الى كل شئ بنظر المجاز، حتى لينتهي الامر تدريجياً الى نشوء مذهب الباطنية الباطل. فكما ان الاول مضر فالثاني اكثر ضرراً منه بدرجات.
والذي يبين الحد الاوسط ويحد من الافراط والتفريط انما هو فلسفة الشريعة مع البلاغة، والحكمة مع المنطق.
نعم! أقول: الحكمة (الفلسفة) لانها خير كثير مع تضمنها الشر، الاّ انه شرٌ جزئي. ومن الاصول المسلمة انه يلزم اختيار أهون الشرين، اذ ترك ما فيه خير كثير لاجل شر جزئي فيه، يعني القيام بشر كثير.
نعم! ان الحكمة القديمة (الفلسفة القديمة) خيرها قليل، خرافاتها كثيرة، حتى نهى السلف - الى حد ما - عنها، حيث الاذهان كانت غير مستعدة، والافكار مقيدة بالتقليد، والجهل مستول على العوام. بينما الفلسفة الحاضرة فخيرها كثير - من جهة المادة - بالنسبة للقديمة، وكذبها وباطلها قليل. والافكار حرة في الوقت الحاضر، والمعرفة مسيطرة على الجميع. وفي الحقيقة، لا بد ان يكون لكل زمان حكمه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 42
المقدمة السادسة

فمثلاً: ان كل مايرد في التفسير لا يلزم ان يكون منه، اذ العلم يمدّ بعضه بعضاً.
فما ينبغي التحكم (في الرأي). اذ من المسلّمات: ان الماهر في مهنة الهندسة، ربما يكون عامياً وطفيلياً في مهنة اخرى كالطب، ودخيلاً فيها.
ومن القواعد الاصولية: انه لا يعدّ من الفقهاء مَن لم يكن فقيهاً، وان كان مجتهداً في أصول الفقه، لانه عامي بالنسبة اليهم.
وكذلك من الحقائق التاريخية: ان الشخص الواحد لايستطيع ان يتخصص في علوم كثيرة؛ الاّ من كان فذاً، فيستطيع ان يتخصص في اربعة او خمسة من العلوم، ويكون صاحب ملكة فيها.
فمن ادّعى الكل فاته الكل. لان لكل علم صورة حقيقية، وبالتخصص تتمثل صورته الحقيقية. اذ المتخصص في علم ان لم يجعل سائر معلوماته متممة وممدةً له، تمثلت من معلوماته الهزيلة صورة عجيبة.
لطيفة افتراضية للتوضيح: لو افترض مجئ مصوّر الى هذه الارض من عالم اخر لم يكن قد شاهد صورة كاملة للانسان ولا غير انسان من الاحياء. وربما رأى عضواً من اعضاء كل منها. فاذا أراد هذا المصور تصوير انسان، مما شاهد منه من يد ورجل وعين واذن ونصف الوجه وأنف وعمامة وامثالها. أو اراد تصوير حيوان مما صادف نظره من ذيل حصان وعنق جمل ورأس أسد. فالمشاهدون يتهمون المصور في عمله لان عدم وجود تناسق وانسجام وامتزاج بين الاعضاء يحول دون وجود كائن حي كهذا وسيقولون: ان شروط الحياة لا تسمح لمثل هذه الاعاجيب.
فهذه القاعدة نفسها تجري في العلوم.. والعلاج هو: اتخاذ المرء احد العلوم اساساً وأصلاً، وجعل سائر معلوماته حوضاً تخزن فيه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 43
ومن العادات المستمرة: ان علوماً كثيرة تتزاحم في كتاب واحد، فبسبب تعانقها وتجاوبها بامداد بعضها بعضاً وانتاج بعضها بعضاً، يحصل تشابك الى حد كبير، بحيث لا تكون نسبة مسائل العلم الذي الّف الكتاب فيه الاّ زكاة محتواه. فالغفلة عن هذا السرّ تؤدي بالظاهري او الغوغائي المغالط الى ان يقول محتجاً به: "الشريعة هي هذه، وهذا هو التفسير!" اذا ما يرى مسألة ذكرت استطراداً في تفسير او كتاب فقه. وان كان صديقاً يقول: "مَن لم يقبل بهذا فليس بمسلم!!" وان كان عدواً يقول محتجاً به: "الشريعة أو التفسير خطأ" حاشَ لله.
ايها المفرطون والمفرّطون! ان التفسير والشريعة شئ وما الّف فيهما من كتب شئ اخر، فالكتاب يسع الكثير. ففي حانوت الكتاب اشياء تافهة غير الجواهر النادرة.
فان استطعت ان تفهم هذا، تنجو من التردد. فانتبه! فكما لا تشترى لوازم البيت المتنوعة من صناع واحد فقط، بل يجب مراجعة المختص في صنعة كل حاجة من الحاجات؛ كذلك لابد من توفيق الاعمال والحركات مع ذلك القانون الشامخ بالكمالات (قانون الفطرة). ألا يشاهد ان من انكسرت ساعته، اذا راجع خياطاً لخياطتها فلا يقابَل الاّ بالهزء والاستخفاف؟
اشارة: إن اساس هذه المقدمة هو: ان الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل - الجاري في الكون على وفق تقسيم الاعمال - فرض وواجب، الاّ ان الطاعة لاشارته ورضاه سبحانه الكامنين في ذلك القانون لم يوف حقها. علماً ان يد عناية الحكمة الالهية - التي تقتضي قاعدة تقسيم الاعمال - قد أودعت في ماهية البشر استعدادات وميولاً، لاداء العلوم والصناعات التي هي في حكم فرض الكفاية لشريعة الخلقة (السنن الكونية) .
فمع وجود هذا الامر المعنوي لادائهما، اضعنا بسوء تصرفنا الشوق - الممد للميل، المنبعث من ذلك الاستعداد - واطفأنا جذوته بهذا الحرص الكاذب، وبهذه الرغبة في التفوق التي هي رأس الرياء! فلا شك ان جزاء العاصي جهنم. فعُذّبنا بجهنم الجهل. لاننا لم نتمثل اوامر الشريعة الفطرية التي هي قانون الخلقة.. وما ينجينا من هذا العذاب الاّ العمل على وفق قانون (تقسيم الاعمال). فقد دخل اسلافنا جنان العلوم بالعمل على وفق تقسيم الاعمال.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 44
خاتمة:
كما لا يكفي مجرد دخول غير المسلم المسجدَ لاعتناقه الاسلام، كذلك دخول مسألة من مسائل الفلسفة او الجغرافية اوالتاريخ وامثالها، في كتب التفسير او الفقه، لا يجعل تلك المسألة من التفسير او الشريعة قطعاً.
ثم ان حكم مفسّر او فقيه - بشرط التخصص - يعدّ حجة في التفسير فقط او في الفقه فحسب. والاّ فهو ليس بحجة في الامور التي دخلت خلسة في كتب التفسير او الفقه. لانه يمكن ان يكون دخيلاً في تلك الامور. ولا عتاب على الناقل. ومن كان حجة في علم وناقلاً في علوم اخرى، فاتخاذ قوله فيها حجة او التمسك بقوله فيها من قبيل الدعوى ما هو الاّ إعراض عن القانون الالهي المستند الى تقسيم المحاسن وتوزيع المساعي. ثم انه مسلّم منطقياً: ان الحكم يقتضي تصور "الموضوع" و "المحمول"_ بوجه ما فقط، اما سائر التفاصيل والشروح ليس من ذلك العلم، وانما من مسائل علم آخر.
ومن المقرر انه: لا يدل العام على الخاص بايٍ من الدلالات الثلاث الخاصة1. فمثلاً: ان اعظم مجافاة للمنطق النظرُ الى تأويل الاية الكريمة
(بين الصدفين) (الكهف: 96) في تفسير البيضاوي، نظرة جازمة انه: بين جبال أرمينيا واذربيجان. اذ هو اساساً ناقل. فضلاً عن ان تعيينه ليس مدلول القرآن، فلا يعدّ من التفسير. لان ذلك التأويل تشريحٌ مستند الى علم آخر لقيد واحد من قيود الاية الكريمة.
وكذلك ظلم واجحاف بحق ذلك المفسر الجليل وبرسوخ قدمه في العلم في تفسيره المذكور اتخاذ امثال هذه النقاط الضعيفة فيه ذريعة لبث الشبهات حوله. فحقائق التفسير الاصلية والشريعة واضحة جلية، وهي تتلألأ كالنجوم. فما الذي يدفع عاجزاً مثلي على الجرأة غير ما في تلك الحقائق من وضوح وقوة. فادّعي واقول:
_____________________
1 وهي دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، لأن اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع له بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن ، وعلى ما يلزمه في الذهن بالالتزام؛ كالانسان، فانه يدل على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن، وعلى قابل العلم بالالتزام (التعريفات) - المترجم



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 45
اذا دقق النظر في كل حقيقة من الحقائق الاساسية في التفسير والفقه، يشاهد: انها نابعة من الحقيقة، موزونة بميزان الحكمة، وتمضى الى الحق وهي حقٌ. فالشبهات الواردة - مهما كانت - ناشئة من اذهان مهذار ثم اختلطت بتلك الحقائق. فمن كانت لديه شبهة حول حقائق التفسير الاصلية، فهذا ميدان التحدي، فليبرز الى الميدان.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 46
المقدمة السابعة

المبالغة تشوش الامور وتبلبلها، لان من سجايا البشر: مزج الخيال بالحقيقة، بميل الى الاستزادة في الكلام فيما إلتذ به، والرغبة في اطلاق الكلام جزافاً فيما يصف، والانجذاب الى المبالغة فيما يحكى. وبهذه السجية السيئة يكون الاحسان كالافساد، ومن حيث لا يعلم يتولد النقصان من حيث يزيد، وينجم الفساد من حيث يصلح، وينشأ الذم من حيث يمدح، ويتولد القبح من حيث يُحسن.. وذلك لإخلاله - من حيث لا يشعر - بالحسن الناشئ من الانسجام والموازنة (في المقاصد).
فكما ان الاستزادة من دواء شاف قلبٌ له الى داء، كذلك المبالغون في الترغيب والترهيب، المستغني عنهما الحق، كجعل الغيبة كالقتل او اظهار التبول وقوفاً بدرجة الزنا او التصدق بدرهم مكافئ لحجّة... وامثالها من الكلمات غير الموزونة التي يطلقها المبالغون انما يستخفون بالزنا والقتل ويهوّنون شأن الحج.
فبناءً على هذا: لا بد ان يكون الواعظ حكيماً، وذا دراية بالمحاكمات العقلية.
نعم! ان الوعاظ الذين لا يملكون موازين، ويطلقون كلامهم جزافاً، قد سببوا حجب كثير من حقائق الدين النيّرة. فمثلاً: الزيادة التي زيدت في معجزة انشقاق القمر الباهرة بالمبالغة في الكلام، وهي ان القمر قد نزل من السماء ودخل تحت أبط الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع الى السماء. هذه الزيادة، جعلت تلك المعجزة الباهرة كالشمس، مخفيةً كنجم السهى، وجعلت ذلك البرهان للنبوة الذي هو كالقمر، مخسوفاً، وفتحت ابواب حجج تافهة للمنكرين.
حاصل الكلام:
يجب على كل محبّ للدين وعاشق للحقيقة: الاطمئنان بقيمة كل شئ وعدم اطلاق الكلام جزافاً وعدم التجاوز. اذ المبالغة افتراء على القدرة الالهية. وهي فقدان


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 47
الثقة بالكمال والحسن في العالم واستخفاف بهما واللذين ألجآ الامام الغزالي الى القول: "ليس في الامكان أبدع مما كان".
أيها السيد المخاطب! قد يؤدي التمثيل أيضاً ما يؤديه البرهان من عمل. فكما ان لكل من الالماس والذهب والفضة والرصاص والحديد قيمتها الخاصة، وخاصيتها الخاصة بها، وهذه الخواص تختلف، والقيم تتفاوت. كذلك مقاصد الدين تتفاوت من حيث القيمة والادلة. فان كان وضع أحدها الخيال، فموضع الآخر الوجدان والآخر في سر الاسرار. ان من أعطى جوهرة أو ليرة ذهبية في موضع فلس او عشر بارات، يحجر عليه لسفهه، ويمنع من التصرف في أمواله. واذا انعكست القضية فلا يسمع الاّ كلمات الاستهزاء والاستخفاف، اذ بدلاً من ان يكون تاجراً صار محتالاً يسخر منه. كذلك الامر في من لا يميز الحقائق الدينية ولايعطي لكل منها ما يستحقه من حق واعتبار، ولا يعرف سكة الشريعة وعلامتها في كل حكم. كل حكم شبيه بجزء ترس يدور على محوره لمعمل عظيم. فالذين لا يميزون يعرقلون تلك الحركة. مثلهم في هذا كمثل جاهل شاهد ترساً صغيراً لطيفاً في ماكنة جسيمة، وحاول الاصلاح وتغيير ذلك الوضع المتناسق. ولكن لعدم رؤيته الانسجام الحاصل بين حركة الترس الصغير والماكنة الكبيرة وجهله بعلم المكائن، فضلاً عن غرور النفس الذي يغريه ويخدعه بنظره السطحي؛ تراه يخلّ بنظام المعمل من حيث لا يشعر ويكون وبالاً على نفسه.
زبدة الكلام:
ان الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمه المعتمد على كل حكم من احكام الشرع. ولابد من قراءة تلك السكة والختم. فذلك الحكم مستغن عن كل شئ سوى قيمته وسكته. فهو في غنىً عن تزيين وتصرف الذين يلهثون وراء المبالغين والمغالين والمنمقين للّفظ. وليعلم هؤلاء الذين يطلقون الكلام جزافاً، كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين. فمثلاً: لم يكتف احدهم بالزجر الشرعي لتنفير الناس عن المسكرات فقال كلاماً امام جمع غفير من الناس اخجل من كتابته، وقد شطبته بعد كتابته.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 48
فيا هذا! انك بكلامك هذا تعادي الشريعة! وحتى ان كنت صديقاً فلا تكون الاّ صديقاً أحمق، واضرّ على الدين من عدوه.
خاتمة:
ايها الظالمون الذين يحاولون جرح الاسلام ونقده من بعيد، من الخارج. زنوا الامور بالمحاكمة العقلية. ولاتنخدعوا ولاتكتفوا بالنظر السطحي. فهؤلاء الذين أصبحوا سبباً لاعذاركم الواهية - في نقد الاسلام - يسمّون بلسان الشريعة "علماء السوء". فانظروا الى ما وراء الحجاب الذي ولّده عدم موازنتهم الامور، وتعلقهم الشديد بالظاهر، سترون: ان كل حقيقة من حقائق الاسلام برهان نيّر كالنجم الساطع، يتلألأ عليه نقش الازل والابد.
نعم، ان الذي نزل من الكلام الازلي يمضي الى الابد والخلود. ولكن - يا للاسف - يلقي احدهم ذنوبه على الاخرين ليبرئ نفسه، وما ذلك الاّ من حبه لها وانحيازه اليها ومن عجزه وانانيته وغروره. وهكذا يسند كلامه الذي يحتمل الخطأ او فعله القابل للخطأ الى شخص معروف، او الى كتاب موثوق، بل حتى احياناً الى الدين، وغالباً الى الحديث الشريف، وفي نهاية المطاف الى القدر الالهي. وما يريد بهذا الا تبرئة نفسه.
حاشلله ثم حاشَ لله. فلا يرد الظلامُ من النور. وحتى لو ستر النجوم المشاهدة في مرآته لا يستطيع ستر نجوم السماء. بل هو العاجز عن الرؤية والابصار.
أيها السيد المعترض! انه ظلم فاضح جعل الشبهات الناشئة من سوء فهم الاسلام والاحوال المضطربة الناشئة من مخالفة الشريعة، ذريعة لتلويث الاسلام. وما هذا الاّ كالعدو الذي يتذرع لأي سبب كان للانتقام والثأر. او مثل الطفل الذي يروم البكاء لأتفه سبب. اذ ان كل صفة من صفات المسلم لا يلزم ان تكون ناشئة من الاسلام.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 49
المقدمة الثامنة
تمهيد:
لا تمل من هذه المقدمة الطويلة الآتية، لأن ختامها في منتهى الاهمية، فضلاً عن انها تزيل اليأس المبيد لكل كمال. وتبعث الحياة في الامل، الذي هو جوهر كل سعادة وخميرتها.. وتبشر بان المستقبل سيكون لنا والماضي لغيرنا.. رضينا بالقسمة وها هو ذا موضوعها:
عقد موازنة بين ابناء الماضي والمستقبل، فالمدارس العليا لا تقرأ فيها الألفباء، ومهما عظمت ماهية العلم فان صورة تدريسها غير ماهيتها 1.
نعم! ان الماضي مدرسة الاحاسيس والمشاعر المادية، بينما المستقبل هو مدرسة الافكار. فهما ليسا على طراز واحد.
واقصد من ابناء الماضي اولاً : القرون الاولى والوسطى لما قبل القرن العاشر لغير المسلمين. اما الامة الاسلامية فهي خير امة في القرون الثلاث الاولى، وامة فاضلة عامة الى القرن الخامس، وما بعده حتى القرن الثاني عشر اعبّر عنه بالماضي. اما المستقبل فاعدّه مابعد القرن الثاني عشر.
وبعد هذا فمن المعلوم ان الغالب على تدبير شؤون الانسان. إما العقل او البصر، وبتعبير اخر: إما الافكار او الاحاسيس المادية. او: إما الحق او القوة. أو: إما الحكمة أو الحكومة. أو: إما الميول القلبية أو التمايلات العقلية. او: اما الهوى او الهدى.
وعلى هذا نشاهد ان: اخلاق ابناء الماضي الحاملة شيئاً من الصفاء، واحاسيسهم الخالصة الى درجة، قد استخدمت افكارهم غير المنورة وسيطرت عليها، فبرزت الشخصيات وسادت الاختلافات. بينما افكار ابناء المستقبل المنورة - الى حد - قد تغلبت على احاسيسهم المظلمة بالهوى والشهوة وسخرتها لأمرها، فتحققت: ان السيادة تكون للحقوق العامة. فتجلت الانسانية الى حد ما. وهذا يبشر بان الاسلام
_____________________
1 لعل المقصود ان طريقة تقديم العلم تختلف بأختلاف الازمان، فما يتعلمه المبتدئون غير ما يتعلمه الواصلون الى المراحل العليا، وما عرفه ابناء الماضي غير ما ينبغي ان يعرفه ابناء الحاضر والمستقبل. المترجم.




عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:25 PM

رد: صقيل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 50
الذي هو الانسانية الكبرى سيسطع كالشمس في رابعة النهار في سماء المستقبل وعلى جنان آسيا.
ولما كانت الاحاسيس المادية والميول والرغبات والقوة التي انشأت الاغراض النفسانية والخصومات وميل التفوق على الاخرين مسيطرة على اودية الماضي كان الاقناع الخطابي كافياً لارشاد اهل ذلك الزمان، لأن تصوير المدّعى وتزيينه وتهويله وتأنيسه الى الخيال يداعب الاحاسيس ويؤثر في الميول والرغبات، فكان هذا يسد مسدّ البرهان. بيد ان قياس انفسنا عليهم يعني التحرك الى الخلف، واقحاماً لنا في زوايا ذلك الزمان. اذ لكل زمان حكمه. نحن نطلب الدليل. ولا ننخدع بتصوير المدعى وتزيينه.
ولما كان مصدر تبخر حقائق الحكمة في صحراء الوقت الحاضر والباعث بالسحاب الممطر الى جبال المستقبل، هو الافكار والعقل والحق والحكمة والتي ولّدت حديثاً ميل التحري عن الحقيقة، وعشق الحق، وترجيح المنفعة العامة على الخاصة، وظهور رغبات انسانية؛ لذا لا يثبت المدّعى بغير البراهين القاطعة. فنحن ابناء الحال الحاضرة والمرشحين للمستقبل لايشبع اذهاننا تصوير المدّعى وتزيينه بل نطلب البرهان.
فلنذكر قليلاً من حسنات وسيئات الماضي والمستقبل اللذين هما في حكم سلطانين.
ففي ديار الماضي كان السائد في الاغلب هو: القوة، والهوى، والطبائع، والميول، والاحاسيس، لذا فان احدى سيئاته انه كان هناك في كل امر من اموره - ولو بصورة عامة - تحكّم واستبداد وظهور محبة شخص على حساب خصومة آخر.. وغلبة خصومة مسلك الآخرين على محبة مسلكه.. ومداخلة الالتزام والتعصب.. والانحياز المانع عن كشف الحقيقة.

حاصل الكلام:
لما كانت الميول متفاوتة فان تدخل الشعور بالانحياز في كل شئ، ونشوء التبلبل بالاختلافات جعل الحقيقة تهرب وتختفي.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 51
ثم ان من سيئات استبداد الاحاسيس: تأسس المسالك والمذاهب غالباً على التعصب.. وتضليل الاخرين، او على السفسطة.. بينما هذه الثلاثة مذمومة في نظر الشرع، منافية للاخوة الاسلامية، مفرقة للانتساب الجنسي (الانساني) مخالفة للتعاون الفطري لدرجة ان احد هؤلاء يضطر في النهاية الى تبديل مذهبه ومسلكه دفعةً، مصدقاً اجماع الناس وتواترهم تاركاً التعصب والسفسطة. بينما اذا ما عمل ابتداءً بالحق بدلاً من التعصب، وبالبرهان بدلاً من السفسطة، وبالتوفيق والتطبيق بدلاً من تضليل الاخرين، وطبّق الشورى، فلا يمكن ان يبدّل مذهبه ومسلكه الحق ولو بجزء منهما حتى لو اتفقت الدنيا عليه.
ولما كان المهيمن هو الحق والبرهان والعقل والشورى في خير القرون وعصور السلف الصالح، لم يك للشكوك والشبهات موضع. كذلك نرى انه بفضل انتشار العلوم في الوقت الحاضر وهيمنتها بصورة عامة وفي المستقبل هيمنة تامة ان شاء الله سيكون المهيمن هو الحق بدلاً من القوة، والبرهان بدلاً من التعصب والسفسطة، والحمية بدلاً من الاحاسيس المادية، والعقل بدلاً من الطبع، والهدى بدلاً من الهوى كما كان الحال في القرون الاولى والثانية والثالثة وحتى الى القرن الخامس عامة. اما بعد القرن الخامس الى الان فقد غلبت القوةُ الحقَ.
ومن محاسن سلطان الافكار ان تخلصت شمس الاسلام مما كان يحجبها من غيوم الاوهام والخيالات. بل اخذت كل حقيقة منها بنشر نورها، حتى المتعفنين في مستنقع الالحاد أخذوا يستفيدون من ذلك النور.
ومن محاسن مشاورة الافكار تأسس المعتقدات والمسالك على البراهين القاطعة، وربط الحقائق بالحق الثابت الممدّ للكمالات كلها. مما يؤدي الى عدم تمويه الافكار وخداعها بإلباس الباطل لباس الحق!
ايها الاخوة المسلمون!
ان الوضع الحاضر يبشرنا بلسان الحال ان مضمون:
(جاء الحق وزهق الباطل) (الاسراء: 81) قد أشرأب بعنقه ويشير بيده الى المستقبل منادياً بأعلى صوته:
ان الحاكم على الدهر وعلى طبائع البشر الى يوم القيامة هو "حقيقة الاسلام" التي هي تجلّي العدالة الازلية في عالم الكون، والتي هي الانسانية الكبرى. وما


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 52
محاسن المدنية التي هي الانسانية الصغرى الاّ مقدمتها! ألا يشاهد انه قد خفف تلاحق الافكار وتنوّرها عن كاهل حقائق الاسلام طبقات تراب الاوهام والخيالات.. وهذا يبين ان ستنكشف تماماً تلك الحقائق التي هي نجوم سماء الهداية وستتلألأ وتسطع على رغم انوف الاعداء.
واذا شئت فاذهب الى المستقبل وادخل فيه وشاهد: كيف يهذر وينهزم في ميدان الحقائق - التي تحكمها وترعاها الحكمة - من يتحرى التوحيد في التثليث فيما لو بارز المتمسكين بالعقيدة الحقة، المتقلدين سيف البرهان، تلك العقيدة التي يرضاها التوحيد الخالص، والاعتقاد الكامل، والعقل السليم.
أقسم بالقرآن العظيم ذي الاسلوب الحكيم،انه ما ألقى النصارى وامثالهم في وديان الضلالة نافخاً فيهم الهوى الاّ عزل العقل وطرد البرهان وتقليد الرهبان..
وماجعل الاسلام يتجلى دوماً، وتنكشف حقائقه وتنبسط بنسبة انبساط افكار البشر الاّ تأسّسه على الحقيقة وتقلده البرهان ومشاورته العقل واعتلاؤه عرش الحقيقة ومطابقته دساتير الحكمة المتسلسلة من الازل الى الابد ومحاكاته لها.
الا يشاهد كيف يحيل القرآن الكريم في فواتح اكثر الايات وخواتمها البشر الى مراجعة الوجدان واستشارة العقل بقوله تعالى
(افلا ينظرون) و(فانظروا) و (أفلا يتدبرون) و(أفلا تتذكرون) و(تتفكروا) و (ما يشعرون) و(يعقلون) و(لا يعقلون) و(يعلمون) و(فاعتبروا يا اولي الابصار).
وأنا أقول ايضاً: فاعتبروا يا اولي الالباب.

خاتمة:
فيا اولي الالباب! انفذوا من الظاهر الى الحقيقة فهي تنتظركم. واذا ما شاهدتموها فلا تؤذوها. هكذا ينبغي، وهذا هو الالزم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 53
المقدمة التاسعة

لقد تحققت لدى العقول السليمة:
ان الخير هو الاصل في العالم، اما الشر فهو تبعي. فالخير كلي والشر جزئي. اذ:
يشاهد انه قد تكوّن ـ وما زال يتكون ـ علمٌ خاص لكل نوع من انواع العالم؛ والعلم عبارة عن قواعد كلية. فاذا كانت الكلية قاعدة، فهي اذاً كشّافة عن حسن الانتظام في ذلك النوع. اي ان كل علم من العلوم شاهد صادق على حسن الانتظام.
نعم! الكلية دليل على الانتظام، لان مالا انتظام فيه لا كلية لحكمه، بل يكون هزيلاً لكثرة استثناءاته. والذي يزكّي هذا الشهود الاستقراء التام 1 بنظر الحكمة. الاّ انه احياناً لا يُرى الانتظام، لسعة دائرته عن أفق النظر، فلا يمكن الاحاطة به ولا تصوره، وعندئذٍ يصعب ان يبين النظامُ نفسه.
وبناءً على ما سبق:
فقد ثبت بشهادة العلوم جميعها، وبتصديق الاستقراء التام الناشئ من نظر الحكمة: ان الحسن والخير والحق والكمال، هو المقصود بالذات والغالب المطلق في خلق العالم. اما الشر والقبح والباطل، فهي امور تبعية ومغلوبة ومغمورة، وحتى لو كانت لها الصولة فهي صولة موقتة.
وقد ثبت ايضاً:
ان أكرم الخلق بنو آدم؛ تشهد له استعداداته ومهاراته.
وان اشرف بني آدم هم المسلمون الصادقون، وهم اهل الحق والحقيقة، تشهد لهم حقائق الاسلام، كما ستصدقهم وقائع المستقبل.
_____________________
1 الاستقراء التام: الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته جميعها او في بعض اجزائه (التعريفات). المترجم



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 54
وثبت ايضاً:
ان اكمل الكل هو محمد صلى الله عليه وسلم، تشهد له معجزاته واخلاقه السامية، كما يصدّقه علماء البشر المحققون، بل يسلّم له اعداؤه، وعليهم ان يسلّموا.
فاذ هذه الثلاثة هكذا، أيقتدر نوع البشر بشقاوته على جرح شهادة تلك العلوم، ونقض الاستقراء التام، والتمرد على مشيئة ربه؟.. كلا.. لا يقتدر ولن يقتدر.
أقسم باسم الرحمن الرحيم العادل الحكيم: ان البشرية لن تستطيع ان تهضم بسهولة وسلامة، الشر والقبح والباطل، ولن تسمح لها الحكمة الالهية. لان من يتعدى على حقوق الكائنات العامة لايعفى عنه، ولايسمح بعدم انزال العقاب عليه.
نعم! ان تغلب الشر طوال الوف السنين، لا يؤدي الاّ الى مغلوبية مطلقة لالف سنة في الاقل، محصورة في الدنيا. اما في الاخرة فسيحكم الخير على الشر بالاعدام الأبدي! والاّ لو لم يكن الامر هكذا، فان سائر الانواع والاجناس المنظمة المكملة المنقادة للاوامر الالهية المنتظمة، لايقبلون بين ظهرانيهم هذا الانسان الشقي الكنود، بل يسقطون حق وجوده بينهم. وينفونه الى مأوى العدم والظلمات، ويطردونه من وظيفة الخلق الفطرية. لان غلبة الشر على الخير تستلزم عبثية القابليات والميول المودعة في استعدادات البشر ليسود العالم وينال السعادة الابدية في الاخرة! والحال ان العبث مناقض للاستقراء التام، كما انه مناف لحكمة الصانع الحكيم، ومخالف لحكم النبي الصادق الامين صلى الله عليه وسلم.
وسيصفّي المستقبل قسماً من هذه الدعاوي، اما تصفيتها النهائية فستشاهد في الاخرة، ذلك لان المستقبل هو ميدان تغلب الحسن والحق النوعي والعمومي - بغض النظر عن الاشخاص - فان متنا، فامتنا باقية.. لانرضى بالظهور والنصر لاربعين سنة بل نريد ألفاً من السنين في الاقل.
أما ميدان تغلب الحسن والحق والخير والكمال الشخصي والعام، والجزئي والكلي، ومحكمته الكبرى التي تجازى فيها البشر - كسائر اخوانه من الكائنات المنقادة - ويكافأ بما يوافق وينسجم مع استعداداته، فهو: الدار الاخرة، اذ يتجلى فيها الحق والعدالة المحضة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 55
نعم! ان هذه الدنيا الضيقة لاتسع ولاتلائم نمو وتزاهر ما أودع في جوهر البشر من استعدادت غير محدودة وميول ورغبات مخلوقة للابد. لذا يبعث الى عالم آخر كي تُربّى وتكمل تلك الميول والاستعدادات.
ان جوهر الانسان جليل، وماهيته رفيعة، وجنايته كذلك عظيمة وطاعته وانقياده مهمة، فهو لايشبه سائر الكائنات، لذا لا يمكن ان لاينتظم مع الكائنات ولاينقاد للأوامر.
نعم! ان المرشح للأبد عظيم، لن يُترك سدى، ولايكون عبثاً، ولايحكم عليه بالفناء المطلق، ولايهرب الى العدم الصرف.. بل جهنم فاغرة فاها، والجنة قد فتحت ذراعيها اللطيفتين لاحتضانه.
خاتمة:
ان مستقبل الاسلام وآسيا، باهر وفي غاية السطوع واللمعان، كمايتراءى من بعيد. لأن هناك أربعاً او خمساً من القوى، تتفق - بما لا يمكن مقاومتها - على سيادة الاسلام المهيمن اولاً وآخراً على آسيا:
القوة الاولى:
قوة الاسلام الحقيقية المدعمة بالمعرفة والمدنية.
القوة الثانية:
الحاجة المجهّزة بتوافر الوسائل وتكمّل المبادئ والاسباب.
القوة الثالثة:
المنافسة والغبطة والغيظ المضمر، هي أمور تهيئ الصحوة العامة الناشئة من رؤية آسيا في منتهى السفالة وغيرها في منتهي الرفاه.
القوة الرابعة:
استعداد الفطرة المجهّز: بتوحيد الكلمة، الذي هو دستور الموحّدين.. وبدماثة الخلق والاعتدال، الذي هو خاصة الوضع الحاضر.. وبتنوير الاذهان، الذي هو ضياء


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 56
الزمان.. وبتلاحق الأفكار، الذي هو قانون المدنية.. وبسلامة الفطرة، التي هي لازمة البداوة.. وبالخفة والاقدام، وهما ثمرة الضرورة.
القوة الخامسة:
الرغبة في التحضر والتمدن والنزوع الى التجدد والتقدم المادي - الذي يتوقف عليه اعلاء كلمة الله في هذا الوقت - التي يأمر بها الاسلام، ويدفع اليها الزمان، ويلجئ اليها الفقر الشديد، والأمل الباعث للحياة بموت اليأس القاتل لكل رغبة.والذي يدعم هذه القوى ويمدّها: تغلّب مساوي المدنية على محاسنها، تلك المساوي التي بثت الفوضى في الاجانب وارهقت الحضارات وشيّبتها.. ثم عدم كفاية السعي للسفاهة (اي عدم سدّه لمتطلباته)، ولهذا سببان:الاول: فسح المجال للسفاهة، وتلبية شهوات النفس، بعدم جعل الدين والفضيلة دستوراً للمدنية. الثاني: التباين الاجتماعي الرهيب في الحياة المعشية، الناشئ من فقدان التراحم الناجم من حب الشهوات ومجافاة الدين.
نعم! ان هذا الالحاد ومجافاة الدين قد سبب فوضىً في المدنية الاوروبية، وقلبها رأساً على عقب، بحيث ولّد كثيراً من المنظمات الفوضوية وهيئات الافساد والإضلال. فلو لم يُلجأ الى حقيقة الشريعة الغراء، ولم يُتحصن بذلك الحبل المتين ولم يوضع سدٌّ تجاه هذه المنظمات الفوضوية كسد ذي القرنين، فستدمّر تلك المنظمات عالم مدنيتهم وتقضي عليها، كما يهددونها حالياً.
ترى لو صارت الزكاة التي هي مسألة واحدة من الف من مسائل حقيقة الاسلام، دستور المدنية وأساس التعاون فيها، ألا تكون دواءً ناجعاً وترياقاً شافياً للتباين الفظيع في الحياة المعاشية، الذي هو جحر الحيات والسم الزعاف والبلاء المدمّر؟
بلى! سيكون الدواء الناجع الساري المفعول أبداً.
واذا قيل:
"لِمَ لا يكون السبب الذي ادّى الى تغلب أوروبا الى الان سبباً لاستمراره"؟


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 57
فالجواب:
طالع مقدمة هذا الكتاب، ثم أدم النظر في هذا:
كان سبب رقيها هو: التأني في اخذ كل شئ او تركه.. والصلابة في الامر، التي هي من شأن برودة بلادهم.. ونمو الفكر والمعرفة والتوجه الى الصناعة لكثرة السكان وضيق المكان والمساكن.. والتعاون والتتبع الحاصلين من وجود الوسائط المساعدة كالبحر والمعادن وامثالها.. أما الان فقد تطورت وسائل النقل الى درجة كبيرة بحيث اصبح العالم كالمدينة الواحدة، وغدا أهله في مداولتهم الامور كانهم في مجلس واحد، بحكم التقدم في وسائل المخابرات والمطبوعات. نحصل من هذا: اننا سنلحق بهم، بل نسبقهم، إن حالفنا التوفيق الالهي لان حملهم ثقيل وحملنا خفيف.
ان ما يفتح حظ آسيا وسَعد الاسلام هو الشورى والحرية، المشروطتان بتربية الشريعة الغراء_.تنبيه:ان الامور التيتسمى بمحاسن المدنية ما هي الاّ مسائل شرعية حوّلَتْ الى شكل آخر.
_____________________
1 يا اخوة النور! ان حزب القرآن الذين خاطبهم الاستاذ الحبيب في ذلك الوقت هم الآن طلاب النور. فانتبهوا! ان مافي هذه الصفحات يخاطبنا نحن بالذات، فاجعلوا وسائل العلم والمدنية في خدمة الاسلام، واعلنوا حضارة الاسلام للعالم اجمع (مصطفى صنغور) .



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 58
المقدمة العاشرة

لا يؤاخذ المتكلم فيما يتكلم من كلام، بكل ما يرد الى ذهن السامع؛ لأن المفاهيم والمعاني - سوى ما سيق له الكلام - هي في عهدة المتكلم بالارادة، فان لم يردها لايعاتب، الاّ انه ضامن حتماً بالغرض والقصد.
وقد تقرر في علم البيان: ان الصدق والكذب يعقبان قصد المتكلم وغرضه، فالتبعة والمؤاخذة في المقصود وفيما سيق له الكلام، على المتكلم. أما الذنب والخلل في مستتبعات الكلام - اي في تلويحاته وتلميحاته - وفي وسائله واسلوب عرضه - اي في صور المعاني وطرز الافادة والمعاني الاولى - فليس على المتكلم، بل على العرف والعادة والقبول العام، اذ يُحترم العرف والقبول العام لأجل التفهيم. ثم اذا كان الكلام حكاية، فالخلل والخطأ يعودان الى المحكي عنه.
نعم! لا يؤاخذ المتكلم في الصور والمستتبعات، اذ تناولهما ليس لجني الثمرات وانما للتسلق منهما الى أغصان مقاصد أعلى. فان شئت فتأمل في الكنايات، فمثلاً: عندما يقال: طويل النجاد كثير الرماد. فالكلام صادق ان كان الشخص طويل القامة سخي الطبع ولو لم يكن له سيف ولا رماد.
وان شئت فأدم النظر في المثال والأمثال الافتراضية ترى: ان تلك الامثال لها بالشهرة في مداولة الافكار والعقول قيمة وقوة، حتى انها تستعد للقيام بمهمة السفارة بينها. بل ان أصدق مؤلف واعلم حكيم كصاحب المثنوي (جلال الدين الرومي)1 وسعدي الشيرازي2 يستخدمان ذلك المثل الافتراضي، ولم يريا مشاحة وبأساً في استعماله.
_____________________
1 جلال الدين الرومي: (604-672هـ) (1207-1273م) عالم بفقه الحنفية والخلاف وانواع العلوم، ثم متصوف (ترك الدنيا والتصنيف) صاحب (المثنوي) المشهور بالفارسية المستغني عن التعريف، وصاحب الطريقة المولوية. ولد في بلخ (بفارس) استقر في (قونية) سنة 623 هـ عرف بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الاسلامية، فتولى التدريس بقونية في اربع مدارس بعد وفاة ابيه سنة 628 هـ (الاعلام 7/30 كشف الظنون 1587)
2 سعدى الشيرازى: (589هـ 691) (1189 - 1292م) من شعراء الصوفية الكبار، ومن ارقهم تعبيراً ولد في مدينة (شيراز)، قدم بغداد استكمالاً لدراساته في علوم الدين في المدرسة النظامية كان من مريدي الشيخ عبد القادر الكيلاني، قضى ثلاثين سنة من عمره في الاسفار ونظم الشعر، وكتابه كلستان مشهور.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 59
فاذا تنوّر لك هذا السر، فاقتبس منه واذهب الى زوايا القصص والحكايات، وقس فان ما يجري في الجزء قد يجري في الكل ايضاً.
تنبيه:
سترد قاعدة في "المقالة الثالثة" حول المشكلات القرآنية ومتشابهاته، ولكن لاقتضاء المقام نذكر هنا نبذة منها:
ان المقصود الاهم من الكتاب الحكيم هو ارشاد الجمهور الذين يمثلون اكثرية الناس، لأن خواص الناس يمكنهم ان يستفيدوا من مسلك العوام، بينما العوام لايستطيعون فهم ما يخاطب به الخواص حق الفهم، علماً ان معظم الجمهور هم عوام الناس والعوام لايقتدرون على مشاهدة الحقائق المحضة وادراك المجردات الصرفة متجردين عن مألوفاتهم ومتخيلاتهم. فالذي يضمن رؤيتهم ويحقق ادراكهم: إلباس المجردات واكساءها زي مألوفاتهم، تأنيساً لأذهانهم، كي يروا المجردات ويعرفوها بمشاهدتها خلف صور خيالية.
ولما كان الامر هكذا، تلبس الحقيقة المحضة مألوفاتهم. ولكن يجب الاّ يقصر النظر في الصورة ولاينحصر فيها. وبناءً على هذا: فان ما في أساليب اللغة العربية من مراعاة الأفهام ومماشاة الاذهان، قد جرت في القرآن الحكيم المعجز البيان، والتي تعبر عنها بـ " التنزلات الالهية الى عقول البشر". فمثلاً:
قوله تعالى
(ثم استوى على العرش) (الاعراف: 7) و (يد الله فوق ايديهم) (الفتح: 10) و (جاء ربك) (الفجر: 22) وامثالها من الايات الكريمة.
وأيضاً
(تغرب في عين حمئة) (الكهف: 86) و(والشمس تجري لمستقر لها) (يس: 38) ونظائرهما من الايات... كلها روافد لهذا الاسلوب.. (ذلك الكتاب لا ريب فيه).
خاتمة:
ان اغلاق الكلام المعقد وإشكاله ينشأ: إما من ركّة اللفظ وضعف الاسلوب، فهذا لا يدنو من القرآن المبين.. أو من دقة المعنى، وعمقه، وجودته، وعدم مألوفيته،


عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:26 PM

رد: صقيل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 60
وندرته، حتى لكأن المعنى يتدلل على الفهم ويبهم تجاهه، ليثير الشوق، طالباً للاهتمام والمكانة، فمشكلات القرآن من هذا القبيل.
تنبيه:
ان لكل آية ظهراً وبطناً، ولكل منها حد ومطّلع، ولكل منهما شجون وغصون. كما ورد حديث شريف بهذا المعنى (1) والشاهد الصادق عليه: العلوم الاسلامية.فلكل مرتبة من هذه المراتب درجتها وقيمتها ومقامها، لا تتزاحم هذه المراتب، وانما تشتبك فينشأ الاشتباه، ولا بد من التمييز، اذ كما لو مزجت دائرة الاسباب بدائرة الاعتقاد تتولد البطالة والكسل تحت اسم التوكل، او ينتج مذهب الاعتزال باسم مراعاة الاسباب، فان المراتب والدوائر هذه ان لم تفرز تنتج مثل هذه النتائج
_____________________
(1) (انزل القرآن على سبعة احرف) رواه احمد والترمذي عن أبي رضي الله عنه واحمد عن حذيفة، وهو عند الطبراني من حديث ابن مسعود بزياة.. وفي رواية اخرى عنده: لكل حرف منها ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ولكل حدّ مطلع. (باختصار عن كشف الخفاء للعجلوني 1/209).
ولكل حدّ مطّلع، اي: لكل حدّ مصعد يصعد اليه من معرفة علمه. وفي المثل » الحديث ذو شجونٌ« أي فنون واغراض، وقيل: أي يدخل بعضه في بعض، أي: ذو شعب وامتساك بعضه ببعض.. واصل الشجنة بالكسر والضم شعبة من غصن من غصون الشجرة.
(لسان العرب باختصار)
.

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 61
المقدمة الحادية عشرة

قد يتضمن الكلام الواحد احكاماً عدة، فربما يحوي الصدف الواحد كثيراً من الدرر. والمقرر لدى ارباب العقول:
ان القضية الواحدة تتضمن قضايا عدة؛ كل يثمر ثمراً مبايناً للآخر، كما نبع ونشأ من أصل مختلف.. فالعاجز عن التمييز يجانب الحق ويغترب عنه.
مثال ذلك:
ورد في الحديث الشريف: (بعثتُ انا والساعة كهاتين) 1. اي: لانبي بعدي الى قيام الساعة.. فالمقصود - أياً كان - من الحديث فهو حق.
فهذا الحديث الشريف يتضمن ثلاث قضايا:
اولاها: ان هذا الكلام هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم.. هذه القضية هي نتيجة التواتر ان كان. "اي : ان كان الحديث متواتراً".
ثانيتها: ان المعنى المراد من هذا الكلام حق وصدق.. هذه القضية هي نتيجة للبرهان المستند الى معجزاته صلى الله عليه وسلم "اذ لايصدر عنه غير الصدق". فينبغى الاتفاق في هاتين القضيتين، لانه من ينكر الاولى فهو كاذب مكابر. اما الذي ينكر الثانية فهو ضال قد هوى في الظلمات.
القضية الثالثة: ان المراد من هذا الكلام هو هذا "أي الذي اسوقه".. فها هو الدر الموجود في هذا الصدف. هذه القضية هي نتيجة الاجتهاد، لا التشهي؛ اذ من المعلوم ان المجتهد ليس مكلفاً بتقليد غيره من المجتهدين.
هذه القضية الثالثة هي منبع الاختلافات. واصدق شاهد على ذلك هو مانراه من الاقوال المتضاربة "في مسألة واحدة".
_____________________
1 حديث صحيح اخرجه البخاري 6505 من حديث ابي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث متواتر. انظر النظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 143 برقم 187.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 62
فالذي ينكر هذه القضية لا يكون مكابراً ولا ضالاً، ولا ينساق الى الكفر، ان كان انكاره نابعاً من الاجتهاد؛ اذ العام لا ينتفي بانتفاء الخاص، وكم من قطعي المتن ظني الدلالة.. فلا بد من الدخول الى البيوت من ابوابها، فان لكلٍ باباً، ولكل قفل مفتاحاً.
خاتمة:
هذه القضايا الثلاث تجري في الآية جريانها في الحديث الشريف حيث انها قضايا عامة. الا ان الاولى منها فيها فرق دقيق.
وهكذا يتضمن الكلام احكاماً كثيرة، الا انها احكام خاصة، كل منها يختلف عن الاخر في الاصل مثلما يثمر ثمرة مباينة للآخر.
تنبيه:
قد يجد من يريد ان يغالط في مثل هذه المقامات ذرائع تافهة وحججاً واهية ناجمة من حب النفس:
كالتزام الطرف المخالف..
والتعصب الذميم..
وحب الظهور..
والشعور بالانحياز الى جهة..
وتسويغ الاوهام والخيالات باسنادها الى اصل..
ورؤية الامور الواهية قوية، لموافقتها رغباته الشخصية.
واظهار كماله بتنقيص الآخرين والتهوين من شأنهم..
وابراز كونه صادقاً بتكذيب الآخرين..
وبيان استقامته باضلالهم..
وغيرها من الامور السافلة المنحطة!
والى الله المشتكى.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 63
المقدمة الثانية عشرة

من لم يجد اللب ينهمك في القشر(1).. ومن لم يعرف الحقيقة يزلّ الى الخيالات. ومن لم ير الصراط المستقيم يقع في الافراط والتفريط.. ومن لا يملك ميزاناً ولاموازنة له يخدع وينخدع كثيراً.
ان سبباً خادعاً للظاهريين هو: إلتباس علاقة القصة بالعبرة المرادة منها، واقتران المقدمة بالمقصود في الذهن، والاقتران الحاصل في الوجود الخارجي.
لاحظ هذه النقطة فانك تحتاج اليها فيما بعد.
ثم ان احد الاسباب المولدة للفوضى والموقعة في الاختلافات والموجدة للخرافات والمنتجة للمبالغات - بل أهم سبب لها - هو عدم القناعة والاطمئنان بما خُلق في العالم من حسن وعظمة وسمو. والذي يعني الاستخفاف بالنظام بذوق فاسد. حاشَ لله.ان حسن الانتظام والعظمة والعلو المودعة في حقائق العالم، التي كل منها أبهر معجزة من معجزاتالقدرة الالهية في نظر العقل والحكمة، قد أبدعتها يد الحكمة الالهية ابداعاً في غاية الروعة بحيث لو قورن بها مايمرّ في خيال عشاق الخيال والمبالغين من حسن وكمال خارقين، لبقيت تلك الخيالات الخارقة، اعتيادية جداً. ولبدت تلك السنن الالهية خارقة حقاً، في غاية الحسن ومنتهى الكمال والعظمة. الاّ ان الألفة - التي هي أخت الجهل المركب وأم النظر السطحي - هي التي عصبت عيون المبالغين.
ولا يفتح تلك العيون المعصوبة الاّ أمر القرآن الكريم بالتدبر والتأمل في الآفاق والأنفس المألوفتين.
نعم! ان نجوم القرآن الثاقبة هي التي تفتح الابصار وترفع ظلام الجهل وظلمات النظرة العابرة. اذ تمزق الآيات البينات بيدها البيضاء حجاب الالفة والنظر السطحي
(1) يقول الشيخ الكيلاني: " كل عمل لا إخلاص فيه فهو قشر" الفتح الرباني- المجلس24


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 64
وأستار التشبث بالظاهر المحسوس، فتوجّه العقول وترشدها الى حقائق الآفاق والأنفس.
ثم ان مما يولد الرغبة في المبالغة، حاجة الانسان الفطرية الى اخراج ميله من طور القوة الى طور الفعل. 1 اذ من ميوله: رؤية العجائب المحيّرة واراءتها والرغبة في التجدد والايجاد. وبناءً على هذا:
لما عجز الانسان بنظره السطحي ان يتذوق ما في جفان الكائنات وصحونها من غذاء روحي مغطى بغطاء الالفة، سئم من لعق الجفان ولَحْس الغطاء. ولم يفده سوى عدم القناعة، والتلهف الى خوارق العادات والرغبة في الخيالات، مما ولّد لديه الرغبة في المبالغة للتجدد أو الترويج.. تلك المبالغة شبيهة بكرة الثلج المتدحرجة من أعلى قمة الجبل، كلما تدحرجت كبرت، فالكلام المتدحرج أيضاً من ذروة الخيال الى اللسان ومنه الى لسان ولسان، تُشتت حقيقته الذاتية، الاّ أنه يجمع حوله خيالات من كل لسان بميل المبالغة، فيكبر ويكبر حتى لايسعه القلب بل الصماخ بل حتى الخيال، ثم يجئ النظر بالحق فيجرّده من توابعه، ويرجعه عارياً مجرداً الى أصله، فيظهر سر
(جاء الحق وزهق الباطل).
حكاية جرت في هذه الايام تكون مثالاً على هذا:
ان أساس مسلكي منذ أيام صباي - ولا فخر - ازالة الشبهات التي تلوث حقائق الاسلام سواءً بالافراط ام بالتفريط، وصقل تلك الحقائق الالماسية. والشاهد على هذا تاريخ حياتي في كثير من حوادثه.
ففي هذه الايام ذكرت مسألة بديهية كـ"كروية الارض"، وطابقت عليها مايوافقها ويتعلق بها من مسائل دينية، دفعاً لاعتراضات الاعداء وازالة لشبهات المحبين للدين. كما سيأتي مفصلاً في "المسائل".
ثم ظهرالمغرمون بالظاهر المعتادون على الخيالات المهولة، وكأن عقولهم لا تقبل هذه المسألة، الاّ ان السبب الاساس غير هذا بلا شك، فتصرفوا تصرفات جنونية، كمن يريد ان يجعل النهار ليلاً باغماض العين، او يطفئ الشمس بالنفخ! وفي ظنهم كأن الذي يحكم بكروية الارض يخالف كثيراً من مسائل الدين. فتذرعوا بهذا
_____________________
1 طور القوة اي الكامن المستتر في الشئ. اما طور الفعل فهو الوضع المشاهد الظاهر. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 65
وافتروا فرية كبيرة، ولم يبق الامر في هذا الحد بل تجاوز الى تضخيم الفرية حيث وجدوا لها جواً ملائماً في الاذهان المرتابة، بل ضخموها الى حد كبير كووا بها كبد اهل الدين. وأيّسوا اهل الحمية في رقي الاسلام.
ولكن كان هذا درساً عظيماً لي، اذ ايقظني الى: ان الصديق الجاهل يمكنه ان يضرّ الدين بمثل مايضرّ به العدو، ولهذا فلقد كنت منذ بداية الكتاب اتوجّه الى حيث يكون العدو، أقطع بالسيف الالماسي الذي في اليد بخسَهم حق الاسلام.. أما الان فلاجل تربية امثال هؤلاء الاصدقاء، اضطر الى ان لا أمس - بذلك السيف - الا قليلاً من خيالاتهم المفرطة التي يتلهف لها العوام.
وعلى الرغم من ان اموراً شخصية كهذه لا تستوجب مثل هذه المباحث، فان الأمر لم يعد امراً شخصياً، بل اصبحت مسألة عامة تتعلق بحياة المدارس الدينية.
ألا فليعلم اولئك الظاهريون! انهم عبثاً يحاولون.. فلقد تركونا حتى الآن في غيابة الجهل بهذرهم وسفسطتهم هذه التي يغرم بها العوام ويريدون ان يدعونا جاهلين، ليستغلوا جهلنا.
هيهات! لا.. ولن يكون هذا.. ستُبعث الحياة في المدارس الدينية! والسلام.
ثم انه مما يشوش افكار الظاهريين، ويخلّ بخيالاتهم، اعتقادهم ان دلائل صدق الانبياء عليهم السلام، محصورة ضمن خوارق العادات. واعتبارهم ان جميع احوال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وحركاته - او معظمها - لا بد ان تكون خارقة. وهذا ما لايسمح به الواقع، لذا لايستقيم ولايصلح لهم ما يتخيلون. اذ ان اعتقاداً كهذا غفلة عظيمة عن سر الحكمة الالهية في الوجود، وعن تسليم الانبياء عليهم السلام مقاليد الانقياد الى قوانين الله الجارية في العالم.
نعم! ان كل حال من احواله صلى الله عليه وسلم وكل حركة من حركاته دليل على صدقه، وتشهد على تمسكه بالحق، مع انه يتبع السنن الالهية وينقاد اليها (سينبّه الى هذا في المقالة الثالثة).
ثم ان اظهار الخوارق ما هو الاّ لتصديق النبوة، والتصديق يحصل على اكمل وجه بمعجزاته الظاهرة، فاذا زادت عن الحاجة، فاما ان تكون عبثاً.. او منافية لسر


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 66
التكليف - الذي هو امتحان في الامور النظرية دون البديهيات او ما يقرب منها حيث يتساوى الادنى مع الاعلى - او تكون مخالفة للتسليم والانقياد لجريان الحكمة. بينما الانبياء عليهم السلام مكلّفون بالعبودية والتسليم اكثر من اي احد.
فياطالب الحق، الناظر الى كلماتي المشتتة!
ان الميول المزروعة في ماهيتك ستنمو وتفتح الازاهير بشمس الحقيقة التي تجري وهي ساكنة في المقدمات الاثنتي عشرة المذكورة.

خاتمة:
من يدّعي انه سيد - من اهل البيت - وهو ليس منهم، ومن ينكر انتسابه اليهم وهو سيد، كلاهما مذنب. فالدخول في السادة والخروج منهم كما انه حرام،كذلك النقصان والزيادة في القرآن الكريم والحديث الشريف ممنوع، بل الزيادة اضر لإفسادها النظام وفتحها أبواباً لمرور الاوهام؛ لان الجهل ربما يكون عذراً للنقصان، بينما الزيادة لاتكون الاّ بالعلم، والعالم لايعذر، فكما ان هذا هكذا، فالوصل والفصل في الدين لا يجوز ايضاً، بل ان ادخال زيف الحكايات وخبث الاسرائيليات واباطيل التشبيهات في ألماس العقيدة وجوهر الشريعة ودرر الاحكام انما هو حطّ لقيمتها وتنفير لطالبيها من متحري الحقيقة، ودفعهم للندامة.
خاتمة الخاتمة: ان ترك المستعد لما هو أهل للقيام به، وتشبثه بما ليس اهلاً له، عصيان كبير وخرق فاضح لطاعة الشريعة الكونية (شريعة الخلقة). اذ من شأن هذه الشريعة: انتشار استعداد الانسان ونفوذ قابليته في الصنعة واحترام مقاييس الصنعة ومحبتها وامتثال نواميسها والتمثل بها. وخلاصة الكلام: ان شأن هذه الشريعة؛ الفناء في الصنعة.
واذ وظيفة الخلقة هذه، فان الانسان بمخالفته هذه الشريعة؛ يغير الصورة اللائقة بالصنعة ويخل بنواميسها. ويشوّه صورة الصنعة غير الطبيعية - التي تشبث القيام بها - بميله الكامن للصنعة الاخرى لعدم الامتزاج بين الميل والصنعة، فيختلط الحابل بالنابل.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 67
وبناءً على هذا: فان كثيراً جداً من الناس يمضي بميل السيادة والآمرية والتفوق على الاخرين، فيجعل العلم المشوّق المرشد الناصح اللطيف، وسيلة قسر واكراه لاستبداده وتفوقه، فبدلاً من ان يخدم العلم يستخدمه. وعلى هذا فقد دخلت الوظائف بيد من ليسوا لها أهلاً، ولاسيما الوظائف في المدارس الدينية، فآلت الى الاندراس نتيجة هذا الامر.والعلاج الوحيد لهذا: تنظيم المدرسين الذين هم في حكم العاملين في دائرة واحدة، في دوائر كثيرة كما هو الحال في الجامعة، كلٌ في مجال اختصاصه، ليذهب كل واحدٍ بسوق انسانيته، وبتوجهه نحو حقه، ينفّذ قاعدة تقسيم الاعمال بميله الفطري امتثالاً للأمر المعنوي للحكمة الازلية.تنبيه:ان السبب المهم الذي ادّى الى تدني علوم المدارس الدينية، وصرفها عن مجراها الطبيعي هو:ان العلوم الآلية _ لما ارجت في عداد العلوم المقصودة، أصاب الاهمال العلوم العالية، اذ سيطر على الاذهان حلّ العبارة العربية التي لباسها (لفظها) في حكم معناها، وظل العلم الذي هوأصل القصد تبعياً. زد على ذلك، ان الكتب التي أصبحت في سلسلة التحصيل العلمي رسمية، وعباراتها متداولة الى حد ما. هذه الكتب حصرت الاوقات والافكار في نفسها ولم تفسح المجال للخروج منها.
***
يا أخا الوجدان!
كأني بك قد اشتقت الى رؤية ماهية الكتب الثلاثة التي ستترتب على هذه المقدمات. صبراً! سأذكر لك موضوعاً يمثل مجمل ما فيه، او بتعبير اخر يمثل صورتها المصغرة أو خريطتها المختصرة. ولكني سأبادر بتقديم تسع مسائل مما في تلك الكتب، على أمل أن أفصل الموضوع تفصيلاً عقب المقالة الثالثة ان شاء الله ووفّق الرب الكريم. فها هو ذا الموضوع!
_____________________
1 العلوم الآلية: كالنحو والصرف والمنطق وامثالها من العلوم التي تكون وسيلة لفهم العلوم العالية التي هي كالتفسير والحديث والفقه وامثالها من العلوم. المترجم



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 68
سأعرج الى علوم السماوات بسير روحاني، بالوسائل التي يريها القرآن الكريم وبقوة الفلسفة الصائبة. لننظر من هناك ونشاهد:
ان الكرة الارضية عبارة عن كرة ضخمة تديرها يد القدرة للصانع الحكيم، ونرى بعين الحكمة انه يقذفها كحجرالمقلاع، الى ان يشتتها، ليبدّلها الى افضل منها. ثم نتدلى ونتدرج من جو السماء حتى ننزل الى مهدنا، الارض التي بسطها وهيأها الخالق الرحمن لراحتنا.. ثم ننظر بإنعام الى الانسان، كيف انه يرمي بمهده بعد تجاوزه مرحلة الطفولة، فانه يرسل الى قصور السعادة الابدية كذلك بتخريب الارض.
وبعد ان نديم التأمل في هذا، ندخل ميدان الماضي بالسير الروحاني الذي لايقيده زمان ولامكان ونتحاور مع ابناء جنسنا، أبناء الماضي بأمواج البرقيات التاريخية، ونتعلم العبر والاحداث التي وقعت في تلك الزوايا الآفلة، ونصنع منها قطاراً للأفكار. ثم نرجع عائدين ونزور ابناء جنسنا ونتوجه الى مشرق المستقبل لنرى - ونري الآخرين - فجر سعادته الصادق الذي يتراءى من بعيد. ثم نركب قطار "الرقي والتقدم" وسفينة "السعي" المسماة بالتوفيق، حاملين في أيدينا مصباح البرهان وندخل معه "الزمان" الذي يبدو مظلم البداية، الاّ ان وراءه سطوعاً، لكي نصافح أبناء المستقبل ونهنئهم بسعادتهم التى يرفلون فيها.
وهكذا ففي هذه الصورة الفوطوغرافية المصغرة تندرج صورة جميلة، ستظهر لك محرراً.
والآن.. في هذه الارض تنبت اشجار الكتب المذكورة وتسقى بجداول المقالات الثلاث.
ايها الاخ!
قبل ان آخذ بيدك واوصلك الى خزينة الحقائق، ابادر الى سرد بضع مسائل وعدتك اياها، لأدفع بها غشاوة الخيالات عن بصر بصيرتك، تلك الخيالات التي صارت كالغول تضع ايديها على عينك فتغمضها، وتدفع صدرك وتخوفك.. وان أرتك شيئاً: فالنور نارٌ والدرّ مَدَرٌ. فاحذرها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 69
واعلم! ان أعظم منشأ يولد شبهاتك، مسائل تتعلق:
بكروية الأرض.. ثم الثور والحوت.. وجبل قاف.. وسد ذي القرنين.. واوتادية الجبال.. ووجود جهنم تحت الارض.. والآيات الكريمة:
(دحيها) و(سطحت) و(الشمس تجري لمستقر لها) و(ينزّل من السماء من جبال فيها من برد) (النور: 43) وامثالها من المسائل. سأبين لك حقيقتها كي تسد عيون الاعداء وتفتح ابصار الاصدقاء.
وها أنذا أستهل بـ :

عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:30 PM

رد: صقيل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 70
المسألة الاولى

من المعلوم لذهنكم المنصف:
ان علماء الاسلام متفقون على كروية الارض، ولو اتفاقاً سكوتياً. فان كان لديك ريب فاذهب الى "المقاصد" و"المواقف" تقف على المقصد وتطلع عليه، وترى ان"سعداً" 1 "وسيداً" 2 قد تناولا الكرة الارضية، تناول الكرة الاعتيادية، ينظرون بمتعة الى كل جانب منها. وان استعصى لك ذلك الباب على الفتح، فادخل التفسير الواسع للامام الرازي الموسوم بـ"مفاتيح الغيب" واجلس في حلقة تدريس ذلك الامام الداهية وانصت الى درسه، فان لم تطمئن بهذا ولم تتمكن من ان تستوعب كروية الارض فاتبع "ابراهيم حقي" 3 واذهب الى حجة الاسلام الامام الغزالي واستفته قائلاً: هل في كروية الارض مشاحة؟ فسيقول لك حتماً: "المشاحة ان لم تقبل بها" اذ قد بعث فتواه منذ عصره انه: من أنكر امراً ثابتاً بالبرهان القطعي ككروية الارض بحجة الحفاظ على الدين، فقد جنى على الدين جناية عظمى؛ اذ هذا ليس وفاءً للاسلام بل خيانة له.
_____________________
1 سعد التفتازاني: (712-793 هـ) (1312 -1390م) هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، من ائمة العربية والبيان والمنطق، ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) واقام بسرخس، وابعده تيمورلنك الى سمرقند، فتوفي فيها، ودفن في سرخس من كتبه (تهذيب المنطق) و(مقاصد الطالبين) في علم الكلام و(شرح الشمسية) في المنطق.(الاعلام7/219).
2 الشريف الجرجاني: (ت 838هـ/1434م) هو محمد بن علي بن محمد بن علي نورالدين ابن الشريف الجرجاني، فاضل من اهل شيراز. نقل الى العربية رسالة في (المنطق) كتبها ابوه بالفارسية، وله:(الرشاد في شرح الارشاد) شرح رسالة التفتازاني، (ارشاد الهادي) في النحو، وصنّف (الغرة) في المنطق. وله شرح للـ(المواقف) في علم الكلام للعلامة عضدالدين الأيجي المتوفي سنة 756هـ (الاعلام 6/288).
3 ابراهيم حقي: (1703 - 1780م) ولد في احدى قرى ارضروم شرقي الاناضول تلقى العلوم على علماء ارضروم حتى بلغ الى أن نظم الشعر في ثلاث لغات. انتسب الى الشيخ فقير الله في (تيللو) من اقضية (سعرد) سنة 1728 ثم تولى التدريس والوعظ والارشاد. ألف عدة كتب منها (لب الكتاب) في مشاهير الشعراء والمفكرين في سبع مجلدات واشهر كتابه (معرفتنامه)



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 71
وان كنت أمياً لا تجيد قراءة الفتوى، فاستمع الى معاصرنا وأخينا في الفكر، السيد حسين الجسر 1 انه يعنّف منكر الكروية ويقول بقوة الحق ودون تردد:
"من كان ينكر كروية الاوض مستنداً الى الدين في سبيل حمايته، فهو صديق احمق، أضرّ على الدين من العدو الألد".
فان لم يفق فكرك الباحث عن الحقيقة من رقدته، بهذا الصوت القوي ولم تستطيع عينك الانفتاح، فخذ بيد ابن همام 2 وفخر الاسلام 3 وامثالهم واذهب الى الامام الشافعي، واستفته في مسألة في الفقه: تؤدى الفرائض الخمس في وقت واحد وهناك قوم لا وقت عشاء لهم احياناً، كيف يصلون العشاء؟ وهناك قوم لا تغرب عليهم الشمس أياماً او لا تطلع لياليَ، كيف يصومون؟ واستفسره: كيف ينطبق تعريف الشرط الشرعي وهو: ما يقارن كل ما سواه من الاركان، على شرطية استقبال القبلة في الصلاة؟ علماً ان المقارنة هي في القيام وحده وفي نصف القعود؟ فاطمئن انه - أي الامام الشافعي - يجيبك عن المسألة الاولى بكروية الدائرة المارة من الشرق والغرب، وعن المسألة الثانية والثالثة بتقوس الدائرة الممتدة من الجنوب الى الشمال. أي يفتيك بما اعطاك البرهان العقلي.ويقول عن مسألة القبلة: "ما القبلة الاّ عمود نوراني قد نظم السماوات الى العرش وثقب طبقات كرة الارض الى الفرش".
فلوكشف الغطاء لصافح شعاعُ عينك القبلةَ نفسها في كل حركة من حركات صلواتك.
_____________________
1 حسين الجسر (1261 - 1327هـ) (1845 - 1909م) عالم بالفقه والادب، من بيت علم في طرابلس الشام. له نظم كثير. دخل الازهر سنة 1279 هـ واستمر الى سنة 1284هـ، وعاد الى طرابلس فكان رجلها في عصره، علماً ووجاهة، وتوفي فيها. من كتبه (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الاسلامية) و(الحصون الحميدية) في العقائد الاسلامية. (الاعلام 2/258).
2 ابن همام: (790ـ 861 هـ)(1388 ـ 1457م)
محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد ابن مسعود، امام من علماء الحنفية، عارف باصول الديانات والتفسير والفرائض والفقه والحساب. توفي في القاهرة. من كتبه (فتح القدير) في شرح الهداية في ثماني مجلدات في فقه الحنفية و(التحرير) في اصول الفقه.
3 فخر الاسلام البزدوي: (400 - 482هـ) (1010- 1089م)
هو على بن محمد بن الحسين فخر الاسلام البزدوي فقيه اصولى من اكابر الحنفية، من سكان سمرقند نسبته الى بزده قلعة بقرب (نسف). له تصانيف منها: (كنز الوصول) في اصول الفقه، يعرف باصول البزدوى، و(تفسير القرآن) كبير جداً، و(غذاء الفقهاء) في الفقه.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 72
أيها الاخ!
لا قيمة لأوهامك العجيبة كي تدخل في القلب، لانك لم تجد لها موضعاً سوى عالم الخيال، فضلاً عن انك لا تصدّقه، بل لا تتمكن حتى من اقناع نفسك بها.. بيد انك زغت.. فان كان قلبك المفتوح للخيالات والمقفل تجاه الحقيقة، لايسع الكرة الارضية التي هي اصغر بكثير مما تتخيلها، فوسّع أفق نظرك ليتوسع ذهنك، ثم شاهد سكان الارض كمجلس واحد واسألهم فان صاحب البيت ادرى بما فيه. فانهم يجيبونك بالمشاهدة والتواتر بلسان واحد:
"ياهذا ان كرتنا الارضية التي هي مهدنا، وقطارنا في فضاء العالم، ليست مجنونة فتشذ عن القاعدة الجارية والقانون الالهي في الاجرام العلوية." ويبرزون لك الخرائط دلائل مجسمة مفروشة أمامك.
ان شريعة الفطرة الالهية المسماة بنظام خلق العالم، فرضت على الارض التي تسير سير المريد المولوي العاشق 1 ان لاتشذ عن صف النجوم المقتدية بالشمس. اذ قالت الارض مع قرينتها السماء
(أتينا طائعين) (فصلت:11)، والطاعة في الجماعة أفضل وأحسن.
نحصل مما سبق:
ان الله سبحانه وتعالى خلق الارض كما يشاء واقتضتها حكمته، ولم يخلقها كما تشتهي خيالاتكم يا أهل الخيال، ولم يجعل عقولكم مهندسة الكائنات.
تنبيه:
من الامور المشيرة الى ضعف العقيدة أو الى الميل الى مذهب السوفسطائي او الى طلب الاسلام حديثاً ولماّ يتملكه.. هو الكلمة الحمقاء: "هذه الحقيقة منافية للدين"! لأن الذي يجد احتمالاً لمنافاة ما هو ثابت بالبرهان القاطع مع الدين الذي هو الحق والحقيقة، ويخاف من هذه المنافاة لايخلو من:
اما انه قد اختفى في دماغه سوفسطائي، يشوش له الامور. او استتر في قلبه موسوس يثير الشغب والفوضى. أو اصبح طالباً للدين مجدداً يريد ان يتملكه بالتنقيد.
_____________________
1 تشبيه لطيف بالمريد المنتسب الى المولوية، الطريقة الصوفية المعروفة في تركيا، الذي يدور حول نفسه وفي حلقة الذكر بنشوة الذكر وجذبة التفكر انسجاماً مع حركة الموجودات. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 73
المسألة الثانية

لا يخفى ان "مسألة الثور والحوت" المشهورة 1 دخيلة في الاسلام وطفيلية عليه، أسلمت مع راويها. فان شئت راجع "المقدمة الثالثة" لترى من أي باب دخلت.
أما نسبتها الى ابن عباس رضي الله عنهما، فانظر الى مرآة " المقدمة الرابعة" ترى سرّ الحاقها به. وبعد هذا فان كون "الارض على الثوروالحوت" يروى فيه حديث:
اولاً: لانسلّم انه حديث، لان عليه علامة الاسرائيليات.
ثانياً: ولو سلّمنا انه حديث، فانه آحادي، يفيد الظن لضعف الاتصال. فلا يدخل في العقيدة، اذ اليقين شرط فيها.
ثالثاً: حتى لو كان متواتراً وقطعي المتن، فليس بقطعي الدلالة. فراجع المقدمة الحادية عشرة، وتأمل في المقدمة الخامسة لترى كيف استهوت الظاهريين الخيالات حتى حرفوا هذا الحديث عن محامله الصحيحة ووجوهه الصائبة.
فالوجوه الصحيحة له ثلاث:
الوجه الاول:
فكما ان حَمَلة العرش المسماة بـ: الثور، النسر، الانسان، وغيرهم ملائكة،كذلك هذا الثور والحوت ملكان اثنان حاملان للارض. والاّ فان تحميل العرش العظيم على الملائكة، بينما الارض على ثور عاجز - كالارض - مناف لنظام العالم! ويرد في لسانالشريعة: ان لكل نوع ملكاً موكلاً خاصاً به يلائمه، وقد سمي ذلك الملك باسم ذلك النوع، بناءً على هذه العلاقة، وربما يتمثل بصورته في عالم الملائكة. وقد روي حديث بهذا المعنى: ان الشمس تغرب في كل مساء تحت العرش وتسجد عنده ثم تستأذن وتعود 2.
_____________________
1 فصلت «اللمعة الرابعة عشرة« هذه المسألة. المترجم.
2 عن ابي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس. فلما غابت الشمس قال: "يا ابا ذر! هل تدري اين تذهب هذه؟" قال: قلت: الله ورسوله اعلم. قال: فانها تذهب فتستأذن في السجود، فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئتِ فتطلع من مغربها.. اخرجه مسلم 1/139.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 74
نعم ان الملك الموكّل على الشمس اسمه الشمس ومثاله الشمس، وهو الذي يذهب ويؤوب.
ولدى الفلاسفة الالهيين: ان لكل نوع ماهية مجرّدة حية ناطقة تمد الافراد. ويعبّر عنهم الشرع: مَلَك الجبال ومَلَك البحار وملك الامطار، الاّ انه لا تأثير لهم تأثيراً حقيقياً اذ لا مؤثر في الكون الا الله. اما الحكمة في وضع الاسباب الظاهرية فهي في اظهار العزة والعظمة لكي لايرى النظر المتوجه الى دائرة الاسباب مباشرةَ يد القدرة لامور خسيسة ظاهرة من دون حجاب. أما في الملكوتية وفي حقيقة الامر وهي دائرة العقيدة، فان مباشرةَ يد القدرة بدون حجاب لكل شئ، يلائم العزة؛ اذ كل شئ في هذه الجهة سام وعال... ذلك تقدير العزيز العليم.
الوجه الثاني:
ان الثور هو المثير للحرث وأهم واسطة لزراعة الارض وعمارتها. أما الحوت (السمك) فهو مصدر عيش اهل السواحل، بل كثير من الناس.
فاذا سأل احد: ِبمَ تقوم الدولة؟ فالجواب: على السيف والقلم. او اذا سأل: ِبمَ تقوم المدنية؟ فالجواب: على المعرفة والصناعة والتجارة. او اذا سأل: بِمَ تدوم البشرية وتبقى؟ فالجواب: بالعلم والعمل.
كذلك اجاب سيد الكونين وفخر العالمين صلى الله عليه وسلم - والله اعلم - بناء على ماسبق ذلك السائل الذي لم يستعد ذهنه لدرك الحقائق - بدلالة المقدمة الثانية - وسأل عن شئ خارج نطاق وظيفته: الارض على أي شئ؟ فاجابه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بما يلزمه أصلاً: الارض على الثور. اي ان عمارة الارض لنوع البشر ومنبع الحياة لأهل القرى منهم، على الزراعة، والزراعة محمولة على كاهل الثور. وان معظم معيشة القسم الآخر من البشر، ومعظم مصادر تجارة اهل المدنية، في جوف السمك وعلى الحوت. حتى يصدق عليهم المثل السائر: كل الصيد في جوف الفرا! 1
_____________________
1 من أمثال العرب، ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لأبي سفيان حين قال له: أنت يا ابا سفيان! كما قيل: وكل الصيد في جوف الفرا.
والمثل يضرب في الواحد الذي يقوم مقام الكثير لعظمه (المستقصى من أمثال العرب للزمخشري 2/224).
وفي النهاية لإبن الاثير 3/422 الفرأ مهموز مقصور: حمار الوحش، وجمعه فراء. قال له ذلك بتأليفه على الاسلام، يعني : أنت في الصيد كحمار الوحش، كل الصيد دونه. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 75
فهذا جواب لطيف حقّ حتى لو كان مزاحاً فانه صلى الله عليه وسلم لا يقول الاّ حقاً. ولو سلّم ان السائل سأل عن كيفية الخلقة. فقد [تلّقى السامع بغير المترقب] 1 كما هو القاعدة في علم البيان، اذ تلقى الاجابة عن الضروري والمطلوب باسلوب حكيم. ولم يجاوبه على وفق شهية السائل المريض الكاذبة. والآية الكريمة: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) (البقرة: 189) براعة الاستهلال لهذه الحقيقة.
الوجه الثالث:
ان الثور والحوت برجان مقدّران في مدار الارض السنوي. فتلك البروج وان كانت افتراضية موهومة، الاّ ان السنن الالهية الجارية في العالم والتي تنظم وتربط الاجرام السماوية والمسماة لفظاً واصطلاحاً بالجاذبية العامة، قد تمركزت في تلك البروج، لذا فالتعبير الفلكي: "الارض على البروج" جائز.
هذا الوجه هو في نظر علم الفلك الحديث، لأن القديم قد افترض البروج في السماء، بينما الحديث افترضها في مدار الارض، لذا يحوز هذا التأويل أهمية في نظر الفلك الحديث.
ثم انه قد روي ان السؤال تعدد، فمرة أجاب: "على الحوت" واخرى - بعد شهر - أجاب: "على الثور". بمعنى ان خيوط القانون المذكور واشعتها المنتشرة في كل جهة من جهات الفضاء الواسع غير المحدود، قد تجمعت وتمركزت في برج الحوت، لذا انطلقت الكرة الارضية من برج الدلو ومسكت بالقانون المتدلي من برج الحوت، وتعلقت ثمرةً يانعة على غصن من شجرة الخلقة... أو انها - اي الارض - كالطير جثمت على برج الثور وبنت عشها فيه.
وبعد ما عرفت هذا دقق النظر منصفاً:
انه حسب مضمون "المقدمة الخامسة" ترى كيف تؤول تلك المسألة العجيبة المشهورة التي تدور بين أهل الخيال المولعين باختراع الغرائب بغير اسناد العبثية الى الحكمة الازلية، وبغير احالة الاسراف الى الصنعة الربانية، وبغير اخلال النظام البديع الذي هو برهان الصانع الجليل؟
ألا تباً وسحقاً وبُعداً للجهل!!
_____________________
1 هذه العبارة وامثالها من الجمل والفقرات المحصورة بين قوسين مركنين [...] جاءت في النص التركي باللغة العربية. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 76
المسألة الثالثة
جبل قاف
اعلم ان العلم بوجود شئ غير العلم بنوعيته وماهيته. فلا بد من التمييز بين هاتين النقطتين. فكم من يقين الاصل تصرّف فيه الوهم حتى أخرجه من الامكان الى الامتناع. فشاور فيه "المقدمة السابعة" تجبك بلسان فصيح: نعم. وكم من قطعي المتن تزاحمت الظنون في دلالته، بل تحيرت الافهام بالاجابة عن السؤال: ما المراد؟. فشقق صدف "المقدمة الحادية عشرة" تجد هذه الجوهرة.
تنبيه: ولما كان هذا الامر هكذا.. فلا يشير من قطعي المتن الى "قاف" الاّ
(ق والقرآن المجيد). بينما يجوز ان يكون (ق) كـ صلى الله عليه وسلم، فليس هو في شرق الدنيا بل في غرب الفم. فيسقط الدليل من اليقين بهذا الاحتمال.
ثم ان دليلاً اخر بعدم وجود قطعي الدلالة غير هذا، قول احد مجتهدي الشريعة وهو القرافي 1: لا أصل له.
اما نسبة كيفيته المشهورة الى ابن عباس رضي الله عنه، فانظر في مرآة "المقدمة الرابعة" ليتمثل لك وجه نسبتها. علماً ان كل ماقاله ابن عباس كما لا يلزم ان يكون حديثاً. كذلك لا يلزم قبولَه لكل ما نقله، لان ابن عباس قد التفت قليلاً ايام شبابه الى الاسرائيليات عن طريق الحكايات اظهاراً لبعض الحقائق.
واذا قلت: ان لعلماء الصوفية تصويرات كثيرة حول "قاف".
أقول جواباً: ان عالم المثال المشهور هو ميدان جولانهم، فكما نتجرد من ملابسنا، فهم يتجردون من اجسادهم ويشاهدون ذلك المعرض الحاوي للعجائب والغرائب بالسير الروحاني، فـ"قاف" متمثل في ذلك العالم كما يعرّفونه. اذ كما
_____________________
1 القرافي (ت 684هـ - 1285م) هو (شهاب الدين) احمد بن ادريس عبد الرحمن القرافي من علماء المالكية، وهو مصري المولد والمنشأ والوفاة له مصنفات جليلة في الفقه والاصول منها (انوار البروق في انواء الفروق) اربعة اجزاء، (الذخيرة) في فقه المالكية ستة مجلدات (الاعلام 1/94 - 95).



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 77
تتمثل السموات والنجوم في مرآة صغيرة، يتمثل اصغر الاشياء من عالم الشهادة كالبذرة، شجرةً ضخمة في عالم المثال بتأثير من تجسم المعاني. ولايخلط احكام هذين العالمين قط. والمطلع على لبّ كلام محي الدين بن عربي 1 يصدّق هذا.
اما ما اشتهر بين العوام ومَن هم مثلهم ان "قاف" جبل محيط بالارض، متعدد، مابين كل اثنين منه مسافة خمسمائة سنة، ذروته تمس السماء. الى آخر خيالاتهم، فاقتبس من "المقدمة الثالثة" لتقويم هذه الخيالات، ثم ادخل في هذه الظلمات لعلك تجد زلال بلاغتها.
وان أردت ان تعرف عقيدتي في هذه المسألة، فاعلم انني اجزم بوجود "قاف" ولكن احيل كيفيته الى ثبوت حديث صحيح متواتر. فان ثبت الحديث في بيان كيفيته اؤمن به على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو صدق وصحيح وحق، لا على ماتخيله الناس، لانه قد يكون المفهوم غيرالمراد. واما ما فهمناه من هذه المسألة فنعطيكه:
اولاً: ان جبل "قاف" هو سلسلة هيمالايا التي هي أم اعظم جبال "جامولار" التي هي سلسلة احاطت بمعظم الشرق، والتي كانت حاجزة بين البدويين والمدنيين سابقاً، ويقال: انه قد تشعب من عرق هذه السلسلة اكثر جبال الدنيا، ومن هذا الاصل نشأ الفكر المشهور باحاطة "قاف" للدنيا.
ثانياً: ان عالم المثال برزخ بين عالمي الشهادة وعالم الغيب فهو يشبه الاول صورة والاخر معنى، هذا المفهوم يحل ذلك المعمّى واللغز.
فمن شاء ان يطلع قليلاً على هذا العالم - عالم المثال - فله ان ينظر اليه بنافذة الكشف الصادق، او بمنفذ الرؤيا الصادقة، او بمنظار المواد الشفافة اوعلى الاقل بشاشة الخيال الخلفية. فهناك دلائل كثيرة جداً على وجود هذا العالم، عالم المثال، وتجسم المعاني فيه.
_____________________
1 محي الدين بن عربي: 560 - 638 هـ /1165 - 1240 م : هو محمد بن علي بن محمد ابن عربي، ابو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي، المعروف بمحي الدين بن عربي، الملقب بالشيخ الأكبر: فيلسوف، من أئمة المتكلمين في كل علم. ولد في مرسيه (بالاندلس) وانتقل الى اشبيلية. وقام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز. وانكر عليه اهل الديار المصرية »شطحات« صدرت عنه، فعمل بعضهم على إراقة دمه. وحبس، فسعى في خلاصه علي بن فتح البجائي فنجا. واستقر في دمشق، فتوفي فيها له نحو اربعمائة كتاب ورسالة، منها (الفتوحات المكية) في التصوف وعلم النفس و(فصوص الحكم). الاعلام 6/281 فوات الوفيات 2/241 ميزان الاعتدال 3/108 جامع كرامات الاولياء 1/118 شذرات الذهب 5/190.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 78
وبناء على هذا يمكن ان يكون "قاف" الموجود في هذه الكرة الارضية بذرة "قاف" ذي عجائب موجود في عالم المثال.
ثالثاً: ان مُلك الله واسع لا ينحصر في هذه الكرة الفقيرة.وفضاء الله اوسع ودنيا الله اعظم من ان يضيق بـ"قاف" ذي عجائب. وليس خارجاً من الامكان العقلي. انه يناطح براسه كتف السماء - التي هي موج مكفوف 1 - رغم بعده خمسمائة سنة من ايام الله عن كرتنا الارضية، اذ يجوز ان يكون "قاف" شفافاً وغير مرئي كالسماء.
رابعاً: لِمَ لا يجوز ان يكون "قاف" سلسلة عظيمة تجلت في دائرة الافق، مثلما ان اسم الافق يكون مصدراً لـ"قاف" لانه اينما نظر المرء تتراءى له دائرة من سلاسل جبلية كالدوائر المتداخلة، وهكذا بالتدريج والتعاقب يَثْبت النظرُ ويبقى، مسلّماً أمره الى الخيال، حتى يتخيل الخيال دائرة من سلاسل جبلية محيطة بالارض تمس اطراف السماء. فتشاهد متصلة بها بدلالة الكروية حتى لو كان البعد خمسمائة سنة.
_____________________
1 جزء من حديث اخرجه الامام احمد في مسنده 2/370 والترمذي برقم 3298 وفي تحفة الاحوذي برقم 3352 وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وعزاه صاحب التحفة لاحمد وابن حاتم والبزار. وفي مجمع الزوائد 132/8 : جزء من حديث رواه الطبراني في الاوسط، وفيه ابو جعفر الرازي، وثّقه ابو حاتم وغيره وضعّفه النسائي وغيره ، وبقية رجاله ثقات. وانظر فيه كذلك 7/121 وتفسير ابن كثير سورة الحديد.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 79
المسألة الرابعة
سد ذى القرنين

كما علمت ان العلم بوجود شئ غير العلم بماهيته وكيفيته.
وان القضية الواحدة تتضمن احكاماً كثيرة، منها ضرورية، ومنها نظرية مختلف فيها.
وان المقلد المعاند اذا سأل احداً عما رآه في كتاب، وان كان محرفاً على وجه الامتحان والتجربة واجابه حتى عن معلومه الغائب عنه. فالجواب صحيح من جهتين:
اما انه صحيح مباشرة، يطابق الواقع. او بمايطابق معلوم السائل المعاند بالذات، او بالتأويل. فكلا الوجهين صحيح.
فالجواب الواحد اذاً يرضي الواقع، لانه حق، ويقنع السائل لانه يقدر على تطبيقه على معلومه، وان لم يكن مراداً. وفي الوقت نفسه لايجرح شأن المقام، لأن فيه - اي في الجواب - عقدة الحياة التي تستمد منها مقاصد الكلام بواعث حياتها.
وهكذا جواب القرآن.
سنميز بعد الآن الضروري من غير الضروري؛ ومن الاحكام الضرورية المفهومة في الجواب القرآني والتي لاتقبل الانكار: "ذو القرنين" 1 وهو شخص مؤيد من عند الله، بنى سداً بين جبلين بارشاده وتدبيره، دفعاً لفساد الظالمين والبدويين.. ويأجوج ومأجوج قبيلتان مفسدتان وان السد سيدمّر حالما يأتي امر الله.. الخ.
وعلى هذا القياس؛ فما دلّ عليه القرآن من احكام، هو من ضروريات القرآن، أي انها قطعي الدلالة، ولا يمكن انكار حرف منها، ولكن تفصيلات تلك المواضيع وكيفياتها ووجوهها وحدود ماهياتها ليست قطعية الدلالة في القرآن بل ثبت انه لايدل عليها حسب قاعدة: "لايدل العام على الخاص بأيٍ من الدلالات الثلاث"
_____________________
1 فصلت اللمعة السادسة عشرة ص164 - 166 من اللمعات هذه المسألة. المترجم.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:34 PM

رد: صقيل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 80
وحسب دستور علم المنطق: "يكفي للحكم تصور وجهٍ ما بين الموضوع والمحمول" ولكن يمكن ان يقبلها القرآن. اي ان تلك التفصيلات هي من الاحكام النظرية محوّلة الى دلائل اخرى، فهي مظنة الاجتهاد، وفيها مجال للتأويل. والدليل على نظريتها (ظنيتها): اختلاف العلماء.
ولكن ياللأسف، فانه بتخيل لزوم مطابقة الجواب لتمام السؤال، ومن دون اهتمام بخلل السؤال، أخذوا الاحكام الضرورية والنظرية للجواب باجمعها من مصدر السائل ومنبت السؤال واصبحوا مفسرين له، لابل مؤّولين لما يجوز ان يدل عليه الجواب، لا بل اظهروا افراد المعنى معنىً له، لا بل أوّلوا مايجوز ان يصدُق عليه مع شئ من الامكان مدلولاً مفهوماً له. فتلقاه الظاهريون بالقبول، والعلماء بالاصغاء دون تنقيد لعدم اهميته كالحكايات كما وضح في "المقدمة الثالثة" ولكن لو قبل بتلك التفصيلات كما ورد في التوراة والانجيل المحرّفين فانها تخالف عصمة الانبياء التي يعتقد بها أهل السنة والجماعة، الشاهد على هذا قصة لوط وداود عليهما السلام.
ولكن لما كان في الكيفية مجال للاجتهاد والتأويل، فأنا اقول وبالله التوفيق:
الاعتقاد الجازم بما اراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واجب مطلقاً. لانه من ضروريات الدين. اما المراد ما هو؟ فاختلف في تعيينه.
فذو القرنين - لا أقول اسكندر لأن الاسم لايسمح بذلك - قال بعض المفسرين في حقه انه: مَلَك، وقيل ملِك، وقيل: نبي، وقيل: ولي.. الى آخر ماقيل. 1
وعلى كل فهو مؤيد من عند الله ومرشد لبناء سد الصين.
اما السد فقال بعضهم انه: سد الصين، وقيل: غيره تحول جبلاً، وقيل: سد مخفي لا يطلع عليه، سترته انقلابات احوال العالم.. وقيل.. وقيل..
وعلى كل فهو ردم عظيم وجدار جسيم بني لدفع شر المفسدين.
أما يأجوج ومأجوج، فقيل: قبيلتان من ولد "يافث" وقيل: "المغول والمانجور" وقيل: اقوام شرقية شمالية، وقيل: طائفة من جماعة عظيمة من بني آدم يشيعون الفتنة والفوضى في الدنيا والمدنية.وقيل: مخلوقات لله تعالى آدميون او غيرهم
_____________________
1 فصلت »اللمعة السادسة عشرة« هذه المسألة. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 81
في ظهر الأرض او في بطنها، يسببون فساد العالم عند قيام الساعة. اما جهة الاتفاق والامر القاطع: فهما طائفتان من مخلوقات الله كانتا اهل غارة وفساد على الحضارة والمدنية كأجل القضاء عليها.
اما خراب السد؛ فقيل: عند القيامة، وقيل: قريب منها، وقيل: يخرب بحيث يعدّ أمارتها وان كان بعيداً، وقيل: وقع الخراب ولكن لم يدكّ. وقيل وقيل...
وعلى كلٍ؛ فانهدامه علامة على كهولة الارض وشيب البشر.
فان وازنت بين ما ذكر آنفاً وقارنته يمكنك ان تجوّز ان السدّ المذكور في القرآن هو سدّ الصين، الطويل بفراسخ، ومن عجائب الدنيا السبعة المشهورة قد بني بارشاد مؤيدٍ من عند الله لصدّ شرور اهل البداوة عن اهل المدنية في ذلك الزمان.
نعم! فمن اولئك الهمج قبيلة "الهون" الذين دمّروا اوروبا. و"المغول" الذين خربوا آسيا.
ثم ان خراب السد من علامات الساعة، ولاسيما دكه غير خرابه. واذا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم انه من اشراط الساعة: "انا والساعة كهاتين"كيف يستغرب كون خراب السد من علامات القيامة بعد خير القرون؟ ثم ان انهدام السد بالنسبة لعمر الارض هو انقباض وجه الارض لشيبها، بل كنسبة وقت الاصفرار الى تمام النهار، حتى لو كانت القيامة بعيدة بألوف من السنين.
كذلك فان الفوضى والاضطراب الذي يولّده يأجوج وماجوج هو في حكم حمىً تصيب البشرية لهرمها.
وبعد هذا ينفتح لك باب لتأويل آخر من فاتحة "المقدمة الثانية عشرة" وهو: ان القرآن يقص القصص لأخذ العبر منها، وينتقي منها النقاط التي هي كالعقد الحياتية التي تناسب مقصداً من مقاصد القرآن ويربطها به.. فهما - أي القصة والعبرة - تتعانقان في الذهن والاسلوب وان لم تتراء ناراهما او نوراهما معاً ولم يحصلا في الخارج سوية. ولما كانت القصة للعبرة فلا يلزمك تفصيلاتها ولا عليك كيف كانت. خذ حظك منها وامض الى شأنك.. واستظهر من "المقدمة العاشرة" ترى ان المجاز يفتح باباً للمجاز فـ
(تغرب في عين حمئة) (الكهف: 86) تنعي على الظاهريين وتطردهم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 82
واعلم! ان مفتاح حجة الله المتجلية في اساليب العرب هو؛ البلاغة التي هي أصل الاعجاز والمؤسسة على الاستعارة والمجاز، لا ما يلتقط من خرزٍ - بالحدس الكاذب - من المشهورات وتختبئ في أصداف الآيات دون رضاها. فاستنشق خاتمة "المقدمة العاشرة" فانها مسك وذقها ففيها عسل.
ويجوز ان يكون السد وهو مجهول الكيفية في موضع آخر مجهول مستور عنا كسائر علامات الساعة. ويبقى الى القيامة، مجهولاً ببعض انقلاباته، وسينهدم في القيامة.
اشارة: معلوم ان المسكن يدوم أزيد من ساكنيه، وعمر القلعة اطول من عمرالمتحصنين بها. فالسكنى والتحصن علّة وجودها لا علة بقائها ودوامها. وحتى ان كانا كذلك فلا يقتضيان استمرارها ولاعدم خلوها. فليس من ضروريات دوام الشئ دوام الغرض المترتب عليه.. فكم من بناء يبنى للسكنى او للتحصن وهو خاوٍ وخالٍ.
ومن عدم فهم هذا السر فتح الطريق للأوهام.
تنبيه:
ان القصد من هذا التفصيل : فتح طريقٍ لتمييز وفرز: التفسير عن التأويل.. والقطعي عن الظني.. والوجود عن الكيفية.. والحكم عن التفصيلات الجانبية.. والمعنى عن افراد المعنى.. والوقوع عن الامكان.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 83
المسألة الخامسة

ان ما اشتهر من "ان جهنم تحت الارض"، فنحن معاشر اهل السنة والجماعة لا نعين موضعها على القطع واليقين، ولكن "التحتية" هي الظاهرة. 1
وبناءً على هذا اقول وبالله التوفيق:
اولاً: ان كرتنا الارضية ثمرة من ثمرات شجرة العالم العظيمة، عظمة شجرة طوبى، كما اثمرت سائر نجومها. فما تحت الثمرة يشمل تحت جميع اغصان تلك الشجرة. وبناء على هذا فـ "جهنم" تحت الارض بين تلك الاغصان، فمُلك الله تعالى واسع، وشجرة الخليقة منتشرة، اينما كانت جهنم فلها موضع بينها ولا تقتضي مسافة التحتية طولاً ولا اتصالاً بالارض.
وفي نظر الحكمة الجديدة: ان النار مستولية على اكثر ما في الكون، وهذا يشفّ عن: ان اصل هذه النار واساسها جهنم، ترافق الانسان الى الخلود وفي طريقه الى الابد، وستمزق يوماً ما الستار، وتبرز الى الميدان قائلة: تهيأوا!
وأود ان الفت نظركم الى هذه النقطة:
ثانياً: ان تحت الكرة واسفلها هو مركزها وجوفها، فعلى هذا فان الارض حبلى ببذرة شجرة زقوم جهنم، ستلدها يوماً ما. بل الارض الطائرة في الفضاء ستبيض شيئاً كهذا،حتى ان لم تكن جهنم بتمامها في تلك البيضة فان رأسها او اي عضو منها مطوية فيها بحيث تتحد مع الدركات وسائر الاعضاء منها يوم القيامة وتبرز على اهل العصيان جهنم مهولاً عجيباً.
فيا هذا! الحساب والهندسة يمكنهما ان يأخذاك الى موضع جهنم وان لم تذهب أنت اليها. وذلك:
ان درجة الحرارة تتزايد درجة واحدة تقريباً في الارض بكل ثلاثة وثلاثين متراً في باطن الارض، بمعنى ان درجة الحرارة تكون في المركز ما يقرب من مئتي الف درجة
_____________________
1 هذه المسألة فصّلها السؤال الثالث من المكتوب الاول ص9 - 12 . المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 84
- في الاغلب - فنسبة هذه النار المركزية الى درجة حرارتنا البالغة الف درجة هي مئتا مرة. وهذه تثبت نفس ماورد في الحديث المشهور 1 - ما معناه - من ان نار جهنم أشد من نارنا بمئتي مرة.
ثم ان قسماً من جهنم "زمهرير"، والزمهرير يحرق ببرودته. اذ قد ثبت في العلم الطبيعي؛ ان الحرارة تصل الى درجة تجعل الماء ثلجاً، وتحرق بالبرودة، حيث تمص الحرارة مصاً. اي ان النار التي تشمل جميع المراتب، قسم منها "زمهرير".
تنبيه:
ان العالم الاخروي الابدي لايقاس بمقياس هذه الدنيا الفانية، ولا بسعتها، فاستعد سيتجلى لك شئٌ من الاخرة في ختام "المقالة الثالثة".
اشارة: من السعادة الاخروية، من تلك الجنة الوارفة الظلال، تنفتح امام نظر العقل ثمانية ابواب ونافذتان وذلك:
بشهادة الانتظام في جميع العلوم.. وبارشاد الاستقراء التام للحكمة.. وبرمز جوهر الانسانية.. وبايماء عدم تناهي ميول البشر.. وبتلميح القيامة النوعية المكررة في كثير من الانواع، كالليل والنهار.. وبدلالة عدم العبثية.. وبتلويح الحكمة الازلية.. وبارشاد الرحمة الالهية المطلقة.. وبلسان النبي الصادق الفصيح.. وبهداية القرآن المعجز البيان.
_____________________
1 عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتكت النار الى ربها، فقالت: "يارب! أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين. نفسٌ في الشتاء ونفس في الصيف. فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها" رواه البخاري - كتاب الايمان، ابن ماجه 4319 والترمذي 2592 .
وعن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم". رواه احمد 24 / 164 (الفتح الرباني) واورده الهيثمي في المجمع 1 / 387 وقال: رواه احمد ورجاله رجال الصحيح.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 85
المسألة السادسة

ان الخاصية المميزة للتنزيل، الاعجاز، والاعجاز يتولد من ذروة البلاغة، والبلاغة مؤسسة على مزايا وخصائص، لاسيما الاستعارة والمجاز. فمن لم ينظر بمنظارهما لا يفوز بمزاياها.. فكم في التنزيل من "تنزلات الهية الى عقول البشر" تسيّل ينابيع العلوم في اساليب العرب تأنيساً للأذهان. والتي تعبّر عن مراعاة الافهام واحترام الحسيات ومماشاة الاذهان.
ولما كان الامر هكذا.. فلا بد لاهل التفسير الاّ يبخسوا حق القرآن بتأويله بما لم تشهد به البلاغة.
ولقد تحقق اجلى من أية حقيقة كانت، ان معاني القرآن الكريم حق، كما ان صور افادته للمعاني، بليغة ورفيعة. فمن لا يُرجع الجزئيات الى ذلك المعدن ولا يلحقها بذلك النبع يكن من المبخسين حقه. وسنبين مثالاً يلفت النظر.
(والجبال أوتاداً) (النبأ: 7) يلوّح بمجاز بديع - الله أعلم بمراده - اذ يجوز ان يكون المجاز المشار اليه يومئ الى تصوّر كهذا:
اولاً: ان الكرة الارضية الشبيهة بالسفينة والغواصة العائمة في بحر الفضاء الواسع قد حافظت على توازنها، وارسيت اثناء اشتباكها بالهواء في جوف المحيط الهوائي، بجبالها الشبيهة بالاعمدة والاوتاد بمعنى ان الجبال في حكم الاعمدة والسارية لتلك السفينة.
ثانياً: ان الاهتزازات الناجمة من انقلابات الارض الداخلية تهدأ وتسكن بالجبال؛ اذ هي كالمسامات للارض، فمتى ماحصل فوران وغضب في الجوف تتنفس الارض بمنافذ جبالها. فتسكن غضبها وتهدأ حدّتها. اي ان استقرار الارض وهدوءها بجبالها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 86
ثالثاً: ان عمود عمارة الارض، الانسان وحياة الانسان متوقفة على محافظة منابعها من ماء وتراب وهواء، مع ضمان الاستفادة منها. والجبال هي التي تحقق ذلك. بتضمنها لمخازن الماء وتصفيتها الهواء وتلطيفها الحرارة والبرودة وهي سبب في تنقية الهواء ومنبع تراكم الغازات المضرة الداخلة فيه. وفي الوقت نفسه تترحم على التراب فتحفظه من التوحل والتعفن وتقيه من استيلاء البحر.
رابعاً: ان وجه المشابهة والمناسبة من حيث البلاغة هو:
لو فرضنا شخصاً ركب منطاد الخيال، فصعد الى السماء بعيداً عن الارض. فاذا نظر الى سلسلة الجبال من هناك وتخيل الطبقة الترابية خيام البدو المفروشة على الاوتاد، والجبال المنفردة خيمة منصوبة على عماد.. أتراه قد خالف طبيعة الخيال؟ ولو تصورت وصوّرت لبدويّ تلك السلاسل الجبلية - مع المستقلة بذاتها - يام قبائل الاعراب ضربت في صحراء الارض مع تخللها خياماً مفردة، لم تبعد عن اساليب العرب الخيالية.. او لو تصورت انك قد تجردت من هذا العالم المشيد، وبدأت تتامل في الارض التي هي مهد البشرية بمنظارالحكمة وفي السماء التي هي السقف المرفوع وتخيلت بعد ذلك ان السماء المحددة بدائرة الافق المماسة معها، كالفسطاط المضروب على الارض، المرتبط باوتاد الجبال. فانك لا تتهم في خيالك هذا .
سيرد مثال اومثالان لهذا الامر في ختام المسألة الثامنة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 87
المسألة السابعة

ان (دحيها) و(سطحت) و(فرشناها) و(تغرب في عين حمئة) وما شابهها من الآيات المذكورة في القرآن الكريم، يتشبث بها اهل الظاهر ارباكاً للاذهان، ونحن لسنا بحاجة الى الدفاع، لان المفسرين العظام قد كشفوا سرائر ما في ضمائر هذه الآيات، ما فيه الكفاية، فلم تبق لنا حاجة. وقد اعطوا درساً للعبرة، وسطروا السطر الاساس لنحذو حذوهم.
ولكن بكوا قبلي فهيّجوا لي البكاء وهيهات ذو رحم يرق لبكائي
ان اعلام المعلوم، لاسيما ان كان مشاهداً عبث، كما هو معلوم. اي لابد من وجود نقطة غرابة تخرجه من العبثية.
فلو قيل: انظروا الى الارض كيف جعلناها مسطحة ومهداً مع كرويتها، وقد نجت من تسلط البحار..
او اذا قيل: انظروا كيف تجري الشمس لتنظيم معيشتكم مع استقرارها.
أو مثل: انظروا كيف تغرب الشمس في عين حمئة وهي بعيدة عنا الوف السنين..
عند ذلك تخرج معاني الآيات من الكناية الى الصراحة.
نعم! ان نقاط الغرابة هذه هي نكات بلاغية.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 88
المسألة الثامنة

ان مما ورط الظاهربين، بل السبب الاول الذي دفعهم الى القلق والتردد، هو:
التباس الامكانات بالوقوعات 1، والخلط بينهما. فيقولون مثلاً: اذا كان الشئ هكذا، فهو ممكن في القدرة الالهية، وهو ادلّ على عظمته تعالى في عقولنا، فهو اذاً واقع!... هيهات! ايها المسكين! اين عقولكم من ان تكون مهندسة الكون؟ فانتم عاجزون عن ان تحيطوا بالحسن الكلي بعقلكم الجزئي هذا! لوكان انف بطول ذراع من ذهب ربما يستحسنه من حصر فيه النظر!!
ثم ان الذي حيّرهم، هو توهمهم منافاة الامكان الذاتي لليقين العلمي، فيتقربون الى مذهب "اللاأدرية" 2 بترددهم وتشككهم في العلوم العادية اليقينية. بل لايخجلون، اذ يلزم مسلكهم هذا ان يتشكك الانسان في امور بديهية كوجود بحيرة "وان" وجبل "سبحان" لان هذا ممكن في مسلكهم، اي ان تنقلب بحيرة "وان" الى دبس، وينقلب جبل "سبحان" الى عسل مغطى بالسكر!! او انهما يذهبان الى بحرالعدم - كقسم من اصدقائنا الذين لم يرضوا بكروية الارض فسافروا فزلت اقدامهم - بمعنى: يلزم عدم التصديق بالحال السابقة للبحيرة والجبل!!
ايها المحرومون من المنطق! اين انتم؟ تأملوا! فقد تقرر في علم المنطق: ان الوهميات التي في المحسوسات، من البديهيات 3 فان انكرتم هذه البداهة، فليس لي
_____________________
1 الوقوعات: حصول الشئ ووجوده بعد ان كان معدوماً ، ولا يلزم من امكان وجود الشئ وجوده فعلاً، فشمس ثانية يمكن وجودها ولكنها غيرموجودة.
2 هو فرقة من السوفسطائيين يقولون: ان حقائق الاشياء لا تدري هل انها موجودة او معدومة، ونحن لا ندري هل ندري او لا ندري.
3 يعني بهذا ان من البديهي ان لا يحصل الوهم في المحسوسات لان ما يُدرك بها يسمى علماً لا وهماً، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة أما السوفسطائيون فانهم يجوّزون الوهم في المحسوسات ويقولون: إن حبة العنب اذا وضعت في ماءٍ داخل قارورة زجاجية فانها تُرى كبيرة اكبر منها اذا كانت خارجها، فهذا وهمٌ حصل بالمبصرات. فيجابون بان الحبة لم تتغير انما عرض عليها الماء داخل القارورة فاصبحت تُرى هكذا، وإلاّ فهي لم تتغير. د. عبدالملك



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 89
الاّ ان اقدم لكم التعازي بدل النصائح ، بموت العلوم العادية بينما السفسطة قد بعثت لديكم.
البلاء الرابع: الذي شوّش اهل الظاهر هو: التباس الامكان الوهمي بالامكان العقلي 1. علماً ان الامكان الوهمي متولد من عرق التقليد، لا من اساس. وهو الذي يولد السفسطة، وحيث لادليل له، يفتح في البديهيات طريقاً الى الشك والاحتمال والظن، هذا الامكان الوهمي غالباً ما ينتج من عدم المحاكمة العقلية، ومن ضعف عصبى قلبي، ومن مرض عصبي عقلي، ومن عدم تصور الموضوع والمحمول. بينما الامكان العقلي هو تردد في امر لا يظفر بدليل قطعي على وجوده وعدمه ما لم يكن واجباً ولا ممتنعاً. فان كان الامكان ناشئاً عن دليل فهو مقبول والاّ فلا اعتبار له.
ومن احكام الامكان الوهمي هذا: ان قسماً من المتشككين يقولون ربما لا يكون الامر على ما اظهره البرهان، لان العقل لايستطيع ان يدرك كل شئ. وعقلنا يعطي لنا هذا الاحتمال. نعم... لا.. بل الذي يعطيكم هذا الاحتمال هو شككم ووهمكم. لان العقل من شأنه المضي على برهان.
صحيح ان العقل لا يتمكن ان يدرك ويوازن كل شئ ، ولكن مثل هذه الماديات ولاسيما ما لا يفلت من البصر مهما كان صغيراً فانه يزنه ويدركه. ولو لم نتمكن من دركه نكون في تلك المسألة غير مكلفين، كالاطفال..
تنبيه: ان مخاطبي الفكري الذي اخاطبه بالظاهري وذي النظر السطحي والذي افضحه واعنفه واوبّخه هو في غالب الاحوال عدو الدين ممن يبخس حقه ولا يرى جمال الاسلام وينظر اليه من بعيد بنظر سطحي عابر.. ولكن احياناً هو من اهل الافراط والغلو ممن يفسد الدين من حيث يريد الاصلاح، وهم اصدقاء الدين الجاهلون.
البلاء الخامس: هو تحري الحقيقة في كل موضع من كل مجاز مما اخذ بيد اهل التفريط والافراط الى الظلمات.. نعم لابد من وجود حبة من حقيقة لينمو وينشأ منها المجاز ويتسنبل. أو ان الحقيقة هي الفتيلة التي تعطي الضوء. أما المجاز فهو

_____________________
1 الفرق بينهما هو ان الإمكان الوهمي قد يوجد وقد لا يوجد، بينما الإمكان العقلي لا يتخلف. د.عبدالملك.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 90
زجاجها الذي يزيد ضياءه. نعم، المحبة في القلب... والعقل في الدماغ وطلبهما في اليد والرجل عبث.
البلاء السادس: هو قصر النظر على الظاهر، مما طمس على النظر، وستر البلاغة فلا يتجاوزون الى المجاز، مادامت الحقيقة ممكنة في العقل. وحتى لو صاروا الى المجاز يمسكون عن معناه. وبناء على هذا فان تفسير او ترجمة الايات والاحاديث لايبينان حسن بلاغتهما. وكأن لديهم ان قرينة المجاز امتناع الحقيقة عقلاً.. بينما القرينة المانعة كما يمكن ان تكون عقلاً يمكن ان تكون حساً وعادةً ومقاماً وباشياء اخرى.
فان شئت فادخل من الباب الواحد والعشرين بعد المئتين من "دلائل الاعجاز" تلك الجنة الفردوس، تر ان ذلك الداهية عبدالقاهر الجرجاني قد اخذ الى جانبه امثال هؤلا المتعسفين يوبخهم ويعنفهم.
البلاء السابع: هو حصرهم العَرَضَ 1 كالحركة على الذاتي 2، والأينية 3 مما نكر المعرّف ولزم انكار الوصف الجاري على غير مَن هو له. وبهذا حادت شمس الحقيقة عن جريانها. اما نظر هؤلاء الى اساليب العرب، كيف يقولون: صادفتنا الجبال، ثم فارقتنا.. تراءت لنا وبعُدَت عنا.. والبحر ايضاً ابتلع الشمس ... الخ. وكم يقلبون الخيال لاسرار بيانية كما في المفتاح للسكاكي، وهذا لطافة بيانية مؤسسة على مغالطة وهمية، بسرّ الدوران 4.
وسأبين هنا مثالين مهمين لينسج على منوالهما:
(وينزل من السماء من جبال فيها من بََرَد) (النور: 43) (والشمس تجري لمستقر لها) (يس: 38).
هاتان الآيتان الكريمتان جديرتان بالملاحظة والتدبر. لان الجمود على الظاهر جحود بحق البلاغة، اذ الاستعارة البديعة في الآية الاولى تتوقد بحيث تذيب الجمود المتجمد، وتشق كالبرق ستار سحب الظاهر. اما البلاغة في الآية الثانية فهي مستقرة وقوية ولامعة بحيث تقف الشمس لمشاهدتها.
_____________________
1 العرض: هو الذي لا يبقى زمانين او ما له تحيّز تابع لمحل، كالحركة والسكون والحمرة والصفرة في وجه الانسان مثلاً.
2 الذاتي: يراد به هنا ما له تحيّز مستقل بنفسه، أي يأخذ قدراً من الفراغ بنفسه.
3 الاينية: يراد بها المكان والمحل، لانه يسأل عنه بـ "أين".
4 لعله الدوران عند علماء الاصول، وهو : يوقف المعلول على علته وجوداً وعدماً، أي كلما وجدت العلة وجد المعلول وكلما انعدمت انعدم والله اعلم. د. عبد الملك.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 91
فالآية الاولى نظيرتها: (قوارير من فضة) (الانسان: 16) التي تضمنت استعارة بديعة مثلها، وذلك: كما ان اواني الجنة ليست زجاجاً فهي ليست فضة كذلك، بل مباينة الزجاج للفضة قرينة الاستعارة البديعة. اي ان الزجاج بشفافيته والفضة ببياضها ولمعانها كأنهما نموذجان لتصوير اقداح الجنة، ارسلهما الرحمن الى هذا العالم ليهيجا الرغبة لدى المشتاقين الى الجنة ممن يبذلون انفسهم واموالهم في طلبها. ومثل هذا تماماً، تتقطر استعارة بديعة من الآية الكريمة: (من جبال فيها من برد)
ان موضع هذه الاستعارة مبني على تصور التسابق والمحاكاة بين الارض والسماء بحكم الخيال وهي كالاتي:
كما ان الارض تتزين بجبالها المتزملة بحلل الثلج والبرد او تتعمم بها، وتتبرج ببساتينها، فالسماء كذلك تقابلها وتحاكيها فتتجمل متبرقعةً بالسحاب المتقطع جبالاً واطواداً واودية وتتلون بالوان مختلفة مصورة لبساتين الارض.
فلا خطأ اذاً في التشبيه إن قيل ان تلك السحب المتقطعة شبيهة بالجبال او بالسفن او بقافلة الابل او بالبساتين والوديان، اذ يخيل - في نظر البلاغة - ان قطعات السحاب سيارة وسبّاحة في الجو كأن الرعد راعيها وحاديها، كلما هزّ عصا برقه على رؤوسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت وتراءت جبالاً كالعهن المنفوش. وكأن السماء تدعو ذرات بخار الماء بالرعد لتسلم السلاح والجندية ثم بأمر الاستراحة يذهب كلٌ الى مكانه ويختفي.
وكثيراً ما لبس السحاب زي الجبال ويتشكل بهيكله ويتلون ببياض البرد والثلج ويتكيف بالرطوبة والبرودة. ولهذا فبين الجبال والسحب مجاورة وصداقة، فاستحق - في نظر البلاغة - ان يتبادلا ويستعيرا لوازمهما، فيعبّر عن السحاب بالجبل مع تناسي التشبيه.
وفي مواضع من القران تظهر هذه الاخوة والتبادل اذ قد يظهر هذا في زي ذاك وذاك في زي ذلك وفي بريقه.. ومن منازل التنزيل مصافحة الجبال والسحب مثلما هناك معانقة ومصافحة مشهودة على صحيفة كتاب العالم. اذ نرى السحاب موضوعاً على جبل وكأن الجبل مرسى لسفن السحاب.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:35 PM

رد: صقيل الإسلام
 
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 92
الآية الثانية: (والشمس تجرى لمستقر لها)
نعم! ان كلمة تجري تشير الى اسلوب بياني كما ان كلمة (لمستقر) تلوح الى حقيقة. بمعنى انه يجوز ان يكون الاسلوب البياني المشار اليه بـ (تجري) هو الاتي:
ان الشمس كسفينة مدرعة مصنوعة من ذوب الذهب تجري وتسبح في بحر السماء الاثيري - المعبّر عنه بموج مكفوف - وهي وان ارسيت في مستقرها الاّ ان ذلك الذهب الذائب يجري في ذلك البحر العظيم، بحر السماء. ولكن ذلك الجريان انما هو بالنظر الحسي الذي يراعى لاجل التفهيم، فهو جريان تبعي وعرضي. الاّ ان للشمس جريانين حقيقيين؛ ولابد ان يكون لها جريان، لان المقصد - من الآية - بيان الانتظام، وحسب اساليب العرب وفي نظر النظام ان كان الجريان ذاتياً او تبعياً فالامر سواء.
ثانياً: ان الشمس في مستقرها وعلى محورها متحركة، لذا فان اجزاءها التي هي من ذوب الذهب تجري ايضاً، هذه الحركة الحقيقية هي حبة من تلك الحركة المجازية المذكورة بل هي محركها.
ثالثاً: انه من مقتضى الحكمة ان جريان الشمس وجنودها التي هي سياراتها في فضاء العالم في جريان مشاهد، لان القدرة الالهية قد جعلت كل شئ حياً ومتحركاً ولم تجعل شيئاً محكوماً عليه بالسكون المطلق، ولم تسمح الرحمة الالهية ان يتقيد اي شئ كان بالعطالة المطلقة التي هي اخت الموت وابنة عم العدم. لذا فالشمس ايضاً طليقة بشرط اطاعتها للقانون الالهي، فلها الحرية في الجريان، ولكن بشرط الاّ تتدخل في حرية غيرها. ان الشمس سلطان الفضاء وهي المتمثلة للأمر الالهي، والمنفذة للمشيئة الالهية في كل حركاتها.
نعم ان جريان الشمس كما يكون على سبيل الحقيقة يمكن ان يكون على سبيل المجاز ايضاً، وكما ان جريان الشمس حقيقي وذاتي يمكن ان يكون عرضياً وحسياً ايضاً. والمنار على المجاز كلمة (تجري) والملوح للعقدة الحياتية لفظ (لمستقر لها).


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 93
نحصل مما سبق: ان المقصد الالهي في هذه الاية الكريمة: ابراز النظام والانتظام فالنظام ساطع كالشمس، وبناء على قاعدة: "كُلِ العسل ولاتسل" فان الحركة المنتجة للنظام سواء كانت من الشمس او من دوران الارض، ايما كانت، فلسنا مضطرين الى تحرّي السبب الاصلي لانه لا يخلّ بالقصد الاساس في ذكر الآية. شبيه ذلك: الالف مثلاً في قال، تحصل بها الخفة، فأياً كان اصل الالف، فالخفة حاصلة والالف الف، حتى لوكان اصلها قافاً بدل الواو..
اشارة: فمع هذه التصويرات فان الجمود البارد والتعصب على الظاهر ينافي حرارة البلاغة ولطافتها كما انه يجرح ويخالف استحسان العقل الشاهد على الحكمة الالهية التي هي اساس نظام العالم الشاهد على الصانع. وذلك:
اذا استقبلت مثلاً جبل (سبحان) من بعد فراسخ، وأردت ان يتبدل وضعه بالنسبة لجهاتك الاربع، او تشاهده في كل جهة من جهاتك. فبدلاً من ان تتخطى خطوات يسيرة نحوه، تكلف جبلاً ضخماً ذلك الجرم العظيم ان يأتي اليك من جهاتك الاربع وقطعه دائرة عظيمة تحار في تصورها. فهذا المثال العجيب للاسراف والعبثية واختيار الطريق الاطول وترك الاقصر، اعدّه جناية على نظام العالم.
والان انظر بنظر الحقيقة المنصفة الى هذا التعصب البارد، كيف يعارض حقيقة باهرة ثابتة بشهادة الاستقراء التام. تلك الحقيقة هي:
لا اسراف ولا عبث في الخلقة، والحكمة الازلية لاتترك الطريق القصير المستقيم، ولا تختار الطريق الطويل المتعسف، لذا فلِمَ لا يجوز ان يكون الاستقراء التام قرينة المجاز؟ وما المانع الذي يتصور؟.
تنبيه:
ان شئت فادخل المقدمات. واجعل المقدمة الاولى هي الصغرى والمقدمة الثالثة هي الكبرى لتنتج لك: ان الذي يشوش اذهان الظاهريين، انجذابهم الى الفلسفة اليونانية، حتى نظروا اليها نظر المسلّمات في فهم الآيات.. ومما يضحك الثكلى: ان بعضاً فهموا من كلام مَن هو اجل من ان لا يميز جوهر الحقيقة عن زخارف الفلسفة، قوله بالكردية (عناصر جهارَن زِ وانن ملك) اي: ان الملائكة اجسام نورانية مخلوقة من عناصر، لا كما يزعمه الفلاسفة من انهم مجرّدون عن المادة. ففهموا من هذا الكلام ومن هذا التصريح ان العناصر اربعة وهي من الاسلام!!


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 94
فيا للعجب! ان كونها اربعة، وكونها بسيطة هي من اصطلاحات الفلاسفة، ومن اسس العلوم الطبيعية الملوثة، ولا علاقة لها أصلاً باصول الاسلام. بل هي قضية يحكم عليها بظاهر المشاهدة.
نعم! ان كل ما يمس الدين لا يلزم ان يكون من الدين، فان قبول كل مادة تمتزج مع الاسلام انها من عناصرالاسلام، يعني الجهل بخواص عنصر الاسلام نفسه، لان العناصر الاربعة الاساسية للاسلام، وهي الكتاب والسنة والاجماع والقياس، لاتولد مثل هذه المواد ولاتركبها.
حاصل الكلام: ان تلك العناصر.. هي عناصر، وهي بسيطة، وهي اربعة، وهي من مستنقع الفلسفة، وليست من معدن الشريعة الخالص، ولكن لدخول اخطاء الفلسفة في لسان سلفنا، وجدوا محملاً صحيحاً لها. لان السلف عندما قالوا اربعة فهي ظاهراً اربعة، او هي حقيقة اربعة، وهي التي تولد الاجسام العضوية: مولد الماء والحموضة والآزوت والكربون. وان كنت حراً في تفكيرك فانظر الى شر هذه الفلسفة، كيف ألقت الأذهان الى السفالة والأسر. فمرحى للفلسفة الجديدة المتحررة التي قضت على تلك الفلسفة اليونانية المستبدة قضاءً مبرماً.
تحقق اذاً مما سبق: ان مفتاح دلائل اعجاز الايات وكشاف اسرار البلاغة، هو في معدن البلاغة العربية، وليس في مصنع الفلسفة اليونانية.
ايها الأخ! لما كان الاهتمام واللهفة في كشف الاسرار أبلغنا هذا المقام. وجعلناك تصحبنا ونقلق فكرك، ونشعر بما تعانيه من اتعاب فالآن نطوّف بك في ميادين عنصر البلاغة ومفتاح الاعجاز في المقالة الثانية.
واياك ان ينفرك اغلاق اسلوبها، وظاهر مسائلها المهلهل. لان دقة معانيها هي التي اغلقتها. وجمال معانيها بذاتها هو الذي جعلها مستغنية عن الزينة الظاهرية.
نعم! ان صداق المستغنية المتغنجة، انعام النظر، ومنازلها سويداء القلب. فما خلعتُ عليها من ملابس يخالف طراز هذا العصر، ذلك لانني قد ترعرعت في الجبال، وهي مدرسة شرقي الاناضول فلم اتعلم الخياطة الحديثة!
ثم ان اسلوب بيان الشخص يمثل شخصيته. وانا كما ترون وتسمعون: معمىً، مشكل الحل.
تـم… تم…




عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:37 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 95
المقالة الثانية
عنصر البلاغة

هذه المقالة تبّين بضع مسائل تتعلق بروح البلاغة

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 97
بسم الله الرحمن الرحيم
الطيبات لله والصلوات على نبيه

المسألة الأولى
يخبرنا التأريخ بأسف بالغ انه: لما انجذب الاعاجم بجاذبة سلطنة العرب فَسَد بالاختلاط مَلَكة الكلام المُضَري، التي هي اساس بلاغة القرآن؛ اذ لما تعاطى الاعاجم والدخلاء صنعة البلاغة العربية حوّلوا الذوق البلاغي من مجراه الطبيعي للفكر، وهو نظم المعاني، الى صنعة اللفظ وذلك:
ان المجرى الطبيعي لأنهار الأفكار والمشاعر والاحاسيس انما هو نظم المعاني.. ونظم المعاني: هو الذي يشيد بقوانين المنطق.. واسلوب المنطق: متوجه الى الحقائق المتسلسلة.. والفكر الواصل الى الحقائق: هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسَبها.. ودقائق الماهيات ونسبها هي الروابط للنظام الأكمل في العالم.. والنظام الاكمل: هو المندمج فيه الحسن المجرد الذي هو منبع كل حسن.. والحسن المجرد هو روضة ازاهير البلاغة التي تسمى لطائف ومزايا.. وتلك الجنة المزهرة ودقائق الماهيات ونسبها: هي التي تجول فيها بلابل عاشقة للازاهير المسماة بالشعراء والبلغاء وعشاق الفطرة.. ونغمات تلك البلابل يمدّها صدىً روحاني هو نظم المعاني.
ولكن لما حاول الدخلاء والاعاجم الدخول في صفوف الادباء، فلت الأمر. لأن مزاج الأمة مثلما انه منشأ احاسيسها ومشاعرها، فان لسانها القومي يعبّر عن تلك المشاعر ويعكس تلك الاحاسيس. وحيث ان أمزجه الامة مختلفة، فاستعداد البلاغة في ألسنتها متفاوت ايضاً، ولا سيما اللغة العربية الفصحى المبنية على قواعد النحو.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 98
وبناء على هذا فان نظم اللفظ الذي هو ارض قاحلة جرداء لاتصلح لأن تكون مسيلاً لجريان الافكار ومنبتاً لأزاهير البلاغة، اعترض مجرى البلاغة الطبيعي وهو نظم المعنى فشوش البلاغة.
وحيث ان المبتدئين ومن لامهارة لهم احوج من غيرهم الى ترتيب اللفظ وتحسينه وتحصيل المعاني اللغوية - بسوء اختيارهم أو بسَوق الحاجة - فقد صرفوا جلّ اهتمامهم الى اللفظ ورغبوا فيما هو أسهل مجرى وأظهر للنظر العابر وآنس للعوام وأولى بأن ينجذبوا اليه وينفعلوا به ويجتمعوا حوله. لذا انجذبوا الى تنميق الالفاظ صارفين اذهانهم عن تنسيق المعاني والتغلغل فيها، تلك المعاني التي كلما قطعت بها مفازة تراءت صحارى شاسعة باهرة منها.. وهكذا سار الأمر بهم حتى افترقت اذهانهم فداروا حيث دار اللفظ بعد تصور المعاني. بل حتى غلب اللفظ المعنى وسخّره لنفسه،فاتسعت المسافة بين طبيعة البلاغة، وهي كون اللفظ خادماً للمعنى، وصنعة العاشقين للفظ.
فان شئت فادخل في "مقامات الحريري" فانه مع جلالة قدره في الأدب، فقد استهواه حب اللفظ وبذلك أخلّ بأدبه الرفيع، فاصبح قدوة للمغرمين باللفظ، حتى خصص الجرجاني - ذلك العملاق - ثلث كتابيه دلائل الاعجاز واسرار البلاغة، دواءً لعلاج هذا الداء.
نعم! ان حب اللفظ داء، ولكن لايعرف انه داء!
تنبيه:
كما ان حب اللفظ مرض، كذلك حب التصوير (الفني)، وحب الاسلوب، وحب التشبيه، وحب الخيال، وحب القافية مرض مثله. بل ستكون هذه الامراض بالافراط امراضاً مزمنة في المستقبل، كما تبدو البوادر من الآن. حتى يضحى بالمعنى في سبيل ذلك الحب، بل بدأ كثير من الادباء باساءة الادب والاخلاق لأجل نادرة ظريفة، أو لإتمام قافية رنانة.
نعم! اللفظ يُزيّن ولكن اذا اقتضته طبيعة المعنى وحاجته.. وصورة المعنى تُعظّم وتعطى لها مهابة ولكن اذا أذِن بها المعنى... والاسلوب يُنوّر ويلمّع ولكن اذا


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 99
ساعده استعداد المقصود.. والتشبيه يلطّف ويجمّل ولكن اذا تأسست على علاقة المقصود وارتضى به المطلوب.. والخيال يُنشط ويسيّح ولكن اذا لم يؤلم الحقيقة، ولم يثقل عليها، وان يكون مثالاً للحقيقة متسنبلاً عليها.

المسألة الثانية
ان حياة الكلام ونموه: بتجسّم المعاني وبنفخ الروح في الجمادات وذلك بإلقاء الحوار فيما بينها بالسحر البياني الحاصل بقوة الخيال؛ المبنية على المغالطة الوهمية، المؤسسة على الدوران - اي ظن احد الشيئين علّة للآخر في الوجود والعدم كما هو الاعتقاد العرفي - فالسحر البياني اذا تجلى في الكلام بَعَثَ الحياة في الجمادات كالساحر، ويوقع بينها محاورة قد تنجرّ الى المحبة او المخاصمة، فيجسّم المعاني ويحييها ويدرج فيها الحرارة الغريزية.
فاذا شئت فادخل في البيت الصاخب:
يناجيني الإخلافُ من تحت مُطْلِهِ فتختصم الآمالُ واليأس في صدري 1
أي: إن خلف الوعد يحاورني من تحت ستار المماطلة في الحق، ويقول: لاتنخدع. فتتخاصم الآمال واليأس ويهدّان منزل صدري المتزلزل.
فترى كيف مثّل الشاعر الساحر المحاربة والمخاصمة بتجسيمه الأمل واليأس وبعثه الحياة فيهما وجعلهما في صراع مع مثير الفتن، اخلاف الوعد. حتى جعل البيت كأنه مشهد سينمائي يتراءى أمام عقلك. نعم ان هذا السحر البياني نوع من التنويم.
او استمع الى شكوى الارض وعشقها الى المطر في هذا البيت:
تشكّى الارضُ غَيْبته اليه وترشُف ماءَه رشفَ الرضاب
يضع امام خيالك حالة قيس وليلى، فالارض قيس ومعشوقها السحاب ليلى!
تنبيه:
ان الذي جمّل هذا الشعر هو مشابهة ما فيه من الخيال الى حدٍ ما بالحقيقة. اذ الارض تُحدث صوتاً وأزيزاً اذا تأخر عنها المطر فتمص ماءه مصاً. والذي يشاهد
_____________________
1 لإبن المعتز (دلائل الاعجاز 61) وفي ديوان ابن المعتز: تُجاذبني الاطراف بالوصل والقلى..ص226



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 100
عنها هذه الحالة ينتقل خياله الى تأخر المطر وشدة حاجة الارض اليه، وبسر الدوران المعلوم وبتصرف الوهم يُفرغ الخيالُ نفسَه في صورة عشق وحوارٍ بينهما.
أشارة: لابد في كل خيال من نواة من حقيقة، مثل هذه النوية.

المسألة الثالثة
ان حلل الكلام أو جماله وصورته: باسلوبه، أي بقالب الكلام.
اذ الاسلوب يتنور ويتشرب ويتشكل باتخاذه تلاحق قطعات الاستعارة التمثيلية، المتركبة من الصور، الحاصلة بخصوصيات من تمايلات الخيال، المتولدة بسبب تلقيح الصنعة (البيانية) أو المباشرة أو التوغل او دقة الملاحظة. فالاسلوب بهذا قالب الكلام كما هو معدن جماله ومصنع حلله الفاخرة. فكأن المتكلم ينادي بارادته - التي تنبه العقل - فيوقظ المعاني الراقدة في زوايا القلب المظلمة، فتخرج حفاةً عراةً وتدخل الخيال الذي هو محل الصور. فتلبس - المعاني - ما تجده من صور في خزينة الخيال تلك، فتخرج بعلامة مهما قلت، حتى قد تلفّ على رأسها منديلاً أو تخرج لابسة نعلاً، أو تخرج بازرار أو بكلمة تدل على أنها تربّت هناك.
فاذا انعمت النظر في اسلوب الكلام - الكلام الطبيعي الفطري - ترى المتكلم في مرآة الاسلوب، حتى كأن نَفْسَه في أنفاسه ونبراته، وماهيته في نفثاته، وصنعته ومزاجه ممتزجان في كلامه، فلو تخيلت الامر هكذا لما عوتبت في مذهب الخياليين.
فان كان في خيالك مرض من الشك في هذا، فزرْ مستشفى قصيدة "بردة المديح". وانظر كيف كتب الحكيم البوصيري وصفته الطبية باستفراغ الدمع وحمية الندم:
واستفرِِغ الدمعَ من عينٍ قد امتلأتْ من المحارم والزَمْ حِميةَ النَدَم
وان اشتهيت شرب زلال المعنى من زجاج الحقيقة - أي الاسلوب - وترى امتزاجهما فاذهب الى الخمّار واسأله: ما الكلام البليغ؟ فسيقول لك بدافع من صنعته: الكلام البليغ ما طبخته مراجل العلم وبقي في دنان الحكمة وصفّته مصفاة الفهم، فدار به الساقون الظرفاء، فشربته الافكار، وتمشّى فيه الاسرار، فاهتزت به الاحاسيس.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 101
وان لم يَرُق لك كلام هؤلاء السكارى، فاستمع الى مهندس الماء، هدهد سليمان عليه السلام، في النبأ الذي أتى به من سبأ، كيف وصف الذي علّم القرآن وأبدع السموات والارض، اذ يقول الهدهد: اني رأيت قوماً لايسجدون لله: (الذي يخرج الخبء في السموات والارض) (النمل: 25) فانظر كيف اختار من بين الاوصاف الكمالية ما يشير الى هندسة الهدهد.
اشارة: مرادي بالاسلوب: قالب الكلام وصورته، وآخرون يقولون غير هذا. وفائدته البلاغية: التحام تفاريق القصة وقطعها المشتتة، لتهتزّ القصة كلها بتحريك جزء منها حسب القاعدة (اذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه). اذ لو وضع المتكلم بيد السامع طرفاً من الاسلوب فالمخاطب يمكن ان يرى تمامه بنفسه ولو مع شئ من الظلمة. فانظر اينما كان لفظ "بارز" فانه كالنافذة تريك ميدان الحرب.
نعم هناك كثير من امثال هذه الكلمات لو قيل انهامشاهد سينما الخيال فلاحرج.
تنبيه:
ان مراتب الاسلوب متفاوتة جداً؛ بعضها ارق من النسيم اذا سرى في السحر. وبعضها اخفى من دسائس دهاة الحرب في هذا الزمان، لايشمّه الاّ ذوو الدهاء، كاستشمام الزمخشرى من الاية الكريمة
(من يحيى العظام وهي رميم) (يس: 78) اسلوب من يبرز الى الميدان!
نعم ! ان العاصي لله انما يبارز خالقه ويحاربه معنىً.

المسألة الرابعة
ان قوة الكلام وقدرته: ان تتجاوب قيوده، وتتعاون كيفياته، ويمد كلٌ بقدره مشيراً الى الغرض الاصلي ويضع اصبعه على المقصد. فيكون مثالاً ومصداقاً لدستور:
عباراتنا شتى وحسنك واحدٌ وكلٌ الى ذاك الجمال يشير
وكأن القيود مسيل ووديان، والمقاصد حوض في وسطها يستمد منها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 102
حاصل الكلام: يلزم التجاوب والتعاون والاستمداد، لئلا تتشوش صورة الغرض المرتسمة على شبكة الذهن والملتقطة بنظر العقل.
اشارة: ينشأ التناسب ويتولد الحسن ويلمع الجمال بنشوء الانتظام من هذه النقطة.
فتأمل في كلام رب العزة
(ولئن مسَّتهم نفحة من عذاب ربّك..) (الانبياء: 46) المسوقة للتهويل، وتخويف الانسان، وتعريفه بعجزه وضعفه. فبناءً على القاعدة البيانية: "ينعكس الضد من الضد" ترى الاية الكريمة تبين تأثير القليل من العذاب بقصد التهويل والتخويف، فكل طرف من الكلام يمدّ المقصد، وهو التقليل عن جهته وذلك بـ:
التشكيك والتخفيف في لفظ "إنْ".
والمسّ وحده دون الاصابة في "مسّت".
والتقليل والتحقير في مادة "نفحةٌ" وصيغتها وتنكيرها.
والتبعيض في "مِن"
والتهوين في "عذاب" بدلاً من نكال.
وايماء الرحمة في "ربك".
كل ذلك يهول العذاب ويعظمه باراءة القليل، اذ ان كان قليله هكذا فكيف بعظيمه.. نسأل الله العافية!
تنبيه:
هذا نموذج نسوقه لك. ان قدرت فقس عليه. فان جميع الآيات القرآنية يتلألأ عليها هذا الانتظام والتناسب والحسن. ولكن قد تتداخل المقاصد وتتسلسل، وتصبح توابع، كل منها مقارنة مع الاخرى دون اختلاط. فلابد من الحذر والانتباه. لأن النظرة العابرة كثيراً ما تزل في هذه المواضع.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 103
المسألة الخامسة
ان اصل الكلام وصورة تركيبه يفيد المقصد نفسه، كما ان غناه وثروته وسعته هو في بيان لوازم الغرض وتوابعه وهزّه بتلميحات مستتبعاته وباشارات الاساليب؛ اذ التلميح او الاشارة اساس مهم يهزّ عطف الخيالات الساكنة ويستنطق جوانبها الساكتة، فيهيّج الاستحسان في اقصى زوايا القلب.
نعم! ان التلميح او الاشارة انماهو لمشاهدة اطراف الطريق ومطالعتها، وليس للقصد والطلب والتصرف. بمعنى ان المتكلم لايكون مسؤولاً فيه.
فان احببت فادخل في هذه الابيات لترى ما يستحق المشاهدة:
فانظر الى شعرات لحية الشيخ الذي اعتلى فرسه واراد ان يعرض فتوته تجاه حسناء، تجد فيها مفاتيح بلاغة كثيرة..
فدونك الابواب افتحها:
قالتْ كبرتَ وشِبتَ قلتُ لها هذا غبار وقايع الدهر 1
وايضاً:
ولا يروّعك ايماض القتير بــه فان ذاك ابتسام الرأي والأدب 2
اي لايخوفك ابيضاض شعرات فان نور العقل والادب قد سالا من الدماغ الى اللحية.
وايضاً:
وعينُك قد نامتْ بليلِ شبيبةٍ فلم تنتبه الاّ بصبح مشيب
وايضاً:
وكأنما لَطََم الـصـــباح جـبينه فاقتصّ منه وخاض في احشائه 3
يصف الشاعر فرسه فيريد: ان غرّته انما هي أثر من لطمة الصباح على جبينه، وتحجيله انما هو من خوض قوائمه الاربع في احشاء الصباح.
_____________________
1 قول ابن المعتز (اسرار البلاغة 322)
2 وفـي رواية الـديوان: فلا يؤرقك ايمـاض القتير... والقتير: الشـيب. والبيت للطائي الكبير يمدح الحسن بن سهل.
3 قاله ابن نباتة السعدي في وصف فرس اهداه اياه سيف الدولة. انظر الديوان 1/273 واسـرار البلاغة 325.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 104
وايضاً:
كأن قلبي وشاحُها اذا خطرتْ وقَلْبَها قُلْبُها في الصمت والخرس
اي يتحرك قلب الشاعر كوشاح في خصر المعشوق، بينما قلبها في سكون وصمت كسوارها. فلئن اشتاق قلبي الى ذلك الزند القوي والخصر النحيف فان قلبها مستغن عني، فالشاعر جمع في البيت الواحد الحسن والعشق والاستغناء والاشتياق.
وايضاً:
والقى بصـحراء الغبيط بعـاعــه نزول اليماني ذي العياب المحمّل 1
اي ان السيل القادم من المطر، القى بضاعته كالتاجر اليماني في صحراء الغبيط، فاخذت الازاهير تتلون بتلك الاخلاط التجارية الممزوجة بالاصباغ والالوان وتلبس الحلل الزاهية حتى تحمر رؤوسها، مثلما لونزل تاجر في قرية مساءً واشترى منه اهلها بضاعته المتلونة المتنوعة، يخرج في الصباح كلٌ من بيته في زينة وجمال وحتى راعي القوم يعصب رأسه بعصابة حمراء.
وايضاً:
غار الوفاء وفاض الغدر وانفرجتْ مسافة الخلف بين القول والعمل 2
فان شئت التفت الى ما قبل هذه المقالة، تجد امثلة كثيرة حول هذه المسألة منها: "ان مفتاح دلائل اعجاز الايات وكشاف اسرار بلاغتها،البلاغة العربية لا الفلسفة اليونانية" او راجع الاشارة التي هي في خاتمة المسألة الاولى من المقالة الاولى، فان فيها : "ان شريعة الخليقة او الشريعة الفطرية قد فرضت على الارض المجذوبة السائحة الا تشذ عن صف النجوم المقتدية بالشمس".
نعم ان الارض مع قرينتها قالتا:
(أتينا طائعين) (فصلت: 11) والطاعة في الجماعة افضل.
فتأمل الآن في هذه الامثلة، فان كل مثال يُريك من امامه ومن خلفه مقامات، بحيث تبرز مقامات اخرى خلفها.
_____________________
1 صحراء الغبيط: الحزن ، وهي ارض بني يربوع. بعاعه : ثقله، وما معه من متاع. والمعنى : ارسل السحاب ماءه وثقله كهذا التاجر اليماني حين القى متاعه في الارض ونشر ثيابه ، فكان بعضها احمر وبعضها اصفر وبعضها اخضر، كذلك ما اخرج المطر من النبات والزهر فالوانه مختلفة كأختلاف الوان الثياب اليمانية (شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الانباري. تحقيق : عبد السلام هارون - دار المعارف ص 108)
2 في ديوان الطغرائي: غاض الوفاء... الخ (الغيث المسجم في شرح لامية العجم 2/343 شرح صلاح الصفدي - دار الكتب العلمية بيروت 1975.




عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:38 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 105
المسألة السادسة
ان ثمرات الكلام هي: المعاني المتولدة في صور متعددة والمتفجرة في طبقات متفاوتة. فكما هو معلوم لدى الكيمياويين: ان الذهب عند استحصاله، يمرر في انابيب معامل متعددة ويرسب ترسبات مختلفة في طبقات متفاوتة ويشكل باشكال متنوعة. وفي الختام يحصّل على قسم من الذهب. كذلك الكلام الذي هوخريطة مختصرة اخذت من صورة المعاني المتفاوتة، فالمفاهيم المتفاوتة تتشكل صورها كالآتي:
انه باهتزاز قسم من احاسيس القلب بتأثيرات خارجية، تتولد الميول. وبتكّون معان هوائية منها وتعلّقها بنظر العقل توجِّه العقل الى نفسها.. ثم بتكاثف قسم من ذلك المعنى البخاري يبقى قسم من الميول والتصورات معلقة.. ثم بتقطر قسم آخر يرغب فيه العقل.. ثم القسم المائع يتحصل منه ويُصلّب، فيضمه العقل ضمن الكلام.. ثم ذلك المتصلب لانه يتجلى ويتمثل برسم خاص به، يُظهره العقل بكلام خاص حسب قامته المخصوصة.
بمعنى ان المتشخص من المعنى يأخذه العقل ضمن صورة خاصة للكلام. ومالم يصلّب يسلّمه ليد الفحوى، ومالم يتحصل يحمله على اشارات الكلام وكيفياته، ومالم يتقطر يحيله الى مستتبعات الكلام، ومالم يتبخر يربطه باهتزازات الاسلوب واطوار المتكلم التي ترافق الكلام.
ومن هذا النبع ينفجر مسمّى (الاسم)، ومعنى (الفعل)، ومدلول (الحرف) ومظروف (النظم)، ومفهوم (الهيئة)، ومرموز (الكيفية)، ومشار (المستتبعات) ومحرك (الاطوار المشايعة للخطاب) ومقصود (الدال بالعبارة) ومدلول (الدال بالاشارة) والمفهوم القياسي (للدال بالفحوى) والمعنى الضروري (للدال بالاقتضاء) وامثالها من المفاهيم كل منها ينعقد في طبقة من طبقات هذه السلسلة.
فان اشتقت فتطلع في وجدانك تشاهد هذه المراتب، وذلك اذا ما ألقى محبوبك شعاع حسنه وبريقه من نافذة العين الى الوجدان؛ فذلك العشق المسمى بالنار الموقدة، يحرق مباشرة الحسيات ويلهبها، فتتهيج الآمال والميول، فتثقب تلك الامال مباشرة سقف ذلك الخيال الذي في الطبقة العليا. ويستغيث فتسعى الى تلك الآمال


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 106
الخيالاتُ الممسكة بيدها محاسن المحبوب او المشبعة بمحاسن غيرها، فتهاجم معاً وتنطلق من تلك الخيالات الى اللسان وتستردف ميل زلال الوصال، وتضع على يمينها آلام الفراق، وتضع في يسارها التعظيم والتأدب والاشتياق، وتضع امامها محاسن المحبوب المقتضي للعطف والترحم، فتنشر تحية ثنائها، وتنظم قلائد مدحها، المتجلية من الكل بوصف الفضائل المستجلب لزلال الوصال، المطفئ للنار الموقدة على الافئدة . فانظر كم من المعاني ترفع رأسها من غير الطبقات التي تعرفها.
فان لم تخف فانظر الى وجدان كل من ابن الفارض وابي الطيب المنبهر اكثر من عيونهما، وتأمل في ترجمان الوجدان في:
غرستُ باللحـظ ورداً فـوق وجـنتها حقٌ لطرفي ان يجني الذي غرسا 1
وايضاً:
فللعين والاحشــــاء اول هل أتى تلا عائدي الآسي وثالث تبت 2
وايضاً:
صـــــدٌّ حَمى ظمأي لـُماكَ لماذا وهواك قلبي صار منه جذاذاً 3
وايضاً:
حشاي على جمر ذكي من الغضا وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع 4
فشاهد واستمع كيف ان عيونهم تتجول في جنة وسعيرُ وجدانهم تُعذِّب.
ولقد بيّن الشعراء خيالات رقيقة جداً بالاشارة الى محاسن المحبوب، وبالرمز الى استغنائه، وبالايماء الى التألم من فراقه، وبالتصريح بالشوق اليه، وبالتلويح بطلب الوصال، وبالنص على الحسن الجالب للعطف.. مع ما يحرك الحسيات من اطوار.
_____________________
1 وفي رواية الديوان: غرست باللحظ ورداً فوق وجنته... ص177 دار صادر - بيروت.
2 اول هل اتى : اراد به سورة من القرآن الكريم اولها (هل أتى ...) تلا: من التلاوة، والقراءة. وثالث تبت: اراد بها ثالث لفظة من سورة (تبت يدا ابي لهب...) وهي: ابو لهب. يريد الشاعر: انه اصبح كأنه لم يكن شيئاً مذكوراً ، وصارت احشاؤه تكنى بأبي لهب، لشدة اشتعالها بنار الوجد (ص 42 من الديوان)
3 الصدّ: الإعراض. حمى : منع. لُماك: سمرةُ شفتيك . وهواك : أي قسماً بهواك. منه: أي من صدك . جذاذاً : قطعاً.
4 وفي رواية الديوان: حشاي على جمر ذكيٍ من الهوى...



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 107
اشارة: كما يلزم في نظام اية دولة كانت، ان يكون اجر الموظف حسب وظيفته وبمقدار خدماته وعلى وفق قابليته واستعداده، كذلك يلزم تقسيم العناية وتوزيع الاهتمام توزيعاً عادلاً، بحيث تأخذ كل معنى من المعاني المتزاحمة في مثل هذه المراتب المتفاوتة نصيبه وحظه بنسبة قربه من مركز الغرض الكلي الذي سيق له الكلام، وبنسبة خدمته للمقصود الاساس. وذلك ليحصل بتلك المعادلة: الانتظام، ومن الانتظام: التناسب، ومن التناسب: حسن الوفاق، ومن حسن الوفاق: حسن المعاشرة، ومن حسن المعاشرة: ميزان التعديل لكمال الكلام.
وبخلاف هذا فان دخول مَن هو خادم وظيفةً وصبي طبعاً في مراتب كبيرة يتكبر فيفسد التناسب ويشوش المعاشرة. اي يلزم اخذ استعداد قيود الكلام بنظر الاعتبار.
نعم! يجب ان يرفع مقام كل شئ بقدر استعداده؛ اذ العين والانف وما شابههما من الاعضاء مهما كان جميلاً فانه يتشوه اذا جاوز الحد ولوكان ذهباً.
تنبيه:
قد يذهب جندى بسيط الى مواضع من العدو لاستكشاف مالا يقدر عليه المشير، او يؤدي تلميذ صغير من العمل ما لايؤديه عالم كبير. اذ الكبير لايلزم ان يكون كبيراً في كل أمر، بل كلٌ كبيرٌ في صنعته.
وكذلك قد يترأس معنى صغير بين تلك المعاني المتزاحمة، فيأخذ قيمة اعلى، لان وظيفته ذات اهمية كما سنبينها. والذي يشير الى تلك المعاني المتزاحمة، والمنار على قيمتها عدم صلاحية صريح الحكم المنصوص ولازمه القريب لسفارة الكلام وسوق الخطاب وارسال اللفظ لاجله. اما لكونه بديهياً معلوماً مشهوداً.. او خفيفاً وضعيفاً لا يُهتم به في الغرض الاساس.. او لفقدان من يتقبله و يستمع اليه.. أو لايوافق حال المتكلم ولايفي بداعي الرغبة في التكلم.. أو لا يمتزج ولا يقبل الامتزاج مع حيثية المخاطب ومنزلته.. أو يبدو غريباً في مقام الكلام وتوابع المستتبعات.. أو ليس له استعداد للحفاظ على الغرض وتهيئة لوازمه. بمعنى: ان كل مقام يستمع الى سبب واحد من بين هذه الاسباب. ولكن لو اتحدت عموماً ترفع الكلام الى اعلى طبقة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 108
خاتمة:
هناك معان معلقة، ليس لها شكل مخصوص ولاوطن معين. فهي كالمفتش الذي يمكنه الدخول الى اية دائرة كانت وبعضها يقلّد لفظاً خاصاً بها. هذه المعاني المعلقة قسم منها معان حرفية هوائية، قد تستتر في كلمة، او يتشربها كلام او تتداخل في جملة او قصة، فان عصرت تقطّر ذلك المعنى كالروح فيها كما في معاني "التحسر" و"الاشتياق" و"التمدح" و"التأسف" وغير ذلك.

المسألة السابعة
ان العقدة الحياتية للبلاغة، او بتعبير اخر "فلسفة البيان" او "حكمة الشعر" هي التمثل بنواميس الحقائق الخارجية ومقاييسها. اي: تمكين قوانين الحقائق الخارجية في المعنويات والاحوال الشاعرة من حيث القياس التمثيلي وبطريق الدوران وبتصرف الوهم. اي ان البليغ يتمثل اشعة الحقائق المنعكسة من الخارج كالمرآة وكأنه يقلّد الخلقة ويحاكي الطبيعة بصنعته الخيالية وبنقش كلامه.
نعم! لو لم تكن في الكلام حقيقة ففي الاقل لابد فيه من شبيه للحقيقة وما يستمد من نظامها والتسنبل على نواتها. ولكن لكل حبة سنبلها الخاص فلا تتسنبل الحنطة شجرة.
فان لم تؤخذ فلسفة البيان بنظر الاعتبار، فالبلاغة تكون كالخرافة لا تغني السامع غير الحيرة.
اشارة: ان للنحو فلسفته كما للبيان فلسفته. هذه الفلسفة تبين حكمة الواضع وهي مؤسسة على المناسبات المشهودة المشحونة بها كتب النحو، فمثلاً لايدخل عاملان على معمول واحد. وان لفظ (هل) ما ان يرى الفعل الاّ ويطلب الوصال بلا صبر، وان الفاعل قوي، والقوى يضم الضمة لنفسه. فهذه وامثالها نظائر القوانين الجارية في الكائنات وفي الخارج.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 109
تنبيه:
ان هذه المناسبات النحوية والصرفية - التي هي حكمة الواضع - وان كانت لا تبلغ درجة فلسفة البيان الاّ ان لها قيمة رفيعة جداً. فمثلاً: تحول العلوم النقلية الثابتة بالاستقراء الى صور العلوم العقلية.

المسألة الثامنة
ان تلقيح المعاني البيانية وانقلاباتها، انما هو: بتشرب معنى الكلمة الحقيقي بغرض الكلام او جذبه بمعنى من المعاني المعلقة الى جوفه، وحالما يدخل فيه يرجع المعنى الى الحقيقة والاساس التي هي صاحب البيت. اما المعنى الذي هو صاحب اللفظ الاصلي فيرجع الى صورة حياتية تمدّه، وتستمد من المستتبعات. هذا هو السر في وجود معان عدة لكلمة واحدة ومنه ينبع التلقيح والتبادل والانقلاب.
فمن لم يفهم هذه النقطة فاتته بلاغة عظيمة.
اشارة: وكم من شئ يركب عليه فيستحق لفظ "على" ولكن ما ان يكون ظرفاً، فانه يستدعي لفظ "في" كـ: "تجري في البحر".. او آلة تستلزم لفظ "باء" كـ: "صعدت السطح بالسلم" ولكن لكونها مكاناً او مركوباً تقتضي ايضاً "في" و"على".. او يكون غاية فيطلب "الى" و "حتى" ولكن لكونه علةً وظرفاً يناسبه "اللام" و "في" كـ
(والشمس تجري لمستقرلها). فقس.
تنبيه:
قدّم ضمن هذه المعاني المتداخلة وصرِّح ما كان امسّ لغرضك واقرب رحماً الى القصد، وشيّع الباقي وضمّنه. والاّ كان المعنى عرياناً عاطلاً من حلّة البيان.

المسألة التاسعة
ان أعلى مراتب الكلام وكماله الذي يُعجز الارادة الجزئية والتصور البسيط للانسان هو: تضمن الكلام واستعداده بتعدد المقاصد المتداخلة المتسلسلة،


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 110
وبتسلسل المطالب المرتبطة المتناسلة، وباجتماع الاصول المولدة لنتيجة واحدة، وباستنباط الفروع الكثيرة المولدة لثمرات متباينة. وذلك:
ان الذي يعطي الكلام عظمة وسعة هو: ان المقاصد القادمة من ابعد هدف واعلاه - وهو مقصد المقاصد - يرتبط بعضها ببعض، ويكمل احدها نقصان الاخر، ويؤدي الواحد منها حق جاره، حتى كأن وضع هذا في موضعه يمكّن الآخر في مكانه، ويقرّ الاخر في مستقره.. وهكذا كلٌ يأخذ محله الملائم له؛ فتنصب تلك المقاصد في قصر الكلام المشيد بملاحظة نسب يمين هذا وشماله وكل جهاته. وكأن المتكلم استعار عقولاً الى عقله للتعاون، وغدا كل مقصد من تلك المقاصد جزءاً تشترك فيه التصاوير المتداخلة، بمثل ما اذا وضع رسام نقطة سوداء في صور متداخلة، فانها تكون عين هذا ومنخر ذاك وفم هذا وشامة ذلك.. وهكذا ففي الكلام ارفيع نقاط امثال هذه ..
النقطة الثانية:
ان المطالب تتسلسل وتتناسل بسرالقياس المركب المتشعب حتى كأن المتكلم يشير الى شجرة النسب لبقاء المطالب وتناسلها.
فمثلاً: العالم جميل، فصانعه اذاً حكيم، لا يخلق عبثاً، ولايسرف في شئ، ولايهمل الاستعدادات والقابليات، اي سيكمّل الانتظام دوماً. اي لايسلط على الانسان الهجران الابدي والعدم الذي يمحي الكمالات ويقتل الامل.. فلا بد اذاً من سعادة ابدية.
وافضل مثال لهذا: الجهة الثالثة من الفرق بين الانسان والحيوان من مباحث النبوة في مقدمة الشهادة الثانية من المقالة الثالثة.
النقطة الثالثة:
ان الذي يجعل النتيجة الواحدة تولد نتائج متعاقبة هو: جمع الاصول المتعددة وذكرها، لان لكل اصل من الاصول، وان لم يكن له ارتباط بالذات وقصدٌ بالنتيجة الرفيعة، ففي الاقل يهزها ويكشفها الى حد ما. فكأن الكلام يشير بتباين الاصول - التي هي مظاهر ومرايا - وبوحدة النتيجة والمتجلّى، الى تجرد المقصد وسموّه،


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 111
واتصال قوته الحياتية بحقيقة الحياة الكلية، حياة العالم المسماة بالدوران العمومي. فالمقصد الاول من المقاصد الثلاثة التي في ختام المقالة الثالثة مثال لهذا؛ وكذلك الاشارة والارشاد والتنبيه ومسلك المحاكمة العقلية التي في المسالة الرابعة من المقالة الثالثة مثال جيد لهذا ايضاً.. [فانظر الى كلام الرحمن الذي علم القرآن. فبأي آيات ربك لا تتجلى هذه الحقيقة؟ فويل حينئذٍ للظاهريين الذين يحملون ما لا يفهمون على التكرار].
النقطة الرابعة:
هي افراغ الكلام افراغاً تاماً، ومنحه استعداداً كاملاً، بحيث يتضمن بذور كثير من الفروع، ويكون مصدر كثير من الاحكام، ويصبح دليلاً على وجوه عديدة ومعاني مختلفة. وكأن الكلام بتضمنه هذا الاستعداد يلوّح الى مافيه من قوة للنمو، ويبين كثرة غلته ومحصوله. اذ يجمع في المسألة تلك الفروع والوجوه ليوازن بين مزاياه ومحاسنها، ويسوق كل فرع الى غرض ويعيّن كل وجه في وظيفة: [فانظر الى قصة موسى فانها أجدى من تفاريق العصا، أخذها القرآن بيده البيضاء، فخرّت سحرة البيان ساجدين لبلاغته].
ايها الاخ!
ان الخيال البلاغي الموجود في هذه المسالة يرسم لك - بمثل هذه الاساليب - شجرة حقيقة عظيمة، عروقها الجسيمة متشابكة، وعقدها الطويلة متناسقة، واغصانها المتشعبة متعانقة، وثمراتها وفواكهها متنوعة. فتأمل في المسألة السادسة فهي مثال لهذه المسألة وان كانت مشوشة.

تنبيه واعتذار:
ايها الاخ!
اعلم يقيناً ان هذه المقالة تبدو لك غامضةً مغلقةً، ولكن ما الحيلة فان شأن المقدمة الاجمال والايجاز. وسيتجلى لك الامر في الكتب الثلاثة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 112
المسألة العاشرة
ان سلاسة الكلام، بعدم التشابك، عدم الطفر من حسّ الى اخر، مع تقليد الطبيعة وتمثل الخارجيات، والسداد الى مسيل الغرض، وتميّز المقصد والمستقر، كالآتي:
ان الوثوب من حسّ الى آخر قبل ان يتم الاول، ومن بعد ذلك مزجه مع الاخر يخل بالسلاسة ويغيرها، فيلزم التدرج في المعاني المتسلسلة والحذر من الاشتباك العشوائي بدون نظام.
وينبغي ايضاً مساوقة الطبيعة والتتلمذ عليها بصنعة المتكلم الخيالية، كي تنعكس قوانينها في صنعته.
وكذا يجب محاكاة تصوراته مع الخارجيات ومشاكلتها معها، بحيث لو تجسمت تصورات المتكلم في الخارج - هاربة من الدماغ - لايردّه الخارج ولايستلحقها الى المتكلم، ولاينكر نسبها اليه. بل يقول: هي انا، او كأنها انا او هي من صلبي.
وكذا يجب السداد وعدم التمايل يميناً وشمالاً، للحيلولة دون التفرق في مسيل الغرض والتشتت في مجرى القصد، وذلك لئلا تهون الجوانب من الغرض بتشرب قوته، بل تمده الجوانب - كالحوض - بما تتضمه من الطراوة واللطافة.
ويلزم ايضاً - لسلامة السلاسة - تميّز مستقر القصد، وتعيّن ملتقى الغرض.

المسألة الحادية عشرة
ان سلامة البيان وصحته: اثبات الحكم بلوازمه ومبادية وبآلات دفاعه، كالاتي: يجب عدم الاخلال بلوازم الحكم، وعدم افساد راحته، مع رعايته، والرجوع الى مبادئه لاستمداد الحياة.. وذلك بالتقلد بقيود الاجابة عن كل سؤال مقدر في ردّ الاوهام ودفع الشبهات.. اي ان الكلام شجرة مثمرة نضدت فيها اشواكها لحمايتها من اجتناء ثمراتها والتجني عليها. فكأن الكلام نتيجة لكثير من المناظرات


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 113
والمناقشات وزبدة كثير من المحاكمات العقلية. فلا يسترق منه السمع شياطين الاوهام ولايسعهم النظر اليه نظرة سوء. لان المتكلم قد احاط بجهاتكلامه الست وشيّد حوله سوراً، اي جهّزه بتقييد الموضوع او المحمول او بالتوصيف او بجهة اخرى دفاعاً عن كل سؤال مقدر ووضعها في نقاط يتوقع هجوم الاوهام منها. وان شئت مثالاً لهذا، فهذا الكتاب كله مثال طويل له، ولاسيما المقالة الثالثة فهي مثاله الساطع.
المسألة الثانية عشرة
ان سلامة الكلام وملاسته واعتدال مزاجه: بتقسيم العناية وتوزيع خلع الاساليب حسب ما يستحقه كل قيد. فان كان الكلام حكاية، فيجب على المتكلم فرض نفسه في موضع المحكي عنه، اذ لا بد من الحلول في المحكى عنه والنزول ضيفاً الى قلبه والتكلم بلسانه لدى تصوير افكاره وحسياته. واذا تصرف في ماله فيجب العدالة فيتقسيم الرعاية والاهتمام - الدالين على القيمة والمكانة - باخذ كل قيدٍ للكلام واستعداده ورتبته، بنظر الاعتبار، والباس الاساليب على قامة استعداد كل قيد. حتى يتحلى المقصد بما يناسبه من اسلوب، اذ اسس الاساليب ثلاثة:
الاول: الاسلوب المجرد، كالاسلوب السلس للسيد الشريف الجرجاني ونصير الدين الطوسي.
الثاني: الاسلوب المزين، كالاسلوب الباهر الساطع لعبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز واسرارالبلاغة.
الثالث: الاسلوب العالي، كبعض الكلام المهيب للسكاكي والزمخشري وابن سينا او بعض الفقرات العربية لهذا الكتاب، ولاسيما في المقالة الثالثة، فهي تبدو مشوشة الا انها تحوي فقرات رصينة، ذلك لان علو الموضوع قد افرغ هذا الكتاب في اسلوب عالٍ. وما صنعتي انا الاّ جزئية فيه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 114
الخلاصة:
ان كنتَ في بحث الالهيات وتصوير الاصول، فعليك بالاسلوب العالي، ففيه الشدة والقوة والهيبة، بل عليك الاّ تغادر هذ الاسلوب.
وان كنت في بحث الخطاب والاقناع، فعليك بالاسلوب المزيّن ذي الحلي والحلل والترغيب والترهيب. لا تدع هذا الاسلوب ما استطعت، بشرط الاّ يداخله التصنع والتظاهر، وما يثيرالعوام.
وان كنت في المعاملات والمحاورات وفي العلوم الآلية، فعليك بالاسلوب المجرد وحده فهو الذي يحقق وفاء الموضوع واختصار البحث وسلامة القصد ويجري على وفق السليقة حتى انه يبين جماله الذاتي بسلاسته.
خاتمة هذه المسالة:
اعلم ان قناعة الكلام واستغناءه وعصبيته، ان لاتمدّ عينيك الى اسلوب خارج المقصد. فلو اردت ان تفصّل اسلوباً على قامة معنى من المعاني، فالمعنى نفسه والمقام والصنعة والقصة والصفة يعينك بتفاريق لوازمها وتوابعها، فتخيط من تلك التفاريق لباس اسلوبك. فلا تمد نظرك الى الخارج الاّ مضطراً. او بتعبير اخر قاطع اموال الاجانب، فهو اساس مهم للحيلولة دون تبعثر ثروة البلاد. فمقاطعة الاجانب تزيد قوة الكلام، اي: ان المعنى والمقام والصنعة يفيد الكلام بدلالته الوضعية، اذ كما يُظهر الكلام المعنى بدلالته الوضعية، فمثل هذا الاسلوب يشير بطبيعته الى المعنى.
وان شئت مثالاً فانظر في المسألة التاسعة الى: [فانظر الى كلام الرحمن الذي علّم القرآن، فبأي أيات ربك لاتتجلى هذه الحقيقة؟ فويل حينئذ للظاهريين الذين يحملون ما لايفهمون على التكرار] وفيها ايضاً: [فانظر الى قصة موسى، فانها اجدى من تفاريق العصا، اخذها القرآن بيده البيضاء فخرّت سحرة البيان ساجدين لبلاغته]. وان شئت فانظر الى ديباجة كتب العلوم الآلية، فان مافيها من براعة الاستهلال - وان لم يكن بلاغتها دقيقة ولطيفة - براعة استهلال لهذه الحقيقة.
وايضاً ففي ديباجة هذا الكتاب امثلة: اذ اظهر النبيّ الكريم معجزة لنبوته.. وفي ديباجة المقالة الثالثة: قد بُينت جملتا كلمة الشهادة، كل منها شاهدة على
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 115
الاخرى.. وكذا قيل في المقدمة السابعة لاولئك الذين قالوا بنزول القمر الى الارض بعد انشقاقه: لقد اصبحتم سبباً لخسف معجزة القمر الظاهر كالشمس الساطعة برهاناً على النبوة وجعلتم تلك المعجزة الظاهرة مخفية كنجم السهى!
وقياساً على هذا تجد امثلة كثيرة لهذه الحقيقة، لان مسلك هذا الكتاب مقاطعة اموال الخارج، وعدم الاخذ منها الاّ للضرورة كما هو حالي انا. بل مقاطعتها في المسائل والامثلة والاساليب، لكن ربما يرد توافق في الخواطر. اذ الحقيقة واحدة، فمن اي باب دخلت عليها تجدها تجاهك.
خاتمة:
لقد قيل: انظر الى القول دون القائل! ولكني اقول: انظر الى مَن قال؟ ولمن قال؟ وفيمَ قال؟ ولِمَ قال؟ اذ يلزم مراعاة هذه الامور كمراعاة القول نفسه في نظر البلاغة بل هذا هو الالزم.
اشارة: اعلم ان شرطاً مهماً لمزايا علم المعاني وفن البيان - من حيث البلاغة - هو: القصد والعمد، بنصب الامارات والاشارات الدالة على جهة الغرض، فلا تقام للعفوية وزناً.
اما شرط علم البديع والمحسنات اللفظية فهو عدم القصد، والعفوية، او القرب من طبيعة المعنى الشبيهة بالعفوية.
تلويح: لايخفى ان شأن الآلات التي تثقب السطح نافذة الى الحقيقة، وتدل على الطبيعة والحقيقة الخارجية، وتربط الحكم الذهني بالقانون الخارجي، بل انفذ تلك الالات هي "إنّ" التحقيقية. نعم! ان "إنّ" بناءً على خاصيته هذه استعملت كثيراً في القرآن الكريم.
ايها الاخ!
ان القوانين اللطيفة التي تضمها هذه المقالة لايورطك في مغالطة، لتبرئتها ونفورها عن هذه الاساليب الخشنة الواهية! فلا يذهب بك الظن الى القول: لو كانت هذه القوانين صالحة وصائبة لكانت تلقّن واضعها درساً قوياً في البلاغة فكانت تلبس اساليب جميلة، بينما الذي وضعها اميّ واساليبه متهرئة.. دع عنك هذا الظن، لانه
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 116
لا يلزم لكل علم ان يكون كلُ عالم ماهراً فيه. فضلاً عن ان القوة المركزية الجاذبة اقوى من القوة الدافعة، ولان للاذن قرابة مع الدماغ وصلة رحم مع العقل، بينما القلب الذي هو منبع الكلام ومعدنه بعيد عن اللسان وغريب عنه. وكثيراً لايفهم اللسان فهماً تاماً لغة القلب، لا سيما ان كان القلب يئن في غور المسائل وفي اعماق بعيدة كغيابة الجب فلا يسمعه اللسان، وكيف يترجمه؟
وحاصل الكلام: الفهم اسهل من الافهام ....
والـسلام
اعتذار:
ايها الاخ الصابر الجلد! ويامن يرافقني في هذه المسالك الضيقة المظلمة! لااحسبك الاّ متفرجاً حائراً في هذه المقالة الثانية، ولم تك مستمعاً لانك لم تفهمها، ولك الحق في ذلك؛ اذ المسائل عميقة جداً، وجداولها طويلة جداً. بينما العبارات غامضة مختصرة. ولغتي التركية مشوشة وقاصرة ووقتى ضيق، وانا اكتب باستعجال، وصحتي معتلة فانا مصاب بالزكام. ففي مثل هذه الاحوال لا يصدر الاّ مثل هذه الوريقات.. [والعذر عند كرام الناس مقبول].
ايها الاخ!
امزج عنصر الحقيقة - قوة كبرى - وعنصرالبلاغة - قوة صغرى - وامرر في المزيج الحدس الصادق الذي هو كشعاع الكهرباء. لينتج لك عنصر العقيدة المضيئة، وليمنح ذهنك استعداداً لفهمها.
سنبحث عن عنصر العقيدة في المقالة الثالثة .
فاشرع واقول : نخو 1

_____________________
1 كلمة كردية باللهجة الكرمانجية الشمالية، تعني: اذن -. المترجم.

عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:40 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 117
المقالة الثالثة
عنصر العقيدة
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 119
بسم الله الرحمن الرحيم

اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمداً رسول الله

هذه الكلمة السامية اساس الاسلام.. وانور رايته واعلاها التي ترفرف على الكائنات طراً.
نعم! ان الايمان الذي هو عهدنا بالميثاق الازلي قد درج في هذا الكلام المقدس.
وان الاسلام الذي هو الماء الباعث على الحياة، قد نبع من عين حياة هذه الكلمة.
فهذه الكلمة ميثاق ازلي، سُـلِّمَ بيد المبشَّرين بالفوز بالسعادة الابدية والمعنيين لها، من بين البشرية المرشحة للخلود.
نعم! ان هذه الكلمة منهاج رباني.. وترجمان بليغ لأوامره تعالى، تتنور به اللطيفة الربانية الموضوعة على نافذة قلب الانسان المطل على عوالم الغيوب.
هذه الكلمة منهاج أزلي، ينطق به اللسان، المبلّغ الأمين عن الايمان بالله الحكيم.. وخطاب فصيح ينشده الوجدان الملئ بالاسرار تجاه الكائنات.
ان كلمتي الشهادة كل منها شاهد صادق على الاخرى. فالالوهية برهان "لـمّيّ" للنبوة ومحمد صلى الله عليه وسلم بذاته وبلسانه برهان "انّيّ" للالوهية 1.
ان حقائق العقائد الاسلامية بجميع تفرعاتها صريحة ومبرهنة في مظانها من الكتب، وهي في متناول اليد. ولكن لما كان ايضاح الظاهر يومئ الى تجهيل المخاطب او خفاء الظاهر، فلا ابيّن من عناصر العقيدة سوى ثلاثة او اربعة منها، واحيل بقيتها الى كتب فحول العلماء، فقد أوفوها حقها.
_____________________
1 البرهان إما »لمّي« وهو الاستدلال بالمؤثر على الأثر، وإما »إنِّي« وهو الاستدلال بالاثر على المؤثر، وهذا اسلم. (اشارات الاعجاز ص150).



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 120
مقدمة المقصد الاول
من المعلوم لدى المدققين ان مقاصد القرآن اربعة: اثبات الصانع الواحد، النبوة، الحشر الجسماني، العدل.
فالمقصد الأول يخص الدلائل على الصانع الجليل، ومحمد صلى الله عليه وسلم أحد براهينه.
هذا وان وجود الصانع ووحدانيته اجلّ واظهر واغنى من ان يحتاج الى اثبات، ولاسيما لدى مخاطبة المسلمين، لذا وجهت كلامي هذا الى الاجانب، وبخاصة اليابانيين؛ اذ قد سألوا في السابق مجموعة من الاسئلة، فأجبتهم عنها في حينه، وادرج هنا قسماً من تلك الأجوبة.
منها: [ما الدليل الواضح على وجود الآله، الذي تدعوننا اليه؟ والخلق من اي شيء؟ أمن العدم أو المادة أو ذاته؟ الى آخر اسئلتهم المرددة].
ارجو المعذرة عن الغموض الذي يكتنف كلامي، اذ لايمكن حصر معرفة الله التي لا حدود لها في مثل هذا الكلام المحدد.
ان القصد من الكلام الآتي: انجلاء الحقيقة في المجموع، باظهار طريق المحاكمة العقلية وعقد الموازنات، لأن تحرى النتيجة بتمامها في كل جزء من اجزاء المجموع سترٌ للحقيقة بالاوهام والشكوك، بسبب من جزئية الذهن وسيطرة قوة الوهم.
ان الذي يحجب ظهور الحقيقة: الرغبة في المعارضة.. وإلتزام جانب المعارض.. وإعذار المرء نفسه - بالتزامه لها - وارجاع أوهامه الى أصل موثوق.. وتتبع الهفوات والعيوب.. والتحجج بحجج واهية صبيانية.. وامثالها من الامور.
فان استطعت ان تجرد نفسك منها، فقد وفيت بشرطي، فاستمع اذاً بقلب شهيد:


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 121
المقصد الاول

ان كل ذرة من ذرات الكائنات، بينما هي مترددة في إمكانات واحتمالات غير محدودة، بذاتها وصفاتها وسائر وجوهها، اذا بها تسلك مسلكاً معيناً، وتتجه وجهة مخصصة، فتنتج مصالح وفوائد تتحير منها الألباب. مما تدل على وجوب وجوده سبحانه، وتشهد شهادة صادقة عليه، وفي الوقت نفسه تزيد سطوع الايمان المودع في اللطيفة الربانية للانسان الممثلة لنموذج عوالم الغيب.
نعم! كما ان كل ذرة من ذرات الكون تدل على الخالق الكريم بذاتها وبوجودها المنفرد، وبصفاتها، وخواصها، فانها تدل عليه دلالات اكثر: بمحافظتها على موازنة القوانين العامة الجارية في الكون، اذ تنتج في كل نسبة مصالح متباينة، وفي كل مقام منه فوائد جليلة، لكونها جزءاً من مركبات متداخلة متصاعدة في اجزاء الكون الواسع؛ وذلك من حيث الامكانات والاحتمالات التي تسلكها في كل مرتبة، حتى انها تستقرئ دلائل الوجود فيها.. لذا غدت الدلائل على وجوده سبحانه اكثر بكثير من الذرات نفسها.
فاذا قلت: لِمَ اذاً لايراه كل فرد بعقله؟
الجواب: لكمال ظهوره جلّ وعلا.
نعم! ان هناك اجراماً مادية لاترى من شدة ظهورها - كالشمس - فكيف بالصانع الجليل المنزّه عن المادة!
تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الاعلى اليك رسائل
تأمل في صحائف العالم بعين الحكمة، فانظر كيف سطّر البارئ المصور في تلك الابعاد الشاسعة سلسلة الحوادث. وانعم النظر في تلك الرسائل الآتية من الملأ الاعلى كي ترفعك الى اعلى عليي اليقين.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 122
ان وجدان الانسان لاينسى الله قط. لما غُرز فيه من "نقطتي الاستمداد والاستناد" بل حتى لو عطّل الدماغ اعماله، فالوجدان لا ينسى؛ لانه منهمك بتلك الوظيفتين المهمتين؛ كالآتي:
ان قلب الانسان مثلما ينشر الحياة الى ارجاء الجسد، فالعقدة الحياتية في الوجدان - وهي معرفة الله - تنشر الحياة الى آمال الانسان وميوله المتشعبة في مواهبه واستعداداته غير المحدودة. كلٌ بما يلائمه، فتقطّر فيها اللذة والنشوة، وتزيدها قيمة وترفعها شأناً، بل تبسطها وتصقلها. هذه هي نقطة الاستمداد.
ثم ان معرفة الله نقطة استناد وحيدة للانسان، تجاه تقلبات الحياة ودوّاماتها، وتزاحم المصايب وتوالى النكبات. اذ لو لم يعتقد الانسان بالخالق الحكيم الذي امرُهُ كله حكمة ونظام، واسند الامور والحوادث الى المصادفات العمياء، وركن اليها والى ما يملكه من قوة هزيلة لا تقاوم شيئاً، فسينتابه الفزع والرعب وينهار من هول ما يحيط به من بلايا. وسيشعر بحالات أليمة تذكّر بعذاب جهنم.. وهذا ما لايتفق وكمال روح الانسان المكرم، اذ يستلزم سقوطه الى هاوية الذل والمهانة، مما ينافي روح النظام المتقن القائم في الكون كله.
وهذه هي نقطة الاستناد.. نعم! لا ملجأ الاّ بمعرفة الله!
اذن فالوجدان يطل على الحقائق بذاتها من هاتين النافذتين، فيرى هيمنة النظام على العالم كله، والخالق الكريم ينشر نور معرفته ويبثها في وجدان كل انسان من هاتين النافذتين.. فمهما اطبق العقل جفنه، ومهما اغمض عينه، فالفطرة تراه وعيون الوجدان مفتحة دائماً، والقلب نافذة مفتوحة.
تنبيه:
ان اصول العروج الى عرش الكمالات وهو معرفة الله جلّ جلاله اربعة:
اولها: منهاج علماء الصوفية، المؤسس على تزكية النفس والسلوك الاشراقي.
ثانيها: طريق علماء الكلام المبني على الحدوث والامكان.
هذان الاصلان وإن تشعبا من القرآن الكريم، الاّ ان فكر البشر قد افرغهما في صور اخرى فاصبحتا طويلة وذات مشاكل.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 123
ثالثها: مسلك الفلاسفة.
هذه الثلاثة ليست مصونة من الشبهات والاوهام.
رابعها: المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو اقصر طريق واوضحه واقربه الى الله واشمله لبنى الانسان.
ونحن قد اخترنا هذا الطريق. وهو نوعان:
الاول: دليل العناية
ان جميع الآيات الكريمة التي تعدد منافع الاشياء، تومئ الى هذا الدليل وينظم هذا البرهان.
وزبدة هذا الدليل: رعاية المصالح والحكم في نظام العالم الاكمل. مما يثبت قصْد الصانع وحكمته وينفي وهْمَ المصادفة.

مقدمة
على الرغم من أن كل انسان لا يستطيع ان يستقرئ استقراءً تاماً رعاية المصالح والانتظام في العالم ولا يمكنه ان يحيط بها، فقد تشكل - بتلاحق الافكار في البشرية عامة - علمٌ يخص كل نوع من انواع الكائنات، ذلك العلم ناشئ من القواعد الكلية المطردة في الكون، وما زالت العقول تكشف عن علوم اخرى.. وحيث أن الحكم لا يجري بكليته في ما لا نظام فيه، فكلية القاعدة اذن دليل على حسن انتظام النوع.. فبناء على كلية القاعدة هذه غدا كل علم من علوم الاكوان برهاناً على النظام الاكمل في العالم بالاستقراء التام.
نعم! ان اظهار المصالح المتعلقة بسلسلة الموجودات بوساطة العلوم، وبيان فوائد الثمرات المتدلية منها، وابراز الحكم والفوائد المنتشرة ضمن تلافيف انقلابات الاحوال.. يشهد شهادة صادقة على قصد الصانع الحكيم، ويشير اليه، ويطرد شياطين الاوهام كالنجم الثاقب.
اشارة: اذا جردت نفسك من حجاب الألفة التي هي سبب الجهل المركب، والتي تنشئ لدى الانسان النظر السطحي العابر.. وافرغت نفسك من محاولة إلزام الخصم،


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 124
بعدم الانصياع الى الحق ليس الاّ، تلك المحاولة التي تلقح الاوهام والشكوك وتسد الطريق الى العقل.. ونظرتَ الى حيوان صغير لا يرى الاّ بالمجهر، ورأيت ما تشف تلك الماكنة الصغيرة الدقيقة، الماكنة الالهية البديعة، عن وجود منتظم متناسق فيه، فلا تستطيع ان تقنع نفسك وتطمئنها، الى أن هذه الآلات الدقيقة ناشئة من مصنع الاسباب الطبيعية الجامدة التي لا شعور لها ولا حدّ لمجالها ولا اولوية لإمكاناتها، الاّ اذا استطعت من رفع المحالات الناشئة من اجتماع الضدين، أي وجود القوة الجاذبة والدافعة في تلك الذرة التي لا تتجزأ.
فان كانت نفسك تجد احتمالاً في هذه المحالات، فسترفع اسمك من سجل الانسانية!.
ولكن يجوز ان يكون الجذب والدفع والحركة التي هي اساس كل شئ - كما يظنون - اسماء وعناوين قوانين الله الجارية في الكون. ولكن بشرط الاّ تتحول القوانين الى طبيعة فاعلة، والاّ تخرج من كونها امراً ذهنياً الى أمر خارجي مشاهد، والاّ تتحول من كونها شيئاً اعتبارياً الى حقيقة ملموسة، ولا من كونها آلة تتأثر الى مؤثر حقيقي.
(فارجع البصر هل ترى من فطور) (الملك: 3) كلا! فالمبصر لايرى نقصاً، الاّ ان كان اعمى البصر والبصيرة، أو مصاباً بقصر النظر!
فان شئت فراجع القرآن الكريم، تجد دليل العناية بأكمل وجه، في وجوه الممكنات، لأن القرآن الكريم الذي يأمر بالتفكر في الكون، يعدّد ايضاً الفوائد ويذكّر بالنعم الالهية.. فتلك الآيات الجليلة مظاهر لهذا البرهان، برهان العناية.
استمسك بما ذكرناه، فانه اجمال، أما التفصيل، فنفسّره في الكتب الثلاثةالتي عقدنا العزم على كتابتها لبحث علم السماء والارض والانسان، كمنهج تفسير في الآفاق والأنفس، ان شاء الله ووفق، وعندها تجد هذا البرهان بوضوح تام.
الدليل القرآني الثاني: دليل الاختراع
وخلاصته: ان الله تعالى قد اعطى كل فرد، وكل نوع ، وجوداً خاصاً، هو منشأ آثاره المخصوصة، ومنبع كمالاته اللائقة. فلا نوع يتسلسل الى الأزل، لأنه من


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 125
الممكنات. فضلاً عن أن حدوث قسم منها مشاهد وقسم آخر يراه العقل بنظر الحكمة.
ان انقلاب الحقائق محال. وسلسلة النوع المتوسط لا تدوم. أما تحول الاصناف فهو غير انقلاب الحقائق.
ولما كان لكل نوع آدم وجدّ اكبر، فالوهم الباطل الناشئ من التناسل في سلسلة كل نوع لايسري الى اولئك الادميين والاجداد الاوائل. اذ إن الفلسفة وعلم الجيولوجيا وعلم الحيوان والنبات، يشهد أن الانواع التي يزيد عددها على مئتي ألف نوع، كل منها له مبدأ وأصل معين، وجدّ اكبر، بمثابة آدم لذلك النوع، وكل مبدأ منها قد حدث حدوثاً مستقلاً عن غيره. وكل فرد من هذه الانواع الوفيرة كأنه ماكنة بديعة عجيبة تبهر الأفهام، فلا يمكن ان تكون القوانين الموهومة الاعتبارية والاسباب الطبيعية العمياء الجاهلة، موجدة لهذه السلاسل العجيبة من الافراد والانواع،بل هي عاجزة عجزاً مطلقاً عن ايجادها.. اي أن كل فرد، وكل نوع، يعلن بذاته أنه صادر صدوراً مستقلاً عن يد القدرة الالهية الحكيمة.
نعم ! ان الصانع الجليل قد ختم في جبهة كل شئ ختم الحدوث والامكان.
ان اعطاء احتمال تشكل الانواع من أزلية المادة وحركة الذرات العشوائية، وغيرها من الامور الباطلة، إنما هو لمجرد اقناع النفس بشئ آخر غير الايمان بالله، ولاينشأ هذا الاحتمال الاّ من عدم الادراك، ومن فساد الفكر، بالنظر السطحي العابر. ولكن ما ان قصدَ الانسان وتوجّه بالذات الى اقناع نفسه، فلابد أنه سيقف على محالية الفكرة وبُعدها عن المنطق والعقل. ولو اعتقدها، فلا يعتقد الاّ اضطراراً بالتغافل عن الخالق سبحانه.
ان الانسان - المكرم من حيث جوهر انسانيته - يبحث دوماً عن الحق، ويتحرى الحقيقة دائماً، وينشد السعادة على الدوام. ولكن اثناء بحثه عن الحق يعثر على الباطل والضلال دون ان يشعر، واثناء تنقيبه عن الحقيقة يقع الباطل على رأسه بلااختيار منه أي كلما خاب في الحصول على الحق ويئس من وجدان الحقيقة قَبل مضطراً أمراً محالاً وغير معقول، يقبله بالنظر السطحي والتبعي، مع أنه يعرف يقيناً بفطرته الاصلية ووجدانه وفكره انه محال.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 126
خذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار وضعها نصب العين:
ان ما يتوهمونه من أزلية المادة والحركة، من جراء تغافلهم عن نظام العالم.. وما يتخيلونه من مصادفة عشواء في الصنعة البديعة التي تبهر العقول.. وما يعتقدونه من تأثير حقيقي للاسباب الجامدة، رغم شهادة جميع الحِكَم على عدم تأثيرها.. وما يغالطون به انفسهم ويتسلّون به من اسناد كل شئ الى الطبيعة الموهومة المتخيلة المتجسمة، بسبب استمرار اغواء الوهم.. فان فطرتهم ترد هذه المحالات والاوهام وترفضها.
ولكن متى ما توجه الانسان الى الحق يقصده، تعرض له على جانبي الطريق هذه الاوهام، من دون دعوة منه ولا طلب. فمن سدد النظر الى غرضه ونصب هدفه امام عينه، نظر الى الاوهام الباطلة نظر العابر السطحي، من دون ان ينفذ باطنها الملئ باللوثات. واذا ما توجه اليها شارياً لها يراها لا تستحق حتى الالتفات اليها فكيف بالشراء! بل يشمئز وجدانه منها ويستحيلها عقله ويمجها قلبه، الاّ ان يشاغب، وتستفزه السفسطة؛ فيقبل في كل ذرة عقل الحكماء وسياسة الحكام! كي تتشاور كل ذرة وتتحاور مع اخواتها على الاتفاق والانتظام. فهذا المسلك وهذا شأنه لايقبله حتى الحيوان! ولكن ما الحيلة فان لازم البينة من المسلك نفسه، وهذا المسلك لا يصّور الا بهذه الصورة.
نعم ان شأن الباطل هو أنه اذا نظر اليه الانسان نظر التبعي العابر يعطى له صحة الاحتمال، بينما اذا انعم النظر فيه يُرفع ذلك الاحتمال ويدفع.
ان ما يسمونه بالمادة لا تتجرد عن الصورة المتغيرة ولا عن الحركة الحادثة الزائلة، اى ان حدوثها محقق. فيا ترى ان من يضيق عقله عن ادراك ازلية الله سبحانه، وهي صفة لازمة ضرورية للذات الجليلة، كيف يتسع عقله لأزلية المادة التي تنافي الازلية منافاة مطلقة.. حقاً ان هذا شئ عجاب. حتى ان الانسان يندم على انسانيته كلما فكر في هؤلاء الذين يحيلون هذه المصنوعات البديعة الى المصادفة العمياء وحركة الذرات ويستغربون صدورها عن الصانع الجليل المتصف بجميع الصفات الكمالية.
ان القوى والصور الحاصلة من حركة الذرات كما يدّعون، لاتشكل المباينة الجوهرية للانواع، بسبب عَرَضيتها، فالعرض لايكون جوهراً قط. بمعنى أن فصول



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:41 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 127
هذه الانواع والخواص المميزة لعموم الاعراض انما هي مخترع من العدم الصرف. والتناسل في التسلسل انما هو الشرائط الاعتيادية.
فهذا اجمال دليل الاختراع وان شئت تفصيله بوضوح فادخل جنان القرآن الكريم فانه لا رطب ولا يابس إلا ّ وتفتح في كتاب مبين زهرةً زاهية او برعماً لطيفاً.
فإن شاء الله تعالى، ووفقني، وساعد الأجل، سأعرض اللآلئ التي تزين هذا البرهان مستخرجاًَ اياها من اصداف الفاظ القرآن.
اذا قلت: ما هذه الطبيعة والقوانين والقوى التي يسلّون بها أنفسهم؟
فالجواب: أن الطبيعة هي شريعة الهية فطرية، اوقعت نظاماً دقيقاً بين أفعال وعناصر واعضاء جسد الخليقة المسمى بعالم الشهادة، هذه الشريعة الفطرية هي التي تسمى بالطبيعة والمطبعة الالهية.
نعم! ان الطبيعة هي محصلة وخلاصة مجموع القوانين الاعتبارية الجارية في الكون. أما ما يسمونه بـ"القوى" فكل منها حكم من أحكام هذه الشريعة. أما القوانين فكل منها عبارة عن مسألة من مسائلها، ولكن لاستمرار احكام هذه الشريعة واطراد مسائلها، وتهيؤ النفوس التي ترى الخيال حقيقة وتريها هكذا، تسلّط الخيال وضيق الفهم، فتجسمت الطبيعة حتى اصبحت موجوداً خارجياً وتنزلت من الخيال الى المثال. وكم للوهم من حيل تروج.
لا يقنع العقل ولا ينجذب الفكر ولا يأنس نظر الحقيقة الى كون آثار القدرة - التي تتحير منها العقول - صادرة من صنعة هذه الطبيعة الشبيهة بالمطبعة، او من امور يسمونها قوى عامة. علماً انها تفتقر الى قابلية لتكون مصدراً أو علّة لوجود هذه الكائنات. فليس اذاً الاّ التغافل عن الله الحكيم والاّ الاضطرار المتولد من إلجاءات الانتظام الجاري في الكون فيتخيلون الطبيعة مصدراً، وهي ليست الاّ مِسطراً، وما محاولة انتاج الملزوم الاخص من اللازم الاعم الاّ قياس عقيم. وهذا القياس العقيم فتح الطرق الكثيرة الى وديان الضلالة والحيرة.
ان الشريعة - والقانون - هي نظّام الافعال الاختيارية، فمع كثرة المخالفات والخرق، يتصور كثير من الجهلة كأن الشريعة حاكم روحاني، ويتصورون النظام كأنه سلطان معنوي، فيتخيلون ان لهما تأثيراً.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 128
فالبدوي الذي لم ير الحضارة، اذا ما شاهد حركات الجنود في طابور، حركة مطردة واطواراً منسقة واحوالاً مرتبطة، ظن ان هؤلاء الافراد العديدين أو الهيئة العسكرية مرتبط بعضهم ببعض بحبل معنوي!
أو أن شخصاً عامياً أو ذا طبع شاعري، تراه يتصور النظام الذي يربط الناس بعضهم ببعض موجوداً معنوياً، أو يتصور ان الشريعة خليفة روحانية، وهكذا يغالى من يتصور الشريعة الفطرية الالهية المتعلقة باحوال الكائنات، انها الطبيعة، تلك الشريعة التي لم تخرق الاّ تكريماً للانبياء وتصديقاً للاولياء اذ هي مستمرة دائمة. فكيف لاتتجسم الاوهام على هذا النمط من التصورات؟
كما ان استماع الانسان وتكلمه وملاحظته وتفكره جزئية تتعلق بشئ فشئ على سبيل التعاقب، كذلك همته جزئية لا تشتغل بالاشياء الاّ على سبيل التناوب فبوساطة التعاقب يتعلق بشئ فحسب وينشغل به.
ثم ان قيمة الانسان بنسبة ماهيته، وماهيته بدرجة همته، وهمته بمقدار اهمية المقصد الذي يشتغل به.
ثم ان الانسان الى أي شئ توجّه يفنى فيه، وينحبس عليه، وكأنه يكون مصداق: "الفناء في المقصد" فبناء على هذه النقطة ترى الناس - في عرفهم - لايسندون شيئاً خسيساً وأمراً جزئياً الى شخص عظيم، بل الى الوسائل، ظناً منهم ان الاشتغال بالأمر الخسيس لا يناسب وقاره، وهو لا يتنزل له، ولايسع الامر الحقير همته العظيمة، ولايوازن الامر الخفيف مع همته العظيمة.
ثم ان من شأن الانسان اذا تفكر في شئ، يتحرى مقاييسه واسسه في نفسه، وان لم يجدها ففيما حوله وفي ابناء جنسه. حتى انه اذا تفكر في واجب الوجود المنزّه عن الشبه بالممكنات، تلجئه قوته الواهمة لأن يجعل هذا الوهم السئ المذكور دستوراً، والقياس الخادع منظاراً، مع ان الصانع جل جلاله لا يُنظر اليه من هذه النقطة، اذ لا انحصار لقدرته. لأن قدرته وعلمه وارادته جل جلاله كضياء الشمس - ولله المثل الاعلى - شاملة لكل شئ، وعامة لكل أمر، فكما تتعلق باعظم شئ تتعلق بأصغره واخسه. فمقياس عظمته تعالى وميزان كماله سبحانه مجموع آثاره، لا كل جزء منه، اذ لا يصلح ان يكون مقياساً.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 129
وهكذا فقياس واجب الوجود بالممكنات قياس مع الفارق، ومن الخطأ المحض المحاكمة العقلية بالوهم الباطل المذكور.
فبناء على هذا الخطأ المشين للادب، وتسلط الوهم الباطل، اعتقد الطبيعيون تأثير الاسباب تأثيراً حقيقياً، وادّعى المعتزلة ان الحيوان خالق لأفعاله الاختيارية، ونفى الفلاسفة علم الله بالجزئيات، وقال المجوس: ان للشر خالقاً غيره تعالى. اذ ظنوا وتوهموا ان الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنزهه، كيف يتنزل الى الاشتغال بمثل هذه الامور الجزئية الخسيسة. فتباً لعقولهم التي حبست نفسها اسيرة في هذا الوهم الباطل.
ايها الاخ! ان هذا الوهم ان لم يرد من جهة الاعتقاد، فقد يستحوذ على المؤمنين من حيث الوسوسة.
اذا قلت: ان دليل الاختراع هواعطاء الوجود، واعطاء الوجود يصاحب اعدام الموجود، بينما عقولنا لا تستوعب ظهور الوجود من العدم الصرف، وانقلاب الوجود المحض الى العدم المحض.
فالجواب: يا هذا! ان ما تستصعبونه وتستغربون منه في تصوركم هذه المسألة، هو النتيجة الوخيمة لقياس خادع مضل. اذ تقيسون الايجاد والابداع الالهي بكسب العبد وصنعته، والعبد عاجز عن اماتة ذرة واحيائها. وليس له الاّ الصنعة والكسب في الامور الاعتبارية والتركيبة.
نعم ان هذا القياس خدّاع لا ينجو الانسان منه.
وحاصل الكلام: لما لم ير الانسان في الكائنات قدرة وقوة تتملكها الممكنات الى درجة تتمكن بها الايجاد من العدم المحض، ويبني حكمه على مشاهداته وينشئه منها، اذ ينظر الى الآثار الإلهية من جهة الممكنات، بينما عليه ان ينظر اليها من جهة القدرة الإلهية الثابتة بآثارها المحيرة للالباب. فتراه يفرض الصانع الجليل في قوة وقدرة العباد التي لا تأثير لها الاّ في الامورالاعتبارية. اي في قوة موهومة. فينظر الى المسألة من هذه الزاوية، مع انه يجب عليه ان ينظر اليها من جانب القدرة التامة للواجب الوجود.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 130
اشارة: فلو اخذت آثار احد من الناس بنظر الاعتبار في محاكمة عقلية، يجب اخذ خاصته ايضاً. ولكن لانه لم تؤخذ هذه القاعدة في هذه المسالة، فقد نظر اليها من خلال عجز العبد تحت ستار القياس التمثيلي لقدرة الممكنات. بينما نرى في تكوين العالم ان الله سبحانه وتعالى يخلق قسماً من الممكنات بالابداع - اي بدون مادة - وقسماً آخر بالاختراع - أي ينشؤه من المادة - وهكذا بث في الوجود هذه الآثار المعجزة الباهرة، واظهر قدرته المطلقة بجلاء.
فالانسان اذا صرف نظره عن هذا، ورأى الغائب بصورة الشاهد بقياس خادع او وضع ابناء جنسه في المحاكمة العقلية، اي لو نظر الى واجب الوجود من هذه الزاوية المحددة، توهم ان كثيراً من الامور المعقولة التي يستصوبها العقل السليم غير معقولة.
فلو صرفنا النظر عن المخترعات، فان القوانين العجيبة للضوء - وهو نور عين العالم وانور المصنوعات - ونواميسه البديعة المصغرة في بصر الانسان في ترسيماتها على شبكيته التي اعيا على العقول حلها.. اقول اذا قيست هذه التي تُعد بعيدة عن العقل بكمال القدرة الالهية لرآها الانسان مأنوسة مألوفة وبين اهداب عين العقل وبصره.
وكما ان النظريات تستنتج من الضروريات، كذلك ضروريات آثار الله وصنعته دليل،اي دليل، على مخفيات صنعته. وكلاهما معاً يثبتان هذه المسألة.
فهل يمكن ان يتصور العقل ادق واعجب واغرب من صنعة الله في نظام العالم، وابعد من جنس الممكنات وقدرتها؟ لاشك لايتصور، لأن الحكم والفوائد التي بينتها العلوم تشهد بالضرورة على قصد الصانع وصنعته وحكمته. حتى اضطرت العقول الى قبولها. والاّ فالعقل بمفرده لايقبل اصغر حقيقة من هذه البديهيات.
نعم! ان الذي حمل الارض ورفع السموات بغير عمد وسخر الاجرام وادخل الموجودات تحت نظام، فلا يعصونه في امره كيف يُستغرب منه ان يحمل ما هو اخف واسهل بدرجات لا تقدر.
نعم ان الشك في قدرة من يرفع الجبل عن ان يرفع صخرة ليس الاّ سفسطة.
الحاصل: كما ان القرآن يفسر بعضه بعضاً، كذلك سطور كتاب العالم يفسّر ماوراءه من اتقان وحكمة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 131
اذا قلت: يظهر من كلام قسم من المتصوفة معنى الاتصال والاتحاد والحلول. فيتوهم من كلامهم وجود علاقة مع مذهب وحدة الوجود الذي يتبناه قسم من الماديين.
الجواب: ان شطحات محققي الصوفية، التي هي من قبيل المتشابهات، لم يفهمها هؤلاء، اذ ان مسلكهم المبني على الاستغراق وحصر النظر في الذات الالهية والتجرد من الممكنات قد ساقهم الى ان يكون مطمح نظرهم رؤية النتيجة ضمن الدليل، اي سلكوا مسلك رؤية الصانع الجليل من خلال العالم!. فعبّروا عن جريان التجليات الالهية في جداول الاكوان وسريان الفيوضات الالهية في ملكوتية الاشياء ورؤية تجلي اسمائه وصفاته سبحانه في مرايا الموجودات. عبروا عن هذه الحقائق - لضيق الالفاظ - بالالوهية السارية والحياة السارية. هذه الحقائق لم يفهمها اولئك، اذ طبقوا شطحات المحققين الصوفيين على وهام واهية ناشئة من سوء الفهم وفقر الاستعداد.. فسحقاً وبعداً لعقولهم.
ان الافكار المجردة للعلماء المحققين التي هي بسمو الثريا ابعد بكثير من افكار سافلة للمقلدين الماديين التي هي في دركات الثرى.
نعم! ان محاولة تطبيق هذين الفكرين، في هذا العصر، عصر الرقي، دليل على اصابة العقل البشري بسكتة دماغية، وتنظر الانسانية الى هذا الامر نظر الاسف والاسى وتضطر الى ان تقول بلسان مواهبها وقابلياتها للرقي والتحقيق العلمي: [كلا.. والله.. اين الثرى من الثريا، واين الضياء من الظلمة الدامسة].
اشارة: ان هؤلاء هم اصحاب "وحدة الشهود"، ولكن قد يعبّر عنهم مجازاً باهل "وحدة الوجود" حيث ان وحدة الوجود على حقيقته مسلك باطل لقسم من الفلاسفة القدماء. تنبيه:
لقد قال رئيس هؤلاء المتصوفة وكبيرهم: "من ادّعى الاتصال او الاتحاد اوالحلول، لم يشم من معرفة الله شيئاً. كيف يتصل او يتحد الممكن بالواجب؟ بل أي قيمة للممكن حتى يحل فيه الواجب، تعالى الله وتقدس مما توهم المتوهمون" نعم يتجلى


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 132
فيض من فيوضات الله في الممكن. فمسلك هؤلاء لا علاقة له ولا مناسبة فيه مع اولئك، ولاتماس بينهما قطعاً، لان مسلك الماديين حصر النظر في المادة والاستغراق فيها، حتى تجردت افكارهم وتعرت اذهانهم عن فهم الالوهية وابتعدوا عنه، بل اعطوا للمادة قيمة واهمية عظيمة حتى رأوا فيها كل شئ. بل ولج قسم منهم في مسلك دنئ حيث مزجوا الالوهية بالمادة.
اما اهل "وحدة الشهود" وهم المحققون الصوفيون فقد حصروا نظرهم في واجب الوجود حتى لم يروا للممكنات قيمة، فقالوا: هو الموجود..
الانصاف الانصاف ايها الناس! فالبعد بين المذهبين بعد الثرى عن الثريا. اقسم بالله الذي خلق المادة بانواعها واشكالها، لا ارى في الدنيا ابشع واخسّ وانعى على صاحبه بانحراف مزاج عقله من الرأى الاحمق الذي ينتج التماس بين هذين المسلكين.تنوير:
لو افترض - مثلاً - ان الكرة الارضية قد تشكلت من قطع زجاجية صغيرة جداً مختلفة الالوان، فلا شك ان كل قطعة منها ستستفيض من نور الشمس حسب تركيبها وجرمها ولونها وشكلها.
فهذا الفيض الخيالي ليس الشمس بذاتها ولا ضياءها بعينه. اذ لو نطقت الوان الازهار الزاهية المتجددة - والتي هي تجليات ضياء الشمس، وانعكاسات الوانه السبعة - لقال كل لون منها: ان الشمس مثلي. او ان الشمس تخصني انا.
آن خيالاتى كه دام اولياست عكس مهرويان بوستان خداست 1
ولكن مشرب اهل وحدة الشهود هو: الصحو والتمييز والانتباه، بينما مشرب اهل وحدة الوجود هو: الفناء والسكر. والمشرب الصافي هو مشرب الصحو والتمييز.
حقيقــــــة المرء ليــس المرء يدركها فكيـــف كيفية الجــبار ذي القــدم
هو الذي ابدع الاشــياء وانشــأها فكيف يدركه مستحدث النسم؟ 2
_____________________
1 بيت شعر باللغة الفارسية يعني: (ان الخيالات التي هي شباك الاولياء انما هي مرآة عاكسة تعكس الوجود النير في حديقة الله). والشعر للرومي في مثنويه ج1 / ص3 ط. بومباي.
2 ينسب الى الامام علي كرم الله وجهه - ديوان الامام علي ص158 - بيروت.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 133
تنبيه:هذه هي الدلائل الاجمالية لوجود الصانع، سترد تفاصيلها في الكتب الثلاثة.
اذا قلت: اريد بيان دلائل التوحيد ولو اجمالاً.
اقول: ان دلائل التوحيد اكثر بكثير من ان يضمها هذا الكتاب. وما تضمنته الآية الكريمة
(لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا) (الانبياء: 22) من برهان التمانع دليل كاف، ومنار ساطع على هذا المنهاج.
نعم! الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للالوهية.
ان تشابه آثار العالم، وتعانق اطرافه، واخذ بعضه بيد بعض، وتكميل بعضه انتظام البعض الآخر، وتجاوب الجوانب، وتلبية بعض لسؤال بعض، ونظر الكل الى نقطة واحدة، وحركة الكل بالانتظام على محور نظام واحد، تلوّح بوحدانية الصانع بل تصرح: بان صانع هذه الماكنة الواحدة واحد. وتتلو على الكل:
وفي كل شئ له آيــــة تدل علــى انه واحـــد
ان الابعاد الشاسعة غير المتناهية للآفاق صحائفُ كتاب العالم
والاثار التي لا تعد سطورُ كائنات الدهر
لقد طُبعت في لوح الطبيعة المحفوظ:
ان كل موجود لفظ مجسم حكيم.
لا شك ان الشاعر الفاضل "تحسين" 1 لا يقصد بغير المتناهي وغير المعدود معناه الحقيقي وانما امر نسبي.
اشارة: ان الصانع الجليل متصف بجميع الاوصاف الكمالية. لانه من المقرر: ان ما في المصنوع من فيض الكمال، مقتبس من ظل تجلي كمال صانعه. فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحسن ما هو اعلى بدرجات غير متناهية حتماً من عموم ما في الكائنات من الحسن والكمال والجلال. اذ الاحسان
_____________________
1 اصله من ألبانيا درس العلوم الحديثة في باريس ثم اصبح مديراً لدار الفنون (الجامعة) باستانبول. عالم فاضل وشاعر رقيق الاّ انه لم يطبع له ديوان. توفي سنة 1291 رومي. - المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 134
فرع لثروة المحسن ودليل عليها، والايجاد، لوجود الموجد، والايجاب لوجوب الموجب، والتحسين لحسن المحسن المناسب له.
وكذلك ان الصانع منزّه عن جميع النقائص، لأنها تنشأ من عدم استعداد ماهيات الماديات، وهو تعالى مجرد عن الماديات. وكذلك انه تعالى مقدس عن لوازم واوصاف نشأت من امكان ماهيات الكائنات، وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شئ جل جلاله.

مقدمةان قلت: لقد ذكر في الديباجة ان الكلمة الثانية من كلمتي الشهادة شاهدة على الاولى ومشهودة.
الجواب: نعم ! ان أقوى منهج من بين المناهج المؤدية الى معرفة الله، كعبة الكمالات، واكثرها استقامة، هو المحجة البيضاء التي سلكها صاحب المدينة المنورة صلى الله عليه وسلم. ذلك المنهج الذي ترجمه لسانه الصادق المبارك العاكس كالمرآة لما في قلبه الشريف - الذي هو كمشكاة مطلة على عوالم الغيب - فهو صلى الله عليه وسلم روح الهداية، واصدق شاهد حي وافصح برهان ناطق واقطع حجة على الصانع الجليل؛ اذ من حيث الخليقة، ذاته برهان باهر، ومن حيث الحقيقة لسانه شاهد صادق.
نعم! ان محمداً صلى الله عليه وسلم حجة قاطعة على وجوده تعالى وعلى النبوة وعلى الحشر وعلى الحق وعلى الحقيقة. كما سيأتي تفصيله.
تنبيه : لا يلزم الدور؛ لان صدقه ثابت بادلة لاتتوقف على ادلة الصانع.
تمهيد: ان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم برهان على وجوده تعالى، لهذا يجب اثبات صدق هذا البرهان، ونتاجه وصحته صورة ومادةً، نحو:


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 135
المقصد الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد الذي دل على وجوب وجودك
اما بعد:
فياعاشق الحقيقة! ان كنت تتحرى الحقائق بمطالعة وجداني انا، فطهّر قلبك، تلك اللطيفة الربانية، من الصدأ، اي: الرغبة في المعارضة والخلاف.. والتزام طرف المخالف والمعارض.. واعذار النفس بارجاع اوهامك الى اصل لتحقيقها.. وطلب رؤية نتيجة المجموع في كل فردٍ، الذي يضعف بانفراده عن حمل النتيجة، فيجلب لك استعداداً سيئاً لردّ النتيجة.. او التطلع بطبيعة الصبيان، او سجية الاعداء، اي التشبث بحجج واهية.. او تقمص طبيعة المشتري الذي يتحرى العيوب والنقائص.. وامثالها من الامور.
فاصقل تلك المرآة وطهرها منها، ثم ابدا بالموازنة والمقابلة واجعل الشعلة الجوّالة الناتجة من امتزاج اكثر الامارات قرينة منوِّرة على اقلها، كي تتنور هذا القليل من اوهامك المظلمة ويندفع.
ثم استمع بقلب شهيد وبانصاف ورويّة، ولا تعترض حتى يبلغ الكلام أجله، فانه الى الختام جملة واحدة، حكم واحد، ومن بعد ذلك ان بقي لك ماتقول فاذكره.
استمع الى ما اقول فاني ابدأ بالاصغر: برهان النبوة مطلقاً، ثم الاكبر: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
اعلم! ان حكمة الصانع الجليل.. وعدم العبثية في افعاله.. ومراعاته النظام في اقل ما في العالم.. وعدم اهماله اخسّ مافيه.. وضرورة حاجة البشرية الى مرشد.. كل ذلك يستلزم قطعاً النبوة في نوع البشر.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 136
ان قلت: لم افهم هذا الاجمال، يرجى التفصيل:
اقول: اسمع، فانك تشاهد ان النبوة المطلقة التي هي بمثابة معدن نظام البشرية المادي والمعنوي، ومركز انتظام احوال كثير من الانواع التي ضمتها تحت تصرفها قوة العقل.. هذه النبوة المطلقة برهانها: رقي الانسان على الحيوانية في ثلاث نقط:النقطة الاولى:ادراك الانسان وكشفه عن الترتيب في الاشياء، الناشئ من العلل المترتبة المتسلسلة في الخلقة.. وقابليته العلمية والتركيبية ومعرفته الحاصلة من تحليله مركبات بذور كمالات الانسانية الى بسيطات، وارجاعها الى اصلها.. وقدرته على محاكاة الطبيعة،ومساوقة نواميس الله الجارية في الكون بصنعته ومهارته، بالسر الكامن في القاعدة: (بداية الفكر نهاية العمل، نهاية الفكر بداية العمل).فالانسان الذي هذه قابلياته، يدرك قصور نظره في صنعت، وزحمة الاوهام عليه، وافتقاره في جبلته الانسانية.. مما يدله على حاجته الماسة الى نبي مرشد، يحافظ على موازنة النظام المتقن في العالم.

النقطة الثانية: هي استعداد الانسان غير المتناهي، وآماله ورغباته غير المحصورة، وافكاره وتصوراته غير المحدودة، وقوته الشهوية والغضبية غيرالمحددّة.
فنرى الانسان يتأسفُ ويتأفف ويقول: ليت كذا وكذا، حتى لو منح ملايين السنين من العمر وتمتع بلذائذ الدنيا وحكم حكماً نافذاً في كل شئ.. وذلك بحكم اللاتناهية المغروزة في استعداده، فكأن عدم الرضا هذا يرمز ويشير الى ان الانسان مرشح للأبد، ومخلوق للسعادة الابدية. كي يتمكن من تحويل استعداده غير المحصور من طور القوة الى طور الفعل في عالم غير متناهٍ وغير محدود بحدود، واوسع بكثير من عالمه هذا.
ان عدم العبثية، وثبوت حقائق الاشياء تومئان الى: ان هذه الدنيا الدنية الضيقة المحصورة، وتزاحم كثير من الاعراض فيها والتي لاتخلو من التحاسد والاضطراب،



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:42 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 137
لاتسع كمالات الانسانية، بل تحتاج تلك الكمالات الى عالم ارحب لا تزاحم فيه، كي يتسنبل استعداد البشر وينمو نمواً كاملاً، فيكون منسجماً مع نظام العالم بانتظام احوال كمالاته.
ولقد اُومئ الى الحشر استطراداً، وسيُبرهن بالبرهان القاطع في موضعه. ولكن الذي اريد قوله هو:
ان استعداد الانسان مسدّد نحو الأبد. فان شئت فتأمل في جوهر الانسانية، وقيمة ناطقيته، ومقتضى استعداده، ثم انظر الى الخيال الذي هو اصغر خادم لجوهر الانسانية، واذهب اليه وقل: ايها الخيال السيد، أبشر فسيوهب لك عمراً يزيد على ملايين السنين مع سلطنة الدنيا وما فيها.. ولكن عاقبتك الفناء والعدم وعدم العودة الى الحياة. ثم انظر كيف يقابلك الخيال؟ أبالبشارة والسرور ام بالحسرة والندامة؟
بل ان جوهر الانسانية سيئنّ في اعماق الوجدان:
آه.. واحسرتاه.. على فقدان السعادة الابدية. وسيعنف الخيال ويزجره: يا هذا لا ترض بهذه الدنيا الفانية.
فياايها الاخ!
ان كانت سلطنة الدنيا الفانية لا تشبع خادم سلطان الانسانية او شاعره او صناعه او مصوره - وهو الخيال - ولا ترضيه، فكيف تشبعه وهو السيد الذي يعمل بين يديه الكثيرون من امثال ذلك الخادم؟
نعم انها لا تشبعه، ولن تشبعه الا السعادة الابدية المكنونة في صَدَف الحشر الجسماني.

النقطة الثالثة:
هي اعتدال مزاج الانسان، ولطافة طبعه، وميله الى الزينة، اي ميله الفطري الى العيش اللائق بالانسانية.
نعم ! ان الانسان لايعيش عيش الحيوانات، ولايسعه ذلك فهو محتاج لتحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه الى تلطيفها واتقانها بصنائع جمة، لا يقتدر هو


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 138
بانفراده عليها كلها، ولهذا احتاج الى الامتزاج مع ابناء جنسه، ليتشاركوا فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. ولكن لتجاوز قوى الانسانية على الاخرين - بسر عدم التحديد - تحتاج الجماعة الى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لان عقل كل واحد لا يكفي في درك العدالة، احتاج النوع الى وضع قوانين كلية.. ثم لمحافظة تأثيرها ودوامها، لابد من مقنن يجريها.. ثم لادامة حاكمية ذلك المقنن في الظاهر والباطن يحتاج الى امتياز وتفوق - مادة ومعنىً - و يحتاج ايضاً الى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالك الملك صاحب العالم.. ثم لتأسيس اطاعة الاوامر وتامين اجتناب النواهي يحتاج الى ادامة تصور عظمة الصانع وصاحب الملك في الاذهان.. ثم لإدامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج الى مذكّر مكرِر وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرِّر الاّ العبادة... وهذه العبادة توجه الافكار الى الصانع الحكيم، وهذا التوجه يؤسس الانقياد. والانقياد هو للايصال الى النظام الاكمل والارتباط به. وهذا النظام الاكمل يتولد من سر الحكمة، وسر الحكمة يشهد عليها اتقان الصنع وعدم العبثية.
فاذا علمت هذه الجهات الثلاث من تمايز الانسان عن سائر الحيوانات انتج لك بالضرورة: ان النبوة المطلقة في نوع البشر قطب بل مركز ومحور تدور عليه احوال البشر وذلك كالاتي:
دقق النظر في الجهة الاولى:
انه لما لم يكف ميل الانسان الطبيعي وسوق انسانيته، وقصر نظره، واختلاط الاوهام في طريق عقله.. احتاج البشر اشد الحاجة الى مرشد ومعلم.. فذلك المرشد هو النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم تدبر في الجهة الثانية:
ان اللاتناهية المغروزة في الانسان، وميله الى التجاوز في طبيعته، وعدم تحدد قواه، وعدم انضباط آماله. هذه اللاتناهية في الميول والآمال لايسعها قانون البشر الذي لا ينطبق على قامة استعداده النامية كثمرة لميله الى الترقي الذي هو غصن من شجرة ميل الاستكمال في العالم.
فعدم كفاية هذا القانون البشرى الحاصل نتيجة تلاحق الافكار والتجارب التدريجية، لإنماء بذور ثمرة استعدادات الانسان، احتاج الى شريعة الهية حية خالدة تحقق له سعادة الدارين معاً مادةً ومعنىً، وتتوسع حسب قامة استعداداته ونموها...


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 139
فالذي اتى بالشريعة هو النبي صلى الله عليه وسلم.
اذا قلت: اننا نشاهد ان احوال الملحدين او ذوي الاديان المنحرفة تجري على وفق العدالة والانتظام.
الجواب: ان تلك العدالة والانتظام انما نشآ بتذكير اهل الدين وارشاداتهم. فاسس العدالة والفضيلة شيّدها الانبياء عليهم السلام. اي ان الانبياء هم الذين ارسوا تلك القواعد والاسس. ثم اخذ هؤلاء بالفضيلة وعملوا بها ما عملوا، زد على ذلك فان نظامهم - وكذا سعادتهم - ليس دائماً بل موقتاً، فهو ان كان قائماً ويستقيم من جهة فهو منحرف ومائل من جهات كثيرة. اي: مهما يبدو منتظماً في صورته ومادته ولفظه ومعاشه الاّ انه في سيرته ومعناه وروحه فاسد ومختل.
ايها الاخ! الآن بدأ دور الجهة الثالثة. تفكر جيداً في الآتي:
ان الافراط والتفريط في الاخلاق يفسدان الاستعدادات والمواهب. وهذا الافساد ينتج العبثية، وهذه العبثية مناقض للحكمة الالهية المهيمنة برعاية المصالح والحكم حتى على اصغر شئ في العالم.
ان مايقال من "مَلَكة معرِفة الحقوق" اي التحسس احساساً مادياً بضرر كل ماهو فاسد، وكذا مايقال من "ملكة رعاية الحقوق" الحاصلة من تنبيه الافكار العامة وبث الوعى فيها. هذان الامران يجعلهما الملحدون بديلاً عن الشريعة الالهية. ان تصورهم هذا واستغناءهم عن الشريعة توهم باطل ليس الاّ. لأنه لم يظهر لحد الآن شيء من هذا الأمر في الدنيا وقد هرمت، بل حتى مقدماته! وانما صح العكس، اذ كلما رقت المحاسن رقت المساوي ايضاً وتزينت بارغب زي واخدعه.
نعم! ان نواميس الحكمة لا تستغني عن دساتير الحكومة، كما تحتاج البشرية اشد الحاجة الى قوانين الشريعة والفضيلة الحاكمة على الوجدان.
وهكذا فملكة تعديل الاخلاق الموهومة لا تكفي للمحافظة على القوى الثلاثة في الحكمة والعفة والشجاعة، لذا فالانسان بالضرورة محتاج الى نبي يمسك بميزان العدالة الالهية النافذة والمؤثرة في الوجدان والطبائع.
اشارة: لقد ظهر الوف الانبياء عليهم السلام واعلنوا النبوة واثبتوا نبوتهم بمعجزاتهم التي تربو على الالوف. فجميع اولئك الانبياء الكرام يعلنون بمعجزاتهم


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 140
بلسان واحد وجود النبوة المطلقة في نوع البشر، فهي برهان قاطع على النبوة المطلقة، صغرى البراهين. وهذا مايسمى بالتواتر بالمعنى او سمّوه ماشئتم من الاسماء، فهو دليل قوى.
تنبيه:
ان جهة الوحدة لهذه المحاكمات العقلية هي :
انه اذ اُخذت العلوم جميعها ونُظر الى ما كشفته بقواعدها الكلية من اتساق وانتظام.. ودُقق النظر في افعال واهية وامور ضعيفة تترابط وتتصل بخميرة تجمع مصالحها الجزئية المتفرقة، تلك هي اللذة او المحبة او امر آخر اودعته العناية الالهية في تلك الافعال والامور كما في المأكل والمنكح.. واذا عُلم عدم العبثية الثابت بشهادة الحكمة، وعدم الاهمال... فان النتيجة الحاصلة بالاستقراء التام هي:
ان النبوة التي هي قطب المصالح الكلية ومحورها ومعدن حياتها ضرورية لنوع البشر. فلو لم تكن النبوة لهلك النوع البشري. اذ كأنه ألقي من عالم مختل الى عالم منظم، فيخل بالقوانين الجارية العامة..
تنبيه:
ايها الأخ! فلو قبل هذا الفرض فكيف تجابه الانسانية سائر المخلوقات في العالم؟.. اذا انتقش في ذهنك صغرى براهين الصانع، فتهيأ لندخل الى مبحث كبرى براهينه وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
اشارة وارشاد:
البرهان الاكبر صادق. فاذا ما طالعت آثار الانبياء المنقوشة في صحيفة العبر في العالم ، واستمعت الى احوالهم الجارية بلسان التاريخ واستطعت ان تجرد الحقيقة - اي جهة الوحدة - من تأثير صور الزمان والمكان.. ترى: ان اموراً دفعت البشرية الى تسميتهم بالانبياء هي:
ان حقوق الله وحقوق العباد التي هي ضياء العناية الالهية وشعلة المحاسن المجردة، قد اتخذها الانبياء عليهم السلام دستور حركتهم.. ومعاملة الانبياء مع اممهم.. وتلقي الامم لهم.. وتركهم منافعهم الشخصية لاجل دعوتهم.. واموراً اخرى غيرها دفعت البشرية الى اطلاق النبوة عليهم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 141
اما الاسس التي هي مدار النبوة فهي تظهر باكمل وجه واظهره فيه صلى الله عليه وسلم، اذ هو استاذ ابناء البشر في سن كمال البشر، ومنبع العلوم العالية في مدرسة جزيرة العرب ومعلهما.
بمعنى انه بالاستقراء التام ولاسيما في النوع الواحد، ولاسيما بتأييد القياس الاولوي، وباعانة القياس الخفي المبني على الانتظام المطرد تنتج: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وبتجريد الخصوصيات المسماة بتنقيح المناط، فان جميع الانبياء عليهم السلام، يشهدون بلسان معجزاتهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم البرهان الباهر على وجود الصانع الجليل.

اعتذار:
اني لا اورد كلامي في جمل قصيرة، فتكون غامضة مع شئ من الاغلاق، اذ لما كانت هذه الحقائق قد مدت جذورها في كل جهة فان المسألة تطول، لذا لا اريد تجزئة صورة المسألة والاخلال بها وايلام الحقيقة. وانما اريد احاطة الحقيقة بسور دائري حوله، كي تنحصر الحقيقة ولا تفلت، فان لم استطع مسكها فليمسكها غيري. وان اعذرتموني فبها ونعمت، والاّ فكلٌ حرّ فيما يراه، ولا سبيل الى الاكراه .


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 142
"براهين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم"

مقدمة
ان كل حال من احواله صلى الله عليه وسلم، وكل حركة من حركاته دليل على صدقه .
نعم! ان عدم التردد في كل حركة من حركاته، وعدم مبالاته بالمعترضين، وعدم تخوفه من المخالفين.. شاهد على صدقه وجديته.
وان اصابته روح الحقيقة في اوامره كلها تدل على انه على الحق المبين.
نحصل من هذا: انه في الوقت الذي هو مبرأ من التخوف والتردد والاضطراب وامثالها من الامور التي تومئ الى الحيلة وعدم الثقة وفقدان الاطمئنان، تراه يلفت نظر اهل الدقة الى كل فعل من افعاله والى كل طور من اطواره، يلفتهم بالمبدأ على صدقه وفي المنتهى على اصابته الحق؛ اذ يعمل في اخطر المواقع دون تحرج وبقوة اطمئنان بالغ، ومن بعدذلك بلوغه الهدف في الختام بتأسيسه القواعد الحية المثمرة لسعادة الدارين، ولاسيما اذا لوحظ مجموع حركاته وامتزاجا، فالجدية واصابته الحق تشعان كالشعلة الجوالة، ويتجلى لعينك برهان نبوته من انعكاساتها وموازناتها.
اشارة: ان الزمان الماضي والزمان الحاضر - اي عصر السعادة النبوية - والمستقبل يتضمنان براهين نيّرة على النبوة، ويرددان بلسان واحد برهان ذاته صلى الله عليه وسلم بانه معدن الاخلاق العالية وداعي الصدق ودلال النبوة. فهذه الازمنة تدل وتعلن عن نبوته وتبينها حتى لمن فقد بصره، ولهذا سنطالع هذه الصحف الثلاث والمسالة العظمى من ذلك الكتاب.. وهي ذاته المباركة صلى الله عليه وسلم، فنزوره ونبين مدّعانا الذي هو البرهان الاكبر.
وبناء على هذه النقاط فمسالك النبوة اربعة. والخامسة منها مشهورة مستورة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 143
المسلك الاول للنبوة
يعني لا بد من معرفة اربع نكت لنرى ذاته الشريفة:
احداها: انه " ليس الكحل كالتكحل" اي لا يصل الصنعي والتصنعي - ولو كانا على اكمل الوجوه - مرتبة الطبيعي والفطري، ولا يقوم مقامه ، بل تومئ فلتات هيئته العامة الى التصنع والتكلف.
ثانيتها: ان الاخلاق العالية انما تتصل بارض الحقيقة بـ "الجدية" وان ادامة حياتها وانتظام مجموعها انما هي بـ"الصدق". ومتى ما انقطعت عرى الصدق والجدية منها صارت كهشيم تذروه الرياح.
ثالثتها:من القواعد وجود الميل والجذب في الامور المتناسبة ووجود الدفع والتنافر في الامور المتضادة، فكما ان هذه القاعدة جارية في الماديات، جارية ايضاً في الاخلاق والمعنويات.
رابعتها: للكل حكمٌ ليس لكلٍ.. ان آثار محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته المباركة وتاريخ حياته تشهد - مع تسليم اعدائه - بانه لعلى خلق عظيم، وانه قد اجتمعت فيه الخصال العالية كافة. ومن شأن امتزاج كثرة من تلك الاخلاق وتجمعها واحاطتها، توليد عزة النفس،التي تولد شرفاً ووقاراً يترفعان عن سفساف الامور، كترفع الملائكة وتنزههم عن الاختلاط بالشياطين، فالاخلاق السامية كذلك لاتسمح اصلاً بتداخل الحيلة والكذب بينها، بل تتنزه وتتبرأ وتترفع عنها، بحكمة التضاد فيما بينها.
ثم ان حياة هذه الاخلاق الرفيعة وروحها هي: الصدق واصابة الحق، فهما يضيئان كالشعلة المنورة ويعلنان عنها.
ايها الاخ! ألا ترى ان الشخص المشتهر بالشجاعة وحدها يترفع عن الكذب، لئلا يخل بالمقام الذي تعطيه تلك الصنعة، فكيف اذا اجتمعت جميع الخصال الرفيعة؟ نعم، للكل حكم ليس لكلٍ.
نشاهد في الوقت الحاضر: ان المسافة بين الصدق والكذب لاتتجاوز الاصبع، فكلاهما يباعان في سوق واحدة، ولكن لكل زمان حكمه، اذ لم يحدث قط في أي وقت مضى ان اتسعت الشقة بين الصدق والكذب اتساعه الذي حدث في عصر السعادة النبوية. فقد انجلى الصدق ببهائه الحقيقي وبكمال الاحتشام والهيبة واعتلى


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 144
محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الامين اعلى عليي الصادقين، واوقع انقلاباً عظيماً في العالم فاظهر بُعدَ الصدق عن الكذب بُعد مابين المشرق والمغرب. فراج سوق الصدق ومتاعه في ذلك القرن.
اما الكذب الشبيه باشلاء الاموات والجثث. فقد ظهر قبحه وسماجته، وتردّى بمن تمسك به من امثال مسيلمة الكذاب الى اسفل سافلي الانسانية. فكسد سوقه ولم ترج بضاعته في ذلك القرن.
وهكذا فمن طبائع العرب الاعتزاز والتفاخر، والرغبة في الرائج من المتاع، لذا تسارعوا وتسابقوا للتجمل بالصدق والبعد عن الكذب، ونشروا راية العدل على العالمين. ومن هنا نشأت عدالة الصحابة عقلاً. اذا انعم الانسان النظر في السيرة والتاريخ والآثار، ودقق حاله صلى الله عليه وسلم من الرابعة من عمره الى الاربعين، مع ان شأن الشبابية وتوقد الحرارة الغريزية تظهر ما يخفى، وتلقى الى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحيل، تراه صلى الله عليه وسلم قد تدرج في سنيه وعاشر باستقامة كاملة، ومتانة بالغة، وعفة تامة، مع اطراد وانتظام، وما اومأ حالٌ من احواله الى حيله، لاسيما في مقابلة المعاندين الاذكياء.
وبينما تراه صلى الله عليه وسلم كذلك اذ تنظر اليه وهو على راس اربعين سنة الذي من شأنه جعل الحالات مَلَكة والعادات طبيعة ثابتة لاتخالف، قد اوقع انقلاباً عظيماً في العالم.. فما هو الاّ من الله.
فمن لم يصدق انه من الحق وعلى الحقيقة المحضة، فقد اختفى اذاً في ذهنه سوفسطائي. الا ترى انه صلى الله عليه وسلم كيف كان حاله في امثال واقعة الغار الذي انقطع بحسب العادة امل الخلاص، اذ يتصرف بكمال الوثوق وغاية الاطمئنان والجدية..
كل ذلك شاهد كاف على نبوته وجديته ودليل قاطع على تمسكه بالحق.
المسلك الثاني
ان صحيفة الماضي برهان على نبوته، بملاحظة اربع نكت:
احداها: ان من يأخذ اساسات علم وفن - او في القصص - ويعرف روحه والعقد الحياتية فيه ويحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدّعاه عليها، فان ذلك يدل على مهارته وحذاقته في ذلك العلم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 145
ثانيتها: ايها الاخ ! ان كنت عارفاً بطبيعة البشر، لا ترى احداً يتجاسر بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو حقيراً، في قوم ولو قليلين، في دعوىً ولو حقيرة، بحيثية ولو ضعيفة. فكيف بمن له حيثية في غاية العظمة، وله دعوى في غاية الجلالة، ويعيش بين قوم في غاية الكثرة، ويقابله عناد في غاية الشدة، ومع انه امّي لايقرأ ولايكتب، الاّ انه يبحث في امور لايستقل فيها العقل وحده، ويظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الاشهاد.. افلا يدل هذا على صدقه؟
ثالثتها: ان كثيراً من العلوم المتعارفة عند المدنيين - بتعليم العادات والاحوال وتلقين الوقوعات والافعال - مجهولةٌ نظريةٌ عند البدويين. فلابد لمن يحاكم محاكمة عقلية، ويتحرى حال البدويين ان يفرض نفسه في تلك البادية.
فان شئت راجع المقدمة الثانية، فقد اوضحت هذه النكتة.
رابعتها: لو ناظر امىّ علماء علم، ثم بيّن رأيه في مسائله مصدقاً في مظان الاتفاق، ومصححاً في مطارح الاختلاف، يدلك ذلك على تفوقه، وان علمه وهبي لا كسبي.
فبناء على هذه النكتة نقول:
ان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع اميته، كأنه بالروح الجوالة الطليقة طوى الزمان والمكان، فدخل في اعماق الماضي، وبيّن كالمشاهد لأحوال الانبياء عليهم السلام، وشرح اسرارهم على رؤوس العالم، في دعوى عظيمة تجلب اليها انظار الاذكياء. وقد قص قصصهم بلا مبالاة ولا تردد وفي غاية الثقة والاطمئنان، واخذ العقد الحياتية فيها واساساتها، مقدمة لمدّعاه مصدقاً فيما اتفقت عليه الكتب السالفة ومصححاً فيما اختلفت فيه. فثبت ان حاله هذه دليل على نبوته.
ان مجموع دلائل نبوة الانبياء عليهم السلام، دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وجميع معجزاتهم معجزة معنوية له.
ايها الاخ!
قد يحل القَسَم محل البرهان، لانه يتضمن البرهان لذا: [والذي قص عليه القصص للحصص، وسيّر روحه في اعماق الماضي وفي شواهق المستقبل، فكشف له


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 146
الاسرار في زوايا الواقعات، ان نظره النقاد ادق من ان يُدلَّس عليه، ومسلكه الحق اغنى من ان يُدلِسَ على الناس].
نعم! ان الخيال لايستطيع ان يظهر نفسه حقيقة لنور نظره صلى الله عليه وسلم، ومسلكه الحق اغنى من ان يدلس او يغالط الناس.

المسلك الثالث
في بيان صحيفة الحال الحاضرة - اعني عصر السعادة النبوية - فها هنا ايضاً اربع نكت؛ ونقطة لا بد من انعام النظر فيها:
احداها: انك اذا تأملت في العالم ترى انه قد يتعسر ويستشكل رفع عادة ولو حقيرة، في قوم ولو قليلين، أو خصلة ولو ضعيفة في طائفة ولو ذليلين، على ملك ولو عظيماً، بهمة ولو شديدة، في زمان مديد بزحمة كثيرة، فكيف انت بمن لم يكن حاكماً، تشبث في زمان قليل بهمة جزئية بالنسبة الى المفعول، وقلع عادات ورفع اخلاقاً قد استقرت بتمام الرسوخ واستأنست بها نهاية استئناس واستمرت غاية استمرار، فأرسى فجأة بدلها عادات واخلاقاً تكملت دفعة في قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب، أفلا تراه خارقاً للعادات؟ فان لم تصدق بهذا فسأورد اسمك في قائمة السوفسطائيين.
ثانيتها: هي ان الدولة شخص معنوي، تشكُّلها تدريجي - كنمو الطفل - وغلبتها للدول العتيقة - التي صارت احكامها كالطبيعة الثابتة لملتها - متمهلة تدريجية ايضاً. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادة تشكل الدول، تشكيل محمد صلى الله عليه وسلم لحكومة عظيمة، في زمان قصير، وغلبتها للدول العظمى دفعة، مع ابقاء حاكميته لا على الظاهر فقط بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً. فان لم تستطع رؤية هذه الامور الخارقة، فانت في طائفة العميان!
ثالثتها: هي انه يمكن بالقهر والجبر تحكم ظاهري، وتسلط سطحي، لكن الغلبة على الافكار والتأثير بالقاء حلاوته في الارواح والتسلط على الطبائع مع محافظة حاكميته على الوجدان دائماً لا يكون الاّ من خوارق العادات. وليس الاّ الخاصة الممتازة للنبوة. فان لم تعرف هذه الحقيقة فانت غريب عنها.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:43 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 147
رابعتها: هي ان تدوير افكار العموم وارشادها بحيل الترهيب والترغيب، انما يكون تأثيرها جزئياً سطحياً موقتاً يسدّ طريق المحاكمة العقلية في زمان. أما من نفذ في اعماق القلوب بارشاده، وهيج دقائق الحسيات، وكشف اكمام الاستعدادات، وايقظ السجايا الكامنة، واظهر الخصال المستورة، وجعل جوهر انسانيتهم فوارة، وابرز قيمة ناطقيتهم، فانما هو مقتبس من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة.
نعم! ان صقل القلوب وتطهيرها من امثال القساوة المتجسمة في وأد البنات، وجعل تلك القلوب ترق وتترحم حتى على النمل الصغير، انما هوانقلاب عظيم. لاسيما لدى اولئك البدويين. بحيث ان ارباب البصائر يصدقونه حتماً، ويقولون انه خارق للعادة لا يشملها قانون طبيعي.
فان كنت ذا بصيرة تصدّق هذا بلا ريب.
والآن استمع الى هذه "النقطة":
ان تاريخ العالم يشهد ان الداهي الفريد، هو الذي اقتدر على انعاش استعداد عمومي، وايقاظ خصلة عمومية، والتسبب لانكشاف حس عمومي، اذ من لم يوقظ هكذا حساً نائماً يكن سعيه هباءً منثوراً ومؤقتاً لا يدوم.
وهكذا فان اعظم الدهاة قد وفق لايقاظ واحد او اثنين او ثلاث من هذه الحسيات العمومية: كحس الحرية، وكحس الحمية الملية، وحس المحبة. افلا يكون اذاً من الخوارق ايقاظ الوف من الحسيات العالية المستورة النائمة، وجعلها دفعةً فوارة منكشفة في قوم بدويين منتشرين في جزيرة العرب، تلك الصحراء الواسعة.
ان من لم يُدخل هذه النقطة في عقله، نتحداه بجزيرة العرب فهي ماثلة أمام عينه.. بعد ثلاثة عشر عصراً، وبعد ترقي البشر في مدارج التمدن!. فلينتخب المعاندون مئة من اكمل الفلاسفة، وليسعوا مائة سنة، فهل يفعلون جزءاً من مئة جزء مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة الى زمانه؟
اشارة: ان من اراد التوفيق يلزمه مصافاةٍ مع عادات الله، ومعارفة مع قوانين الفطرة، ومناسبة مع روابط الهيئة الاجتماعية. والاّ اجابته الفطرة بعدم الموفقية جواب اسكات! اما النواميس العامة الجارية فتقذف من يخالفها الى صحراء العدم. تأمل في


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 148
هذا، تر: ان حقائق الشريعة التي هي قوانين دقيقة عميقة جارية في فطرة العالم، كم حافظت على موازنة قوانين الفطرة وروابط الاجتماعيات التي بدقتها لاتتراءى لعقول اولئك القوم!!نعم! ان المحافظة على حقائق الشريعة، في هذه الاعصار المديدة، مع تلك المصادمات العظيمة بل انكشافها اكثر، يدل على ان مسلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مؤسس على الحق الذي لايزول.فاذا عرفت هذه النكت الاربع مع هذه النقطة، فاستمع بذهن متفتح واسع يملك قوة في المحاكمة العقلية ودقة في الملاحظة، الى ما يأتي:ان محمداً الهاشمي صلى الله عليه وسلم مع انه امي لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوته الظاهرية وعدم ميله الى تحكم وسلطنة.. قد تشبث بقلبه - بوثوق واطمئنان، في موقع في غاية الخطر وفي مقام مهم - بامر عظيم، فغلب على الافكار، وتحبب الى الارواح، وتسلط على الطبائع وقلعمن اعماق قلوبهم العادات والاخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الاحكام والقوة - كأنها اختلطت بلحمهم ودمهم - اخلاقاً عالية وعادات حسنة.. وقد بدّل قساوة قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة واظهر جوهر انسانيتهم، ثم اخرجهم من زوايا النسيان ورقى بهم الى اوج المدنية وصيّرهم معلمي عالمهم، واسس لهم دولة عظيمة في زمن قليل. فاصبحت كالشعلة الجوالة والنور النوار بل كعصا موسى تبتلع سائر الدول وتمحوها. فاظهر صدقه ونبوته وتمسكه بالحق الى كل مَن لم تعم بصيرته.
فان لم تر صدقه ذاك فسوف يشطب اسمك من سجل الانسان!

المسلك الرابعفي مسألة صحيفة المستقبل، لاسيما مسألة الشريعة. لابد من ملاحظة اربع نكت فيها:
احداها: ان شخصاً لايكون متخصصاً، وصاحب مَلَكة، في اربعة علوم او خمسة منها، الاّ اذا كان خارقاً.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 149
ثانيتها: ان مسألة واحدة قد تتفاوت بصدورها عن متكلمين، اذ احدهما لما نظر الى مبدئها ومنتهاها، ولاحظ ملاءمتها مع السياق والسباق، واستحضر مناسبتها مع اخواتها، ورأى موضعاً مناسباً فاحسن استعمالها فيه، وتحرى ارضاً منبتةً فزرعها فيها.. مما دل كلامه على ماهريته وحذاقته.. اما الاخر فلانه اهمل هذه النقاط، دل كلامه في المسالة على سطحيته وتقليده وجهله، علماً ان الكلام هو الكلام نفسه. فان لم يميّز عقلك هذا فروحك تحس به.ثالثتها: ان كثيراً من الكشوف التي كانت تعدّ من الخوارق قبل عصرين، لو كانت في هذا العصر لعدّت من الامور الاعتيادية، وذلك بسبب تكمل المبادئ والوسائط، حتى يلعب بها الصبيان كما ذكر في المقدمة الثانية. استحضر هذا واجعله نصب عينك، ثم ارجع بخيالك الى ما قبل ثلاثة عشر قرناً وتجرد من التأثيراتالزمانية والمكانية، وانظر الى الامور في جزيرة العرب تر:
انساناً وحيداً لاخبرة سابقة له في امور الانظمة والمجتمع، ولم تعنه احوال زمانه وبيئته، الاّ انه اسس نظاماً، وارسى عدالة، تلك هي الشريعة، التي هي كخلاصة جميع قوانين العلوم وكأنها حصيلة تجارب كثيرة، بل لايبلغ ادراكها الذكَاء مهما توسع، تلك الشريعة متوجهة الى الازل، معلنة انها آتية من الكلام الازلي، ومحققة سعادة الدارين.
فان انصفت تجد ان هذا ليس في طوق بشر، في ذلك الزمان، بل خارج عن طوق النوع البشري قاطبة. الاّ اذا افسدت اوهامٌ سيئة بالتغلغل في الماديات طرف فطرتك المتوجهة نحو هذه الحقائق.
رابعتها: كما ذكر في المقدمة العاشرة وكما سيأتي في جواب نقطة الاعتراض كالاتي: ان الارشاد انما يكون نافعاً اذا كان على درجة استعداد افكار الجمهور الاكثر، والجمهور باعتبار الكثرة الكاثرة منه عوام والعوام لايقتدرون على رؤية الحقيقة عريانة، ولايستأنسون بها الاّ بلباس خيالهم المألوف. فلهذا صورت الشريعة تلك الحقائق بمتشابهات وتشبيهات فابهمت واطلقت في مسائل العلوم الكونية، التي يعتقد الجمهور بالحس الظاهري خلاف الواقع ضرورياً. وذلك لعدم انعقاد المبادي والوسائط.. ولكن مع ذلك اومأت الى الحقيقة بنصب أمارات.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 150
تنبيه: ان الصدق يلمع في كل فعل وكل حال من افعاله واحواله صلى الله عليه وسلم. الاّ ان هذا لايلزم ان تكون افعاله واحواله خارقة، لان اظهار الخوارق والمعجزات لتصديق المدّعى ان لم تكن حاجة اليه، يكون الانقياد لقوانين عادات الله بالانسياق للنواميس الجارية العامة.
ايها الاخ! ان هذا التنبيه من طائفة مقدمة المسلك الاول، الاّ انه بسبب النسيان ضاع في الطريق فدخل هاهنا.
تفطن لهذه النكت، ونحن ندخل النتيجة:
ان الديانة والشريعة الاسلامية المؤسسة على البرهان ملخصة من علوم وفنون تضمنت العقد الحياتية في جميع العلوم الاساسية، منها: فن تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفن تدبير الجسد، وعلم ادارة المنزل، وفن سياسة المدنية، وعلم انظمة العالم، وفن الحقوق، وعلم المعاملات، وفن الآداب الاجتماعية، وكذا وكذا...
فالشريعة فسّرت واوضحت في مواقع اللزوم ومظان الاحتياج، وفيما لا يلزم او لم تستعد له الاذهان او لم يساعد له الزمان، اجملتْ بخلاصة ووضعت اساساً، احالت الاستنباط منه وتفريعه ونشو نمائه على مشورة العقول. والحال لايوجد في شخص كل هذه العلوم، ولا ثلثها بعد ثلاثة عشر عصراً، في المواقع المتمدنة، ولا في الاذكياء. فمن زين وجدانه بالانصاف يصدق بان حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائماً ولاسيما في ذلك الزمان.
والفضل ما شهدت به الاعداء:
فهذا "كارليل" 1 فيلسوف العالم الجديد، نقلاً عن احد حكماء الالمان واحد سياسييه، انه قال بعد ما انعم النظر في حقائق الاسلام: "ان كان الاسلام هكذا فيا
_____________________
1 توماس كارلايل (1795 - 1881) كاتب ومؤرخ وفيلسوف انكليزي، اراد والده البنّاء ان يكون إبنه قسيساً إلاّ ان كثرة شكوكه حول الدين حالت دون ذلك، مرّ بمعاناة نفسية دامت زهاء سبع سنوات، انتهى به المطاف بالاستقرار على مسائل الايمان. ألقى سلسلة من المحاضرات، تناول في احداها عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه وبيّن انه النبي الحق ودحض افتراءات كثيرة. جمع تلك المحاضرات في كتابه المشهور »الابطال«. اوصى بتوزيع ثرواته الى الطلاب الفقراء، وايداع مكتبته في جامعة هارفرد الامريكية. ترك آثاراً عميقة في ثقافة الانكليز ونظرتهم الى العالم(باختصارمن YENI LUGAT عن دائرة المعارف التركية).



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 151
ترى أيمكن للمدنية الحاضرة ان تعيش ضمن اطار الاسلام؟. فاجاب نفسه: نعم." بل المحققون الآن يعيشون ضمن تلك الدائرة.
ثم قال كارليل: "ماكاد يظهر الاسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدليات النصرانية وكل مالم يكن بحق فانها حطب ميت أكلته نار الاسلام فذهب".
نعم، انه منذ ثلاثة عشر قرناً حافظ الاسلام على حقائقه رغم التحولات والانقلابات والمصادمات بل كانت تلك مخفِفةً عن كاهله مما تساقط من تراب الاوهام والريوب.
نعم ان الوجود والحال الحاضرة للعالم شاهد على هذا.
ولا بد من اخذ مقدمات المقالة الاولى بنظر الاعتبار.
ان قلت : ان معرفة خلاصةٍ وفذلكةٍ من كل علم ممكن لشخص.
الجواب : نعم، لا.. لأن الخلاصة بحسن الاصابة في موقعها المناسب، واستعمالها في ارض منبتة، مع امور ونقاط ذُكرت سابقاً، تشفّ كالزجاجة عن مَلَكة تامة في ذلك العلم واطلاع تام فيه. فتكون الخلاصة في حكم العلم، ولا يمكن لشخص امثال هذه.
ان كلاماً واحداً يصدر عن متكلمين اثنين، يدل - لبعض الامور المذكورة غير المسموعة - على جهل هذا، وحذاقة ذاك.
يا اخا الوجدان! يامن يرافقني بخياله من اول منازل هذا الكتاب! انظر بمنظار واسع ووازن الامور وكوّن في خيالك مجلساً رفيعاً لاجراء محاكمات عقلية. واستحضر ما تنتقيه من المقدمات الاثنتي عشرة. ثم شاور القواعد الاتية:
ان شخصاً لايتخصص في علوم كثيرة... وان كلاماً واحداً يتفاوت من شخصين.. وان العلوم نتيجة تلاحق الافكار، وتتكمل بمرور الزمن.. وان البديهي في المستقبل قد يكون نظرياً في الماضي.. وان معلوم المدني قد يكون مجهول البدوي.. وان قياس حال الماضي على المستقبل قياس خادع مضل.. وان بساطة اهل البادية والوبر لا تتحمل حيل ودسائس اهل المدينة والمدر. نعم، ان الحيل ربما تتستر تحت حجاب المدنية.. وان كثيراً من العلوم انما يتحصل بتلقين العادات والوقوعات..


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 152
وان نور نظر البشر لا ينفذ في المستقبل ولايرى الكيفيات المخصوصة به.. وان لقانون البشر عمراً طبيعياً ينقطع وينتهي كما ينتهي عمره.. وان للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في احوال النفوس.. وان كثيراً من الخوارق الماضية قد يكون اعتيادياً الآن بسبب تكمل المبادئ.. وان الذكاء ولو كان خارقاً لا يكفي في كمال علمٍ، فكيف في علوم عدة!
فيا ايها الأخ! شاور هذه القواعد، ثم جرد نفسك، وانزع عنك لباس الخيالات المحيطة والاوهام الزمانية، ثم غص من ساحل هذا العصر في بحر الزمان، حتى تخرج الى جزيرة عصرالسعادة النبوية.. فأول ما يتجلى لعينك؛ انك ترى:انساناً وحيداً لا ناصر له ولا سلطان، يبارز العالم وحده، وقد حمل على كاهله حقيقة اجلّ من كرة الارض، واخذ بيده شريعة هي كافلة لسعادة الناس كافة. وتلك الشريعة كأنها زبة جميع العلوم الالهية وخلاصة الفنون الحقيقية. وتلك الشريعة ذات حياة - لا كاللباس بل كالجلد - تتوسع بنمو استعداد البشر وتثمر سعادة الدارين، وتنظم احوال نوع البشر كأنهم في مجلس واحد. فإن سألت قوانينها: من أين الى أين؟ لقالت بلسان اعجازها: نجئ من الكلام الازلى، ونرافق فكر البشر لضمان سلامته ونتوجه الى الابد. وبعد ما نقطع هذه الدنيا الفانية، تبقى معنوياتنا دليلاً وغذاءً روحياً للبشرية، مع اننا نفارقهم صورة.

خاتمة:ان الشبهات والريوب منبعها ثلاثة امور وهي: انك لو تجاهلت عن مقصود الشارع، وعن كون الارشاد بنسبة استعداد الافكار، واعترضت بمغالطة - هي وكر الاوهام السيئة - بان القرآن الكريم الذي هو اساس الشريعة فيه ثلاث نقاط:
اولاها: وجود المتشابهات والمشكلات في القرآن، وهذا مناف لاعجازه المؤسس على البلاغة، المبنية على ظهور البيان ووضوح الافادة.
ثانيتها: الاطلاق والابهام في العلوم الكونية، مع انه مناف لمسلك التعليم والارشاد الذي هو المقصود الحقيقي للشريعة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 153
ثالثتها: ان قسماً من ظواهر القرآن أمَيل الى خلاف الدليل العقلي، فيحتمل خلاف الواقع، وهو مخالف لطريق القرآن الذي هو التحقيق والهداية.
ايها الاخ! اقول وبالله التوفيق، ان ما تتصورونه سبباً للنقص - في هذه النقاط الثلاثة - ليس كذلك، بل هو اصدق شاهد على اعجاز القرآن.
اما الجواب عن الريب الاول: وقد رأيت هذا الجواب ضمناً مرتين:
اعلم ان الجمهور الاكثر هم عوام، والاقل تابع للاكثر في نظر الشارع. لان الخطاب المتوجه نحو العوام يستفيد منه الخواص ويأخذون حصتهم منه، ولوعكس لبقي العوام محرومين. وان جمهور العوام لايجردون اذهانهم عن المألوفات والتخيلات، فلا يقتدرون على درك الحقائق المجردة والمعقولات الصرفة الاّ بمنظار متخيلاتهم وتصويرها بصورة مألوفاتهم. لكن بشرط ان لا يبقى نظرهم على الصورة نفسها حتى يلزم المحال، كالجسمية او الجهة بل يمر نظرهم الى الحقائق.
مثلاً: ان الجمهور انمايتصورون حقيقة التصرف الالهي في الكائنات بصورة تصرف السلطان الذي استوى على سرير السلطنة، كما في قوله سبحانه وتعالى :
(الرحـمن على العرش استـوى) (طه :5)، واذ كانت حسيات الجمهور في هذا المركز، فالذي يقتضيه منهج البلاغة ويستلزمه طريق الارشاد، رعاية افهامهم واحترام حسياتهم ومماشاة عقولهم ومراعاة افكارهم. فهذه المنازل التي يراعى فيها عقول البشر ويحترم تسمى بـ "التنزلات الالهية" فهذا التنزل لتأنيس اذهانهم. راجع المقدمة العاشرة.
فلهذا وضع صور المتشابهات التي تراعي الجمهور المقيدين باحاسيسهم ومتخيلاتهم منظاراً على نظرهم لرؤية الحقائق المجردة. ولهذا فقد اكثر الناس في كلامهم من الاستعارات لتصور المعاني العميقة او لتصوير المعاني المتفرقة، في صورة سهلة بسيطة، بمعنى ان هذه المتشابهات من اكثر اقسام الاستعارات غموضاً، اذ انها صور مثالية لأخفى الحقائق الغامضة، بمعنى ان الاشكال انما هو من دقة المعنى وعمقه لا من اغلاق اللفظ وتعقيده.
فيا ايها المرتاب! انظر بانصاف ! الا يكون من عين البلاغة - التي هي مطابقة مقتضى الحال - تقريب مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن افكار الناس ولاسيما


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 154
العوام، تقريبها الى افهام العوام بطريق سهل واضح.. اهذا مطابق المعنى بوضوح تام أم الوهم الذي في ذهنك؟ كن انت الحاكم في هذا.
اما الجواب عن الريب الثاني:
وقد مرّ تفصيله في المقدمة الثانية.
فاعلم ان في شجرة العالم ميل الاستكمال، وتشعب منه في الانسان ميل الترقي، وقد تشكلت العلوم التي هي كدرجات سلم الترقي من ثمرات ميل الترقي بالتجارب الكثيرة وتلاحق الافكار. هذه العلوم مترتبة ومتعاونة ومتسلسلة، بحيث لاينعقد المتأخر الاّ بعد تشكل المتقدم، ولا يكون المتقدم متقدمةً للمؤخر الاّ بعد صيرورته كالعلوم المتعارفة.
فبناء على هذا السر: فان العلم الذي تولد وظهر في هذا الزمان نتيجة تجارب كثيرة لو كان قبل عشرة عصور، وحاول احدٌ أن يفهّمه للناس لشوش عليهم واوقعهم في السفسطة والمغلطة.فمثلاً: لو قيل "انظروا الى سكن الشمس وحركة الارض واجتماع مليون حيوان في قطرة، لتتصوروا عظمة الصانع!" وجمهور العوام بسبب الحس الظاهري او غلط الحس يرون خلاف ما قيل لهم من البديهيات، اذاً لانساقوا الى التكذيب او مغالطة نفوسهم، او المكابرة تجاه شئ مخصوص، والحال ان تشويش الاذهان ـ لاسيما في مقدار عشرة اعصر مناف لمنهاج الارشاد.تنبيه:
ان امثال هذه المسائل لاتقاس بالنظريات التي تظهر في المستقبل لان الحس الظاهري لايتعلق بالاشياء التي تعود للمستقبل، لذا فاحتمال الجهتين وارد. لانه ضمن دائرة الممكنات، فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها. فحقها الصريح التصريح بها، ولكن "مانحن فيه" لماخرج من درجة الامكان والاحتمال الى درجة البداهة اي الى الجهل المركب، فحقه في نظر البلاغة الذي لا يمكن انكاره هو: الابهام والاطلاق لئلا تتشوش الاذهان. ولكن مع ذلك لابد من الرمز والايماء او التلويح الى الحقيقة، وفتح الابواب للافكار ودعوتها للدخول كما عملت الشريعة الغراء. فيا هذا أمِن


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 155
الانصاف وتحري الحقيقة ان تتوهم ما هو ارشاد محض وعين البلاغة ولب الهداية انه مناف للارشاد ومباين له. وان تتخيل ماهو عين الكمال في البلاغة نقصاً فيها؟!.
فيا هذا أهكذا البلاغة في ذهنك السقيم: تكليف بتغليط الاذهان وتشويش الافكار، وبما لا تهضمه العقول، لعدم ملاءمة المحيط واعداد الزمان.. كلا بل [كلم الناس على قدر عقولهم] دستور حكيم. فان شئت فراجع المقدمات، ولاسيما المقدمة الاولى وتأمل فيها جيداً.
اما الجواب عن الريب الثالث:
وهو امالة بعض ظواهر الايات الى منافي الدلائل العقلية:
تدبر في المقدمة الاولى. ثم استمع الى: ان المقصد الاصلي للشارع الحكيم من ارشاد الجمهور محصور في اثبات الصانع الواحد والنبوة والحشر والعدالة. لذا فذكر الكائنات في القرآن انما هو تبعي واستطرادي، للاستدلال. اي الاستدلال بالنظام البديع في الصنعة - الظاهرة لافهام الجمهور - على النظام الحقيقي جل جلاله. والحال ان اثر الصنعة ونظامها يتراءى في كل شئ. وكيف كان التشكل فلاعلينا اذ لا يتعلق بالمقصد الاصلي.تنبيه:
من المقرر ان الدليل ينبغي ان يكون معلوماً قبل المدّعى، لذا قد اُميل ظواهر بعض النصوص لاتضاح الدليل واستئناس الافكار بالمعتقدات الحسية للجمهور، لا ليدل عليها بل قد نصب القرآن في تلافيف آياته امارات وقرائن ليشير الى ما في تلك الاصداف من جواهر والى مافي تلك الظواهر من حقائق لاهل التحقيق.
نعم ! ان الكتاب المبين الذي هو كلام الله انما يفسر بعضه بعضاً. اي ان بعض الايات تبين ما في ضمائر اخواتها. لذا قد تكون بعض الايات قرينة لاخرى، فالمراد ليس المعنى الظاهري.
فلو قيل في مقام الاستدلال: تفكروا في سكون الشمس مع حركتها الظاهرية، وحركة الارض اليومية والسنوية مع سكونها الظاهر. وتأملوا في غرائب الجاذبية العمومية بين النجوم، وانظروا الى عجائب الكهرباء، والى غرائب الامتزاجات


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 156
الكيمياوية بين العناصر التي تزيد على السبعين لتعرفوا الصانع الجليل..لكان الدليل - الذي هو الصنعة - اخفى واغمض من النتيجة التي هي الصانع. وما هذا الا مناف لقاعدة الاستدلال، لذا اُمليت بعض الظواهر وفق الافكار، لان هذا من قبيل مستتبع التراكيب ونوع من الكنايات، فلا تكون معانيها مدار صدق وكذب.
الاترى ان "قال" ألفه ان كان اصلها واواً اوقافاً لايؤثر في شئ.
ايها الاخ!
انصف! الا تكون هذه النقط الثلاث دلائل واضحة على اعجاز القرآن الذي نزل لجميع الناس في جميع الاعصار. نعم [والذي علّم القرآن المعجز ان نظر البشير النذير وبصيرته النقادة ادقّ واجل واجلى وانفذ من ان يلتبس او يشتبه عليه الحقيقة بالخيال وان مسلكه الحق اغنى واعلى وانزه وارفع من ان يُدلِسَ او يغالط على الناس].نعم! انّى للخيال ان يبين نفسه حيقة تجاه القرآن الذي يتفجر نوراً.
نعم! ان مسلك القرآن هو الحق نفسه ومذهبه عين الصدق، والحق اغنى من ان يدلس او يغالط الناس.

المسلك الخامسهذا المسلك يخص الخوارق المعروفة المشهورة والمعجزات الظاهرة. وكتب السيرة والتاريخ مشحونة بها. وقد اوفى العلماء الكرام حقه من التدوين والتفسير فجزاهم الله خيراً، وقد احلنا التفصيل على كتبهم لان تعليم المعلوم عمل ضائع.
ان الخوارق الظاهرة وان كان كل فرد منها غير متواتر، ولكن جنسها، وكثيراً من انواعها متواتر بالمعنى.
ثم ان هذه الخوارق على انواع عدة:
منها: الارهاصات المتنوعة وكأن ذلك العصر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم استفاد واستفاض منه فصار حساساً ذا كرامة فبشّر بالارهاصات، بقدوم فخر العالم بحس قبل الوقوع.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 157
ومنها: الاخبارات الغيبية الكثيرة حتى لكأن روحه المجرد الطيّار صلى الله عليه وسلم مزّق قيد الزمان المعين والمكان المشخص فجال في جوانب الماضي والمستقبل، فقال لنا ماشاهده في كل ناحية منهما وبينه لنا.
ومنها: الخوارق الحسية التي اظهرها وقت التحدي والدعوى وقد بلغ هذا النوع الى مايقرب الالف. بمعنى ان مجموع هذا النوع متواتر بالمعنى وان كان افراده آحادياً.
ومنها: نبعان الماء من اصابعه المباركة، وكأنه يصور تصويراً حسياً فورانَ زلال الهداية الباعث للارواح من لسانه الذي هو منبع الهداية بنبعان الماء الباعث على الحياة من يده المباركة التي هي معدن السخاء.
ومنها : تكلم الشجر والحجر والحيوان، وكأن الحياة المعنوية في هدايته صلى الله عليه وسلم قد سرت الى الجمادات والحيوانات فانطقتها.
ومنها: انشقاق القمر. وكأن القمر الذي يمثل قلب السماء قد انشق اشتياقاً اليه باشارة من اصبعه المبارك علّه يجد علاقة مع قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم.
ان انشقاق القمر ثابت بنص الاية الكريمة، وهو متواتر بالمعنى حتى ان
(وانشق القمر) (القمر: 1) هذه الاية الكريمة لم يتصرف في معناها من انكر القرآن ايضاً. ولم يؤل ويحول معناها الاّ لاحتمال ضعيف.
ان اختلاف المطالع ووجود السحاب وعدم الترصد للسماء كما في هذا الزمان، ولكون الانشقاق في وقت الغفلة، ولحدوثه في الليل ولكونه آنياً، لايلزم ان يراه كل الناس او اكثرهم.
ثم انه قد ثبت في الروايات انه قد رآه كثير من القوافل الذين كان مطلعهم ذلك المطلع .
ثم ان اعظم هذه المعجزات واكبرها واولاها هو القران الكريم المبرهن اعجازه بجهات سبع، اشير اليها سابقا.... وهكذا واحيل ســائر المعجزات الى الكتب المعتبرة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 158
خاتمة:ايها الافاضل المطالعون لكلامي، ارجو ان تتأملوا في مجموع كلامي، اي المسالك الخمسة، بفكر واسع ونظر حاد وبصيرة ذات موازنة وتجعلوه ضمن سُور محيط به. واجعلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في مركزها ثم انظروا اليها كالعساكر المتنوعة المصطفة حول السلطان، وذلك لكي يتمكن سائر الجوانب من رفع الاوهام المهاجمة من الاطراف.
وهكذا فجواباً عن سؤال اليابانيين:
"ما الدليل الواضح على وجود الاله الذي تدعوننا اليه..".
اقول:
انه محمد صلى الله عليه وسلم.اشارة وارشاد وتنبيه:
لما توجه نوع البشر نحو المستقبل سأل فن الحكمة المرسل من قبل الكائنات، ومن جانب حكومة الخلقة مستنطقاً: يابني آدم! من اين؟ والى اين؟ ما تصنعون؟ من سلطانكم؟ من اين مبدؤكم والى اين المصير؟. فبينما المحاورة، اذ قام سيد نوع البشر محمد صلى الله عليه وسلم وخطيبهم ومرشدهم: ايها السائل نحن معاشر الموجودات اتينا بامر السلطان الازلي، مأمورين ضمن دائرة القدرة الالهية، وقد ألبسنا واجب الوجود المتصف بجميع صفات الكمال، وهو الحاكم الازلي، حلة الوجود هذه، ومنحنا استعداداً هو رأسمال السعادة.. ونحن معاشر البشر ننشغل الآن بتهيئة اسباب تلك السعادة الابدية.. ونحن على جناح السفر، من طريق الحشر الى السعادة الابدية. فيا ايتها الحكمة اشهدي وقولي مثلما ترين، ولا تخلطي الامور بالسفسطة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 159
المقصد الثالث
وهو الحشر الجسماني

نعم! ان الخلق بدونه عبث، بل لا يكون. فالحشر حق وصدق، وأوضح براهينه محمد صلى الله عليه وسلم.

المقدمةلقد اوضح القرآن الكريم الحشر الجسماني ايضاحاً جلياً لم يدع مجالاً لدخول اية شبهة كانت. ونحن هنا نشير الى قسم من مقاصده ومواقفه، معتمدين على براهين القرآن للقيام بشئ من تفسير جزئي للحشر الجسماني.المقصد الاولان في الكائنات نظاماً اكمل.. وان في الخلقة حكمة تامة.. وان لاعبثية في العالم.. وان لا اسراف في الفطرة.. والاستقراء التام الثابت بجميع العلوم.. والقيامة النوعية المكررة في كثير من الانواع كاليوم والسنة.. وجوهر استعداد البشر.. وعدم تناهي آمال الانسان.. ورحمة الرحمن الرحيم.. ولسان الرسول الصادق الامين صلى الله عليه وسلم.. وبيان القرآن المعجز.. كل ذلك شهود صدق وبراهين حق وحقيقة على الحش الجسماني.موقف واشارة:
1- لو لم تنجر الكائنات الى السعادة الابدية لصار ذلك النظام، صورة زائفة خادعة واهية، وتذهب جميع المعنويات والروابط والنسب في النظام هباءً منثوراً. بمعنى ان الذي جعله نظاماً هو السعادة الابدية.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 160
2- ان الحكمة الالهية التي هي مثال العناية الازلية تعلن السعادة الابدية، لانها مجهزة برعاية المصالح والحكم في الكائنات، لانه لو لم تكن السعادة الابدية للزم انكار هذه الحكم والفوائد التي اجبرتنا البداهة على الاقرار بها.
3- ان عدم العبثية الثابت بشهادة العقل والحكمة والاستقراء، يشير الى السعادة الابدية في الحشر الجسماني، بل يدل عليها، لان العدم الصرف يحيل كل شئ الى عبث.
4- ان عدم الاسراف في الفطرة، الثابت بشهادة علم منافع الاعضاء ولاسيما في العالم الاصغر - الانسان - يدل على عدم الاسراف في الاستعدادات المعنوية للانسان وآماله وافكاره و ميوله. وهذا يعني انه مرشح للسعادة الابدية.
5- نعم! لولا السعادة الابدية لتقلصت كل المعنويات وضمرت وذهبت هباءاً منثوراً. فيا للعجب، ان كان الاهتمام والعناية بغلاف جوهر الروح - وهوالجسد - الى هذه الدرجة، حتى يحافظ عليه من وصول الغبار اليه، فكيف تكون العناية بجوهر الروح نفسه؟ وكيف يمحى ويفنى اذن؟ كلا... بل العناية بالجسد انما هي لاجل تلك الروح.
6- ان النظام المتقن الثابت بالاستقراء التام الذي انشأ العلوم كافة - كما ذكر سابقاً - يدل على السعادة الابدية، اذ الذي ينجي الانتظام من الفساد والاخلال، والذي يجعله متوجهاً الى العمر الابدي والتكامل هو السعادة الابدية ضمن الحشر الجسماني.
7- كما ان الساعة الاعتيادية التي فيها دواليب مختلفة دوارة متحركة ومحركة للاميال العادّة للثواني والدقائق والساعات والايام، تخبر كل منها عن التي تليها، كذلك اليوم والسنة وعمر الانسان ودوران الدنيا شبيهة بتلك الساعة كل منها مقدمة للاخرى. فمجئ الصبح بعد كل ليلة، والربيع بعد كل شتاء يخبر عن ان بعد الموت قيامة ايضاً.
نعم ان شخص الانسان كنوع غيره، اذ نور الفكر اعطى لآمال البشر وروحه وُسعة وانبساطاً بدرجة لو ابتلع الازمان كلها لا يشبع، بينما ماهية افراد سائر الانواع


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 161
وقيمتها ونظرها وكمالها ولذائذها وآلامها جزئية وشخصية ومحدودة ومحصورة وآنية، في الوقت الذي ماهية البشر عالية كلية سرمدية فالقيامات النوعية المكررة الحاصلة في اليوم والليلة ترمز وتشيرالى القيامة الشخصية في الانسانية بل تشهد لها.
8- ان تصورات البشر وافكاره التي لاتتناهى، المتولدة من آماله غير المتناهية، الحاصلة من ميوله غير المضبوطة، الناشئة من قابلياته غير المحدودة، المستترة في استعداداته غير المحصورة، المزروعة في جوهر روحه الذي كرمه الله تعالى، كل منها يشير في ماوراء الحشر الجسماني باصبع الشهادة الى السعادة الابدية وتمد نظرها اليه.
9- نعم! ان رحمة الرحمن الرحيم والصانع الحكيم تبشر بقدوم السعادة الابدية، اذ بها تصير الرحمة رحمة والنعمة نعمة، وتنجيها من كونها نقمة وتخلص الكائنات من نياحات الفرق. لانه لو لم تجئ السعادة الابدية وهي روح النعم، لتحول جميع النعم نقماً وللزم المكابرة في انكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة.
فيا ايها الاخ! انظر الى ألطف آثار الرحمة الالهية، اعني المحبة والشفقة والعشق، ثم تأمل في الفراق الابدي والهجران اللايزالي. كيف تتحول تلك المحبة الى مصيبة كبرى. اي ان الهجران الابدي لا يعادل المحبة ولا يوازيها. فالسعادة الابدية ستصفع ذلك الفراق الابدي وتلقيه الى العدم والفناء.
10- لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الثابت نبوته المبرهن عليها بالمسالك الخمسة السابقة، هذا اللسان المبارك مفتاح السعادة الابدية المكنوزة في الحشر الجسماني.
11- نعم! ان القرآن الكريم الذي اثبت اعجازه بسبعة وجوه خلال ثلاثة عشرة عصراً كشاف للحشر الجسماني ومفتاحه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 162
المقصد الثاني

سوف يُفسر آيتين تبيّنان الحشر وتشيران اليه.
نخو : بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الاستاذ بديع الزمان سعيدالنورسي المؤلف، في مستهل الشعاع التاسع من كليات رسائل النور التي الفها بعد ثلاثين سنة:
"انه لعناية ربانية لطيفة ان كتب "سعيد القديم" قبل ثلاثين سنة في ختام مؤلفه "محاكمات" الذي كتبه مقدمة لتفسير "اشارات الاعجاز في مظان الايجاز" مايأتي: (المقصد الثاني: سوف يفسّر آيتين تبينان الحشر وتشيران اليه). ولكنه ابتدأ بـ نخوL بسم الله الرحمن الرحيم) وتوقف ولم تتح له الكتابة. فالف شكر وشكر للخالق الكريم وبعدد دلائل الحشر واماراته ان وفقنى لبيان ذلك التفسير بعد ثلاثين سنة".

عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:45 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 163

قزل ايجاز
على سلم المنطق
حاشية الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي
على متن "السلم المنورق للشيخ عبدالرحمن الأخضري"
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
مع شرح اخيه عبد المجيد النورسي


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 164
ايضاح
على كل حال فقد كتبتُ هذا الاثر..لأجل تعويد الأذهان على الدقة في الملاحظة والإنعام في النظر.
وحيث أنه قد أُلّف.. فليُنشر.. وليلاحظ في الاقل المباحث المبدؤة بـ"اعلم".
سعيد

ملاحظة: قام السيد الفاضل محمد زاهد الملازكردي بتصحيح هذه الرسالة وطبعها لأول مرة في مطبعة بركات بدمشق وذلك في محرم الحرام سنة 1387هـ. فضلاً عن قيامه بترجمة ونشر عدد من مجموعات رسائل النور. فجزاه الله خيراً كثيراً.
وقد أعدت النظر في هذه الطبعة من الرسالة وقابلتها مع طبعتها الاولى من غير شرح، ولم اغيّر منها سوى ما يستوجبه التنسيق والتنظيم، فوضعت حاشية الاستاذ النورسي في أعلى الصفحة عقب متن الناظم وجعلت شرح اخيه الملا عبدالمجيد في اسفل الصفحة.
وأملي في الله عظيم أن يقيّض من علمائنا المتبحرين في علم المنطق من يقدر هذه الرسالة والتي تليها "تعليقات" حق قدرهما ويستجلى ما غمض فيهما من نفائس علم المنطق لتكونا رسالتين يستفيد منهما الخواص والعوام معاً غير قاصرتين على الخواص من العلماء.
واسم الرسالة "قزل ايجاز" قد يثير القارئ الكريم فهو اسم مركب من التركية والعربية أو على الاقل الكلمة تركية التركيب. فكلمة "قزل" تعني بالعربية: العرج الشديد، أي ان اسم الرسالة يعني: الايجاز الشديد العرج.
أما اذا اعتبرنا اسم الرسالة اسماً تركياً فهو يعني: الايجاز المتقد، الايجاز الاحمر الى حدّ الجمرة.

احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 165
بسم الله الرحمن الرحيم

"
مقدمة الملا عبدالمجيد النورسي"
أشكر على حمدي لواحد أحد ليس له ثان. كما اثني موحداً لمن له كل يوم شأن. واُصلّي كما اُسلّم على من لما كان في ذاته محموداً كان اسمه محمداً. وعلى آله وصحبه من بعد.
وبعد:
فاعلم أني بعدما نجوت بين تلاطم امواج البليات من مخالب سباع المصيبات. ساقني القدر على رأس الفين إلا خمسين سنة الى ولاية مولانا جلال الدين الرومي وسكنت في جواره بعيداً عن الاستاد. لاهو يراني ولا انا أراه إلا في غفلات النوم والرقاد. الى ان قضى الاستاذ نحبه وارتحل الى دار السعادة شهيداً. وبقيت أنا في الحسرات غريباً ووحيداً.
فأدى بي الوحشة الى الوحدة وترك التماس بالناس. وترجيح التوحش على الإستئناس. ولم أجد لأزيل به كربتي ويكون تسليةً في وحدتي شيئاً إلا الاشتغال بتحشية (قزل ايجاز) وشرح ما فيه من الالغاز. رجاء أن يشتغل به البال عما فيه من شدة الحال.
فبعدما أردت ان اكسر صخور ألفاظه بفأس فكري. أبى وامتنع ذلك الفكر الكليل عن امري. فصرت كلما أضربها بذلك الفاس نبا ذلك الفأس من الصخرة الى الرأس. فبقيت حائراً ذا يأس في يأس. فاغلظت على الفكر شدة الامر. وأجبرته بعد الفر الى الكر. مشوقاً له قائلاً - ها بابام ها- فاستحيى عن غلظة الامر. فاجتهد كل يوم من الصبح الى العصر. الى ان صار مظهراً للتحسين والتقدير. بعدما كان معروضاً للتحقير والتكدير.


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 166
فشكرت سعيه وقبلت عذره. لكن لكهولته عجز عن قلع بعض الصخور. مع ان بعض مافصل وحصل ماكان بريئاً من الخطأ والقصور.
فاحلت فض ما بقي باكرة من مواضع عديدة واصلاح ما وقع من الخطأ والغلط الى ذوي الاذهان الثاقبة من شبان الاستقبال.

عبدالمجيد
بلدة (قونيــة)
1385هــ - 1965م


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 167
بسم [1] الله [2] الرحمن [3] الرحيم

[1] الباء للمصاحبة لا للاستعانة. لأن الكسب تابع للخلق، والمصدر شرط للحاصل بالمصدر 1.
[2] مستجمع لجميع الصفات الكمالية. للزوم البيّن 2.
[3] هذا مقام التنبيه لا الامتنان، فتكون صنعة التدلي في التعديد امتناناً صنعةَ الترقي تنبيهاً 3.

_____________________
1 (الباء للمصاحبة لا للاستعانة) اذ يلزم حينئذ ان يكون العبد أصيلا في الفعل، والخالق معيناً وتابعاً له في الفعل والحال ان العبد ليس الا مصدراً للكسب. والحاصل بالمصدر أي المكسوب ليس إلا بخلق الخالق. فالكسب - أي كسب العبد - ليس إلا مقارناً ومصاحباً وشرطاً في حصول ذلك الفعل، بخلق الخالق. فالعبد تابع، أي وكسبه شرط لا اصيل. كما هو رأي أهل الاعتزال من كون العبد خالقاً في فعله.
فالمناسب في باء البسملة المصاحبة، اذ ليس فيها ما في الاستعانة من ذلك الإيهام، لانها تدل بمادتها وجوهرها على ان المستعين أصيل، والمستعان منه تابع، بخلاف لفظة المصاحبة، اذ ليس فيها تلك الدلالة فلا احتمال لذلك الايهام.
قد ظهر من هذا ان انتشار كون الباء للاستعانة في تآليف بعض أهل السنة انما ترشح عن الغفلة من هذا المذهب، أي الاعتزال.
2 )(للزوم البيّن) أي البيّن بالمعنى الأخص بين الذات والصفات. وهو الانتقال بمجرّد تصور الملزوم الى اللازم. ومنه الى اللزوم بينهما. فلفظة الجلال دالة على الذات بالمطابقة وعلى الصفات بالالتزام فمن ذكر لفظ الجلال كان ذاكراً لجميع صفات الكمال.
3 (هذا مقام التنبيه) حاصله: ان الرحمن اشارة الى عظام النِعَم، والرحيم الى صغارها. فالانتقال من الاعظم الى الاصغر ليس بمناسب، لأنه من صنعة التدلي. وهي ليست مقبولة إلا في مقام تعديد النعم للامتنان. والمقام هنا ليس لتعديدها للامتنان. فأشار بتقديم الرحمن الى ان هذا المقام مقام التنبيه، لدفع غفلة السامع عن النعم الصغار.
فالتدلي هنا يُعدّ من الترقي. على ان الغفلة عن النعم الصغار اقوى احتمالاً فلا اشكال.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 168
الحمد[1] لله الذي[2] قد اخرجا[3] نتائج الفكر[4] لارباب الحجا
وحط[5] عنهم من سماء العقل كل حجاب من سحاب الجهل

[1] كتصور العلة الغائية 1.
[2] وصف ليكون ثوابه اكثر، اذ الواجب اكثر ثواباً 2.
[3] اي ترتب النتيجة على المقدّمات عادي، لا استعدادي ولا تولدي 3.
[4] خص هذه النعمة ليَبْرَعَ مستهلّه لبراعة الاستهلال. كأن المعنى اذا مر في خزانة الخيال ما وجد ما يلبس إلاّ صورة صنعته 4.
[5] الأولى قشع للسحاب او كشف للحجاب وإلأ فالابل ينص تليله تحت "حط عنهم" 5.
_____________________
1 (كتصور العلة الغائية) أي ان ذكر الحمد في أوائل التأليفات اشارة الى ان المقصد والغاية منها الحمد والطاعة لله تعالى.
2 (وصف) أي بنعمة الإخراج ليكون حامداً على النعمة فيكثر ثوابه، اذ الحمد على النعمة لازم وثواب اللازم اكثر.
3 (اي ترتب النتيجة) إشارة الى ان الاولى ذكر الترتب بدل الاخراج، لان حصول النتيجة من المقدمات »عادي« كخروج الماء بالحفريات لا »استعدادي« كخروج الثمرة من الشجرة، ولا »تولدي« كالولد من الانسان فالمناسب تبديل الاخراج بالترتب.
4 (لبراعة الاستهلال) أي ليُعلم في اول التأليف نوع ما يُذكر فيه من المسائل.
5 هذه مناقشة لفظية بين الاستاذين. حاصلها: ان الحط مستعمل للآبال ولا إبل هنا. فالأولى تبديل الحط بالقشع، نظراً الى لفظ السماء، او بالكشف لمناسبته للفظ الحجاب. وإلاّ فالسامع يتحرى الابل الناصب عنقه القاعد تحت »حط«. ولا إبل هنا فيقع في اليأس.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 169
حتى بدت لهم شموس [1] المعرفة رأوا مخدراتها [2] منكشفة
[1] التشبيه قياس والمقيس عليه حقه الوجود وما لهم إلا شمس. إلا ان الخيال الماضي حقيقة الآن. او لأن السماء تلد من بطن كل ليلة شمساً 1.
[2] هذا التلون والاندماج في الاسلوب، يردد الذهن بين ان يتصور الرأس سماء تتلألأ نيراتها في مطالعها وبين ان يتصورها قصراً تتشرف مخدراته من بروجه. إلا أن في جنان الجنان رقيبات لشموس العقل وازاهيرها من نجومه 2.
_____________________
1 (التشبيه قياس) اي تشبيه المسائل بالشموس قياسها عليها، فيلزم من ذلك القياس وجود المقيس عليه وتعدده والحال انه هنا واحد. فاجاب قائلا (إن الخيال الماضي) أي الشموس الآفلة الماضية في الزمان الماضي، المجتمعة بالتخيل في خزينة الخيال، كالحقيقة الموجودة. او ان الشموس المستقبلة الموجودة في بطن السماء نظراً إلى أنها تلد كل يومٍ واحدة والشموس كالموجودة الآن فلا اشكال.
2 (هذا التلون والاندماج) أي التفنن في العبارة بتشبيه المسائل تارة بالشموس وأخرى بالمخدرات.. (يردد الذهن) أي مع استحسانه وتقديره إلى ان يتصور الرأس سماء مرة وقصراً مرة اخرى. يتشرف من ذلك النيراتُُ ومن هذا المخدراتُ مباهيا بهما.
(الا ان في جنان الجنان) يعنى كما ان المسائل شبهت بالشموس والمخدراتُ الرأسية لزم أيضا تشبيهها بالازاهير القلبية. إذ أزاهير القلوب رقيبات لشموس العقول في الفضل والشرف.
فالتشبيه بواحدة دون الأخرى جاعل لذلك الاسلوب غير محبوب لذوي القلوب.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 170
نحمده [1] جل على الانعام بنعمة الايمان والاسلام
[1] كرره للاثبات بعد الثبوت، والانشاء بعد الخبر، والعمل بعد العلم. ولم يتكلم وحده، لأنه وان كان واحداً ليس وحده. بل معه طوائف اعضائه وقبائل اجزائه وجماعات ذراته ذوات الوظائف والحياة. فلتضمين الحمد معنى الشكر العرفي الجامع تكلم مع الغير 1.
اعلم!
أيها الناظر لابأس عليك ان تتلقى هذا المبحث مستقلا برأسه، لاشرحاً لهذه الجملة. فان المناسبة ضعيفة لان اليراع اجتذب اللجام من يدي فهرول حيث شاء. سعيد.
ان الشخص مع ان روحه واحد، جسمه جماعة. بل جماعات من ذوات الحياة. حتى ان كل حجيرة من حجيراته حيوان برأسه ذات خمس قوى حساسات.
فالشخص كصورة (يس) كُتب فيه سورة (يس) وشدة الحياة وقواها تتزايد بتصاغر الجرم معكوساً. ان شئت وازن بين حواس الانسان وبين حواس حُوينة ميقرسقوبية تَر عجباً. اذ ذلك الحيوان الصغير مع انه لا يُرى الا بعد تكبير جسمه الف دفعة يرى رأس اصبعه ويسمع صوت رفيقه، وقس سائر حواسه وقواه. واين للانسان ان يرى اصبع ذلك الحيوان أو يسمع صوته. فبنسبة تصاغر المادة تشتد الحياة وتحد وتحتد وترق وتروق.
فهذا الحال يدل حدسا على ان الاصل الحاكم والمبدأ النافذ والمخلوق الاول هو الروح والحياة والقوة. وما المادة الاّ تصلبها او زبدها.
_____________________
1 (كرره.. الخ) حاصله: ان الحمد المذكور أولاً لأسمية الجملة هناك، كانت دالة على ثبوت الحمد والاخبار عنه والعلم به فكرره ثانياً بالجملة الفعلية لتدل على الاثبات والانشاء والعمل، وليكون الناظم الحامد بالذات مثبتاً منشئاً حامداً، اي متكلما ومصدراً للحمد بالفعل.
(لانه واحد ليس وحده) أي لأنه وان كان منفرداً في حد ذاته. لكنه ليس منفرداً في فعل الحمد، بل معه طوائف كثيرة من اعضائه واجزائه وذراته.
(تكلم مع الغير) إشارة إلى ان الحمد هنا متضمن وعبارة عن الشكر العرفي الذي هو عبارة عن صرف العبد جميع ما انعم الله عليه إلى ماخلق له.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 171
فكما يُستخدم روح واحد جماعات من الماديات الحيوانية، جاز ان يستخدم روح آخر اصغر الماديات. واليه يستند فقط. فكما أن نواة في عالم التراب شئ صغير مع انها في عالم الهواء نخلة عظيمة، كذلك تلك المادة الصغيرة ذات الحياة في عالم الشهادة تكون متسنبلة في عالم المثال والمعنى، بسبب استناد الروح اليها 1.

من خصنا[1] بخبر من قد ارسلا [2] وخير [3] من خاض المقامات العلا

[1] لأن المضاف الى المعرفة معرفة بجهة والمنسوب الى الشريف يتشرف 2 .
[2] أي خير الخلق؛ لأنه خيار من خيار ستة مرات 3.
[3] أي لأنه على خلق عظيم. عطف الدليل على المدلول.
_____________________
1 أيها الناظر لا تقل لمه هذا التطويل الغير المناسب للمقام فان القلم قد يطغى فليكن مسألة من (قزل اطناب) مسافرة في (قزل ايجاز) ( س )
2 (لأن المضاف الى المعرفة) أي لاننا قد خُصصنا بالاضافة والانتساب الى خير الرسل ذي الشهرة والمعرفة. والتخصيص بالاضافة الى المعرفة وان لم يكن معّرفاً للنكرة حقيقة، لكن يقربها الى المعرفة ويشّرفها بها. نعم، لتلك الاضافة والانتساب صرنا خير امة اخرجت للناس. والمنسوب إلى الشريف شريف.
3 (ستة مرات) أي ان الله تعالى اختار من المخلوقات ذوي الحياة ومنهم بني آدم ومنهم اولاد اسماعيل ومنهم قريشاً ومنهم بني هاشم ومنهم محمداً عليه الصلاة والسلام هذا مآل حديث (مازلت خياراً من خيار).



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 172
محمد[1] سيد كل [2] مقتفى العربي [3] الهاشمي [4] المصطفى [5]
صلى [6] عليه الله مادام الحجا يخوض في [7] بحر المعاني لججا

[1] أى اسما ومسمى. الثاني سبب للاول، لكن بالاول. 1
[2] لأن كتابه جمع الجوامع لأنه متأخر. لأنه متقدم. 2
[3] وفي أبنائه الصدق والذكاء.
[4] وفي بيته الشهامة والسماحة والمنسوب منسوب اليه. 3
[5] كـ "قفا" و "ارجعوني" مكرراً، مع انفراده بحذف لفظ "من". فهو مشتق من خمسة افعال وهى "اصطفى" 4.
[6] صورة الماضي دلت على كمال الوثوق والشوق والحمل على المسئول بلطف لأن رد الخبر اشد من
رد الانشاء. 5
[7] تبطن "في" "من" للدخول والخروج6
_____________________
1 (اي اسماً ومسمى الثاني سبب الاول لكن بالاول) أي في ذاته خلق محمداً وسمّى به ليطابق الاسم المسمى. فالذاتي سبب للاسمى لكن بالاول. وهو مصدر كالقول من آل يؤل. بمعنى الرجوع. اي كونه كثير الحمد في الخلقة. سيرجع ويصير سبباً لكونه كثير الحمد من بعد.
2 (لأن كتابه جمع الجوامع) أي لأن القرآن لكونه نزولاً متأخراً من الكتب السماوية جامعٌ لجميع ما فيها ولكونه متقدما عليها في الفضل والشرف تأخر عنها، لأن السلطان يمشي خلف الجنود.
3 (المنسوب منسوب اليه) أي الأمر بالعكس معنى لأن محمداً عليه الصلاة والسلام كما انه منسوب اليه لكافة الخلق، منسوب اليه لهاشم ايضا.
4 (كقفا وارجعوني) يعني كما ان التثنية والجمع في هذين اللفظين راجعان إلى الفعل، لا إلى الفاعل. اذ المراد منهما قف قف. ارجع ارجع ارجع. كذلك ان الإفراد في (المصطفى) عائد إلى نائب الفاعل وليس راجعاً إلى الوصف لأنه في النية مكرر مجموع قد اشتق من (اصطفى) خمس مرات على ما أشار اليه حديث الاصطفاء.
5 (صورة الماضي) يعني ان الطلب والسؤال بلفظ الماضي يجبر المسئول على ان لايكذب السائل ويحمله على ان يوفي بالمسئول عنه بحيلة، لان الماضي إخبار ورد الإخبار قبيح.
6 ( تبطن "في" "من" أي كما يدل عل ذلك التبطن مادة الخوض، لانه بالدخول، وهو يقتضي الخروج. من. مفعول تبطن.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:46 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 173
وآله وصحبه [1] ذوي الهدى [2] من شبهوا [3] بانجم [4] في الاهتدا [5]

[1] اسم جمع صحابي. وتذكرهم بالصلاة حق علينا. لانهم الوسائط بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم. 1
[2] أي اكتسبوا الهدى كالمال، الحاصل بالمصدر المكسوب لهم. فان الهدى هو الذي يحتذى عليه لا المصدر، لأنه كسب. 2
[3] اي بلسان من "أفصح من نطق بالضاد" بانهم مكمَّلون ومكمِّلون.
[4] اي العشر السيارة فان نورها مستفاد من الشمس 3.
[5] نتيجة التشبيه لاوجه الشبه لانه لابد ان يكون اظهر اوصاف المشبه به، والاظهر في الحديث النورانية وما يقاربها. 4
_____________________
1 (اسم جمع صحابي) وهو منسوب الى صحاب، وهو مصدر كالذهاب. وليس الصحب بجمع لان »فعل« ليس من اوزان الجموع. هو اسم لكل من رأى النبي او النبي رآه ومات على الايمان.
2 (أي اكتسبوا الهدى) مفعول الحاصل صفة له، المكسوب صفة للمصدر. يعنى المراد من الهدى هنا الحاصل بالمصدر، لا المعنى المصدري الذي هو الكسب.
3 (هي العشرة السيارة) وهي العطارد والزهرة والمريخ والمشتري والزحل والنبتون والاورانس والارض والقمر و. .
4 (نتيجة التشبيه لا وجه الشبه) يعني ان وجه الشبه النورانية على ماهو المتبادر من حديث (بايهم اقتديتم اهتديتم).



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 174
وبعد [1] فالمنطق [2] للجنان نسبته كالنحو للسان
[1] اعلم! أنه تأكيد وتشويق مبني على حب النفس المستلزم لحب صنعتها المقتضى لفنائها فيها، المؤدي الى ظن انحصار الكمالات فيها لزومية او ادعائية هكذا أي شئ وجد لزم بقائه لعدم العبثية. وبقاؤه مستلزم للخلقة لانه جزؤها والخلقة مستلزمة لنتيجتها وهي الانسان. ووجود الانسان بسر الحكمة مستلزم لنتيجته، وهي كماله ومعرفة الصانع. والوصول الى الكمال مستلزم لإصابة العقل وسداده. وسدادهُ مستلزم للمنطق المتصف بما ذكر. فمهما وجد شئ فالمنطق كذا. 1
[2] اعلم! كما ان النحو شريعة الموجودات الطيارة اللسانية. الذين آدمهم الهابط من ذروة الخيال المسمى باللفظ موجود في فضاء اللسان. كذلك ان المنطق شريعة الموجودات الذهنية الساكنة في الجنان، أي اللطيفة الربانية، الذين آدمهم النازل من اعلى الدماغ المسمى بالمعنى موجود في الجنان. ان الآدم للادم نسيب والشرع للشرع قريب. لأنهما كليهما وضع إلهي سائق لذوى العقول ممن في الجنان واللسان الى الصراط المستقيم. 2
_____________________
1 (لزومية او ادعائية) خبر مبتدأ محذوف أي هذه شرطية لزومية الخ.
(وبقاؤه لازم للخلقة) أي البقاء جزء للخلقة لان الوجود كما انه مستلزم لها ولولاها لم يوجد الوجود، كذلك البقاء مستلزم للخلقة ولولاها لم يكن البقاء. وايضاً البقاء تكرر الوجود ودوامه. فالوجود والبقاء كلاهما مستلزمان للخلقة، وجزآن لها. فالخلقة عبارة عن الايجاد والابقاء معاً. فالابقاء جزء لها كالوجود.
(والخلقة مستلزمة لنتيجتها وهي الانسان) نعم (لولاك لولاك لما خلقت الافلاك) يدل على ان الغاية من الخلقة ونتيجتها الحياة وذوو الحياة واشرفهم الانسان فهو نتيجة الخلقة.
(بما يذكر) أي في هذا الكتاب من القواعد.
(فمهما وجد فالمنطق كذا) هذه نتيجة لما أشار اليه الاستاذ من القياسات الكثيرة المطوية الغير المتعارفة.
2 (كما ان النحو الخ) حاصله: ان النحو والمنطق باحثان عن اللفظ والمعنى. أما اللفظ: فهو »آدم«، اي كالاب للمسائل النحوية، محله الخيال ومقر فعاليته اللسان.. واما المعنى فهو »حواء« أي كالاُم للمسائل المنطقية مسكنه القلب. كل منهما خادم لتشريع القواعد لتمييز الصحيح عن الفاسد. فبينهما مكافأة تامة. فاذا وصلا الى حد البلوغ يصعد المعنى من القلب إلى الخيال ويتزوج بما في خزينة الخيال من الالفاظ مايشاء ثم ينحدران الى اللسان فيتولد ويتناسل من اجتماعهما القواعد، وتصير تلك القواعد شريعة مبيّنة للحلال والحرام والصحيح والفاسد.
فتبيّن ان الانسان ماهو الا القلب واللسان كما قيل:
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 175
فيعصم [1] الأفكار[2] عن غي الخطا وعن دقيق الفهم يكشف الغطا
فـهـاك [3] من اصـولـه قـواعـدا تـجـمـع من فنـونـه فـوائـدا

[1] أي ان راعى، وما دام لم تستخلف الطبيعة الصنعة. يشير إلى العلة الغائية ورسمه، وإلى جهة الحاجة وآليته. 1
[2] الفكر هو الكشاف لترتب العلل المتسلسلة في الخلقة للتقليد، فيحلل فيعلم، فيركب فيصنع. اي بتخريج السلسلة المتناتجة وتلقيحها. 2
[3] (فهاك) جزاء لما دلت عليه الفاء الجزائية. الجزاء هو الوجوب اللازم للامر عرفاً باقامة الملزوم مقام اللازم. وإلا فالامر انشاء لايلزم. 3

_____________________
1 (أي ان راعى) أي ان بنى صاحبُ الدليل ترتيبه على ما امر به المنطق.
(ولم تستخلف الخ) اي ولم يكن تصنيعه للدليل تابعاً لطبيعته وسليقته في الصحة والاستقامة. أي حاصلا منها بحيث ان لم يكن صاحب الدليل مراعياً للقواعد ايضا لم ينحرف دليله عن الصحة والاستقامة. وان كانت سلامة دليله ناشئة عن سليقته لاعن القواعد لايعد من المنطقيين.
2 (الفكر هو الكشاف) حاصله: ان الولد كما انه نتيجة علل مترتبة في الخلقة كالجد والاب ولابد لوجوده من تلك العلل، كذلك المعرف نتيجة علل مترتبة كالجنس البعيد والقريب والفصل لابد لمعرفته من وجود هذه العلل وترتيبها.
فالفكر مقلد الخلقة يحلل سلاسل العلل ويأخذ منها ما يناسب مطلوبه فيركب ويصنع ما يصنع.
(أي بتخريج السلسلة) اي بتحصيل المبادئ المناسبة للمطلوب وادخال بعضها في بعض. كادخال الحد الاصغر تحت الحد الاوسط وادخاله تحت الحد الاكبر.
3 (جزاء لما دل) تقديره: إذا كان المنطق عاصماً فهاك، أي خذ من قواعده الخ. . .
(الجزاء هو الوجوب عرفاً) إشارة إلى ما يردّ ما يرد وجه الورود، ان هاك أمر، والامر ليس بخبر، والجزاء لابد ان يكون خبراً حتى يكون ويصلح جزاء للشرط. والامر لكونه إنشاء لايكون باقيا فكيف يكون لازماً.
وجه الرد ان الامر مستلزم عرفاً للوجوب. فالامر ملزوم والوجوب لازم. وقد اقيم الملزوم مقام اللازم.
(تقديره إذا كان المنطق عاصما وجب الاخذ من قواعده) اي لزم لزوماً عرفياً كما يقال بين الناس: ينبغي ان تفعل كذا او لا ينبغي.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 176
سميته[1] بالسلم [2] المنورق يرقى به سماء علم [3] المنطق

[1] أيها الناظم! ليهنك القطوف الجواد الذي لايثقل الحاذ في تسميته ترسم تمثيلي. 1
[2] علم الشخص، لان المصباح المتمثل في المرايا الكثيرة مع انه الف واحد. 2
[3] المرسم بمقوى النطق اللفظي، ومسدد النطق الادراكي، ومكمل القوة النطقية. شعبات فصل الانسان 3.
_____________________
1 (ليهنك) مضارع هنأ محذوف اللام بجزم اللام تبريك وتهنئة لقطوف الناظم.
(وفي تسميته ترسم) اذ يستفاد من تسميته بالسلّم تشبيهه به. ويستفاد من التشبيه جعل السلّم الذي هو آلة للصعود الى الفوق مثالاً للتأليف. والايضاح بالامثلة رسم كما اشير اليه آنفاً. فالمراد من الرسم التعريف مطلقا لا الرسم الاصطلاحي.
2 (علم الشخص) كأنه قيل: ان امثال هذه الاسماء لإطلاقها على كثيرين، كليات ذوات جزئيات. فأشار الى الجواب، بأن الاسم اذا وضع باوضاع متعددة لاشخاص لا يقتضي الكلية، لان كلاً من اوضاعه لواحد لا لكثيرين. نعم، مع ان كون المصباح مرئياً في المرايا الكثيرة لا يخلّ وحدته لأنها صور لا ذوات.
3 (المرسم) صفة العلم. أي بهذا العلم يتقوى الانسان في نطقه اللفظي، ويتسدد في نطقه الادراكي، ويزداد في قوته العقلية. هذا اشارة الى ان الناطق الذي هو فصل الانسان متضمن لهذه النطوق الثلاثة. فالمرسم اي المعرف لا الرسم الاصطلاحي. .



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 177
والله [1] أرجو ان يكون [2] خالصاً [3] لوجهه [4] الكريم ليس ناقصا

[1] التقديم يقوى جناح "خالصا". 1
[2] لان الاخلاص لا يكفي في حصول الخالصية، او لعدم الأمن من دسائس النفس. 2
[3] اذ لامناص بالنص الا في المستثنى الثالث في الحديث. 3
[4] هذا من أساليب التنزيل التنزيلية، المبني على النورانية كالشمس، مثلاً وجهها عين ذاتها، كما ان ذاتها عين وجهها. 4
_____________________
1 (التقديم يقوى) أي تقديم المفعول يفيد الحصر، وهو يرد توجيه الرجاء الى غيره تعالى فيحصل الخلوص به ايضا فيتكرر الخلوص فيتقوى.
2 (لان الاخلاص) اي الاخلاص مصدر من العبد، والخالصية اي الحاصل بالمصدر من الله تعالى. ولا لزوم بينهما. فليست الخالصية الا فضلا من الله تعالى فالتقديم للتقوية لازم.
3 (إلا في المستثنى الثالث في الحديث) وهو: هلك الناس الا العالمون هلك العالمون الا العاملون، هلك العاملون الا المخلصون.
4 (هذا) اي التعبير عن الله تعالى باضافة الوجه اليه.
(من الاساليب الخ) اي من التعبيرات التي استعملها القرآن تنزلاً للتقريب الى فهم البشر.
(كالشمس مثلا) اي بلا تشبيه. اي ان الشمس كما أنها لكونها نورانية لايفرق بين ذاتها ووجهها، بل كلاهما واحد.. كذلك وجه الله تعالى عين ذاته وذاته عين وجهه. فمتى أُضيف الوجه اليه تعالى يُراد الذات. اي يكون الاضافة من قبيل اضافة المسمّى الى الاسم. فلا إشكال.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 178
فصل في جواز الاشتغال به

والخلف [1] في جواز [2] الاشتغال به على ثلاثة أقوال

[1] ما اعظم ضرر الاطلاق في مقام التقييد، والتعميم في مقام التخصيص! ومن هذا تتعادى الاجتهادات المتآخية. 1
[2] سلب الضرورة الاختيارية. 2
_____________________
1 (ما اعظم ضرر الاطلاق الخ) يعني ان جواز الاشتغال بالكلام مقيد بقيد الاستعداد، وخاص بذوي القريحة. فلو اعتبر هذا القيد لم يبق الخلاف والشقاق بين ذوي الاجتهادات؛ اذ لا يخفى ان عدم الجواز إنما هو بدون هذا القيد وجوازه معه. فمن عدم اعتبار هذا القيد هنا وقع بين ذوي الاجتهادات بالمخالفة ماوقع من العداوة.
2 (سلب الضرورة الخ) اي المراد بالجواز هنا عدم اللزوم العرفي المعبّر عنه بالانبغاء بين الناس حينما يقول بعضهم لبعض: ينبغي ان يكون الامر هكذا وهكذا، أي يلزم.
ولايخفى ان الضرورة الاختيارية اذا انسلبت بقي الجواز الاختياري العرفي فلا مانع للاشتغال به عرفاً.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 179
فابن الصلاح والنواوي [1] حرما وقال قوم [2] ينبغي [3] أن يعلما[4]

[1] أي لأدائه الى ترك الواجب، او لانجراره الى الفاسد، او لاختلاطه بالباطل، او لانحراف المزاج الذي يأخذ من كل شيء سيئه. وإلاّ فتعصب بارد. 1
[2] عرف في الاول، لأنه نكرة أو معرفة. ونكّر في الثاني لانه معرف أو منكر. 2
[3] اي ينطلب اي الانبغاء لزوم طبيعي لاعقلي أي فطرته مسخرة للعلم. فكما أن مقتضى الفطرة في أفعال الجامدات يوجه بالضرورة، كذلك مقتضاها في مظان الاختيار يوجه (بالضرورة أيضاً)، لكن من عالم الامر. 3
[4] لأنه مقدمة الواجب، ولأنه دليل ترك الشر، وإلا فتعصب الصنعة. 4
_____________________
1 ان الاستاذ يشير الى أسباب التحريم. (أي لأدائه الى ترك الواجب) أي ان لم يجعل مقدمة لعلم التوحيد (او لانجراره الى الفاسد) كجامع الحطب بالليل. (او لاختلاطه بالباطل) اذ المركب من الصحيح والباطل باطل والاشتغال بالباطل حرام (او لانحراف المزاج) أي انحراف فكره وذهنه عن صوب الصحة.
2 (عرف في الاول) أي القول القائل بالتحريم. حيث ذكره بالكنية والنسبة الى العلم، (لانه معرفة) بين الناس.. (أو نكرة) عند السامع فعرفه له.. (ونكر في الثاني) وهو القائل بالجواز.. (لانه معرف) أي بالبيت الآتي.. (او منكر) اي لأن السامع لايعرفهم وليس طالباً لمعرفتهم.
3 (أي ينطلب) من باب الانفعال اي طلب العلم طبيعي لايُطلب بقصد بل ينطلب بنفسه.. (اذ فطرته مسخرة للعلم) اي لاتنفك عن العلم. فكما ان مقتضاها في الجامدات يوجّه بالضرورة مثل النار محرقة بالضرورة كذلك في مظان الاختيار يوجه بها مثل الانسان عالم بالضرورة. اي بحسب الفطرة.. (لكن هذا من عالم الامر) أي والاول من عالم الخلق اذ الماديات بالخلق وغيرها من عالم الامر كالروح.
4 (لأنه مقدمة الواجب) وهو التوحيد وردّ الكفريات .. (ولأنه دليل الشر) أي دليل على معرفة الشر، لأن من لم يشتغل بالكلام لا يفّرق بين الاقوال السالمة والباطلة. فلزم الاشتغال به ليعرف الباطل ليتوقى منه؛ إذ لا يتحفظ ممن ومما لايعرف. كما قال من قال:
عرفتُ الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 180
والقولة المشهورة الصحيحة[1] جوازه[2] لكامل القريحة[3]
ممارس[4] السنة[5] والكتاب[6] ليهتدى[7] به الى الصواب
[1] لان تلقى الامة بالقبول امارة تجرد الحقيقة.
[2] أي "مندوب" لانه مكَمِّلٌ .. "مكروه" لانه قد يشوش.. "مباح" لان علم الشئ خير من جهله.. "فرض كفاية" لانه المجهز.. "حرام" لغير المستعد، للمفهوم المخالف. 1
[3] والمستعد ايضا 2.
اعلم! ان من محاسن الخلقة والفطرة تقسيم المحاسن، ومنه انقسام المشارب، ومنه تفريق المساعي، ومنه امتثال فروض الكفاية في الخلقة، ومنه تقسيم الاعمال.
نعم: بتركه نزرع اكثر من السلف ونستغل الاقل.
[4] اي مجهز بالمنطقين المنجبين
[5] أي السنة الصغرى بجوانبها الاربعة، تفسير كبير لسنة الله الكبرى المنبثة في العالم الاصغر والاكبر. 3
[6] أي
(ذلك الكتاب لاريب فيه) الذي هو تمثال سنة الله في الفطرة، التي لا تبديل لها ولاتحويل. أي المنطق الاعظم للانسان الاكبر، الذي قوته المفكرة نوع العالم الاصغر وهو الانسان.
[7] أي لئلا يزل الناظر لنفسه، ولا يضل الناظر لغيره. فان الاستدلال للنفي غالب ،دون الاثبات في العقائد. 4
_____________________
1 (أي مندوب) إشارة إلى انه يجتمع فيه الاحكام الشرعية
(لانه المجهز) أي يجهز العقائد الحقة. وتصفيتها في كل قطعة من فروض الكفاية.
( للمفهوم المخالف) أي عكس كامل القريحة، بان لم يكن له قريحة ولا كمالها.
2 (والمستعد ايضا) عطف على كامل القريحة في المتن. اي من له استعداد بالقوة فقط.
3 (السنة الصغرى) وهي السنة المحمدية التي جوانبها الاربعة عبارة عن الحديث القدسى والقولي والفعلي والتقريري. وتلك السنة كشافة للسنة الكبرى المنتشرة بين انواع ذوي الحياة وبين طبقات الكائنات من القوانين والارتباطات التي لاتبديل لها ولاتحويل.
4 (فان الاستدلال الخ) حاصله: ان الحق والصواب في المسائل أقل، وغير الصواب اكثر واغلب. فالاحتياج الى الدلائل النافية لغير الصواب اكثر وأغلب من المثبتة للصواب.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 181
فصل في انواع العلم الحادث
ادراك[1] مفرد[2] تصوراً [3] علم ودرك[4] نسبة[5] بتصديق وسم
[1] للنفس في الادراك فعل، يستتبع اضافة، تستلزم انفعالاً، يستولد كيفية، تستردف صورة. مع انها علم معلوم ايضا. والاول صفة. والثاني مظروف للذهن. 1
[2] اي ولو حكما باجمالية النسبة.
[3] الاطلاق المستفاد من الاطلاق تقييد. اي التصور المطلق لا مطلق التصور. 2
[4] غيّر لمغايرة النوعين في التعلق لا في المتعلق فقط؛ فان الاول كالحل، والثاني كالربط والعقد. 3
[5] أي درك ان النسبة واقعة مفصلة مستردف الاذعان. لا درك نسبة؛ فانه شرط او شطر. ولا درك وقوع النسبة؛ فانه تابع 4.

_____________________
1 (مع انها علم معلوم ايضا) أي الادراك عبارة عن الصورة الحاصلة في الذهن. فتلك الصورة من حيث ينتقش ويتصف بها الذهن تكون علماً وصفة. ومن حيث حصولها في الذهن تكون مظروفة للذهن ومعلوماً لتعلق ذلك الانتقاش به.
2 (أي التصور المطلق لامطلق التصور) دفعٌ لما يوهمه قول الناظم من عدم المطابقة بين التعريف والمعرف، اذ المتبادر من قوله (تصوراً علم) مطلق التصور أي سواء كان ذلك التصور مع الحكم او لا. وهذا عام يشمل التصور مع الحكم ايضا، لان محل حصوله الذهن. وبهذا الاعتبار يكون المعرف اعم من التعريف.
وجه الدفع ان المعرف هنا اعني (تصورا) لكونه غير مقيد، مقيد بالاطلاق، أي التصور المطلق. وهو خاص لايشمل التصور مع الحكم. فالمعرف يساوي التعريف فلا اشكال.
3 (غير لمغايرة الخ) أي بدّل الادراك بالدرك، لان التصور والتصديق كما تغايرا في المتعلق لانه في الاول المفرد وفي الثاني الحكم تغايرا في التعلق ايضا. لان التعلق في الاول بطرفى القضية وفي الثاني بالنسبة بينهما. ولايخفى ان وجود النسبة يتوقف على العقد والربط بين الطرفين والاول يدل على الانفصال بين الطرفين وانحلالهما عن النسبة.
4 (اي درك ان النسبة واقعة) يعني ان الظاهر من هذا القول: ان الناظم ذاهب الى مذهب القدماء من أن التصديق عندهم عبارة عن درك النسبة التامة الخبرية أي درك الثبوت بين الطرفين. بناء على ان اجزاء القضية عندهم ثلاثة: الموضوع والمحمول وثبوت الثاني للاول. لكن عند المتأخرين عبارة عن درك وقوع الثبوت بينهما. فالاجزاء عندهم اربعة ان جعل الثبوت المسمى عندهم بالنسبة بين بين شطراً اي جزء او ثلاثة ان جعل شرطا.
وصف الاستاذ ذلك الادراك بالاذعان في سائر رسائله اي الاطمئنان القلبي إشارة إلى ان القائل »لكلمة التوحيد« من غير اذعان واطمئنان بمفهومها لايفوز بحقيقة الايمان.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 182
وقدم الاول[1] عند الوضع لانه[2] مقدم بالطبع[3]

[1] وإن كان متأخراً في النهاية، لانه النتيجة. اذ التصديقات معرفة نسب الشئ. ونسب الشئ رسم صورته. 1
[2] اذ ليس للجعل ان يعزل مانصبه الخلق. وان الصنعة تلميذ الطبيعة، نورها مستفاد منها. وان الاختيار متمم الفطرة مانع المانع ولاينوب عنها. 2
[3] اي شرط او جزء، ولايجوز تقوم الشئ بالنقيضين، او اشتراطه بنقيضه؛ لان التصور ليس جنسا ولاذاتياً للتصورات، بل عرض عام كالمصطلحات لافرادها. 3

_____________________
1 حاصله: ان التصديق لكونه يتوقف على تصور اجزاء القضية يكون التصور مقدماً عليه.
وكذا ان التصديق عبارة عن معرفة نسبة الموضوع إلى محمولاته، كنسبة زيد إلى الكاتب والشاعر وغيرهما وتلك النسبة رسم ناقص له وهو يفيد حصول صورته في الذهن. وما هذا إلاّ تصور. فالتصديق ينجر وينتهي الى التصور. فالتصور نتيجة للتصديق متأخر عنهما.
2 (إذ ليس للجعل) حاصله: أن التصور شرط أو جزء للتصديق وهما مقدمان على الكل، والمشروط طبعا وفطرة. فليس للواضع أن يخالف مقتضي الخلقة باختياره عازلاً للفطرة، لأن الاختيار انما هو تلميذ يتلو تلو استاذه ولاينوب منابه. وإنما وظيفته دفع الموانع لإكمال الخلقة.
3 (أي شرط أو جزء) دفع لما يقال: من أن التصور والتصديق ضدان أو نقيضان، فكيف يكون احدهما جزءاً أو شرطاً للآخر؟
وحاصل الدفع: أن الشرط او الجزء للتصديق انما هو التصور الخاص لا التصور الذي هو عرض عام. وإنما يلزم ذلك لو كان ذاتياً للتصورات.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:49 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 183
والنظري[1] ما احتاج[2] للتأمل[3] وعكسه[4] هو [5] الضرورى[6] الجلي

[1] أي منهما، أي الادراك والدرك بمعنى المدرك، أي ماصدق عليه في زمان ما 1
[2] أي بالعموم وإلاّ فالإلهام والتعليم والتصفية من طرقه 2.
[3] أي استكشاف الرتب متحركاً لتحصيل المادة، مستردفاً لتجريد الذهن عن الغفلات، مستتبعاً لتحديق العقل نحو المعقولات، مستصحباً لملاحظة المعلوم لتحصيل المجهول، منتهياً الى البسائط. ثم متحركاً لتحصيل الصورة، مستصحباً للتفطن، مستلزماً لترتيب الامور، مولداً للمرتبية الحاصلة بالمصدر. "هذه الحقيقة مزقها العوام شذراً مذراً" 3.
[4] أي لا منطقاً ولا لغة. 4
[5] "هو" للجمع و "ال" للمنع او للبداهة كوالدك العبد 5. .
[6] أي الذهني لا الخارجي مقابل الإمكان 6. .

_____________________
1 (اي منهما) راجع للتصور والتصديق. لامفسر بما بعده، لانه غير مذكور.
(بمعنى المدرك) اول باسم المفعول ليصح الحمل. ولشمول التعريف لما يدرك بعد عمم الزمان بقوله (في زمان ما).
2 (اي بالعموم) اي الدرب الكبير والطريق العام. وإلا فله طرق اخرى كالالهام والتعليم والتصفية.
3 (اي استكشاف الرتب) حاصله ان للذهن لاحضار الدليل حركتين احداهما انه يدور في ساحة المعلومات والمعقولات يبحث عما يناسب لإثبات مدعاه. فاذا وجد تلك المقدمات المناسبة جمعها ويختم حركته الاولى للمادة. ثم يعود ثانياً لتحصيل الصورة، فيضع كلاً من المقدمات في موضعها مراعيا للشرائط، فتتشكل الصورة ايضا فيتم الدليل ويصل الى المطلوب. .
4 (اي لا منطقا ولا لغة) اي المراد من العكس هنا المعنى العرفي الذي هو عبارة عن الضدية فقوله (عكسه) اي ضده لا العكس المنطقي، الذي هو عبارة عن تبديل الطرفين، ولا اللغوي اي الانتقال من جهة الى جهة مثل الانعكاس.
5 (هو للجمع) اي للاشارة الى جامعية التعريف، لان (هو) يدل على حصر المعرف في التعريف (وال للمنع) أى للدلالة على كون التعريف مانعا عن الاغيار لانه للعهد الخارجي او للبداهة كما ان (ال) في (والدك العبد) للبداهة. .
6 (اي الذهني) اي البديهي لانه هو الضد للنظري. اما الخارجي فبمعنى الوجوب الذي هو مقابل وضد للامكان. .



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 184
ومابه[1] الى تصور[2] وصل[3] يدعى[4] بقول شارح[5] فلنبتهل

[1] هذا قول شارح للقول الشارح:
ان ادخلت في "ما" القاموس، وقسم من التقسيمات، واكثر التفسيرات، وكل التمثيلات وجميع الامثلة لم يمتلئ 1...
مافي الباء من السببية علة معدة حضوراً ومجامعة حصولا 2..
أي ذاتاً او صفة او لازماً موضوعاً او مفهوماً بنوعيه، او مدلولا بأنواعه، او مراداً، او ماهية حقيقية او اعتبارية او اصطلاحية مفصلا او مجملا تاما، او ناقصا بالعلل او المعلولات او بكليهما 3..
[2] اي متصوراً بوجه، فإن المجهول المطلق كما يمتنع الحكم عليه يمتنع تعريفه...
[3] مصدره نائب فاعل، ميزانه ومفهومه روح كل محمولاته وجنس عال لها. كما ان المعلوم اب لموضوعاته و "المعلوم موصل" ام مسائله 4...
[4] اي الدعاء. هذا آخر صــــورة انتهت اليها هذه النســــبة منـاد على اسمية التـعريـف لإحضــار ذات وقول. اي مركب ولو ذهنــا. لان البســائط لاتـعرف بل

_____________________
1 (ان دخلت في ما) يعني أن لـ (ما) بطنا لو أدخل فيه جميع ماذكر -لكن من قسم التصورات- لم يمتلئ ولم يشبع.
يعني أن كل مافي جوف (ما) مما ذكر تعريفات توصل الى معرفات..
2 (ما في الباء من السببية) يدل على أن التعريف علة لاحضار المعرف، بحيث لولاه لم يحضر. وبعد الاحضار والحصول، علة مجامعة ومقارنة معه لاتنفك عنه للزوم بينهما.
3 (أي ذاتا او صفة الخ) إن شئت إيضاح هذه الاقسام مع الامثلة فراجع قبر الاستاذ رضي الله عنه وأرضاه (وهو في ربوة رفيعة من ربى ولاية اسبارطة مستور مجهول ممنوع عن الناس!!!).
4 (أي مصدره نائب فاعل ميزانه) أي فعل الوصول على أنه من باب التضمين (ومفهومه) هو الوصول: حاصله: أن التعريف كالاب ملقح للمعرف. أي نافخ لروح الوصول في رحم المعرف. فالتعريف موضوع والمعرف محمول والوصول روح منفوخ منه في رحمه. فكل المسائل داخلة في (المعلوم موصل) أي المعلومات موصلة الى المجهولات...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 185
تحدس حدسا 1..
[5] اي مستقرئ مواطئ النشو، ومدارج الاستكمال، ومحلل يرد الشئ الى اصله. 2

_____________________
1 (اي الدعاء) اى مصدره الدعاء بمعنى النداء أي يسمي وينادي..
(هذا) أي ندائه بالقول الشارح وتسميته به آخر صورة ينجر وينتهي اليها النسبة التضائفية بين العرف والمعرف، اذ بينهما تضايف. أي التسمية انما تتحقق بعد تمام الوصول لان الاسم بعد تمام المسمى.. (هذا) مبتدأ (آخر) خبره الاول (مناد) خبره الثاني. أى يدل على ان التعريف اسم لما كان مركبا من ذات وصفة ولو ذهنا، كالناطق في الحد الناقص. اذ البسيط لا يعرف وانما يعرف بالحدس أى الانتقال دفعة وفجأة من المعلوم الى المجهول..
2 أي (مستقرئ) اي التعريف مفتش يبحث عما ينشأ ويحصل عنه المعرف من الاجناس والفصول والخواص والاعراض. وكذا محلل شارح يرد المعرف الى أصله. مثلا: ان من يريد أن يعرف الانسان يتحرى أولا ما يتركب منه من الاجناس كالجوهر والجسم والجسم النامي والحيوان. ومن الفصول كالقابل للابعاد الثلاثة والنامي والحساس والناطق. ثم يجمعها ساترا لها في بطن الحيوان الناطق فيتولد الانسان.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 186
وما [1] لتصديق[2] به[3] توصلا[4] بحجة[5] يعرف[6] عند العقلا[7]

[1] "ما" موصوفة، اي تصديق، اي لاتصور. لان النوعين غير متجانسين فلا يتوالدان وإن تلازما...
[2] كما تضمن اللام "الى" تضمن "توصل" "تكلف". فالاول متعلق بالثاني، اذ هذا التصديق مدعي. والثاني بالاول، اذ هو نتيجة باول وبالاطلاق أو التخييل أيضاً 1...
[3] وبالجزئي على الجزئي، او الجزئي على الكلي، او بالكلي على الجزئي 2.
[4] زاد هنا وجرده في التصور للإشكال في الأشكال، والاشتباك في الدليل. "ومصدر المجرد نائب فاعل المزيد" اي وصولا لازماً الى معلوم، او مظنون لذات الدليل، او صورته او موهوم او متخيل او جهل مركب 3..

_____________________
1 كما تضمن (اللام) معنى (الى) اي لان الوصول يتعدى بإلى (تضمن توصل معنى تكلف) لان الوصول يحصل بالكلفة فناسب تضمين التوصل. فاللام في (لتصديق) له معنيان: معناه الاصلي، ومعنى (الى). (فالاول) اي اذا نظر اليه بالمعنى الاصلي (متعلق بالثاني) التكلف المتضمن للتوصل (اذ هذا التصديق) اي مدخول اللام (مدعى) وفي اثبات المدعي المجهول كلفة، فناسب تعلقه بالتكلف (والثاني) اى اللام بالمعنى الثاني (متعلق بالاول) اي التوصل المتضمن (اذ هو) اي التصديق المدخول للام (نتيجة باول) أي سيؤول وسيرجع ويصير نتيجة. وفي نتاجها لا يوجد الكلفة فالمناسب تعلقه بالتوصل لا بالتكلف.
(وبالاطلاق أو التخييل أيضاً)، أي ذلك التصديق المدخول للام لكونه غير مقيد شامل للقسمين. أي ما كان مدعى وما كان نتيجة، وبالتخييل والتقدير ايضا يمكن الشمول للقسمين.
2 (وبالجزئي على الجزئي) أي الوصول قد يكون بالجزئي على الجزئي، مثل: هذا زيد، وزيد ضاحك، فهذا ضاحك (وبالجزئي على الكلي) كما في الحدسيات، كالانتقال من بعض الامارات الى المطلوب الكلي (وبالكلي على الجزئي) مثل :كل انسان حيوان وكل انسان كاتب فبعض الحيوان كاتب.
3 (زاد هنا) قائلاً توصل من المزيد (وجرد هناك) قائلاً وصل من الثلاثي (للاشكال في الأشكال) بكسر أول الاول وفتحه في الثاني. يعني أن الإشكالات الواقعة في الاشكال والضروب والقياسات أجبرت على ترجيح المزيد على المجرد اشارة الى زيادة الكلفة هنا.
(ومصدر المجرد نائب فاعل المزيد) يعني أن (توصل) لكونه بناء المجهول يقتضي نائب الفاعل ولا مفعول ينوب منابه لكونه غير متعد فأشار الاستاذ الى أن مصدر المجرد أعني الوصول نائب عن فاعله.
فمعنى توصل (وقع الوصول) (أي وصولا) مفعول مطلق نوعي (لازما) صفة للاشارة الى اللزوم بين الدليل والنتيجة (الى معلوم) متعلق بالوصول أي نتيجة ذات يقين (او مظنون) أي من الظنيات (لذات الدليل او صورته) أي سبب الظنية ما وجد في الدليل او صورته من موجبات الظن (او موهوم) أي من الوهميات.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 187
[5] اعلم!
انها نسابة انسال الحادثات، وسرادة سلاسل مناسبات الكائنات، وتمثال مجاري الحياة من جرثوم الحقيقة العظمى الى الثمرات 1..
[6] مجاز من "يتحد" وهو من "يحمل" وهو من "يحدد" والمعرفة هي كيفية هذه النسبة، اشارة الى استغناء هذه الدعوى عن الدليل...
[7] اللام عوض الصفة اي المنطقيين. لا الاضافة لان "عاقلا" من ذي كذا 2.
واعلم!
ان الكل كالانسان مثلا: في حكم مصدره جزئه مستتر تحت جزئه او خلفه كالعين للمفتش والاذن للجاسوس والعقل للمنطقي 3.

_____________________
1 (اعلم انها نسابة لأنسال.. الخ) الضمير عائد للحجة. (نسابة) صفة مبالغة من النسبة. بمعنى كثير المعرفة بالانساب. والأنسال جمع نسل بمعنى الذرية. أى الحجة الالهية كأنها تاريخ جامع للحادثات الكونية وعارف بتناسل بعضها عن بعض.
(وسرادة سلاسل) أى مركز لاجتماع تلك السلاسل كأنها »سانترال« محل ومرابط لتلك السلاسل.
2 (اللام) اي الالف واللام في العقلاء (عوض) اي بدل (عن الصفة) اي عقلاء منطقيين (لا الاضافة) اي عقلاء المنطق. لان العاقل ليس باسم فاعل حتى يضاف الى مفعوله (بل هو من ذي كذا) اي من باب ذي كذا. فالمعنى عند ذوي العقول من المنطقيين.
3 واعلم!
(ان الكل كالانسان) اي المركب من اجزاء كالعين والاذن وغيرهما اذا وقع (في حكم) اي فعل (مصدره) اسم مكان ضميره عائد للحكم مبتدأ خبره (جزؤه) والضمير راجع للكل. والجملة صفة الحكم مثل (تجسس زيد) فان التجسس يكون بالاذن. فالقاعدة في التعبير عن ذلك الحكم والفعل اما استتار الفاعل اي الكل في ذلك الجزء او اضافة الكل اليه بواسطة (ذو) فيقال للشخص المنطقي عاقل او ذو عقل لان المنطق يصدر من العقل وللمفتش عاين او ذو عين هكذا. والى هذا أشار بقوله (مستتر تحته او خلفه) كالعين للمفتش والاذن للجاسوس والعقل للمنطقي.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 188
انواع الدلالات الوضعية

دلالة[1] اللفظ[2] على ما [3] وافقه[4] يدعونها[5] دلالة المطابقة[6]

[1] هذه هي الثانية من احوال اللفظ الاربعة التي يقسمها اللفظ واللغة والمنطق والبيان والاستنباط الاصولي من الوضع والدلالة والإستعمال والفهم 1.
[2] اعلم!
ماأدق حكمة الله في اللفظ وما أعجب شأنه وما ألطفه نقشا! ان الرابط بين مأخذي جنس الانسان وفصله هو النَفَس ذو الرأسين، الموظف بوظيفتين، صاحب الثمرتين، الموجه الى القبلتين، المثمر اسافله لنار حياة الحيوان مع تصفية مائها، والمولد أعاليه لحركات نطق الناطق.
فبدخوله الى عالم الغيب يصفي الدم الملوث بانقاض الحجيرات المحللة، بسر امتزاج (مولد الحموضة الهوائي بكربونه) بسبب العشق الكيميوي. فاذ يمتزج العنصران يتحد كل جزئين منهما. واذ يتحدان يتحركان بحركة واحدة. فتبقى الحركة الاخرى معلقة باقية. فبسر "تحول الحركة حرارة والحرارة حركة" تنقلب تلك الحركة الباقية المعلقة حرارة غريزية. اعني نار حياة الحيوان. فبينما يخرج النَفَس من عالم الغيب الى عالم الشهادة تعباً اذ يتداخل في المخارج متكيفا بالصوت والصوت يتفرق على المقاطع متحولا حروفاً "اجدى من تفاريق العصا". بينما هي قطعات صوت لاحراك لها. اذ صارت أجساماً لطيفة عجيبة النقوش، غريبة الاشكال، حاملة

_____________________
1 (التي انقسمها اللفظ واللغة الخ) ان قيل المقسوم أربعة والمقسوم عليه خمسة فكيف يصح التقسيم؟ قلت، نعم، لكن التقسيم أيضاً على أربعة، اذ اللفظ خارج عن المقسوم عليه، اذ الوضع ناظر الى اللغة والدلالة الى المنطق والاستعمال للبيان والفهم للاصول. لكن لاتظنن أن اللفظ بقي خارجا عن التقسيم، بل هو كالام لهذه الاربعة تأخذ من حصة كل واحد، إذ بيده رأس حصة كل منها، حيث يقول اللغوى وضع اللفظ لهذا المعنى والمنطقي دلالة اللفظ على هذا المعني مطابقة وهكذا..
فاللفظ داخل في حصة كل. وبهذا الاعتبار تأخذ الام من حصص الاولاد اربعا..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 189
للاغراض والمقاصد، تتطاير مترنمة من أوكارها، مرسلة الى ماقدر لها صانعها الحكيم سفراء بين العقول. فاللفظ زبد الفكر، صورة التصور، بقاء التأمل، رمز الذهن. فبسبب الخفة والتعاقب وقلة المؤنة وعدم المزاحمة وعدم القرار ترجّح اللفظ لهذه النعمة العظمى: فما أجهل من يكذب او يسرف بقيمة هذه النعمة!.
[3] "أي المفرد" لان دلالة المركب على جزء معناه مطابقة. واللفظ امارة ورمز على ما في الذهن على مذهب، وعلى مافي الخارج على مذهب 1..
[4] أي مقدار قامات المعاني.. لا يشتكى قصر منها ولا طول 2.
[5] فيه مامر في "يدعى" فان نسبة الحكم لها صور متفاوتة واستحالات متسلسلة 3.
[6] وإن قارنها دلالة التضمن والالتزام بتسليم بقاء الضعيف مع القوي، ووجود الدلالة بدون الارادة؛ لان الحيثية مرادة في "مقول الاضافة" بسر ان الحكم على المشتق وما في معناه يدل على التقييد 4...

_____________________
1 (اي المفرد) لان اللام في اللفظ للعهد والاشارة الى المفرد فلا يرد على حصر التقسيم وجمعه دلالة المركب على جزئه مطابقة على ماسيجئ فلا تبقى خارجة عن التقسيم وعن اقسام الدلالة، لان المقصود من الوضع في الدلالة المطابقية ليس وضع اللفظ لعين المعنى بل ما كان للوضع فيه مدخل..
2 (اي مقدار قامات) اقتباس من شعر الشاعر:
والفاظ رقاق النسج قدت على مقدار قامات المعاني
3 (فان نسبة الحكم) نعم. ان دلالة اللفظ على المعنى لها صور وعنوانات متخالفة كالتطابق والتضمن والالتزام وانقلابات متسلسلة بتبدل المواضع والتراكيب. مثلا: ان الناطق يكون تارة مدلولاً تضمنياً وتارة التزامياً وهكذا..
4 (لان الحيثية مرادة) علة لمقدر: كأنه قيل بعد تسليم المقارنة والبقاء لايصح ولايخص التسمية بالمطابقة فأجاب: بان الحيثية مرادة والمجوز لإرادتها ترتب الحكم على المشتق كما هنا. اي من حيث وافقه..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 190
وجزئه[1] تضمناً[2] وما[3] لزم فهو التزام ان بعقل[4] التزم[5]

[1] بمقدمتين نقلية وعقلية. ببقية ارادة واحدة، لامستقلة. والا فمطابقة مجاز او حقيقة قاصرة. ولا بارادة مشتركة وإلاّ فمجاز وحقيقة. وبالدخول في جواب ما هو، لا الوقوع في طريق ما هو. فما ذكر عند المنطقيين وإلاّ فمطلق 1.
[2] هذا والالتزام مصدران جعليان مشتقان من الدلالة التضمنية والالتزامية 2.
[3] أي خارج وإلاّ تداخل القسمان 3.
[4] أي عقلياً بيّنا أخص عند المنطقي. والاّ فسواء عقلياً او عادياً او عرفياً او شرعياً او اصطلاحياً او دائماً او موقتاً لكلمة او كلام أو قصة. او اللازم لتصور أو تصديق او تخييل او معنى من المعاني الحرفية التي لاوطن لها، تبعيا او قصديا 4.
[5] اي وان كان ضداً إذ كثيراً ما يكون اقرب الاشياء الى الشئ خطوراً ضده، لاسيما اذا انضاف الى الضدية الاضافية. حتى قيل ان النقيض نظير نقيضه 5.

_____________________
1 (بمقدمتين) اي دلالة اللفظ على جزء المعنى ثابتة بمقدمتين نقلا وعقلا. أما نقلا: فلأن دلالة اللفظ على جزء المعنى ليست مهجورة، بل هي ثابتة عند العلماء ومعتبرة في الاحكام. وأما عقلا: فلأن وجود المركب انما هو بوجود الاجزاء ولولاها لم يوجد، فاستلزامه لها ودلالته عليها ضرورية.
(وبالدخول في جواب ماهو) عطف على (ببقية) اشار به الى لزوم تصور ذلك الجزء بالجزئية والا لم تكف الدلالة تضمنا. وانما يعلم ذلك التصور بصلاحية ذلك الجزء للدخول في جواب ماهو لان تعبير الدخول خاص بالاجزاء والوقوع عام فالحيثية مرادة. اي من حيث هو جزء. وإلى هذا أشار بقوله (لا الوقوع في طريق).
2 (وهذا) أي التضمن (والالتزام مصدران) توجيه لما يقال: من ان التسمية بالتضمن والالتزام ليست بصحيحة اذ لايجوز حملهما على الدلالة.
وجه التوجيه: انهما مصدران جعليان اي مشتقان اي مشقوقان اي متغيران اي محرفان من التضمنية والالتزامية. مثل »شمو من شمس الدين«.
3 (اي خارج) ليخرج الداخل من شمول (ما) (والاّ تداخل القسمان) أي التضمن والالتزام لان الجزء الداخل لازم.
4 (اي عقليا بينا) هذه الاقسام المذكورة المتساوية عند غير المنطقي، ايضاحها بالامثلة ليس في وسع (عبد المجيد) الآن بل مدفون مع الاستاذ !.
5 (حتى قيل ان النقيض نظير نقيضه) كالنور والظلمة والليل والنهار، فان تصور كل يخطر الآخر بالبال.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 191
فصل في مباحث الالفاظ

مستعمل[1] الالفاظ حيث يوجد إما مركب[2] وإما مفرد[3]

[1] مسور كلية هذه القضية الاستغراق المكسوب من المضاف اليه، لوصفية المضاف. لانه حملية. والسور "حيث" من حيث أنها شبيهة المنفصلة 1.
[2] المركب المركب مع مع مفرد ومع من مركب من 2...
[3] اي مع عدم اعتبار الغير لا اعتبار عدم الغير. أخّره مع تقدمه لأن مافيه من العدم حادث لا أصلي. اذ وضع الالفاظ لاليفيد معانيها لتعينها اولاً، بل ليفيد مايعرضها بالتركيب. فالمركب مقدم. كما في دلائل الاعجاز 3.

_____________________
1 (مسور كلية هذه القضية) حاصله: ان تشكل هذا التقسيم في شكل قضية حملية كلية شبيهة بالمنفصلة. موضوعها (مستعمل)، محمولها المردد بين إما و او.
كليتها لمحافظة حصر التقسيم وجمعه. اذ لولاها لم يكن جامعا للاقسام.
وسورها الاستغراق المستفاد من اللام في المضاف اليه، اذ لا يكتسب الاستغراق من الموضوع المضاف لانه وصف لا افراد له لذاته.
وشبهها بالمنفصلة في كون التردد بين جزئي المحمول لا بين قضيتين. ثم ان محمول هذه القضية الحملية لكونه كالمنفصلة لابد ان يكون كلية مسورة كالحملية ايضا محافظة لحصر التقسيم لكن الاستغراق في الشرطيات باعتبار الازمان والاوضاع. وسور هذه المنفصلة (حيث) فمعنى تلك القضية: كل لفظ مستعمل في كل زمان وعلى كل وضع اما مفرد او مركب.
2 (المركب المركب مع مع مفرد) لان واحدا من جزئي المركب وقع بعد مع، ولم يبق فيه الا جزء واحد فهو قبل ذكر ما وقع بعد مع مفرد. (والمركب مع من مركب من. .) لان من بيان وتفسير لما قبله، فلو لم يلاحظ الجزآن في المركب قبل ذكر (من) يبقى المفسر بلا مفسر. فقبل ذكر (من) يلاحظ الجزان فيه البتة، فهو مركب من أى (من) اجزائه.
3 (اي مع عدم اعتبار الغير) اي وارداته. سواء كان الغير موجودا او لا ليدخل عبد المجيد علما (لا اعتبار عدم الغير) اذ حينئذ يخرج هذا الفقير عن التعريف (اخّره مع تقدمه) اي على المركب لانه جزؤه (لان مافيه من العدم حادث) لان وجود عدم وجود دلالة الجزء في مفهوم المفرد، إنما وجد بعد وجودها في شئ آخر، اعني المركب. مع ان الوجودي مقدم على السلبي والاصلي على الحادث.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 192
فأول[1] ما[2] دل[3] جزئه[4] على[5]
جزء[6] لمعناه[7] بعكس[8] ما تلا
[1] من ديدنهم ترديف التقسيم القطعي بالعقلي للاثبات 1
[2] أي لفظ 2 [3] اي واريدت 3
[4] اي المرتب في السمع 4 [5] أي بالذات 5
[6] أي له وقع 6 [7] أي المعنيّ 7
[8] أي نقيضه 8...
اعلم! ان لمفهوم المركب فرداً فرداً هو وجود جميع الاجزاء. وللمفرد افراداً بعدد عدم الاعم. فالاخص، ثم الاخص الى عدم الارادة. واخص الكل الاعم، اذ عدم الاخص أعم، فيعم احداً وثلاثين عقلا وستة واقعاً 9.

_____________________
1 (التقسيم القطعي بالعقلي) أي من عادة العلماء انهم بعد التقسيم القطعي أي الثابت ثبوته في الواقع، يقسمون بالعقلى أيضاً للاثبات. أي ليحصل الثبوت في الذهن أيضاً..

2
(اي لفظ) جنس وباقي القيود فصل فغيره ليس بمفرد ولامركب كالإِشارات..
3 (اى واريدت) اي ان دلت ولم ترد فمفرد كالحيوان الناطق علما..
4 (أي المرتب في السمع) فالفعل الدال بمادته على الحدث وبهيئته على الزمان مفرد لامركب ...
5 (أى بالذات) فالدال بالواسطة ليس مركبا، كالانسان الدال على قابل العلم بواسطة اللزوم.
6 (ليس له وقع) أى تأثير وفائدة فلا عبرة بأرادة دلالة (زاء زيد) على يده مثلا..

7
(أي المعنىّ) كعبد المجيد فان مدلول جزئه ليس جزءاً للمعنى المقصود إذا كان علما فليس مركبا..
8 (أي نقيضه) اي لان (دلّ) نقيض (ما دل) فالمفرد والمركب نقيضان مفهوما...
9 (اعلم ان لمفهوم الخ) حاصله: ان للمركب فرداً فرداً أى اجزاء يحصل ويتشكل المركب باجتماعها فقط. وللمفرد أفراداً أى جزئيات واقساما حاصلة من نفي كل واحد من القيود المذكورة المشروطة لتشكل المركب.فبانعدام كل قيد مع بقاء الآخر فرضا يحصل للمفرد قسم عقلا. فاذا ضربنا القيود المنفية في المفرد في الستة المشروطة الموجودة في المركب - المذكورة آنفا - يحصل للمفرد ستة وثلاثون قسما عقلا. ولكن القيد الاول - أعني اللفظ - خارج عن الضرب لكونه مقسما للمفرد والمركب. فيبقى احد وثلاثون قسما. هذا عقلي. وأما الخارجي فستة: والى هذا أشار بقوله (بعدد عدم الاعم ..الخ). نعم، بناء على ان كل قيد ذى قيد اخص من مطلقه، كالانسان الكاتب مع الإِنسان..
والحاصل: انه كلما يتزايد القيود يتخصص. يعني يكون الثاني أخص من الاول، والثالث من الثاني، والرابع من الثالث، والخامس من الرابع، والسادس من الخامس. فالاخص من الكل الثالث؛ اذ لا اخص تحته. وهو مع كونه اخص الكل؛ بهذا الاعتبار يكون اعم الكل اذ لا اخص تحته فهو مطلق والمطلق أعم من المقيد...



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:50 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 193
وهو على[1] قسمين أعني[2] المفردا[3] كلي[4] أو جزئي[5] حيث وجدا

[1] "على" حاملة بـ "الى" ظرفان لغوان. أي ينقسم الى قسمين ويقوم واقفاً عليهما 1…
[2] كما أن "أى" للمطابقي و "المراد" للالتزامى -كذلك "اعني" وما يرادفه للتضمني. اذ المذكور مركب 2.
[3] لا مقابل المضاف والجملة والنسبة
[4] منسوب الى كله الذي هو جزئيه 3
[5] منسوب الى جزئه الذي هو كله. فالناقص زائد والزائد ناقص 4.

_____________________
1 (على حاملة بـ الى ). نعم، ان مجرور (على) أي (القسمين) بمادته وجوهره يقتضي تقدير (ينقسم) وهو إنما يتعدى بـ (الى) وبتثنيته المفيدة للحصر، اذ لا ثالث لهما يقتضى تقدير (ينحصر) او ما يقوم مقامه. ففي بطن (على) (الى).
(لغوان) أي سواء كان (على) او (الى) فهما ظرفان لغوان لاظرف مستقر لتعلقهما بالافعال الخاصة.
2 (كما ان اى). حاصله: ان المعنى المجهول ان كان المعنى الموضوع له يفسر بـ (اى) وان كان جزؤه فبـ (عنى) وان كان لازمه فبـ (المراد)..
اختار الناظم التفسير بـ (اعني) إشارة إلى أن الضمير في اول البيت أى في قوله (وهو على قسمين) راجع إلى المذكور. وفيه المفرد والمركب. فلفظ (المذكور) المراد مركب والمفرد من اجزائه. فاختيار الناظم التفسير باعني مناسب في موضعه. وإِلى هذا أشار الاستاذ بقوله (إذ المذكور مركب) يعنى ان ضمير (هو) راجع إلى المذكور وهو مركب من المفرد والمركب...
3 (منسوب إلى كله الذي هو جزئيه) الضمير للمنسوب؛ لأن الجزئي عبارة عن الكلي، والتشخصات فالكلي جزء للجزئي والجزئي كل للكلي فالنسبة بينهما من قبيل نسبة الجزء إلى الكل..
4 (منسوب الى جزئه الذي هو كله) لان الكلى. داخل في حقيقة الجزئى فالنسبة بينهما من قبيل نسبة الكل الى جزئه. فالجزئي كل والكلي جزء.
(فالناقص) أي الجزء المنسوب اليه الناقص بعدد حروفه من المنسوب (زائد) على المنسوب باعتبار كليته وشموله للغير. وكذا ان الزائد أي المنسوب الكثير الحروف من المنسوب اليه (ناقص) باعتبار تشخصه وعدم شموله للغير.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 194
فمفهم اشتراك[1] الكلى كاسد[2] وعكسه[3] الجزئي[4]

[1] اعلم!
ان هذا الاشتراك اشتراك تمثيلي واتحاد وهمي. اذ الاشتراك والاتحاد بكلي معنييهما غير متصور هنا. بل المراد تطابق النسب. كتساوى نقط المحيط لنقطة المركز. لو ذهبت احداها اليها كانت اياها وبالعكس. أعني أن الكلي لو خرج بالفرض من عالمه ودخل باب إحدى جزئياته - فبسر عدم العبثية - يفنى هو ويبقى ما في الجزئى من ظله فيتوهم الاتحاد.. وكذا لو تطاير بالفرض متصاعداً إحدى جزئياته من عالمها الى مقام الكلى، فبالوصول الى بابه يناديها "أنا زعيمكم هنا كما أنتم نوابي في مملكتكم". ثم ينطفى. فيتوهم الاشتراك، ولو ممتنعاً. اذ الفرض ممكن 1..
[2] اي من المبادئ التصورية. اي رسم ناقص ليطمئن قلوب الحواس لحكم العقل فيقرأوا ما في المثال من آيته 2..
[3] أي لا يشترك بالامكان اشتراك الوجود الظلي، لوجوداته الاصلية. الممثل عكسه بتخييل نقطة المركز مصباحا ونقاط المحيط زجاجات 3..

_____________________
1 (اعلم! أن هذا الاشتراك) حاصله: أن الكلي ظل ذهني للجزئيات الخارجية وهي مثالات له. فالنسبة بينهما كنسبة نقطة المركز الى نقط المحيط. لكن ان ارتفع الجزئي من الخارج ودخل الذهن تنطفى تشخصاته وتنسلب عنه فيكون كليا. وكذا ان سقط الكلي ووقع في الخارج ينضم اليه التشخصات فيصير جزئيا.
ففي المنزلتين لايُرى الا واحد منهما فيتوهم بينهما الاشتراك والاتحاد..
2 (اي من المبادى) اى قسم من القول الشارح لانه مثال والامثلة رسوم ناقصة...

3 (أي لايشترك بالامكان.. الخ) اظن ان هذه القضية موجهة (والجهة) الامكان و(لا) نافية لها و (اشتراك) منصوب اما بنزع الخافض - اي كاشتراك - أو على انه مفعول مطلق نوعي. حاصله: ان الجزئي لايمكن ان يشترك ذلك النوع من الاشتراك كما كان في الكلي اذ لاوجود له ظليا لوجدات في الذهن اصلية في الخارج. بل الخارج مركز لوجوده الاصلي. وهو مصباح في الخارج يرى في زجاجات الاذهان عكس الكلي...
س :- مالفرق بين الجزئي والكلي في فرض الافراد حتى تفرض للكلي لا للجزئي؟
فاجاب المرحوم: بان الفرض ممكن في الكلي ممتنع في الجزئي. مثلا: ان (الله) علم للذات لايحد، اذ لاجنس له ولافصل فليس له مفهوم حتى يفرض له الافراد باعتبار المفهوم. فالفرض فيه ممتنع.
واما فرض الافراد للجزئي الكلي في (الجزئي كلي) فهو فرض ممكن؛ اذ له حد. وفي حده جنس وفي جنسه عموم. فله مفهوم عام يمكن فرض قوله على كثيرين لا وجود لها.
(كما ان الفعل اسم) دفعٌ لما يقال: من ان الجزئي والكلي ضدان كيف يحمل احدهما على الآخر.. وجه الدفع: ان حمل الكلي هنا ليس على الجزئي الفردي الخارجي، بل على مفهومه. وهو ايضا كلي من الكليات لكن من المعقولات الاولى. والكلي المحمول عليه في المثال من المعقولات الثانية فلا اشكال. كما لا اشكال في حمل الاسم على الفعل؛ لان الاسم محمول على لفظ الفعل وهو اسم من الاسماء (كالاسم).



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 195
[4] كــ [الله] جل جلاله: والجزئي كلي كما ان الفعل اسم. وافترق الجزئي والكلي الفرضي، بان الاول فرض ممتنع والثاني فرض ممكن..

فأولاً[1] للذات ان[2] فيها[3] اندرج[4]
فانسبه[5] او[6] لعارض[7] اذا[8] خرج[9]
[1] أي الأولى "اولا" اذ لا ثاني هنا، لان الجزئي كما لاينضبط احوالاً لايفيدنا كمالاً حكمياً "للذات" كذات "يدك وأنائك" فان الماهية مظروفة الوجود. والذات هي مع اضافة الوجود. والحقيقة هي بشرط الوجود. والهوية هي مع الوجود 1...

_____________________
1 أي الاولى (اولا) يعني ان صنيع الناظم في هذه العبارة حيث اختار (اولا) على (الاول) فذكرُ ذلك وترك هذا احسن وأسلم. لأن لفظ الاول والثاني من الاضداد ومن المتضايفات، ذكر احدهما يخيل الآخر. فلو ذكر الناظم لفظ الاول لبقي السامع -بحكم التضايف الضدي- منتظراً إلى أن يذكر (الثاني). ولا (ثاني) هنا لان احوال الجزئي لاتنضبط ولا فائدة لنا فيها. كذلك أحكامه لاتفيد كمالا ولا فائدة، حتى يلزم ذكرها فيحتاج إلى ترديف (الاول) (بالثاني)، فاختار (اولا) تخليصاً للسامع عن الانتظار لان المفهوم من (اولا) الابتدائية لا اول الاعداد.
(للذات) (كذات يدك و(انا) ئك). أشار بهذين المثالين إلى أن (الذات) ينسب اليه أجزاء الماهية كالجنس وتمامها كالنوع. وان الذات كما يطلق على الكل يطلق على الجزء ايضا. فاليد في المثال الاول لكونه جزء لتمام ذي اليد مثال للجنس الذي هو جزء الماهية. ومرجع (أنا) الذي هو تمام ذي اليد مثال للنوع الذي هو تمام الماهية. (وانائك) مركب اضافي على لغة "الاكراد" من ضميري المتكلم والمخاطب. عطف على (يدك) والمعنى أي كذاتك الذي تعبر عنه بـ »انا« فمرجع »انا« تمام جسد ذي اليد واليد جزؤه.
(فان الماهية.. الخ) حاصله: ان الهوية والحقيقة والذات اعيان للماهية انقسمت هي اليها باختلاف الاعتبارات والحيثيات، إذ الوجود لو اعتبر مع الماهية اي شطراً فهوية. ولو اعتبر شرطا فحقيقة. ولو اعتبر مع الاضافة فذات. لكن المضاف اليه غير داخل..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 196
[2] فالتشكيك لخفاء الذاتية عكس العروض.
[3] اي في تفصيلها ذهناً، للزوم الاتحاد في الخارج للحمل. واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات. أو في الخارج مأخذها. وقيل متعددة فيه، وصحة الحمل للالتحام 1...
[4] اي لم يخرج 2..
[5] اي سمه ذاتيا. ولا يلزم شمول وجه النسبة - مناسبة التسمية - لكل الافراد 3..
[6] للتقسيم لا للتخيير الذي يفيده الانشاء فانه اخبار 4..
[7] عدل عن عرض، اشارة إلى الحمل 5..
[8] للظهور بالنسبة 6..
[9] فالنوع كالفصل خاصة الجنس وعارضه كما في المناسبات 7...
_____________________
1 (أي في تفصيلها) أي تحليل الماهية إلى أجزائها. وإنما ذلك في الذهن، ولولا الاتحاد في الخارج لما جاز الحمل بينهما.
(واختلاف العبارات) كالاندماج والدخول وعدم الخروج (باختلاف الاعتبارات). ومن الاعتبارات مراعاة النظم والوزن..
2 (اي لم يخرج) سواء كان جزء الماهية او تمامها ليشمل النوع...
3 (ولا يلزم شمول وجه النسبة) فلا بأس لخروج النوع من وجهها..
4 (فانه اخبار) إذ التقسيم واقع في الازمنة الخالية. لكن الناظم اراد ان يخبر ويحكى عن ذلك الخبر بلفظ الانشاء.
5 (اشارة الى الحمل) اذ العرض لايحمل بل المحمول العارض .. وفيه مافيه.. تأمل!.
6 (للظهور بالنسبة) اي ذكر أولا (إن) الدال على الشك. وهنا (اذا) الدال على القطع. اشارة الى ان كون التسمية بالعارض اظهر من التسمية بالذاتي في الجملة..
7 (فالنوع كالفصل) أي فعلي هذا لايكون النوع ذاتيا،ً بل يكون خاصة للجنس وعارضه، اي غير شامل كما ان الفصل كذلك كما سيأتي..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 197
والكليــات[1] خمســة[2] دون انـتـقاص
جنس[3] وفصل[4] عرض[5] نوع[6] وخاص[7]

[1] في التعريف استعظام. هي كاخواتها بينما هن معقولات ثانية، حرفية المعاني. وتبعيتها مرايا للمعقولات الاولى؛ اذ صارت طبائع اسمية يتطاير من جوانبها ما يتوضع عليها، ويخرج ما كانت لابسة له، ويتولد منها من يدعى انه اب لأبيه كما أن الكلي نوع الجنس الذي هو نوع الكلي وقس 1..
[2] اي انتج أربعة تقسيمات، خمسة أقسام متقابلة ان اتحد المنسوب اليه. فأن تعدد فقد تجتمع في واحد وقد تتحد في نوع كالنوع الاضافي. 2
[3] أي الذاتي الاعم بسيطاً او مركباً. 3
[4] اي الذاتي المميز قريبا او بعيداً. 4
[5] اي الخارج العام مطلقا او مقيداً. 5
[6] اي الجواب التام حقيقاً او اضافياً. 6
[7] أي الخارج المميز للجنس او النوع..

_____________________
1 (في التعريف استعظام) اى العظمة والحشمة تترشح من ايرادها بالجماعة »حرفية المعاني« أى مدلولاتها كمدلول الحرف غير مستقلة »وتبعيتها« اى تبعية المعاني اى معانيها تابعة وآله للغير »اذ« فجائية »اسمية« أى حقائق مستقلة كالاسم »يخرج ما كانت لابسة له« اولاً من العنوان الاول وتتزيا بعنوان آخر »يتولد منها الخ« مثلاً: ان الكلي بعدما كان نوعاً للجنس وإبناً له ولابساً لعنوان النوعية اذ يخرج من ذلك العنوان ويتلبس بعنوان الكلية ويصير أبا لمن كان أباً له...
2 (ان اتحد المنسوب اليه) أى ان لوحظ الكلي حين الانقسام باعتبار المفهوم فلاشك يكون الاقسام متقابلة »وان تعدد« اى لوحظ الكلي في ضمن الافراد »فقد تجتمع« الخمسة »في واحد« فلا تقابل بينها كالملون فانه جنس للاسود والابيض. ونوع للمكيف. وفصل للكثيف. وخاصة للجسم. وعرض عام للحيوان. »وقد تتحد« اى بعضها »في نوع كالنوع الاضافي« كالحيوان فانه جنس لما تحته ونوع لما فوقه..
3 (اى الذاتي الاعم) هو الجنس العالي كالجوهر والجسم المطلق..
4 (أى الذاتي المميز) اى الفصل القريب والبعيد...

5
(أى الخارج العام) هو العرض المطلق عن اللزوم او المقيد به.
6 (أي الجواب التام) هو النوع عبر عنه بهذا لانه جواب تام لسؤال »ماهو«. أما الجنس - ولو يقال في جواب ما هو - لكنه جواب ناقص...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 198
اعلم! ان بينها مشاركات مثنى وثلاث ورباع وخماس. ومباينات ومناسبات ككون الجنس عرضاً عاماً للفصل والفصل.. خاصة للجنس.. والنوع خاصتها..
ثم أعلم! أن هذه المصطلحات لها كامثالها حقائق اعتبارية لا وجود لأفرادها وانما مناط الحكم النقط التي تتسنبل عليها حدودها...

وأول[1] ثلاثة بلا شطط جنس قريب[2] أو بعيد[3] أو وسط[4]

[1] أى الاول اولى. واوليته هنا لانه اول في التعريف لانه جزء المادة الا عرف لانه أعم ولأوليته في الوجود لأنه كالمادة كالهيولى 1...
[2] أى يكون فذلكة سلسلة الاجناس والفصول غير الفصل القريب 2...
[3] أى المبدء البسيط للسلسلة وهي العشرة المشهورة التي هي أوادم الموجودات. 3
[4] أى كما انه جنس نوع. وايضاً النوع كالجنس. 4

_____________________
1 (اي الاول أولى) اما اولويته فلأن (اول) نكرة لاتكون مبتدأ إلا أن يكون تنوينه عوضاً عن (ها). وأما اوليته فلانه في التعريف أول، لانه عبارة عن جزأين أولهما الجنس لانه الأعم.
2 (أى يكون فذلكة) أى خلاصة تحتوى على مافوقه من الاجناس والفصول غير الفصل القريب، لانه تحته فلا يكون آخذا له في مفهومه..
3 (اى المبدأ البسيط) أى غير المركب من الجنس والفصل إِذ لاحد له (للسلسلة) أى سلسلة الموجودات التي هي عبارة عن عشرة اصول تتدلى جهتها الاعلى من الجوهر والجسم المطلق والجسم النامي والحيوان والانسان. فهذه خمسة ولو عد معها فصولها اعني الناطق والحساس والنامي وقابل الابعاد الثلاثة لكانت تسعة. ولو زيد عليها الصنف لتمت عشرة كاملة. وهذه الاصول منشأ المخلوقات كما أن آدم اصل لذوى الحياة...
4 (نوع) اى اضافي بالنسبة الى ما فوقه (وايضا النوع) اى الاضافي بالنظر الى ماتحته...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 199
فصل في نسبة الالفاظ للمعاني

ونسبة[1] الالفاظ[2] للمعاني[3] خمسة[4] اقسام[5] بلا نقصان

[1] اعلم! ان اللسان كالإِنسان عاش أدواراً وتحول أطواراً وترقى اعصاراً. فان نظرت الآن إلى ما تبطن "الآن" من أطلال وانقاض اللسان التي تفتت في سيل الزمان لرأيت منها تاريخ حياة اللسان ومنشؤه. فالدور الذي نجم اللسان إلى الوجود، إنما هو دور حبات الحروف الضعيفة الانعقاد، المغمورة في الاصوات، الدال اكثرها بطبيعة المحاكاة. ثم بتلخص المعاني ارتقى الى الهجاء. ثم بتكثر الأغراض تدرج الى التركيبي "ولها آيات في الشرق". ثم بتشعب المقاصد تصاعد الى التصريفي. ثم بامتزاج الحسيات الرقيقة والأغراض اللطيفة تعارج الى النحوى، وهو العربي الذي اخصر الاختصارات، الموجز المطنب، القصير الطويل. ثم بسر قلب المجاز بالاستمرار حقيقةً، تولّد الاشتراك. وبحكمة نسيان المناسبة وانقلاب الصفة بالجمود تولد الترادف.. وقس.. فالتناسب نتيجة التناسل...
[2] أي اللفظ مع اللفظ واللفظ مع المعنى والمعنى مع الفرد 1...
[3] والفرد معنى. فيه احتباك: "ذكر في كل ماترك في كل" 2..
[4] أي باندراج التساوي في الترادف. والنقل والمجاز في الاشتراك 3.
[5] اي الخمسة نتيجة خمسة، او سبعة تقسيمات بالقياس المقسم.

_____________________
1 (أي اللفظ مع اللفظ الخ) حاصله: ان الاقسام الخمسة الآتية حاصلة من نسبتين: احداهما: نسبة اللفظ إلى اللفظ يحصل من هذا الترادف والتشكك. والاخرى: نسبة اللفظ الى المعنى يحصل من هذا التواطؤ والاشتراك والتخالف. لكن الناظم احتبك في العبارة؛ بان حذف من الاولى آخرها ومن الثانية أولها. وتقدير العبارة هكذا: ونسبة الالفاظ للالفاظ ونسبة الالفاظ للمعاني. فترك من الأول ثانيه ومن الثاني اوله.
(والمعنى مع الفرد) اي نسبة المعنى المطابقي إلى جزئه او لازمه. يحصل من هذا قسمان آخران: التباغض والتلازم. ترك الناظم هذا لسبقه في الدلالة.
2 (والفرد معنى) اي جزء المعنى المطابقي أو لازمه من المعاني. فنسبته إِلى أحدهما من نسبة المعنى إلى المعنى...
3 (أي باندراج التساوي الخ) والا يكون الأقسام سبعة والتقسيمات المنتجة لها أيضا سبعة...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 200
تواطؤ[1] تشكك[2] تخالف[3] والاشتراك[4] عكسه[5] الترادف[6]

[1] أي تساوى الحصص ذاتا، وإن تفاوتت كمالاً وانكشافاً، اذ قانون تولد الاتحاد والامتزاج من الاختلاف تحكم. وكم من مترجم عن تأثره يئن قائلا:
وطالما كنا كغصنى بان لكن نما وزدت في النقصان
ألم تر: نواتين توأمين إذ سعت "تا" انكشفت نخلة. وان عصت "تي" انكمشت نخرة 1...
[2] أي التشكك مشكل بين المشتركين
اعلم! ان التشكك مع امتناعه قد يتوهم فيما لبس نفسه، والبست ماهيته هويته، ولابست ذاته صفته اسماً ورسماً كالبياض للثلج والعاج. وأما وجود الواجب والممكن فلا يشتركان إلا في العرض العام الذي هو الوجود الغير الذاتي للموجودات...
[3] فيدخل غير التغاير من التقابل والتضاد والتناقض والتضايف والتنافي والتباين وعدم الملكة...
[4] أي المتولد في الأكثر بالاستمرار أو بتناسي سر التشبيه: ألم تر لو تخيلت وجه السماء جبهة ونصف وجه أفطس أعور أو أرمد لرأيت الشمس عينه الباصرة المبصرة. أو توهمت السماء أرضا أو طوداً مظلين لأبصرت الشمس عينهما الجارية بماء الحياة وهو الضياء وقس 2...

_____________________
1 (أي تساوى الحصص) أي المراد من التواطؤ تساوي الأفراد ذاتا ومفهوما لا اتحادا في الكمال والانكشاف، لأن الاتحاد لايمكن في الافراد المتخالفة: (ألا ترى) الشاعر كيف يئن ويتأوه من نقصه وترقي رفيقه مع انهما من نوع واحد.
وانظر إلى النواتات يكون بعضها نخلة وبعضها نخرة مع أن الاصل واحد. فالتواطؤ في الذات فقط. - كالبياض للثلج - إذ لايفرق بين ماهيته وهويته وذاته وصفته ومفهومه وأفراده فيقع التشكك في حمل البياض على الثلج إما على مفهومه أو على أفراده...
2 فان لفظ العين في تلك العبارة مشترك بين الجارية والباصرة قد نُسي علاقة التشبيه بين الجارية والباصرة فصار حقيقة...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 202
[3] أي الحرف المنبث في غيره. وفي التنبيه والقسم طلب ما والمطلوب محال او ممكن. عدم أو وجود. والوجود في الذهن أو في الخارج. وهو اما حقيقي أو اعتبارى.. هذا 1..
[4] أي مايمكن عقلا في المحصل أن يكذب بتخلف المدلول ويصدق بمطابقة المدلول للمعنى كما هو يصدق لأنه تصديق 2..
وسر الفرق بين الاخبار والإِنشاء: إن الخارج في الأول لما كان كالعلة المجامعة لما في الذهن، فمتى جاء الذهنى قابله إما بالوفاق أو بالخلاف! وفي الثاني مافي الذهن كالعلة المعدة. فما دام لم يتم لا خارج له. وإذا جاء الخارج ذهب من حيث هو إنشاء...
[5] اي أو ثلاثة عشر 3..
[6] ما اقبح النظم المحوج في المختصر الى المطول بلا طائل.

أمر[1] مع استعلا[2] وعكسه[3] دعا[4]
وفي[5] التساوي[6] فالتماس [7] وقعا

[1] اعلم! انه يتفرع من الامر -كالنهي- التهديد والتعجيز والتسخير والتسوية والتمنى والتأديب والارشاد والامتنان والاكرام والامتهان والاحتقار والوجوب والحرمة والندب والكراهة والاباحة والتخيير والايجاد. وكذا التعجب وغيرها،

_____________________
1 (اي الحرف المنبث في غيره) يعني أن (أما) هذه ليست للشرط بل هي حرف للترديد لامدلول لها مستقلاً بل آلة للغير. (وفي التنبيه والقسم) أي نوع من الطلب. والمطلوب في الاول ايقاظ المخاطب وفي الثاني اثبات المدعى أو تأكيده مثلاً.
2 (ويصدق بمطابقة المدلول للمعني) حاصله: ان صدق القضية بمطابقة مدلول اللفظ للمعنى المراد. لكن هذه المطابقة لاتكفي وحدها لصدق القضية بل يلزم تطابق تلك المطابقة للواقع أيضاً كما قال الاستاذ (كما هو يصدق) أي يلزم أن يكون تلك المطابقة أيضا صادقة اي مطابقة للواقع (لأنه تصديق) أي مصدق يعني هذه المطابقة مصدقة للمطابقة الاولى لولا هذه المطابقة لم تكف الأولى لصدق القضية.
3 (أي أو ثلاثة عشر). نعم، قد زاد الاستاذ على ثلاثة الناظم عشراً من الترجي والتمني.. الخ.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:52 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 203
وامثالها من المعاني الهوائية التي يتشربها لفظ الأمر أو النهى والامر باعتبار المقامات.
ثم ان الأمر للوجوب، لان روح الاوامر "كن" وهو تامة للايجاد. ويتضمن الناقصة أيضاً.
أما الاوامر المتعلقة بأفعال المكلفين، فللابقاء على الاختيار استبدل الايجاد بالايجاب، لأنهما صنوان والايجاب ينتج الوجوب في أمر الخالق دون الخلق، لجواز تخلف مطلوبهم عن طلبهم 1.
[2] أي وإن لم يكن عالياً.
[3] أي الاستعلاء للغير.(ولقد سفل من استعلى غيراً غير عال).
[4] ما أجهل من لم يخص بالدعاء من اختص بامر الايجاد.
[5] اذا عصرت "في" و"فا" تقطرت "ان" فلا اشكال 2.
[6] أي من جهة ما به التساوي اذ قد يتساوى المتباينان 3.
[7] أي يداً بيدٍ لابرأس لا بذيل 4.

_____________________
1 (أما الاوامر المتعلقة الخ) دفع لما يرد على ماقال: من (أن روح الاوامر (كن) وهو تام بمعنى الايجاد): انه لو كان بمعنى الايجاد لزم أن يكون الأمر المتعلق بافعال المكلفين أمراً إيجاديا. ويترشح من هذا (الجبر) والحال (لا جبر ولا تفويض).
وجه الدفع: أن ذلك الأمر استبدل في حق العبد بالإِيجاب فهو أمر إيجابي، أي يتعلق الأمر بفعل العبد لها بالاختيار، لا إيجادي يتعلق بنفس الأفعال.
2 (إذا عصرت »في« »وفا«: يعني بعدما تأملت في كون »الفاء« فصيحة وفي كون »في« ظرفية يتقطر من ذلك أن (إن) مع شرطه مقدر: تقديره إن كان التساوي فالتماس، فيخلص التركيب عن الأشكال.
3 (إذ المتساويان قد يتباينان) كالمؤمن والكافر في التجارة مثلا، فالأمر الصادر من أحدهما للآخر التماس من جهة التجارة.
4 (يداً بيد) لايبعد ان يكون هذا القول إشارة إلى أن المأمور به شرعاً المصافحة باليد لا بالرأس كفعل اليهود. ولا بالذيل كما يفعله الراكعون الرافعون لأعجازهم والخافضون للرؤوس للتعظيم.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 204
فصل في بيان الكل والكلية والجزء والجزئية

الكل[1] حكمنا[2] على المجموع[3] ككل[4] ذاك [5] ليس ذا [6] وقوع

[1] اعلم! ان في جملة العالم - بالاختلاط والارتباط - تركيبا متداخلاً متسلسلاً هو مصدر الآثار. وفي الكائنات من الكل نظاماً منبث العروق منتشر الفروع، هو مدار الاحكام. فما من كل إلاّ ويلمح بثمرة من ثمرات التركيب. وما من كلية إلاّ وهي تلوح بقانون من قوانين النظام... فتأمل!.
[1] وهو كالكلية دون الكلي تصديق والكلي شخص بالنسبة إلى الكلية1.
[2] في الحمل تسامح 2.
[3] اي سواء لكل جزء نفس الحكم أيضا، أو في جزء منه دخل فيه، أو في وجوده. أو لا 3.
[4] حديث بالمعنى. المشهور، لعموم السلب لتأخر النفي -ولسؤال ذي اليدين بـ "أم" رجح سلب العموم لتنزيه كلامهصلى الله عليه وسلم عن توهم الكذب ولو سهواً في النسيان. ولأن "ليس كل" مثل "كل ليس" عند بعض 4.

_____________________
1 و(هو) راجع إلى الكل مع تعريفه المحمول عليه. (كالكلية) أي كالقضية الكلية أي في حكمها (دون الكلي) أي ليس الكل هنا بكلي ذي جزئيات حتى يكون مع محموله قضية. بل المراد منه المفهوم كالانسان في »الإنسان حيوان ناطق« فهو مع محموله قضية شخصية ذات (تصديق). (والكل) أي بحسب مفهومه (شخص) أي جزئي (بالنسبة إلى الكلية) أي إذا قوبل بها...
2 (في الحمل تسامح) لأن الكل ليس نفس الحكم حتى يحمل عليه، والمتحد به انما هو المجموع.
3 (اي سواء) ثبت الحكم (لكل جزء ايضا) كما في الحديث، على تقدير أن يكون السلب فيه عموم السلب (او في جزء منه) كالحديث أيضاً على تقدير كون سلبه سلب العموم...
4 (حديث بالمعنى) أي لا باللفظ (المشهور) ان السلب في الحديث (لعموم السلب) وهو أعم من سلب العموم (لتأخر النفي) لان (ليس) بعد (كل) لكن بالنظر لسؤال (ذي اليدين -بأم-) رجح سلب العموم أي لا وقع لا ذا ولاذاك. (في النسيان) اشارة الى أن السهو ما وقع من النبي (عليه الصلاة والسلام) الا وقت النسيان...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 205
[5] أي القصر والنسيان. "ذا. ذاك وكذلك" كالمثل لايتغيرن 1.
[6] أي عندي أو في ظني..

و[1] حيثما[2] لكل[3] فرد حكما فانه[4] كلية قد علما

[1] اعلم! ان القضية الكلية فذلكة قضايا ضمنية بعدد افراد موضوعها. مثلا: "كل ضاحك متعجب" ان (كل) أي كل فرد لا الكل المجموعي ولا المنطقي "ماصدق". اى لاحقيقته ولا صفته "عليه الضاحك" بالفعل، لا بالامكان "الفرضي". أي لا الخارجي فقط "من جزئياته". أي لا مع مسماه "الإضافية". أي لا الشخصية فقط "يتحد أو يشتمل لذاته". أي لا لمفهومه "متعجب". أي مفهومه لاذاته. وإلاّ لم ينتج الشكل الأول بفقدان أيها كان.
[2] مما أفاض "ما" على "حيث" من العموم والشرط يفيض جامعية التعريف واستلزامه للمعرف 2...
[3] أي على العنوان له ولو في "ال" والاضافة والموصول وغيره 3..
[4] ان "أن" امارة كون مدخولها من الحقائق. وماتشربت من التحقيق جهة الإثبات، كما ان الضرورة جهة الثبوت 4..

_____________________
1 (ذا وذاك وكذلك) هذه الكلمات الثلاث (كالمثل) أي مثل ضروب الامثال لا يتغيرن. فلا يرد ماقيل: من أن المشار اليه هنا اثنان والمخاطبون كثيرون.
2 (مما أفاض "ما" على "حيث") يريد ان »حيث« متى لحق به »ما« الكافة يدخل في عداد الأسماء الشرطية ويفيد جامعية التعريف ويحافظ استلزامه للمعرف...
3 »أي على العنوان له« اي حكم على مفهومه المشترك بين الافراد. "ولو في "ال" والاضافة الخ« أي ولو حصل الاستغراق منها..
4 (إن "أن" امارة) أي كما إن (أن) بالفتح تأكيد لمدخولها إن »إن« بالكسر تحقيق لمدخولها، أي لإثبات كونه حقاً فأن الجهة اى الضرورة للثبوت. وتحقيق "إن" للاثبات في الذهن...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 206
والحكم[1] للبعض[2] هو[3] الجزئية[4] والجزء[5] معرفته[6] جلية

[1] أى له، وكذا عنده وعنه. إلاّ أن البعض فيهما من الاوضاع 1..
[2] على نفسه أو ما يرادفه طراً أولاً وآخراً، ركناً او قيداً، إسما أو حرفاً. ومايشابهه معنىً كذلك. "ككم" والعهد الذهني في "ال" والاضافة والموصول 2...
[3] و[هو] هو رافع الموضوع الى المحمول لينطبعا او يتحدا. وذات الموضوع في المحمول، خرج للجمود. ورابطة تضمنت صورة القضية 3.
[4] منسوب الى موضوعها اي الحملية الجزئية. اما الحكم على الجزئي ولو اعتبارياً كتمام الافراد وجميع مراتب الأعداد فشخصية 4...

_____________________
1 (أى له وكذا عنده) الأول إشارة إلى الحملية. والثاني إلى المتصلة والثالث إلى المنفصلة. لكن الحكم في الأخيرين على الأوضاع والأزمنة.
2 (على نفسه) أى نفس البعض كبعض الإِنسان كاتب. (او مايرادفه) أى يدل على مادل عليه البعض من البعضية مثل طراً واولاً وآخراً وركناً وقيداً. فهؤلاء الكلمات وان كانت دالة على البعضية لكن لاتستعمل في أسوار القضية إلا نادراً. (ومايشابهه معنى كذلك) بان كان بين المعنيين مشابهة لاترادف (ككم) أى الخبرية مثل: »كم كتاباً قرأته« فان الكتب المقروئة المخبر عنها بكم بعض قليلاً أو كثيراً (والعهد الذهني في (ال) والإِضافة والموصول) هذا الاخير عطف على العهد لا على (ال) إذ دلالته على البعضية ليست لذاته بل بالصلة.
3 (وهو) أى لفظه. وله في القضية ثلاث وظائف:
احداها: رفع الموضوع وجره إلى المحمول (لينطبعا) إذا كان الثاني أعم (او يتحدا) إذا كان مساوياً:
الوظيفة الثانية: انه (ذات الموضوع) أى راجع إلى ذات الموضوع أى لا إلى وصفه. ساكناً ومستتراً (في المحمول) لكن (خرج) من مسكنه كما هنا (للجمود) أى لكون المحمول جامداً.
الوظيفة الثالثة: انه (رابطة) بين الطرفين يدل ويحافظ على صورة القضية كما يحافظ الطرفان مادتها.
4 (منسوب إلى موضوعها) العائد للجزئية. تقدير الكلام: الحملية الجزئية هي الحكم للبعض. فالحملية موضوع والجزئية صفة لها، أى الحملية المنسوبة إلى الجزء أى البعض.. (أما الحكم على الجزئي). هذا مقابل للحكم على كل فرد وعلى البعض. أى الحكم على الجزئىة شخصية (ولو) كان كونه جزئيا (اعتباريا) أى فرضيا (كتمام الأفراد) فانه جزئي فرضي (ومراتب الأعداد الخ) فان العشرين وأمثاله ليس من الجموع. فالحكم عليه شخصية...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 207
[5] أما التصوري فظاهر. واما التصديقي فانما هو في ضمن الكل. وإلا ففي التصريح إما شخصية أو كلية أو طبيعية أو جزئية 1.
[6] أى الجزئية بالتفرع في ضمن الكل اى في ضمن التصوري. وأما التصديقي فتحقيقه تجلو بالقياس الغير المتعارف المستعمل في ادراج مسائل العلوم في تعريف العلوم. كـ "يده" داخل فيه وكله حسن فيده لها دخل في الحسن 2…

_____________________
1 (أما التصوري فظاهر) أي أما الحكم على الجزء الذي لاحكم فيه فظاهر أنه شخصية. (وأما التصديقي) أى الحكم على الجزء التصديقى الذي كان موضوعاً لمحمول »كيده حسن« فقد علم حكمه في ضمن الكل في قول الناظم: »وحيثما لكل فرد«...
وإن لم تكتف بمعرفته الضمنية فقد يكون شخصية »كعينه كحلاء«. او كلية »ككل عين باصرة«. او طبيعية »كالعين آلة للرؤية«. او جزئية »كبعض العين شهلاء«..
2 (بالتفرع) أي انكشفت معرفة الجزئية تبعاً في ضمن الكل. (بالقياس الغير المتعارف) وهو الذي لايكون الحد الأوسط من الموضوعات والمحمولات. بل من متعلقاتهما.. (المستعمل في أدراج الخ) مثلاً: هذه المسألة جزء من المنطق والمنطق يبحث عن الايصال فهذه المسألة لها دخل في الايصال..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 208
فصل في المعرفات

معرف[1] على ثلثة[2] قسم[3] حد[4] ورسمي[5] ولفظي[6] علم

أعلم! أن في بحبوحة فطرة الانسان احتياجاً ذا ألسنة ضمنية ذات خمسة اسئلة، يقابل بها الحادثات. وينعي بها الواقعات. وينادي بها الكائنات.. المشهور منها "ما" المولد للمبادئ التصورية. و"لمه" المدون للمبادئ التصديقية في العلوم.. وتجيبها الحكمة بلسان الكائنات المفسر بعضها بعضا - بالتعريفات - في مقابلة سؤال "ما". وبالادلة في جواب سؤال "لمه".
[1] هو لتعريف الحدود الوسطى، لإدراج الجزئيات تحت الكليات، فيسرى اليها حكمها فتسهل الصغرى 1...
[2] اكتفى بما مرّ من التقسيم عن التعريف لان بيان المصطلحات ليس من اساسى العلم بشئ. واما التقسيم فمن المسائل.. ثم انهم رجحوا "على" على "الى" نظراً للمبدأ والتحصيل لا المحصل والتعليم. فان استقراء الجزئيات والأقسام هو الذي يفيد ترتب المقسم على الأقسام 2.
[3] تقسيم الكلي الى الجزئيات محصل لحدود الاقسام، ان كان عقلياً. واما تقسيم الكل الى الاجزاء فلتحصيل ماهية المقسم في الخارج...

_____________________
1 (هو لتعريف الحدود الوسطى) أى القول الشارح لتعريف الأقسام الأربعة، أى الحدين والرسمين، أى يعرفهما للطالبين، ليعلموا كيفية تحصيل تلك الأقسام وترتيبها بحيث يجمع تحتها الافراد ويخرج الاغيار. فينتقلوا بواسطة ذلك الترتيب بسهولة إلى المعرفات المجهولات. قوله (فتسهل الصغرى) إشارة الى المقدمة الاولى من الدليل الذي هو خلاصة »علم المنطق« وقد مر. . والمراد بقوله (الحدود الوسطى) أقسام التعريف..
2 (اكتفى بما مر الخ) يعنى ترك الناظم التعريف اكتفاء بما ذكر من التقسيم لأن التعريف من المصطلحات وبيانها ليس من أساسى العلم بشئ أى التصور والتصديق. (ثم انهم رجحوا »على« الخ) يعني ان نظر إلى أن الجزئيات والأقسام حصلت بالاستقراء. ثم وقع التقسيم على الموجودات الذهنية يترجح (على) على (إلى) لأن (على) يفيد ترتب المقسم على الأقسام الموجودة الحاضرة. وان نظر إلى أن التقسيم وقع قبل الاستقراء فالاولى (إلى)...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 209
[4] أي ما اشتمل على حدّي الشئ اللذين تضمنهما "من أين إلى أين" في النشر 1..
[5] هو نظير "برهان الإنّ". كما أن الحد "برهان اللم" 2.
[6] هو كالأسمي ناظر الى الوضع، كما في "القاموس" وتعريفات المصطلحات 3..

فالحد بالجنس[1] وفصل وقعا[2]
والرسم[3] بالجنس[4] وخاصة[5] معا[6]

[1] أي فذلكة ماعدا الفصل القريب معه ولو تركباً. والفصل خاصية الشئ الجوهرية. والفصول العرفية مشيرة اليها بنفسها مفردة أو مركبة مفيدة لبسيط. والجنس كالهيولي، والفصل كالصورة، وهما كالمادة. والترتيب كالصورة في الوجود الذهني.. عرف في الأول لأنه أعرف.. لأنه أعم.. فهو الأول.. ونكر في الثاني، لأنه أخفى.. لأنه أخص 4...

_____________________
1 (أى ما اشتمل على حدّي الشئ) أى اوله وآخره ومنشؤه ومنتهاه (في النشر) أي الشرح والفصل.. نعم. إذا فصل الحد مثلا: ينفصل إلى الجنس والفصل. والجنس إشارة الى المنشأ والمبدأ والفصل إلى المنتهى والآخر.. فاذا سألت عن الإنسان (من أىن) يُجاب: من الحيوانية و (إلى أين) يجاب: إلى الناطقية أى الإنسانية فالحد لاشتماله على الجواب لسؤال المبدأ والمنتهى سمّي حداً...
2 (هو نظير برهان الإنّ) أي الاستدلال من العلة إلى المعلول (برهان لمي). ومن المعلول إلى العلة (إنّي) كالاستدلال بالنار على الدخان ليلا. وبالعكس نهاراً. والتعريف بالحدّ يشبه الأول وبالرسم يشبه الثاني...
3 (ناظر إلى الوضع) أي لا إلى المعنى (كما في القاموس) أي كل ما في القاموس من بيان اللغات (وتعريفات المصطلحات) لأنها من التعريفات اللفظية التي هي كالأسامي...
4 (أى فذلكة) أي الجنس القريب فذلكة وخلاصة لما فوقه من الاجناس العالية والمتوسطة، مع فصولها البسيطة والمركبة »اي كفصل الحيوان فانه مركب من جزئين الحساس والمتحرك بالإرادة« غير ماتحته كالناطق. والفصل الذي يميز الأنواع عبارة عن جوهر خاص في ذات النوع. والفصول الظاهرة أعراض مشيرة إلى ذلك الجوهر البسيط...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 210
[2] هو كحصل ووجد وثبت الحرفية. شأنه الاستقرار. ولكن لغى للنظم. او لاسلوب لطيف، كأن الحد ثمرة 1..
[3] اللام للكمال 2..
[4] اللام عوض الصفة 3.
[5] ولو مركبة من أعراض عامة. ولادور؛ لأن التعريف المفيد لانتقال طبيعة الفكر يتوقف على وجود الاختصاص في نفس الأمر، لا على العلم بالإختصاص حتى يدور؛ لأن الإنتقال ليس باختياري، وعلم العلم ليس لازما 4.
[6] إشارة إلى التفطن الذي هو مزج الأجزاء لتوليد الطلب: وكذلك في القياس..

_____________________
1 (هو كحصل الخ) يعني ان حصل وامثاله من الافعال العامة ليست بذات معان مستقلة بل معانيها حرفية لارتباط الكلمات بعضها مع بعض. (شأنه الإستقرار) يعني المناسب معنى تبديل الوقوع بالاستقرار حتى يكون مستقراً لا لغواً لكن (لغى) ضرورة للنظم (او لاسلوب) يعني ان الوقوع هنا بمعنى السقوط: فكأنه إشارة إلى أن الحد كالثمرة والمناسب للثمرة الوقوع لا الإستقرار..
2 (اللام للكمال) إشارة إلى الرسم التام لا الناقص.
3 (اللام عوض الصفة) أي جنس قريب.

4
(ولادور) وجه الدور: ان العلم بالتعريف موقوف على العلم بأجزائه. ومنها الخاصة والخاصة لاتعلم إلا بعد ذي الخاصة. وجه الدفع: إن العلم بالتعريف إنما يتوقف على وجود الإختصاص في نفس الأمر لا على علمه. وكذا إن الإنتقال ليس باختياري حتى يتوقف على العلم بالإختصاص..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 211
وناقص[1] الحد بفصل[2] ومعا[3] جنس[4] بعيد لا قريب[5] وقعا

[1] أي المساوى ماصدقا لا مفهوما 1..
[2] أي المقوم للنوع، والمقسم للجنس. والمحصل لحصة الجنس في النوع. فإن تأول بالمركب فذاك... وإلا فالتعريف حدسي 2..
[3] اي وبعدمه، أو بعده معاً 3..
[4] أي تمام المشترك بين النوع وبين بعض مشاركيه لا كله.
[5] أي لا.. ولا متوسط 4..

_____________________
1 (أي المساوى ما صدقا) أي افرداً (لامفهوما) اشارة إلى أن الحد الناقص - إذا كان بالفصل البعيد أو بالفصلين البعيدين عند من يجوز التعريف بالأعم - أعم من المعرف...
2 (فإن تأول بالمركب) أي الفصل القريب كالناطق مثلا: اذا تأول بـ (ذات من ثبت له النطق) (فذاك) طيب أي لايرد على جامعية التعريف (وإلا) اي وان أبقى على افراده بلا تأويل فالتعريف حدسي لا منطقي عند من فسر القول بالمركب في (القول الشارح).
3 (أي وبعدمه أو بعده معاً) الاول راجع للجنس القريب. والثاني للبعيد. حاصله: أن الحد الناقص اما بالفصل القريب بدون الجنس. اشار الى هذا بقوله (وبعدمه) اي الجنس كالناطق... وإما بالفصل مع الجنس البعيد أي بشرط وقوع الفصل بعد الجنس كما قال (أو بعده معاً) فالمعية بعدية كالجسم الناطق لا قبلية بأن يقال الناطق الجسم..
4 (أى لا.. ولا متوسط) أي لا أبعد ولا متوسط ليفترق عن الرسم الناقص.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 212
وناقص[1] الرسم بخاصة[2] فقط[3] أو مع جنس أبعد قد ارتبط[4]

[1] ولقد أفرزوا له أدنى المراتب. ولكنه قد حاز اعلاها لانه اطول اخوانه باعاً - اي يدا - وأوسعهم مجالا واعظمهم وكراً وأكثرهم لله ذكراً.. 1
[2] أي شاملة او لا. لازمة او لا. حقيقية اولا. بسيطة او لا. محصلة ولو من المثال او التمثيل او التقسيم او التفسير وقس.. وهذا القسم من الرسم هو الملجأ في تعريف البسائط والاجناس العالية والفصول البسيطة وغيرهما اللاتي لاتحد. وان حدت. اما الاشخاص فلا تحد ولا تحد - الا العلوم والقرآن - فانهما يحدان بتنزيل أجزائهما بمنزلة الجزئيات. 2
[3] لو سكت لسقط.. 3
[4] أي بنسبة تفيد المزج كالتوصيفي، لا الإضافي المفيد دخول الاضافة وخروج المضاف اليه.

_____________________
1 (وأكثرهم لله ذكراً) لأن توصيف الله تعالى بصفاته داخل في شمول هذا القسم من التعريف..
2 (اللاتي لاتحد) إذ لاجنس لها. والحد لابد له من جنس (وان حدت) اي تكون حداً أو جزء حد للغير...
3 (لو سكت لسقط) لأن الرسم الناقص إما بالخاصة وحدها او مع الجنس. فلو كان سكت عن قيد (فقط) ولم يذكره لكان مطلقاً. والمطلق أعم يشمل القسم الثاني أيضاً فيكون ذكره سقوطا عن الفائدة...




عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:53 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 213
وما بلفظي [1] لديهم[2] شهرا[4] تبديل[4] لفظ برديف[5] اشهرا

[1] هذه هي ثالثة الاثافي. فخـذ ما شئت منها من أقوال شراح المتون "أي. أي.." 1
[2] أي في صنعة المناطقة..
[3] أي لان الوضع والدلالة أقرب إلى اللفظ منهما إلى المعنى، عكس الفهم والاستعمال 2..
[4] أي تعقيب.. هذا تعريف الصورة للتعريف، بمعنى المصدر 3..
[5] وان تفاوتا مطابقية، تضمنية، التزامية، افراداً وتركيباً 4...

_____________________
1 (ثالثة الأثافي) شبه اقسام التعريف الثلاثة بالاحجار الثلاثة التي تسمى بالأثافي وتطبخ عليها الاطعمة (فخذ ماشئت) أي اطلب بيان أي قسم من قول أي شارح شئت.
2 (لان الوضع والدلالة الخ) إشارة إلى وجه تسمية هذا القسم باللفظي: حاصله: ان بين اللفظ والمعنى حالات: الوضع والدلالة والاستعمال والفهم. ومدار هذا القسم من التعريف الوضع والدلالة. وهما أقرب إلى اللفظ منهما إلى المعنى...
3 (أي تعقيب..) يعني الاولى تبديل التبديل بالتعقيب لأن التعريف اللفظي ليس عبارة عن رفع لفظ واقامة لفظ آخر مقامه. بل ترديف لفظ بأشهر منه مع بقائه في مقامه. ولفظ التبديل لايفيد هذا المعنى..
(هذا تعريف الصورة للتعريف) أي ان هذا التعريف يعلّم صورة التعريف اللفظي لا مادته. فلفظ التعريف المضاف (بمعنى المصدر).
4 (وان تفاوتا الخ) اي التعريف اللفظي ومعرفه بان كان احدهما مفرداً والآخر مركباً. ودلالة احدهما على المعنى مطابقية والآخر تضمنية او التزامية..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 214
وشرط[1] كل ان يرى[2] مطردا[3]
منعكسا[4] وظاهراً[5] لا أبعدا[6]

أعلم!
انه لما اقتضت العناية الإلهية ترقى البشر واستكماله بالمسابقة والمجاهدة؛ لاجرم ما أخذت على أيدي سجاياه وماقيدت ميوله وما حددت اخلاقه. بل اطلقتها يسرح اينما شاء... فتشعبت على البشر الطرق صحة وفساداً قرباً وبعداً.. فاذا جرى ذوو السجايا السليمة إلى الحق رجعوا إلى بدئهم. فوضعوا تعميماً لمسلكهم في الطبقات السافلة على مظان الباطل والضلال، علامات للتحرز عن الباطل سموها شروطاً. وإذ امتاز المنطق بتكفل معالجة القوة العقلية وضع للفكر شروطا - الجامع لها معلوم الصحة وفاقدها فاسد ومجهول الصحة.
[1] اي للتحقق او الصحة - كما في الحد التام اتفاقا - او للعلم بالصحة - كما في غيره على المشهور 1.
[2] لان ظهور العلم بالشرط شرط للعلم بالصحة.
[3] أعلم!
ان اساس هذه الشروط المساواة صدقاً ومفهوماً. وعدم المساواة معرفة وجهالة.. ثم ان مرجع المساواة كليتان، هما مدار الجمع والمنع.. "مطردا" اي العدم عند العدم - اللازم بعكس النقيض - لـ "الحد كل المحدود" كبرى. لاندراج الجزئي تحت الكلي 2..

_____________________
1 (اي للتحقق) اذ الاطراد يدل على وجود التحقق وهو يستلزم وجود الصحة. فهو شرط إما للملزوم أي التحقق. أو اللازم أي الصحة: كما قال (للتحقق أو الصحة). هذا في الحد التام لانه المتكفل لبيان حقيقة المعرف. أما غيره فغير متكفل ببيانها فالاطراد فيه للعلم بالصحة فقط.
2 (اعلم أن أساس الخ) حاصله: ان المعرف والتعريف لابد أن يكونا متساويين ما صدقاً. وعلامة المساواة بينهما صدق موجبتين كليتين من الطرفين، لكن الكليتين في الحملية باعتبار الافراد والحمل عليها. وفي الشرطيات باعتبار التحقق في الأزمان والاوضاع. والتعريف مع المعرف لكونهما من التصورات تنعقد الكليتان يبنهما باعتبار التحقق لا باعتبار الحمل.
(ثم ان مرجع المساواة الخ) حاصله: أن الحد لايصح بالاخص ولا الأعم من المحدود بل يلزم يبنهما المساواة في الافراد. وعلامة تحققها بينهما صدق موجبتين كليتين من الطرفين: احداهما تدل على كون الحد (مطرداً) أي جامعاً لافراد المحدود. عبّر عنها بـ (الحد كل المحدود) دالاً على عدم الأخصية والأعمية بينهما مع دلالته على الاطراد. وفسرها (بالعدم عند العدم) أي جعل نقيض الحد موضوعا ونقيض المحدود محمولا: مثل (كل لاناطق لا إنسان) في تعريف الانسان بالناطق حداً ناقصاً.. ولما كان التفسير غير دال على جمع الافراد بمنطوقه مع مخالفته للتعبير في ترتيب الطرفين -دفعه توصيفا باللازم لــ (الحد كل المحدود) : يعني أن التفسير وإن لم يطابق التعبير لكنه لازم له. والدلالة على اللازم معتبرة عند المنطقي... وجَّه اللزوم بينهما بقوله (كبرى) اي يجعل (الحد كل المحدود) كبرى وكل جزئي داخل في موضوعه الذي هو (الحد) الكلي الشامل لجميع الحدودات (صغرى) مثل (الحيوان الناطق حد. والحد كل المحدود فهو كل المحدود).. وهكذا أمثاله.. وبهذا يثبت اللزوم.. والجملة الثانية الدالة على عكس الحد أي دفعه للأغيار (المحدود كل الحد). فسرها بـ (الوجود عند الوجود) أي وجود المحدود عند وجود الحد. مثل (كل ناطق انسان) المنعكس لغة إلى (كل إنسان ناطق) المنعكس بعكس نقيضه أي كل لا ناطق لا إنسان (الى الطرد) أي دفع الأغيار اي تحقق المعرف عند تحقق التعريف. هذا هو المنع.. وقد أشار الى هذا بقوله (المحدود كل الحد).



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 215
[4] اي الوجود عند الوجود - المدلول لـ "المحدود كل الحد" المنعكس لغة بعكس المستوى، المنعكس بعكس النقيض إلى الطرد...
[5] اذ العلة متقدمة، والتقدم هنا بالظهور 1.
[6] أي ولابنفسه ولا بالمضايف بل بذات المضايف 2.

_____________________
1 (اذ العلة متقدمة) أي التعريف علة للمعرف وتقدمها انما يعلم بالظهور معنى...
2 (اي ولابنفسه) عطف على (بمفهومه) المقدر بعد قوله (لا ابعدا) اي لابد أن يكون التعريف غير بعيد عن الفهم لابمفهومه ولابذاته. وكذا إذا كانا من المتضايفات لزم ان يكون عنوان التعريف التضايفي غير بعيد عن الفهم لا ذاته.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 216
ولا مساوياً[1] و[2] لاتجوزا[3] بلا قرينة بها تحرزا[4]

[1] اي كالمضايف فالمساواة صدقا كالتضايف ذاتا. وهو معرفةً كهو مفهوما مانع 1.
[2] لاتتشرب "الواو" هذه اللاآت العدولية 2.
[3] اي غير المتعارف وإلا فالمتعارف كالحقيقة العرفية -كما انه ابلغ - حسن.
[4] فبدون المانعة باطل وبدون المعينة قبيح 3.

ولابما يدرى[1] بمحدود ولا مشترك عن القرينة[2] خلا

[1] اي يدور صريحا او ضمناً والدور تسلسل بحركة الوضع 4.
[2] وهي في المشترك المعينة فقط. وفي الكناية المنتقلة. وفي المعينة وفي المجاز المانعة.

_____________________
1 (أي كالمضايف) الكاف للتشبيه لا للتمثيل أي كما ان المساواة من جهة المعرفة بين التعريف والمعرف مانع يخل - كذلك التضايف بينهما مانع. لكن المساواة صدقا والتضايف ذاتا لامفهوما غير مضر. (وهي) اي المساواة (معرفة) أي من جهة المعرفة (كهو) اي كالتضايف (مفهوما) اي من جهة المفهوم...
2 (لاتتشرب الواو الخ) أي يختل المعنى ان لم يكن في تلك المعطوفات (لا) لأن حرف العطف لاتتضمن (لا) ولاتفيد ما أفاده (اللاآت العدولية) أي صارت كالجزء لمدخولاتها كالمعدولة المحمول..
3 (فبدون المانعة) يعنى ان وجد في التعريف مجاز فلابد من وجود قرينه مانعة للمعنى الحقيقي. واخرى معينة للمعنى المراد فان لم يوجد المانعة فباطل أو المعينة فقبيح..
4 (والدور تسلسل بحركة الوضع) أي بفرض ان يتحرك وضع الواضع ويتكرر من أحد الطرفين إلى الآخر مرة بعد أخرى رجاء أن يزول ويقف التوقف إلى غير النهاية فينقطع التسلسل...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 217
وعندهم[1] من جملة[2] المردود[3] ان تدخل[4] الاحكام[5] في الحدود

[1] اعلم! ان المقصود من التعريفات تصوير موضوعات الاحكام. فادراجها فيها نظير المصادرة 1.
[2] أي منها ايضا ذكر الالفاظ الغريبة الوحشية، والتطويل من غير طائل. والطائل توضيح او تحصيل ماهية او تمييز 2.
[3] اي يرده نظام الصنعة.
[4] اي لابد ان يكون في التعريف هيولى الاحكام، لا صورتها كالمزارعة او النوات 3.
كما ينبغي تصوير الموضوع بوجه صالح قابل للمحمول ومفيد لا أقرب ولا أبعد. فتصور الانسان في "الانسان حيوان" بالحيوانية لغو. وبالشيئية غير مفيد. ولا يضر عموم آلة التصور، فان المحمول يصلحه لنفسه.
[5] اى مطلقاً فيها وفي الرسوم الاحكام المطلوب اثباتها.

_____________________
1 (فادراجها فيها) أي الاحكام في الحدود(نظير المصادرة) التي يرتكبها الظالمون..
2 (أي منها) اي من جملة المردود (والطائل توضيح) أي ان كان التطويل لتوضيح الالفاظ الغريبة او تحصيل حكم آخر في التعريف أو التمييز كل التمييز فليس داخلا فيما لا طائل..
3 (ان يكون في التعريف هيولى): المراد من الهيولى المادة كالجنس والفصل ومن الصورة ترتيبها.
(كما ينبغي) مشبه به لـ (لابد) اي لابد ان يكون الخ كما ينبغي الخ. (ولايضر عموم آلة التصور) كتصور الانسان في ذلك المثال بالجسمية...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 218
ولايجوز[1] في الحدود[2] ذكر أو [3]
وجائز[4] في الرسم[5] فادر مارووا

[1] أي في شريعة الصنعة الحاكية عن الطبيعة المانعة عن اجتماع المثلين وتعدد الحقيقة 1..
[2] أى الحقيقة 2..
[3] أما التشكيكي فلضديته للتعريف. وأما ما يرى من "او" التقسيمي، فللتقسيم ثم لتحديد الاقسام..
[4] اي جاز ووقع...
[5] إذ قد يكون منقسم كذا خاصة 3...

_____________________
1 (أي المانعة عن اجتماع المثلين) أي الحد عبارة عن حقيقة الشئ. ولكل شئ حقيقة واحدة لاتعدد فيها ولا تماثل. وينفهم من (او) تعدد الحقيقة. ومن تعددها اجتماع المثلين. وكلاهما باطل.
2 (اي الحقيقة) أي المراد بالحد الحقيقة اي الماهية.
3 (منقسم كذا) بان يذكر شخص بخواصه بـ (أو) مثل»هو الزراع أو الكاتب« وهذان المذكوران بـ (او) خاصة للرجل اي ان لم يوجد موصوف بهما غيره والتعريف بالخاصة رسم.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 219
فصل في القضايا واحكامها

ما[1] احتمل[2] الصدق[3] لذاته[4] جرى[5] بينهم قضية وخبرا

أعلم! ان في العالم اختلافا وتغيراً ونظاماً شاملاً. فالاختلاف هو الذي أظهر الحقائق النسبية التي هي اكثر بكثير من الحقائق الحقيقية. والنسبة لها وقع عظيم قد التفت رعايتها بوجود شرور مغمورة. فلولا القبح لأنتفى حسن المحاسن الكثيرة.. ثم ان التغير هو الذي كثر تلك الحقائق النسبية، ثم النظام هو الذي سلسلها وفننها. وتماثيل تلك النسبيات هي القضايا الكونية التي هي تفاريق القضايا، التي هي "تفاصيل القدر الإلهي"...
ثم اعلم ايضا! ان غاية فكر البشر صيرورة النفس الناطقة خريطة معنوية للكائنات بارتسام حقائقها في النفس. ومعرفة كثير من الحقائق بالنسب. وهي قضايا.. وهي نتائج. وهي بالدلائل.. وهي بأجزائها. وهي او اجزائها موضوعات او محمولات. وهي بتصوراتها.. وهي بالتعاريف. وهي بأجزائها.. وهي الكليات الخمس..
[1] أي ملفوظ ومعقول 1..
[2] اى بسبب تمثاليته لما في نفس الامر له خاصية قابلية المطابقة وعدمها. لكن بالمطابقة. والا فما من تصور إلا ويستلزم تصديقا او تصديقات 2.

_____________________
1 (ملفوظ ومعقول) أي القضية لكونها معقولة (معقول). ولكونها لا تفاد إلا باللفظ (ملفوظ) فـ (ما) ملفوظ ومعقول.
2 (فما من تصور إلا ويستلزم الخ) نعم، تصور زيد مثلا: عبارة عن حصول صورته في الذهن. ولايخفى ان هذا يستلزم (صورته حاصلة - و- هذه الصورة لزيد) وغيرهما من التصديقات. فلو لم يشترط دلالة تلك الخاصية على المطابقة وعدمها بالمطابقة. بل كانت مرسلة لكانت شاملة لغيرها ايضا ولكانت التصورات باعتبار ذلك الاستلزام داخلة في شمول احتمال الصدق..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 220
[3] أي دل على الصدق لفظاً وجاز الكذب عقلاً، بناء على تخلف المدلول(3).
[4] أي بالنظر إلى المحصل كـ "ج ب"(4)..
[5] مجاز عن "يسمى" مجاز عن "يعرف" مجاز عن "هو هو"(5).

ثم القضايا عندهم [1] قسمان[2] شرطية[3] حملية[4] فالثاني[5]

[1] التقييد بامثال هذا القيد لدفع المناقشة والتبري عن المسؤولية، اذ الاصطلاح لايسئل عنه...
[2] وهما أساسان للاقتراني والاقترانيات..
[3] وهي أو السلب عنه في المنفصلة. او عنده في المتصلة اتفاقاً اولاً.. إلا ان المتصلة عند اكثر اهل العربية والشافعية حكمها في الجزاء. وهو العلة والشرط قيد.. وعند الحنفية وأهل المنطق الحكم بين الجزاء والشرط.. ولقد تفرع وتشعب من هذا الاختلاف مسائل كثيرة: منها المشهورة كـ "ان تزوجت بك فأنت طالق.. وان تملكت هذا فهو وقف" فهذا لغو عند الشافعية لوجود العلة حيث لامحل، دون الحنفية لأن العلة اذا انعقدت تصلح المحل ومنها الاختلاف في المفهوم المخالف 1...
[4] أي الثبوت والسلب له بالاتحاد او الاشتمال 2.
[5] أي هو الاول 3..

_____________________
1 (وهي أو السلب الخ) أي الحكم بين الطرفين في المنفصلة بالبعد والانفصال. وفي المتصلة بالمقارنة والاتصال (اتفاقا) أي اتفاقية بلا لزوم (اولا) أي مع اللزوم بين الطرفين. وفي الحملية بالحمل والثبوت..
2 (أي الثبوت والسلب له) الضمير للثبوت (بالاتحاد) اذا كانا متساويين (أو الاشتمال) إذا كان أحدهما أعم..
3 (أي هو الاول) لأن الحملية لكونها جزء للشرطية حقها في البيان الاولية..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 221
مقدمة في المحرَّفات

اعلم!
ان أرجحية الافادة والاعلام - لتصوير الشئ على ماهو عليه - حرّفت طبيعة المسائل عن قانونها.. فكم من "شرطية" تجلت في لباس "الحملية". و.. "حملية" تزينت بزيها. و.. "متصلة" احمّرت تحت "المنفصلة". و.."كلية" استترت تحت "الجزئية". و.. "موجبة" تبرقعت "بالسلب". ورب قياس اندمج في "قضية". و"القضية" اختفت في "صفة او قيد بل حرف". "وكم" من المعاني الطيارة: توضعت على أحد أغصان الكلام.. وكم من كلمة: تشرّبت طائفة من تلك المعاني..
وتحقيقه: ان كل علم يبحث- أي بالحمل الثبوتي - عن الاعراض - أي الصفات التامة - الذاتية - أي اللازمة الشاملة الواجب الثبوت - للشئ - اعني الموضوع.. فكانت مسائل كل علم "قضايا حملية موجبة كلية ضرورية في الخارج نظرية في الذهن".. "فما ترى" من الشرطيات والسوالب والجزئيات والممكنات والبديهيات - فإما من المبادئ التصورية، أو المبادئ التصديقية. أو الاستطراديات. أو متأولة بوجه من وجوه التلازم. أو مقدمة من مقدمات دليل المسألة أقيمت مقامها ..تأمل!.


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 222
كلية[1] شخصية والأول اما مسور[2] واما مهمل[3]
والسور[4] كلياً[5] وجزئياً[6] يرى[7] وأربع[8] أقسامها حيث جرى[9]

[1] أي مافيه اشتراك.. فإِن نظر الى الطبيعة فاما مع جواز سرايته الى الافراد، كالحمل في التعاريف على القول بقضيتها. أو بدون السراية مع ملاحظة الافراد. كحمل المعقولات الثانية على الاولى، في كل ما يرى أو بدون الملاحظة وبدون السراية كـ "الانسان مفهوم ذهني". فهذه الثلاثة طبيعية..
ومنها الكل المجموعي وكل مراتب الاعداد. وهي في حكم الكلية في كبرى "الشكل الأول" 1..
[2] أى التي مناط الحكم نصب العين كميتها 2..
[3] وهو في المقام الخطابي في حكم الكلية. والاستدلال في حكم الجزئية 3.
[4] اعلم! أن للسور مقامات مختلفة وصوراً متفاوتة. فقد يدخل على المحمول ويصير القضية منحرفة اللطائف وضمنياً وقيداً..
ثم ان القضية تتضمن قضايا ضمنية بعدد القيود.. فكأن الحكم لما تداخل بين القيود انبت في كل قيد حكماً ضمنياً يشار اليه بالاعراب. ففي "كل مؤمن حقه الصدق بالضرورة" اولاً: اثبات حقية الصدق للمؤمن. ثم ثبوت حقية الصدق للمؤمن عمومي. ثم ثبوت حقية الصدق لعموم المؤمن ضروري.

_____________________
1 (اي ما فيه اشتراك) "ما" موصوفة شاملة لكل الكليات كما قال (فان نظر الخ) أي إلى ذلك المفهوم المشترك إذا حكم عليه. فأما جواز سراية الحكم إلى الافراد - كما في حمل التعاريف على المعرفات - كحمل (الحيوان الناطق) على الإنسان. أو مع عدم جواز السراية. لكن مع ملاحظة قبول الافراد ومناسبتها لذلك الحكم كحمل المعقولات الثانية على الاولى مثل (الإِنسان نوع). او لاسراية ولا ملاحظة مثل (الإِنسان ذو مفهوم ذهني). فهذه الثلاثة من الكليات الطبيعية...
(ومنها) أي من الكلية لا الشخصية (الكل المجموعي) لأن له اجزاءً بمنزلة الجزئيات للغير. (ومراتب الاعداد) كالعشرة والمائة ومابينهما لانها وان لم تكن من الجموع لكنها في كبرى (الشكل الأول) في حكم الكلية...
2 (أي التي مناط الحكم الخ) تذكير (المسور) وتأنيث الضمير في (كميتها) دليل على ان (التي) صفة (الكلية) اي الكلية التي مناط الحكم كميتها.
3 (في المقام الخطابي) اي في الظنيات..



عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:55 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 223
أعلم! أن العكسين والتناقض والقياس - كما تنظر الى القضية الأولى - تنظر الى القضيتين الاخيرتين وتتنوع بسببهما.. فإن أحببت أن ترى تفاصيل السور وتفاسير الجهة، فانظر في "تعليقاتي" على "الكلنبوي": اذ أنها اجدى من تفاريق العصا 1...
[5] اي لا المجموعي بل الإفرادي لا البدلي بل الاطلاقي.
[6] أي يدل على البعض ولو في ضمن الكل، لأن اهل الاستدلال لاينظرون إلى المفهوم المخالف، بسرّ (لاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ( الاسراءء: 26) 2
[7] اي فينقسم، فيكون، فيرى اذ وجود المقسم بوجود الاقسام 3..
[8] أي ينقسم باعتبار الكيف، فتتربع الاقسام فأينما صادفته فهو أحد الاربعة...
[9] أي لايتشعب بالجريان ولاينقسم بتنوع العروض.

_____________________
1 (كما تنظر إلى القضية الاولى الخ) يعنى »ان الموضوع والمحمول« في القضية الاصلية - كما انهما منظوران في العكسين والتناقض - كذلك القيودات الدالة على الكمية والكيفية والجهة في القضية الاصلية معتبرة وملحوظة فيها. وبسببها تتنوع المحصورات والموجهات..
2 (لأن اهل الاستدلال) دفع لما يقال: إذا قلت (بعض الإنسان حيوان) ينفهم من المفهوم المخالف ان البعض الآخر ليس بحيوان. وجه الدفع: إنهم لاينظرون اليه..
3 (اى فينقسم الخ) إشارة إلى مايرد على الناظم: من ان رؤية الاقسام بوجودها وهو بعد انقسام القسم. ولايكفي انفهام الأقسام بالرؤية والجريان بين الناس. بل لابد من التقسيم صراحة..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 224
اما بكل[1] او ببعض[2] او بلا شيء[3] وليس بعض[4] او شبه جلا[5]
وكلها[6] موجبة[7] وسالبة[8] فهي[9] اذن إلى الثمان[10] آيبه[11]

[1] أي وكذا مايرادف؛ "اكتع. طراً. قاطبة. كافة. واللام. والإِضافة. والموصول الإِستغراقية" 1..
[2] أي وكذا مايرادف؛ "قطعة. طائفة. واحدة. قليل. شيئ. كثير. والتنوين. والتقليل. والعهد الذهني" في اللام واخويه 2..
[3] اي وكذا مايماثل "لاواحد. ولاقطعة". وقس على "لا" "ما. ليس. ان" - وعلى "شيء" كل ماهو سور الموجبة الجزئية بشرط التنكير وعدم الاضافة 3..
[4] أي وكذا كل ما دخله النفى مطلقاً من السور الموجبة الجزئية، لكن بشرط الاضافة والتعريف. وكذا دخول النفى على كل الموجبة الكلية. لكن بشرط تقدم النفي 4..
[5] مثل "في الاغلب. وعلى الاكثر. وبالجملة. وفي الجملة. ونادراً. وقليلا." وقس...
[6] اي وغير المسورتين كالمسورتين 5.
[7] والايجاب وجود، انما يتحقق بوجود جميع الاجزاء. والسلب عدم، يصدق بعدم اي جزء كان. والغالب بعدم الأخص..

_____________________
1 (اكتع) بدل (ما) لا مفعول ليرادف (الاستغراقية) صفة للثلاثة الاخيرة اي اذا اريد منها الاستغراق والعموم..
2 (واخويه) أي الاضافة والموصول.
3 (وعلى شئ) متعلق بلفظ (قس) (بشرط التنكير وعدم الاضافة) اي ليكون أعم فلا تختل الكلية.
4 (النفي مطلقا) اى أيّ نفي كان (بشرط الاضافة) اي اذا كانت للاستغراق والعموم لأن نفي الاستغراق جزئي...
5 (وغير المسورتين كالمسورتين) اي الشخصية والمهملة في الإنقسام إلى الايجاب والسلب...




صيقل الإسلام/قزل إيجاز- ص: 225
[8] وسلب الطرف عدول يقتضي قابلية المحل. ووجود الموضوع؛ لانه عنوان امر محصل. وسلب النسبة. ثم جعله محمولاً سالبة المحمول ومخمسة الاجزاء ومكررة، ملاحظة النسبة، ومعدولة ذهنية في الخارجية 1..
[9] أي فالأربعة قبل الثمانية. اذاً "كالنائم مستيقظ" 2.
[10] اي السوالب محصلة، لانها تصديقات الاعدام لاتكذيبات الوجودات. فان تصديق العدم المحصل، غير تكذيب الوجود الغير المحصل وان استلزمه.
[11] ايها الناظم! اظنك تظننا صبيانا طالبين لمبادئ الحسابات.

والأول[1] الموضوع[2] في الحملية والأخر[3] المحمول بالسوية[4]

[1] اي حقه الاول لان المراد منه الذات..
[2] وموضوعية الموضوع غير محموليته وغير موضوعية المحمول؛ لاختلاف الجهة. كما في حمل الواجب الاعم على الخاصة المفارقة في "كل ضاحك إنسان". وجزء القضية موضوعية الموضوع؛ لأن الجهة تنظر اليها.
[3] أي ماشأنه "الآخر" كما في أصل الحمل ؛ لأن المراد منه المفهوم وان كان ذاتا مثل "زيد حجر".
[4] "السوية" سيئة الضرورة..

_____________________
1 (وسلب الطرف) أي إذا كان محمول القضية مسلوبا فهي معدولة. وشرطها أن يكون الموضوع موجوداً وقابلا للمحمول المسلوب أي قبل السلب فلا يصح (العنقاء لا طائر) لعدم الموضوع ولا (زيد لاحجر) لعدم قابلية المحل (وسلب النسبة) إشارة إلى القضية السالبة المحمول. وهي أن يسلب النسبة بين الطرفين. ثم يجعل المحمول المسلوب النسبة محمولا فيصيّر اجزاءها خمسة. الطرفان. والثبوت بينهما. وسلب ذلك الثبوت. وثبوت ذلك المسلوب للموضوع (ومكررة ملاحظة الثبوت) باضافة المكررة. اي يلاحظ الثبوت مرتين قبل السلب وبعده.. ويفرق بين تينك القضيتين على الاكثر في الثنائية بـ (لا) في المعدولة وبـ (ليس) في السالبة. وفي الثلاثية بتقديم الرابطة على النفي في المعدولة وتأخيرها عنه في السالبة (ومعدولة ذهنية في الخارجية) مثلا: (الماء ليس بجامد) قضية خارجية لكن محمولها ذهني..
2 (فالاربعة قبل الثمانية) اشارة الى أن في كلام الناظم سقطة.. اذ الأقسام تكون اربعة ثم تنتهي الى الثمانية فهي مثل (النائم مستيقظ) اذ اليقظة قبل النوم...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 226
وان[1] على التعليق[2] فيها قد حكم فانها[3] شرطية وتنقسم

[1] أعلم! ان الشرطية - التى مرت الاشارة اليها - تنقسم باعتبار "النسبة": اتصالا وانفصالا... "والجهة": لزوما واتفاقا. عنادا وتصادفا.. "والمطابقة": صدقا مع صدق الطرفين وكذبهما وكذب الاول أي المقدم اي لامع كذب التالي ايضا لكونها محل الحكم.. لو كانت كاذبة كانت القضية بتمامها كاذبة. وكذبا مع كذب الطرفين وصدقهما والاختلاف.. "والكيفية": إيجابا مع سلب الطرفين وإيجابهما والاختلاف. وسلبا مع ايجاب الطرفين وسلبهما والاختلاف. "والتركيب" إلى المركبة من حمليتين ومتصلتين او منفصلتين أو مختلفتين.. "والصورة" إلى: الاصلية والمنحرفة، والمشبهة بالحملية بتقديم الموضوع على أدوات الشرط.. "وإضافة النسبة" إلى متخالف الطرفين نظير الولادة في المتصلة فيها الترتيب الطبيعي - أي بأن يكون الاول منشأ وعلة للآخر كطلوع الشمس ووجود النهار - وإلى متشابه الطرفين نظير الاخوة في المنفصلة.. "والكمية" إلى: الكلية باعتبار الاوضاع الشاملة للاحوال والازمنة والامكنة. وسورها في المتصلة الموجبة "كلما. مهما. متى. حيثما. كيفما. ابداً. دائماً." وقس عليها مايناظرها ومايتضمنها. وفي المنفصلة الموجبة"البتة. بتة بتلة. مستمرا. دائماً. ابداً". وكذا الجهات الدائمة في الحملية سور الكلية في المنفصلة وقس عليها مايشابهها وما يتضمنها حرفا وفعلا واسما. وفي السالبة الكلية فيهما "ليس البتة. ما ابدا. لادائما." وقس على النفي مايشابهه وعلى مدخوله مايماثله. وإلى الموجبة الجزئية. وسورها فيهما "قد يكون". والى السالبة الجزئية. وسورها قد لايكون وقس على "قد" ما يتضمنه من التقليل والتكثير مايماثله وعلى "يكون" ما يشابهه من الافعال العامة والناقصة التامة وقس على الحرف الفعل والاسم. وإلى الشخصية بالتقييد بوقت معين كالآن واليوم وغدا وهكذا... وإلى المهملة: ففي المتصلة بـ "لو. وان. وإذا". وفي المنفصلة بـ " أما وأو! 1...

_____________________
1 (فيها الترتيب الطبيعي الخ) حاصله: ان المتصلة يراعى فيها الترتيب الطبيعي لأن أحد جزئيها على الاكثر منشأ وعلة للآخر كالأب والولد فيقدم الاب ويؤخر الولد (كطلوع الشمس ووجود النهار).. وفي المنفصلة الطرفان متشابهان في العناد والإنفصال: كما ان هذا معاند لذاك هو ايضا معاند لهذا.. حتى ليس العناد في أحدهما زائداً أو ناقصاً كأنهما اخوان انقسم العناد بينهما على السوية فليس فرق يرجح تقديم أحدهما على الآخر. بل الترتيب في اجزائها على ارادة القائل.
(وإلى متشابه الطرفين) أي في العناد والإنفصال كانهما اخوان لايزيد أحدهما على الآخر في العناد. وفي الإنفصال متشابهان لايجتمعان كالزوج والفرد. (والازمنة) عطف على الاوضاع لاعلى الاحوال. (وكذا الجهات الدائمة) كالضرورة والدوام (سور الكلية) خبر للجهات (مايماثله) فاعل ليتضمنه (من الافعال العامة) كحصل. ثبت. وقع. وجد. كان. لابس. استقر (والناقصة التامة) ككان بمعنى وجد. لكن توصيفها بالناقصة حكاية عن حالها الماضي..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 227
[2] أي حكم بالتعليق فبنى الكلام على التعليق. وبسر التلازم وتضمن المنفصلة للمتصلة يشملها التعليق 1.
[3] "الفاء" للزوم و"ان" لليقين و"الهاء" للربط بين الجزئين والاتحاد بين الحد والمحدود..

_____________________
1 (أي حكم بالتعليق) أي الارتباط بين الجزئين أي فكان حق العبارة تعديته بالباء أي كما كان الحكم في الحملية بالثبوت لاعلى الثبوت كذلك الحكم هنا بالتعليق لاعلى التعليق. والا لزم ان يكون التعليق محكوما عليه وليس كذلك..
(فبنى الكلام على التعليق) أى التأخير والتردد الدال عليهما (ان)..
(وبسر التلازم الخ) دفع لما يرد: من أن التعريف غير جامع لخروج المنفصلة عنه إذ الحكم فيها بالإنفصال لا بالإرتباط. وجه الدفع: إن كل جزء من المنفصلة يستلزم نقيض الآخر. فبهذا الاعتبار يكون المنفصلة مستلزمة للمتصلة ومتضمنة لها. نعم: (العدد إما زوج او فرد) يستلزم (كلما كان زوجا فهو لا فرد). فبهذا الاعتبار يشملها التعليق فلا تبقي خارجة عن التعريف.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 228
أيضاً إلى شرطية متصلة[1] ومثلها[2] شرطية منفصلة[3]

[1] اما "لزومية" ادعائية او حقيقية. كما بين كل المتضايفات وكل المتساويات. وبين الاصل مقدماً وبين العكسين. وبين التعريف والمعرف. وبين الدليل مقدماً والنتيجة. وبين الاخص مقدماً والاعم. وبين العلة والسبب والعلامة مقدماً وبين المعلول وغيره وقس..
"او اتفاقية" أي العلاقة بين الجزئين مستترة ليست بارزة لظاهر النظر. إذ الصدفة عقيدة فاسدة. والسلب سلب الإتصال لا إتصال، السلب. إذ حكمة التسمية لا يلزم ان تطرد 1...
[2] اى في التعليق، لأستلزامها لها او لتأولها بها او لانكشافها عنها 2..
[3] اما عنادية كما في العناديات اى المتناقضات والمتضادات والمتقابلات، وكل ماذكر من مظان الاتصال مع تبديل احد الطرفين بنقيضه وقس!.. واما اتفاقية بأن لم تظهر العلاقة وان كانت...

_____________________
1 (كما بين كل المتضايفات) كالأب والابن وجه التسمية: ان كلا يضاف في المعرفة الى الآخر اذ يقال: الأب من له ابن وبالعكس. (وبين الأصل مقدما) اذ لو كان العكس مقدما والاصل تاليا لايطرد اللزوم. وكذا ان كان النتيجة او الاعم او المعلول مقدما والدليل او الاخص او العلة تاليا لم يطرد اللزوم والإستلزام بين الطرفين مثلا: لايقال كلما تحقق الحيوان تحقق الانسان (اى العلاقة بين الجزئىن مستترة) شذ الاستاذ هنا عما عليه اهل المنطق من عدم العلاقة بين جزئي الاتفاقية مشيراً الى ان لا اتفاقية الا وفيها علاقة مستترة لاتظهر لظاهر النظر. مستدلا بان التصادف كما لم يكن ولم يمكن في ماديات الكائنات لزم ان لايوجد في المسائل العلمية ايضا..
غاية ما في الباب ان بعض العلائق مستورة عن بعض الابصار والبصائر (والسلب سلب الاتصال) إشارة الى مايرد: من انه اذا كان السلب في السالبة مضاف الى الاتصال لايجوز عدها من المتصلات وان كان مضافاً اليه للاتصال لايكون سالبة بل هي اذا موجبة معدولة.. وجه الدفع: ان وجه التسمية لايلزم وجوده في كل الاقسام..
2 (اى في التعليق لإستلزامها لها) وجّه وجه المثلية: بان في المنفصلة ايضا تعليقا بين الجزئين لاستلزام المنفصلة للمتصلة كما مر.. او لتأولها بها يجعل كل جزء منها مقدما لنقيض الآخر..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 229
جزآهما[1] مقدم[2] والتالي[3] اما بيان[4] ذات[5] الاتصال
ما[6] اوجبت تلازم[7] الجزئين وذات الانـفـصــال دون مـيـن

[1] اندمجت اربع قضايا في واحدة، اذ التثنيتان في حكم التكرير 1.
[2] اى طبعاً في المتصلة، لتخالف طرفي اللزوم. ووضعاً في اختها، لتشابه طرفي المعاندة 2..
[3] كالمقدم 3..
أعلم! ان الشرطية تتعدد في السالبة بتعدد المقدم. وفي الموجبة بتعدد التالي صريحاً او ضمناً. وفي الحملية بتعدد كلا الطرفين صريحاً او ضمناً. قيل: او معنى..
[4] اى التعريف باعتبار الجزء الصورى الذي هو مأخذ الفصل 4...
[5] اشار الى ان لفظ المتصلة من "ذى كذا" اذ المتصلة من المصطلحات. والمصطلح ليس من المشتقات ولو في صورة المشتق بل جامد ينسب اليه 5.

_____________________
1 (أربع قضايا) هي المتصلة الموجبة والسالبة والمنفصلة كذلك (في واحدة) أى قضية واحدة. بل في كلمة واحدة اعني (جزآهما) اذ فيها تثنيتان اذا ضرب احدهما في الآخر يحصل اربعا.
2 (اى طبعا) اى تقدم المقدم على التالي امر طبيعي يقتضيه الطبيعة (في المتصلة) لان طرفي اللزوم فيها متخالفان: احدهما لازم. والآخر ملزوم. واللازم بعد الملزوم (ووضعا) اى على كيف الواضع في المنفصلة اذ الطرفان فيها متساويان في العناد لا فرق بينهم يكون سبباً للترجيح في التقديم والتأخير..
3 (كالمقدم) اى تأخر التالي طبيعى كالمقدم لما ذكر.. اعلم! ان السالبة الشرطية اذا تعدد المقدم يتحصل بتعدده وعلى مقدار عدده قضايا نظراً الى جواز سلب التالي الواحد عن مقدمات كثيرة. وفي الموجبة يحصل التعدد بحسب تعدد التالي لجواز لوازم كثيرة لشئ واحد ولا اطراد في العكس.
4 (اي التعريف باعتبار الخ) يعني: ان للتعريف مادة هي الجزآن. وصورة هي تلازم الجزئين. الاولى كالجنس. والاخرى كالفصل.
5 (المتصلة من ذى كذا) أي من باب ذي كذا. يعني: ان تلك الكلمة ليست بمشتقة على مايتبادر إلى النظر لانها من مصطلحات المنطقيين. والمصطلحات بمنزلة الجامدات عقيمة لاتتولد من شئ ولامنها شئ بل ينسب اليها او يؤول بما يدل على النسبة. كامثال (ذي) او (ذات). فالمتصلة بمعنى ذات اتصال..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 230
[6] اى فهو ما اوجبت بأعتبار الدلالة ظاهراً،ً اذ الاتفاقية لزومية بعد الاتفاق 1.
[7] اى تشارك في اللزوم مصدر للمعلوم والمجهول.
أعلم! ان اللزوم عقلي. او حسى. او عادي. او عرفي. او اصطلاحي. او شرعي "جزئيا او كليا".
فان قيل - ان كان اللزوم "لا" فلا لزوم. وان كان تسلسل ولزم الموجب بالذات..
قلت: اللزوم وكذا كل مانوعه فرده. وذاته صفته كالوجود ونحوه - نوعه منحصر في شخص موجود، بسر عدم العبثية ولا اعتبار بتسلسل الاعتباريات، اذ لايلزمك ان تلاحظ اللزوم اسمياً. وفرق بين "وجوده لا" وبين "لاوجود له" كالفرق بين الحرف والاسم. والوجوب واللزوم بالاختيار لاينافي الاختيار 2..

_____________________
1 (اي فهو ما اوجبت) اشارة الى تقدير جواب (اما) والى دفع مايرد من ان الاتفاقية مع انها شرطية لالزوم فيها فتبقى خارجة.. وجه الدفع: ان الاتفاقية بعد الاتفاق لزومية كما سيجئ...
2 (مصدر للمعلوم) اي اللازم (والمجهول) أي الملزوم يعني: ان التلازم يقع بين شيئين كل منهما لازم وملزوم للآخر. فالمعلوم إشارة إلى اللازم والمجهول إلى الملزوم.. (فان قيل الخ) حاصل ماقيل:ان اللزوم إن كان معدوما فلا لزوم، فكيف يبحث عن اللزوم. وإن كان موجوداً يجب أن يكون له مأخذ. وله أيضاً من مأخذ وهكذا.. يتسلسل إلى ان ينتهي إلى لزوم موجب بالذات أى غير محتاج إلى لزوم آخر. هذا محال.. (قلت الخ) حاصل المقول: ان اللزوم - كالوجود والنور وغيرهما مما لافرق بين الفرد والنوع - من الكليات المنحصرة في شخص موجود إذ لامحل للعبثية إذ لو لم يكن لتلك الكليات فرد موجود لكانت من العبثيات، فاللزوم كلي منحصر وجوده في فرد فلا اشكال.. ولو سلم التسلسل: اي لزومه على تقدير عدم وجوده فلا اعتبار لتسلسل الامور الاعتبارية. ولايلزم علينا ان ننظر إلى اللزوم اسميا أي غير اعتباري فلا اشكال. (وفرق بين وجوده لا الخ) هذا طريق آخر لدفع ذلك الإيراد. حاصله: ان الوجود قسمان: احدهما ضعيف تابع للغير كوجود معنى الحرف. والآخر قوي مستقل لاحاجة له للغير كمعنى الاسم. فقوله (وجوده لا) اي له وجود ضعيف تابع للغير لولا الغير لم يوجد. و(لا وجود له) نفي للجنس أي لاوجود له لا ضعيفا ولا قويا. فاللزوم ناظر إلى الاول لا إلى الثاني اي له وجود تابع للطرفين لولاهما لم يوجد.
(والوجوب واللزوم بالاختيار لا ينافي الاختيار) بل يستلزمه او لولا الاختيار لم يوجد الوجوب لان الموجب مختار في افعاله فالوجوب من افعاله الصادرة عنه باختياره..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 231
ما اوجبت تنافرا[1] بينهما[2]
اقسامه[3] ثلاثة فليعلما
مانع جمع[4] او خلوّ[5] او هما[6]
وهو الحقيقي[7] الأخص[8] فاعلما[9]

[1] أي سواء كان تضاداً او تعانداً او تبايناً او تنافياً او عدم ملكة او تناقضا.. والمنفصلة والمتصلة سالبة كل كموجبة الاخرى في أكثر الاحكام، إذ العناد بين الشيئين كما يستلزم سلب اللزوم بينهما يستلزم اللزوم بين احدهما ونقيض الآخر. ولأن الممكن لابد لذاته واحواله من علة تامة، وبعد الوجود يجب، كانت الاتفاقية عنادية 1.
[2] أي "فقط" اذ كثيرة الاجزاء منفصلات كثيرة امتزجت 2..
[3] هذا التقسيم ككل تقسيم كثير الأجزاء، بين كل جزئين منع الجمع. وباعتبار المجموع منع الخلوّ حقيقة او ادعاء او استقراء..
[4] اي فقط او مطلقاً. وهو مستلزم لمتصلتين من عين احد الجزئين مقدماً، مع نقيض الآخر تالياً. وسالبة كل من المتلازمتين مستلزمة لموجبة الاخرى من منع الجمع وما يستلزمه من المتصلتين 3..
[5] كالجمع في التقييد والاطلاق واستلزام المتصلتين، إلا أن المقدم نقيض والتالي عين فيهما 4.

_____________________
1 (ولان الممكن لابد الخ) متعلق بكانت الآتية. وعلة لكون الاتفاقية عنادية (بعد الوجود يجب) يعنى: إذا تم العلة لوجود شئ من الممكنات يجب وجوده إذ لا يختلف المعلول عن العلة التامة (كانت الاتفاقية عنادية) لان الاتفاق بين شيئين شئ ممكن فاذا فرض له علة تامة يجب ذلك الاتفاق واذا وجب لزم وإذا لزم الاتفاق بين الشيئين يخرج الاتفاقية من الاتفاقية إلى العنادية..
2 (اي فقط) ناظر إلى تثنية (هما) يعني: ان بدل التثنية بالجمع لم يصح الحمل بين التعريف والمعرف..
3 (اي فقط او مطلقاً) أي إذا اطلق ولم يقيد بقيد فقط كان شاملا للحقيقة ايضا وإذا قيد به لايشملها..
4 (والاطلاق) اى بدون فقط او به (واستلزام المتصلتين) أي ومثل مانعة الجمع في استلزام المتصلتين إلا أن المقدم نقيض والتالي عين هنا عكس منع الجمع مثل (كلما كان حجراً فهو لاشجر وكلما كان شجراً فهو لاحجر) هذا المثال يصلح لكلا القسمين..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 232
[6] اي فيستلزم تلك المتصلات الاربع 1..
[7] أي حقيقة الانفصال بديهية اذ الاولان نتيجتا اقترانيين من حقيقية صغرى ومتصلة كبرى. مثلا: اما حجر او شجر. نتيجة لـ : أما حجر واما لاحجر، وكلما كان حجراً فهو لاشجر. اذ ما لا يجامع اللازم لا يجامع الملزوم وقس منع الخلوّ 2..
[8] أي على رأي. اذ الكل اخص من الجزء، أي أو المباين. كما هو شأن التقسيم من انه يوقع المباينة بين الاقسام 3.
[9] أي تتبع مالم اصرح به من تقاسيمها وتفاصيلها..

_____________________
1 (اى فيستلزم تلك المتصلات الاربع) ثنتان من جهة منع الجمع والاخريان من جهة منع الخلو..

2
(والاولان نتيجتا اقترانيين) أى كل من منع الجمع ومنع الخلو نتيجة لقياس اقتراني صغراه منفصلة حقيقية وكبراه متصله مثل (اما لاحجر أو حجر وكلما كان حجرا فهو لاشجر) ينتج (اما لاحجر أو لا شجر) هذا المنع الخلو. والمثال لمنع الجمع (أما حجر أو لاحجر وكلما كان حجرا فهو لاشجر) ينتج (اما حجر او شجر (لان ما لايجامع اللازم لا يجامع الملزوم.) كما هنا اذ الشجر لكونه نقيضا للاشجر الذي يجامع الحجر لا يجامع هو الحجر إذ يلزم حينئذ جمع النقيضين فهو معاند له فثبت المطلوب. وقس منع الخلو..
3 (أي او المباين) عطف على الأخص (كما هو شأن التقسيم) من كونه متباين الاقسام إذ كل قسم قسيم للآخر...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 233
فصل في التناقض

تناقض[1] خلف القضيتين[2] في كيف[3] وصدق[4] واحد امر قفى

[1] أعلم! ان الاثنينية ان كان فيهما الاتحاد؛ ففي الماهية وأخص الصفات "التماثل".. وفي الجنس "التجانس".. وفي الكيف "التشابه".. وفي الكم المتصل "التوازي".. وفي المنفصل "التساوي".. وفي الوضع "التشاكل".. وفي الملك "التلابس".. وفي الاين "التجاور".. وفي الإضافة "التناسب".. وفي متى "التعاصر".
وان كان فيهما الاختلاف - فمطلقا "التغاير" ثم "التخالف".. ومع امتناع الاجتماع "التقابل".. ومع وجود الطرفين مع الدور المعي"التضايف".. وبدونه "التضاد".. وفي الوجود "التعاند" وفي الصدق "التباين".. ومع عدم احد الطرفين بشرط قابلية المحل"عدم وملكة".. وبدون الشرط في المفرد "التنافي".. وفي الجملة "التناقض" وقد يعمم..
ثم اعلم! أن نقيض كل شئ رفعه، والرفع لايحتاج إلى بيان، إلا أن الرفع لما لم يتحصل دائماً - وقد احتجنا للقياس الخلفي إلى نقائض محصلة، أى معينة مضبوطة - وضعوا شرائط وقيوداً لتحصيل النقائض...
[2] أي هنا اذ المراد ما لايجتمعان ولا يرتفعان، وفي المفردات قد يترفعان "كالحجر والشجر عن الإنسان" 1.
[3] أي بشرط الاختلاف والاتحاد في واحد او ثلاثة، او ثمانية، او ثلاثة عشر، فالاختلاف في الكيف، والكم، والجهة، ثم النتيجة في الصدق، والاتحاد في النسبة،

_____________________
1 (أي هنا) دفع بعلاوة هذا القيد مايرد: من أن التعريف أعم اذ (الخلف) يشمل الحجر والشجر. ولاتناقض بينهما. فاشار إلى أن المقصد بيان التناقض في القضايا لامطلقا فلا اشكال...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 234
او المحكوم عليه وبه، والزمان، والمكان، والشرط، والاضافة، والجزئية او الكلية، والقوة او الفعل في الطرفين 1.
[4] أي المستلزم بالذات لكذب الاخرى 2..

فان[1] تكن شخصية[2] أو مهملة[3]
فنقضها[4] في الكيف ان تبدله[5]
وان[6] تكن محصورة[7] بالسور[8]
فانقض بضد سورها المذكور

[1] أعلم! انك قد علمت ان القضية باعتبار منطوقها كما تفيدنا حكماً كذلك باعتبار الكمية تتضمن قضية أخص. وباعتبار الجهة قضية أخرى اخص منهما. فمناط العكسين والتناقض في المسورة الموجهة الضمنية.. فان تجردت عن الجهة والسور ولم يقصدا فالنظر إلى أصل القضية.
أعلم! ان الأفعال الناقصة صور النسبة الفعلية. وان افعال المقاربة تصاوير النسبة الامكانية. وان افعال القلوب كيفيات الثبوت وجهات الاثبات.. فكأن صورة النسبة ظهرت للتوصل لجعل الاسمية فعل شرط 3.

_____________________
1 (في واحد) أي النسبة الحكمية (أو في ثلاثة) أي الموضوع والمحمول والزمان (هذا عند الفارابي).. (او ثمانية) هى وحدة الموضوع والمحمول والزمان والمكان والشرط والإضافة والجزء أو الكل والقوة او الفعل (أو ثلاثة عشر) هي الدائمتان والعرفيتان والمشروطتان والوقتيتان والوجوديتان والممكنتان والمطلقة العامة (في الصدق) متعلق بالإختلاف المقدر بعد (ثم) المضاف إلى (النتيجة)..
2 (أي المستلزم بالذات) احتراز عن قولنا (هذا إنسان هذا ليس بناطق) اذ الواسطة هنا مساواة المحمولين لا لذاته..
3 (واعلم ان الافعال الناقصة الخ) حاصله: ان تلك الافعال ليست من أجزاء القضية بل دالة على وضعية النسبة بين طرفي القضية. مثلا: ان (كان) في (كان زيد قائماً) إنما يفيد زمان وقوع نسبة القيام إلى زيد. وان المنسوب والمسند إلى زيد القيام لا (كان). لكن لكان فائدة أخرى: اذ انها مجوزة لجعل الجملة الاسمية فعل شرط في (ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود) إذ لو لم يكن (كان) لم تكن تلك الجملة شرطا.. وان افعال المقاربة ايضاً ليست أجزاء حقيقية. وإنما هي مصورة ومقربة للنسبة الكائنة بين الطرفين من الامكان إلى الوقوع.. وان افعال القلوب كيفيات تتعلق بالثبوت الواقع بين الطرفين في الخارج وجهة مؤكدة لاثبات ذلك الثبوت في الذهن.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 235
[2] أي موضوعها شخص حقيقة او اعتباراً كالكل المجموعي..
[3] اي فإن لم ينظر إلى كونها في قوة المسورة فذاك.. وإلا فالبعض المبهم في حيز النفي يعم 1..
[4] أي فهو قليل المؤنة. فاستغن بما اعطاك التعريف 2..
[5] اي لابد من الاتحاد ثلاثية والاختلاف في الكيف 3..
[6] اعلم! ان التناقض انما ينظر إلى الجهة والسور، اذا نظرا إلى النسبة. وأما إذا دخل "ذا" المحمول فحرف او الموضوع قبل الحكم فشخص الكلية. او دخلت "تاك" عقد الوضع او صارت جزء المحمول فلا..
أعلم! ان نقيض الضرورة - ذاتاً او صفة او وقتاً - الامكان كذلك. والدوام - ذاتاً أو صفة - الاطلاق كذلك. فان شئت تفاصيل الجهات فعليك بتعليقاتي في المنطق 4.
[7] أي منصوصة الكلية المقصودة 5..
[8] أي كالسوار الصحيح أو المنكسر 6..

_____________________
1 (والا فالبعض المبهم الخ) حاصله: ان المهملة في الإيجاب من الجزئيات أي في حكم الموجبة الجزئية وفي السلب من الكليات أي في حكم السالبة الكلية، لان موضوعها بعض مبهم والبعض في حيز النفي يعم أي يفيد معنى كليا: هذا إذا قصد من المهملة المسورة.. فهي حينئذ من المحصورات ايجابها من الجزئيات وسلبها من الكليات. (يعم) أي فيكون المهملة خارجة من المهملات داخلة في عداد المحصورات..
2 (أي فهو قليل المؤنة) لايحتاج معرفته إلى زيادة كلفة واشتغال بل يكفي لمعرفته ما أفاده التعريف الذي هو عبارة عن تبديل الطرفين بالايجاب والسلب..
3 (أى لابد من الاتحاد ثلاثية) أى لزم اتحاد النقيضين في الموضوع والمحمول والزمان والاختلاف في الايجاب والسلب فقط (هذا عند الفارابى)..
4 (اعلم ان التناقض إنما ينظر الخ) أى التناقض بين القضيتين من الموجهات والمحصورات ناظر إلى السور والجهة. فان لم يكونا في موضعهما الطبيعي: بأن دخل (ذا) أى السور -المحمول (فحرف) أى جعل القضية منحرفة. وان دخل الموضوع (فشخص) أى جعل القضية شخصية قبل مجئ الحكم وملاحظته. وان دخلت (تاك) أى الجهة عقد الموضوع أى قيداً للموضوع مثل (كل إنسان بالضرورة فهو حيوان) أو كانت جزء المحمول: مثل زيد ضاحك على الدوام (فلا) أى يختل التناقض بذلك التبدل..
5 (أى منصوصة) أى المقصود من المحصورية جعل الكلية مثلا مقصودة معينة بالنص بحيث لايبقى في ذلك خفاء..
6 (أى كالسوار الصحيح) إشارة إلى سور الكلية (والمنكسر) إلى سور الجزئية..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 236
فان[1] تكن موجبة[2] كلية[3] فنقضها[4] سالبة جزئية

[1] اطنب بالشرطية بدل الحملية، إذ المقصود تعليم العلم العملي، لا العلم فقط. ولجعل الثابت واجباً 1.
[2] اى ولو معدولة او سالبة المحمول.
[3] أى ولو مهملة خطابية 2..
[4] أى اللازم المحصل، لا الحقيقي الغير المحصل. وهو سالب الكل. وعدم الفاء دليل وجود "فاعلم ان" في 3 النية..

وان تكن سالبة كلية فنقضها موجبة جزئية

أعلم! ان العلم غداء لابد له من هضم فالذهن العجول الرحوان يتذلق عن الحقائق "اى يمر بها ولايأخذها او يفوز بها ويأخذها" لكن تتقطع الحقيقة في يده "اى في يد ذهنه" ولا تنمو ولا تتوسع فيه بل تخرج هاربة من الذهن ثم يجمع كسرات حقائق انسلبت خاصية النمو عنها في حافظته فلا تنهضم ولا تنبت بل قد يتقيؤ هو او تنفسخ هى. "وسطحية الذهن اشد مرض المّ بنا" فلتشويق الاذهان الى الدقة - اعجزتكم ايها الناظرون بما اوجزت في هذه الرسالة.
ما تـمـت

_____________________
1 (اطنب بالشرطية) أى أطال. حاصله: ان الحملية دالة على الثبوت بين الطرفين وهو محل تعلق العلم لاعمل ولاتعليم فيه. والشرطية كالتهجي تعليم وتفصيل لذلك الثبوت وتعلقاته. والمقصود هنا التعليم لا العلم وحده.. وأيضا ان الشرطية تدل على ان تحقق الجزاء مشروط وموقوف على تحقق الشرط بحيث متى تحقق الشرط تحقق الجزاء. فبهذا الاعتبار يكون الثبوت الثابت في الحملية لازما وواجبا في الشرطية. وترك الواجب للعمل بالسنة: ليس من دأب أهل السنة: فلذا اختار الشرطية على الحملية..
2 (ولو كانت مهملة خطابية) اى لان المهملة في الظنيات والخطابيات في حكم الكلية والكلية نقيضها جزئية.
3 (اللازم المحصل) حاصله: ان نقيض الشئ رفعُه فنقيض الموجبة الكلية رفعها وهو سالب الكل. وهذا ولو كان نقيضا حقيقا لكنه غير محصل فأقيم لازمه مقامه اعني السالبة الجزئية..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 237
اعتذار

لئن ادركت في شرحي فتوراً ووهناً في بيـاني للمعـاني
فلا تسند لنقصى ان رقصى على مقدار تسعيد الزمان

لأني زمانا ما حشرت مارشح من فكرى شرحا على حاشية الاستاذ. كنت فاقداً للراحة والشباب مفلوج الذهن غائباً عن الامثال والاقران. شريداً عن الوطن وقد صرت كالهائم. بل كالبهائم. بل كالبوم. دائراً عائشاً في الاقفار. هاربا عن شرور الاشرار. تخطرت حينما تصورت ماقاله ابن الفارض:
وأبعدني عن اربعى بعد اربع شبابي وعقلي وارتياحي وصحتي
فلى بعد اوطاني سكون الى الفلا وبالوحش انسى اذ من الانس وحشتي

نعم، من كان راكباً على كاهل الغربة. وكان أنيسا بالوحشة. وجليسه الوحدة. وسميره الكربة. وموطنه الخربة. هل في الامكان ان تخلو كتبته عن الخطأ والسقطة. لاسيما اذا كان المشرحة كامثال "قزل ايجاز" بالغة من الاغلاق والايجاز. الى حيث دون حلها خرط القتاد، وخرق الاعجاز. فالمرجو من النظار. ذوي دقة الافكار. وحدة الابصار. ان يصلحوا خطيئاتي. ويصححوا غلطاتي. ويبينوا ما عجز عن حله فكرى. وضاق عنه صدرى. وكلّ عن بيان متنه متني. وعمي عن رؤىته طرفى وعيني... على اني ما كنت من رجال هذا الرهان. ولابذى شان في هذا البيان. أوان شبابي وانا ابن ثلاثين. فكيف بي هذا الامتحان وانا ابن ثمانين. ولهذا قد بقى مواضع باكرة غير مفضوضة بفكرى احلتها لذوى الافكار الثاقبة من دهاة اذكياء الاستقبال بعد خمسمائة سنة.
عبدالمجيد


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 238
ومما يدل على درجة دقة الاستاذ سمكا وعمقا في اوائل شبابته:
ان سئل - وهو ابن عشرين - عن ثنتي عشرة كلمة على هذا الشكل "فيل" بلا نقطة ولا حركة. وقيل له "والقائل الشيخ امين البتليسي" ان اصبت في تنقيطها وتحريكها وتفسيرها نحن نعدك من الاذكياء والا.. فلا يبقى لك بين الاذكياء "لارفع، ولا نصب، ولاجر". وكان الاستاذ حينئذ حافظا لما في القاموس من اللغات الى باب السين.. فبالاستمداد بما حفظ اجاب بعد ثلاثة ايام: ولقد اصاب فيما اجاب - هكذا: كتب اولا الاشكال [فبل. فبل. فبل. فبل. فبل. فبل.فبل. فبل. فبل. فبل. فبل. فبل. ثم وضع على الحرف الاول من كلها نقطتين وتحت الحرف الاوسط ايضا نقطتين من كل تلك الاشكال الا الخامس وضع تحته نقطة واحدة ثم حركها هكذا: قِيلَ[1] قَـيّلْ[2] قَيْلَ[3] قَيْلٍ[4] قَبْلَ[5] قَيْلٍ[6]قِيْلَ[7] قَيْلٍٍ[8] قِيلَ[9] قَيْلُ[10] قَيْلٍ[11] قُيِّل[12]
ثم فسَرها هكذا: [1] [قِيلَ] ماضي مجهول من القول. [2] [قَيّلْ] امر من باب التفعيل بمعنى الاعطاء. [3] [قَيْلَ] اسم بعير. [4] [قَيْلٍ] اسم رجل والتركيب اضافي. [5] [قَبْلَ] ظرف. [6] [قَيْلٍ] اى العصر. والتركيب اضافي. [7] [قِيْلَ] اى اللبن. [8] [قَيْلٍ] اسم من اسماء الابل. [9] [قِيْلَ] ماض مجهول. [10] [قَيْلُ] البعير. [11] [قَيْلٍ] اى ذلك الرجل. [12] [قُيّلْ] اعطى له اللبن.

عبدالقادر حمود 04-02-2011 02:59 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 239
تـعـليـقـات
على برهان الكلنبوى
في المنطق
صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 241
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه؛ وبعد
فهذه الرسالة هي المخطوطة الوحيدة، وكانت تُظن انها مفقودة، لذا فما ان اعلن عن العثور عليها حتى بادر العالم الفاضل زين العابدين الآمدي الى تبييضها بوضوح على النمط القديم. أما الأخ الكريم عبدالقادر بادللى فله قصب السبق في تبييض الرسالة وتنسيقها وتنظيمها ووضع ارقام لهوامشها، فقد بذل جهوداً مضنية وصرف من وقته اياما بل شهوراً وسنين عدة في فرز الجمل المتداخلة والهوامش المتراكبة، وترجم بعض فقراتها الى التركية. فهيأ نسخة منسقة محققة، واهدى لي نسختها المصورة.. فجزاهما الله عنّا خير الجزاء واجزل ثوابهما؛ لذا اقتصر عملي في الرسالة على الآتى:
1 - عرض النسخ بعضها على بعض وهي:
أ- النسخة الخطية الاصلية بخط الملا حبيب.
ب- نسخة خطية مبيّضة للعالم زين العابدين الآمدي.
جـ - نسخة خطية مبيضة منسقة للاستاذ عبدالقادر بادللى.
د- نسخة خطية تبدأ من ص 44 - 59 أهداها لي الاخ الكبير سعيد اوزدمير.
2- تنسيق الرسالة مجدداً بوضع متنها في أعلى الصفحة تتخلله متون "الكلنبوي" بحروف سوداء بارزة ووضع الهوامش المذيّلة في النسخة الاصلية بـ "تقرير" في اسفل الصفحة بحروف كبيرة نسبياً .
3- وضع الهوامش الجزئية الموجودة بين الاسطر، أو غير المذّيلة بـ "تقرير" في النسخة الاصلية ،تحت المتن مباشرة، اذ ربما وضعت في اثناء التدريس.
4- اكتفيت بمقابلة الاخ بادللي لمتن الـ "كلنبوي" فكل هامش يشير الى صفحاته منقول مباشرة من نسخة الاخ الفاضل كما ان كل هامش مذيل بـ "ع. ب" فهو منه ايضاً.
وحيث ان باعي قصير في علم المنطق، لم اقم بعمل علمي دقيق يُذكر خلا ما ذكرت، بل تركت ذلك لمن منّ المولى القدير عليه بالاطلاع الواسع على هذا العلم، فيكمل ما قصرت عنه من تنسيق وتهميش او وضع فهرس تحليلى لها ولسابقتها "قزل ايجاز" لينتفع الكثيرون من هاتين الرسالتين. والحمد لله اولاً وآخراً.
احسان قاسم الصالحي



صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 242
في الصفحة الاولى من المخطوط ما ترجمته:
“الى حضرة الاخ الكبير! اقدم لحضرتكم تقريراتكم في اثناء تدريسكم للـ “برهان” والمسماة بـ “تعليقات” بخط المرحوم الشهيد الملا حبيب راجياً دعواتكم مقبّلاً اياديكم الكريمة” ... وفي صفحة تالية:
“ايها الناظر الى هذه الاوراق التي تتقطر عبراً.. هذه صفحات مسوّدات رسالة في المنطق ألّفها الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي في مدينة “وان”، في اثناء تدريسه لطلابه، ولا سيما لاخيه وطالبه الملا حبيب ولَمّا اتمّها حيث اندلعت الحرب العالمية الاولى..وفي خضم سيل الزمان الجارف فارق الاخوان احدهما الآخر. وكانت نهاية المطاف ان صار الاخ الصغير المسمى عبدالمجيد مفتياً فى “أوركوب” سنة 1940 فاستقر فيها.. وكان يحتفظ بهذه المسودات ذكرى تلك الايام التي خلت. ولكن هيهات.. هيهات.. مضى ذاك وذهب.. ومضى الآخر وذهب. ومرّ الزمان ومضى! فيا ترى هل سيظهر من يتصفح هذه المسودات ويقرأوها؟ وهل سيأتى ذلك الزمان؟ هيهات.. هيهات.
سأجول مع همومي واحزانى حتى المحشر
فهذه اقدارنا نتحملها.. ايها الحبيب!
عبد المجيد”
وفي نهاية المخطوط ما ترجمته:
“ان هذه الرسالة الموسومة بـ “تعليقات” هي ما كتبه بديع الزمان سعيد الكردي من حواشٍ على كتاب “برهان كلنبوى” ودوّنها احب طلابه اليه والملازم له في الدرس الملا حبيب فسجل هذه التقريرات من بديع الزمان على صورة حواشٍ وهوامش.. كان ذلك في سنة 1329هـ ثم اندلعت الحرب العالمية الاولى وذهب بديع الزمان والملا حبيب كواعظين مع فرقة “وان” الى جبهة القتال في” ارضروم”، وعادا معاً بعد عام وقد احتلت “وان” من قبل الأرمن، فانسحبنا الى قضاء “كواش” واستشهد الملا حبيب هناك، فحملت الرسالة التي خطها طوال سني الهجرات من مدينة الى اخرى ومن قصبة الى اخرى حتى حللنا في مدينة “ملاطية” سنة 1940 ومن هناك مفتياً في قضاء “اوركوب”.
كانت الرسالة اوراقاً متفرقة فجمّعتها وجلّدتها، على امل ان يأتي زمان ويُبعث العلم والدين من جديد، ويظهر في الميدان اناس يقرأون امثال هذه الرسائل. وعندئذٍ يقدّر قدرها ويُعلم ما فيها من فكر عميق وذكاء نافذ.ولكن هيهات.. فلا ذاك الزمان يأتي، ولا اولئك القراء يظهرون. والسلام ..
عبد المجيد 1951”


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 243
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله.. والصلاة على رسول الله
اعلم! ان المنطق آلة قانونية، تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر. لابد لمن يبتدئ بشئ من العلوم:
من معرفة الرؤوس الثمانية استحساناً: وهي الفهرستة 1، وبيان المسائل اجمالاً، واسم الفن، وموضوعه، وغايته، وتعريفه، وشرفه باعتبارٍ مّا؛ إما باعتبار الموضوع او الغاية، او الدليل والرتبة. هل هو من موجود النقش، او اللفظ، او الذهني، او الخارجي؟ ليكون تحصيل المحصّل على مافرضه الشرف والرتبة.
ومن ثلاث عرفاً: وهي الموضوع، والغاية، والتعريف.
ومن اثنين عقلاً: وهما التصوّر بوجهٍ مّا. والتصديق بفائدةٍ مّا.
فاللازم ان نبتدئ 2 اولاً بالتعريف، وهو نوعان: إما بحسب الموضوع 3 او الغاية. 4
والتعريف بحسب الغاية أولى؛ اذ العلم بالغاية يزيد شوق المحصّل. فهذا، أي المنطق علم آليّ. وتعريفه بحسب الغاية موقوف على معرفة وجه آليّته. ومعرفة وجه الآليّة موقوفة على جهة احتياج ما يحتاج اليه. وهو كل العلوم 5 وجهة الاحتياج
____________________
1 كما صار عادة على ظهر الكتب المطبوعة وبعض المكتوبة، فيقال مثلاً: باب، او فصل، او بيان النسب، او الحدّ، او القياس. وقد يقال مثلاً: بيان الحدّ يفيد المحدود. او القياس ينتج، فهو بيان المسائل اجمالاً.(تقرير)
2 لأن لكل فعل اختياري لابد من مباد أربعة: التصور بوجه ما، لان طلب المجهول المطلق محال. فالتصديق بفائدة ما، لانها الباعث للارادة الناشية من الميل، الناشئ من الشهوات، المتوقف عليها. فالارادة، وهو القصد للتخصيص، فالشروع للاخراج...(تقرير)
3 وهو كالحدّ.
4 وهو كالرسم.
5 حتى نفسه.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 244
عصمة الذهن عن الخطأ في الفكر. وتصوير سلسلة الاحتياج هكذا: الفكر ليس بصحيح بالدوام للاختلاف الكثير، ولايكفي للتمييز عقلُ كلّ، بل مراعاة الكلّ، أي العقل العمومي الذي هو المنطق 1، المفسر بعضه بعضاً؛ اذ طريق الاكتساب العمومي الفكر. اذ البعض بديهي والبعض نظري، يكتسب التصور من التصور، والتصديق من التصديق؛ اذ شرط الولادة المجانسة 2. فان العلم إما تصور وإما تصديق. فاصعد من هنا في هذه السلسلة السلميّة.
ثم تعريف
[العلم هو الصورة الحاصلة من الشئ عند العقل 3] 4 وهي إما تصور 5 او تصديق. فلا يرد بلزوم اعتبار وحدة المقسم.
ان التصديق مركب من الموضوع والمحمول والنسبة والحكم. 6 لان الحكم ربّطها 7 وكل منهما إما بديهي، او نظري مكتسب بالنظر. لان التقسيم لايخلو من
____________________
1 لان المنطق من حيث هو آلة للعلوم حرفي، كالمعقول الثاني للاول. ومن حيث هو علم جوهريّ اسمي، يحتاج لآلةٍ. فآلته بعضه البديهي للبعض النظري. (تقرير)
2 والتصور والتصديق مغايران في المتعلق والمتعقل كليهما، اذ الاول كالعقد، والثاني كالكشف.
3 غير من حصول الصورة الحاصلة، لان العلم من مفعول الكيف، والحصول من مقول الانفعال، ويأتي قريباً: ان الذي حصل في الذهن فهو باعتبار تكيف الذهن واتصافه به يسمى علماً. وباعتبار ظرفية الذهن له يسمى معلوماً، فالعلم كيفيته. واما التعبير بالهيول فمجاز.(تقرير)
4 كلنبوي ص/3 س/ 22
5 وهو الاصح. اذ التصور متوقف على إما الوجود وهو الخارجيات الوجود. او الثبوت وهو الاعتباريات، وتسمى الاحوال. والمحال لاماهية له، لاذاك ولاذاك. فلايتصوره الذهن ذاته الاّ بنوع تمثيل بمماثلة في بعض وقت الاثبات، اي الحكم. واما تحليل الاجتماع فتذكر مامرّ في المجهول المطلق. بأن العنوان من الطرفين كآلة الملاحظة والمعقول الثاني. فيأخذه ويفرض وراءه أفراداً غير مرئية في الخارج، فيحكم عليه في الذهن. فثبت لافراده فيه بالامتناع. والاتصاف به في الخارج، فالاثبات له في الذهن. والثبوت في الذهن لمصداقه في الخارج، والاتصاف به في الخارج.(تقرير)
6 قلت:
7 ووحّدها.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 245
ان يكون الكل من كلٍ بديهياً 1 او الكل نظرياً، او مبعّضاً، لان 2 نظريّ كلٍ لايكتسب من بديهي الآخر. فالاولان 3 باطلان. لانه لو كان الكل بديهياً 4 لما جهلنا شيئاً 5. ولو كان الكل نظرياً، لدار او تسلسل. فاللازم فيهما باطل، والملزوم كذا.. فبقى 6 بعض التصور بديهياً، وبعضه نظرياً. والتصديق كذا.. فالمبعضية ثابتةٌ؛ لان الشئ يثبت ببطلان نقيضه. فببطلان كل التصور بديهي، يثبت نقيضه. وهو ليس كل التصور بديهياً ولازمه، وهو ليس بعض التصور بديهياً ولازمه، وهو بعض التصور ليس بديهياً ولازمه؛ اذا كان 7 الموضوع موجوداً. وهو بعض التصور لابديهي ونظيره. وهو بعض التصور نظري. وقس البواقي.
[وقد يقع الخطأ في الاكتساب، والعقل غير كاف. فلابد من قانون وهو المنطق] 8فعرّف المصنف رحمه الله بحسب الغاية والموضوع.
إن قلت: قد أخطأ المنطقيون ما اخطأوا، فكيف يكون عاصماً؟
قلت: اقاموا الصنعة المسهّلة مقام الطبيعة، الصناعة. والصنعة ولو كان على اكمل مايمكن، لاتساوي الطبيعة.
ثم مراتب العلم هيولاني، وبالملكة وبالفعل ومستفاد وحدسي وقدسي.
ثم النظر، كَشَفَ ترتب العلل المتسلسلة في الخلقة، فيحلّل ويركب ، فيكون قابل العلم والصنعة.
وقيل باعتبار الشرط: تجريد الذهن عن الغفلات.. وقيل باعتبار التحليل: تحديق العقل نحو المعقولات، كتحديق البصر نحو المبصرات.. وقيل باعتبار التركيب:
____________________
1 هذا قياس اقتراني مقسم.
2 دليل الصغرى.
3 كبرى.
4 هذا قياس استثنائي دليل الكبرى.
5 اي جهلاً محوجاً الى النظر، لامطلقاً. لانا جاهلين ببعض البديهيات.
6 نتيجته.
7 يعني: ان السالبة مستلزم للمعدولة المحمول، اذا كان الموضوع موجوداًفي احدهما، وإلاّ فالسالبة أعم.
8 مأخوذ من كلنبوي/ ص4 واصل العبارة :”فاحتيج الى قانون... من حيث ايصال عاصم عن الخطأ وهو المنطق”
باعتبار خلق الله فيه ميل المحاكاة والتقليد.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 246
ملاحظة 1 المعقول لتحصيل المجهول.. وقيل باعتبار الصورة: ترتيب امور معلومة للتأدي الى المجهول.
ثم طريق حصول المطلوب؛ إما بالالهام 2، كعلم الانبياء والاولياء. او التعليم للاوائل عند الملاحدة. او التصفية عند الاشراقيين. او النظر عند الحكماء. فالثلاث الاُول لايمكن لكل احد، فبقي النظر 3 وحصول المطلوب به توليدي عند المعتزلة، وعقلي عند الرازي، واعدادي عند الحكماء، وعادي عند جمهور اهل السنة. فللفكر حركتان: تحليلي وتركيبي. فلكل مبدأ ووسط ومنتهى. فمبدأ التحليلية المادية، 4 المطلوب بوجه مّا. ووسطها المبادى الغير المرتّبة. ومنتهاها الاجناس العالية والفصول 5 البسيطة والاوليات 6.
ومبدأ الحركة التركيبية الصورية 7 منتهى الاول. ووسطها المبادى المرتبة. ومنتهاها المطلوب على وجه الكمال 8.
ثم العلم واحد اعتباري، لابد له من ضابط، ليتحد كالخيط او كالسّور. والحال ان الضبط بالتعريف، وشرطه المساواة. ومرجعها القضيّتان الكليتان 9.. وهما كل ما صدق عليه تعريف المنطق صدق عليه المنطق. وكل ما صدق عليه المنطق صدق عليه تعريفه. فبالاول “المانعية” وبالثاني “الجامعية”. لئلا يطلب ما لايعني على عدم المانعية ولايترك ما يعني على عدم الجامعية.
____________________
1 مع التفطن وتذكر هدف.
2 يعم الوحي.
3 اعلم! ان النظر نور خلقه الله في البشر، يكشف به ترتب العلل المتسلسلة في الخلقة.. فالترتيب اشارة الفاعلية والصورية.. ونور لا المادية، وللتأدي الى الغائية . والسر والحكمة في حسن التعريف المشتمل على الاربعة العلل جميعها فيه. لكن يحمل صفات مأخوذة من العلل على المحدود. اذ لايجوز ذلك، فلايقال: الكرسي جلوس السلطان، بل مجلسه. مع ان الحدود والمحدود او المكنى به اليه مطلقاً ما يجب الهمل بينهما متحدان. (تقرير)
4 العلمي.
5 للتعريف.
6 للدليل.
7 الصنعية.
8 اي المطلوب.
9 والاشهر، بدل الاول عكس نقيض الثاني لإخراج الاغيار. (تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 247
فان قلت: الغرض من الحد تحصيل الاوسط، لادراج الجزئي تحت الكلي. والحال ان العلم كلّ، لا كليّ. له اجزاء، لاجزئياتٌ. مع ان اسم العلم عَلَم 1 الشخص، والشخص لايُعرف الا بالاشارة الحسية؟
قلنا: ان اجزاء العلم لعدم امتزاجها - كاجزاء المأة - صارت كالجزئيات. فلما صار الجزء كالجزئي، صار الكل كالكليّ 2، فثبت بزيادة له دخل على الصغرى، ومن على الكبرى، فيثبت الادراج بقياس اوسطه حده.
ثم الموضوع: المعلومات التصورية والتصديقية، فعرق كل علم موضوعه.. وماسواه تفرعات تنبت عليه. لان النصب بالفتحة مثلاً، وصف المعرب. وهو وصف الاسم. وهو وصف الكلمة. فوصف وصف الشئ وصفه. الصفة، ان كانت مجهولة كانت جزءاً. وبعد الجزئية كانت صفة واذا استمرت صارت عنواناً. 3 ومقدمة الشروع 4 التصديق 5 بموضوعية الموضوع، لاتعريف عنوان الموضوع فانه من صناعة 6 البرهان 7 ولاتعريف ما صدقه، فانه من المبادى التصورية 8. ولا التصديق بوجوده، فانه من المبادى التصديقية، وهي الادلة. ومايتوقف عليه الاثبات،9 يعني الثبوت في نفسه 10، وتعريف بعض لعنوان الموضوع.. وهو مايبحث فيه عن عوارضه الذاتية. فلتحصيل الحد الاوسط 11 لهذا التصديق، 12
____________________
1 لان الاعلام غالباً منقولة، فبقاعدة: ان المعاني اللغوية اساس وحبّ للاصطلاحيات، وتوَضّعُ الاصطلاحيات عليها، ويكمّلها باعتبار الشرائط ايّاها، يعلم بالتفكّر فيها ان المقصد الاسنى من المسمى بهذا، أيّ..(تقرير)
2 اي يصحّ حمل ما كالجزئي على ما كالكليّ. (تقرير)
3 فلذا يتشعب الموضوع، وبكثرة اوصافه تكثر المسائل. (تقرير)
4 والكتاب دكان البزاز فيه هذه الاشياء.
5 هذا هو في كل موضع.
6 هي تطبيق العلوم الآلي.
7 وهي تطبيق المنطق في طرق اكتساب العلوم.
8 اي تعريفات المصطلحات وموضوعات المسائل، والتمثيلات والتشبيهات وغيرها..
9 اي اثبات الاوصاف للموضوع.
10 وهو وجود الموضوع.
11 مايتوقف بهذا حاصل الخ.
12 اي بموضوعية.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 248
والغاية فتلزم ان تكون معتدة 1 ومعتبرة، 2 ومقصودة 3 ومهمةً 4، ومخصوصة 5.
ثم لما كان الافادة والاستفادة باللفظ، احتجنا الى البحث عن اللفظ الدّال. ثم بين الموجود الذهني واللفظي روابط اربع، هي مناط كل الاوصاف: الوضع 6، الدلالة 7، الاستعمال 8، الفهم 9، مسائل كل علم قضاياحملية موجبة كلية ضرورية نظرية. وماعداها مؤول بها. لان الموضوع مايبحث في العلم عن عوارضه الذاتية؛ إما بذاتها او مع المقابل المحصل المبحوث في ذلك العلم 10. يعني يحمل العوارض الذاتية له، او لانواعه، او لاصناف انواعه كلياً. لان الذاتية شاملة بالايجاب، لانها له، عليه او على انواعه او عوارضه بالضرورية. لانها ذاتية بالدليل للبحث سلسلة المنطق. النتيجة تتوقف على الدليل. والدليل باعتبار الافادة؛ إما يقيني، وهو القياس 11، واما ظني، وهو التمثيل 12 والاستقراء 13. والقياس باعتبار المادة: الصناعات الخمس؛ اعني: البرهان، والجدل، والخطابة، والشعر، والمغالطة.. وباعتبار الصورة: وهي الاشكال الاربع. فان كان من الحمليات فاقتراني.. ومن الشرطيات فاقترانيات. وباعتبار الاجزاء: صغرى وكبرى. والاجزاء قضيةٌ، ولها احكام: هي العكس والتناقض.. وباعتبار الحكم: شرطية وحملية 14. وباعتبار الكيف: موجبة وسالبة.. وباعتبار الكم: مسوّر وغير مسوّر. وتتوقف على

____________________
1 لئلا يكون سعيه عبثاً..
2 لئلا يكون عبثاً عنده وعند غيره.
3 لئلا يقع في ذهنه فتور..
4 ليزيد شوقه.
5 اي تلك الفائدة مخصوصة به، ولو بالنسبة لئلا يتردد بينها، فيلزم الترجيح بلا مرجح.
6 فمنها العموم والخصوص يرد الاشتراك والتأويل..
7 الظاهر والنص والمفسر والمحكم والخفي والمشكل والمجمل والمتشابه.
8 الحقيقة والمجاز والصريح والكناية.
9 العبارة والاشارة ومفهوم اقتضاء الصدق او الصحة.
10 الا انه لما انقسم الموضوع تشعب المحمول لتوزيع الاقسام على الاقسام.
11 هو استدلال الكلي على الجزئي.
12 استدلال الجزئي على الجزئي. اما استدلال الكلي على الكلي فهو داخل في الاول. تأمل!
13 استدلال الجزئي على الكلي.
14 اما الثبوت له “حملية”، او عنه “منفصلة”، او عنده “متصّلة”..


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 249
تصور المحمول والموضوع، وهما من المفردات. وتصورها بتعريفها، وتعريفها هو القول الشارح يتركب من الكليات الخمس. والكليات اقسام الكلي (وهو) قسم المفهوم 1 والمفهوم هو المعلوم 2، هو موضوع المنطق. ثم الدلالة: الدلالة: 3طبيعية وعقلية ووضعية. والوضعية: مطابقية وتضمنية 4 والتزامية. وكل من التضمن والالتزام يتصور بوجوه ثلاثة، بارادة 5 مستقلة او مشتركة 6 او بالتبع. والثالث هو المراد في المنطق، والثلاثة في البيان. والمطابقة 7 لاتستلزمهما كما في البسائط 8، وما لايعلم له لازم 9 بيّن بالمعنى الاخص. وعند الامام الرّازي الالتزام لازم للمطابقة. لان الماهية الخارجية لها تشخص 10 وهذيّة. وهي الذهن 11 لها تعين وهوية. وهما هو هو 12 ليس غير. وسلب الغير لازم لتلك الماهية البتة. ورُدّ بان الحصول لايستلزم الحضور.. واللزوم البيّن وهو بالمعنى الاخص اللازم للالتزام حضوري. وهما يستلزمانها، لانهما تابعان. والتابع من حيث 13 لايوجد بدون

____________________
1 المفهوم والمعلوم والمدلول والمعنى والمسمى والمقصود واحد.
2 بين هذين عموم من وجه
3 اعلم! ان الثلاثة عقلية. اذ الاشياء تدرك بالعقل على الاصح. لكن لما كان دخل الوضع فيه، نسب اليه. ولما كان دخل الطبع فيه ايضاً نسب اليه. ثم الاقوال في هذا الاخير ثلاثة. اما المعتبر فيه طبع اللفظ، او المخاطب، او المتكلم. اي ان المتكلم يراجع نفسه حين سماعه..اح.. مثلاً، باني انما قلت ذلك حين وجع صدري. ويقيس المخاطب على نفسه. تأمل!.(تقرير)
4 وان كان المقسم فيها الوضع. لكن الاخيرين عقليان، يتصورهما العقل. فلا دخل للوضع فيهما، الا في الاول وباعتبار القسم الاعظم وفيه دخل الوضع، اعتبر الوضع في المقسم. (تقرير)
5 وهو المطابقة المجازية.
6 وهو الجمع بين الحقيقة والمجاز، لكنه جائز على مذهب.
7 اي اعم منها مطلقاً.
8 للافتراق عن التضمن.
9 للافتراق من الالتزام.
10 كيفيّته يحصل من احاطة المقولات به.
11 لان كثيراً من الاشياء حاصل في الذهن لكن ليس حاضراً عند تصور وذكر بعض لغفلة الانسان عنها وهو منها. تأمل!(تقرير)
12 اي وجوده عين ذاته.
13 انه تابع.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:00 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 250
المتبوع 1 . واعترض 2 بان الكبرى ممنوع بالتابع الأعم 3، وإن قُيّد بالحيثية. فالمتبوع مثلها ايضاً؟
اجيب: بان الحيثية للاطلاق تتضمن علّية الاحتياج باعتبار الذات لا الصفة الاضافية فقط. ثم الدال مفرد، إن لم يقصد بجزئه دلالة على جزء معناه المقصود، والاّ فمركب. ولأن المفرد عدمي يوجد بعدم جزء من الاجزاء. فعدم الأخص 4 وهو القصد يعمّ 5.
والمركب وجودي يتوقف على وجود جميع الاجزاء. فلهذا كان للمركب فرد، وللمفرد افراد 6 ومن هنا 7 يقال: “التخريب اسهل من التعمير” 8
____________________
1 يعني أن متبوع التابع المقيّد بالحيثية، بأن يقال: “المتبوع من حيث هو متبوع ذلك التابع لايوجد بدونه” والحال: أن المطابقة أعمّ مطلقاً منهما؟
أجيب... الخ.. يعني أن الحيثيات ثلاثة للتقييدة كما في الموضوعات في التعاريف. والتعليل: كزيد من حيث انه عالم مكرّم. وللاطلاق: كالانسان من حيث انه انسان، حيوان ناطق. فالذي للتعليل باعتبار الصفة، اي اثبات صفة يكون علة للحكم. والذي للاطلاق كما هنا. يعني أن التابع من حيث انه تابع اي ذاته محتاج للمتبوع وموصوف بالتابعية.. وأما حيثية المتبوع باعتبار الصفة الاضافية فقط، يعني أن ذاته لايحتاج الى المتبوع، فيوجد بدونه. بل باعتبار اتصافه بهذا الوصف وهو المتبوعية. تأمل!.. (تقرير)
2 انما كان الاول داخلاً والثاني خارجاً. لان السلب نسبي لايكون داخلاً في الماهيات. تأمل!(تقرير).
3 كالضياء مثلاً.
4 فلزم ان يكون له تعاريف، وهو غير حسن. بل لابد من تعريف واحد، وهو لايحصل الاّ بعدم الأخص.
5 اي يعم نقيض سائر القيود لأن نقيض الاخصّ أعم من نقيض الأعم والاخصّ كالاخوين يقتسمان الاشياء بينهما فما نقص من حصّة واحد زاد بقدره من حصّة الآخر وما ضاق من واحد اتّسع الآخر مثلا الانسان أخصّ من الحيوان.(تقرير).
6 ستة واقعاً.. وواحداً وثلاثين عقلاً.
7 هذه النكتة.
8 يعني ان فطرة كل انسان وخلقته مائلة الى الرياء واراءة نفسه الخلق، وحريص عليه يطلبه من ما امكن. ولشدة حرص بعض اياه. وان التخريب اسهل لكثرة طرقه، اذ يوجد بعدم كل جزء يرى نفسه بذلك، وان لم يكن وصفاً حسناً. والبعض صاحب الثروة يُرى بالتعمير. فاسمع واعمل به فانه درس الاخلاق.(تقرير).


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 251
ثم ان المفرد اسم، وكلمة، واداة. اذ منبع الوجود 1 ذات وحركة 2 ونسبة. فالذي يحكى عن الذات اسم، والذي يخبر عن الحركة فعل، والذي ينبئ عن النسبة حرف. وقد تتولد الحركة من الذات والنسبة. كما منهما الذات. ومايقع في الجواب 3 منها مستقل وما لا غيره.
ثم ان حقائق الثلاثة متخالفة بالذات، متشابهة في التعبير. فالاستعانة تحت “الباء” وفي “استعين”. ومن الاستعانة كالهواء والماء والجمد. او كالماء والتراب والحجر. وان من المعاني الحرفية ما لا وطن لها، بل كالسيّاح السرسري الطفيلي 4 يتداخل في طيارات اخويه، وقد يتشربانه 5. فان عصرتهما تقطر 6 بل تقطرت، اي معان.
فان قيل: ان الحرف جسم لطيف هوائي، لايقدر أن يأخذ معناه 7. اذا ادلى دَلوَهُ 8 رجع يابساً 9 فيكون عاجزاً عن الادلاء والدلالة؟
اجيب 10: بان العجز من عدم قابلية المحل، لايدل على نقصان قدرة الفاعل.
ثم المركب إما ناقص 11 او تام، يصح سكوت المتكلم عليه 12 بالنسبة لاصل المراد 13 والتام إما خبر او انشاء، وهما كالعلم الفعلي والانفعالي. ففي الاول
____________________
1 وفي لسان الحكمة؛ صلب ومايع وهوائي.
2 اي صفة.
3 اي الاستفهام.
4 هو الذي يتبع المدعوين بدون دعاء الداعي. كأننا ندعو الفاظاً مخصوصين بمعانيها. وتلك المعاني الحرفية تتبعها بغير دعائنا. (تقرير)
5 اي الفعل والاسم تلك المعاني.
6 اي معنى كان تضمن قصيدة واحدة تحسّراً اوتمدّحاً مثلاً. (تقرير)
7 مع انه من الدوال اللفظي الوضعي.
8 في قليب القلب.
9 اي بدون معنىً.
10 اي لايلزم عجز الحرف من عدم اخذه معناه. اذ المعنى ليس قابلاً لصفة الحرف وحده اياها. اذ كونه هوائياً اكثر واشد من الحرف تأمل!.. وأجيب بهذا عما يقال في حق الواجب: من انه لايقدر على جمع النقيضين مثلاً، تأمل !..(تقرير)
11 وهو نسبي او توصيفي. والاول اضافي ومزجي وهو تضمني وصولي.. الخ.
12 بحيث لاينتسب الى القصور.
13 لا باعتبار مطلوب السامعين.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 252
الذهن مبدئ معدّي 1، اي علة للخارج. اي يتوقف وجود الخارج على عدمه، وهو المعلول، كما يتوقف على وجوده. وفي الثاني بالعكس، اعني 2 الخارج مبدأ، 3 مقارني 4 فالانشاء كالاول 5، فلا يتقابلان حتى يقع الارتباط بينهما بالصدق والكذب. ومايتصور بعد الخارج 6 شبيه 7 والخبر كالثاني فيحتمل الصدق، اي يدل عليه، لانه تصديق. ويحتمل الكذب عقلاً، بناء على جواز تخلّف المدلول عن الدال الوضعي 8 والمراد ان محصل القضية 9 يحتمل الصدق لفظاً، والكذب عقلاً.
ثم الكل: اما حقيقة او مجاز 10 ومن فوائده: التعظيم، والتحقير، والترغيب،
____________________
1 العلة المعدي هو ان يكون المعلول متوقفاً على وجود العلة وعدمه، كحركات الانسان مثلاً. والعلة المقارني هو ان يكون المعلول متوقفاً على وجودها فقط كالشمس مثلاً.(تقرير)
2 اي علة.
3 اي علة.
4 للذهني.
5 لانفسه.
6 اي الوجود.
7 لما عدم، ومخترع ماوجد.
8 اما الطبيعي والعقلي فلايجوز التخلف منهما.
9 اي روحه وهو: ج ب مثلاً. او الموضوع محمول. اي مع قطع النظر عن لبسه البديهي وصورته التشخصية والدلائل الخارجية.
10 اعلم! ان المعنى الحقيقي في المجاز والكناية واقسامهما لايذهب بالكلية اصلاً. بل اما متوضع عليها، او جل او جلد. وهو اما محال، او ممكن موجود.. او لا. اما في الكناية فهو مطلوب وجلد، فلابد من الامكان. اذ المحال لايكون مطلوباً، لكنه تابع للمكنى به، اي كحجاب شفاف يتصورها، فينقل الى المكنى اليه فلايلزم وجوده. اذ الممكن يتصور، وان لم يكن موجوداً مثلاً.
قلت: زيد كثير الرماد وطويل النجاد... فانهما كنايتان عن السخاوة وطول القدّ. والحال انه لارماد ولاسيف له في الواقع. لكنهما ممكنان.
واما في المجاز فلابد ان يتصوّر.. ليتصور سلسلة الخارجي، ويمرّ فيه الى ايصال المعنى المتجاوز اليه، كامطرت السماء نباتاً مثلاً، وقس عليه. فيجوز ان يكون محالاً، اذ يتصور. لانه غير مطلوب من حيث هو معنى . بل لفائدة البلاغة فقط، فهو صورة. وفي الاستعارة ليس. فهو متخيل لفائدتها ايضاً.
واعلم! ايضاً ان المعنى الغير الحقيقي للّفظ لابد ان يكون مطمحاً للنظر، ومقصوداً من الكلام باعتبار قصد المقام. مثلاً كالسخاوة لكثرة الرماد، والشجاعة للاسد، والعين للرقيب، والاذن للجاسوس وقس. فتنتقل من المعنى الحقيقي للّفظ اليه. سواء كان تابعاً له حقيقة كمن كثرة الرماد (بان قلت : “زيد كثير الرماد” انتقلت منه الى السخاوة).. او اعتباراً كمن السخاوة. (اي بأن كان المقصود من المقام الثابت كثرة الرماد لزيد مثلا.. واعلام المخاطب ايّاه بالكناية فتقول: “زيد سخى”) باعتبار المقام. فتكون كناية او كان متبوعاً حقيقة؛ كمن الاسد مثلاً. او اعتباراً كمن العين والاذن مثلا. فيكون مجازاً. لكنه قليل في الاستعارة اي الانتقال من المتبوع الاعتباري الى التابع الاعتباري، قليل. والغالب من الحقيقي.
اما المشهور فهو: ان في المجاز قرينة مانعة من الحقيقي دون الكناية. وان المجاز استعمال في اللازم دون الكناية بل هو في كاللازم فاحفظها اي غلام (اوه فرقا سيدايه)”جملة كردية من الملا حبيب تعني: هذه هي ميزة الاستاذ”.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 253
والتنفير، والتزيين، والتشويه، والتصوير، والضبط، والاثبات، والاقناع، ومطابقة تمام المرام.
[ومنه: المجاز المرسل. ان كانت العلاقة غير المشابهة مثل الحلول 1 والكون، والاول، والسببية 2، والجوار 3، والمظهرية وغيرها 4]
ومنه [الاستعارة 5 التمثيلية: كاستعمال الامثال 6 المضروبة في اشباه 7 معانيها 8] ومن التمثيلية صور الكلام واساليبه المحتشمة. او كناية، وهي اما في الصفة او الموصوف او النسبة 9. والانتقال 10 من التابع الى المتبوع - حقيقة او اعتباراً - كناية. كذلك، ومن المتبوع - حقيقة او اعتباراً - 11 الى التابع .. كذلك مجاز 12 وكلاهما ابلغ. اذ هما كاثبات المدعى بالدليل...
ثم ان المعنى الحقيقي لكونه مطلوباً في الكناية لابد له من الامكان. ولكونه تبعياً كالحرف لايلزم ان يوجد...
____________________
1 كهم في رحمة الله او في الجنة.
2 كاسنام الابل في السحاب.
3 كالرادية.
4 ومتن الكلنبوي ص/4 س/20 هو : “والمجاز ان كان بغير علاقة المشابهة مثل الحلول والسببية والجوار او العموم...”.
5 لم يتعرض للمجاز العقلي تقليداً بالمتعلق.
6 هذه منابع فادخل المثل. تأمل.
7 ككثير الرماد وعريض القفا.
8 مع فرق طفيف مع متن كلنبوي ص/4 س/22
9 كان السماحة.
10 كرأيت اسداً. فالانتقال من الاسد وهو المتبوع الحقيقي الى الشجاع وهو التابع الحقيقي.(تقرير)
11 كعريض الاظفار.
12 بيان الفرق بين المجاز والكناية باعتبار غير المشهور.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 254
وفي المجاز1 لكونه متصوراً لفائدة 2 البلاغة فقط، غير مطلوب من حيث هو معنى. فلابد فيه من قرينة مانعة للمعنى الحقيقي عقلاً او حساً او عادة.. ومن قرينة معينة للمراد، وقد تتحدان 3. وفي الكناية من قرينة 4 منتقلة ومعينة، وفي المشترك المعينة فقط.
[فصل في الكليّ والجزئي] 5
[اذا علمت شيئا يحصل في ذهنك منه صورة 6 ، وهي من حيث قيامها
____________________
1 اعلم ان المعنى المجازي لابد ان يكون مقصوداً من الكلام ومطمحاً للنظر، اما كان الحقيقة يقال، باعتبار انه مدار الحكم؛ كالاذن للجاسوس والعين للرقيب.
والفرق هو: ان الانتقال من الحقيقة تابعاً او متبوعاً الى مثله - كذلك ظاهر كالانتقال من الاسد الى الشجاع في الاستعارة، ومن الاصابع الى الانامل في المرسل، ومن كثير الرماد الى السخاوة وقس!..
واما الانتقال من التابع او المتبوع اعتباراً الى مقابلتها.. كذلك فباعتبار المقام ، بان كان التابع الحقيقي مقصوداً من الكلام ومداراً للحكم؛ كالشجاع في الاستعارة، والانامل في المرسل، والسخاوة في الكناية. فتقول: “رأيت شجاعاً وانا مٌلهم في اذانهم، وزيد سخي.. وتريد منها الاسد والاصابع وكثرة الرماد لتكون الامثلة على تمامها. والا فيتداخل امثلة الاقسام. ولكن الغالب في الاستعارة والكناية من الحقيقي الى مثله. اما في المجاز فكثير.(تقرير)
2 في المرسل.. ومتخيل في الاستعارة.
3 بل تتحد.
4 وهو يكون منتقلة.
5 المفرد والمركب قسمان. للفظ اولاً وبالذات. وللمعنى ثانياً وبالعرض. والكلي الجزئي بالعكس.(تقرير)
6 اعلم! ان الصورة الحاصلة من الشئ عند العقل باعتبار تكيف الذهن واتصافه بها علم. (يعني كما ان المرآة بنجرة عالم المثال بملكة قطعة زجاج كالقرطاس؛ فيزين ويتكيف نفسه وصورته بأي لون من اي شئ قابلته. وبملكوته الواسع والعميق ترتسم الاشياء الغير المتناهية فيه، فيكون ظرفاً لها.. كذلك الذهن بنجرة عالم الغيب بملكة موجود الخارج. لانه قطعة لحم من البدن، اما في الرأس او الصدر، يزين ويتصف ويتكيف بلونه المأخوذ من الاشياء.. وبملكوته واسع الخ). وباعتبار مظروفيته لها معلوم ومفهوم ومدلول ومعنى ومسمى ومعقول ومقصود لترادفها. وهو موضوع هذا العلم، فلزم البحث عنه، فهو قسمان:جزئي وكلي... وذكر الجزئي في المنطق استطرادي، لانه يبحث عن المضبوطات. والجزئي لكونه غير متناهي ومتغير احوالاً، غير ثابت. فلايفيد الكمال (يعني النقطة والدرجة المقدرة للانسان هو الكمال الحكمي، وهو التشبّه بالواجب. والحكماء يعبّرون عنه بالتّشبه بالمبادى العالي.. الخ. ونحن “باللوح المحفوظ” اي ان الانسان ككاغد بيض قابل للارتسام). الحكمي، المعبر بالتشبه بالمبادى العالي والعقول العشرة (وهم الملئكة العظام) المائلة اليهم كل النفوس التي تكون خريطة للعالم. وانما ذكر لان الاشياء انما تعرف باضدادها. لان الامور النسبية كالحسن والشجاعة مثلا لاتوجد ولاتتصور بدون تصور القبح والجبانة.
(قوله : اتحاده مع كثيرين.. الخ) اي اشتراكه - كما عبّر به الكثيرون..
إن قيل : إن المراد بالاشتراك التجزّيّ يلزم ان لايوجد الكليّ بكله في جزئياته. وإن كان الاشتراك بكله مع كل جزئيٍ ، يلزم ثبوت الشئ الواحد في امكنة متعددة في آن واحد. وإن كان الاتحاد مع كل جزئيٍ ، يلزم اتحاد الجزئيين في الخارج بالواسطة.. ؟
قلنا: المراد اشتراك الجزئيات فيه تخييلا واتحاده معهن. وهما كمطابقة روابط المركز الى نقطات الخطّ المحيط له. او كتساوي نسب موزونات الحقّة. اي كأن فرضاً أن تلبس تفصيل الاشتراك الى نقطة المركز او الحقة لبس نقطة من نقطات المحيط او الموزونات، او انتقل المركز من موضعه وسار في رابطة نقطة يصير عند الوصول نفسه وعينه (تفصيل للاتحاد). وبقاعدة الحقائق لاتتحد (ولاالعبث في الاشياء) فانّ الكليّات متقررة في اذهاننا، وكلاء فيها للجزئيات. كما أنهنّ نوّاب لها في الخارج، وهما متغايران ذاتاً، فلاتتحدان. فاذا قربّنا الجزئيات بالملاحظة منهنّ يفنين، فنظن انهما اتحدا، وليس كذلك. فاشتراك الجزئيات فيه خيالي. واتحاد الكليّ معهنّ وهميّ، والتجزي مردود. والكليّ قسمان، ممتنع أفراده، كشريك الباري. بل كليّ المحالات ونقائض الامور العامة لإجماع النقيضين (على فرض الافراد) بوصول الشيئية للثاني (لا للاوّل وهو شريك الباري) وممكن أفراده، لايقال: ان الواجب داخل فيه، فكيف يقابل الممتنع. مع ان سَلبه الضرورة من جانب فيهما. لان (علة للنفي) للممكن بالامكان العام ثلاث، صور سلبها من جانب الوجود، ومن جانب العدم، ومطلقاً. فالممتنع من الاوّل، والواجب من الثاني. والثالث غير معتبر، وهو قسمان ايضاً. معدوم افراده في الخارج كالعنقاء. بل كلّ شئ مخالف للعادة الجاري (بين الكائنات) ولقانون العالم، (علة العدم). لان شرائط الحياة لاتساعده. وموجود، وهو قسمان: إما الموجود واحد مع امتناع الغير - كواجب الوجود - او إمكانه - كالشمس - لان لكلّ ماهية في الذهن تعيّن وهويّة.. وفي الخارج تشخّص وهذيّة. فاذا فرضنا الافراد للاول في الخارج تعلّق بها تشخّصه، وهو لازم الماهية فيه، فتتعلق به ايضا، فيصير المفروض نفس الموجود. فلم يحصل المراد. واذا فرضنا للثاني تعلق بها تشخصه.. وهو كاللازم فيكون ممكناً. ولكن بموافقة انتظام عادة الله وعدم العبث في خلق الاشياء، لاتوجد لاستغناء نظيره عنه. او متعدد محصور، كالكواكب السيّارة. وليس المثال للكليّ بل مِصداقه . والكليّ يونانيّ ليس في العربية مرادفه. وكل مانسب للعالم العلويّ كذلك. بل بعض مصنوعات النفوس الناطقة لقلة الاسباب المشخصة لها. او متعدد غير محصور عندنا، وغير متناهي عند الحكماء. وذلك لتعدد الاسباب المشخصة لها.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 255
بخصوصية ذهنك علم. ومع قطع النظر عن هذه الحيثية معلوم ومفهوم. فذلك


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 256
المفهوم بمجرد النظر الى ذاته - ان لم يجوّز العقلُ اتحادَه مع كثيرين في الخارج فهو جزئي حقيقي كـ”زيد المرئي”.. وإلا فكلي. سواء امتنع فرده في الخارج 1 كشريك الباري تعالى واللاشئ، ويسمى كلياً فرضياً، او امكن ولم يوجد كالعنقاء او وجد الواحد فقط مع امتناع غيره كواجب الوجود، او مع امكانه كالشمس.. او وجد متعدد محصور كالكواكب السيارة. او غير محصور كالانسان… وذلك الاتحاد هو معنى حمل الكليّ على جزئياته مواطأة وصدقه عليها. إما في الواقع .. إن كانت الجزئيات موجودة فيه او في الفرض.. إن لم توجد إلا في مجرد الفرض] 2
ومعنى الحمل هذان المفهومان المتغايران في الذهن، متحدان في الخارج.
والكليّ 3 المحمول 4 بحمل المواطأة يعطي موضوعه اي افراده، حدّه واسمه.
____________________
1 (قوله: في الخارج.....) احتراز عن زيد اذا تصوّره جماعة. لان المراد اشتراك الذهنيّ الظلّيّ في الخارجيّ الاصليّ، لا العكس، وهو اشتراك الخارجي في الذهنيّ، او الذهني في الذهنيّ، تأمّل!...
والفرق بين الجزئيّ الحقيقي والكلي الفرضي: ان الثاني فرض ممتنع بالاضافة، اي الفرض ممكن والمفروض ممتنع. كباب مفتوح في موضع غير ممكن الوصول اليه والاول بالتوصيف، اي الفرض ممتنع كالافراد من حيث له. كباب مغلق في موضع ممكن الوصول اليه لا الدخول. وانما ذلك، لان على تقدير الامكان يجتمع الضدّان لان الفرض مستلزم وجود المفروض في الذهن. ويستلزم عدم التشخّص في الخارج للجزئيّ. وهو جزؤ الجزئي الموجود في الخارج. وعدم الجزء مستلزم لسائر الكلّ، فاستلزم الفرض وجود الشئ وهو الجزئي في الذهن وعدمه بالواسطة وهو محال.(تقرير)
2 كلنبوي ص/5 س/15 .
3 (قوله: والكليّ بحمل المواطأة... الخ) اعلم ان الحمل قسمان: اشتقاق، وهو ان يحتاج المحمول في صحة الحمل الى قيد زائد، بل مشتقه يحمل صحة كحمل المصادر على موصوفاتها كـ”هدىً للمتقين” مثلا. ان ذلك ذو هدى، يعني نفس نور الهداية المجسّمة.. ومواطأة، وهي اتحادي. اي هو هو حقيقة، او ادّعاءً كحمل الحدود على المحدودات. وبالعكس، لكنه قليل. والموصوفات على صفاتها كالناطق زيد. واشتمالي، اي هو تحته لعمومه، كحمل المشتقات على موصوفاتها كـ”زيد ناطق او عالم”مثلا. لكن الرازي لم يجعل الاشتمال قسم المواطأة بل قسيمه. فالاقسام عنده ثلاثة، بجعل المواطأة اتحادياً.. وسيدا على مذهبه. قرر تعليقه هذه فاحفظ.(تقرير)
4 على جزئياته.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 257
ويتحد به عند الرازي. والكلّ بخلافه. فحمل الجامد 1 والموصوف 2 موطأة وغيرهما إما اشتقاق 3 أو اشتمال 4.
ثم المحال فرضيّ لايتصور بذاته، بل بنوع تمثيل 5. وليس بوجود 6 ذهنيّ.
[ثم الكليّ إن ثبت لأفراده في الخارج ولو على تقدير وجودها فيه، فهو معقول أوّل. سواء ثبت لها في الخارج فقط، كالحارّ للنار ] 7
إن قيل: يتصوّر مع النار وصف الحرارة، فتكون ثابتاً لها في الذهن ايضاً؟
أجيب: بان الحرارة انما تكون تابعاً وناعتاً اذا كانت عرضاً. والتي في الذهن صورتها، وهي جوهرية اسميّة، تجاور النار 8. والزوجية هويتها الاصلية بعينها تعرض للاربعة 9 وصورتها 10 هوية الضياء للشمس 11 ومثالها. 12
أو ثبت في [كلّ من الخارج والذهنى، كذاتيات الاعيان المحققة] 13والمقدّرة ولوازمها.
اعلم! ان كون ماهيات الاعيان المحققة من المعقول الاوّل، بناءً على قول من يقول انها بعينها في الذهن. وان الوجود الذهنيّ ثابت 14 وان ما في الذهن 15 مثال
____________________
1 كسائر الحدود على المحدودات.
2 على صفاتها، نحو القائم زيد.
3 اي هو “ذو” كسائر مصادر.
4 كمجمل المشتقات.
5 اي لايكون معلوماً الا بنوع محاكاة.
6 اي بموجود..
7 كلنبوي. ص/40 س/24.
8 الذهنيّ. اي هو مأخوذ من النار الخارجيّ، مستقلاً لاعارض للنار الذهنيّ.
9 وفي الخارج.
10 في الذهنيّ.
11 في الخارج.
12 في المرآة.
13 كلنبوي ص/5 س/ 27
14 اي اختلف فيه. فقيل أن الكليّ المنطقي موجود فيه لانه موجود في الذهن، والذهن موجود في الخارج. فينتج أنه موجود في الخارج. كما أنّ الدرّة في الحقة الخ.. وليس كذلك، لعدم تكرر الاوسط في قياسه. لان لكل شئ ملكاً وملكوتاً، وللذهن ايضاً كذلك. فالشئ في ملكه علم، وفي ملكوتيته معلوم. فيتكرر الاوسط في الاول دون الثاني. مثلا تصور ذرّة زجاجة رقيقة، فالسماء بمسافتها الطويلة مرتسمة في ملكوته، وللذرة بملكه داخلة في حبة خردل. فتأمل!..
فان اعتبرت الكليّ المنطقي من قبيل الاوّل، فموجود في الخارج.. والا فليس بموجود فيه. وهو الاصحّ. ثم ذهب المشائيون والمتأخرون - كما يأتي - الى وجود الطبيعي. وتفصيله: إن الافكار في انواع الاشياء ثلاثة. احدها لاهل السنة: وهو أن لكلّ نوع ملكاً مسلّطاً عليه بأمر الله يتصرف فيه، ليس له طبيعة مؤثرة.. والثاني للاشراقيين: وهو ان لكلّ نوع ربّ يتصرف في مشخصات ذلك النوع، وتستمد الافراد منه. وهو موافق لذلك النوع بل متّحد معه. لو تلبّس لبسَ مسلّطه لكان عينه. والثالث للمشائيين: وهو ان لكلّ نوع ماهية مجرّدة موجودة في الخارج، منشأ ومرجع للمشخّصات، وهي طبيعة مؤثرة فيها. واما المتأخرون فقاموا وذهبوا الى وجود الطبيعي في الخارج. ولكن لابما قالوا، بل اثبتوا بدليل نظري. وهو أنه جزؤ الموجود، وجزؤ الموجود موجود. والجواب مذكور.(تقرير)
15 اي ليس رابطة بين العالم والمعلوم.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 258
لاشبح. وان تصرف الذهن في الوجود 1، لافي الماهية، فذاتياتها ولوازمها بعينها في الذهن. [وان ثبت لها في الذهن فقط، فهو معقول ثان] 2
تفريق الاقسام المعقول الثاني.
إعلم! ان مايعرض في الذهن إما لادخلَ له في الايصال 3 كالامور العامة، 4 في الكلام 5 وهي الوجود، والوجوب، والامكان وغيرها. وإما له دخل في الايصال. لكن ليس عنواناً للغير، كتعاريف الامور العامة 6 وإما موصل وعنوان فهو المعقول الثاني المنطقي، كمفهوم القضية والقياس وغيرهما. وكمفهوم الكليّ المنقسم الى الكليات الخمس المنطقية، العارض للماهيّة المنقسمة الى الخمسة الطبيعية.. ومجموع العارض والمعروض الى الخمسة العقلية. [ولاشئ من هذه الكليات بموجود في الخارج لاستحالة الوجود (الخارجيّ) بدون التشخّص] 7 وماقيل أن جزؤ الموجود 8 موجود 9؛ فالمراد حيث كان جزؤاً، أي في الذهن.
____________________
1 والتشخّص
2 كلنبوي ص/6 س/1.
3 الى المجهولات.
4 المبحوث
5 والحكمة.
6 وكتعارف الاسميّة لمصطلحات المنطق التي تعرضها ويتوضّع عليها المنطق الحرفي.(تقرير)
7 كلنبوي ص/ س/10 . وهو ضدّ الكليّ المشترك.
8 الخارجيّ
9 في الخارج


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 259
فان الذهن 1 هو الذي يفصّل ويشرّح ويكثّر ما اتّحد وامتزج في الخارج.
اعلم! ان المصطلحات 2 في العلوم لها حقائق اعتبارية لاوجود 3 لها في
____________________
1 لايقال: يلزم التغاير بين الخارجي والذهني، لان الذهني يفصّل . الخ.. اي تصرفه فيه بالتفصيل لايكون كذباً.(تقرير)
2 اعلم! ان مصطلحات المنطق عنوان للافراد كالزجاج والمرآة وموصل، كما مرّ. إما بالذات باعتبار نفس تلك الآلة ، لانها تصل ذلك بواسطة قراءتها. او بالواسطة، باعتبار انها تكون بمرتبة، او بمراتب جزؤ الموصول. وان المنطق من حيث هو آلة تبعيّ حرفيّ هوائيّ واسع، وقد تكون اميّاً طبيعة. فاذ يخرج منه كالطيور ويتوضّع عليه، فلا يرد انّ الكليّ في تعريف الكليات الخمسة جنس ذاتيّ لها، وهو مقيد. فيكون أخص من المعرف المطلق، فيلزم وجود الأعم وهو المعرّف بدون الاخص وهو كونه جنساً وهو محال. لان مايقوم به هو الاجزاء . فبعدم جزؤ منه يكون معدوماً. اذ الاعتبار مختلف . فباعتبار أنه توضع وعمّ جزئيات المعرف وغيرها جنس وجزؤ اعمّ ، فلا إشكال . وباعتبار أنه خرج من الطبيعي الاسميّ الحرفيّ وتوضع مقيداًخصّ وليس بجزؤ، فانه بهذا الاعتبار مدعيّ. كونه ابن ابن ابن ابن ابنه. او اب... الخ. لانه خرج من الجنس وتوضّع عليه وهو جنس الجنس وهو نوع جنس الكليات وهو نوع الجنس المطلق وهو نوع الذاتي، وهو نوع الكليّ ففصّل !..
واعلم! ان تفسير الكليّ في تعريف الكليات بمقول على كثيرين. لئلا يتوهم ان الجنس ينحصر في النوع، كالنوع في الشخص. يعني ان المقول أخص، وكرر في الكلّ للطرد.
ثمّ اعلم! انّ النوع متى ضاق حتى تجسّم وثبت، ازداد كمال النوعية وتكون حقيقياً. ومتى اتّسع وانتشر، تخرج من طبيعته. ولذا يكون اضافياً. وان الجسم متى اتسع وانتشر حتى يكون هواء وعدما، ازداد في كمال الجنسية. فيترتبان النوع نزولاً والجنس صعوداً، مراعاة لطبيعتهما. فانقسما ثلاثة ثلاثة: النوع العالي، ويسمى نوع الانواع ايضاً، وهو ماليس فوقه نوع. والمتوسط مافوق وتحته نوع. والسافل ماليس تحته نوع. والمفرد(كالعقل إن قيل الجوهر جنسه وما تحته افراد) ماليس فوقه ولاتحته نوع، والجنس كذلك، جنس السافل والمتوسط. وجنس الاجناس، والجنس المفرد (كالعقل إن قيل الجوهر ليس جنساً له وما تحته انواع منحصرة في الشخص)؛ لايقال النوع جنس لهذه الاربعة. وكذا الجنس والحال. ان غير المتوسط عدمي المفهوم، فلسن بموجود. لان السلب من الامور النسبية، اعتباري متجدّد، لايكون من اجزاء الحقائق التي لاتكون الاّ من الامور الثابتة الموجودة. فيلزم انحصار الجنس في النوع. لان كون الحقائق كذلك في الحدود التامة لا الرسوم. وهنا قد لفّ عليها اللوازم. فرسومها وذاتياتها موجودة في الخارج .
ثم اعلم! أن النوع المفرد مباين لسائر الاقسام. وكذا الجنس المفرد، وكذا النوع السافل، وكذا جنس الاجناس وكذا بين الانواع. وكذا بين الاجناس. فبقي الجنس السافل والمتوسط والنوع الثاني والمتوسط. (تقرير)
3 لانها ناشئة من اختيار البشر. وليس من حدّ جزؤ الاختيار خلق الافراد.(تقرير)



عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:01 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 260
الخارج. لان في الوجود الخارجيّ يتّحد الجنس والفصل والنوع، بل يتجمّد. وماصيّروها فصولاً للمصطلحات، أعراض في الاغلب او نسبيّ. فما في الخارج ليست أفرادها، بل للوجود في الخارج او في الذهن معروض او موصوف ماتسنبل عليها معانيها. فالمعقولات 1 الثانية ليست عبارة عن المصطلحات المنطقية، فانها ليست بشئ في الحقيقة. بل في كلّ منها نكتة او نقطة خفية تشكّلت عليها حقيقتها الاعتبارية للتفهيم. وذلك، معنى وعرض للامور الذهنية، كالمعاني الحاصلة للخارجيات بواسطة اوضاعها وكيفياتها. مثلا تخيّل على الجدار نقطة بيضاء، وعلى محيط دائرتها نقطاً بيضاء وحمراء!.. فانظر اليها كيف ترى، فانك ترى نقطة عرضت له المركزية بسبب الدّائرة. فهي صفة من مقول الوضع، وتتصوّر بسبب موافقة بياضها لبياضها المشاكلة، وهي صفة من مقول الوضع والكيف. فان كانت حمراء فلها صورة اخرى وصفة اخرى. ونقطة واحدة على جدار آخر، لها هذه المعاني والاعراض. فماهية الانسان في الخارج كالنقطة الواحدة وفي الذهن تعرّض لها نوع المركزية او شبهها، وشبه المشاكلة. فهذه معان تعرض في الذهن، تسنبل في خيال المنطقيين فصيّروها حقائق، فوضعوا لها مع ما التّف بها مصطلحات، صيّروها موضوعات المسائل، يُشار بها الى تلك المعاني. والمصطلحات كالمعاني الحرفيّة للمعقولات الاولى. وقد تصير كالاسم، فتصير طبايع فتعرض لنفسها كدود الحرير يخرج من ذاته مايحيط به. وليس كعنوان الموضوع، فان له دخلاً لايذهب الحكم الى الموضوع برأسه. بل يسلّم عليه، ثم يأذن له 2 أما المعقولات الثانية فيحرّك المحمول من جانب، حتى يقع على رأس الموضوع 3 فهو ككل في “كل انسان لا مفهوم انسان” 4
____________________
1 اي فاذا كانت اعتبارية فكيف تكون مداراً للحقائق والاحوال. فالمعقولات.. الخ.(تقرير)
2 في الوقوع على أفراده.
3 اي افراده.
4 يعني أن جنس الانسان ليس الجسم، والفصل ليس الروح. بل الثانيان مأخذ للاولين. يعني أن الجنس والفصل قد نشئا منهما. ثم نوضّعا دفعة على الجسم. والاّ لزم أن يكون مركباً. والحال انه من اقسام المواد. يعني أن مأخذ دلالته على الزمان هو الهيئة. وكذا الآخر، وهو أن يكون مأخذ دلالته على الحدث هو المادة. يعني ان الدلالة نشأت اولاً من هذين عليها، ثم توضع دفعة على مجموعة. اي المادّة والهيئة معاً.. والاّ لزم ان يكون الحجر والشجر دالاّن على الزمان. والمشهور في الجواب: ان المراد، الجزء المرتب في السمع. والهيئة من ضرب ليس مرتباً في المستمع بدفع المادّة.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 261
مقدمة:
اعلم! ان بيان النسب من أهم مباحث المنطق. فان أفراد المسائل متفرقة ومنتشرة تضمّنت فيما بينها وتبطنت في تلافيفها صوراً بتمديد خطوط النسب؛ كتحصيل الصور الاثنتى عشرية فيما بين نجوم المنطقة بتمديد الخطوط الوهمية الهندسية.. وكتحصيل القبائل والبطون والأفخاذ باعتبار نسب النّسب 1 فتأمل!..
واعلم ايضاً، أن المنطق بعضه بديهيّ وبعضه نظريّ يكتسب من بديهيّه. فتأمل في كل باب ترى السابق مقدّمة ومرجعاً لاثبات اللاحق. ثم الكلّيان إن كان بينهما تصادق 2 في الواقع 3 بالفعل 4 كليّاً من الجانبين فمتساويان، وكذا نقيضاهما، ففي كل باب يستفاد نظريّة من بديهيّه. فالكليتّان المتصادقتان في الواقع، متساويتان بديهياّ. ومرجع المساواة صدق قضيّتين كلّيتين من الجانبين.
مثلاً: كل انسان ناطق وكلّ ناطق انسان.. وكذا نقيضاهما، مثل: “كل لا انسان لا ناطق. وكل لاناطق لاانسان” هما اساسا التساوي. فصدق الاول من الثاني ثابت بكذب نقيضها؛ المستلزم المستلزم المستلزم المستلزم المستلزم المستلزم المستلزم.. لكذب البديهيّ وهو الثاني من الاول. وصدق الثاني من الثاني بكذب نقيضه اللاالمستلزم. كذا لكذب البديهيّ وهو الاول من الاول. فاللازم باطل والمطلوب حاصل...
[او من احد الجانبين فقط فأعم وأخصّ مطلقاً كالحيوان والانسان ونقيضاهما بالعكس كا للاحيوان واللاانسان] 5اي نقيضا الأعمّ والأخصّ بالعكس. يعني أن نقيض الاعمّ أخصّ، ونقيض الأخص أعمّ. اي تصدّق موجبة كليّة موضوعها نقيض الأعمّ.. وسالبة جزئية موضوعها نقيض الأخصّ. اي مثلاً: “كلّ لاحيوان لاانسان” صادق.. والاّ لصدّق نقيضه الملزوم لنقيض القضية الصادقة المسلّمة. وهو “كلّ انسان حيوان” وملزوم الكاذب كاذب. واي “ليس بعض اللانسان لاحيوان”
____________________
1 اشارة الى انّ وجه وسرّ تفاوت مراتب بعض العلماء على بعض، والكلام القديم على غيره من هذه النقطة.(تقرير)
2 لاتفارق وتحقق.
3 اي لا في تجويز العقل وبحسب المفهوم.
4 اي مرجعه موجهة بالاطلاق لابالدوام كما في المتباينين..
5 كلنبوي ص/4 س/24


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 262
والاّ لصدق نقيضه، وهو: “كلّ لا انسان لاحيوان” المستلزم بعكس النقيض لـ”كُلّ حيوان انسان” وهو نقيض للسالبة الصادقة، وهو “بعض الحيوان ليس بانسان”. ونقيض الصادق كاذب، فملزوم الكاذب كذا..
[او تفارق دائم كليّاً من الجانبين، فمتباينان كليّاً.. كالانسان والفرس، وكعين أحد المتساويين مع نقيض الآخر، وعين الأخص المطلق مع نقيض الأعمّ.. وبين نقيضهما مباينة جزئية، هي أعمّ من المباينة الكليّة، كما في نقيضي المتناقضين “كالانسان واللاانسان” ومن العموم من وجه، كما في نقيضي المتضادّين (كالسّواد والبياض) وامثالها فبين النقيضين التباين الجزئي هو النسبة. لانه الدائمي وهو كالجنس اللازم للتباين الكلي] 1.. والعموم من وجه اللذَين يختص كلّ منهما ببعض الموادّ. والتباين الجزئي، مرجعه سالبتان جزئيّتان. اما صدقهما، فلمناقضة عكس نقيض نقيضيهما للقضيتين الصّادقتين في العينين.. مثل بعض اللاانسان ليس بلا فرس؛ والاّ فكل لا انسان لا فرس. وهو ينعكس بعكس النقيض الى “كلّ فرس انسان”، وهي ضدّ للاشئ من الفرس بانسان. وقس عليه أخاه. 2
فثبت بالخلف التباين الجزئي. وأما عدم صدق التباين الكليّ والعموم من وجه، فبالتخلّف. لانه لايوجد في موادّه. وبالعكس. وقس على هذا، نقيض العموم والخصوص من وجهٍ.. والشخصية في قوة الكلية
[وان لم يكن بينهما تصادقٌ. ولاتفارق كليان، بل جزئيان من الجانبين. فأعم وأخصّ من وجه 3. وبين نقيضيهما مباينة جزئية، هي أعمّ ايضاً. اذ بين نقيض مثل الحيوان واللاانسان مباينة كليّة. وبين نقيضى مثل اللاانسان والابيض عموم من وجهٍ. والجزئي الحقيقي 4
____________________
1 كلنبوي ص/6 س/26
2 وهو بعض اللافرس ليس بلاانسان.
3 كالانسان والابيض وتعين الاعمّ المطلق مع نقيض الأخصّ.
4 قوله: “والجزئي الحقيقي.. الخ” النسب فيه اثنان. اما العموم المطلق وجزئيتان موضوعها الكليّ، ومرجعه شخصيتّه موضوعها الجزئيّ او التباين ومرجعها شخصيّتان سالبتان. ونسب الجزئيتين ايضاً كذلك. أما التباين ومرجعها كما مرّ. او التساوي، ومرجعها شخصيّتان موجبتان. والحال، انّا قلنا أن مرجع التساوي والتباين كليّتان والعموم المطلق كليّته مع جزئيّتين. والجواب مقدم. وهو أن الشخصيّة في قوّة الكليّة بدليل انّها تكون صغرى الشكل الاوّل.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 263
أخص مطلقاً من الكليّ الصادق عليه. ومباين لسائر الكليّات. واما الجزئيان: فهما إما متباينان كزيد وعمرو.. وإما متساويان، كما اذا أشرنا الى زيد بهذا الضاحك، وهذا الكاتب. فالهذيّتان متصادقتان متساويتان.. هذه هي النسب الاربع بحسب الصدق والحمل] 1
[وقد تعتبر تلك النسب بحسب الصدق 2 والتحقق باعتبار الازمان والاوضاع، لا باعتبار الافراد، بان يقال المفهومان 3، إن كان بينهما اتصال كليّ من الجانبين؛ بأن يتحقق كلّ منهما مع الآخر في جميع الأزمان والاوضاع، الممكنة الاجتماع معه 4 فمتساويان كطلوع الشمس ووجود النهار، او من احد الجانبين فقط فأعم وأخص مطلقاً 5، وان كان بينهما افتراق كليّ من الجانبين بان لايتحقق شئ منهما مع الآخر في شئ من الازمان والاوضاع.. فمتباينان كليّاً 6 والاّ فأعمّ وأخصّ من وجهٍ 7 وهذه هي النسب المعتبرة بين القضايا]
8ومايفيده ادوات الشرط من الازمان، “كمتى”. والامكنة “كأين”. والاوضاع والاحوال “ككيف” والكيفيات “ككيفما” في حكم الافراد...
والنسبة إما حمليّ - كما مرّ - وإما وجودي. ومرجعها قضايا شرطية متّصلة 9 وكليّها وجزئيّها باعتبار مايدل عليه ادوات الشرط الكليّة من الاوضاع، ولو كانت محالاً بشرط الاجتماع 10 مع اللزوم 11. وإلاّ لكذب كلّ كليّة من الشرطيات. ومايناسب هذا المقام المغالطة المشهورة على انتاج الشكل الثالث؛ بكلما تحقق النقيضان تحقق احدهما. وكلّما تحقق النقيضان تحقق الآخر، فينتج أن يكون اذا تحقق
____________________
1 كلنبوي ص/7 س/9...
ومرجعها: قضايا حملية موجبة. والجهة هنا الاطلاق في الموجبة والدوام في السّالبة.
2 فالصدق في الاول يتعدى بـ”على” وهنا بـ”في”.
3 اعمّ من أن يكون قضايا او مفرداً.
4 اي اجتماع الاوضاع مع اتصال التالي للمقدّم.
5 كاضاءة المسجد وطلوع الشمس.
6 كطلوع الشمس ووجود الليل..
7 كطلوع الشمس وهبوب الريح.
8 شبيه بمتن كلنبوي ص/7 س/11
9 اي لامنفصلة ولا موجّهة.
10 اي اجتماع الاوضاع.
11 اي لزوم التالي للمقدم.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 264
أحد النقيضين تحقق الآخر. وهذه النتيجة تفيد ملازمة بين النقيضين وهو محال؟
والجواب: إن اردت باحدهما 1 وحده، فالصغرى 2 كاذبة، ومع الآخر فالنتيجة صادقة3 غير مطلوبة. 4: لأن الشرطية اللزومية تنظر الى اللزوم، سواء كانا موجودين 5 او محالين.. وموجبتين او سالبتين. وفي الاتفاقية الخاصّة صدق الطرفين 6 وفي العامة صدق التالي فقط. فالاتصال7 والافتراق في اللزوميات، والعامة يكفي بحسب الفرض.
[واعلم! أنّ بين المفهومين مفردين كانا، او مركبيّن، او مختلفين نسباً اخرى بحسب تجويز العقل بمجرد النظر الى ذاتهما، مع قطع النظر عن الخارج عنهما. وتسمى نسباً بحسب المفهوم. بأن يقال: إن تصادقا بحسب ذلك التجويز كليّاً من الجانبين، فمتساويان كالحدّ التّام مع المحدود. او من أحد الجانبين فقط. فاعم وأخصّ مطلقاً، كالحدّ الناقص مع المحدود، وان تفارقا كليّاً من الجانبين. فمتباينان كليّاً كالمتناقضين؛ نحو “الانسان واللاانسان”. والاّ فأعمّ وأخصّ من وجه؛ كالانسان مع الضّاحك او مع الماشي]. 8
[تنبيه:
قديطلق الكليّ على الاعمّ، والجزئي على الاخصّ 9 ويسمّيان كلياً وجزئياً اضافيين فكلّ جزئيّ حقيقيّ، جزئيّ اضافيّ بدون العكس؛ كما في كليّ أخص من كليّ آخر. واما النسبة بين الكليّ الحقيقي والاضافيّ، فبالعكس. لان الكليّ الاضافيّ أخص مطلقاً من الحقيقي.
____________________
1 في الصغرى
2 لعدم اللزوم
3 والمقدّمتان صادقتان لوجود اللزوم
4 كأن يقال: كيف يكون صادقاً، مع أنّ المقدمتين محالان؟ فأجاب:(تقرير)
5 اي الطرفين
6 لا للزوم.
7 اي اتصال التالي للمقدّم وافتراقه منه.
8 كلنبوي ص/8 س1-8
9 اي هو كل أخص تحت أعمّ، سواء كان ذلك الاعم ذاتياً له، او لا اي كان فوقه شئ أعمّ مطلقاً، فلاينافي اعميّة الحقيقي من الاضافي بذات الله عزّ وجل، بان يقال: إن ليس فوقه اعمّ من لوازمه فلايكون أعم. اذ فوقه الموجود والممكن العام. (تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 265
فصل في الذّاتيّ والعرضي:] 1
الذْاتية والعرضية باعتبار الوجود، 2 كما في الجوهر والعرض 3، والاسم والحرف.. وباعتبار السبب ان كان دائميّاً 4 او اكثرياً فذاتيّ، والا فعرضيّ. وباعتبار الحمل ان كان الموضوع موضوعاً بالطبع 5 كالجزئيات 6 والذوات 7 اذا حملت عليهما صفاتها. ومن هنا 8 الاحتياج الى الاشكال الثلاثة 9، والحمل بالمواطأة، والمحمول من طبيعة الموضوع. 10 والمحمول الأعمّ من الموضوع والمقوّم له ودائم الثبوت له وبلاواسطة، اي ثبوته لذاته او لامر يساويه، فقد مرّ. وباعتبار المحمول مايمتنع انفكاكه عن الشئ 11، ومايمتنع انفكاكه عن الماهية.. اي مايمتنع ارتفاعه عن الماهية في الذهن؛ كالبيّن بالمعنى الأعمّ. ومايجب اثباته للماهية كاللوازم البيّنة بالمعنى الأخص. وكل من هذه الثلاثة أخص مما قبله..
وباعتبار الجزئيات فما دخل أو لم يخرج هو ذاتياً. كأنّ قائلاً سئل: اذا فسّرت مادخل بلم يخرج، دخل ماعينه كالنوع. فالنسبة في الذّاتيّ فيه الى نفسه؟
فأجاب: لان العلّة في الوضع والاستعمال اللغوي تصير مرجحاً في المصطلح. فاللازم وجودها في الاكثر.
[الكليّ 12 المحمول على شئ آخر كليّ أو جزئيّ، ان لم يكن خارجاً عن ذاته وحقيقته، فذاتيّ له. سواء كان عين حقيقته - كالحيوان الناطق للانسان - او
____________________
1 كلنبوي ص/8 س/8
2 الخارجيّ.
3 والذهني.
4 اي ان كان ترتب المسبب على السبب دائمياً او أكثرياً فالسببية ذاتية، كالموت على قطع الحلق ورمى التّفنك. والاّ فعرضىّ كالموت على الحمّى.(تقرير)
5 وكذا المحمول.
6 اذا حملت عليها كليّاتها.
7 اي فذاتيّ والاّ فعرضي.
8 اي هذه النقطة يعلم ويحصل الاحتياج .. الخ
9 غير الاول.
10 نحو الحجر متحرك في العلو.
11 اي في الخارج.
12 اراد مطلقاً ليوافق الممثل التمثيل.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 266
جزؤها المساوي لها، مميّزاً لها عن جميع ماعداها، كالناطق له. او جزؤها الاعمّ مميّزاً لها في الجملة، كالحساس والنامي، او غير مميّز اصلاً كالجوهر والحيوان.. 1 والا فعرض له سواء كان مساوياً لها، او أخص 2 مميّزاً عن جميع ماعداها، كالضاحك بالقوة او بالفعل. او اعمّ مميّزاً لها في الجملة 3 او غير مميّز اصلاً: كالشئ 4 جميع ذلك للانسان].
[ثم الذاتيّ المشترك بين الجزئيات، إن اشتركت تلك الجزئيات في ذاتيٍّ آخر خارج عنه، فهو مشترك ناقص بينها، كالحيوان بالنسبة الى افراد الانسان، حيث اشتركت في الناطق ايضاً. وكالناطق حيث اشتركت في الحيوان ايضاً.. والاّ فمشترك تامّ، كالانسان بالنسبة الى افراده.. وكالحيوان بالنسبة الى مجموع افراده. فكل ذاتيّ مميّز للماهيّة في الجملة فهو مشترك ناقص مطلقاً، ولو بالنسبة الى افراد نفسه. وكل ذاتيّ سواه فهو مشترك تامّ بالنسبة الى افراد نفسه. وناقص بالقياس الى افرادٍ ذاتيّ أخصّ منه، إن وجد الأخص كالحيوان] 5
فاعلم! ان مايطلب به المجهول، ماالاسمىّ والحقيقي.. وهل البسيط والمركب.. وما مع هل كزلزل.. وما للقول الشارح، وهل للقضايا. واي للّوازم والذاتيات المميّزة. ولم للقياس ، فمايطلب الحقيقة.
فان قيل: الذاتيّ كليّ وجرئيّ، فهو محمول وغير محمول.. وان الجنسية والجزئية متنافيان؟.
اجيب: بانهما متّحدان بالذات، مختلفان بالاعتبار. فبشرط شئ يتضمن النوع. وبشرط لاشئ جزؤ ولابشرط شئ جنس، واجزاء الماهية. قيل: في الخارج متعدّد
____________________
1 لان التمييز التفريق ، يقتضي الاشتراك وليس فوقه جنس حتى يشترك الانسان معه فيميّز عنه. واما الاحتراز عن العرض فالانسان مميّز بالذات عنه ليس بالجوهر. اما الحيوان فهو باعتبار اشتماله على الجوهر ، لم يبق موضع للاشتراك . والانسان ممتاز من افراده باعتبار اشتماله على الفصول. واما فصوله مستقلاً فيميّز الانسان..(تقرير)
2 مطلقاً.
3 كالماشي.
4 والممكن والموجود والمعلوم..
5 لنبوي ص/8 س/19


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 267
الوجود.. فالحمل للالتحام. وقيل: في الخارج مأخذها. وقيل: اعتبارات تختلف باعتبار العبارات والاعتبارات.
[وان مطلوب السائل بكلمة ما عن الواحد تمام حقيقته المختصّة به، بمعنى المختصّة بنوعه، وعن المتعدّد تمام الذاتيّ المشترك بينها. فالسائل بما هو عن زيد طالب للانسان.. وعن الانسان طالب للحيوان الناطق. وبما هما، او بماهم عن زيد وعمرو، او مع بكر طالب للانسان ايضاً. وعن الانسان والفرس طالب للحيوان. وعنهما، وعن الشجر طالب للجسم النامي. ومع الحجر طالب للجسم.. ومع العقل العاشر طالب للجوهر ومطلوب السائل بأي شئ مايميّز المطلوب بكلمة ما ، هناك تمييزاً في الجملة. أما مميّزه الذّاتيّ إن قيّده بقيد في ذاته، او مميّزه العرضيّ إن قيّده بقيد في ذاته، او مميّزه العرضيّ إن قيّده بقيد في عرضه. او المميّز المطلق إن لم يقيده بشئ، فالسائل عن زيد وحده او مع عمرو بأيّ شئ في ذاته طالب للناطق، او الحساس، او النامي، او القابل للابعاد.. وبأيّ شئ في عرضه طالب لمثل الضاحك او الماشي، والسائل عن زيدٍ، وهذا الفرس باي شئ هما في ذاتهما طالب للحسّاس، او النامي، او القابل.. وبأي شئ في عَرضهما طالب لمثل المتنفّس، او المتحيّز، وقس عليه] 1
[فالفصل ايضاً مقوّم للماهيّة] 2
فالفصل محصّل للحصّة الجنسية ومقوم للنوع ومقسّم للجنس. والجنس عرض عام للفصل، والفصل خاصته، والنوع خاصتهما، والعرض خاصّة الجنس.
[ولايتكرّر جزؤ واحد الخ] 3اي لاجتماع المثلين المستلزم لاجتماع 4 النقيضين وللعبث في الخلقة، ولتعدد المأخذ المستلزم لوجود روحين لجسد، وبالعكس... ومايتوهم بعض الناس من تعددات شخصيات في كاهن، فانما هو غلط من التباس الجنيّ المناسب لروحه بشخصيّته.
____________________
1 كلنبوي ص/9 س/26 مع فروق طفيفة..
2 كلنبوي ص/11 س/1
3 كلنبوي ص/11 س/9
4 5 ناء على ان اجتماع المثلين ليس بواجب. فممكن زوال مثل فيجيئ نقيضه ويجتمع مع المثل الآخر وهو محال.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 268
[ولايتركب الخ]
1كالانسان من الضاحك والناطق مثلا. لاجتماع ماكالعلتين المستقلتين ولاجتماع الاحتياج والاستغناء.
واجيب: بان كلا منهما بشرط شئ، وبشرط لاشئ، ولابشرط شئ. فالثالث كالجنس 2. الاوّلان نوعان له. فالاول نفس الانسان وفصله الذي يميّزه عن النوع الاخر الضاحك مثلاً.
[تنبيه: اللزوم الخارجيّ هو امتناع الخ] 3
إن قيل: اللزوم لو وجد لوجب ان يكون الواجب 4 موجباً في اللازم... اجيب: بانه ايجاب 5 بالاختيار 6. وايضاً للزم التسلسل.. الا أن اللزوميات متماثلة 7 بالتّشخصّ 8 ايضاً، لتماثل المعروض وتشخّصها. وكأينيّتها بالموضوع فيلزم العبث، فيلزم الانحصار في الشخص.. وهو معنى قولهم: “لزوم اللزوم نفسه”.
واما الاعتباريات: فالتسلسل انما يلزم من القصد وهو ليس بلازم. والتبعيّ كالحرف لايتسلسل 9 ومن هنا 10 يقال: “لازم المذهب الغير البيّن ليس بمذهب” واعتباريّتها باعتبار وجودها. اما نفسها فالخارج ظرف لها. وفي الحمل الخارجيّ يجوز ان يكون مبدأ المحمول معدوماً. كزيد موجود في الخارج. فيلزم التسلسل في الامور 11 الثابتة في نفس الامر. واللزوم من الامور النسبيّة موجود عند الحكماء لاهل السنّة.
____________________
1 كلنبوي ص/11 س/9.
2 لم يقل بالاتحاد، لئلا يلزم انحصار الجنس في النوع.
3 كلنبوي ص/11 س/25 .
4 بالذّات.
5 اي الايجاب.
6 وهو مقوّ للاختيار.
7 اي أن الاعراض مشخصها قيامها بالحمل، فتتبعها في المماثلة.
8 اي كما بالماهيات.
9 اي لايحكم عليه .
10 ) اي من هذه النقطة.
11 لكن لزوم اللزوم نفسه.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 269
[باب الحدّ الخ]
1 المراد من التعريف 2 التوضيح، او التحصيل، او التمييز.. اما بالمباين وهو التمثيليّ ومن الرسم الناقص الناقص.. ومنه كل التشبيهات كالعلم، كالنور... واما بالاخصّ وهو المثالي كـ”كالعلم، كالنور” ومنه امثلة القواعد وهو
____________________
1 كلنبوي ص/13 س/20 معنىً.
2 اعلم! ان التعريف إما بمجرد الذاتيات او لا. والاول إما ان يكون بجميعها كالجنس والفصل القريبين. او ببعضها كالفصل القريب. او مع الجنس البعيد. الاول هو الحدّ التام .. الثاني هو الحدّ الناقص.
والثاني: إمّا أن يكون بالجنس القريب والخاصّة، اولا بل بالخاصّة حدها.. او مع الجنس البعيد. الاول هو الرّسم التام والثاني هو الرسم الناقص هذا، ولايخفى مافيه. أما اولاً، فلعدم انحصار كلّ من الاقسام الاربعة - بما ذكروه - ضرورة. ان الحدّ التام كما يحصل بالفصل والجنس القريبين، فقد يحصل بهما مع الفصل البعيد.. وبهما مع الجنس البعيد.. وبهما مع الخاصّة.. وبهما مع العرض العام وغير ذلك. والحدّ الناقص، كما يحصل بالفصل القريب خاصّة، وبه مع الجنس البعيد.. فكذا يحصل بالفصل القريب والخاصة.. وبه مع العرض العام.. وبه مع الفصل البعيد.. وبه مع الجنس البعيد والخاصّة..وبه مع الجنس البعيد والعرض العام.. وبه مع الجنس البعيد والفصل البعيد وغير ذلك.
وهكذا حال الرسم التام والناقص..
والتفصيل: الكليات خمسة. ومع ملاحظة كل من قسميّ الجنس والفصل تصير سبعة. فحينئذ نقول: ان المعرّف إما بسيط اولاً، وعلى الثاني، إما ثنائيّ او ثلاثيّ او رباعيّ او خماسيّ او سداسيّ او سباعيّ.. والبسيط، سبع صور.. صحيحها اثنان. والبواقي غير صحيح، إما للعموم او الخصوص... والثنائي تسع واربعون صورة حاصلة من ملاحظة السبعة مع السبعة، بعضها غير صحيح للعموم او للخصوص.. او لتقدّم الأخص على الاعمّ خاصة. او مع واحد من الاوّلين، وبعضها يرجع الى البسائط. ونرسم لها جدولاً ليسهّل تمييز الصّحاح عن الغير.. ويعلم منه حال البسائط ايضاً. وهو هذا: والثاني ثلاثمائة وست وثلاثون صورة. فان التركيب الثلاثي بين السّبع يرتقي الى ست وخمسين. وذلك لانه اذا ركب الجنس القريب والبعيد والفصل القريب مثلا بتركيبٍ والفصل البعيد والعرض العام والخاصة مثلا بتركيب آخر، فهما صورتان . ولو بدّلنا كل جزء من اجزاء احد التركيبين بكلٍ جزء من اجزاء الاخر، يحصل ثمان عشرة صورة، تكون الاولين عشرين. ولو بدّلنا كل جزؤ من اجزاء أحد التركيبين بالنوع مثلا، يحصل ستّ صور. ولو بدّلنا كل جزء من الجزئين الأخيرين غير النوع من هذه الصور الست المشتملة على النوع بكل واحد من الثلاث الباقية، يحصل ست وثلاثون صورة؛ تكون مع العشرين السابقة ستاً وخمسين. والاحتمالات في كل تركيب منها بحسب تقديم بعض الى بعض ست.. والحاصل من ملاحظة الست مع الست والخمسين، ثلاث مائة وست وثلاثون، وهو المطلوب. والرّباعيّ ثلاثة الاف ثلاثمائة وسبعون. فان التركيب الرباعي بين السبع، يرتقي الى مائة واربعين. = =لانه اذا اريد ان ركب من السبع تركيبان لايشتركان في الاجزاء على قدر الامكان، فلامحالة ان يشتركا في جزؤ واحد مرددٍ بين السبع. فهذه اربع عشرة صورة، لكل تركيب منها سبع صور. ولو بدّل كل جزؤ من الاجزاء الثلاثة الغير المشتركة من صور كلّ من التركيبين المفروضين، السبع بكل جزؤ من الاجزاء الثلاثة الغير المشتركة من صور التركيب الاخر السبع، يحصل مائة وست وعشرون صورة. كما لايخفى تكون مع الاربعة عشرة، مائة اربعين، وهو المطلوب. الاحتمالات في كل من هذه التراكيب اربعة وعشرون. والحاصل من ملاحظة عدد التراكيب مع عدد الاحتمالات، ثلاثة الاف وثلاث مائة وستون. والخماسيّ: خمسة الاف واربع مائة. فان التركيب الخماسي بين السبع اربع مائة وخمسون ضرورة، انه لو ركب من السبع تركيبان لايشتركان في الاجزاء بقدر الامكان، فلابد وان يشتركا في ثلاثة اجزاء من السبع، مرددة بين ستّ وخمسين صورة، على ماتبين في التركيب الثلاثي. فهذه مائة وثنتا عشرة صورة، لكل من هذين التركيبين ست وخمسون. ولو بدّل كلّ من الجزئين الغير المشتركين في كل من صور أحد التركيبين بكلّ من الجزئين الغير المشتركين من صور التركيب الاخر، بلغ اربع مائة وخمسين. والاحتمالات المتصوّرة في كلٍ من هذه التراكيب مائة وعشرون. والحاصل من ملاحظة عدد التراكيب مع عدد الاحتمالات خمسة الاف واربع مائة. وهو المطلوب. وكل من السّداسي والسّباعي خمسة الاف واربعون صورة. اما الاول: فان التركيب السداس بين السبع سبع كما هو ظاهر. والاحتمالات في كل منها سبعمائة وعشرون. والحاصل من ملاحظة عدد الاحتمالات مع عدد التراكيب خمسة آلاف وهو المطلوب. واما الثاني وان كانت له صورة واحدة ، إلاّ انه ان الاحتمالات فيها يرتقي الى ماذكره. ولما لم يكن للواحد اثر في الضرب، صارت عدد الاحتمالات هو عدد التركيب. وضابط الاحتمالات في التركيب ان يضرب عدد الاحتمالات الحاصلة في السابقة في عدد اجزاء اللاحقة. فالحاصل هو احتمالات اللاحقة. ثم ان بعضها صحيح وبعضها غير صحيح للخصوص كما اذا كان النوع احد الاجزاء او للعموم.. كما اذا لم يكن فيه واحد من الخاصة والفصل القريب، او لتقدّم الاخصّ على الاعمّ؛ هذا لايقال أن الغرض من التعريف إما الاطلاع على الكنه، او الامتياز عن جميع ماعداه. وهذا يحصل بالجنس والفصل القريبين، او الجنس القريب والخاصة مثلا. فلاحاجة الى ضم الجنس البعيد او العرض العام، او الفصل البعيد مثلا اليهما. وهكذا قياس البواقي. ولذا حصروا الحد والرسم التاميّن او الناقصين فيما ذكروا.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:02 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 270
ايضاً كَ ”كَ”… واما بالمساوي، إما نظراً للتوضّع وهو اللفظيّ. ومنه القاموس.. واما للمدلول وهو الاسميّ. ومنه تعاريف المصطلحات والاعتباريات والمعدومات.. واما للمعنى وهو التعريف الحقيقي. فإما بتمام العلل كالحد التام ، او بعضها كالناقص او المعلولات كالرسم الناقص. او من القبلتين كالرسم التام. ويجري في التصورات امثال الحدس والفطريات بالانتقال دفعة وبلاكسب.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 271
والتعريف بالعلل الذي هو الحدّ التام، يوصل الى المطلوب. اي المحدود قضية بديهيّة بالتجريد عمّا يُنَظّرهُ من لفّه في الاصطلاحات. وهي مقدمة لكسب الرسم 1 يوصل..
والدّلالة الالتزامية مهجورة 2، وإلاّ لصار الرسم حدّاً، وتعريف الكلّ انما يحصل بتقسيمه الى اجزائه بالعطف، كالبيت الذي انت فيه... لابيت الشعر كبيت الشعر.
[قبل التعريف بوجهٍ ما الخ] 3
اعلم! أن بين العلم بوجه الشئ البديهي اللازم والمنافي للاشتراط.. وبين العلم بالشئ بوجهٍ، فرق بيّن. لان الاول اسمي وقصدي، لاينكشف أقل انكشاف ماتحته. والثاني حرفيّ تبعي عنوانيّ، يتغلس ماتحته باستضاءته. فلايلزم من علم شئ العلم بكلّ الاشياء. وايضاً الاول علم تفصيليّ بالوجه 4. والثاني اجماليّ 5 بالشئ، وهذا صورة الجميع وذاك جميع الصور.
فان قلت: الرسم يستلزم الخاصة، والتعريف 6 بها يقتضي العلم بالاختصاص، وهو يستلزم معرفة طبيعة المحدود. وان هذا الاّ دورٌ ظاهر؟
قلت: اما الفعل الاختياري هو الترتيب، لايتوقف لاعليه ولا على علمه. واما الانتقال الذي هو ضروري غير اختياري وبطبيعة الذهن، فانما يتوقف على وجود الاختصاص في نفس الامر.
[كتعريف الاب بما يشتمل على الابن الخ..] 7وباختلاف العنوان يختلف
____________________
1 الحد الناقص ايضا.
2 في المنطق.
3 كلنبوي ص/13س/21 .
4 لانك اذا نظرت اليه قصداً لايكون عنواناً، والحال انه عامّ. فلابد ان تثبت للجمبع فرداً فرداً فيكون مفصلاً..(تقرير)
5 اي العلم الاجمالي يعبّر بصورة.
6 فللتعريف اعتباران: الانتقال والترتيب. فالاول ضروري يتوقف على الوجود. والثاني اختياري لايتوقف على شئ. اذ يكفي الاستماع. (تقرير)
7 كلنبوي ص/14س/1 .


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 272
الاشياء ضرورية ونظرية وبهذا كما ينحل الاشكال الوارد على توقف كلية كبرى 1 الاول على نتيجته، يرتفع التضاد بين قولهم: “لابدّ في تعريف المضاف من ذكر المضايف” ويمتنع تعريفه به.
[بمجرد الاحتمال العقلي الخ] 2الامكان الغير الناشئ عن دليل لايصير امكاناً ذهنياً، حتى ينافي 3 اليقين العلمي الحاصل من الوهميات 4 المحسوسة.. بل امكان ذاتي لاينافي اليقين العلمي.
[وشرطوا فيه ايضاً تقديم الخ] 5ومن الشرائط المهمة بين الجنس والفصل والصغرى والكبرى الملاحظة مع التفطّن الذي هو المزج والاتحاد والضغط، حتى يتفلّت منه المطلوب.
[ولاتعريف الجزئيّ على وجه الخ] 6المجهول إما مشخّص، وهي لايُعَرَّفُ ولايُعرفُ بل يشار اليه.. وإما كليّ وهو اما بسيط كأجناس العالية والفصول السافلة.. وهي لاتُحَدُّ بل ترسّمُ وتحدّدُ. واما نوع حقيقي.. وهي يحدَّدُ ولايعرّفُ الا في الاصناف. واما لا هذا 7 ولاذاك 8 فذاك 9 وهذا 10.
[باب القضايا... القضية.... الخ] 11
____________________
1 مثلا: العالم متغير، وكل متغير حادث. فالعالم حادث فلابد ان لاينتج. اذ الكليّة متضمنّة لقضايا بعدد افراده. فما بقي فردٌ مجهولاً لايصح الكليّة والعالم في افراده، فلا فائدة في انتاجه. وحاصل الجواب: انّ الذات بعنوان المتغير بديهيّ الحدوث وبعنوان العالم نظريّ. وكذا يمتنع تعريف المضاف بالمضايف.. اذ هما متساويان في المعرفة والجهالة. ويجب التعريف به، لانه تتوقف عليه. وحاصل الجواب: انه يجب بغير عنوانه وبما صدقه. لانه بهذا بديهي لايدور. ويمتنع بنفس العنوان، لانه نظري مساو.(تقرير)
2 كلنبوي ص/14س/7 .
3 اي حتى يكون شكا لينافي. الخ.
4 اي البديهيات المحسوسة حين الاحساس، والوهميّات المحسوسة حين الغيبة.
5 كلنبوي ص/14 س/7
6 كلنبوي ص/14 س/12
7 جنس بسيط.
8 نوع حقيقي.
9 يحدد.
10 يحدد.
11 كلنبوي ص/14 س/14


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 273
الفنّ الثاني المباين بالماهية عن الاول، لانه كالحدّ وهو كالعقد؛ التصديق وله مقاصد.. وهي القياس بأنواعه المادي والصوريّ… ومباد، وهي القضايا واحكامها. والقضية التي هي الخبر 1 عند العربييّن، لابد ان تعرّف، لتصير موضوعاً. وتقسّم، لتتحصل موضوعات الفصول وحقيقتها.. قيل بديهيّة، لان طبيعة من ليس اهلاً للنظر تعرفها بمراعاته للوازمها حتى يصدق ويكذب في موضوعه. فالتعارف التي تذكر رسوم تنبيهيّة لازالة الخفاء الحاصل بالمصطلحات. وقد مرّ مافي تعريفها. 2فكما للشئ وجود ذهنيّ يعرّف بنحو الجنس الفصل، كذلك له وجود خارجي يعرف بالتقسيم بالمادة 3 والصورة. فالمادة هنا، النسبة مع طرفيهما. والحكم والاسناد هي الصورة التي هي مبدأ الاثار المخصوصة فيشتمل على الطرفين ويبلعها ويلبس كلاً بما اشتقّ من نفسه.
[فان حكم فيها بوقوع الخ..] 4الاسناد والحكم من مقول الاضافة. وهو اما متخالف الطرفين كما في الحملية والمتّصلة. فمن هذا ترتّب اجزائهما طبيعيّة. وإما متشابه الطرفين مثل الاخوة - كما في المنفصلة - فترتبّها وضعيّ فقط 5. فالحكم إما له، يعني مايلاحظ طرفاه بالاجمال ولو كان فيها نسبة. وإما عنده وعنه، يعني مايلاحظ طرفاه بنسبة تفصيلية، وان لم يكن قضيّته، 6 لاقبل التحليل ولابعده. أما الاولى فمشترك بين اهل النقل والعقل. وأما الثالث 7 فمختصّ بالثاني. واما الثاني فاختلفوا فيه. حتى الشافعي والحنفي.. فاهل النقل: على ان الحكم في الجزاء والشرط قيد. واهل العقل قالوا: بل الحكم بينهما باللزوم... فثمرة الخلاف كأثمار شجرة، أثماره اكثر من اوراقه.
فمنها: لو قلت: “ان تملكت هذا، فهو وقف او حرٌ، أوهي طالق مثلاً” فعند اهل
____________________
1 اعلم: ان الخبر والانشاء والوجود والعلم فيها اقوال. قيل في غاية النظرية، حتى لايمكن تعريفها. وقيل: مكتسبات، وقيل: في غاية البداهة. (تقرير)
2 في المركب في الجزء والانشاء..
3 الى
4 كلنبوي ص/ 14
5 ولذا لاينعكس ايضاً.
6 اذ ليس مركبة منها ولا الحكم ضروريّ.
7 والتقاسيم المذكور ايضاً حملي في صورة المنفصلة.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 274
النقل وفيهم الشافعيّ لغو. لان العلّة للقيد هو الجزاء. وقد وجدت ولم يصادف محلاً يقبلها 1 وشرط انعقاد العلّة قابلية المحلّ.
وعند اهل المنطق ومنهم الحنفيّ: العلة هي الشرطية. وانما تقرّر عند وجود المعلّق عليه، وعند وجوده تنعقد العلة.. واذ تنعقد العلّة تصادف محلاً ينتظرها منذ انعقادها.
[فقد ظهر أن أجزاء الخ] 2القضية معلوم وعلم 3.. فللاول نفس الحكم مع الطرفين. وللثاني هذه الثلاثة في الذهن المعبّر عنها بـ “تصوّر المحكوم عليه وبه” 4والنسبة، أي التامة الخبريّة المضافة 5 المدلولة للتركيب 6، لا البيّن البيّنة المعقولة 7. والاذعان الذي بين الذهن والخارج، كالنسبة التامة بين الطرفين، ويلازمه انقياد النفس.. ومن هنا يقال: “الايمان من التصديق المنطقيّ” ولابد في الاذعان من تصوّر المحكوم عليه بوجه. لان المجهول 8 المطلق يمتنع الحكم عليه.. وردّ: بأنه قد حكم عليه بـ “يمتنع الحكم عليه”.
واجيب: بأن المجهول المطلق بحكم 9 القاعدة كالمعقول الثاني 10، الذي يسقط المحمول على المعقول 11 الاولى الذي هو من موضوع القضيّة الذهنية الفرضيّة 12.
____________________
1 اي لايجوز التصرف في مال الغير..
2 كلنبوي ص/15، س/1
3 وباعتباره ليس بتصور ولاتصديق بل متصور وباعتبار كونه مادة للقضية سميّ بها.(تقرير)
4 التي هي الثبوت والاتصال والانفصال، فليس بجزءٍ عند القدماء. بل شرط ومتعلق للتامّة، لاعند المتأخرين، لكن لا مستقلاً. فالاجزاء ايضاً اربعة.(تقرير)
5 اي من مقول الاضافة.(تقرير)
6 ومحصلة الحركات الاعرابية. اذ المعاني الحرفية النحوية ينسبك بين لبنات كلمات الكلام، فيتلون باعطائها كلاً لوناً ويعلمها الحركات.(تقرير)
7 اي بين الوجود والعدم، اي السلب والايجاب..
8 ومنشأه من قاعدة وقضيّة المعلوم يحكم عليه بأخذ عكس نقيضه ثم مرادف الطرفين.(تقرير)
9 اي بحكم انه قاعدة، وموضوعات القواعد معقولات ثانية للافراد.(تقرير)
10 اي لاعنوان الموضوعات. فان له قوّة يذهب المحمول في طريقه على الافراد. (تقرير)
11 لانه ضعيف لامعنى له قابل للحكم.(تقرير)
12 وعلامته الاشتمال المحمول على الامكان والامتناع وغيرها من الامور الذهنية.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 275
وبحكم تحوّل الحرفيّ الى الاسميّ، والمعقول الثاني الى الاول، ليصحّ الحكم عليه في هذا التركيب، ليتجمد 1 ليتجمّد مع جلده، 2 فيصير من افراد المعلوم.. كأنك بعد تصوّر الموضوع ووصولك الى الحكم، وفي أنه تنظر اليه نظراً اسميّاً ومعقولاً 3 اولى غير ثابت 4. وبوصولك الى المحمول يمزق جلبابه فيصير معقولاً ثانياً، ناشراً جناحه. فمن هنا حلّ الخبر الاصمّ في قولك: “انا كاذب!” فيما اقول الان يعني: “انا كاذب” ولابد ان يكون الوجه ممّا يصحّ الحكم ويصيره مفيداً، فلاتتصوّر باعمّ الوجوه. لانه لايفيد، ولابما يدخل فيه المحمول 5، لانه عبث بل بالوسط بما بينهما. ولايلزم الاخصّ على الاعم، لانه آلة الملاحظة، نظير آلة الوضع، وليس في حكم عنوان المحكوم عليه 6.
[واللفظ الدّال على الوقوع الخ] 7لمّا كان لفظ المحكوم عليه وبه داليّن على مادة القضيّة، لابد أن لايخلو من الدّال على صورتها التي هي النسبة. والدّالّ إما ضمنيّ كالجملة الفعلية.. وإما مستقل؛ وهو إما غير لفظ كالحركة الاعرابية. ولهذه النكتة يقال في المبنيّ في محل الرفع للرابط.. واما لفظ؛ فعلى السلبية آلاتها.. وعلى الثبوت في الشرط ادواتها... وفي الحمليّ الافعال الناقصة والافعال العامة، والمراد من مصادرها المعاني الحرفية التي تتّحد نسبها. لان الكون والوجود ونظائرها حرفيّ واسميّ. فالحرفيّ عين النسبة التي هي الثبوت، الذي هو الوجود الحرفي.
[واعلم أن الموضوع... الخ] 8لمّا اشتمل الموضوع والمحمول على ذات ومفهوم؛ كان المراد من الاول الذّات، لانه يناخ عليه.. ومن الثاني المفهوم، لانه يوضع ويحمل على الاول. فلابد أن يكون بحيث يقوم بالغير. ولو كان المراد منها الذّات، لكان القضية إما موجبة ضرورية، او سالبة كذا لاغير وبلا فائدة.. او
____________________
1 اي معناه الهوائي.
2 اي مع لفظ المجهول.
3 صفة الاقرب.
4 اذ ينقض الان ثبوته..
5 اي لايجوز بأخصّ
6 حتى يستغني عن المحمول.
7 كلنبوي ص/15: س/13
8 كلنبوي ص/15: س/ 20


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 276
صفتين، فكذلك.. او الاوّل صفة، فكحمل الحِمل الحامل على خلاف الطبيعة. ويسمى المفهوم في الاول عنوان الموضوع، وموضوعاً ذكرياً. فقد يتّحد الذات الحقيقي حقيقة، كزيد كذا.. او بجهته ، كالانسان كذا.. وقد لا، كالكاتب ضاحك. ولابد بين الحقيقي والذكري من رابطة ونسبة وحقيقته ملخّص قضيته، تقرّرت نسبتها وعرفت. فمن هنا يقال: الصفات قبل تقرّر ثبوتها اخبار، وبعده اوصاف، وعنوانات بحذف الموصوف، ويسمى عقد الموضوع.
[فصل الحملية مطلقاً الخ] 1
لمّا كان اول اجزاء القضية الموضوع انقسمت اولاً به، فهو امّا جزئي حقيقة 2 او حكماً 3، وهو الواحد الاعتباري اي الكل.. ومن هنا يقال: يراد باللفظ 4 غير الواحد الحقيقيّ المجموع، لا أقلّ 5. لانه ليس مدلوله، وتسمى شخصيّة. ومحلها في المحاورات والمعاملات، لافي الفنون الاّ بتأوّلها في قوة 6 الكلية.. واما كليّ فالحكم إما على مسمّاه 7 كما في غير المتعارفة.. فأما 8 مع جواز سرايته الى الافراد كالحمل في كلّ التعريفات على القول به او مع عدم السراية.. لكن مع الملاحظة كالحمل في المسائل المنطقية 9، او بدون الملاحظة. كالانسان مفهوم ذهنيّ 10 او موجود ذهنيّ. وتسمىّ قضية طبيعية، وموضوعها استقراءات العلوم الطبيعية في البعض. وإما على ذاته، فمع الابهام مهملة 11 في الخطابيات 12 في قوة الكلية 13.. وفيما المطلوب 14 منه
____________________
1 كلنبوي ص/6 : س/ 5
2 كزيد او هذا.
3 كاسماء العلوم ومراتب الاعداد مطلقاً.
4 اي الجزئي الواحد الحقيقي فقط والكلي اما الواحد الحقيقي او المجموع.
5 اي اكثر من الواحد.
6 وكونه في قوته بثلاثة اوجه؛ اما بكونه كبرى الاول، او كانت كلاً مجموعياً باستمرار الكلية او تذكر شخصيات بعدد افراد الكلي.. تأمل! (تقرير)
7 ومن المحمول الذات كما. الخ.
8 اي او منهما المفهوم فهو اما الخ.
9 فيما المحمول كلياً منطقياً.
10 اي فيما المحمول معقولاً ثانياً من الامور العامة.
11 اي يستعمل.
12 وهو المبني على المبالغة كالتغزل والتمدح والتحسر والتأسف وغيرها.(تقرير)
13 فيما يكفي فيه الظن.
14 وهو الاصول مطقاً.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 277
اليقين، كما في مقام الاستدلال في قوّة الجزئية. لان البعض هو المحقق ومع التعيين. فان كان بالاحاطة فكليّة وسورها كل وتوابعه ومرادفاته، كـ “طرّة، وقاطبة” ونظائرهما 1؛ ركناً وقيداً، مقدّماً ومؤخراً. وكل الفاظ العموم 2، الوجوبي 3 الافرادي مطلقاً.
ومنها: الموصول، والاضافة، واللاّم. فلنعيّن اللام، لانها مثله. فاللام إما اشارة الى الذّات 4، واحداً او مجموعاً؛ وهو العهد الخارجيّ الذي في قوّة الشخصيّة.. وإما الى الجنس، لابشرط شئ وهو لام الجنس والعموم..او بشرط لاشئ 5، وهو الجنس والحقيقة.. وهما في قوة الطبيعة بقسمَيها 6، او باقسامها، او بشرط شئ 7. فمع عدم الاستغراق، فالعهد الذهني الدالّ على الجنس والفرد من ضرورة الوجود. فالانتشار والنكارة 8 ليسا منه، وهو في قوّة المهملة باعتبار، والجزئية بآخر. واما مع غرق الافراد في المعنى، وهو إما عرفيّ.. وامّا حقيقي. وكل منهما إما مجموعيّ، او جميعيّ 9. وإما إفرادي متناوب 10. او مطلقاً. 11 فاللام الذي هو سور الكليّة هو المشار به الى الجنس بشرط شئ مع الاحاطة الإفرادي مطلقاً.. وللسالبة خاصّة، لاواحد ولاشئ. او “ما” او “ليس” وما يرادفها.. او يرادفهما ولو في صورة الفعل، او الاسم.
____________________
1 كافة، عامة، تامة، جميعاً.
2 كمِن وما، والجمع المعرف باللام وغيرها.
3 اي لاالسلبيّ...
4 اي واحداً حقيقياً او اعتباريا شخصياً او نوعياً حضورياً او حصولياً. فالاقسام ثمانية. وهن عدم جواز السراية مع الملاحظة، او بدونه، كلاً بشرط شئ. وجوازه، كبشرط لاشئ.(تقرير)
5 اي عدم الافراد.
6 وهما جواز السراية وعدمها. فالاول هو الاول، والثاني هو الثاني.(تقرير)
7 وهو الافراد.
8 وهو الفرق بينه وبين النكرة. يعني ان لام العهد اشارة الى الجنس المعهود في الذهن. ولابد للوجود من الافراد. اذ الماهية المجرّدة ليس، فالمعهود هو الجنس والفرد ضرورة وجوده. ولعدم تعيينه كان نكرة. أما النكرة فدالّة على المنتشر أصالة. ولابد تعيّن الكمية. ك “لا، او بعضاً” مهملة وباعتبار تعين عن كل بعض غير معين جزئية.(تقرير)
9 وهو إما لادخل لكل فرد في الحكم، “كالاعراب اشرف الاقوام”. وإما له، كـ “الفقهاء يحملون الصّخرة”.(تقرير)
10 كهذه الرغيف يشبع كلّ القوم. او متعاقب، كل القوم جاءني.(تقرير)
11 والكل معرفة غير العهد الذهني باعتبار عدم تعين الافراد.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 278
وللجزئ دخول سلبٍ ما على كلّ مايدلّ على كلّ، وعلى سور الموجبة الجزئية.. نحو: “نيف، وطائفة، ورهط، وقطعة، وبعض” ومايرادفها. وفي المنفصلة “دائما وابداً” ومايرادفها. وفي السّلب الكليّ فيها “ليس ألبتة” ومايرادفها. وفي الجزئيات “قد يكون وقد لا يكون وقد لايحصل، ولايوجد، ولايثبت” وما يرادفها 1 من الافعال العامةعلى صور النسبة.
(كلّ. ج. ب. فلنا “كلّ” و “ج” و “ب” فكلّ اي كلّ فرد 2، لا الكلّ المجموعي ولاالكلّ الطبيعي 3.. 4“فج” اي ماصدق عليه “ج” لا ما حقيقته او صفته”ج”. 5 6 وماصفته. “ج د” فما صفته “د ج” او “ب” فهو “ذ” فهلم جرا.)
[وصدق عليه، اي بالفعل الفرضي] 7: لدخل العنوان في ماهية القضية وامتزاجه فيها. ومصدريته غالباً للمحمول، فلايجعل ظهرياً، كأنه اجنبي. فلابد أن يلتبسه الذات - على مذهب الشيخ ولو خيالاً.
[لابالفعل الخارجي] 8اي في احد الازمنة لإختصاصه بالخارجية. لانه في الحقيقي الذات ممكن، فكيف يتّصف بالفعل . ومالايثبت لا يثبت له.
[ولا بالامكان] 9(هو مذهب الفارابي) اي الذاتي لا بالقوّة، ليدخل في الانسان النطق.
____________________
1 كليس، بتة، وبتلة، واصلاً، وقطعاً ومايرادفها.(تقرير)
2 اي مطلقاً، لاعلى سبيل البدلية.
3 يعني الطبيعة.
4 وانما انتفيا لعقم الضرب الاول من الشكل الاول، بسرّ عدم تكرر الاوسط حقيقة: كزيد انسان، وكل انسان الف الف نوع.(تقرير)
5 وللعقم في الاول، والتسلسل في الثاني. مثلاً: “الانسان حيوان” وما حقيقته حيوان فالناطق خارج عنه.(تقرير)
6 والحال ان الناطق ذاتي للانسان.
7 شبيه بمتن كلنبوي ص/ 16 - 17
8 كلنبوي ص/ 16، 17
9 كلنبوي ص/ 16، 17


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 279
[من جزئياته لا من مسمّاه]
1فلو كان منه لكان اكثر الكليات كاذبة. مثلاً: “الانسان كاتب” فمفهوم الانسان وهو الحيوان الناطق ليس بكاتب.
[او مساويه] 2 او اعمّ منه للتكرار المحض والعبث البحت. ففي “كل انسان ناطق” الناطق ناطق بعنوان. لا القضية الكليّة على الاصحّ. في قوة قضايا متعددة بعدد ما صدقات موضوعها. ومن هنا يقال: “للقضية كليّة لفروعاتها”.
[الاضافية المناسبة لا الحقيقي] 3 فقط. لانه قد يكون الجنس موضوعاً وجزئياته لاينحصر في الحقيقة المناسبة لامطلقاً.
[ولا الاضافي المطلق لذاته لالمفهومه] 4الذي هو نوع بالنسبة اليها، والاّ لاختلت .
[يصدق عليه مفهوم “ب”] 5 والاّ لم ينضبط لحصولها بعوارض وقيودات غير محصورة.
[لا ذاته] 6 والاّ لانحصر القضية موجبة وسالبة في الضرورية والحمل والاتحاد.
[ولاكلاهما] 7 لان الممتزج من الطاهر.. والنجس نجس الاّ في المنحرفات 8. كـ “الكاتب بعض الانسان”. كل ذلك في القضايا المتعارفة المستعملة في الادلة.. والا فمن المنفيات 9 ايضاً قضايا.
[فصل: الحملية مطلقاً الخ ..]10
الحملية تنقسم الى خارجية وذهنية باعتبار الموضوع، لكن بالنظر الى المحمول. ففي الخارج المستفاد من الخارجية ظرف لنفس النسبة والحمل، لا لوجوده حتى يوجد. ومن هنا يقال: لايلزم من الحمل الخارجي أن يكون مبدأ المحمول خارجياً.
ثم ان ذات الموضوع بعد امكانه 11 في نفسه إن وجد - ولو في زمان مّا - فخارجية 12 خارجيّته ليس حقيقة. ففي الخارج 13 ظرف لوجوده مع صدف
____________________
1 كلنبوي ص/ 16، 17
2 نفسه.
3 نفسه.
4 نفسه.
5 نفسه.
6 نفسه.
7 نفسه.
8 بناء على تأوّل..
9 اي قيوداته.
10 كلنبوي ص /17: س/ 12
11 ولو كان محالاً عادياً لا حقيقياً.
12 ليس ذهنية.
13 غير الاوّل.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:04 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 280
العنوان عليه بالفعل او بالامكان. فان لم يوجد وهو بحيث لو وجد 1 لزوميّةً 2 واتصف بالعنوان، فهو بحيث لو وجد ثبت 3 له الحمول، وما يستفاد 4 من هذه الشرطيّة من اللزوم وأعميته للمحال 5 غير مراد.
فقد يقال 6: “ج. ب” بالامكان 7، بالامكان، بالامكان. فالاوّل جهة القضية المستفاد من الذّات 8 مع وجوده. والثاني منه مع عنوانه، عند الفارابي. والثالث منه مع المحمول... ورابعاً للمحمول. ويدل على خارجيته الخارجية كون المحمول من العوارض الخارجية ، وان كان العوارض الذهنية، كما في القضية السالبة 9 المحمول. “وزيد ممكن” فهو ذهنية. وبعد وجوب 10 وجود الموضوع في الذهن وقت الاثبات مطلقاً 11، تنقسم باعتبار الثبوت الى ذهنية حقيقية وفرضية، كما في المحالات 12 التي لاتوجد في الذهن على الاصح، الاّ بنوع تشبيه او تمثيل. او لايوجد مطلقاً كـ “المجهول المطلق” و”المعدوم المطلق”.
[فقولك اجتماع الخ..] 13 ومن ممهّدات هذا المقام: أن الايجاب وجود.
____________________
1 فعل شرط مقدّم.
2 أى انه ليس بمعدوم حتى تنقطع الروابط في الكائنات وليس بموجود حتى يلزم على الجزء الغير المتجزى موجودات كثيرة من الروابط، بل للنسبة من الامور النسبية، كالابوة والبنوة والاخوة وغيرها، ليس هذا ولا ذلك. (تقرير)
3 جزاء شرط تالي.
4 اي تحليل موضوع الحقيقي بشرطية.
5 بل التعبير في التقدير يكون كذلك.
6 اى ان لو يشتمل الحال الحقيقي وموضوع الحقيقي لا يكون كذلك وايضاً يستفاد منها اللزوم بين المحمول والموضوع ومحمول الحقيقي اعمّ من كونه لازماً وغيره، فأجاب.(تقرير)
7 مقدّر بـ “لو”
8 اي ذات الموضوع موجود.
9 اي بأن تأخر اداة السلب غير غير. ولا كـ “ليس” وغيرها من الرابطة. وكان المحمول من العوارض الذهنية، فانها ذهنية. فتأمل .(تقرير)
10 اي لابد ان يكون الموضوع موجوداً في الذهن، ولو بأعم الوجوه بالتمثيل في بعض ونفس العنوان فقط، في آخر وقت اثبات المحمول له، وبعده الثبوت بالفعل متوقف على الوجود. فان وجد ثبت، وهو الحقيقة.. وإلاّ فلا، وهو الفرضية. (تقرير)
11 حقيقة او فرضية.
12 فانها لاتقع فيه بعنوان الامتناع والاصالة، بل في الخارج.
13 كلنبوي ص/ 17: س/ 22


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 281
وهو يوجد بوجود تمام أجزائه. يعني بوجود الموضوع الاسميّ على أحد الوجوه 1 الاربعة 2. ووجود المحمول له الحرفي على احد الوجهين 3 والسلب عدم، فيتحقق بعدم ايّ جزؤ كان. فلصدقه طريقان: عدم الموضوع الاسمىّ.. او عدم الثبوت الحرفي. وليس السلب عين كذب الموجبة مفهوماً. بل يتلازم معه، فانه حكم بصدق عدم، وذاك كذب صدق وجود.
ومنها: ان المحال لايتصوّر الاّ بنوع محاكاةٍ وتشبيه.
ومنها: أن وجود الموضوع، لاسيما في الذهنيات في الذهن وقت الحكم ضروريّ في الايجاب والسلب. وانما الفرق في وقت الثبوت. والفرق بين الوجودين في الاثبات والثبوت؛ إن الاول يكتفى فيه بوجه مّا اجمالياً، وفي الثاني لابّد وجوده على جهة تصلح للاتصاف.
ومنها: أن ذات الموضوع لابد ان يكون ممكناً في ذاته في الخارجيات 4. ومايتوهم من “لو” الفرضية المستعملة في تعريف الحقيقة فليس بمراد لهم. وانما ارادوا بها الاشارة.. الا ان الشيخ يفرض الموضوع متصفاً بالعنوان..
اجتماع النقيضين ممتنع تحليله... اجتماع النقيضين الموجود في الذهن تحقيقاً او فرضاً له، وهو في الذهن يثبت لمصداقه وهو في الخارج في الذهن 5، ممتنع في الخارج. ففي الخارج قيد المحمول لا الحمل. وكذا في بعض الاحيان في الذهن والجهات.
ومنها: أن النقيض نظير نقيضه 6 في الاحكام. والاّ لم يكن النقيض نقيضاً.
[فصل في العدول والتّحصيل ... الخ] 7
اعلم! أن بسبب العدول في تحصيل العدول، والتحصيل عن الموجبة السالبة
____________________
1 فة الوجود.
2 المحقق الخارجي، والممكن الخارجي، والمحقق الذهني، والفرضيّ الذهني.(تقرير)
3 الخارجيّ والذهني.
4 الخارجية والحقيقة.
5 متعلق بيثبت.
6 لاقربيّته في الذهني له.
7 كلنبوي ص/19: س/ 12..


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 282
المحمول بظنّها سالبة او معدولة، اختل كثير من قوانينهم. حتى الايجاب في صغرى 1 الاول. وحتى وجود الموضوع في الايجاب.
فنقول اولاً: لمّا كان المعتبر في القضية الموجبة ذات الموضوع، ومفهوم المحمول كان لعدول المحمول تأثيراً مهمّا في صورة القضية، فلهذا اعتبروا العدول والسالبة المحمول؛ باعتبار المحمول اولاً وبالذات. وفيها اثبات: والشئ مالم يثبت في نفسه ، فالاصل أن لايثبت لشئ. ومالايثبت، لايثبت له شئ. والاصل ثبوت مايظهره. فثبت ان الاصل تحصل عنوان الموضوع والمحمول. فلنا ثلاثة ملتبسة:
السالبة البسيطة. والموجبة السالبة المحمول. والموجبة المعدولة. فالاخيرة تفارقهما معنى، بقابلية الموضوع لمدخول النفي صريحاً او ضمناً، كالصريح بشخصه في زمان الحكم. وقيل مطلقاً.. وقيل بنوعه.. وقيل بجنسه.. وايضاً، لان الثبوت الحرفيّ فرع الثبوت الاسميّ. والعدميّ لاثابت، فيشف عن امر ثبوتيّ. وهذا 2 لازمه البيّن ليتّسعه في الثبوت، ولفظاً بعين وغيره. وتفارقهما الموجبة السالبة المحمول. بانها مخمّسة الاجزاء ، مكررة النسبة السلبية في الملاحظة. وقضية ذهنية باعتبار ان المحمول هو السلب الذي هو ذهني. ولايلزم في موجبها الاّ وجود الموضوع في الذهن.. ولو كان المحمول الظاهريّ خارجياً.
ومن هنا، تراهم يقولون: “هي كالسالبة البسيطة، لاتقتضي وجود الموضوع”.
[تنبيه: قد يحكم بثبوت الخ] 3ان الموجبة المحصّلة تتلازم تعاكسياً عند وجود الموضوع.. وملزوماً فقط بدونه، مع السالبة، السالبة المحمول والسالبة المعدولة. وانّه تكرر النفيّ، فهما مع عدمه فيها. والسالبة المحصّلة تضادهما.. وتتلازم تعاكسياً، الاّ في الذهن مع الاول. وبالتفصيل مع الثاني.
[“فصل” الحملية مطلقاً الخ..] 4
اعلم! أن طبيعة القضية أن يقّدم عليه سوره، لانه كميّته. ثم النسبة... وتقدّم
____________________
1 الشكل.
2 اي العدمي.
3 كلنبوي ص/20: س/ 17
4 كلنبوي ص/ 20: س/ 25
صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 283
عليها جهتها، لانها كيفيّتها. ثم المحمول، وقد تعدل عن طبيعتها. وصدق الموجبة تقتضي صدق ثلاث قضيات ضمنيات:
الاولى: ثبوت المحمول للموضوع
الثانية: ثبوت المحمول للموضوع بهذا السور.
والثالثة: ثبوته له بهذا السور ضروري مثلاً. وصدق السلب بعدم احدها، والظاهر توجّه السلب الى أخص القيود. فالكذب والصدق في المسّورات باعتبار السّور، وفي الموجهات باعتبار الجهة.
تنبيه: وممّا يلزم للمحصل أن يراعيه أن لايصيّر القاعدة منحصرة في المثال.. كما تخبّط فيه كثير. فان المنطق يبحث عن الضرورة واللاضرورة والدّوام، كذلك والامكان. مع أن مرادهم الضرورة، هي، ومايرادفها من الوجوب واللزوم والقطعية، حتى البداهة واليقينيّة.. ومن الامكان، هو، ومايرادفه من الصحة والجواز والاحتمال، حتى الشك.. ومن الدّوام، هو، ومايماثله: كـ “ابداً، وفي كلّ وقت، ومستمرّ، وعلى كل حال ونظائرها.. ومن “لادائماً، ولابالضرورة” ليس لخصوص، لاضرورة تأثير. بل قد يكون معنى لا في قالب الفعل صريحاً، كـ “ليس” او ضمناً، كـ “امتنع”. ومعنى الضرورة والدوام قد يكون في ضمن الفعل والحرف. كـ “ينبغي، واستمر، وقط، وعوض، وانّ”.
وايضاً قد تكون هذه الجهات جهاتاً لعقد الوضع.. وقد تكون قيوداً واجزاءاً للمحمول.. فتنبّه والاّ تقع في حيص بيص.
ومما وجب التنبيه له: أن سلب الضرورة نقيض ضرورة السلبّ، وسلب الدوام نقيض دوام السلب، وسلب الامكان معاند امكان السلب. ففي القضية السالبة - إن قدرت السلب بعد الجهة - كان سالبة لموجبة موجهة، لاسالبة موجهة.. والاّ فهي موجهة بتلك الجهة.
ثم انا لجهة كيفية النسبة باعتبار، ومادّة للقضية باخرى. ولابد في نفس الامر منها. فان كانت في اللفظ ايضاً، فموجهة. ومن الموجهة المقيدة بالاطلاق.. والاّ فمطلقة.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 284
تنبيه:
للنسبة حالات. فمن الامكان الاستعدادي الى الاطلاق سلسلة أفعال المقاربة.
ثم للثبوت صور وكيفيات. فمن صوره الافعال الناقصة. ومن كيفيات اثباته افعال القلوب ومايشير اليه الحروف المشبهة ونظائرها. واساسها يرجع الى الطبقات الثلاثة المشهورة. فانّ النسبة ثبوت وهو وجود حرفيّ. والوجود بالنسبة الى الشئ إما واجب، او ممتنع، او ممكن. وللوجوب والامكان مراتب متفاوتة النتائج والجهات، التي بيّنها المنطقيّون، التي كثر استعمالها قليلة العدد.
اعلم! ان اساس الموجهات 1 إما اثنان، كالوجوب - وجوداً وعدماً - والامكان.. او اربعة، كالضرورة، واللاضرورة، والدوام، واللادوام.. ومنها السلاسل: او ثلاثة عشراً، وبين خمسمائة وألف.
ثم القضية مركبّة وبسيطة. والمركبة قيّدها قضية ضمنية. وفي مقابلة كل ضرورة امكان. واصول الضرورة ست: الضرورية الأزلية، والذاتية الناشئة، والذاتية المطلقة، والوصفية، والوقتية، وبشرط المحمول. لان ضرورة ثبوت المحمول إما غير مقيّد قطعاً وهي الازلية، او مقيّدة بقيد داخل: كمادامَ الذات ذاتاً وهي الناشئة. ومادام الذات موجوداً، وهي الذات المطلقة. او بشرط المحمول، او بقيد خارج ناعت، وهي الوصفية بانواعه الثلاث، بل عشرين او لا. وهي الوقتية بانواعه الاثنين، بل اربعة واربعين.
ان الضرورية الازلية مصداقها في الاوصاف الالهية: الثبوتية والسلبية 2 وفي كثير السوالب 3. فانه اذا سلب في وقت 4 وجود الموضوع، استلزم عند عدمه بالطريق الأولى، وهو يستلزم ازلاً.
والضرورة الناشئة، وهي ان تنشأ من الذات. اعني مادام الحقيقة حقيقة. اي لاتنقلب الى حقيقة اخرى الذي هو محال.. لابد من المحمول ومصداقها في
____________________
1 كلنبوي ص/ 22: س/ 19 مضموناً، وعلى الرغم من تضمن الكتاب مضامين كهذه فالموضوع مستقل الى الاخير. ع. ب.
2 والسبع.
3 فيما علم عدم الثبوت في مدة الوجود. تأمل!.
4 كقولك: فلان ليس بعالم.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 285
الموجبات، الاوصاف الالهية 1 ليس الاّ . فان بعدم العلم مثلا، ينقلب الواجب ممكناً. وبعدم الناطق للانسان يصير معدوماً، وهو ليس بمحال.
وأما سلب الانواع او لوازمها من انواع اخر، فتصدق فيها الناشئة. فان الانسان ليس بفرس، 2. إن لم يصدّق انقلبت حقيقة الانسان الى الفرس وهو محال.
والضرورية الذّاتية، اي المطلقة. لان القيدَ الوجودُ على احد الانحاء، والوجود 3 نفس الذّات. فان كان القيد خارجاً؛ فان كان وصفاً فهو مشروطية ظرفية.. إن كان منشأ الضرورة 4 الذات ومشروطة شرطيّته ان كان للوصف دخلٌ،كالدهن الحارّ ذائب. ومشروطة أجليت إن كان المنشأ الوصف، كالكاتب متحرك الاصابع… وكلّ من هذه الثلاثة قد يكون عنوانها ضرورياً 5 للذات، وقد لا 6، وإن كان القيد وقتاً، فوقتيتّه إما معيّن، او وقت منتشر. وكل منهما إما من اوقات الذات، او من اوقات الوصف. فان كان بشرط المحمول فالضرورية بشرطه. واساسه: أن كلّ ممكن موجود محاط بوجوبين بالغير 7: وجوب سابق بوجود العلة التامّة 8، التي يمتنع تخلّف المعلول عنها.. ووجوب لاحق وهو وقت الوجود 9، يمتنع عدمه للزوم جمع النقيضين 10. فالضرورية بشرط المحمول ناظرة الى الوجوب اللاحق صريحاً والسابق ضمناً.
الازلية أخصّ الكلّ، واعّم من الناشئة باعتبار. ،والناشئة أخص الكلّ.

____________________
1 التي هي عين الذاتي والسبع القديم لا الغير. تأمل!.
2 او ليس بباقر.
3 فكانه غير مقيد.
4 كالكاتب حيوان.
5 كالانسان حيوان.
6 كالامثلة.
7 اي لاممكن ثابت، كالاعتياديات. فانه لايحاط بوجوب اصلاً. لانه يقتضي العلة التامة. ومن هنا ينكشف الجزء الاعتباري . فتأمل!(تقرير)
8 اي ان الوجوب حاصل وملزوم للعلة التامة، وهو ارادة الله جل وعلا. اذ الممكن لايوجدحتى يوجب. ووجوبه هو تعلق الارادة الكليّة، وهو العلة التامّة. اذ بالتعلق يمتنع التخلّف، فيصير واجباً. فتأمل حق التأمل!.(تقرير)
9 اي في آن الوجود. وأما وقت البقاء فهو باعتبار العلة التامة. تأمل !.(تقرير)
10 اذ لو لم يكن واجباً، يكون ممتنعاً فيجمع مع مقتضى العلة.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 286
ثم الذاتية أخص ممّا بعده.. الاّ ان في أخصيته بالنسبة الى المشروطة الاجلية والشرطية نظراهرّ 1. والصفية أخص من الوقتية.. والمعينة أخص من المنتشرة.. الدوام الازلي والذاتيّ اعم مطلقاً ممّا يقابلها من الضرورة. ومن وجه مما عداه. والذي يركب به القضيّة ما يدل على معنى لا دائماً ولا بالضرورة، باي لفظ وباي صيغة كانت. والقضية لايقيّد بنفي المساوي والاعمّ، بل يقيد ويركّب بنفي كل ما كان أخص منه، او اعمّ من وجه. والدوام أزلية وذاتية ووصفية كالضرورة. الا ان الانفكاك ممكن غير واقع الضرورة الازلية، تتركب بنفي الضرورة الناشئة. والناشئة بسيطة ابداً. والذاتيّة لها ثلاث مركبات بنفي الضرورة الازلية والناشئة والدوام الازلي.
والمشروطة: بأقسامها الثلاثة او الستة تتركب بنفي سوابقها مع الدّوامين 2. فلها خمسة عشر او ثلاثون.
والوقتيّة: بأقسامها الاربعة تتركب بنفي سوابقها. والدوامين، فلها إما اربعة 3 وعشرون او اربعة واربعون 4.
وبشرط المحمول: تتركب بنفي كلّ ما كان أخص منها. فلها 5 خمسة عشر...
والضابط في نسبها: ان المقيد بنفي الأخصّ أعمّ، وبنفي الاعمّ أخصّ. ومن وجه، فمن وجه.
فاذا فرغنا من الضرورة 6، فلنشرع في اللاضرورة بسرّ الترتيب.. واللاضرورة هي الامكان 7 الاّ ان الامكان اي جهة كان فاللاضرورة التي هي معناه تتصرف في الجانب الآخر.. وبالعكس فهما مترادفان 8، متخالفان 9. ومن هنا يقال:
____________________
1 في الاصل المخطوط كذا. ولعل معناه: “نظر ارعى الرعاة” ع.ب.
2 الذاتي والازلي.
3 بعد الوصفية واحدة.
4 بعد الوصفية ستة.
5 بعد الوصفية ستة، والوقتية اربعة مع الدوامين.
6 وايضاً الضرورة عقلي وشرعي ووصفي. والاول هو هنا.(تقرير)
7 الحاصل: إن ذكرتهما وجعلتهما جهة فالامكان أعمّ، اذ يقع على نفسه. واللاضرورة فيه يقع على جانب الاخر المخالف. فان بدلت الامكان باللاضرورة ، يجتمع النقيضان. (تقرير)
8 مآلاً.
9 باعتبار المكان.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 287
كان الامكان نقيض الضرورة 1 واعمّ منها 2. وان كان بالامكان متعلقاً بالمحمول فالقضية ضرورية 3.. فزيد قائم بالامكان 4 بالضرورة. لمّا كان الامكان لاضرورة، والضرورة تتصوّر بصور كثيرة؛ كما في الشرطية 5 باللزوم والذهنية بالبداهة.. والقضية البسيطة بالوجوب 6. كذلك الامكان يتلون 7، والوجوب ذاتي في مادة الضرورة 8 الازلية والناشئة، وبالغير في غيرهما.
وقد يكون الامكان مقابلاً للمطلق 9. اي الامكان بالقوّة المسمّى بالاستعدادي، وليس من الموجّهات. والامكان الذاتي المقابل للضرورة الذاتية الخارجية لايستلزم الامكان الذهني المسمىّ بالشك، والاحتمال المقابل للضرورة الذهنية المسمّاة باليقين والبداهة والعلم.
ومن هنا يقال في بداهة الوهميات المحسوسة في العلوم العادية 10 : “ان الامكان الذاتي لاينافي اليقين العلميّ” 11، فبحر الـ “وان” ليس بـ “دوشاب” 12وجبل “سيبان” ليس بـ “بشكر” في الشتاء، وعسل في الصيف 13 والامكان بسيط، اي عام ومركب، اي خاصّ. والبسيط: إما مقابل المطلقة 14، اي لادائماً.. اي بالفعل، فهو
____________________
1 باعتبار ان معناه اللاضرورة.
2 فظاهر فزيد قائم بالضرورة بالامكان.
3 اما في نفس الامر فقط او فيهما.
4 اي القيام الممكن ضروري. وكذا ان جعلت اللاضرورة قيد المحمول فتكون المعنى: أن القيام الواجب ممكن. اي عدم القيام الواجب ليس بضروري.(تقرير)
5 الامكان المقابل هو الاتفاق.
6 اذ الوجوب اذا كان المحمول وجوداً ضرورة.
7 كالامكان والاتفاق والشك.
8 اي موجباتهما، اما سوالبهما فالعدم ذاتيّ.
9 اي للضرورة بشرط المحمول وهو المطلقة.
10 اي علم هو العادة.
11 لان اليقين العلمي الحاصل من الوهميات لايزول مالم يجئ عن دليل وامارة. اذ الاصل البقاء على حاله.(تقرير)
12 اي الآن باليقين العلمي، وان كان بالامكان الذاتيّ.(تقرير)
13 الاولى: “ليس بمِعْلَقٍ (باغجك)، او “ليس بخبز (ينان) ليناسب في الاكل ايضاً. - للكاتب.
14 اللادوام والاطلاق وبالفعل وبشرط المحمول مترادف. الاّ ان الامكان المقابل للاخير غير ما يقابل ماتقدم.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 288
الامكان الاستعدادي 1. ومايقابل البداهة فالامكان الذهني.
ثم مايقابل الازلية والناشئة 2، فالامكان الذاتي، نظير الوجوب الذاتي. ومايقابل الضرورة الذاتية والوجوب بالغير. فالامكان العاميّ. ومايقابل الوصفيّة بأقسامها، فالامكان الحينيّ 3 اي في حين ما من احيان 4 الوصف التي ثبت الشرطية في كلها. وما يقابل الوقتية المعينة فإمكان وقتي، وما يقابل المنتشرة اي وقت ما كالنكرة فالذي يقابلها ويضادها الامكان الدائمي المحيط الذي لايفلت من يده الفرد ما المختفى. ومايقابل الضرورة بشرط المحمول المستلزم للمقابلة لكل الضرورات، إمكان وقوعي. ويسمى امكاناً - بحسب نفس الامر - ان كان بسيطاً 5 وامكان استقبالي 6 ليس الاّ ان كان مركبّ اي خاصّاً.
ان للامكان العام البسيط المتضمن للاضرورة ما، الذاهب الى جانب الخلاف مركبات بسبب كونه أعمّ بنفي كل ما كان أخصّ من الضرورات الاحدى عشر، والدوام الثلاث والمطلقات الخمسة 7، ومن اشهرها الامكان المتضمن لللاضرورة الذاتي، والمقيد ايضاً، المسمى بالامكان الخاصّ 8 والجواز. وفي الذهنية باعتبار الوقوع، وفي غيرها باعتبار الايقاع، المسمى بالشك والتردد والاحتمال.
فاذا فرغنا من الضرورة واللاضرورة فلنتمسك باذيال الدوام واللادوام.
____________________
1 وهو غير الامكان الوقوعي اللاتي. لان في هذا لايجوز الحمل، فلايقال: “النطفة انسان” بالامكان الاستعدادي بخلاف الوقوعي.(تقرير)
2 اذ الناشئة والازلية نظير الوجوب الذاتي وان لم يكن المحمول وجوداً.
3 كالكاتب ضاحك. بالامكان اي ان البكاء ليس بضرورة له مادام كاتباً.(تقرير)
4 اذ مايقابل جميع اوقات الوصف الحين.
5 وهو الصرف الحالي في الكل، لمقابلته المطلق.(تقرير)
6 فالاستقبال معتبر في المحمول. لانه سلب مطلق الضرورة من الجانبين. وهو لايمكن الاّ في الاستقبال. لانك إن قلت: “زيد قائم” مثلا بالامكان الخاص، واردت سلب الضرورة باقسامه من الجانبين، كان المعنى: “ان الضرورة القيام مطلقاً، مسلوباً في العدم والوجود وهو محال.. الاّ ان تعتبر في الاستقبال ، بان تقول فيها: “غدا.... مثلا. اي ان قيامه وعدمه الآني ليس بضروريّ الآن، لانه عدم ولايحكم عليه بها.(تقرير)
7 الاربعة الوقتية والمطلقة.
8 ايضاً اي الامكان الخاص يقابل كلّ واحد منها، كالعامّ. وقد يقابل الرابع والخامس والسادس والسابع معاً. وهو ليس بصرف. (تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 289
اعلم! ان الدوام شمول الازمان، ككل للافراد. ويتضمن الموجهة لثلاث قضيات، وقد يكون المقصود احدها. فينص عليها. وفي ما كان المراد القضية المستفادة من الجهة، يقال في موضع هذا ذاك دائماً. “مابرح، ماانفكّ، مازال، مافتئ” ونظائرها وامثالها في الدوام الذاتي... و”مادام” ومايرادفه في الدوام الوصفيّ.
ثم ان للدوام اقساما ثلاثة: الدوام الازليّ.. ويدل عليه ازلاً وابداً وسرمداً. وفي القدم، سواء كانت قصداً او قيداً. وهذا الدوام لمّا كان أعمّ مطلقاً من اوّليتي الضروريات، ومن وجه من الباقيات: تقيد وتركب بنفي كل منها.
والدوام الذاتي: لما كان أعمّ مطلقاً من الثلاثة الاول من الضروريات والدوام الازلي، ومن وجه من بواقي الضروريات، يركّب مع نفي كلّ منها.
والدوام الوصفي: سواءً كان الوصف ايضاً دائماً للذات، او لا أعمّ مما سبق.. يتركب مع نفي كلٍ منها سواء كان هو المصرّح او قيده.
اما اللادوام، المتضمن للمطلقة العامة التي “الاطلاق” قيدها المرادف لبالفعل. اما غير منظور فيها الى الوقت، وهي المطلقة العامة العامة. واما منظور فيها للوقت، وهو إما معين او مبهم. وكل منهما إما وصفيّ او ذاتيّ. فالفرق بين وقت الضرورة ووقت المطلقة في التعبير؛ أن تقديم المطلقة على الوقتية علامة المطلقة. وتقديم الوقتية عليها، علامة الضرورة. والفرق بين مركب الضرورة وبسيطها؛ أن اسم البسيط مركب مع المطلقة، والمركبة بسيط.
ثم ان للمطلقة “بأقسامها الخمسة” الأعمّ من كل ماسبق غير، بشرط المحمول والامكان العام تحصل لها مركبات بعدد نفيها. ومن اشهرها: المقيدة باللادوام الذاتي المسماة بالوجودية اللادائمة.. وباللاضرورة الذاتية المسمّاة بالوجودية اللاضرورية.
فاعلم! ان النسب في المنطق كبيت العنكبوت.. وبواسطتها تصطاد الصفات العالية التي لها تعلّق مهم لمقاصد المنطق، والتي كالاجناس للمتناسبات.
ومما يجب التنبيه له؛ ان الامكان العام أعمّ من الضرورة، وهو نفي الضرورة. فأعميته باعتبار الجانب الموافق، والاّ فنقيضه. وله بحسب الاستعمال نوعان: ناظر الى الوجود، هو أعم من الواجب.. وناظر الى العدم، هو أعمّ من الممتنع.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:05 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 290
وايضاً: أن القيود في تعاريف هذه الموجّهات؛ لابشرط شئ، لابشرط لاشئ او بشرط شئ.. والا لكان المنتشرة مباينة للوقتية. فالابهام غير متعيّن للقيدية.
وايضاً: كما أن القضية تنحرف عن طبيعتها باعتبار السور؛ ك “الحيوان كلّ الانسان”. وقد تكون مهملتها في قوّة الجزئية او الكلية . كذلك، الموجهة تنحرف عن طبيعتها والمهملة عن الجهة، قد تكون في قوة المشروطة او العرفية؛ بحكمة: “أن الحكم على المشتق” او مافي حكمه يدل على علّية مأخذ الاشتقاق، او ظرفية للحكم.
وقد تلتبس مهملتها على الاذهان، التي بحسب الصورة من الضرورات الناشئة.. وبحسب الحقيقة من العرفية والمشروطة. وهي فيما تنقلب صورته النوعية حقيقة، او حكماً الى غيره؛ ك “الماء اثقل من الهواء”. او “الالف لاتتحرك”. ومن هنا يقال: العرفية والمشروطة مع كون العنوان عين الذات، توجد بدون الدوام الذاتي والضرورة الذاتية.
اعلم! أن الكلام الواحد قد يتضمن قضايا متعددّة، بالنظر الى قيوداته. ففي اي قيد تمركز القيد، تأصل واستتبع اخواته.. فيتلوّن بأشكال متنوعه، حتى قد يستخدم ماكان مخدومه.
وللضبط وعدم الانتشار اختصر لنا القضايا والاشكال اختصاراً. ففي شكل من الموجهات المركبّة الكلية قد تشتبك اربعة اشكال في شكل، والنتيجة الواحدة تمتزج فيها اربعة نتائج، المستخرجة من ضمّ القضايا الضمنية من الصغرى الى الكبرى او توابعها. فمن هنا، قسمّوا الموجهة الى المركبة ايضاً.
ثم ان الجهة والسور معينان، ليس بينهما ترتّب طبيعي كما في معاني علم المعاني، فكما يقدّم الجهة على السور؛ يتقدم هو عليها معنى، فتكون الجهة كيفيّة للقضية المستفادة من السور. فيكون الاطلاق بالنسبة الى الزمان الماضي والحاضر.. والامكان بالنسبة الى زمان الاستقبال وقس!.. وقد يتوهم ان تقدم السور على الجهة، يستلزم الكل الافرادي. وتأخره يفيد الكل الاجتماعي. وامكان الشئ بحسب الافراد. مع قطعيته قد يتطرق الشك اليه بحسب الاجتماع. لان كثيراً مايتولدّ المحال من اجتماع الممكنين.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 291
ومما يدل على المشروطة الخاصة، والعرفية الخاصة، والوقتية والمنتشرة، بل المركبات مطلقاً المفهوم من المفهوم المخالف بأنواعه المعبّر في المقام الخطابي المكتفي بالظنّ، فيكون القضية بسيطة لفظاً، مركبة معنى. ولما لم يكتف اهل الاستدلال بالظن، اضطرّوا للتقييد والتركيب لفظاً.
[تنبيه: الضرورة تطلق عندهم ... الخ] 1اعلم! أن موضوعية الموضوع غير محموليته.. وغير محمولية المحمول والجهة كيفية للاول. فان محمولية الواجب الاعمّ ليس بضرورية مع ضرورية القضية؛ كـ “الانسان حيوان” وفي الخاصّة الفارقة موضوعيّتها ضرورية، دون محموليّتها.. كـ “الكاتب انسان” بالضرورة.
ثم اعلم! ان القضية كما تتركب باعتبار القيود المشهورة، كذلك تتركب وتتعدد باعتبار تعدد الموضوع او المحمول لفظاً 2 او في حكمه 3 وقيل او معنى.. فان كان الجزؤ جزئياً، او جزءاً محمولاً؛ كان قياسياً. بسر ان المحمول المتعدد - كما ذكر - يستلزم حلّ جزئه عليه بالضرورة الوصفية.. باعتبار كونه كلاّ، وهو محمول على موضوع قضيّتنا . فانتج بالشكل الاول التابع نتيجته إن كان الكبرى وصفيّة للصغرى في الجهة.. وهي اصل قضيتنا.
فالقضايا المستخرجة باعتبار تعدد المحمول، توافق اصل القضية في الكم والكيف والجهة. واما باعتبار تعدد الموضوع فتستخرج بصيرورة الموضوع “الكل موضوعاً لجزئه” 4بالبداهة.. وهو موضوع المحمول القضية. فثبت بالشكل الثالث ثبوت المحمول للجزء بعضاً، وهو المطلوب.. الا ان هذه توافق الاصل في الكيف فقط، دون الكم لانه ولد الثالث.. ودون الجهة، لان نتيجته تابعه للعكس. والعكس لايحفظ الجهة بعينها.
اعلم! أن الوجوب والامكان، والامتناع المضافة الى الوجود، والعدم، ونقائضها كثير مّا تتبادل في المواضع.. بسر التلازم التعاكسىّ في بعضها. كنظير “زلزل”.. من وجب وجوده وامتنع عدمه. ويمكن لايجب ولايمتنع. وغير تعاكسىّ، كما في بعض المنفيات؛ كـ “لايجب وجوده ولايمتنع عدمه”.
____________________
1 كلنبوي ص/ 23..
2 كالقائم القاعدحيوان.
3 كالزيدان القائمان.
4 كالقائم القاعد قاعد، والقائم القاعد حيوان.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 292
[فصل الشرطيّة الى الخ] 1
اعلم! ان الشرطية عند اهل النقل، وكذا الشافعيّة، حكمها في اجزائها. وعند اهل العقل، وكذا الحنفية، حكمها فيما بينها. ومن هنا يتولد بينهم اختلاف مهمّ. حتى قال الاوّلون: بمفهوم المخالف للشرط دون الاخرين.. بسرّ أن القول الاول: “على ان تصرف الشرط في الوقوع والقول الثاني “على انه تصرّفه في الايقاع”. ومن هنا تتولّد مسئلة الملكُ. اعني: “إن ملكت هذا فهو حرّ”. وعند الشافعي لغوٌ .. لان الجزاء هو العلة.. ولم يصادف محلاّ قابلاً بسبب عدم تقييد الايقاع. وعند الثاني تنعقد العليّة بعد وقوع الشرط، بسرّ تقييد الايقاع.. وكذا اختلافهم في المستثنى.. فعند الاول: نقيض الحكم الوقوعي للمستثنى، بسرّ التوحيد بكلمته. وعند الاخر: نقيض الحكم الايقاعي 2، اي المستثنى 3 مسكوت عنه.
ثم الشرطيّة تنقسم باعتبار الحكم وكيفيّته، والمقدّم والتالي، وباعتبار السور.. فالنسبة امّا عنده، او عنه.. فالاول: إما فيه ما يتأمله الذهن، لينتقل الى التالي بيّناً.. او غير بيّن، فلزوميّة، ومظانّها: ان اتحد طرفا كل منهما، اي من المقدم والتالي على الترتيب نسب المسوّرات والموجهات. فجعل الاخصّ والمساوي في كلّ مادة منها مقدّماً.. والاعمّ والمساوي الآخر تالياً.. او لا على الترتيب، فمظانها العكوس. فاجعل الاصل مقدماً والعكس تالياً، للزوم العكس لأصله. وان اتحدا في طرف 4، فلابد ان يكون الطرفان الآخران متساويين. او أعمّ او اخص. وسرّ اللزوم استلزام حمل الشئ على المساوي. او وصفه له حمله. او وصفه للمساوي الاخر.
ومن مظان اللزوم ايضاً، جعل الدليل مقدّماً والنتيجة تالياً، للزومها 5 ايضاً.. وان لم يتحدّ الاطراف في المقدم والتالي فمظانها في كل مايكون من مقول الاضافة
____________________
1 كلنبوي ص/ 24 س/12.
2 وهو السكوت.
3 اي ثابت.
4 بان كان موضوع المقدم والتالي واحد او المحمول.(تقرير)
5 ككلما كان كلّ انسان ناطقاً، كان كل انسان ضاحكاً. او ككلّما كان كلّ ناطق حيواناً، كان كلّ ضاحك حيوان. وكلما كان كل حيوان جسم، كان كل انسان جسم. وكلما كان كل انسان ناطق، كان كل انسان حيوان.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 293
والنسبة؛ كأفعال المتعدية: إن كان هذا فاعله، فذاك مفعوله. او فوق وتحت.. او معانداً فمعاند.. او أباً فابن.
ومن مظانها ايضاً مافيه علّية عقلاً 1 او شرعاً 2 عادة او سببيّة 3 وعلاقتيته 4 سواء كانت الاولى 5 معلولاً 6 او الثانية 7، او كلاهما لشئ آخر. واذا اتّحد المقدم والتالي في المنفصلة، فمظانها التناقض. وبسرّ أن المنفصلة 8 تتركب من عين مقدم كل متصّلة. ونقيض تاليها مانعة الجمع.. ونقيض مقدّم كلّ متصلة وعين تاليها مانعة الخلو.. وتعرف بالمقايسة انواع المنفصلات مما ذكرنا، بدخول النفي على التالي او على المقدم في المتصلة. ومما يجب التنبيه له، أن الشرطية كثير ما تتلبس بغير لباسها.. وكثير ماتعصر فيتقطر منها روحها، فيدخل في لفظ مفردٍ كلزومه له.
اعلم! أن الترتيب بين جزئي المتصلة ترتّب طبيعي دون المنفصلة. ولذا لا عكس لها، فلا عليك كيف رتبت.. بسرّ أن الحكم المتصلة وهو اللزوم مثلاً من مقول الاضافة التي تختلف نوعاها، كالولادة المتنوعة الى الابوة والبنوة.. والضرب الى الضاربية والمضروبية. وعناد المنفصلة من المتماثلة الانواع، كالاخوة والمساواة وقس!..
____________________
1 كإذا طلعت الشمس وجد النهار.
2 كإذا بلغ الصبي العاقل فالصلاة واجبة.
3 كأن جئتني اكرمتك..
4 كإذا ارتفع الدخان، فالنار.(تقرير)
5 اي المقدم.. اي في الخارج. لان في الذهن ملزومية المقدم ولازمية التالي معلوم من طور الكلام دائماً.
6 العلة ماكان موجباً ومؤثراً، او السبب ماكان موصلاً ومهيّئاً. (تقرير)
7 اي التالي.
8 متعلق بتعرّف.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 294
ثم المنفصلة حقيقيّة.. إن ذكر الشئ مع نقيضه او مساويه. واستلزم عين كلّ نقيض الآخر للعناد في الصدق، وبالعكس للعناد في الكذب..وهي بديهيّة 1 التصور؛ وان تعدّد اجزاؤها في الظاهر، فبالحقيقة متعدّدة... والاّ لزم استلزام عين كلّ او نقيضه لعين احد الاجزاء او نقيضه. الاّ أن ينظر الى المجموع وهو غير متعارفة.
ثم مانعة الجمع؛ ماذكر الشئ مع الاخصّ من نقيضه 2، واستلزام عين كل نقيض الآخر 3، لا بالعكس، او مطلقة على المعنى الاعمّ، وهي نظرية التصوّر مستفادة من مفصلة حقيقية صغرى، ومتصلة لزوميّة كبرى. هكذا: في “إما انسان 4 وامّا فرس”، إما 5 انسان او لا انسان. وكلما كان فرساً، فهو 6 لا انسانا 7. فمعاند اللازم 8، معاند الملزوم 9 فإما انسان وإما فرس.
ومانعة الخلو؛ ماذكر الشئ مع الاعم من نقيضه، واستلزام نقيض كل عين الآخر. لابالعكس.. او مطلقاً على المعنى الاعمّ. وايضاً نظرية مستفادة من منفصلة حقيقية صغرى، ومتصلة لزومية كبرى..
من نظير الشكل الاول هكذا: في “اما لا انسان واما لا فرس” اما لا انسان وامّا انسان بالبداهة. وكلما كان انساناً فهو لافرس بسرّ الاخصيّة. فانتج: إما لا انسان، إما لا فرس.
اعلم! ان الانفصال باقسامها لايختص بالقضايا، بل قد يكون في المفردات. سواء كان محمولاً او قيداً من قيوده. والمنار عليها تأخّر اداة الانفصال عن الموضوع او المحمول.. وكذا المتصلة قد تتأخر اداتها، الاّ أنه لافرق بين التقدم والتأخر فيها. وفي المنفصلة مع المرددة المحمول إن تقدّم اداة الانفصال، فمانعة الجمع.. وان تأخرت صارت حقيقية؛ كـ “إما كل عدد زوج وإما كل عدد فرد”، مانعة الجمع فقط. وكل عدد إما زوج وإما فرد. في المرددّة حقيقية. وسترى لهذا الفرق وقعاً.
ثم المتصلة الموجبة تتعدد مع محافظة الكم والكيف.. واللزوم بتعدّد التالي. بسرّ أن ملزوم الكل ملزوم الجزء اللازم للكل بالبداهة. وفي السلب لا اللاجزئياً، وفي
____________________
1 اذ ابده البديهيات عند العقل عناد النقيضين.
2 كالفرس، فانه اخص من اللا انسان.
3 اذ فيه عناد الصدق فقط.
4 مانعة الجمع.
5 منفصلة صغرى.
6 ملخص الدليل.
7 وهو اللاانسان في الصغرى.
8 وهو اللاانسان في الكبرى.
9 وهو الفرس في الكبرى.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 295
تعدّد المقدّم 1 بالعكس، كزلزل.. بسر استلزام عدم استلزام الكل للشئ عدم استلزام الجزء له.
والمنفصلة: فتذكر الميزان 2، تتعدد بتعدد الاجزاء. حتى ان المانعة الجمع، او الخلوّ المركبة من خمسة اجزاء عشرة قضايا ممتزجة وقس!..
اعلم! ان سلب المتصلّة مساو لموجبة المنفصلة، او أعم. وسلب المنفصلة، إما مساو لموجبة المتصلة، او أعم. لان سلب اللزوم إما عناد، او انفصال. وسلب العناد إما لزوم، او اتّصال اتفاقي. وسلب منع الجمع، جواز الجمع، اي الاتصال، وسلب منع الخلو، جواز الكذب. وماثبت للمساوى او الاعمّ يثبت للمساوي والاخص.
ثم ان الشرطية، سورها كجهة الحمليات تنظر الى الاوضاع الحاصلة من الازمنة؛ كما في “متى” ونظائرها. او الامكنة؛ كما في “اين” ومرادفاتها. او الاحوال؛ كما في “كيفما” وما يتضمنها. او الحيثيات؛ كما في “حيثما” واشباهه.
واما “من” 3و”ما” مع استغراقهما 4، سور المقدم الحملية معنى.. لا الشرطية. فشخصيتها باعتبار الوقت المعين 5 بلفظ مستقل؛ كما في “الآن” و “اليوم” وامثالها. او بالتضمن، وهي قوة الكلية في كُبروية الشكل الاول.
وجهات الوقتية 6 المطلقة والمطلقة الوقتية في الحملية، سور الشخصية 7 هنا. فان لم يدل على بيان كمية الاوضاع؛ كما “ان” و “اذا” و “لو” و “او”
و “إما” 8بلا تقييد، ونظائرها ومايفيدها فمهملة في قوة الجزئية في مقام الاستدلال 9. وقد تكون في قوة الكلية في مقام الخطاب. فان
____________________
1 اي السالبة ناظرة الى المقدم، فتتعدد بتعدده، دون التالي والموجبة.(تقرير)
2 فان كلا يوزن مع كل من الاخرين.
3 اي ان من “ما” ايضا من كلمات الشرط فلِمَ لاتكون سوراً؟ . ج: لانهما لاستغراق الافراد، لا الاوضاع، فيكون سوراً للحملية التي صارت مقدماً وعلامة للمهملة كـ “ من تضرب اضربه”.
4 في علم الاصول.
5 حيث كـ “اين” للمكان. لكنه اعمّ من “حيث” اذ هو لمطلقه “اينما كان وحيث له”. لكن باعتبار قيود مميّزة؛ كـ “اجلس” حيث “زيد جالس” اي مجلس علم او تجارة، او الوزراء او غيرها.
6 وهي ضرورة معيناً ذاتياً او عرضياً وصفياً.
7 وكذا “من” و “ما” المارين.
8 في المنفصلة.
9 المراد منه اليقين.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 296
دلّ 1 على استغراق جميع الاوضاع - ولو محالاً - لكن أمكن الاجتماع مع المقدم. اي لم تنافي الاستلزام او سلبه .. او العناد او سلبه؛ فكليّة والاّ فجزئية.
فللموجبة المتصلة: “كلما” و “مهما” و “متى” و “حيثما” و “كيفما”.. وكذا: “اينما” وكل مايرادفها، او يفيدها، او يتضمنها 2 من الجهات الدائمية او الضرورية.. فان سر هذه كجهات 3 الحمليات تنظر الى الازمنة ونحوها.
وفي المنفصلة الموجبة جهات الدوام والضرورة 4.. وكذا: “لامحالة، ولامناص، ولامندوحة، ولاخلاص، ولابدّ، وألبتة، وبتّة، وبتلة” وكل مايرادفها او يتضمنها. وسور الموجبة الجزئية فيهما قد تكون.. يعنى دخول “قد” او مايدل على التقليل على كل الافعال العامة؛ كـ “يحصل ويثبت”. والافعال الناقصة؛ كـ “قد يصير، حتى، قلما، وكثير ما” ومايرادفه ومايتضمنها.
وكذا الجهات غير الدوام والضرورة الذاتينين.. وللسالبة الجزئية فيهما دخول حرف السلب على كل السور الكلية. وكذا قد لايكون بالمعنى الذي مرّ. وللسالبة الكلية فيهما ليس ألبتّة.. وكذا تأخر حرف السلب عن سور الكلية: كـ “دائما ليس، وابداً ليس، وواجباً ليس” وقس!.
اعلم! ان منشأ اللزوم 5 لابد ان يكون هو المقدم وحده، او مع الوضع او الوضع بشرط علاقته، وتركيب بينه وبين المقدم.. والاّ فالوضع يكون اجنبياً. فمع
____________________
1 اذا اللفظ الدال على الاوضاع لايكون مراداً منه البعض المعين، لتساوي الابعاض.. فلزم الترجيح بلا مرجح. فاما ان يدل على المجموع وهو الواحد الاعتباري، والدلالة عليه مجاز. واهل الاستدلال لايرتكبه.. واما ان يدل على الواحد الحقيقي، وهو البعض المبهم والدلالة عليه حقيقة. اذ بالابهام يدور على الكل فيشتمله.. فلم الترجيح؟.(تقرير)
2 اي سواء كان قيداً، او جزءاً، او مركباً.
3 اي ان الحملية متى انعزلت الى الشرطية - فان كانت موجهة فجهاتها تكون سوراً لها. فالضرورة والدوام الذاتيان للموجبة الكلية منهما، وللضرورة الوصفية والدوام كذلك. وكذا الضرورة الوقتية المنتشرة، واللادوام المبهم للموجبة الجزئية فيهما ايضاً. والضرورة الوقتية المعينة واللادوام كذلك للشخصية.. واللاضرورة للاتفاق فيهما.. وكذا إن بدلت الشرطية بالحملية تجعل سورها جهة لها على هذا المنوال. تأمل!.(تقرير)
4 ففيهما المنفصلة والمتصلة مشتركتان.
5 اي ان اللزوم لابد ان تكون من جاذبة من طرف، فهي البتة لايكون من التالي. فإما ما في المقدم فقط، او مع الوضع.. او الوضع وحده نظير للمشروطية في الحملية.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 297
استقلاله بالمنشأية كيف يكون وضعاً. مع انه قد يكون عين التالي، اي اذا كان الوضع اجنبياً، او كان عين التالي وجعلته منشأ لزوم؛ فلزم استلزام الشئ لنفسه وهذيانه.
اعلم! ان لفظ اللزوم اينما صادفته فهو ملخّص قضيّة متصلة.. والعناد اينما صادفته فهو زبدة منفصلة.
واعلم ايضاً! ان المنطق اساسه كشف اللزوم بين التعريف والمعرف 1، والدليل والنتيجة. فمن اللزوم ماهو متفاوت الانواع بسبب التصرفات 2 في الملزوم، كالدليل والتعريف. ومنه ماليس له كثير تصرف وهو لوازم القضايا 3 منفردة. فمن اللزوم 4 ماهو قياسي، اي تحت الضبط.. اي قانوني، كلزوم العكسين. وكذا العناد كعناد المتناقضين.
ومنها: ماهو غير مضبوط.. بل يعد عدّاً؛ كشرطية الشرطيات، إما بالانفصال بين الشرطيتين.. او بالاتصال وهو الذي يسمى بتلازم الشرطيات. والتلازم، إما بين متحدة الجنس، وهي المتصلة بالنسبة الى المتصلة.. والحقيقية بالنسبة الى الحقيقية.. ومانعة الجمع بالنسبة الى مانعة الجمع.. ومانعة الخلو بالنسبة الى مانعة الخلو..
او مختلفة الجنس، كالمتصلة بالنسبة الى الحقيقية. او مانعة الجمع، اما مانعة الخلو. والحقيقية بالنسبة الى الاخيرين وبين الاخيرين. فتلك عشرة كاملة.
مقدمة:
ان التخلف 5 ولو في مادة يخرب 6 بيت اللزوم.. وان أحكام المتساوية 7 متساوية.. وان لازم اللازم لازم 8.. وان ملزوم 9 الملزوم ملزوم..
____________________
1 اذ هما المقاصد.
2 اي دخل الجزؤ الاختياري فيهما وهو الترتيب.(تقرير)
3 كالجزئية لازم الكلية مثلا، بسر الاخصيّة والضرورة الذاتية.. وكذا الدوام لازم الوصفية.(تقرير)
4 الثاني.
5 اي ان المخالفة بين الفقهاء - ولو في واحد - يخرب بيت الاجتماع.(تقرير)
6 بان يجعله هدفاً للطوب الماوزرية.
7 اي كل حكم ثبت للمساوي، ثبت للمساوي الاخر.
8 فنفيه يستلزم نفيه.
9 ونفيه لايستلزم نفيه لجواز اعميّته الاعمية.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 298
وان ماثبت 1 للاعمّ كليّات ثابت للاخصّ 2.. وان الاعمّ لازم له 3.. وان سلب اللزوم 4 كالعناد، وسلب العناد كاللزوم.
وإنّ قولنا فيما بعد: لازم اللاّزم او لملزوم الملزوم، اشارة الى قياسين تضمنهما القضية “الحملية”. وان السالبة تُشترط بعكس مايشترط في الموجبة في الاكثر.
فالقسم الاول اعنى المتحدة الجنس من المتصلة الموجبة، الكليّة اللزومية إن تلازم طرفاهما.. فان تعاكس تلازما، فكل منهما لازمة للاخرى بسر ان احكام المتساوية متساوية، فايتهما عرفتها تعرف الاخرى ايضاً، بقياسين 5 مثالهما 6:
ان ملزوم 7 ملزوم 8 ملزوم الشئ 9، ملزوم للشئ 10. وان كانت سالبة فبقياسين 11 من الاول، والثاني مآلهما 12: ان ملزوم 13 معاند اللازم 14 معاند للشئ. وقس الجزئيتين. وإن كانت احداهما لازمة الطرفين. والاخرى ملزومة الطرفين.. فان كانت موجبة كليّة فلا تلازم لصيرورة القياس الثاني، من الشكل الثاني من الموجبتين وهو عقيم.. وايضاً بالتخلف... وايضاً اللزوم بين اللازمين الاعمين في الاغلب لايستلزم اللزوم بين الملزومين 15 كالحيوان للجسم، دون
____________________
1 الاول بقياس من الشكل الاول: مثلا: اتحدا قضيتين في المقدم، واختلفا عموما وخصوصا في التالي؛ ككل ناطق انسان.. وكل ناطق حيوان. فاردنا اللزوم بينهما، فالاول بديهي، فاجعلها صغرى للاول والثاني كبرى له.. فينتج الثاني صريحاً وإما الثاني.(تقرير)
2 لدخوله تحته.
3 فكلما صدّق الاخص صدق الاعم.
4 فكلما صدق العناد صدق سلبه.
5 في الاول مفصولاً او موصولاً.
6 كلما ناطق فهو انسان، كلما ضاحك فهو متعجب.
7 بسر المساواة.
8 بسر البداهة.
9 بسر المساواة.
10 متعجب.
11 الاول.
12 ليس ألبتة، اذا ناطق.. فرس.
13 بسر التلازم التعددي.
14 ليس ألبتة ضاحك.. صاهل.
15 اي ان اللزوم بين هذين اللازمين الاعمين لايستلزم اللزوم بينهما اذ الاعم.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 299
الانسان للفرس.. وبالعكس ايضاً.. فان لازم المقدم قد يكون أعمّ من لازم التالي 1 فلا يستلزمه كلياً. ولان احد قياسه الضمنيّ من الشكل الثالث وهو لاينتج الاّ جزئياً. وان كانتا سالبتين كليّتين، فملزومة الطرفين لازمة للاّزمة الطرفين.. وإن تخالفا في التلازم، بأن تكون احداهما لازمة المقدّم ملزومة التالي 2، فملزومة المقدّم 3. وان كان 4 في احد الطرفين واتّحدا في الطرف الاخر، فلازمة التالي ملزومة المقدم، لازمة في الموجبة 5 ملزومة في السالبة.
فالمتصلة بالنسبة الى الحقيقية - إن اتفقتا في الكم والكيف، واتفقتا او تلازما تعاكسيّا في جزؤ وتناقضا بالذات او بالتلازم في جزؤ آخر؛ ففي الموجبة في الحقيقة تندمج اربع متّصلات، مقدم اثنين 6 عين احد الجزئين 7… والتالي 8 نقيض الاخ 9.. بسر تضمنه لمنع الجمع 10. ومقدم اثنين الاخريين نقيض احد الجزئين. والتالي الآخر بسرّ تضمنه لمنع الخلو 11، كإما فرد وإما زوج.
أما المتصلة فلاتستلزم المنفصلة، بسر جواز أعميتة اللازم؛ كالانسان والحيوان. ولاعناد خلواً بين الانسان واللاحيوان.. وجمعاً بين اللاانسان والحيوان. وفي السالبة المتصلة مستلزمة. لان سلب اللزوم يفيد جواز الانفكاك. وانفكاك التالي يفيد اتصال نقيضه ولو بالاتفاق.. وهو سلب العناد، دون العكس. لان سلب العناد حاصل بالنظر الى الجزؤ الخلويّ بين الانسان واللاحيوان.. مع عدم صدق سلب اللزوم بين الانسان والحيوان. وان اختلفتا في الكيف مع الاتفاق في الجزئين بالذات او بالتلازم، فالموجبة 12 مستلزمة للسالبة دون العكس.
____________________
1 الموجبة على الاول والسالبة على الثاني.
2 والاخر ملزومة المقدّم لازمة التالي.(تقرير)
3 لازمة للاّزمة المقدم، وهي البديهية وتكسب بها الاولى.(تقرير)
4 التلازم.
5 اي كل منهما لازمة الاولى، لملزومة التالي. والثانية للازمة المقدم.(تقرير)
6 من المتصلات.
7 من المنفصلة.
8 من المتصلة ايضاً.
9 اي الجزؤ الاخر من المنفصلة.
10 وهو العناد في الصدق.. فاذا اثبتت عين احد استلزم بالضرورة نقيض الاخر وهو رفعه.(تقرير)
11 وهو العناد في الكذب.. فاذا رفعت احدهما استلزمت بالضرورة اثبات الاخر.(تقرير)
12 لكونه اخص. كما مرّ.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:06 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 300
وكذا في مانعة الجمع ومانعة الخلوّ.. لان اللزوم او العناد بين الشيئين يستلزم سلب العناد في الاول، وسلب اللزوم في الثاني بالبداهة، دون العكس.. لجواز عدم اللزوم مع عدم العناد بين الشيئين، كما في الاتفاقيات.
ثم المتصلة مع مانعة الجمع - موجبة او سالبة - متفقة في الكيف.. وفي احد الجزئين بالذات او بالتلازم، وهو في المتصلة مقدم مع التناقض بالذات، او بالتلازم في الجزؤ الآخر وهو في المتصلة تال، تلازمتا وتعاكستا. فان عين كل جزؤ من مانعة الجمع يستلزم نقيض 1 الاخر. الذي هو الاعم من العين المأخوذ مقدماً. ولان عين الملزوم يمتنع اجتماعه مع نقيض اللازم، وفي السالبة 2. لان سلب منع الجمع جواز الجمع، وهو نوع اتصال بين العينين، وسلب اللزوم نوع انفصال.
واما المتصلة مع مانعة الخلوّ، فكذا تستلزم مانعة الخلوّ لمتصلتين يركب من نقيض كلّ من الجزئين مقدماً، وعين الآخر تالياً. وكذا كلّ متصلة تستلزم مانعة الخلو من نقيض المقدم مع عين التالي.. والاّ لزم تخلّف اللازم عن الملزوم. فاذا اتفقتا في الكم والكيف، واتفقتا او تلازمتا في جزؤ - وهو في المتصلة تال - وتناقضتا بالذات، او بالتلازم في الجزؤ الآخر - وهو في المتصلة مقدم - تلازمتا وتعاكستا بعين الدليل السابق؛ كإما لا انسان وإما لافرس، فكلّما كان انساناً.
اعلم! أن المنفصلتين المتّحدتين الجنس.. إن تلازما تعاكسياً في الجزئين، او مع جزؤ مع الاتحاد في الآخر.. فمتلازمتان متعاكستان.. بسر احكام المتساوية متساوية، المستند الى قياس اقتراني مركب من المتصلة والمنفصلة، المنتج للمنفصلة المطلوبة. هكذا، كلما صدق هذا المساويّ، صدق ذاك. وإما ذاك، وإما ذاك، وإما هذا.. فانتج إما هذا المساوي، واما ذاك . فقس!..
وكذا، في الحقيقي.. إن تناقضا في الجزئين بالذات او بالتلازم. وأما مانعة الجمع - إن كان طرفاً احدهما، او احد طرفهما لازماً، والآخر أحدها ملزوما مع اتحاد الآخر - فالملزومة الطرف، لازمة اللازمة الطرف في الموجبة بحكم الخلف دون العكس.. بسر التخلّف؛ كمنع الجمع بين الانسان والفرس، دون بين الحيوان والجسم اللازمين.
____________________
1 اذ فيه عناد الصدق.
2 ايضاً تلازمتا تعاكسياً.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 301
وفي السالبة اللازمة الطرف، لازمة ملزومة الطرف بالخلف. لان جواز الجمع بين الملزومين يستلزم جواز الجمع بين اللازمين.. والاّ لزم المحال دون العكس بالتخلف؛ كجواز الجمع بين الحيوان والجسم، مع عدم جواز الجمع بين الانسان والفرس، الملزومين لهما. و.. والمانعتا الخلوان - إن كان طرفا احدهما، او احد طرفهما مع الاتحاد في الاخر لازماً، وطرفا الاخرى او احدها ملزوماً - ففي الموجبة اللازمة الطرف لازمة فقط. وفي السالبة الملزومة الطرف لازمة فقط.. اللزوم بسر الخلف، وعدم العكس بسرّ التخلف.. والجمع والخلف ايجاباً وسلباً- كزلزل. واما المختلفة الجنس، فالحقيقة مع مانعة الجمع - ان اتحدتا في طرف واحد - طرف الحقيقة لازم لطرف مانعة الجمع، وملزوم لطرف مانعة الخلو فهما لازمتان في الايجاب بسرّ ان منع الجمع الذي في ضمن الحقيقية بين الشئ ولازم شئ يستلزم منع الجمع بين شيئين. وما في ضمن الحقيقة من منع الخلو بين الشئ، وملزوم شئ يستلزم منع الخلو بين شيئين، دون العكس فيهما للتخلف. وفي السالبة الحقيقية لازمة، بسر ان سلب الاعم اخصّ، وسلب الاخص اعمّ.
اعلم! ان تعاند الشرطيات بعد معرفة تلازمها سهل المأخذ. ففي كلّ متلازم متعاكس - كما مرّ - بين عين كل مع نقيض الاخر عناد حقيقيّ. وفي عين المتعاكس بين عين الملزوم ونقيض اللازم عناد الجمع.. وبين نقيض الملزومة وعين اللازمة عناد الخلف.
خاتمة الخاتمة:
كما تنحرف الحملية 1 عن طبيعتها وتختفي تحت قيد، حتى تحت حرف واحد؛ كذلك الشرطية تنحرف عن صورتها وتندمج تحت كلمة، او حملية تدلّ
____________________
الحمل قسمان: اشتقاق اي يكون اشارة الى انه بانواع احواله وحروفه وكلماته وعباراته ونظائره وقرائنه، وغيرها هداية ومواطأة وهي اتحاديّ، فيه ادّعاء اي انه هو كحمل التعريفات على المعرفات وبالعكس، لكنه قليل، والموصوفات على صفائها كالناطق زيد.
واشتمالي: اي المحمول عام مشتمل عليه كحمل المشتقات على موصوفاتها؛ كزيد ناطق او عالم مثلا: لكن الرازي لم يجعل الاشتمال قسم المواطأة، بل يشمله بجعل المواطأة اتحاديا فقط. والسيد شريف جرجاني يشملها على الدلالة. اوصافه ثمان:
الظاهر: اي دلالته ظاهر ، اي قابل للتأويل، ويحتمل معنى آخر مالم يحتمل معنى، لكنه قابل له. والنسخ: كان قابلاً له فقط، مالم يكن قابلاً لشئ. هذه اقسام النظر تأمل!.
خفيّ: مادلّ لنوع ضعيف من نفسه.. مادلّ بتأمل دقيق ايضا من نفسه.. مادل بتعليم الغير.. مادل لكن عند الله فقط.. هذه اقسام الخفي . اي ان المعنى الغير الحقيقي للفظ لابد ان يكون مطمحاً للنظر ومقصوداً من الكلام، باعتبار قصد المقام، كالعين للرقيب، والاذن للجاسوس، والسخاوة لكثرة الرماد، والشجاعة للاسد وقس. فتنقل من المعنى الحقيقي للّفظ اليه، سواء كان تابعاً له حقيقة؛ كمن كثرة الرماد.. او اعتباراً؛ كمن سخىّ اليه باعتبار المقام، فيكون كناية.. او كان متبوعاً حقيقة مثلا او اعتباراً؛ كمن العين او الاذن مثلا، فيكون مجازاً. لكن في الاستعارة قليل.
العموم: ماوضع لمستغرق.. ماوضع لمشخص.. ماوضع لمعان.. ماوضع لمعنيين قريب او بعيد.
الاستعمال: ما استعمل في معنى واضح.. مااستعمل فيما استثر.
فهم: عبارة مافهم من اشارة اللفظ اليه. يعنى ان المعنى إما ان يكون مفهوماً من نفس اللفظ، او من اشارته الى شئ او من مفهوم معناه، او من مقتضى الحال.. فان الحملية جبرية، فهو اقتضاء الصدق. وان المنشأيّة فهو اقتضاء الصحة.
1

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 302
عليها باحدى الرابط العطفية او غيرها.. وكذلك القياس الاستثنائي كثيراً مايندمج ويستتر تحت “لما” وامثاله. وغير المستقيم تحت “لو” وامثالها. مثلا عطف جملة موجبة على منفية بواو الجمع يتضمن مانعة الجمع. لان النفي المتوجه الى الواو نفي الجمع. وقس عليه مايفيد هذا المعنى وعطف المثبت على المنفي بـ “او”، يتحرك تحته منع الخلوّ. “الى” و”حتى” ومايفيدهما او يرادفهما، تحمّر تحتهما المتصلة للزومية. و”لما جئتني اكرمتك” يدل على المقدمة الشرطية.. والاستثنائية والنتيجة لدلالة “لما” على تحقق المقدم، وكذا مايرادفها. و”لو جئتني لاكرمتك” يدل على الشرطية. واستثناء نقيض التالي، والنتيجة عند المنطقيّين، وبالعكس عند اهل العربية. مثلا: “لوخدمتني لأكرمتك” يقال مرة في مقام لَومِ المخاطب له، ومرّة في مقام منة المخاطب عليه. ففي الاول هو اهل العربية - عند الثاني، وفي الثاني عند الاول. وكذا يقال 1 “لَو” لامتناع الامتناع” وانما عيّروا بالامتناع دون العدم، لان كلّ 2كل الماضي
____________________
1 اطنب بالايجاز كالتنزيل، اي لامتناع الاول بدليل امتناع الثاني عند الاول.. ولامتناع الثاني بدليل امتناع الاول عند الثاني.(تقرير)
2 اي الامتناع يستعمل في محال. والحال ان الخدمة ليس كذلك؟ . فاجاب: بان المحال عام... والتفصيل، ان الطبقات ثلاثة. الوجوب، والامتناع ، والامكان، والحال بمشخصاته مثال الوجوب بتعلق العلة العامة.. وهو ارادة الله بوجودها. والماضي للثاني. اذ ما وجد بوجود العلة فعدمه محال. وما لا وجود له محال. والاستقبال للثاني.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 303
إن كان عدماً فوجودها محال. وان كان وجودا فعدمه محال. اما “لولا عليّ لهلك عمر” 1فنقيض التالي هو التالي، فيصير “كلما” 2. واصل “لولا”، “لالو”. اي دخل “لا” على احد جزئي منع الجمع فاستلزمه 3. اي النفي عين الاخر فاستجلب “لو” للزوم، وبتركيبه “مع” لاللدلالة على وجود العين. وانتاجه لتالينا، التي فارقته لاصورة.
مقدمة:
ومن المعقولات الثانية مايسمى بالامور العامة، ومنها الوحدة والكثرة. فالوحدة إما حقيقي او اعتباري. فالاعتباري: فالاتحاد في الجنس المجانسة، وفي الفصل.. او اخصّ الصفات المماثلة. وفي الكَمْ المنفصلة؛ المساواة. وفي المتصلة؛ الموازاة او المحاذاة او الموافقة او المطابقة. وفي الوضع المشاكلة وفي الملك المشاركة. وفي مقول الاضافة والفعل والانفعال، المناسبة. وفي “متى” المعاصرة. وفي مقول “اين” المجاورة.
واما الكثرة، والاثنينية. ان لم يكن فيها التماثل، فالتخالف.. فان لم يعبّر فيها التماثل فالتخالف، فان لم تعبر فيها منع الاجتماع، فالتغاير.. وان اعتبر منع الاجتماع من جهة واحدة في زمان واحد وفي محل احد، فالتقابل. فان توقف تعقل احدهما على الاخرى فالتضايف.. والاّ فان كان طرفاها وجوديين، فباعتبار الصدق التباين. وباعتبار الوجود، التضادّ.. وان كان احد الطرفين عدمياً، فان اشترط قابلية المحلّ؛
____________________
1 ذخائر العقبى - الحافظ محب الدين احمد بن عبدالله الطبري ص/ 82 - ع.ب.
2 اي “لولا” كلما في كون تاليه استثنائياً مستقيما كاستثناء عين المقدم المنتج لعين التالي.(تقرير)
3 اي ان بين طرفي ما بعد “لولا”، وكذا “لوما” بمعناها منع الجمع في الاصل - كما في المثال المذكور - و “لولاك لولاك لما خلقت الافلاك” لولاك ليصدق منع الجمع.. كاما وجد عليّ واما هلك عمر.. واما انت توجد واما لا اخلق. فلما اريد اللزوم بين الطرفين، جيئ بـ”لا” على التالي. اذ الشرطية المتصلة اللزومية تتركب مانعة الجمع، بجعل عين احد الجزئين مقدما ونقيض الاخر تالياً. وجيئ “لو” للدلالة على اللزوم، فكان بمعنى “لما” فالقياس بعده مستقيم. والحال ان “لولا” يدل على تحقق وجود المقدم “كلما” فرفع “لا” صورة على التالي، واجتمع مع “لو” هو عارض البسيط.. والبسيط إما ليس بمادة كالمجرّدات؛ كالواجب والنفوس مطلقا. واما مادة: وهو ايضا إما غير متجزئ؛ كالجوهر الفرد ومفروض النقطة.. واما ليس من الطبائع المختلفة، كالسماء.. وإما مشترك الجزئي والكليّ في الاسم: كالماء .. فاحفظ.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 304
فعدم وملكه.. والاّ فالتنافي في المفردات، التناقض في الجمل او فيهما. والايجاب والسلب في الجمل.
ثم التناقض من احكام القضايا التي لها دخل في الاستدلال. لانا كثيراً مانثبت لزوم النتيجة للدليل وغيرها بالخلف، وهو اثبات الشئ بابطال النقيض.. فلابد من معرفة فحوى التناقض..
اعلم! ان التناقض من الاحكام التي يتوقف عليها بيان الاشكال النظرية. فان غير الاول نظري، يثبت انتاجه بقياس الخلف المؤسس على اخذ النقيضين.. وبقياس الاستقامة المتوقف على معرفة العكوس.
ثم التناقض لايحتاج الى كثير مؤنة بحسب الحقيقة، فبعد معرفة الشئ يكون نقيضه بديهياً. لان نقيض كل شئ رفعه، والرفع نفي، والنفي عدم، والعدم كالوجود اعرف الاشياء ، لانها اعمّ. والشئ معلوم بالعرض.. الاّ ان العدم الغير المحصل لايكون مصدراً للاثار المقصودة لنا. فارادوا ضبط قضايا محصّلة، هي لوازم النقائض الحقيقية او عينها.. مثلاً ان نقيض زيد ليس بقائم ، ليس زيد بقائم”. وهو كما ترى.. ولذا عرّفوه باختلاف قضيتين. اي لامفردين. لانه لامدخل له في الخلف. او مفرد وقضيته بالايجاب والسلب. اي لا بالافراد والتركيب وغيرهما.. بحيث يقتضي لذاته. اي لابواسطة مقدمة اجنبية، هي معاند مساو الشئ معاند للشئ، امتناع صدقهما وكذبهما، اي بينهما انفصال حقيقي.
ثم يستفاد من التعريف اشتراطه بثلاث اختلافات واتحاد واحد، او اثنين او ثلاثة او ثمانية او اربعة عشر. اما الاختلاف ففي الكيف بصريح التعريف، وبالتخلف. في “ابنك ايها الغرب قائم، ولاقائم” والاختلاف في الكم للتخلّف ايضاً في الموضوع والمقدم الاعمّ بالكذب في الكليّة، والصدق في الجزئية، والاختلاف في الجهة، وسيجئ..
ثم الاتحاد الواحد: ففي النسبة.. لانه اذا اختلف احد طرفيهااو قيد من قيودها، اختلفت النسبة. فبعكس النقيضين اذ اتّحدت، اتحدتا في قيودها.. او الاتحاد في الموضوع يقيّد به، والمحمول بقيود الاربعة، او فيها وفي الزمان، لان الزمان لايتأتى ان يصير جزؤ المحمول في الجملة او في الموضوع.. وفي الجزؤ والكلّ، لا الجزئية والكلية.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 305
وفي الشرط. كالجسم مفرق للبصر. ليس بمفرق بشرط البياض والسواد. وفي المحمول، والزمان والمكان والاضافة والقوة والفعل.. او في هذه الثمانية مع التبادل في قيود الموضوع والمحمول بسر التخلف في الكل...
اعلم! إن القضية باعتبار كل قيد من قيودها تتضمن قضية قد تصير مناط الحكم. واعلم ايضاً، ان نقيض الشئ عدمه.. وان القضية ذات القيود الثلاثة لها ست عدمات. فلابد في اخذ نقيضها من عدم يعمها.. وماهو الاّ عدم الاخصّ من قيودها. فان عدم الاخصّ اعمّ، وعدم الاعمّ اخصّ، يجوز خلوّهما. وفي الموجهة القيد الاخصّ، هو الجهة. ففي “الانسان حيوان” بالضرورة مدار التناقض حيوانية الانسان ضرورية. وسلب الضرورة امكان، فنقيض الضرورية الذاتية، الممكنة العامة في جانبها المخالف.. وهو يستلزم سلب الضرورة في جانبها المخالف، وهو الموافق للضرورة.
ولما كان بين الثبوت - لكل الافراد والسلب عن البعض - تناقض؛ فكذلك بين الثبوت في جميع الازمان والسلب في البعض او بالعكس ذاتاً او صفة تناقض.. فنقيض الدائمة المطلقة المستلزمة لوقت، والعرفية الحينية الوقتية، او بالعكس.
واما الوقتية، فكالشخصية باتحاد الوقت.. فنقيضها الممكنة الوقتية. واما المنتشرة، فلما انتشرت الوقت كان كالنكرة في الاثبات.. فانما يناقضه الامكان، اذا نفاه على سبيل العموم كالنكرة في سياق النفي حكماً.
اعلم! ان نقيض المركبات ليست من جنسها.. وانما اخذوا منفصلة محصلة، هي لازمة نقيضها؛ بسبب ان اصل القضية كالوجود له فرد واحد، وهو وجود جميع اجزائها. ونقيضها الذي كعدمها متعدد الافراد، حتى في مركب ذي خمسة اجزاء.. للعدم احد وثلاثون فرداً، وذات جزئين ثلاثة افراد. فلهذا ، لايعين عدم جزؤ الاخصية. بل ينشر ويردد فيما لاتداخل بين اجزائه.. ومن الإبهام والترديد بتولد إما حملية شبيهة المنفصلة، او منفصلة شبيهة الحملية.
ثم ان المتشابهتين في المتصلة متساويتان، وفي المنفصلة متلازمتان. او كانتا جزئيتيّن ومتخالفتان. يعنى ان المنفصلة اخصّ. إن كانتا كليّتين. مثلاً، كل عدد إما زوج وإما فرد.. وكل انسان إما كاتب وإما أمي. ولايصدق إما كلّ عدد زوج، إما


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 306
كل عدد فرد.. وإما كل انسان كاتب، إما كل انسان اميّ. بل مبعض بسبب أن كليّة الحملية، كل فرد، اذا لم يتم الحكم. وتقديم “إما” على “كلّ” يصيّره مجموعياً. اذ دخوله بعد تمام الحكم.. وبعد تمام الحكم كلّ كلّ إفرادي يكون كلاّ مجموعياً.
واعلم ايضاً! ان المركب متحدّ موضوع جزئيّهاحقيقة بالضرورة لاجل التركيب والمحلل لاضرورة في حقيقة موضوعي الجزئيين. ونحن نأخذ نقيض جزئين المحللّ. فلابد ان يكون المحلل عين المركب في الموضوع، ليكون نقيض نقيضه. ففي القضايا المركبة، الكليّة المحلل عين المركب.. بسرّ كلّ، فانه محيط.. فلا إشكال في اخذ نقيضها.
وأما المركبات الجزئية: فلما كان مفهوم الجزئية المركب أخصّ، بسرّ الاتحاد من مفهوم الجزئيتين المحللتين لعدم ضرورة أن يكون البعضان مشيرين الى ذات واحد، فيكون نقيض المحللّ الاعمّ اخصّ من نقيض المركب. فلهذا كذب، بعض الحيوان انسان لادائماً، وجودية لادائمة.. مع كذب “لاشئ من الحيوان بانسان دائماً، وكل حيوان انسان دائماً”. والنقيضان لايرتفعان.
فلأخذ نقيض المركبة الجزئية ثلاث مسالك: احدها، تثليث التقسيم. اي إما لاشئ.. وإما كل.. وإما مبعض. والثاني: تقييد الموضوع بنقيض المحمول في النقيض السالبة.. وتقييد الموضوع بعين المحمول في النقيض الموجبة. والثالث: بالترديد بين نقيض جزئي المحلل ليتحد الموضوع، فيكون حملية مرددّة للمحمول. ثم ان من الشرائط الاتحادية في التناقض الاتحاد في النوع. اي الذهنية بنوعيها. والخارجية بقسميها للتخلف بالاختلاف، وفي الشرطيات الاتحاد في الجنس، اتصالاً وانفصالاً.. والنوع لزوماً وعناداً.. واتفاقاً للتخلف ايضاً . ثم ان تناقض الجملتين يستلزم عدم الجمع والرفع في الوجود.. وفي المفردين في الوجود بوجوهه.
[فصل في العكس] 1
الحكم الثاني من الاحكام التي يتوقف عليها اثبات لزوم النتائج للاشكال العكس. ويطلق لغةً على غير اللازم وعلى النقيض ومطلق التبديل. واما هنا فبالمعنى
____________________
1 كلنبوي ص/28
صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 307
المصدريّ تبديل طرفي القضية حملية، او متصلة لزومية مع بقاء الكيف والصدق لا الكذب، لجواز صدق اللازم مع كذب الملزوم. وبالمعنى المتعارف اخص القضايا اللازمة الحاصلة بالتبديل. ثم للزوم المغايرة بين اللازم والملزوم، لاعكس معتبراً لما نسبته من الاضافة المتشابهة الطرفين كالعناد، والاتفاق نظير الاخوة. ثم ان لزوم العكس نظريّ، يحتاج الى البرهان، وهو ثلاثة.
احدها: الخلف.. اساسه إثبات العكس بابطال النقيض. وتصويره: لو لم يصدّق العكس لزوماً، لأمكن انفكاكه. فيمكن صدق نقيضه مع كل صادق ومنه الاصل. ولو أمكن صدقهما لانتج بالشكل الاول سلب الشئ عن نفسه، وهو محال لوجود الموضوع للايجاب في احدهما. وامكان المحال باطل. وبطلان اللزوم يستلزم بطلان الملزوم.. إما بصورته وهو بديهي الانتاج. وإما بأصل القضية وهو مفروض الصدق.. فلم يبق الاّ نقيض العكس، وهو منشأ المحال. فلا يمكن صدقه، فيلزم العكس.
الثاني: طريق العكس.. وهو عكس نقيض العكس، ليضاد او يناقض الاصل.. والعكس صادق بالفرض. فعكس النقيض باطل.. فملزومه وهو النقيض ايضا باطل، ونقيض النقيض وهو العكس صادق ألبتة.
وحاصله:
أنه لو لم يصدّق العكس لزوماً، لأمكن صدق صدق لازمه وهو عكسه. ولو صدق اللازم لزم اجتماع الضدّين او اجتماع النقيضين. والاصل مفروض الصدق فعكس النقيض هو ملزوم المحال فلا يمكن، فيلزم العكس.
اعلم! ان عكوس الموجّهات الموجية ثلاثة فقط. الحينية المطلقة للدّوام الاربع.. والحينية اللادائمة للخاصّتين.. والمطلقة العامة لخمسة.
واعلم! ان بسرّ لازم اللازم، لازم كلّ ما هو اعمّ من العكس عكس، لا اصطلاحاً.. وبسرّ ان ملزوم الملزوم ملزوم. فكل ماهو أخصّ من الاصل يستلزم عكسه.
واعلم ايضاً! انّ لنا مقامين: اثبات ونفي.. فلاثبات اللزوم لنا ثلاث طرائق الخلف كما مرّ. واما الافتراض والعكس، فكالتنبيه والتنوير للزوم الدّور 1 في البعض. فاعلم
____________________
1 وهو الموجبات.

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 308
ان الدائمتين والعامتين عكسها الحينية المطلقة بالخلف.. اي والاّ لصدق نقيضها، فهو العرفية العامة السالبة الكلية، فهو كبرى للاصل.. فينتج سلب الشئ الموجود عن نفسه بإحدى الجهات الاربعة، لان نتيجة الشكل الاول تتبع الصغرى اذا كانت الكبرى وصفيّة - كما هنا - وسلب الشئ عن نفسه محال، فليس من صورة الشكل ولا من الصغرى، بل من الكبرى. وهو نقيض العكس، فلايمكن ايضاً. فيصدّق ويلزم العكس. وبالافتراض وهو جعل عقد الحمل صغرى وعقد الوضع كبرى. فينتج بالثالث العكس، ولايلزم الدّور.. او الاثبات بغير الثالث لان المراد تنبيه وتصوير.. وبالعكس ايضاً. مثلاً: “كل انسان حيوان” باحدى الجهات.. فبعض الحيوان انسان، حين هو حيوان.. والاّ لزم جمع النقيضين او الضدّين. إذ نقيض العكس يستلزم مايضادّ الاصل الصادق. وضدّ الصادق كاذب، فملزومه وهو النقيض أكذب. فنقيض النقيض وهو العكس صادق. ولازم ايضاً لامتناع امكان المحال.
وأما مقام النفي، فبالتخلف.. واعلم أن الاعمّ للأخصّ.. كما أن الاخصّ ملزوم الاعمّ.. وان لازم الاعمّ، لازم الاخص.. وإن ملزوم الاخص، ملزوم الاعمّ.. وانّ مالايلزم الخاصّ لايلزم العامّ.. والاّ لزم الخلف.. وان مالايستلزم الاعمّ، لايستلزم الاخصّ.. والاّ ثبت الخلف.
واعلم ايضاً! انّا نحتاج في نفي عكسيته، ماعدا الحينية المطلقة لهذه الاربعة، الى اثنى وثلاثون موادٍ تخلف. فالاقصر في طريقه: ان نأخذ من جانب الاصل الاربعة، الاخصّ الاقوى الملزوم لأخواته. ونأخذ من جانب العكس، اللازم الاعمّ، الاخف اللازم لاخواته. فالاخصّ في الاصل الضرورية الذاتيّة، وفي جانب العكس الاعمّ، ولو من وجه الوقتيّة.. مع التخلّف في صدق “كل كاتب انسان” بالضرورة.. مع كذب “بعض الانسان كاتب” بالضرورة في وقت.
والخاصّتان الى حينيّة لادائمة. مثل “كل كاتب متحرك” مادام كاتباً، لادائما. اي لاشئ من الكاتب بمتحرك بالفعل.. عكس بعض المتحرك كاتب، حين هو متحرك. وبعض المتحرك ليس بكاتب بالفعل.. والا لصدق “كل ذاتٍ متحرك كاتب دائماً”. اي الكتابة دائمي للذات. ومقتضى الجزؤ الاول من الاصل: أن التّحرك دائم بدوام الكتابة، الدائمة بهذا الفرض.. فيكون التّحرك دائماً للذات.. فيكون ضدّ قيد الاصل المفروض الصدق..


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 309
فعكس القيد “بعض المتحرك ليس بكاتب” بالفعل، لايبين بالخلف، لان نقيضه وهو “كل متحرك كاتب” دائماً.. مع نفس القيد ينتج سلب الشئ عن نفسه بالفعل، وهو جائز. لان عنوان الموضوع منفكّ، ولابطريق العكس.. لان عكس كل متحرك كاتب دائماً، بعض الكاتب متحرك في حين. وهو لايضاد القيد.. ولا بالافتراض.. لانه جعل عقد الحمل صغرى وعقد الوضع كبرى، فخرج من عقد الوضع، بسبب ايجاب الجزؤ الاول؛ “كل انسان كاتب” بالفعل. ومن عقد الحمل: “لاشئ من الانسان بمتحرك” بالفعل، فلايكون صغرى للشكل الثالث لاشتراط الايجاب.
اعلم! ان عكس الوقتيتين والوجوديتين والمطلقة العامةوالمطلقة العامة، فنحن على وظيفتين:
الاولى: اثبات لزوم هذه لتلك، بتلك الطرائق. فالاقصر: ان نأخذ الاعمّ من الخمسة. لان لازم الاعم، لازم الاخصّ والاعمّ المطلقة. لان المطلق أعمّ من المقيد. فاذا صدّق: “كل كاتب ضاحك” بالفعل، صدق لزوماً بعد الضاحك، “كاتب” بالفعل بالخلف. اي والاّ فلا شئ من الضاحك بكاتب دائماً - كبرى للاصل - فينتج لاشئ من الكاتب بكاتب دائماً. وهو محال لوجود الموضوع. لانه كان عقد وضع الموجبة. والدليل الذي يستلزم المحال باطل.. لفساد احد اركانه. والصورة بديهيّة، والاصل الصغرى مفروضة الصدّق، فيبطل نقيض عكسنا.. فثبت “بعض الضاحك كاتب” بالفعل. فان شئت فاستدل على سبيل التنبيه التنوير دون الاثبات، للزوم الدّور بالعكس والافتراض. هكذا لو لم يصدّق العكس، لصدق النقيض. والنقيض يستلزم عكسه، وهو يضاد الاصل الصادق، فيكذب فيبطل ملزومه . فثبت نقيض النقيض، وهو العكس.
والافتراض: جعل عقد الحمل صغرى، وعقد الوضع كبرى بالثالث الذي نتيجته تابعة لعكس صغراه، وهو المطلوب. وخلاصته: إن الاصل يخبرنا بأن عنوان الموضوع وعنوان المحمول ثابتان بالفعل لذات واحد. فأيتّهما ثبت للذات، - بناء على سلّميته - يثبت له الاخر بالفعل كما ترى.
أما الوظيفة الثانية: فنفي لزوم الاخص من المطلقة لا الاعمّ، فانه لازم ايضاً. والطريق الاخصر للتخلف: أن نأخذ الاخص من الخمسة؛ لان مالايلزم الاخص



عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:07 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 310
لايلزم الاعمّ ألبتة، والاخص الوقتية المعينة. ونأخذ من الاحد عشر الاعم، لان عدم لزوم الاعم يستلزم عدم لزوم الاخص بالضرورة.. والاعم من الكل الاخص من المطلقة؛ الوجودية اللاضرورية. مثلا: يصدّق “كل قمر منخسف في وقت الحيلولة” بالضرورة، لادائماً.. مع كذب “بعض المنخسف قمر” لابالضرورة، باعتبار القيد. لان الانخساف خاصة القمر. فذات المنخسف قمر دائما بالضرورة.
اعلم! ان مما يجب التنبيه له في هذا المقام: إن امكان الملزوم لايستلزم امكان اللازم كإمكان عدم المعلول الاول، اللازم عند الحكماء للواجب. مع عدم امكان عدمه لللازم. فإمكان الاصل مطلقة لايستلزم امكان الاطلاق 1 وايضاً قد يتولد المحال من ممكنين بالاجماع، كالقيام والقعود. ففرض الممكن فعلياً 2 مع الاصل الصادق قد لايمكن 3 لتوسع افراد موضوع الاصل.
وايضاً، ان امكان الدوام غير دوام الامكان. فان الاول ينافي الوجوب بالغير، دون الثاني.. فالكاتب دائما ليس بممكن ، ليس بممكن للانسان. والحال أنه يمكن دائماً.
وايضاً، أن صدق الضرورة غير ضرورة الصدق على المشهور.. كما ان صدق الامكان عير امكان الصدق. فان صدق الامكان قد لايمكن فرضه بالفعل، مع بقاء صدقيته الاصل. اذ قد يلزم الامكان شيئاً، ففرض فعله يمتنع معه.. كالقيام وإمكان القعود. فاندفع ماشككوا في هذا المقام.
ثم اعلم! ان لاعكس للممكنتين على ظاهر مذهب الشيخ في عقد الوضع.. اي الفعل الخارجي للتخلف وعدم قيام الخلف. اذ الامكان لايصح في صغرى الشكل الاول، ومن هذا لاتنعكس الضرورة ضرورية.
ثم السّوالب؛ فعكس الدّائمتين الكليّتين دائمة كلية بالخلف، بجعل نقيض العكس. لانه موجبة جزئية 4 صغرى للاصل السالبة الكلية.. فينتج سلب الشئ
____________________
1 في عكسه.
2 في صغرى الاول في بطلان عكس الضرورة ضرورة بالتخلف. (تقرير)
3 وكان كبرى للاول.
4 مطلقة.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 311
عن نفسه الموجود على فرض صدق النقيض. فان شئت، فبعكس نقيض العكس يناقض الاصل.. فبلزوم الدوام يلزم 1 الاعمّ منه.
اعلم! أن عكس العامتين عرفية عامة سالبة كليّة.. والا فحينية مطلقة؛ موجبة جزئية مع الاصل، ينتج سلب الشئ عن نفسه - حين هو نفسه - وعكس الخّاصتين الكليّتين عكس جُزئيهما.. وهما العرفية العامة، السالبة الكلية.. والمطلقة العامة، الموجبة الجزئية، المعبرة باللادوام الذاتيّ في البعض لمخالفة 2 موضوعه 3 لموضوع الجزؤ الاول في الكم 4. اصطلح على هذه بالستة المنعكسة السوالب، ولا عكس للبواقي. لان الاخص منها وهي الوقتية، لاينعكس الى أعمّ الجهات، وهي الممكنة بالتّخلف في “لاشئ من القمر بمنخسف وقت التربيع”، وهو صادق مع كذب “بعض المنخسف ليس بقمر” بالامكان العام. وإن لم ينعكس الاخص لم ينعكس الاعمّ.. وإن لم يلزم الاعم لم يلزم الاخص.
والسالبة الجزئية، لاعكس لها الاّ في الخاصّتين. أما عدم الانعكاس في غيرهما، فلأن أخصّ البسائط الضرورية، والمركبات الوقتية.. وهما تصدقان بلا عكس، ولو ممكنة عامة؛ في “بعض الحيوان ليس بانسان” بالضرورة.. مع كذب “بعض الانسان ليس بحيوان” بالامكان.. و”بعض القمر ليس بمنخسف” بالضرورة، مع كذب “بعض المنخسف ليس بقمر” ولو بالامكان، لان خاصية الانخساف للقمر تشف عن تستر قمر تحت بعض.
وسر عدم جريان الخلف في السوالب الجزئية؛ ان الخلف ضمّ نقيض العكس الى الاصل صغرى او كبرى ليلزم المحال. والحال أن اصلنا هنا لسلبه لايصير صغرى.. ولجزئيته لايصير كبرى. وأما ثبوت الانعكاس في الخاصتين؛ فلان الاصل يقول: “ان ذات الموضوع موجود” بحكم القيد الموجب.. وان الذات متّصف بعنوان الموضوع وهو ظاهر.. وبعنوان المحمول بحكم القيد، وبنفي المحمول بحكم عقد الحمل.. وبنفي الموضوع بحكم المنافاة بين الوصفين. فالوصفان متنافيان ومتعاقبان على ذات
____________________
1 اي يكون عكساً او اصطلاحاً.
2 اعتبر هنا العكس لعدم صدق الكليّة لموضوع الجزئية “وفيما مرّ اعتبر المركبة لجوازه.تأمل!.(تقرير)
3 لكونه عكس الموجبة.
4 لكونه عكس سالبة الكلية.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 312
واحد.. “هروكى “براجوتك” 1“. فالذات في ايّهما استتر، يبعد عنه الاخر.. الى ان يزول ما أخذه.
اعلم! أن العكس تحصيل أخص القضايا اللازمة.. فنثبت اللزوم بالخلف وعدم الانعكاس.. او الى الاخصّ لزوماً، فبالتخلف.. والخلف ابطال الشئ باثبات نقيضه. ففي الاشكال يُضمُ نقيض النتيجة صغرى او كبرى 2، لينتج ماينافي الآخر. وفي العكس ضمّ نقيض المعكس كبرى للاصل في الموجبات.. وصغرى له في السوالب، لينتج سلب الشئ عن نفسه في المستوى. وحمل الشئ على نقيضه في عكس النقيض..
وصورته، من المعقول الثاني هكذا: لو لم يصدّق العكس، لصدق نقيضه بالضرورة. ولو صدق النقيض، لصدّق مع كل صادق.. بسر ان الصدق أبدي. واذا صدق مع كل صادق وصدق مع الاصل. لانه مفروض الصدق، فمن الكل.. اذا صدّقا معاً، حصل الشكل الاول. واذا تركب الشكل الاول، انتج بالبداهة المحال. وهو سلب الشئ عن نفسه هنا، وهو باطل: لوجود الموضوع بالايجاب في الاصل، او نقيض العكس.. وملزوم المحال غير ممكن، فنقيض غير الممكن واجب ولازم، وهو المطلوب..
أما صورة التّخلف هي: انّه لو انعكس، للزِمَ، ولو لزم، لدام.. ولو دام، لم يتخلف.. لكن اذا تخلّف فلم يدم، فلم يلزم، فلم ينعكس..
[فصل في عكس النقيض] 3
الحكم الثالث للقضايا العكس، النقيض..
اعلم! أن الالة كثيراً ماتتحول عن صورتها الحقيقية.. فتظهر لأغراض بلوازم مقدمتيها، او احداهما فهذا، كثيراً مانحتاج لرد غير المتعارف الى المتعارف لعكس النقيض. ثم ان عكس النقيض إما موافق الكيف مع اخذ نقيض الجزئين سلباً او
____________________
1 ان هذا التركيب باللغة الكردية - الكرمانجية. ومعناها: “التوأم” بالعربية. ع.ب.
2 اي بالصغرى.. فينتج ماينافي الكبرى. او بالكبرى، فينتج.. الخ.
3 كلنبوي ص/30


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 313
عدولاً.. او معاً مع النظر والدّقة لاخذ نقيض الجزؤ. فان نقيض “كاتب بالفعل” ليس بـ “لاكاتب بالفعل” لعدم تمام الخلف هنا.. او اخذ نقيض المحمول فقط، سلباً او عدولاً مع المخالفة في الكيف.
ثم، قد ذكرنا: أن العكس مطلقاً، تحصيل اخصّ القضايا اللازمة.. واثبات اللزوم محتاج الى البرهان. والبراهين الجارية في سوالب العكس المستوى، جارية في موجبات عكس النقيض مع تفاوت قليل. لانها نظيرتها. وكذا براهين موجباتها في سوالب ذا.. كـ “زلزل”.
اما الموجبات الكلية، فعكسه على الاول نفسها. لانه المحمول فيها، إما مساو او أعم.. ونقيض المتساويين متساويان. ونقيض الأعم أخصّ من نقيض الاخصّ فيحمل عليه كلياً ألبتة . مثلاً “كل انسان حيوان” ينعكس الى “كل لاحيوان لا انسان” بالخلف. اي والاّ لصدق نقيضه.. وهو “ليس كل لاحيوان بلا انسان” ولايمكن جعله صغرى للاصل لسلبه. ومن هذا، اضطر المتأخرون الى العدول واستلزم هذا، للموجبة عند وجود الموضوع ثابت. اذ لابد ان يكون موجود ومعدوم، خارجاً عن الموضوع والمحمول او لان السالبة يستلزم الموجبة السالبة الطرف، فسلب السلب ايجاب. فاذا صدّق النقيض، استلزم “بعض ماليس بحيوان انسان” صغرى للاصل، وهو “كل انسان حيوان” فينتج “بعض اللاحيوان بالفعل حيوان دائما”. وحمل النقيض على النقيض بهذا الوجه محال. ومستلزم المحال غير ممكن، فنقيض النقيض لازم. تأمل !..
اعلم! أن الدائمتين تنعكسان الى دائمة. مثلاً: “كل انسان حيوان” بالضرورة، او دائماً. و”كل لاحيوان لاانسان”.. والاّ فـ “بعض اللاحيوان ليس بلا انسان” فبعض اللاحيوان انسان بالفعل كما مرّ، مع كل انسان حيوان، ينتج بعض اللاحيوان بالفعل حيوان دائماً. وهو كما ترى.
والعامتان، الى عرفيّة عامة.. مثلا: “كاتب متحرك” مادام كاتباً. فـ “كل لا متحرك لاكاتب” مادام لامتحركاً.. والاّ فـ “بعض اللامتحرك ليس بلا كاتب” حين هو لامتحرك. فبعض اللامتحرك كاتب في حينه لما مرّ ايضاً.. وهو مع الاصل ينتج بعض اللامتحرك متحرك”. حين هو لا متحرك لان الكبرى وصفيّة، فالنتيجة تابعة للصغرى فتأمل في طبيعة الاصل لتستخرج النقط الثلاث في العكس.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 314
والخاصّتان الى عرفية عامة. لادائمة في البعض. لان الاصل يخبرنا بأن ذاتاً واحدة له وصف الموضوع، فوصف المحمول معه. ولها نقيض المحمول، فنقيض الموضوع معه بحكم القيد ومادام.. الاّ ان قيد العكس جزئى كما في عكس المستوى...
اما الجزئيات، فلاعكس لها بالتخلف، الاّ للخاصّتين بالافتراض. فان أخصّ البسائط الضرورية، والمركبات غيرهما الوقتية. ولاتنعكسان الى الامكان العام. وما لم يستلزم الاعم، لم يستلزم الاخص.. ومالم يلزم الاعم، لم يلزم الاخص. مثلا: “بعض الحيوان لا انسان” بالضرورة.. و”بعض القمر لامنخسف” بالضرورة “وقت التربيع” لادائما، مع كذب “بعض اللانسان لاحيوان” و “بعض المنخسف لاقمر” بالامكان العام.
اما الخاصّتان، فعكسهما عرفية عامة جزئية لادائمة. اذ لايصدق في عكس “بعض المتحرك كاتب” لادائماً القيد. اي “بعض اللاكاتب ليس بلامتحرك” بالفعل. اذ تنص الارض تليلة تحت “لاكاتب”.. وتقول: “اني لا اتحرك على رغم المتقدمين، على رغم انفكم ايها الجديديون!.. ومن هذا، يكون قيد عكس الخاصتين الكليّتين جزئية.
اعلم! ان سوالبهما كموجبات عكس المستوى. فالدائمتان والعامّتان الى حينيّة مطلقة، جزئية سالبة. مثلا: الاعم من الاربعة: “لاشئ من الكاتب بساكن” مادام كاتباً. فـ “بعض اللاساكن ليس بلاكاتب” حين هو لا ساكن.. والاّ فـ “كلّ لاساكن لاكاتب” مادام لاساكناً.. وهو بعكس النقيض. فانه قد برهن عليه: “كل كاتب ساكن” مادام كاتباً.. وهو ضد الاصل؛ فهو باطل. فملزوم هذا العكس النقيض. اعني نقيض العكس محال ايضا، غير ممكن.. والعكس لازم.
واما الخّاصتان: فحينية لادائمة.. اما الحينية؛ فلأنه لازم للاعم منها، ولازم الاعم لازم الاخصّ. واما اللادوام؛ فبالافتراض.. نفرض في المثال السابق مع اللادوام؛ “كل روميّ لا ساكن” مادام كاتباً” بحكم الجزؤ الاول.. و”كل رومي لاكاتب” حين هو ساكن بحكم القيد مع العناد بينهما. فبضمنها، يعني كل رومي لاساكن مادام كاتباً وكل رومي لاكاتب. مادام ساكناً. فينتج من الشكل الثالث “بعض اللاساكن لاكاتب” حين هو لاساكن لان النتيجة في الثالث تابعة لعكس الصغرى.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 315
وتستلزم الحينية المطلقة، المطلقة العامة. و”بعض اللاساكن لاكاتب” بالفعل، وهو مآل قيد الحينية اللادائمة في عكس النقيض. ولايثبت بالخلف ولابطريق العكس..
واما الوقتيتان والوجوديتان والمطلقة العامة: فعكس نقيضها، المطلقة العامة، اذا عمّها وهو المطلقة العامة؛ الجزئية السّالبة. مثلا: “بعض الانسان ليس بضاحك” بالفعل، تستلزم “بعض اللاضاحك ليس بلا انسان” بالفعل.. والاّ فـ “كل لاضاحك لا انسان” دائما. وهو يستلزم عكس نقيضها، المبرهن عليه. وهو “كل انسان ضاحك” دائما، وهو مناقض للاصل دائما الصّادق. فبطل عكس نقيض نقيض عكس النقيض.. فيثبت عكسنا، ولايثبت بالخلف. لان الاصل سالبة جزئية، لاتصير صغرى ولاكبرى. واذا لزمت المطلقة المطلقة، لزمت الاخص منها.
ثم ان عند المتأخرين جعل نقيض المحمول موضوعاً.. وعين الموضوع محمولاً مع مخالفة الكيف. فالدّائمتان الموجبتان الى سالبة دائمة.. فكل انسان حيوان دائما، الى “لاشئ من اللاحيوان بانسان” دائما.. والاّ فـ “بعض اللاحيوان انسان” بالفعل. وهو مع الاصل ينتج: “بعض اللاحيوان” حيوان دائماً، او بالضرورة. وهو كما ترى..
والعامتان الموجبتان الى عرفية عامة كلية؛ فـ “ كل كاتب متحرك” مادام كاتبا، الى “لاشئ من اللامتحرك بكاتب” مادام لامتحركاً.. والاّ فـ “ بعض اللامتحرك كاتب” حين هو لامتحرك. وهو صغرى للاصل الوصفي، ينتج: “بعض اللامتحرك متحرك” حين هو لامتحرك، لان النتيجة هنا تابعة للصغرى، وهو محال كما يُرى.
وأما الخاصتان الى عرفية عامة لادائمة في البعض؛ اما العرفية العامة: فكما مرّ.. واما القيد: اعني: “بعض اللامتحرك كاتب” بالفعل.. فبالافتراض لجزئية العكس.. فكل رومي لامتحرك بحكم القيد. و”كل رومي كاتب” بحكم عقد الوضع الموجب. فينتج من الثالث: “بعض اللامتحرك كاتب” بالفعل.
اعلم! ان السوالب هنا، على مذهب المتأخرين ليست كموجبات عكس المستوى 1 في البسائط الخمسة.
____________________
1(تذكر مامرّ) اعلم! ان عكس المستوى ناظرة الى عقد الوضع وغيره. اي سواء كان متناقضين، او متقاربين، او متخالفين، او متضادين، او غيرها. واما عكس النقيض فينظر الى = نسبة الطرفين؛ كالحيوان واللاانسان... فتذكر مامرّ !.. فان مصداق الموجبة الكلية؛ كون الطرفين متساويين، أوالمحمول اعمّ مطلقاً. والجزئية؛ غير المتباينين.. والسالبة الكلية، كونهما متباينين مطلقاً.. والجزئية، غير المتساويين.. والمحمول اعم.
وان نقيض المتساويين متساويان.. والاعم والاخص مطلقاً ايضاً، كذلك بالعكس.. وبين نقيض المتباينين والاعم والاخص من وجه تباين جزئي وهو الاعم.. وإن نقيض المتساوي نقيض للمساوي الاخر. ونقيض الاعمّ مطلقاً، مباين لعين الاخص كذلك. ونقيض (كالحيوان واللاانسان) الاخص مطلقاً، اعم من وجه من عين الاعم كذلك.. ونقيض (لعدم الجزئية فيهما. اي الاصل ولا العكس. تأمل!). الاعم من وجه إحدى النسب، غير التساوي مع عين الاخص من وجه. ونقيض (كالانسان واللاحيوان) المباين اعم من وجه من عين المباين الاخر.
اذا احطت بهذا علماً.. فاذا اخذت نقيض الطرفين - كما عند القدماء - لابد من الاتفاق في الكيف. ولابد لكلية القاعدة من انعكاس السوالب مطلقاً، الى الجزئية.. للتخلف في الكلية، فيما كان النقيضان اعم واخص من وجه. واذا اخذت نقيض واحد من الطرفين وهو المحمول - كما عند الخلف - لابد من المخالفة . فتأمل!.
واعلم ايضاً! ان من الممكنتين لاتنعكسان مطلقاً جزئية كلية، موجبة سالبة. والخاصتين تنعكسان مطلقاً كذلك. والبواقي ايجاباً وسلباً هنا، كزلزل. فموجبة هذا، سالبة ذاك في انعكاس الكلية كلية. وعدم انعكاس الجزئية، الا وانعكاس ستة فقط، باعتبار الجهة. وسالبة هذا، موجبة ذاك في انعكاس كليتهما جزئية.. ولاحدى عشر، باعتبار الجهة عند القدماء. والمركبات فقط عند الخلف. وكون عكوسها ثلاثة ققط. وبرهان الخاصتين مطلقاً الافتراض فقط، بسرّ العنوان. اذ الحكم فيهما ناظر اليه ومرتبط به، دون سائر المركبات. بل بالذات واليه فيها. والتفاوت بين اثبات ذاك ببراهينه، وهذا ايضا بها. هو ان عند السلف بقاء الكيف. ففي الموجبات الاصول مكوّن كبرى. والعكوس ثلاثة: الدائمة، والعرفية والعرفية العامة اللادائمة، والنقيض سالبة جزئية، وهي المطلقة العامة.. والحينية المطلقة، والمطلقة العامة للقيد. فلايكون صغرى. وايضاً لايتكرر الاوسط، فيؤخذ لازمه الموجبة الجزئية، المحصلة المحمول. ويجعل صغرى وينتج. فقد جرى الخلف فيه. واما قياس الاستقامة: فاما ان تنعكس عين النقيض، وهو هنا سالبة جزئية لاتنعكس بعكس المستوى. وبعكس النقيض، عندهم يناقض الاصل. لكن لايثبت به للزوم الدّور هنا. واما ان تنعكس اللازم وهو موجبة. فبعكس المستوى يكون كالضدّ للاصل. وفي السوالب العكوس ثلاثة: الحينية المطلقة.. والحينية اللادائمة.. والمطلقة وهي سوالب جزئية ونقيضها، وهي العرفية العامة والدائمة، موجبة كلية فلايصح لصلاح الاصل للكبروية حالة الكلية دون الجزئية. ولعدم تكرر الاوسط للعدول والتحصيل ، بل بقياس الاستقامة اذ عكس النقيض السالب الجزئى بعكس النقيض عندهم سالبة كلية ولا يلزم هنا ما مرّ فيكون ضد الاصل ودون الافتراض لعدم وجود الموضوع لاتفاق الكيف عندهم، فقد علمت التفاوت هنا. وعند المتأخرين اختلاف الكيف وقد مرّ ففي الموجبات، فتذكر العكوس بجهاته ايضاً الاصل موجب كلي، والعكس سالب كذلك. والنقيض موجب جزئي، فيجري الخلف لجواز كبروية الاصل وصغروية النقيض. وتكرر الاوسط وكذا قياس الاستقامة. اذ عكس الموجبة الجزئية بعكس المستوى عينه، فيضاد الاصل، دون الافتراض لما مرّ. وفي السالب هنا، اي عندهم ليست كموجبات المستوى.(تقرير)


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 316
وعند المتقدمين هي كها فيها ايضاً. لان السالب البسيط يصدّق بعدم الموضوع ايضاً. فيحتمل ان لايكون لنقيض المحمول وجود. كـ “لاشئ من الخلاء ببعد”. مع كذب “بعض اللا بعد خلاء”.

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 317
فلما كان عكس نقيض السالب عند السلف سالباً، كان ذاك كذلك في الصدق. وعند الخلف موجباً يقتضي وجود الموضوع، لم تنعكس البسائط الخمسة. واما المركبات؛ فلوجود الموضوع ألبتة يكون لنقيض المحمول ذات موجودة، وهو ذات الموضوع. فمن الخاصّتين الى حينية لادائمة لا بالخلف. لان الاصل سالب مع سلب نقيض عكس النقيض، لادليل عنه سالبتين.. ولابطريق العكس. لانه لم يبرهن عليه بعد، بل بالافتراض للجزئية في العكس. مثلا: “لاشئ من الكاتب بساكن مادام كاتباً. فالعكس: “بعض اللاساكن كاتب حين هو لاساكن”. اي “بعض اللاساكن ليس بكاتب” بالفعل.
اما الجزؤ الاول: فبـ “كل رومي لاساكن مادام كاتبا” بحكم الجزؤ الاول. و”كل رومي كاتب بالفعل” بحكم عقد الوضع الموجود بالتركيب. فينتج من الثالث: “بعض اللاساكن كاتب حين هو لا ساكن لأن نتيجته تابعة لعكس الصغرى وهو حينية، أما الجزء الثاني: فكل رومي لا ساكن وكل رومي ساكن فالثاني مع الجزء الاول من الاصل ينتج لا شئ من الرومي بكاتب، وهذه النتيجة كبرى لـ “كل رومي لا ساكن” ينتج من الثالث “بعض اللاساكن ليس بكاتب” بالفعل، وهو مآل القيد.
ثم ان الوقتين والوجوديتين الى مطلقة عامة، لعدم انعكاس القيد لايجابه؛ كسالبته في العكس المستوى فبقى المطلقة العامة.. وهو بالافتراض دون الطريقين الاخرين. ففي “لاشئ من الانسان بمتنفس”.. لا دائماً “كل متفشفش لامتنفس” بحكم الجزؤ الاول. و “كل متفشفش انسان” بحكم الوجود في القيد


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 318
بالتركيب. فمن الثالث ينتج: “بعض اللامتنفس انسان” بالحينية المطلقة المستلزمة للمطلقة العامة.
خاتمة:
اعلم! ان الشرطية الاتفاقية مطلقاً، والمنفصلة لاعكس لها، مستوياً مغايراً في المراد. ولاعكس نقيض لكل الشرطيات.. الاّ الموجبة الكلية، المتصلة اللزومية على مذهب الخلف، لقيام الخلف. فان لزوم شئ لشئ يستلزم نفي لزوم الملزوم لنقيض اللازم. مثلاً: كلما كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود.. فليس ألبتة: اذا لم يكن النهار موجوداً كانت الشمس طالعة.. والاّ فقد يكون: اذا لم يكن النهار موجوداً كانت الشمس طالعة؛ صغرى لإيجابه للاصل، كبرى لكليّته. فينتج قد يكون: اذا لم يكن النهار موجوداً، فالنهار موجود.. وهو من المحال كما ترى لاعلى مذهب السلف. فان نقيض عكس نقيضه يصير سالبة جزئية، لايكون صغرى لسلبه.. ولاكبرى لجزئيته، مع عدم استلزام السالبة المعدولة للموجبة المحصلة، لان النفي لايدخل على النفي هنا، لان مآل نقيض العكس نفي لزوم نفي الشئ، وهو لايستلزم لزوم الشئ. اذ قد لايلزم النقيضان لشئ.. وقس على هذا عدم جريان مذهب السلف في البواقي. ولاعكس للجزئيات منها على مذهب الخلف ايضاً.
اما الموجبة فلجزئيته لاتصير كبرى.. وان كان صغرى فرابع.. واما السالبة مطلقاً، فلان نقيض عكس النقيض سالبة ايضاً. ولاقياس على سالبتين..
[الباب الرابع: في الادلة والحجج الخ]
اعلم! ان الدليل باعتبار الصورة، هو المقصد الاعظم من المنطق.. وهو بسيط عند الاصوليين، فالنظر في احواله.. ومركب عند المنطقيين، فالنظر فيه.. فالدليل: مايكتسب بالنظر في احواله، او فيه حكم اخر.. فالاستدلال: إما بالجزئي على الكلي.. فهو الاستقراء، وهو اساس ادلة العربية بل في ابتداء حصول كل العلوم.. واما الجزئي على الجزئّ.. وهو التمثيل، وهو المعتبر في اصول الشرع، بل في كل التشبيهات.. واما بالكلي على الجزئيّ، او على الجزئي الاضافي.. وهو القياس المنطقي، والجاري في تعليم العلوم..


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 319
ثم ان البديهي من هذا القسم الذي يكتسب به نظريات هذا الباب؛ القياس المقسم.. والاستثنائي وغير المتعارف المعبّر عنه - في الاكثر - بقياس المساواة... والشكل الاول الراجع محصّلة الى قياس المساواة.. واصله: قياس غير متعارف. هكذا: زيد مساو لعمرو، وعمرو مساو لبكر؛ فزيد مساو لبكرٍ بالضرورة.
وكل مساو المساوي مساو.. فزيد مساو، وهو المطلوب. فهذا التكلّف لتحصيل تكرر الاوسط. والاصح ان تكرر الاوسط شرط العلم بالانتاج.. فيمكن لزوم الانتاج بدونه؛ كأكثر شرائط اقترانيات الشرطية. واما شرط تحقيق الانتاج الذي لايمكن لزوم النتيجة بدونه: كايجاب الصغرى وكلية الكبرى في الاول.. وان لاتكون المقدمتان سالبتين او جزئيتين في الكل وغيرها.
اعلم! ان الدليل لما كان العلم به بالمعنى العام، علّةً للعلم..كذلك بالنتيجة وجب تقديمه. فالدور بكلا معنييه باطل، وكذا المصادرة.. وان تكون المادة مناسبة ذاتاً وكيفية للنتيجة.
فان قلت: الذهن كاللسان يتعاقب فيها الصغرى والكبرى. فكيف يكون كلاهما علّة مؤثرة؟..
قلت: الافكار علّة معدّة للمطالب باعتبار الحضور.. وعلّة مجامعة 1 باعتبار الحصول.
فان قيل: الايمان الذي هو التصديق 2 مكلف به، والمكلف 3 به فعل اختياري مع ان اللزوم ضرورة والتصديق انفعال؟
قلت: التكليف بترتيب المقدمات..
فان قلت: الدليل يستلزم النتيجة مقدمة اساسيّة للانتاج. مع انه نظرية. فان اثبت بدليل فذلك الدليل ايضاً متوقف على مثل هذه المقدمة؟
قلت: هذه المقدمة تثبت بدليل، تثبت هذه المقدمة فيه، في نفس الامر بالانتقال الطبيعي. لان علم العلم ليس بلازم بالضرورة ، لان ذلك الدليل من المعقولات الاولى.
____________________
1 علّة مقارنة.
2 المنطقي مع لازمه.
3 حال.

صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 320
فإن قلت: علم صدق كليّة الكبرى التي في قوة قضايا متعددة بعدد الافراد، التي منها موضوع النتيجة شرط للانتاج، حتى في ابده الاشكال. مع ان العلم يصدقها، يتوقف على العلم بالنتيجة . قما هذا الدور؟..
قلت: إن لاختلاف العنوان تأثيراً في اختلاف الاحكام؛ معلوميّة ومجهولية، ضرورية ونظرية. فموضوع النتيجة تحت عنوان موضوع الكبرى قد يكون ضرورياً.. وتحت عنوانه نظرياً. ثم إن للإنتاج شرائط عموميّة.. وقد مرّ نبذة منها باعتبار المادة والصورة. وخصوصيته فسيأتي.
ومن الشرائط العموميّة التفطّن الذي هو كالجماع بين الزوجين.. وملاحظة النتيجة في بطن الكبرى..
ثم اعلم! ان الاستقراء له وقع عظيم واستعداد واسع. بل هو المؤسس للعلوم، بل هو المفصّل للعقل بالملكة. فقد بخسوا حقه في الاختصار فيه. ومنه: ماهو مفيد لليقين، وهو التّام الذي كالتواتر الحالي. او تتبع قليل افراد في نوع واحد بالنظر بطبيعة النوع.. وهو ايضاً مفيد لليقين، بسبب انضمام حدسٍ معنوي اليه.. ومفيد للظّن، وهو الاستقراء الناقص في اكثر الجزئيات؛ اذ بسر الحكمة يكون الاكثر هو الباقي على الاصل الذي يعلل. واذا اختصروا فلنختصر..
ثم ان التمثيل ايضاً مفيد لليقين، إن كان مقدّماته يقينيّة. اي وجود الشرائط وانتفاء القوادح يقينيّة المسلك، الذي تثبت العليّة به.. وبندرة اليقينية بكلّها اطلقوا افادة الظنّ.
ثم للتمثيل الذي منه التشبيه ايضاً، اركان اربعة: وهو المقيس، والمقيس عليه، والجامع، وحكم الاصل. لاحكم الفرع، فانه نتيجة.
اعلم: ان للقياس التمثيلي مجالاً واسعاً، فيجري في فنون شتّى وفي المحاورات. لكن القدح المعلّى للشرع..
ومن شرائطه فيه: أن لايكون حكم المشبّه به مختصاً.. او تعبّدياً.. او مستثنىً.. او متغيراً عند التعدي. الخ..
ومن مسالكه فيه: الاجماع، والنصّ، والايماء بالحكم على المشتقّ، والسّبر بالتقسيم، وطرد غير الصالح، والمشابهة، والغاء الفارق، والعكس. اي الوجود عند


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 321
الوجود.. وقيل الطرد وهو عكس العكس.. والدّورات كلاهما.. وتنقيح المناط بطرد الخصوصيات.. وتحقيق المناط باثباتٍ في الصور الخفيّة؛ كالسرقة في الطّرار والنباش.. وتخريج المناط.. والمناسبة.. والوصف المناسب، هو الذي لو عرض على العقول لتلقّته بالقبول.. وهو إما حقيقي او إقناعي.. والحقيقي: إما ضروري.. وهو الاقطاب الخمسة. اي حفظ النفس، والدين، والعقل، والمال، والناموس؛ المناسبة للقصاص... والجهاد، وحدّ السكر او لشرب، وحدّ السرقة، وحدّ القذف؛ وحدّ الزنا. وإما حاجّيّ: كما في اساسات المعاملات... وإما استحساني: كالتنزيه من القاذورات، وعدم تولية النساء والعبيد.. والاقناعي: كبطلان بيع الخمر للنّجاسة.. وقس فتأمل!..
ثم العلة: لابد أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً. لاكالمشقّة وبراءة الرحم... والعلة علامة، وانما المؤثر خطاب الله.. كما أن المؤثّر في عالم الخلق قدرة الله. فتأمل!..
ثم المانع: إما من انعقاد العليّة، او عليّة العلة، او ترتب الحكم او دوامه.. كبيع المعدوم، وبخيار الرؤية، وبخيار المجلس، وبخيار الشرط اي العيب. كما أن الرّمي قد لايصيب، او يصيب لايجرح، او يجرح يندمل، او لايندمل بذمن ..
ومن القوادح : النقض. اي تخلّف المعلول علّة، والمعارضة، والكسر، وعدم التأثر. وقس، فتأمل!..
اعلم! انّا اذا تحرّينا مطلوباً؛ فان كان لجملته نسبة الى شئ، فاستثنائي.. او لاجزائه، فاقتراني.. والاستثنائي من شرطية واستثنائية، حملية او شرطيّة. فشرط الشرطية: الايجاب وعدم الاتفاق.. والكلية عند عدم كليّة الاستثنائية او شخصيّتها. اذ سلب اللزوم او العناد لعمومه، لايستلزم شيئاً. وللزوم النتيجة للدّليل، لاسيما للمقدمة الاستثنائية؛ لم تقدر الاتفاقية على الانتاج. وسرّ الكلية ظاهر.
ثم الشرطية: إن كانت متصلة.. فالمستقيم استثناء عين المقدم لا التالي، لإمكان العموم.. وغير المستقيم استثناء نقيض التالي، لانقيض المقدّم لإمكان أعمية النقيض ممكن الأخصيّة. وغير المستقيم يرتدّ مستقيماً بعكس نقيض الشرطيّة.
____________________
1 ولعله "بزمن" ع. ب.
صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 322
وان كانت منفصلة حقيقيّة، فله اربع نتائج باستثناء عين كلٍ او نقيض كلٍ. ويرتدّ هذا الى المستقيم باستلزام الحقيقية لاربع متصلات.
وان كانت مانع الجمع، فاستثناء عين كلٍ لأخصيّته، لانقيضه لأعميّته بالردّ الى المستقيم بواسطة تلازم مانعة الجمع للمتّصلة، مقدّمتها عين احد جزئيها.. وإن كانت مانعة الخلوّ، فعكسها ومثلها في الرد والبرهان.
فان قلت: المستقيم يكفي.. اذ الباقي بالردّ يظهر؟
قلت: مراعاة طبيعة الفكر والتحصيل وغيرها من نكات البلاغة، احوجتنا الى الطرق المعوجّة.. فكم من اشياء هي مقدمة طبعاً، او تالٍ طبعاً.. او المحصل نقيضها. وقس.. فلو استقمت لم يستقم..
اعلم! ان القياس من محض الحمليات يسمّى اقترانيّاً.. ومن محض الشرطيات او المختلط يسمى اقرانيّة. فاصولها خمسة.. وفروعها خمسة الاف. والضابط فيها: أن الجزؤ الغير المشارك يبقى في النتيجة، مع نتيجة التأليف بين المتشاركين. ونتيجة التأليف لازم للمشارك باعتبار. وملزوم الملزوم ملزوم. ومعاند الملزوم كاللامعاند اللازم في الجملة. فمن متّصلتين في الشكل الاول مع الاشتراك في جزؤ تامٍ مبنىٍّ على ان اللازم اللازم لازم.
ومن منفصلتين.. مع الاشتراك في غير تامّ، وإن كانت تاماً فمتصلة.. إن حقيقيّة، نتيجته منفصلة مركبّة من الجزؤ الغير المشارك، مع نتيجته للتأليف بين الجزؤ الآخر؛ الحملية والمنفصلة الكبرى. لان معاند الملزوم معاند اللازم بجهة..
ومن متصلة وحملية.. المشاركة لأحد جزئيها، ينظر المتشاركين بشرائط الاشكال. ثم يؤخذ نتيجته التأليف.. ثم يضمّ الى الجزؤ الغير المشارك مقدّماً او تالياً.
ومن المنفصلة والحملية الواحدة، فالنتيجة منفصلة مركّبة من غير المشارك، مع نتيجة التأليف بين الحملتين.
____________________
1 اي محصلية الاشياء.
2 ان كان الصفرى.
3 ان كان منفصلة.
صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 323
مع مراعاة الشكل الذي هو منه. وان كانت الحملية متعددة عدد أجزاء المنفصلة، فانظر الى كلّ متشاركين منها.. وخذ نتيجة التأليف من كل جزئين. فان اتحدت الحمليات في طرف، فالنتيجة حملية.. وهو القياس المقسم المشهور والاّ فالنتيجة منفصلة مركبّة من نتائج التأليفات؛ كالكاتب إما جاهل او غافل. والجاهل لابدّ أن يُعَلّم، والغافل لابدّ أن يُنبّه.. فالكاتب إما لابدّ ان يعلّم وإما لابدّ ان ينبّه.
اعلم! إن الحدّ الاوسط شرط العلم بالانتاج كما مرّ. ومن شرط الاوسطيّة أن يكون ركناً للصغرى والكبرى. او جزؤاً لجزئهما، كما في كثير من الاقترانيات.. هذا في المتعارف.
ومن شرطها ايضاً، الاتحاد حقيقة.. لاعنواناً فقط. وأما غير المتعارف، الذي هو متعارف عندي، فالاوسط متعلق احد جزئي الصغرى وعين احد جزئي الكبرى. أما “الدنيا جيفة وطالبها كلاب” فغير متعارف الغير المتعارف. وأما “الانسان مباين للفرس، وكل فرس حيوان” فالاوسط غير مكررّ حقيقة. لان متعلق محمول الصغرى مفهوم. ويجري في غير المتعارف؛ كالمتشاركين الاشكال الاربعة، فيشترط مايشترط فيها. ويجري غير المتعارف كالمتعارف في الشرطيات باقسامها. مثلا: لمّا كانت الشمس سلطان النجوم، كانت في مركز عالمها وسط الكائنات.. فالشمس وسط الكائنات.
ثم أن لغير المتعارف المتعارف الذي تساوي محمول الصغرى والكبرى - إن كان من الشكل الاول - نتيجتين:
احدهما: ذاتية بضم محمول الصغرى بالاضافة الى محمول الكبرى. وجعلها محمول النتيجة؛ كالدّرة في الحقة، والحقةُ في البيت.. فمفاد الفائدين وهو مظروف محمول النتيجة. وإنكان احدهما حرفياً، والاخر اسمياً؛ فبدخول الحرفيّ على الاسمي كالدّرة في الصّدف.. والصّدف جميل، فالدرّة جميل.
والنتيجة الثانية: عند اتحاد المحمولين جعل محمول الكبرى فقط، فيكون قياس المساواة . وانما يصدق عند اللاحيوان الاجنبية.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 324
واعلم ايضاً! أن القياس التمثيلي قياس غير متعارف، باعتبار ذكره أداة التّشبيه في النتيجة، كـ “النبيذ، كالخمر، والخمر حرام.. فالنبيذ حرام” تمثيل ظنيّ . و”كالحرام” غير متعارف يقيني.
اعلم! أن من القياسات قياسات خفيّة، ولها مجال واسع. وكثير ما تنقلب القياسات الجليّة بالالفة والاستمرار خفية. واساس الخفية دليل ينقدح في الذهن دفعة من تفاريق امارات، وخاصته بسرعة الانتقال من المبادى الى المطالب بلا ترتيب. وقد يفاد بأنه علم اجمالي يقينيّ لايقتدر أن يعبّر عنها بالتفّصيل، لتحلبّها من مظان متفرقة. فلايمكن أن يضع اصبعه على منبع معين.
ثم ان الاشكال الثلاثة انما يعلم نتيجتها بانقلابها الى الشكل الاول. فاذاً فما الفائدة في تطويل الطريق؟
الجواب: ان لموضوع النتيجة ومحمولها موصوفات واوصاف.. اي موضوعات طبيعيّة ومحمولات طبيعيّة.
فاذا تحريّت مايشترك طرفا المطلوب فيه، فقد يكون المشترك صفة الطرفين.. اي محمولاً طبيعياً لهما.. ككل متعجّب انسان، بالنظر الى الضاحك. وقد يكون مصوف الموضوع صفة المحمول.. ككل ضاحك انسان بالنظر الى المتعجب. فلمخالفة المطلوب لطبيعة القضية تعددّت الاشكال.. ولمراعاة الطبيعة خولفت الطبيعة.
اعلم! إن في كل شئ روحاً وحقيقة.. فروح الشكل الاول أنّ داخل داخل الشئ داخل الشئ. وظرف ظرف الشئ ظرف الشئ.
وفي الشكل الثاني: الاستدلال بتنافي اللوازم على تنافي الملزومات. اذ السالبة مؤوّلة بالمعدولة. والمراد من اللزوم مطلق الاتّصاف..
في الشكل الثالث: بأن شيئاً مجمع صفتين، فالصفتان مترافقتان..
وفي الرابع: اثبات موصوف الشئ لصفته..
ثم ان اتصال الصغرى بالكبرى اتفاقية.. وترتب النتيجة عليهما مؤول بشرطية لزومية بديهية في الاول، نظريّة في البواقي، مثبتّة بأدلة ثلاثة.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 325
احدها: الخلف.. وملخّصه: اثبات الشئ بابطال نقيضه وتصويره: بصنعة البرهان، هكذا: اذا صدّق هذا الشكل لزم هذه النتيجة مدّعى.. والا “اي” و “ان” لم يلزم لصدق نقيضه. ولدائمية الصدق يصدّق مع كل صادق اتفاقياً. واذا صدّق مع كل صادق، صدق مع هذا الشكل الصادق، فيصدق مع جزئه اتفاقياً، الكافي في تشكل الشكل.. فيحصل صورة الشكل فينتج بالبداهة نقيض او ضدّ أحد المقدمتين الصّادقتين بحسب الفرض. وجمع النفيضين او الضدين في الصدق محال.. وملزوم المحال باطل.. ومنشأ الفساد ليس صورة الشكل الاول لبداهته.. ولامقدمة الشكل لمفروضة الصدق، بل نقيض النتيجة.. فهو منشأ المحال، فالنتيجة صادقة.
ثم ان نقيض النتيجة في الشكل الثاني، يصير صغرى الكبرى، وينتج نقيض الصغرى.
وفي الشكل الثالث تأخذ النقيض وتجعله كبرى للصغرى لينتج نقيض الكبرى. وأما الرابع: فيدلي دَلوه اليهما، الثاني الاستقامة وتصويره، اعني بطريق العكس.. هكذا: كلما صدّق هذا الشكل صدّق الصغرى مع لازم الكبرى في الثاني مثلا. وصدق الكبرى مع لازم الصغرى، اي عكسها في الثالث مثلا. وكلما صدّقا معاً، صدّقا لازماهما. وكلما صدق هذا مع ذاك، صدّق ذاك مع هذا؛ كما في الرابع مثلا. لان مابين الصغرى والكبرى من الاتفاق اضافة متشابهة الطرفين. فاذاً يحصل الشكل الاول المنتج للمطلوب او لملزومه بالبداهة.
ثم ان المقصد من المنطق تمييز الافكار الصحيحة بوضع شرائط. فمن الشرط العموميّ: ان لاتكون الصغرى والكبرى سالبتين او جزئيتين. وشرط الاول خصوصاً ايجاب الصغرى وكلية الكبرى. فان بفقد أيّهما كان، يلزم الاختلاف المستلزم للتخلف، المنافي للزوم المباين للانتاج. فلنا (في تبيين الضروب المنتجة بين الضروب الثمانية عشر العملية بضرب صغريات الاربع في كبريات الاربع) طريقان.
طريق التحصيل: بضمّ الصغرى الموجبة جزئية او كليّة الى الكبرى الكلية موجبة او سالبة..
والثاني طريق الحذف: باسقاط ايجاب الصغرى سالبتها في اربعة الكبرى، واسقاط كليّة الكبرى جزئيّتها في موجبتى الصغرى. فبقى الاربعة المنتجة للمطالب


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 326
الاربعة، التي اختص الشكل منها بالسالبتين.. والثالث بالجزئيتين.. والرابع بغير الموجبة الكلية.. فالاول من الاول هو المنتج للموجبة الكليّة، فيكون من موجبتين كليتين.
اعلم! ان الاول من الاول من موجبتين كليتين، ينتج موجبة كليّة. ككل “أ، ب” وكل “ب، ج”، فكل “أ، ب”.
والضرب الثاني: من كليّتين والكبرى سالبة كليّة، ينتج سالبة كلية.
والثالث: من موجبتين، والصغرى جزئية؛ ينتج موجبة جزئية.
الرابع: من موجبة جزئية صغرى، وسالبة كلية كبرى؛ ينتج سالبة جزئيةً. لان النتيجة تتبّع أخسّ مقدمتيه، والسلب والجزئية خسيستان.
اعلم! ان الشكل الثاني ما كان الاوسط محمولاً في مقدمتيه.. وضروبه العقلية، كأخواته ستة عشر.. وشرطه، كلية الكبرى واختلاف الكيف. فبطريق الحذف تسقط الكليّة جزئيتّي الكبرى في اربع الصغرى. وتحذف الاختلاف الموجبة، الكلية كبرى في موجبتي الصغرى.. والسالبة الكلية الكبرى في السالبتي الصغرى. وبطريق التحصيل، الكبرى السالبة، مع موجبتي الصغرى والكبرى، الموجبة الكليّة مع سالبتى الصغرى.
فهذا الشكل ينتج من المطالب الاربعة بضروبه الاربعة، السالبة الكلية والسالبة الجزئية. ودليل انتاجه الخلف في كل الضروب.. وعكس الكبرى في الضرب الاول والثالث.. وعكس الصغرى مع عكس الترتيب. وعكس النتيجة في ضرب الثاني، ولاعكس في الضرب الرابع. لان صغراه السالبة الجزئية لاعكس لها. وبعكس الموجبة الكليّة الكبرى تصير جزئية.. ولادليل من جزئيّتين. وبالافتراض في الضرب الثالث مطلقة. وفي الرابع بشرط كون الصغرى من المركبات، لبتحقق وجود الموضوع حتى يفترض. والافتراض قياسان.
احدهما من الاول.. او من الضرب الاجلى من الشكل المطلوب.
والقياس الاخر من الثالث.. وتحصيله: تخريج الموضوع عن الحقيقي.. وحمل عنوان الموضوع عليه بالايجاب. وعنوان المحمول: إما بالايجاب إن كانت القضية موجبة.. او بالسلب إن كانت سالبة..


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 327
ثم ضم عقد الحمل هنا الى الكبرى.. ثم جعل نتيجتها كبرى لعقد الوضع.. فالضرب الاول من الشكل الثاني من كليّتين والكبرى سالبة. مثلا: كل جسم مؤلّف، ولاشئ من القديم بمؤلف.. فلاشئ من الجسم بقديم ، بالخلف. وهو اثبات الشئ بابطال نقيضه.. هكذا اذا صدّق هذا الشكل، صدّق هذه النتيجة.. والا لصدّق نقيضها؛ وهو “بعض الجسم قديم”. والصّادق يصدّق مع كل صادق.. فيصدّق مع الكبرى المفروض الصدق. هكذا: “بعض الجسم قديم، ولاشئ من القديم بمؤلّف، فلاشئ من الجسم بمؤلّف” وهذا نقيض للصغرى المفروض الصدق. فنقيض الصادق كاذب.. وملزوم الكاذب باطل.. ونقيض الباطل حق.. فالنتيجة صادقة.. وبعكس الكبرى ليرتدّ الى الشكل الاول.. وهكذا: لو صدق الصغرى مع الكبرى، لصدق مع لازمها.. فيصير شكلاً اولاً.
والضرب الثاني: من كلّيتين، والصغرى سالبة؛ كلا شئ من الجسم ببسيط.. وكل قديم بسيط؛ ينتج لاشئ من الجسم بقديم، بالخلف - كما مرّ - وبعكس الصغري. ثم جعلها كبرى، ثم عكس النتيجة. لانه اذا صدّق الصغرى مع الكبرى، صدّق لازم الصغرى مع الكبرى ايضاً. واذا صدّق لازم الصغرى مع الكبرى، صدّق الكبرى مع لازم الصغرى.. فينتج بالشكل الاول ملزوم مطلوبنا.
والضرب الثالث: من موجبة جزئية صغرى وسالبة كليّة كبرى؛ ينتج سالبة جزئية بالخلف والعكس والافتراض. مثلا: بعض الجسم مؤلّف، ولاشئ من القديم بمؤلّف.. فبعض الجسم ليس بقديم.. بعكس الكبرى، يرتدّ الى الاول. وبضمّ نقيض النتيجة صغرى للكبرى، لينتج نقيض الصغرى الصادق، فهو كاذب، فملزومه باطل، فنقيض ملزومه صادق.
وبالافتراض: فالمقدمتان الافتراضيتان.. نفرض الموضوع الحقيقي في “بعض الجسم مؤلّف انساناً، فكل انسان جسم، وكل انسان مؤلّف”. فخذ عقد الحمل، واجعل صغرى لنفس الكبرى، ليصير ضرباً اجلى.. او الى عكس الكبرى. هكذا: كل انسان مؤلّف، ولاشئ من القديم بمؤلّف.. ولاشئ من الانسان بقديم”. فجعل هذه النتيجة كبرى لعقد الوضع، هكذا: كل انسان جسم، ولاشئ من الانسان بقديم، فينتج من الثالث: “بعض الجسم ليس بقديم” وهو المطلوب.


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 328
والضرب الرابع: من سالبة جزئية صغرى وموجبة كليّة كبرى.. هكذا: بعض الجسم ليس ببسيط، وكل قديم بسيط؛ فبعض الجسم ليس بقديم، بالخلف.. بضم نقيض النتيجة صغرى للكبرى، لينتج نقيض الصغرى المفروض الصدق. لابعكس الكبرى، لصيرورتها جزئية.. ولابعكس الصغرى، لانها لاتقبل العكس. ولا بالافتراض لعدم تحقق وجود الموضوع، الاّ اذا كانت مركبة.. فاذا كانت، نفرض الموضوع الحقيقي انساناً.. فكل انسان جسم، ولاشئ من الانسان ببسيط.
فاجعل هذه المقدمة الثانية صغرى للكبرى.. ثم اجعل نتيجتها كبرى للمقدمة الافتراضية الاولى.. هكذا: كلُّ انسان جسم، ولاشئ من الانسان ببسيط؛ فمن الشكل الثالث ينتج بعض الجسم ليس بقديم.
واما الشكل الثالث: فشرطه ايجاب الصغرى وكلية احدى مقدمتيه للاختلاف عند الفقد. فبطريق التحصيل الصغرى الكيلة مع الكبريات الاربع.. والصغرى الموجبة الجزئية مع كلية الكبرى. ولاينتج هذا الشكل الا جزئيةً. فضروبه المنتجة ستة مرتبة على وفق شرف النتائج، والكبرى وانفسها..
فالضرب الاول من موجبتين كليتين؛ ينتج موجبة جزئية، بالقياس المستقيم المركب المركب من الشرطيات.. هكذا: اذا صدّق هذا الضرب، لزم النتيجة.. هذا المدعى نظري. دليله: لانه اذا صدّق الصغرى مع الكبرى، صدّق لازم الصغرى مع الكبرى ايضاً. واذا صدّق لازم الصغرى مع الكبرى، حصل صورة الشكل الاول. واذا حصل صورة الشكل الاول، فبالبداهة لزم هذه النتيجة. فاذا صدّق هذه الضرب، صدّق هذه النتيجة.. وبالخلف ايضاً.
ومرجعه الى قياسين: استثنائي غير مستقيم.. واقتراني مركبة منتجة للمقدمة الشرطية للقياس الاستثنائي. هكذا: اذا صدّق هذا الضرب، لزم هذه النتيجة. لانه إن لم يجب صدق هذه النتيجة،لزم المحال. لكن التالي باطل.. فينتج بطلان عدم لزوم صدق النتيجة.
اما المقدمة الاستثنائية فبديهية.. واما المقدمة الشرطية؛ فلأنه اذا لم يلزم صدق النتيجة، أمكن صدق نقيضها. ولو أمكن صدق نقيضها، لأمكن مع كل صادق، ومن الصادق الصغرى. ولو أمكن صدقه مع الصغرى، لامكن حصول الشكل الاول


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 329
المنتج لضدّ الكبرى، المفروض الصدّق. فلو أمكن حصول شكل هكذا؛ لأمكن اجتماع الضدّين وهو محال.. فلو أمكن هكذا، لأمكن المحال.. وإمكان المحال محال.. فلو أمكن هكذا، لزم المحال؛ فينتج من المجموع المقدمة الشرطية في الاستثنائي.. وهو فلو لم يلزم صدق النتيجة لزم المحال.
نحوَ: “كل مؤلّف جسم، وكل مؤلّف حادث؛ فبعض الجسم حادث”.. بعكس الصغرى، ليرتدّ الاول. وبضم التيجة، وهو: “لاشئ من الجسم بحادث” كبرى للصغرى.. وهي: “كل مؤلّف جسم” لينتج ضدّ الكبرى وهو: “لاشئ من المؤلّف بحادث”.
الثاني: من كليّتين، والكبرى سالبة؛ ينتج سالبة جزئية لاكلية.. لجواز كون الاصغر اعم. كـ “كل مؤلّف جسم، ولاشئ من المؤلّف بقديم.. فبعض الجسم ليس بقديم”.. بعكس الصغرى، ليرتدّ الى الشكل الاول.. وبالخلف بضمّ نقيض النتيجة كبرى للصغرى، المنتج لضد الكبرى الصادق.
الثالث: من موجبتين، والصغرى جزئية؛ كـ “بعض المؤلّف جسم، وكل مؤلّف حادث” بالخلف.. والعكس كما مرّ في الضرب الاول.. وبالافتراض بفرض الموضوع الحقيقي في “بعض المؤلّف جسم انساناً، وكل انسان مؤلّف.. وكل انسان جسم”..
فاجعله المقدّمة الافتراضية الاولى صغرى للكبرى. هكذا: “كل انسان مؤلّف، وكل مؤلّف حادث.. فكل انسان حادث” ثم اجعل هذه النتيجة كبرى للمقدمة الافتراضية الثانية: هكذا: “كل انسان جسم، وكل انسان حادث” فينتج بالضرب الاجلى هذه الشكل: “بعض الجسم حادث..”
واعلم ان الافتراض في الثالث عكس افتراض الثاني. فان التصرّف هناك في المقدّمة الثانية. وهنا في المقدمة الاولى.. وإن القياس الاول في افتراض الشكل الثاني ايضاً من الثاني. والقياس الثاني في افتراض الشكل الثالث ايضاً من الثالث.
والضرب الرابع: من موجبة جزئية صغرى، وسالبة كلية كبرى. نحو: “بعض المؤلّف جسم، ولاشئ من المؤلّف بقديم. فبعض الجسم ليس بقديم” بالقياس المستقيم الذي مرجعه ثبوت الشئ مع الملزوم، يستلزم ثبوته مع اللازم.. وبالقياس الخفي الذي


صيقل الإسلام/تعليقات - ص: 330
مرجعه اثبات الشئ بابطال نقيضه. وصورته: قياس استثنائي غير مستقيم، يثبت مقدمته الشرطية باقترانيات مركبة.
وبالافتراض ومرجعه: إخراج الموضوع الحقيقي... ثم حمل عنواني الموضوع والمحمول كليّة عليه. ثم ضم عقد الوضع الى الكبرى. ثم ضمّ النتيجة الى عقد الحمل، لينتج المطلوب.
الضرب الخامس: من موجبتين، والكبرى جزئية.. كـ “كل مؤلّف جسم، وبعض المؤلّف حادث” بالخلف كما مرّ. وبعكس الكبرى مع الترتيب.. وعكس النتيجة هكذا: اذا صدّق هذا الضرب، صدّق صغراه مع لازم كبراه.. فيصدق لازم الكبرى مع الصغرى ايضاً، فيستلزم بالشكل الاول ملزوم المطلوب.
وبالافتراض : بفرض موضوع الكبرى الجزئية “انساناً.. فكل انسان مؤلّف ، وكل انسان حادث” فاجعل المقدمة الافتراضية الاولى صغرى للصغرى.. ثم ضم نتيجتها صغرى للمقدمة الافتراضية الثانية.
الضرب السادس: من موجبة كلية صغرى، وسالبة جزئية كبرى.. نحو: “كل مؤلّف جسم، وبعض المؤلّف ليس بقديم.. فبعض الجسم ليس بقديم” بالخلف - كما مرّ - دون العكس. لان الكبرى لاتقبل العكس. وبعكس الصغرى يصير الدليل من جزئيتين.. ودون الافتراض ايضاً. لان الكبرى الجزئية سالبة، لاتقتضي وجود الموضوع، الاّ اذا كانت مركبة. والافتراض: اخراج الموضوع الحقيقي الموجود...
الشكل الرابع: اساسه:.......

عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:20 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/السانحات - ص: 331
السانحات
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة
إحسان قاسم الصالحى
صيقل الإسلام/السانحات - ص: 332
افادة مرام

حينما كنت اتدبّر في بعض الآيات الكريمة خطرت على قلبي نكات لطيفة، فدونّتها على صورة ملاحظات ومذكرات.. فيا قارئي العزيز لاتضجر من اسلوبي الموجز فلست غنياً بالالفاظ كما لا احب الاسراف. ولاتعجبني الالفاظ المنمقة. . خذ من كل شئ احسنه. سر على هذه القاعدة. فما لايعجبك ولا يروق لك دعه لي، ولاتعترض.
سعيد
صيقل الإسلام/السانحات - ص: 333
بسم الله الرحمن الرحيم
(إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
(العصر :3)

سنبين حكمة "الاطلاق" فقط. فالقرآن الكريم يترك "الصالحات" مطلقة دون قيد يقيدها، ومبهمة دون ان يشخصها، وذلك:
ان الفضائل والاخلاق، وكذا الحسن والخير، اغلبها امور نسبية، تتغير كلما عبرت من نوع الى آخر، وتتباين كلما نزلت من صنف الى صنف، وتختلف كلما بدّلت مكاناً بمكان، وتتبدل باختلاف الجهات، وتتفاوت ماهيتها كلما علت من الفرد الى الجماعة ومن الشخص الى الامة.
فمثلاً: الشجاعة والكرم في الرجل تدفعانه الى النخوة والتعاون، بينما تسوقان المرأة الى النشوز والوقاحة وخرق حقوق الزوج.
ومثلاً: ان عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي، لو كانت في القوي لكانت تكبّراً، وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف، لو كان في الضعيف لكان تذللاً.
ومثلاً: ان جدّية ولي الامر في مقامه وقارٌ، بينما لينُه ذلة. كما ان جديّته في بيته دليل على التكبر، ولينه دليل على التواضع.
ومثلاً: ان تفويض الامر الى الله في ترتيب المقدمات كسل، بينما في ترتّب النتيجة توكل. كما ان رضا المرء بثمرة سعيه وقسمته قناعة، يقوي فيه الرغبة في السعي، بينما الاكتفاء بالموجود تقاصر في الهمة.
ومثلاً: ان صفح المرء ــ عن المسيئين ــ وتضحيته بما يملك، عملٌ صالح، بينما هو خيانة ان كان متكلماً عن الغير ــ باسم الجماعة ــ وليس له ان يتفاخر بشئ يخصّه، ولكن يمكنه ان يفخر باسم الامة من دون ان يهضم حقها.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 334
وهكذا رأيت في كل مما ذكرنا مثالاً، فاستنبط بنفسك. اذ القرآن الكريم خطاب الهي شامل لجميع طبقات الجن والانس، ولكل العصور، والاحوال والظروف كافة.
وحيث ان الحسن النسبي والخير النسبي كثير جداً، فان اطلاق القرآن اذن في "الصالحات" ايجاز بليغ لاطناب طويل. وان سكوته عن بيان انواع الصالحات كلام واسع.
***

(وان الفجّار لفي جحيم) (الانفطار: 14)
العاقبة دليل العقاب، الحدس يدل عليه؛ فعاقبة المعصية التي تقع في الدنيا، امارة حدسية ان عاقبتها تؤول الى عقاب؛ لان اي انسان كان يرى حدساً وبتجربته الخاصة، ان المعصية تنجر الى عاقبة سيئة وخيمة - رغم عدم وجود علاقة طبيعية بينهما - فهذه الكثرة الكاثرة من التجارب الشخصية، والتي تقع في ميدان واسع جداً، لاتكون نتيجة مصادفة قط. فلو اخذنا هذه التجارب الشخصية بنظر الاتبار، ظهر لدينا ان نقطة الاشتراك بينها هي طبيعة المعصية المستلزمة للعقاب. فالعقاب اذن لازم ذاتي للمعصية.
ولما كان هذا اللازم الضروري يترتب - على الاغلب - في الدنيا على طبيعة المعصية وحدها، فلاشك ان ما لم يترتب عليه في هذه الدنيا سيترتب عليه في الدار الآخرة.
فيا ترى هل هناك احدٌ لم يمر بتجربة في حياته قال فيها: ان فلاناً قد جوزي بما اساء!.
***

(وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (الحجرات :13)
اي: لتعارفوا فتعاونوا فتحابوا، لالتناكروا فتعاندوا فتتعادوا!
اذ كما ان هناك روابط تربط الجندي بفصيله وفوجه ولوائه وفرقته في الجيش، وله واجب ووظيفة في كلٍ منها، كذلك كل انسان في المجتمع له روابط متسلسلة


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 335
ووظائف مترابطة. فلو اختلطت هذه الروابط والوظائف ولم تعيّن وتحدّد لما كان هناك تعاون ولا تعارف.
فنمو الشعور القومي في الشخص اما ان يكون ايجابياً او سلبياً:
فالايجابي ينتعش بنمو الشفقة على بني الجنس التي تدفع الى التعاون والتعارف.
اما السلبي فهو الذي ينشأ من الحرص على العرق والجنس الذي يسبب التناكر والتعاند. والاسلام يرفض هذا الاخير.
***

(وما من دآبة في الارض الاّ على الله رزقها) (هود:6)
الرزق ذو اهمية عظيمة كاهمية الحياة في نظر القدرة الإلهية، اذ القدرة هي التي تُخرج وتوجِد الرزق، والقَدر يلبسه اللباس المعين، والعناية الإلهية ترعاه.
فالقدرة الإلهية - بفعّالية عظيمة - تحوّل العالم الكثيف الى عالم لطيف. ولاجل أن تكسب ذرات الكائنات حظاً من الحياة فانها تعطيها الحياة بادنى سبب وبحجة بسيطة، وبالاهمية نفسها تحضر القدرة الرزق متناسباً مع انبساط الحياة.
فالحياة محصّلة مضبوطة اي مشاهدة محدّدة، اما الرزق فغير محصّل - اي لايحصل آنياً - وانما بصورة تدريجية ومنتشرة تدفع الانسان الى التأمل فيه.
ومن وجهة نظر معينة يصح أن يقال: انه ليس هناك موت جوعاً. لان الانسان لا يموت قبل ان ينتهي الغذاء المدخر على صورة شحوم وغيرها.
اي ان المرض الناشئ من ترك العادة هو الذي يسبب موت الانسان وليس عدم الرزق.
***

(وان الدار الآخرة لهي الحيوان) (العنكبوت : 64)
الحياة الحقيقية انما هي حياة الآخرة، فذلك العالم هو عين الحياة، اذ لا ذرة من ذراتها الا نابضة بالحياة، ولا تعرف الموت اطلاقاً.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 336
ودنيانا حيوان ايضاً؛ اذ ان كرتنا الارضية اشبه ما تكون بكائن حي. لان آثار الحياة ظاهرة عليها. فلو فرضنا انها صغرت بحجم البيضة، اما كانت حيواناً؟ او ان جرثومة صغيرة كبرت وعظمت عظم الكرة الارضية، اما كانت تشبهها؟ وحيث ان الكرة الارضية حية، فلها روح اذن.
نعم، ان العالم الذي هو انسان مكبر، يظهر من اثار الحياة بما يتضمن من منظومات الكائنات مايظهره الجسد بين اعضائه واجزائه، كالتساند والتجاوب والتعاون، بل تبقى هذه الآثار الحياتية للجسد قاصرة دون تلك الآثار.
فلو صغر العالم صغر الانسان وتحولت نجومه الى مايشبه الذرات والجواهر المفردة، اما يكون حيواناً ذا شعور؟
فهذه الآية الكريمة تلمّح الى سر عظيم:
ان مبدأ الكثرة هو الوحدة، وان منتهاها ايضاً الى الوحدة. فهذا دستور فطري. فلقد خلقت القدرة الإلهية، من القة التي اودعتها في الكائنات - وهي فيض تجليها واثر ابداعها - قوة جاذبة عامة، متصلة مستقلة محصلة باحسانها على كل ذرة من ذرات الوجود جاذبة خاصة بها. فاوجدت رابطة الكون. فكما ان في الذرات محصلة القوى الجاذبة الناشئة من القوة المودعة فيها، فهي ضياء القوة، واستحالة لطيفة من اذابتها، كذلك فان محصل قطرات الحياة المنتشرة على الكائنات كافة ولمعانها، انما هي حياة عامة تعم الوجود جميعاً.. نعم هكذا يقتضي الامر.فاينما وجدت الحياة فثمّ الروح. والروح مثل الحياة ايضاً منتهاها بداية تجلي فيض لروح.
فمبدأ الروح هذا ايضاً تجلٍ للحياة الخالدة التي سميت لدى المتصوفة بـ"الحياة السارية".
وهكذا ترى ان سبب الالتباس الذي وقع فيه اهل الاستغراق ومنشأ شطحاتهم هو التباس هذا الظل مع الاصل لديهم.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 337
(ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات بل احياء ولكن لاتشعرون) (البقرة:154)
والشهداء يشعرون انهم احياء، وانهم ماماتوا، اذ الشهيد يعدّ نفسه حياً، لانه لايذوق ألم السكرات فيرى حياته التي ضحّى بها مستمرة غير منقطعة، بل يجدها انزه واسمى من حياته.
وحياة الشهيد وحياة الميت نظير هذا المثال:
رجلان يريان فيما يرى النائم انهما يتمتعان بلذائذ لطيفة في تجوالهما خلال بستان بديع. فأحدهما يشعر ان مايراه هو رؤيا ليس الاّ، فلا يستمتع متعة كاملة. اما الآخر فلا يعلم انه رؤيا، بل يعتقد ان ما يراه هو حقيقة، فيستمتع تمتعاً كاملاً.
وحيث ان عالم الرؤيا ظل عالم المثال، وهذا ظل لعالم البرزخ، لذا اصبحت دساتير هذه العوالم متماثلة.
***

(من قتل نفساً بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً،
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
(المائدة : 32)
هذه الآية الكريمة حق خالص ولا تنافي العقل قطعاً، وهي حقيقة محضة لا مبالغة فيها قط، الاّ ان النظر الظاهري يدعو الى التأمل:
الجملة الاولى:
تضع اعظم دستور للعدالة المحضة التي تقرر: لا يهدر دم بريء ولا تزهق روحه حتى لو كان في ذلك حياة البشرية جمعاء، فكما ان كليهما في نظر القدرة الالهية سواء فهما في نظر العدالة سواء ايضاً. وكما ان نسبة الجزئيات الى الكلي واحدة كذلك الحق في ميزان العدالة، النسبة نفسها. ولهذا فليس للحق صغير وكبير.
اما العدالة الاضافية فهي تفدي بالجزء لأجل الكل بشرط ان يكون لذلك الجزء المختار الرضا والاختيار صراحة او ضمناً، اذ عندما يتحول "انا " الافراد الى "نحن" الجماعة ويمتزج البعض بالبعض الآخر مولداً روح الجماعة، يرضى الفرد ان يضحي بنفسه للكل.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 338
وكما يتراءى النور كالنار ، تتراءى احياناً شدة البلاغة مبالغة.
وهنا نقطة البلاغة تتركب من ثلاث نقاط:
اولاها: لإظهار غير محدودية استعداد العصيان والتهور المغروز في فطرة الانسان. فكما ان له قابلية غير محدودة للخير فله قابلية غير متناهية للشر ايضاً. بحيث ان الذي تمكّن فيه الحرص والانانية يصبح انساناً يريد القضاء على كل شئ يقف دون تحقيق حرصه، حتى تدمير العالم والجنس البشري ان استطاع.
ثانيتها: لزجر النفس، باظهار قوة الاستعداد الفطري الكامن، في الخارج. اي باظهار الممكن في صورة الواقع، بمعنى ان بذرة العرق النابض بالغدر والعصيان كأنها انفلقت من طور القوة الى طور الفعل. فالجملة تحوّل الامكانات الى وقوعات، لتثمر قابلياتها حتى تأخذ شكل شجرة الزقوم، وذلك لينزل التنفير والانزجار الى اعماق النفس. وهو المطلوب. وهكذا تكون بلاغة الارشاد.
ثالثتها: قد تظهر القضية المطلقة احياناً قضية كلية، وقد تظهر القضية الوقتية المنتشرة في صورة قضية دائمة. بينما يكفي لصدق القضية وصحتها - منطقاً - اذا ما نال فرد في زمان معين حكماً. اما اذا صارت كمية ذات اهمية فعندها تكون القضية صحيحة عرفاً.
ان في كل ماهية افراداً خارقين، او فرداً في منتهى الكمال لذلك النوع، كذلك لكل فرد زماناً خارقاً لظروف وشرائط عجيبة بحيث ان سائر الافراد والازمنة بالنسبة لذلك الفرد الخارق والزمان الخارق تكون بمثابة ذرات لاقيمة لها او كاسماك صغيرة بالنسبة للحوت الضخم.
وبناء على هذا السر الدقيق فان الجملة الاولى رغم انها قضية كلية ظاهراً فانها ليست دائمة. الاّ انها تضع امام انظار البشر ارهب قاتل من حيث الزمان.
نعم ، سيكون زمان تسبب فيه كلمة واحدة توريط جيش كامل في الحرب، وطلقة واحدة إبادة ثلاثين مليون نسمة وكما حدث. 1
وستكون هناك احوال بحيث ان حركة بسيطة تسمو بالانسان الى اعلى عليين ، وفعل صغير يرديه الى اسفل سافلين.
_____________________
1 لقد كانت طلقة جندى اطلقت على ولي عهد النمسا سبباً في اشعال نار الحرب العالمية الاولى التي ذهب ضحيتها ثلاثون مليون نسمة. - المؤلف



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 339
فهذه الحالات التي هي قضايا مطلقة او منتشرة زمانياً تؤخذ بنظر الاعتبار لنكتة بلاغية عظيمة.
فالافراد العجيبون والازمنة العجيبة تُترك على الاطلاق والابهام. فمادام الولي في الناس وساعة الاجابة في الجمعة وليلة القدر في شهر رمضان واسم الله الاعظم في الاسماء الحسنى والأجل في العمر، مجهولاً، سيظل لسائر الافراد قيمتهم واهميتهم. بينما اذا تعيّن اولئك الافراد وتلك الازمنة تسقط أهمية سائر الافراد والازمنة. فان عشرين سنة من عمر مبهم افضل من ألف سنة من عمر معلوم النهاية. حيث الوهم يمتد الى الابدية ويجعلها محتملة الوقوع فتقنع النفس في العمر المبهم. بينما في العمر المعين يكون كمن يتقرب الى الاعدام خطوة خطوة بعد مضي نصف العمر.
تنبيه:
هناك آيات كريمة واحاديث نبوية شريفة وردت بصورة مطلقة الا انها عُدّت كلية، وهناك اخرى منتشرة مؤقتة الا انها عدّت دائمة وهناك اخرى مقيدة الا انها اعتبرت عامة.
فمثلاً: ورد بهذا المعنى: ان هذا الشئ كفر. اي لم تنشأ هذه الصفة من الايمان، اي انها صفة كافرة. ويكون ذلك الشخص قد كفر لهذا السبب. ولكن لايقال: انه كافر. ذلك لانه يملك صفات اخرى بريئة من الكفر قد نشأت من الايمان، فهو اذن يحوز اوصافاً اخرى نابعة من الايمان، الاّ اذا عُلم يقيناً ان تلك الصفة قد نشأت من الكفر، لانها قد تنشأ من اسباب اخرى. ففي دلالة الصفة شك، وفي وجود الايمان يقين. والشك لايزيل اليقين. فينبغي للذين يجرأون على تكفير الآخرين بسرعة، ان يتدبروا!
الجملة الثانية:
(ومن احياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
الاحياء باعتبار المعنى الظاهري المجازي يبين دستور تضاعف الحسنات تضاعفاً غير محدود. ولكن بمعناه الاصلي، رمز الى قطع دابر الشرك والاشتراك من الاساس في الخلق والايجاد. لان التشبيه الموجود في هذه الجملة وفي الآية الكريمة (ما خلقكم


عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:21 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/السانحات - ص: 340
ولا بعثكم الاّ كنفس واحدة) (لقمان : 28) يفهّم معنى الاقتدار. فالتشبيهان يستلزمان حسب القاعدة المنطقية "عكس النقيض": من لا يقتدر على احياء الناس جميعاً لا يقتدر على احياء نفس واحدة.
بمعنى ان الآية الكريمة تدل اشارة الى هذا المعنى:
ما دامت قدرة الانسان - والممكنات - غير مقتدرة بالبداهة على خلق السموات والارض فلا يمكن ان تخلق شيئاً ابداً ولو حجرة واحدة.
بمعنى ان من لا يملك قدرة قادرة على تحريك الارض والنجوم والشموس كلها كتحريك خرز المسبحة وتدويرها، ليس له ان يدّعى الخلق والايجاد في الكون قطعاً.
اما ما يصنعه البشر ويتصرف فيه، فانما هو كشف لجريان النواميس الإلهية في الفطرة، وانسجام معها واستعمالها لصالحه.
فالى هذا الحد من الوضوح البيّن في البرهان وسطوعه انما هو من شأن اعجاز القرآن. والآية الكريمة الآتية تثبت ذلك:
(ما خلقكم ولا بعثكم الاّ كنفس واحدة)
لان القدرة الالهية ذاتية لا يتخللها العجز، وهي متعلقة بالملكوتية فلا تتداخل فيها الموانع، ونسبها قانونية، فالجزء يكون في حكم الكل والجزئي في حكم الكلي.
النقطة الاولى:
ان القدرة الإلهية الإزلية ضرورية للذات الجليلة المقدسة.
أي أنها بالضرورة لازمة للذات المقدسة، فلا يمكن ان يكون للقدرة منها فكاك مطلقاً، لذا فمن البديهي ان العجز الذي هو ضد القدرة لا يمكن أن يعرض للذات الجليلة التي استلزمت القدرة، لأنه عندئذ سيجتمع الضدان، وهذا محال.
فما دام العجز لا يمكن أن يكون عارضاً للذات، فمن البديهي انه لا يمكن ان يتخلل القدرة اللازمة للذات أيضاً.. ومادام العجز لا يمكنه ان يدخل في القدرة مطلقاً فبديهي اذن ان القدرة الذاتية ليست فيها مراتب، لأن وجود المراتب في كل شئ يكون بتداخل أضداده معه، كما هو في مراتب الحرارة التي تكون بتخلل البرودة، ودرجات الحسن التي تكون بتداخل القُبح.. وهكذا فقس.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 341
أما في الممكنات فلأنه ليس هناك لزومٌ ذاتي حقيقي أو تابع؛ اصبحت الأضداد متداخلة بعضها مع البعض الآخر، فتولّدت المراتب ونتجت عنها الاختلافات، فنشأت منها تغيرات العالم. وحيث أنه ليست هناك مراتب قط في القدرة الإلهية الأزلية، لذا فالمقدّرات هي حتماً واحدة بالنسبة الى تلك القدرة، فيتساوى العظيم جداً مع المتناهي في الصغر، وتتماثل النجوم مع الذرات، وحشر جميع البشر كبعث نفس واحدة.المسألة الثانية: ان القدرة الإلهية تتعلق بملكوتية الأشياء..نعم، ان لكل شئ في الكون وجهين كالمرآة : أحدهما: جهة الـمُلك وهي كالوجه المطلي الملّون من المرآة. والأخرى هي جهة الملكوت وهي كالوجه الصقيل للمرآة. فجهة الملك، هي مجال وميدان تجوّل الأضداد ومحل ورود أمور الحُسن والقُبح والخير والشر والصغير والكبير والصعب والسهل أمثالها.. لذا وضعَ الخالق الحكيم الاسباب الظاهرة ستاراً لتصرفات قدرته، لئلا تظهر مباشرةُ يد القدرة الحكيمة بالذات على الأمور الجزئية التي تظهر للعقول القاصرة التي ترى الظاهر، كأنها خسيسة غير لائقة، اذ العظمة والعزّة تتطلب هكذا.. الاّ انه سبحانه لم يعط التأثير الحقيقي لتلك الأسباب والوسائط؛ اذ وحدة الأحدية تقتضي هكذا أيضاً.
أما جهة الملكوت، فهي شفافة، صافية، نزيهة، في كل شئ، فلا تختلط معها ألوان ومزخرفات التشخصات... هذه الجهة متوجهة الى بارئها دون وساطة، فليس فيها ترتب الاسباب والمسبّبات ولا تسلسل العلل، ولا تدخل فيها العليّة والمعلولية ولا تتداخل الموانع، فالذرة فيها تكون شقيقة الشمس.
ان القدرة هي مجردة، أي ليست مؤلفة ومركبة، وهي مطلقة غير محدودة، وهي ذاتية أيضاً. أما محل تعلقها بالأشياء فهي دون وساطة، صافية دون تعكر، ودون ستار ودون تأخير، لذا لا يستكبر أمامها الكبير على الصغير، ولا تُرجح الجماعة على الفرد ولا يتبجّح الكل أمام الجزء ضمن تلك القدرة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 342
المسألة الثالثة: نسبة القدرة قانونية..
(ولله المثل الاعلى) (النحل: 60)
(ليس كمثله شئ) (الشورى: 11)
فهذه المسألة الغامضة سنقرّبها الى الذهن ببعض الأمثلة. حيث التمثيل يقرب التصوير الى الاذهان.المثال الأول: "الشفافية"
ان تجلّي ضوء الشمس يُظهر الهويةَ نفسَها على سطح البحر أو على كل قطرة من البحر، فلو كانت الكرة الأرضية مركّبة من قطع زجاجية صغيرة شفافة مختلفة تقابل الشمس دون حاجز يحجزها، فضوء الشمس المتجلي على كل قطعة على سطح الأرض وعلى سطح الأرض كلها يتشابه ويكون مساوياً دون مزاحمة ودون تجزؤ ودون تناقص.. فاذا افترضنا ان الشمس فاعل ذو إرادة واعطت فيض نورها واشعاع صورتها بارادتها على الأرض، فلا يكون عندئذٍ نشرُ فيضِ نورها على جميع الأرض اكثَر صعوبة من اعطائها على ذرة واحدة.المثال الثاني: "المقالة"
هب أنه كانت هناك حلقة واسعة من البشر يحمل كل واحد منهم مرآة بيده، وفي مركز الدائرة رجل يحمل شمعة مشتعلة، فان الضوء الذي يرسله المركز الى المرايا في المحيط واحد، ويكون بنسبة واحدة، دون تناقص ودون مزاحمة ودون تشتّت.المثال الثالث: "الموازنة"
إن كان لدينا ميزان حقيقي عظيم وحساس جداً وفي كفتيه شمسان او نجمان، أو جبلان، أو بيضتان، أو ذرتان.. فالجهد المبذول هو نفسه الذي يمكن ان يرفع احدى كفتيه الى السماء ويخفض الأخرى الى الارض.المثال الرابع: "الانتظام"
يمكن ادارة اعظم سفينة لأنها منتظمة جداً، كأصغر دمية للأطفال.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 343
المثال الخامس: "التجرد"
ان الميكروب مثلاً كالكركدن يحمل الماهية الحيوانية وميزاتها، والسمك الصغير جداً يملك تلك الميزة والماهية المجردة كالحوت الضخم، لأن الماهية المجردة من الشكل والتجسم تدخل في جميع جزيئات الجسم من اصغر الصغير الى اكبر الكبير وتتوجه اليها دون تناقص ودون تجزؤ، فخواص التشخصات والصفات الظاهرية للجسم لا تشوش ولا تتداخل مع الماهيّة والخاصة المجرّدة، ولا تغيّر نظرة تلك الخاصة المجردة.المثال السادس: "الطاعة"
ان قائد الجيش بأمره "تَقَدمْ" مثلما يحرّك الجندي الواحد فانه يحرّك الجيش بأكمله كذلك بالأمر نفسه. فحقيقة سر الطاعة هي ان لكل شئ في الكون ـ كما يشاهد بالتجربة ـ نقطة كمال، وله ميل اليها، فتضاعف الميل يولّد الحاجة، وتضاعف الحاجة يتحول الى شوق، وتضاعف الشوق يكوّن الانجذاب، فالانجذاب والشوق والحاجة والميل.. كلّها نوىً لأمتثال الأوامر التكوينية الرّبانية وبذورها من حيث ماهية الأشياء.
فالكمال المطلق لماهيات الممكنات هو الوجود المطلق، ولكن الكمال الخاص بها هو وجود خاص لها يُخرج كوامن استعداداتها الفطرية من طور القوة الى طور الفعل، فاطاعة الكائنات لأمر "كُنْ" كأطاعة ذرة واحدة التي هي بحكم جندي مطيع. وعند امتثال الممكنات وطاعتها للأمر الأزلي "كُن" الصادر عن الارادة الإلهية تندمج كليّاً الميول والأشواق والحاجات جميعها، وكل منها هو تجلٍّ من تجلّيات تلك الارادة أيضاً. حتى أن الماء الرقراق عندما يأخذ - بميل لطيف منه - أمراً بالانجماد، يظهر سرّ قوة الطاعة بتحطيمه الحديد.
فان كانت هذه الأمثلة الستة تظهر لنا في قوة الممكنات المخلوقات وفي فعلها وهي ناقصة ومتناهية وضعيفة وليست ذات تأثير حقيقى، فينبغي اذن ان تتساوى جميع الأشياء أمام القدرة الإلهية المتجلّية بآثار عظمتها.. وهي غير متناهية وأزلية وهي التي اوجدت جميع الكائنات من العدم البحت وحيّرت العقول جميعها، فلا يصعب عليها شئ اذن.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 344
ولا ننسى أن القدرة الإلهية العظمى لا توزن بموازيننا الضعيفة الهزيلة هذه، ولا تتناسب معها، ولكنها تُذكَر تقريباً للأذهان وازالة للأستبعاد ليس إلاَّ.
نتيجة الاساس الثالث وخلاصته: ما دامت القدرة الإلهية مطلقة غير متناهية، وهي لازمة ضرورية للذات الجليلة المقدسة، وأن جهة الملكوت لكل شئ تقابلها ومتوجهة اليها دون ستار ودون شائبة، وأنها متوازنة بالأمكان الاعتباري الذي هو تساوي الطرفين، وان النظام الفطري الذي هو شريعة الفطرة الكبرى مطيع للفطرة وقوانين الله ونواميسه، وان جهة الملكوت مجردة وصافية من الموانع والخواص المختلفة. لذا فان اكبر شئ كأصغره أمام تلك القدرة، فلا يمكن ان يحجم شئ أيّاً كان أو يتمرّد عليها. فإحياءُ جميع الأحياء يوم الحشر هينّ عليه كإحياء ذبابة في الربيع ولهذا فالآية الكريمة
(ما خَلقكم ولا بَعثُكُم إلاّ كَنَفْسٍ واحدة) أمرٌ حق وصدق جلي لا مبالغة فيه ابداً.
***

(ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله) (آل عمران : 64)
نورد نكتة واحدة من بين الوف نكات هذه الآية الكريمة:
انه بقطع النظر عن مشرب الصوفية، فان الاسلام يرفض الواسطة ويقبل الدليل، وينفي الوسيلة ويثبت الامام. بينما غيره من الاديان يقبل الواسطة. فبناء على هذا السر الدقيق يستطيع النصراني ان يصبح متديناً اذا اشغل مقامات من حيث الثروة والمنصب. بينما في الاسلام، العوام هم المتمسكون بالدين اكثر من ذوي الثروات والمناصب. وذلك لان النصراني ذا المقام يحافظ على نصرانيته وانانيته بقدر تعصبه في دينه، فلا ينقص ذلك من تكبره وغروره. بينما المسلم يبتعد عن التكبر والغرور بقدر تمسكه بالدين. بل ينبغي له ان يتنازل عن عزة المنصب.
ومن هنا فالنصرانية ربما تتمزق بهجوم العوام المظلومين على الظالمين الذين يعدّون انفسهم خواص النصارى، حيث النصرانية تعين تحكّمهم. بينما الاسلام لا ينبغي ان يتزعزع لانه ملك العوام اكثر من الخواص الدنيويين.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 345
(ولا تزر وازرة وزر اخرى) (الانعام: 164)
تمثل هذه الآية الكريمة اعدل دستور في السياسة الشخصية والجماعية والقومية. اما الآية الكريمة:
(انه كان ظلوماً جهولاً) (الاحزاب :72) فتبين استعداد الانسان الى الظلم الرهيب المغروز في فطرته.
والسر في ذلك هو:
ان القوى والميول المودعة في الانسان لم تحدد، خلافاً للحيوان؛ لذا فان الميل للظلم وحبّ الذات يتماديان كثيراً وبشكل مخيف.
نعم، ان حب الانسان لنفسه، وتحري مصلحته وحده، وحبه لذاته وحده، من الاشكال الخبيثة لـ " انا والانانية"، واذا ما اقترن العناد والغرور بذلك الميل تولدت فظائع بشعة بحيث لم يعثر لها البشر على اسم بعد. وكما ان هذا دليل على وجوب وجود جهنم كذلك لا جزاء له الاّ النار.
ولنتناول هذا الدستور في:
نطاق الشخص:
يحوز الشخص اوصافاً كثيرة. ان كانت صفة منها تستحق العداء، فيقتضي حصر العداء في تلك الصفة وحدها، حسب القانون الالهي الوارد في الآية الكريمة. بل على الانسان ان يشفق على ذلك الشخص المالك لصفات بريئة كثيرة اخرى ولا يعتدي عليه. بينما الظالم الجهول يعتدي على ذلك الشخص لصفة جانية فيه، لما في طبيعته من ظلم مغروز ، بل تسري عداوته لاوصاف بريئة فيه، حيث يخاصم الشخص نفسه، وربما لا يكتفي بالشخص وحده فيشمل ظلمه اقارب الشخص بل كلّ من في مسلكه. علماً ان تلك الصفة الجانية قد لا تكون نابعة من فساد القلب، وربما هي نتيجة اسباب اخرى، حيث ان اسباباً كثيرة تولد الشئ الواحد. فلا تكون الصفة جانية، بل حتى لو كانت تلك الصفة كافرة ايضاً لا يكون الشخص جانياً.
وفي نطاق الجماعة:
نشاهد ان شخصاً حريصاً ، قد طرح فكراً ينطوى على رغبة فقال بدافع الانتقام او بدافع اعتراض جارح: سيتبعثر الاسلام ويتشتت، او ستمحى الخلافة. فيتمنى ان


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 346
يهان المسلمون - العياذ بالله - وتخنق الاخوة الاسلامية، لكي يظهر صدق كلامه ويُشبع غروره وانانيته فحسب، بل يحاول ايضاح ظلم الخصم الجاحد في صورة عدالة، باختلاق تأويلات وحذلقات لا تخطر على بال.
وفي نطاق المدنية الحاضرة:
نشاهد ان هذه المدنية المشؤومة قد اعطت البشرية دستوراً ظالماً غداراً، بحيث يزيل جميع حســـــناتها، ويبين السر في قلق الملائكة الكرام لدى استفسارهم
(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) (البقرة: 30) اذ لو وجد خائن واحد في قصبة، فانها تقضي بتدميرها وبمن فيها من الابرياء، ولو وجد عاصٍ واحد في جماعة فهي تقضي بالقضاء على تلك الجماعة مع افرادها وعوائلها واطفالها. ولو تحصّن من لايخضع لقانونها في جامع ايا صوفيا فانها تقضي بتخريب ذلك البناء المقدس الذي هو اثمن من مليارات الذهب. وهكذا تحكم هذه المدنية بوحشية رهيبة.
فلئن كان المرء لا يؤاخذ حتى بجريرة اخيه، فكيف تدان ألوف الابرياء في قصبة او في جماعة لوجود مخرب واحد فيها. علماً انه لا تخلو مدينة او جماعة منهم.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 347
هيمنة القرآن الكريم

قال تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا) (آل عمران: 103)
(الم. ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) (البقرة: 1،2)
أرى ان مرد ماتبديه الامة الاسلامية من اهمال وعدم مبالاة نحو الاحكام الفقهية مايأتي:
ان اركان الدين واحكامه الضرورية نابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية المفسرة له، وهي تشمل تسعين بالمائة من الدين، اما المسائل الخلافية التي تحتمل الاجتهاد فلا تتجاوز العشرة منه.
فالبون اذن شاسع بين اهمية الاحكام الضرورية والمسائل الخلافية.
فلو شبهنا المسائل الاجتهادية بالذهب لكانت الاحكام الضرورية واركان الايمان اعمدة من الالماس. تُرى هل يجوز ان تكون تسعون عمودا من الالماس تابعة لعشرة منها من الذهب؟ وهل يجوز ان يوجه الاهتمام الى التي من الذهب اكثر من تلك التي من الالماس؟.
ان الذي يسوق جمهور الناس الى الاتباع وامتثال الاوامر، هو مايتحلى به المصدر من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس الى الانقياد اكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة، فينبغي اذن ان تكون الكتب الفقهية بمثابة وسائل شفافة - كالزجاج - لعرض قدسية القرآن الكريم، وليس حجاباً دونه، او بديلاً عنه.
ان ذهن الانسان ينتقل من الملزوم الى اللازم وليس الى لازم اللازم - كما هو مقرر في علم المنطق - ولو انتقل فبقصد غير طبيعي. فالكتب الفقهية شبيهة بالملزوم، والقرآن الكريم هو الدال على تلك الاحكام الفقهية ومصدرها، فهو اللازم، والصفة الملازمة الذاتية للقرآن الكريم هي القدسية المحفزة للوجدان. فلأن نظر العامة ينحصر


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 348
في الكتب الفقهية فحسب، فلا ينتقل ذهنهم الى القرآن الكريم الا خيالاً، ونادرا مايتصورون قدسيته - من خلال نظرهم المنحصر - ومن هنا يعتاد الوجدان التسيب، ويتعود على الاهمال فينشأ الجمود.
فلو كان قد بيّن القرآن الكريم ضمن بيان الضروريات الدينية مباشرة لكان الذهن ينتقل انتقالاً طبيعياً الى قدسيته، ولاثارت الشوق الى الاتباع، ولنبهت الوجدان الى الاقتداء، وعندها تنمو ملكة رهافة المشاعر لدى المخاطب بدلا من صممها امام حوافز الايمان وموقظاته.
فالكتب الفقهية اذن ينبغي ان تكون شفافة لعرض القرآن الكريم واظهاره، ولاتصبح حجابا دونه كما آلت اليه - بمرور الزمان - من جراء بعض المقلدين. وعندئذ تجدها تفسيراً بين يدي القرآن وليست مصنفات قائمة بذاتها.ان توجيه انظار عامة الناس في الحاجات الدينية توجيها مباشراً الى لقرآن الكريم، خطاب الله العزيز الساطع باعجازه والمحاط بهالة القدسية والذي يهز الوجدان بالايمان دائما.. إنما يكون بثلاث طرق:
1- اما ازالة ذلك الحجاب من امام القرآن الكريم بتوجيه النقد وتجريح الثقة باولئك المؤلفين للكتب الفقهية الذين يستحقون كل الاحترام والتوقير والثقة والاعتماد.. وهذا ظلم فاضح، وخطر جسيم، واجحاف بحق اولئك الائمة الاجلاء.
2- او تحويل تلك الكتب الفقهية تدريجيا الى كتب يستشف منها فيض القرآن الكريم، اي تصبح تفسيرا له، ويمكن ان يتم هذا باتباع طرق تربوية منهجية خاصة حتى تبلغ تلك الكتب الى مايشبه كتب الائمة المجتهدين من السلف الصالح امثال "الموطأ" لمالك بن انس و"الفقه الاكبر" لابي حنيفة النعمان. فعندئذ لايُقرأ كتاب "ابن حجر" - مثلاً - بقصد مايقوله ابن حجر نفسه، بل يُقرأ لاجل فهم مايأمر به القرآن الكريم، وهذا الطريق بحاجة الى زمن مديد.
3- او شد انظار جمهور الناس دوما الى مستوى اعلى من تلك الكتب - التي اصبحت حجابا - اي شدها باستمرار الى القرآن الكريم واظهاره فوقها دائما، مثلما يفعله ائمة الصوفية، وعندها تؤخذ الاحكام الشرعية والضروريات الدينية من منبعها


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 349
الاساس وهو القرآن الكريم، اما الامور الاجتهادية التي ترد بالواسطة فيمكن مراجعتها من مظانها.
ولايخفى ان مايستشعره المرء من جاذبية في كلام الصوفي الحق ومن طلاوة في حديثه غير مايستشعره في وعظ عالم في الفقه، فالفرق في هذا نابع من ذلك السر.ثم انه من الامور المقررة، ان مايوليه عامة الناس من تقدير لشئ وتثمينهم له ليس نابعاً - على الاغلب - مما فيه من كمال، بل مما يشعرون نحوه من حاجة وبما يحسون تجاهه من رغبة، فالساعاتي الذي يأخذ اجرة اكثر من عالم جليل مثال يؤيد هذا.فلو وجهت حاجات المسلمين الدينية كافة شطر القرآن الكريم مباشرة، لنال ذلك الكتاب المبين من الرغبة والتوجه - الناشئة من الحاجة اليه - اضعاف اضعاف ماهو مشتت الآن من الرغبات نحو الالوف من الكتب، بل لكان القرآن الكريم مهيمنا هيمنة واضحة على انفوس، ولكانت اوامره الجليلة مطبقة منفذة كليا. وما كان يظل كتابا مباركا يتبرك بتلاوته فحسب.
هذا وان هناك خطراً عظيماً في مزج الضروريات الدينية مع المسائل الجزئية الفرعية الخلافية، وجعلها كأنها تابعة لها، لان الذي يرى الآخرين على خطأ- ونفسه على صواب - يدعي:
ان مذهبي حق يحتمل فيه الخطأ والمذهب المخالف خطأ يحتمل فيه الصواب!
وحيث ان جمهور الناس يعجزون عن ان يميزوا تمييزاً واضحا بين الضروريات الدينية والامور النظرية الممتزجة معها، تراهم يعممون - سهواً او وهماً - الخطأ الذي يرونه في الامور الاجتهادية على الاحكام كلها، ومن هنا تتبين جسامة الخطر.
والذي اراه ان من يخطّئ الاخرين - ويرى نفسه في صواب دائما - مصاب بمرض ضيق الفكر وانحصار الذهن الناشئين من حب النفس. ولاشك انه مسؤول امام رب العالمين عن تغافله عن شمول خطاب القرآن الى البشرية كافة.
ثم ان فكر التخطئة هذا، منبع ثر لسوء الظن بالاخرين، والانحياز، والتحزب في الوقت الذي يطالبنا الاسلام بحسن الظن والمحبة والوحدة! ويكفيه بعدا عن روح



عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:23 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/السانحات - ص: 350
الاسلام ما شق من جروح غائرة في ارواح المسلمين المتساندة، ومابثه من فرقة بين صفوفهم، فابعدهم عن اوامر القرآن الكريم.
***

بعد ان كتبت هذه المسألة بفترة قصيرة، تشرفت برؤيا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام. كنت في حظوة مجلسه الجليل في مدرسة دينية، سيعلمني من القرآن درسا. فعندما اتوا بالمصحف الشريف قام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم احتراماً للقرآن، فخطر لي آنئذ ان هذا ارشاد للامة لتوقير القرآن الكريم واجلاله.
ثم حكيت الرؤيا لاحد الصالحين فعبَّره هكذا:
ان هذه اشارة واضحة وبشرى عظيمة الى ان القرآن الكريم سيحوز مايليق به من مقام رفيع في العالم اجمع.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 351
دعوة الى انشاء
مجلس شورى للاجتهاد
1

قال تعالى:
(وامرهم شورى بينهم) (الشورى: 38)
(وشاورهم في الامر) (آل عمران: 159)
يرينا التاريخ انه: متى ما كان المسلمون متمسكين بدينهم فقد ترقوا بقدر تمسكهم بدينهم، بينما تدنوا كلما بدأ ضعف الدين يدب فيهم. بخلاف مايحدث لاصحاب الاديان الاخرى؛ اذ متى ماتمسكوا بدينهم فقد اصبحوا كالوحوش الكاسرة ومتى ماضعف لديهم الدين ترقوا في مضمار الحضارة.
ان ظهور جمهور الانبياء في الشرق رمزٌ من القدر الإلهي: ان المهيمن على شعور الشرقيين هو الدين. فما نراه في الوقت الحاضر من مظاهر اليقظة في انحاء العالم الاسلامي تثبت لنا ان الذي ينبه العالم الاسلامي وينقذه من الذل والهوان هو الشعور الديني ليس الاّ.
وقد ثبت ايضاً ان الذي حافظ على هذه الدولة المسلمة (العثمانية) هو ذلك الشعور رغم جميع الثورات والمصادمات الدامية التي نشبت في ارجائها.. فنحن نتميز بهذه الخاصية عن الغرب، ولانقاس بهم.
ان السلطنة والخلافة متحدتان بالذات ومتلازمتان لاتنفكان وان كانت وجهة كل منهما مغايرة للاخرى.. وبناء على هذا فسلطاننا هو سلطان وهو خليفة في الوقت نفسه يمثل رمز العالم الاسلامي. فمن حيث السلطنة يشرف على ثلاثين مليوناً، ومن
_____________________
1 لقد طالبت بهذه الفكرة اعضاء »تركيا الفتاة« ابان اعلان الدستور، فلم يوافقوا عليها، وبعد مضي اثنتي عشرة سنة طالبتهم بها ايضاً فقبلوها ولكن المجلس النيابي قد حل. والآن اعرضها مرة اخرى على نقطة تمركز العالم الاسلامي. - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 352
حيث الخلافة ينبغي ان يكون ركيزة ثلاثمائة مليون من المسلمين الذين تربطهم رابطة نورانية، وان يكون موضع امدادهم وعونهم.
فالوزارة تمثل السلطنة، اما المشيخة الاسلامية فهي تمثل الخلافة. فبينا نرى الوزارة تستند اصلاً الى ثلاثة مجالس شورى - وقد لاتوفي هذه المجالس حاجاتها الكثيرة - نجد ان المشيخة قد اودعت الى اجتهاد شخص واحد، في وقت تعقدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في ادق الامور، فضلا عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الافكار وتدني الاخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنية الزائفة فينا.
من المعلوم ان مقاومة الفرد تكون ضعيفة امام المؤثرات الخارجية، فلقد ضُحي بكثير من احكام الدين مسايرة للمؤثرات الخارجية.
وبينما كانت الامور بسيطة والتسليم للعلماء وتقليدهم جارياً كانت المشيخة مودعة الى مجلس شورى - ولو بصورة غير منتظمة - ويتركب من شخصيات مرموقة، اما الان وقد تعقدت الامور ولم تعد بسيطة وارتخى عنان تقليد العلماء واتباعهم.. اقول كيف يا ترى يكون بمقدور شخص واحد القيام بكل الاعباء؟
ولقد اظهر الزمان ان هذه المشيخة الاسلامية - التي تمثل الخلافة - ليست خاصة لاهل استانبول او للدولة العثمانية، وانما هي مؤسسة جليلة تعود للمسلمين عامة. فوضعها الحالي المنطفئ لايؤهلها للقيام باعباء ارشاد استانبول وحدها ناهيك عن ارشاد العالم الاسلامي!
لذا ينبغي ان تؤول هذه المشيخة الى درجة ومنزلة تتمكن بها كسب ثقة العالم الاسلامي فتكون كالمرآة العاكسة لمشاكل المسلمين. وتغدو منبعاً فياضاً للاجتهادات والافكار. وعندها تكون قد ادت مهمتها حق الاداء تجاه العالم الاسلامي.
لسنا في الزمان الغابر، حيث كان الحاكم شخصا واحدا، ومفتيه ربما شخص واحد ايضاً، يصحح رأيه ويصوبه. فالزمان الآن زمان الجماعة والحاكم شخص معنوي ينبثق من روح الجماعة. فمجالس الشورى تملك تلك الشخصية، فالذي يفتي لمثل هذا الحاكم ينبغي ان يكون متجانساً معه، اي ينبغي ان يكون شخصاً


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 353
معنويا نابعا من مجلس شورى عالٍ، كي يتمكن من ان يُسمع صوته للآخرين، ويسوق ذلك الحاكم الى الصراط السوي في امور الدين.
والا فسيبقى صوته كطنين الذباب امام الشخص المعنوي الناشئ من الجماعة، حتى لو كان فرداً فذاً عظيما. فهذا الموقع الحساس يعرض قوة المسلمين الحيوية الى الخطر مادام باقياً على وضعه المنكفئ هذا، حتى يصح لنا ان نقول:
ان الضعف الذي نراه في الدين، والاهمال الذي نشاهده في الشعائر الاسلامية، والفوضى التي ضربت اطنابها في الاجتهادات قد تفشت نتيجة ضعف المشيخة وانطفاء نورها، حيث ان الشخص الموجود خارج المشيخة يمكنه ان يحتفظ برأيه ازاء المشيخة المستندة الى شخص واحد. بينما كلام شيخ الاسلام المستند الى مجلس شورى المسلمين يجعل اكبر داهية يتخلى عن رأيه او يحصر اجتهاده في نفسه في الاقل.
نعم، ان كل من يجد في نفسه كفاءة واستعدادا للاجتهاد يمكنه ان يجتهد، ولكن لايكون هذا الاجتهاد موضع عمل الا عندما يقترن بتصديق نوع من اجماع الجمهور. فمثل هذا الشيخ - اي شيخ الاسلام المستند الى مجلس شورى - يكون قد نال هذا السر. فكما نرى في كتب الشريعة ان مدار الفتوى: الاجماع، ورأي الجمهور، يلزم الآن ذلك ايضاً ليكون فيصلاً قاطعاً لدابر الفوضى الناشبة في الآراء.
ان الوزارة والمشيخة جناحا هذه الدولة المسلمة، فان لم يكونا جناحين متساويين متكافئين فلا يدوم لها المضي، وان مضت المشيخة على وضعها الحاضر فسوف تنسلخ عن كثير من المقدسات الدينية امام اجتياح المدنية الفاسدة.
الحاجة استاذ لكل امر. هذه قاعدة، فالحاجة شديدة لمثل هذا المجلس الشوري الشرعي، فان لم يؤسس في مركز الخلافة فسيؤسس بالضرورة في مكان آخر.
وعلى الرغم من ان القيام ببعض المقدمات يناسب ان يسبق تأسيس هذا المجلس - كمؤسسة الجماعات الاسلامية والحاق الاوقاف بالمشيخة وامثالها من الامور - فان الشروع بتأسيس المجلس مباشرة ثم تهيئة المقدمات له يحقق الغرض ايضاً. فالدوائر الانتخابية - للاعيان والنواب - رغم محدوديتها واختلاط وظائفها قد تكون لها


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 354
تأثير بالواسطة، رغم ان الوضع يستوجب تأسيس مجلس شورى اسلامي خالص كي يتمكن كفالة المهمة السامية.
ان استخدام اي شئ في غير موضعه يكون مآله التعطل، ولايبين اثره المرجو منه. فدار الحكمة الاسلامية التي انشئت لغاية عظيمة، اذا خرجت من طورها الحالي واشركت في الشورى مع رؤساء الدوائر الاخرى في المشيخة وعُدّت من اعضائها، واستُدعي لها نحوا من عشرين من العلماء الاجلاء الموثوقين من انحاء العالم الاسلامي كافة، عندها يمكن ان يكون هناك اساس لهذه المسألة الجسيمة.
لا ينبغي ان نكون مترددين ومتخوفين، فلا نعطي الدنية والرشوة من ديننا بالتخوف والتردد. وتلعين المدنية الزائفة بما سببت من ضعف الدين، مما يشجع الخوف ويزيد الضعف ويقوي التأثيرات الخارجية.. فالمصلحة المرجحة المحققة لاتضحى لاجل مضرة موهومة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 355
حوار في رؤيا

"
المعنى وكذا الألفاظ التي ظلت في الخاطر هي
نفسها كما جاءت في الرؤيا"

كنت في أيلول سنة 1919 اتقلب في اضطراب شديد، من جراء اليأس البالغ الذي ولّدته حوادث الدهر. كنت أبحث عن نور بين هذه الظلمات المتكاثفة القاتمة.. لم استطع ان أجده في يقظة هي رؤياً في منام. بل وجدته في رؤيا صادقة هي يقظةٌ في الحقيقة.
سأسجل هنا تلك النقاط التي اُستنطقتها واُجريت على لساني من كلام، دون الخوض في التفاصيل. وهي كالآتي:
دخلتُ عالم المثال في ليلة من ليالي الجمعة. جاءني أحدهم وقال:
- يدعوك مجلس موقر مهيب منعقد لبحث مصير العالم الاسلامي، وما آلت اليه حاله.
فذهبت، ورأيت مجلساً منوراً قد حضره السلف الصالحون، وممثلون من العصور، من كل عصر ممثل.. لم أر مثيلهم في الدنيا.. فتهيبت، ووقفت في الباب تأدباً واجلالاً.
قال أحدهم موجهاً كلامه لي:
- يا رجل القدر!.. ويا رجل عصر النكبة والفتنة والهلاك!.. بيّن رأيك في هذا الموضوع. فان لك رأياً فيه.
قلت وانا واقف: سلوني أُجبْ!
قال أحدهم:
- ماذا ترى في عاقبة هذه الهزيمة - التي آلت اليها الدولة العثمانية - وماذا كنتَ تتوقع ان يؤول اليه أمر الدولة العثمانية لو قُدِّر لها الانتصار؟.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 356
قلت: ان المصيبة ليست شراً محضاً، فقد تنشأ السعادة من النكبة والبلاء، مثلما قد تفضي السعادة الى بلاء.. فهذه الدولة الاسلامية التي أخذت على عاتقها - سابقاً - القيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - حفاظاً على العالم الاسلامي وهو كالجسد الواحد، ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء لأجله، وحملت راية الخلافة اعلاءً لكلمة الله وذوداً عن استقلال العالم الاسلامي.. ستعوّض عما أصابتها من مصيبة، وستزيلها السعادةُ التي سوف يرفل بها عالم الاسلام.
إذ عجّلت هذه المصيبة بعث الاخوة الاسلامية ونماءها في أرجاء العالم الاسلامي، تلك الاخوة التي هي جوهر حياتنا وروحنا. حتى اننا عندما كنا نتألم كان العالم الاسلامي يبكي، فلو أوغلت أوروبا في إيلامنا لصرخ العالم الاسلامي.
فلو متنا فسوف يموت عشرون مليوناً "من العثمانيين الأتراك" ولكن نُبعث ثلاثمائة "أي: ثلاثمائة مليوناً من المسلمين".
نحن نعيش في عصر الخوارق. فبعد مضي سنتين أو ثلاث على موتنا سنرى أحياءً يبعثون.
لقد فقدنا بهذه الهزيمة سعادة عاجلة زائلة، ولكن تنتظرنا سعادة آجلة دائمة، فالذي يستبدل مستقبلاً زاهراً فسيحاً بحال حاضرٍ جزئي متغير محدود، لاشك أنه رابح..
واذا بصوت من المجلس:
- بيّن! وضّح ما تقول!
قلت: حروب الدول والامم قد تخلت عن مواضعها لحروب الطبقات البشرية. والانسان مثلما يرفض ان يكون أسيراً لا يرضى ان يكون أجيراً أيضاً.
فلو كنا منتصرين غالبين، لكنا ننجذب الى ما لدى أعدائنا من الاستعمار والتسلط، وربما كنا نغلو في ذلك. علماً ان ذلك التيار - التيار الاستعماري الاستبدادي - تيار ظالم ومنافٍ لطبيعة العالم الاسلامي، ومباين لمصالح الاكثرية المطلقة من أهل الايمان، فضلاً عن ان عمره قصير، ومعرّض للتمزق والتلاشي. ولو كنا متمسكين بذلك التيار لكنا نسوق العالم الاسلامي الى ما ينافي طبيعته الفطرية.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 357
فهذه المدنية الخبيثة التي لم نرَ منها غير الضرر، وهي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيئاتُها على حسناتها، تحكم عليها مصلحة الانسان بالنسخ، وتقضي عليها يقظة الانسان وصحوته بالانقراض.
فلو كنا منتصرين لكنا نتعهد حماية هذه المدنية السفيهة المتمردة الغدارة المتوحشة معنىً في أرجاء آسيا.
قال أحدهم من المجلس:
- لِمَ ترفض الشريعة هذه المدنية؟ 1
قلت: لأنها تأسست على خمسة أسس سلبية:
فنقطة استنادها هي: القوة، وهذه شأنها: الاعتداء.
وهدفها وقصدها: المنفعة، وهذه شأنها: التزاحم.
ودستورها في الحياة: الجدال والصراع، وهذا شأنه: التنازع.
والرابطة التي تربط المجموعات البشرية هي: العنصرية والقومية السلبية التي تنمو على حساب الآخرين. وهذه شأنها: التصادم، كما نراه.
وخدمتها للبشرية خدمة فاتنة جذابة هي: تشجيع هوى المنفعة، واثارة النفس الأمارة، وتطمين رغباتها وتسهيل مطاليبها. وهذا الهوى شأنه: اسقاط الانسان من درجة الملائكية الى درك الحيوانية الكلبية. وبهذا تكون سبباً لمسخ الانسان معنوياً.
فمعظم هؤلاء المدنيين لو انقلب باطنهم بظاهرهم لوجد الخيال تجاهه صور الذئاب والدببة والحيات والقردة والخنازير.
ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمئة من البشرية الى أحضان الشقاء واخرجت عشرة بالمئة منها الى سعادة مموهة زائفة. وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء واولئك، علماً ان السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية؛ بيد ان سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس.
_____________________
1 المقصود محاسن المدنية التي اسدتها الى البشرية ، وليست سيئاتها وآثامها التي يلهث وراءها الحمقى ظناً منهم ان تلك السيئات حسنات حتى اوردونا الهلاك، ولقد تلقت البشرية صفعتين مريعتين وهما الحربان العالميتان من جراء ما طفحت به كفة سيئات المدنية على حسناتها وتغلبت آثامها على محاسنها حتى ابادتا تلك المدنية الآثمة فقاءت دماً لطخت به وجه الكرة الارضية كله. نسأل الله ان تغلب بقوة الاسلام في المستقبل محاسن المدنية لتطهّر وجه الارض من لوثاتها وتضمن السلام العام للبشرية قاطبة. المؤلف



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 358
لأجل كل هذا لا يرضى القرآن الكريم بمدنية لا تضمن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى.
ثم انه بتحكم الهوى الطليق من عقاله، تحولت الحاجات غير الضرورية الى مايشبه الضرورية، اذ بينما كان الانسان محتاجاً الى أربعة اشياء في حياة البداوة والبساطة اذا به في هذه المدنية يحتاج الى مئة حاجة، وهكذا أردَته المدنية فقيراً مدقعاً.
ثم، لأن السعي والعمل لايكفيان لمواجهة المصاريف المتزايدة، انساق الانسان الى مزاولة الخداع والحيلة وأكل الحرام. وهكذا فسد أساس الاخلاق.
وبينما تعطي هذه المدنية للجماعة والنوع ثروة وغنى وبهرجة اذا بها تجعل الفرد فقيراً محتاجاً، فاسد الأخلاق.
ولقد قاءت هذه المدنية وحشية فاقت جميع القرون السابقة.
وانه لجدير بالتأمل، استنكاف العالم الاسلامي من هذه المدنية، وعدم تلهفه لها، وتحرجه من قبولها، لأن الهداية الالهية التي هي الشريعة تعطي خاصية الاستقلال والاستغناء عن الآخرين، ولا يمكن ان تطعّم هذه الشريعة بالدهاء الروماني ولا ان تمتزج معها ولا يمكن ان تبلعها أو ان تتبعها.
ان دهاء الرومان واليونان - أي حضارتيهما - وهما التوأمان الناشئان من أصل واحد، قد حافظا على استقلالهما وخواصهما رغم مرور العصور وتبدل الاحوال ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية او ادماجها بهما، فلقد ظل كلٌ منهما كالماء والدهن لايقبلان الامتزاج، بل انهما يعيشان الآن بروحهما بانماط متنوعة واشكال مختلفة.
فلئن كان التوأمان، مع وجود عوامل المزج والدمج والاسباب الداعية له، لم يمتزجا طوال تلك الفترة، فكيف يمتزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلمات تلك المدنية التي اساسها دهاء روما! لا يمكن بحال من الأحوال ان يمتزجا أو يهضما معاً.
قالوا: فما هي المدنية التي في الشريعة؟


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 359
قلت: أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسساً ايجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.
نعم! ان نقطة استنادها هي الحق بدلاً من القوة. والحق من شأنه: العدالة والتوازن. وهدفها: الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنها: المحبة والتجاذب.
وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشرية: الرابطة الدينية، والوطنية، والمهنية بدلاً من العنصرية. وهذه شأنها: الأخوة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند اعتداء الاجانب.
ودستورها في الحياة: التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاون من شأنه التساند والاتحاد.وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكماً على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى: رفع الانسانية الى مراقي الكماات، فهي اذ تحدد الهوى وتحدّ من النزعات النفسانية تُطمئن الروح وتشوقها الى المعالي.
بمعنى اننا بانهزامنا في الحرب تبعنا التيار الثاني الذي هو تيار المظلومين وجمهور الناس. فلئن كان المظلومون في غيرنا يشكلون ثمانين بالمئة منهم ففي المسلمين هم تسعون بل خمس وتسعون بالمئة.
ان بقاء العالم الاسلامي مستغنياً عن هذا التيار الثاني، او معارضاً له ، ظل دون مستند اومرتكز، وهدر جميع مساعيه. فبدلاً من الذوبان والتميع تحت استيلاء المنتصر، كان عليه ان يتصرف تصرف العاقل فيكيّف ذلك التيار الى طراز اسلامي ويستخدمه. ذلك لان عدو العدو صديق ما دام عدواً له، وصديق العدو عدو مادام صديقاً له.
ان هذين التيارين ، اهدافهما متضادة، منافعهما متضادة، فلئن قال احدهما: مت، لقال الآخر: ابعث. فنفعُ احدهما يسلتزم ضررنا واختلافنا وتدنينا وضعفنا مثلما تقتضي منفعة الآخر قوتنا واتحادنا بالضرورة.
كانت خصومة الشرق تخنق انبعاث الاسلام وصحوته. وقد زالت وينبغي لها ذلك. اما خصومة الغرب فينبغي ان تدوم لانها سبب مهم في تنامي الاخوة الاسلامية ووحدتها.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:24 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/السانحات - ص: 360
واذا بامارات التصديق تتعالى من المجلس. فقالوا:
نعم، كونوا على أمل؛ ان اعظم صوت داوٍ في انقلابات المستقبل هو صوت الاسلام الهادر.
وسأل احدهم ايضاً:
ان المصيبة نتيجة جناية، ومقدمة ثواب. فما الذي اقترفتم حتى حكم عليكم القدر الإلهي بهذه المصيبة، اذ المصائب العامة تنزل لأخطاء الاكثرية؟ وما ثوابكم العاجل؟
قلت :
مقدمتها اهمالنا لثلاثة اركان من اركان الاسلام؛ الصلاة ، الصوم، الزكاة. اذ طلب منا الخالق سبحانه ساعة واحدة فقط من اربع وعشرين ساعة لأداء الصلوات الخمس فتقاعسنا عنها . فجازانا بتدريب شاق دائم لاربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات. اي ارغمنا على نوع من الصلاة.. وانه سبحانه طلب منا شهراً من السنة نصوم فيه رحمة بنفوسنا، فعزّت علينا نفوسنا فأرغمنا على صوم طوال خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا. ونه سبحانه طلب منا الزكاة عُشراً او واحداً من اربعين جزءٍ من ماله الذي انعمه علينا، فبخلنا وظلمنا. فأرغمنا على دفع زكاة متراكمة. فـ " الجزاء من جنس العمل".
اما ثوابنا العاجل، فرفعُه سبحانه وتعالى خُمس هذه الامة المذنبة - اي اربعة ملايين منهم - الى مرتبة الولاية ومنحهم درجة الشهادة والمجاهدين. فالمصيبة العامة الناشئة من خطأ العامة ازالت ذنوب الماضي.
فقال احدهم ايضاً:
- إن كان آمراً بخطأٍ ألقى الامة الى الهلاك؟
قلت:
- ان المصاب يرجو الثواب. فإما ان تُعطى له حسنات الآمر الذي ارتكب الخطأ، وهي لا تعدّ شيئاً. او تعطيه خزينة الغيب. وثوابه في مثل هذه الامور من خزينة الغيب هي درجة الشهادة والمجاهدين.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 361
رأيت ان المجلس قد استحسن هذا الكلام. وانتبهت من النوم من شدة انفعالي. ووجدت نفسي في الفراش مشبّكاً يديّ، يتصبب مني العرق.
وهكذا مضت تلك الليلة.
***

وفي اليوم نفسه والامل يطفح مني ذهبت الى مجلس آخر، مجلس دنيوي فسألوني.
- لِمَ لا تتدخل بالسياسة منذ مجيئك؟
قلت : اعوذ بالله من الشيطان والسياسة.
نعم، ان السياسة الحاضرة لاستانبول شبيهة بالانفلونزا تسبب الهذيان. فنحن لسنا متحركين ذاتياً، بل نتحرك بالوساطة. فاوروبا تنفخ ونحن نرقص هنا، فهي تلقّن بالتنويم - المغناطيسي - ونحن نتصورها نابعة من انفسنا ونجري اثر تلقينها بتخريب اعمى اصم. فمادام المنبع في اوروبا فالتيار القادم اما سيكون تياراً سلبياً او ايجابياً.
فالذين يتبعون السلبي هم كالحرف الذي يعرّف "دلّ على معنى في نفس غيره، او لا يدل على معنى في نفسه" بمعنى ان جميع افعاله ستكون لصالح الخارج مباشرة. لان ارادته لا حكم لها. فلا تنفعه النية الخالصة. ولاسيما التيار سلبي فيكون اداة لا تعقل للخارج بضعف من جهتين.
اما التيار الآخر الايجابي فيلبس لبوس التأييد والموافقة من الداخل، فهو كالاسم الذي يعرّف "دلّ على معنى في نفسه". فافعاله لنفسه، ولكن ما يترتب عليها للخارج. الاّ انه لايؤاخذ عليه لان لازم المذهب ليس مذهباً. ولا سيما اذا انضم بجهتين الى الايجابي والضعيف في التيار الخارجي، فيمكن ان يجعل الخارجَ اداةً له لا تشعر.
قالو:
  1. الا ترى الالحاد يتفشى؟ انه من الضرورة الاندفاع الى الميدان باسم الدين.
قلت:


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 362
نعم، ضروري، ولكن بشرط قاطع هو ان يكون الدافع المحرك عشق الاسلام والحمية الدينية. اذ الخطورة إن كان الدافع او الموجّه هو السياسة او التحيز. فالأول قد يعفى عنه حتى لو أخطأ بينما الثاني مسؤول عن عمله حتى لو اصاب.
قيل: كيف نفهم ذلك؟
قلت: مَن فضّل رفيقه السياسي الفاسق على متدين يخالف رأيه السياسي، بإساءة الظن به، فالدافع اذن هو السياسة.
ثم ان اظهار الدين الذي هو ملك مقدس للناس كافة - بالتحيز والتحزب - انه أخص بمن في مسلكه دون غيره، يثير الاكثرية الغالبة ضد الدين. فيكون سبباً في التهوين من شأن الدين.. فالدافع اذن هو التحيز.
مثال: يتصارع اثنان فما ان يشعر احدهما انه سيُغلب، عليه ان يعطي القرآن الذي بيده الى القوي ليقوم الآخر بحمايته ولئلا يسقطا معاً في الوحل. مظهراً محبته وتبجيله للقرآن. فتكون محبته للقرآن لكونه قرآناً. ولكن لو اتخذه ترساً تجاه القوي، فانه يثير غضبه بدلاً من ان يحرك غيرته لحمايته.
فمن يحرم القرآن من خادم قوي ويجعله في يد ضعيف، حتى اذا سقط سقط معه ايضاً، فهذا يعني انه يحب القرآن لنفسه لا للقرآن.
نعم ، ان خدمة الدين وسوق الناس اليه انما تكون بالحث على الالتزام وتذكير اصحابه بوظائفهم الدينية. وبخلاف ذلك، فان مخاطبتهم بانكم ملحدون، يسوقهم الى التعدي.
ألا لا يُستغل الدين في الداخل في الامور السلبية التخريبية. ولقد رأيتم الاعتداء على الشريعة بظن ان الخليفة الذي دام حكمه ثلاثين سنة قد اُستغل في اجراءات سياسية سلبية. تُرى من الذي يستفيد من آراء السياسيين السلبيين الحاليين؟ أتعرفونهم؟.. انني ارى انهم الخصم اللدود للاسلام، الذي غرز خنجره في قلب الاسلام.
قالوا:
كنت تعارض الاتحاد والترقي، الاّ انك تسكت عليهم الآن.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 363
قلت: لكثرة هجوم الاعداء عليهم.
ان هدف الهجوم الذي يشنه الاعداء هو العزم والثبات اللذان يتحلون بهما وعدم كونهم وسيلة لتنفيذ مآرب الاعداء في تسميم افكار المسلمين. وهذا من حسناتهم.
انني ارى ان الطريق طريقان؛ ككفتي الميزان. خفة احداهما تولد ثقل الاخرى.
فأنا لا اصفع انور 1 بجانب "انترانيك" 2، ولا اصفع "سعيد حليم" 3 بجانب "فنزيلوس" 4. وفي نظري ان الذي يصفعهما سافل منحط.
قالوا: التحزب ضرورة من ضروريات المشروطية.
قلت: ان خطوط الافكار عندنا بدلاً من ان تتقارب للتلاقي تنحرف مبتعدة الواحدة عن الاخرى كلما امتدت . لذا لانجد نقطة التلاقي، لا في الوطن، ولا في الكرة الارضية. فالافكار اشبه ما تكون بالوجود والعدم لا يجتمعان، حيث ان وجود احدهما يقتضي عدم الآخر.
ان العناد يلزم احياناً المغالين في التعصب الضلال والباطل، حتى اذا ساعد الشيطان احدهم قال له: انه ملك ويترحم عليه ، بينما اذا رأى ملَكاً في صف من يخالفه في الرأي، قال انه شيطان قد بدل ملابسه، فيبدأ بمعاداته ويلعنه. ويرى الامارة الواهية برهاناً بظنه الحسن، بينما يرى البرهان امارة واهية بسوء الظن، كمن ينظر في المنظار احد طرفيه الذي يقرّب والاخر يبعّد الشئ. وهذا ظلم فاضح يبيّن الحكمة في الآية الكريمة
(ان الانسان لظلوم كفار) (ابراهيم: 34) وذلك لان قواه وميوله لم تتحدد فطرة بخلاف الحيوان، فميله نحو الظلم لايحد ولا سيما اذا
_____________________
1 انور باشا: (1881 - 1922) كان وزيراً للحربية في حكومة الاتحاد والترقي سنة 1913 هرب الى المانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى ومنها الى تركستان وشكل جيشاً لمقاومة الروس واستشهد في احدى المعارك.
2 انترانيك: رئيس منظمة الطاشناق الارمنية، أشغل الدولة العثمانية مدة طويلة من الزمن بعدد من ثوراته ضد الدولة.
3 سعيد حليم: (1863 - 1921) كان رئيساً للوزراء عندما كان انورباشا وزيراً للحربية. أدين مع (67) من رفقائه باقحامهم الدولة العثمانية في الحرب العالمية. فنفي على اثره الى جزيرة مالطه، وظل فيها سنتين، ثم التجأ الى ايطاليا حيث حظر دخوله الى تركيا ومصر اذ كانت تحت الاحتلال البريطاني. اغتيل في 6 / 1 / 1921 بيد شخص ارمني قرب روما.
4 فنزيليوس: (1864 - 1936) من رجال اليونان البارزين في السياسة، كان محامياً ثم قائد الثوار في جزيرة كريت أسقط في سنة 1910 رئيس الوزراء قسطنطين وحلّ محله. اصبح سبباً لكثير من الاضطرابات والقلاقل في البلاد هرب سنة 1935 الى باريس، وتوفي بعد سنة. (المترجم)



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 364
انضمت الى ذلك الميل الاشكال الخبيثة للانانية كالاعجاب بالنفس وتحرى المصلحة الشخصية والكبر والعناد والغرور، تتولد جرائم بشعة لم تجد البشرية لها اسماً، ولا جزاء لها الاّ نار جهنم مثلما هي دليل على ضرورة وجودها.
فمثلاً: اذا استاء من صفة جانية لشخص، فانه يشمل ظلمه الى جميع صفاته البريئة ايضاً بل الى احبته بل الى من في مسلكه ، فيكون متمرداً امام الآية الكريمة
(ولا تزر وازرة وزر اخرى) (الانعام:164)
ومثلاً: قد قال احد الحريصين بدافع الانتقام: سيُغلب الاسلام، وسيتمزق قلبه. فلأجل ان يظهر صدق كلامه المشؤوم النابع من روح سقيمة وفكر كاذب، يتمنى ان يهان المسلمون ويصفق له ويتلذذ من ضربات العدو. فهذا التصفيق والترحيب واللذة جعلت الاسلام في موضع مجروح.
حيث العدو الذي غرز خنجره في قلب الاسلام لا يكتفي بسكوتنا عليه بل يقول: رحّب بي، تلذذ من اعمالي ، وكنّ لي حباً...
فدونكم ذنب عظيم وظلم شنيع لايجازيهما الاّ ميزان الحشر الاعظم.
قيل:
كنا نعلم اننا نُغلب، فقد دفعونا الى المصيبة عن علم.
قلت: كيف تكون نتيجة الحرب بديهياً بالنسبة لكم وانتم لا ثقافة لكم. وتكون خافية عن شخص عظيم كهندنبرغ 1؟ اخشى ان يكون ما تسمونه فكراً هو رغبة والعياذ بالله. اذ يلبس الانتقام الشخصي الظالم احياناً لباس الفكر. يا هؤلاء لقد وقعتم في طين نجس تلوثون وجوهكم به وكأنه المسك والعنبر؟
فهذا ايضاحي وبياني لما دار في مجلس مثالي في الليل المنير وفي محفل الدنيويين في النهار المظلم. فليست هذه المحاورة من بنات الفكر ولم تسل من العقل سيلاناً بل تفجرت من القلب. فان شئت فاقبلها وان شئت ردّها وارفضها، ولكن بشرط ان تفهمها.
_____________________
1 (187 - 1934) مارشال الماني انتصر على الروس 1914. رئيس الاركان في الحرب العالمية الاولى . رئيس جمهورية الرايخ 1925 - 1934 . المترجم.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 365
ذيل الرؤيا

سكت في الحج في اثناء سرده الرؤيا، لان اهمال الحج واهمال ما ينطوي عليه من حكم لا يُنزل المصيبة وحدها بل ينزل غضب الله وقهر الجبار. وجزاؤه ليس كفارة الذنوب بل كثارتها.
نعم، ان اهمال السياسة الاسلامية الرفيعة في الحج والمتضمنة توحيد الافكار بالتعارف وتشريك المساعي بالتعاون هو الذي ادّى الى تهيئة الوسط الملائم للاعداء ليستخدموا ملايين المسلمين في العداء للاسلام.
فها هو الهندي جالس يبكي على رأس ابيه الذي قتله ، ظناً منه انه عدوّه.
وها هما التتار والقفقاس ، واقفان عند قدمي جثة ساعدا على قتلها.. وبعد فوات الاوان يدركان انها والداهما.
وها هم العرب قتلوا شقيقهم البطل خطأً، ومن حيرتهم لا يعرفون كيف يبكون وينتحبون.
وهاهي افريقيا قتلت اخاها دون علم به، والآن تصرخ وتولول.
وها هو العالم الاسلامي ساعد على قتل ولده المقدام غافلاً دون علم به. فهو يلطم وينفّش شعره كالوالدة الحنون.
فالملايين من المسلمين دُفعوا الى سياحات طويلة في العالم، تحت لواء العدو الذي هو الشر المحض، بدلاً من شدّ الرحال الى الحج وهوالخير المحض.
فاعتبروا!
[كما ان الضرورات تبيح المحظورات، كذلك تسهّل المشكلات].
ان الدجاجة التي يضرب بها المثل في الخوف والجبن تهاجم الجاموس الضخم حفاظاً على فراخها.. فها هي الجسارة الفائقة.
وخوف العنز من الذئب يضرب به المثل، الا ان خوفه ينقلب الى دفاع ومقاومة في حالة الاضطرار حتى يقارع الذئب.. فها هي الشجاعة الخارقة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 366
نعم، ان الميل الفطري لا يُقاوم. فغرفة من ماء لو وضعت في كرة من حديد لفتّت الماءُ الحديدَ كلما تعرض للبرودة في الشتاء، وذلك لميله الى الانبساط والتمدد.
فجسارة الدجاجة الرؤوم على فراخها.. وشجاعة الاضطرار لدى العنز العزيز النفس يمثلان هيجاناً فطرياً.. فمثل هذا الهيجان الفطري لو تعرض له ظلم الكافر البارد، لفتّت كل شئ امامه كالماء في كرة الحديد. (والقرويون الروس امثلة شهود على هذا).
ومع هذا فان الشهامة الخارقة التي تنطوي عليها ماهية الايمان. والشجاعة التي تتحدى العالم الكامنة في طبيعة العزة الاسلامية يمكن ان تُظهر المعجزات في كل وقت وآن بانبساط الاخوة الاسلامية وتوسعها.
ستشرق شمس الحقيقة يوماً
أفيظل العالم في ظلام الى الابد؟


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 367
ذيل الذيل
لدواء اليأس 1
الحمد لله الذي قال : (ولا يغتب بعضكم بعضاً) (الحجرات: 12)
والصلاة على محمد الذي قال: (من قال هلك الناس هلك الناس فهو اهلكهم) 2.
فان محاكم التفتيش المدنية لهذا العصر، انجبت لقطاءها - غير الشرعيين - باستعمالها وسائل رهيبة في تلقيح بعض الاذهان، وتجري بهم حقدها الدفين على الاسلام للثار منه ، محاولةً فتح الباب امام ما يصرف المسلمين عن الدين، او جعلهم في الاقل مهملين له، او بإمالتهم نحو النصرانية، او التخلي عن الاسلام بإلقاء الشبهات والشكوك في العقول، وتشيع بهذا مكراً سيئاً هو الآتي:
- ايها المسلم! تأمل اينما وجد مسلم فهو فقير، غافل، جاهل الى حدٍ ما ، بينما النصراني اينما حلّ فهو متحضر، يقظ، صاحب ثروة... وهذا يعني.. الخ..
وانا اقول:
- ايها المسلم لا ترخِ يدك عن الاسلام الذي هو حامي وجودنا وكياننا تجاه الدمار الذي تولّده هذه النتيجة المخيفة لتقدم اوروبا، بل عض عليه بالنواجذ واستعصم به بقوة، والاّ فمصيرك الهلاك.
نعم ، نحن نتدنى الى اسفل وهم يرقون الى أعلى ، ولهذا سببان اثنان احدهما مادي والآخر معنوي.
السبب الاول:
الوضع الفطري لأوروبا التي هي كنيسة النصرانية عامة، ومنبع حياتها، فهي ضيقة، جميلة، تملك الحديد، متعرجة السواحل، تلتف فيها الانهار والبحار التفاف الامعاء في الجسد، مناخها بارد.
_____________________
1 رسالة "دواء اليأس " هي " الخطبة الشامية " وذيلها "تشخيص العلة " وهذا البحث ذيل لذيلها. الاّ انه نشر مع هذه الرسالة فأبقيناه في موضعه. المترجم.
2 في صحيح مسلم 4 / 2237 "اذا قال الرجل هلك الناس فهو اهلكهم ".



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 368
نعم، ان اوروبا على الرغم من كونها عُشر الخمس للكرة الارضية، فانها جذبت ربع البشرية نحوها بلطافة مناخها الفطري.
وانه ثابت حكمةً : ان اجتماع الافراد الكثيرين يولّد الحاجات، فلا يستوعب انتاج الارض تلك الحاجات التي تتزايد باسباب كثيرة - كالتقليد وغيره - ومن هنا تصبح الحاجة ام الاختراع والصناعة، وحب الاستطلاع معلّم العلم، والضيق الروحي مولد السفاهة.
نعم ان التوجه نحو الصناعة والميل الى المعرفة ينشأ من الكثرة. فبسبب ضيق المكان في اوروبا، وكثرة بحارها وانهارها التي هي وسائط نقل طبيعية فيها، فان التعارف ينتج التجارة، والتعاون الاشتراك في الاعمال، مثلما يولد التّماس تلاحق الافكار والمنافسة والتسابق.
ولكثرة ما فيها من الحديد - الذي هو منبع جميع صناعات اوروبا اعطى لمدنيتهم السلاح القوي حتى غصبت انقاض مدنيات الدنيا كلها وأغارت عليها، الى حد اثقلت كفتها وأخلّت بميزان الكرة الارضية.
ثم ان البرودة المعتدلة التي من شأنها ان تأخذ كل شئ ببطء وتتركه ببطء، قد أعطت لسعيهم الثبات والمتانة، فأدامت مدنيتهم.
ثم ان تشكل دولهم المستندة الى العلم، وتصادم قواهم المتكافئة، وازعاجات استبداداتهم الغدارة ، ومضايقات تعصبهم المقيت الظالم - كتعصب محاكم التفتيش - والذي آل الى خلاف المقصود، والتسابق الجاري بين عناصرها المتوازنة.. كل ذلك نمّى استعدادات الاوروبيين ، وفجّر قابلياتهم فظهرت لديهم المزايا، والفكر القومي.
السبب الثاني:
هو نقطة الاستناد. نعم ان اي نصراني كان اذا ما رفع رأسه ومدّ يده الى اي مقصد من المقاصد المتسلسلة المتداخلة، اذا به يجد وراءه نقطة استناد قوية تعزز قوته المعنوية وتبعث فيها الحياة، حتى يجد في نفسه من القوة ما يمكّنه ان يقتحم كل صعب وعظيم من الاعمال.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 369
فتلك النقطة، نقطة الاستناد، هي مدنية اوروبا التي هي معسكر"كتلة مسلحة" وكنيستها العظيمة، وهي مستعدة في كل آن ان تنفخ الحياة في عروق رفقاء دينها الذين يمدون اليها ايديهم من كل صوب. ومتهيأة ايضاً لقطع الشريان النابض للمسلمين، فلقد عجنت بتعصب محاكم التفتيش المدنية الماكرة، والالحاد النابع من الفكر المادي. فاوروبا تختال غروراً بانتصار مدنيتها على الآخرين.
اَلا يُشاهد الانكليز الذين تقنّعوا بقناع الحرية، يمدّون أيدهم الى كل جهة ويتحرون عن نصراني، فاينما وجدوه بعثوا فيه الحياة.. فها هي الحبشة والسودان... وها هي الطيار والارتوش وها هي لبنان وحوران.. وها هي ماسور وألبانيا.. وها هم الكرد والارمن.. والترك والروم.. الخ.
حاصل الكلام:
ان الذي ينفث فيهم الحياة هو الأمل.. والذي يقتلنا هو اليأس. وقد اشتهر احدهم بقوله: "استطيع ان احرّك الكرة الارضية من مكانها اذا وجدتُ نقطة استناد" ففي هذا القول المفترض نقطة عجية، هي: ان هذا الانسان الصغير جداً اذا ما وجد نقطة استناد يستطيع ان يدير اعظم الاشياء كالكرة الارضية.
فيا أهل الاسلام!
ان نقطة استنادنا تجاه المصائب والدواهي، التي القت بثقلها العظيم، عِظم الارض، على العالم الاسلامي، هي الاسلام الذي يأمر بالاتحاد النابع من المحبة، وبامتزاج الافكار الناشئ من المعرفة، وبالتعاون الذي تولده الاخوة.
فانظر بدءاً من العالم الاسلامي، تلك الدائرة الواسعة، وانتهاء الى طالب علم في المدرسة الشرعية كأصغر دائرة... تجد ان لكل منها عقد حياتية، وتلك العقد مرتبطة ببعضها متسلسلة ومستندة الى تلك النقطة العظمى، كافراد المجتمع وروابطه.. بمعنى انه يمكن ان يصحو المسلمون ويبدأوا بالرقي متى ما نبّهوا وبُث فيهم روح النماء، فلا صحوة بخنق تلك العقد الحياتية.
وإلاّ فان قيام احد بالموازنة والمقارنة بين محاسن اوروبا ومساوئنا، وثمرة تلاحق الافكار لديهم مع ثمرة سعي شخص واحد عندنا 1. فكما انه يبين بهذه المقارنة
_____________________
1 ان اسناد محاسن المدنية الى النصرانية التي لافضل لها فيها، والصاق التدني والتقهقر بالاسلام الذي هو عدوّ له، دليل على دوران المقدرات بخلاف دورتها وعلى قلب الاوضاع - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 370
الظالمة المجحفة الخادعة انه لقيط اوروبا لاظهار افتتانه بها ونفوره من امته، فانه ايضاً بالهجاء النابع من الخداع والفكر الثوري والميل الى التخريب، والمشحون بالعصيان والافتراء والتعرض للشرف، يظهر فرعونيته والثناء على نفسه والتربيت على غروره ضمناً مبدياً دون علم منه عداءه للاسلام. علماً انه المكلف بالشعور بالشفقة على امته شرعاً وعقلاً وحكمة، الاّ انه بحكم الفرعونية والانانية والغرور يضع الشعور بالتحقير بدلاً من الشعور بالشفقة، والميل الى النفور من الامة بدلاً من ميل الانجذاب اليها، وارادة الاستخفاف بها بدلاً من محبتها، ويوصمها بالجهل بدلاً من احترامها ويرغب في التكبر عليها بدلاً من الرحمة بها، ويقيم روح الانفرادية بدلاً من روح التضحية والفداء لها. فيثبت بهذا كله انه لايملك حمية للأمة وانه مبتوت الاصالة، فيكون جانياً منفوراً منه في نظر الحقيقة بحيث يتصرف تصرف الاحمق الابله، كمن يحاول إلباس ملابس اعجبته لراقصة ساقطة في باريس عالماً فاضلاً في المسجد.
ذلك لان الحمية هي نتيجة ضرورية للمحبة والاحترام والرحمة فلا حمية بدون هذه الامور، والاّ فهي حمية كاذبة وخادعة. والنفور من الامة خلاف الحمية ايضاً، فقساوسة اوربا الذين يشنون هجومهم على المتعصبين عندنا، كل منهم اكثر تعصباً وتزمتاً في مسلكهم السقيم. فلو مدح عالم ديني الشيخ الكيلاني بافراط كمدح اولئك لشكسبير لكُفّر.
هيهات اين المحبة من هؤلاء ؟
ان احدى العقد الحياتية المحركة للمجتمع والدافعة الى الفعالية، هو الفكر الادبي. الذي بدأ فينا وحده بالنمو - مع الاسف - ولا سيما ادب الهجاء ورغبة تحقير الاخرين. والذي ينطوي على الاعجاب بالنفس والغلو في الوصف في اسلوب شعري وبما لا يليق بالادب. فهو ادب خارج عن الادب الحقيقي الذي تؤدبنا به الآية الكريمة
(ولا يغتب بعضكم بعضاً) بحيث يهاجم كل الآخر. ومع ردّ تعرضات ضمنية للأمة وللاسلام بوجه اولئك القسس، نمر مرّ الكرام على هجائهم اللاديني واهانة الآخرين، فنمضي قائلين : ربما يستحقون ذلك.
انني اظن ان الباعث على ذل هذه الامة اكثر من الجهل هو الذكاء الابتر العقيم غير المرافق لنور القلب. وفي نظري ان اخطر مرض هو الانحياز المتطرف، لانه يدفع الى خلاف المقصود، باخراج كل شئ عن طوره.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 371
ايها الاخ! لقد بدأت عندنا تباشير اسباب فتية، قوية، بدلاً من تلك الاسباب الهرمة التي ولّدت تقدم النصرانية.
وقد فصلت ذلك في كتاب آخر. 1

حكاية:
قبل عشر سنوات (المقصود سنة 1910م) ذهبت الى "تفليس" وصعدت تل الشيخ صنعان ، كنت اتأمل تلك الارجاء واراقبها. اقترب مني احد رجال البوليس فقال :
- بم تنعم النظر؟
قلت: اخطط لمدرستي!
قال : من اين انت؟
قلت : من بتليس
قال: وهنا تفليس!
قلت : بتليس وتفليس شقيقتان
قال: ماذا تعني؟
قلت : لقد بدأ ظهور ثلاثة انوار متتابعة في آسيا، في العالم الاسلامي، وستظهر عندكم ثلاث ظلمات بعضها فوق بعض ، سيُمزّق هذا الستار المستبد ويتقلص ، وعندها آتي الى هنا وانشئ مدرستي.
قال: هيهات ! انني احار من فرط أملك؟
قلت : وانا احار من عقلك ! أيمكن ان تتوقع دوام هذا الشتاء؟ إن لكل شتاء ربيعاً ولكل ليل نهاراً.
قال: لقد تفرق المسلمون شذر مذر.
قلت: ذهبوا لكسب العلم ، فها هو الهندي الذي هو ابن الاسلام الكفوء يدرس في اعدادية الانكليز.
_____________________
1 المقصود الخطبة الشامية - المترجم.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 372
وها هو المصري الذي هو ابن الاسلام الذكي يتلقى الدرس في المدرسة الادارية السياسية للانكليز..
وها هو القفقاس والتركستاني اللذان هما ابنا الاسلام الشجاعان يتدربان في المدرسة الحربية للروس.. الخ.
فيا هذا ! ان هؤلاء الابناء البررة النبلاء، بعد ما ينالون شهاداتهم، سيتولى كل منهم قارة من القارات، ويرفعون لواء ابيهم العادل، الاسلام العظيم ، خفاقاً ليرفرف في آفاق الكمالات، معلنين سر الحكمة الازلية المقدرة في بني البشر رغم كل شئ.
وهذا هو نصف حكايتي.
مثال:
والآن سأمثل للحالة الروحية التي تدفع الى القول : نفسي نفسي.. ماذا عليّ. بالآتي:
يتقابل شخصان وتبدأ المناظرة والمفاخرة بينهما، احدهما جسور ولكن عضت النوائب 1 عشيرته الاصيلة. والآخر جبان، لكنه ينتمي الى عشيرة اخرى تبسمت لها الاقدار. فالاول ما ان يرفع رأسه ويرى ذلّ عشيرته لا تستطيع عزة نفسه تحمّل الذل، فيخفض رأسه وينظر الى نفسه، فيراها محملة الى حدٍّ ما بالعزة. وعندها يبدأ غروره المجروح بالانانية بالصراخ قائلاً: وماذا عليّ.. ها أنذا! وهاهي افعالي انا .. فينسحب من تلك العشيرة او ينتسب الى اخرى مظهراً عدم اصالته.
أما الثاني فكلما رفع رأسه سطعت امام ناظريه مفاخر عشيرته فينتفخ غروره. ولكن ما ان ينظر الى نفسه يراها واهية، وعندها يتيقظ روح التضحية والفداء في الشعور القومي. فيقول : فداكِ نفسي يا عشيرتي!.
فاذا فهمت الرمز الكامن في هذا المثال، فان في ميدان العالم هذا،ميدان الامتحان والمجاهدة والسباق، اذا تظاهرت مشاعر كل مسلم ونصراني، وكردي ورومي، في اثناء المبارزة في الحمية، تجد سر المثال. ولكن هذا التفاوت ليس كما يظنه الناس وربما هو ناتج من النظر الظاهري والسطحي وغلط الحس.
_____________________
1 بمعنى ان »الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر « ليس مجازاً - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 373
ايها المسلم!
اياك ان تنخدع . فلا تخفض رأسك! فان قطعة ألماس نادرة مهما كانت صدئة افضل من قطعة زجاج لامعة دوماً. فان ضعف الاسلام الظاهري ناشئ من خدمة هذه المدنية الحاضرة في سبيل دين آخر.
آن الأوان اذن ان تبدل هذه المدنية صورتها، فاذا ما بدّلتها فالقضية تنعكس.
فكما قيل في البداية اينما كان المسلم فهو البدوي بالنسبة للنصراني، مستنكف عن المدنية لا يكترث بها ويتحرج في قبولها، فاذا ما بدّلت الصورة فالوضع يتبدل..
وكل آت قريب. وان مع العسر يسراً.
سعيد النورسي
* * *

عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:25 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 375

المناظرات
وصفة طبية
لقارة شاسعة عظيمة الجانب .. رديئة الطالع
ولدولة مشــهورة عريقة المجد . . سيئة الحظ
ولأمـة عـزيــزة جـليـلة القدر . بلا رائدتأليف:
بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 377المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد
فقد أعلن السلطان عبد الحميد الثاني "المشروطية" 1 في 23/ تموز/ 1908م، وهي تعنى تأسيس النظام البرلماني في الدولة العثمانية التي اصبحت بموجبها الوزارة مسؤولة تجاه البرلمان وليس تجاه السلطان، كما ان صلاحية تشريع القوانين غدت من اختصاص البرلمان، واطلقت على اثرها حرية العمل السياسي وحرية الصحافة وغيرها..
كانت وجهات نظر الناس عامة والمثقفين خاصة متباينة حول "المشروطية"، اذ بدأت الفئات المختلفة تفسّر "الحرية" بالشكل الذي يروق لها، فبينما اندفعت فئة في تأييد المشروطية ومناصرتها بشدة بغية جرّها لأغراض سياسية واجتماعية وصولاً الى مآربهم في تقويض الدولة العثمانية، اذا بآخرين يتوجسون خيفة من هذا الانقلاب الذي حدث في نظام الدولة، وفي الوقت نفسه وقف آخرون مبهوتين لايتقدمون خطوة ولا يتأخرون، بينما صفق لها غيرهم من المفتونين بحضارة اوروبا المبهورين ببريقها. . وهكذا اختلفت الآراء. .
أما بديع الزمان سعيد النورسي فقد سلك مسلك الاعتدال، مسترشداً بالنهج الاسلامي السالم من التعصب الذميم الذي يعيق كل تجدد، والمبرأ عن اللهات وراء الغرب وتقليده تقليداً اعمى. فناصر مفهوم "الحرية" و "الشورى" ضمن ماهو واضح في الاسلام. ودافع عن "المشروطية" المحددة بحدود الشرع. فكتب مقالات عديدة في الصحف المحلية آنذاك، وألقى كثيراً من الخطب في الاجتماعات التي عقدت في
_____________________
1 المشروطية: وهي اعلان النظام البرلماني في الدولة العثمانية، وقد أعلن السلطان عبد الحميد المشروطية مرتين، مرة عند بداية حكمة وهي المشروطية الاولى في 19 مارت 1877م. ثم جمدها بعد هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا وبعد أن رأى ان اعداء الدولة العثمانية قد استغلوا البرلمان لتمزيقها وجرّها الى الدمار. ثم عاد بعد أكثر من ثلاثين سنة الى اعلانها مرة اخرى وهي المشروطية الثانية. واستمرت حتى معاهدة موندروس في 30/10/1918م.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 378
الميادين العامة والجوامع. مبيناً مفهوم الحرية والشورى في ضوء الاسلام. ومحذراً من التعصب المقيت والتقليد المشين، اذ شعر بمحاولات خبيثة تعمل في الخفاء لاستغلال "المشروطية" وتوجيهها لمصلحة مغرضين مناهضين للاسلام. وحينما كان يبذل وسعه في هذا الميدان لم ينسَ السياسيين والمفكرين والصحفيين، فأجرى معهم لقاءات عديدة ناصحاً ومرشداً وموضحاً المنهج الاسلامي الصحيح الذي فيه خير البلاد وصلاح العباد. ولما ادرك انه أفرغ جهده في مركز الخلافة، استانبول توجّه الى شرقي الاناضول سنة 1910م وبدأ بجولة واسعة بين مختلف العشائر الكردية والتركية، وعقد معهم اجتماعات وندوات يجري فيها مناقشات حول امور اجتماعية وسياسية، وبين لهم صلاحية "المشروطية" بالمفهوم الاسلامي. واختار معهم اسلوب الحوار السهل المستساغ والقريب الى الاذهان. على الرغم من انه قد أورد جملاً أشبه مايكون بالشفرات، ولفّع قسماً من العبارات بالتشبيهات والمجازات، ووجه الخطاب احياناً الى الاجيال المقبلة.
كان جلّ اهتمامه منصباً في تحطيم قيود اليأس وكسر أغلال القنوط التي كبّلت الناس، وكان يحاول جهده أن يشعل بصيص الأمل وبريق الرجاء في نفوسهم. فضلاً عن وضعه لهم موازين شرعية ومنطقية لوزن الاحداث المستحدثة، بعقلية متوازنة ايمانية هادئة، بعيدة قدر الامكان عن الانفعالات وردود الفعل.
دوّن الاستاذ النورسي هذه المحاورات بالتركية في رسالة طبعها في مطبعة "ابو الضياء" باستانبول سنة 1913م ونشرها تحت اسم (بديع الزمانك مناظراتي) -مناظرات بديع الزمان- ثم ترجمها الى العربية بنفسه ونشرها تحت عنوان "رجتة العوام" اي الوصفة الطبية للعوام. وجاءت هذه الترجمة مبهمة مغلقة العبارات، فاضطر الاستاذ أن يكتب في مقدمتها "معذرة طويلة الاذيال" جاء فيها قوله:
"ان هذه الرسالة العربية ترجمتُها من التركية، التي ترجمتها من الكردية، التي ارتجلتها لأسئلة الاكراد القرويين. فالمترجَم من المترجَم من المرتجل، من امي (يقصد نفسه) لقرويين، لايتملّس ولايخلص من خشونة في المعنى واللفظ".
ولم تتح للاستاذ النورسي ان يعيد النظر في رسالته هذه الاّ بعد خمس واربعين سنة من تأليفه لها، اذ عصفت اعاصير مدمرة بالامة الاسلامية عامة والتركية خاصة بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الاولى ودخول الاجانب في البلاد ثم


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 379
الحروب الدامية في طردهم منها، حتى انتهى الأمر الى اعلان الجمهورية وإلغاء الخلافة، واعقب ذلك عداءٌ سافرٌ للدين، دام طوال ربع قرن من الزمان بل اكثر. وعانى الاستاذ النورسى في تلك الايام الحالكة أشد الظلم والعنت، اذ ماكان يحل في منفى الاّ وينفى الى غيره ولا يبرأ من محكمة إلاّ ويدخل اخرى وهكذا الى مابعد سنة 1950م حيث تمكن من اعادة النظر في الرسالة فشذبها وعلّق عليها بهوامش وحذف ما يقرب من ثلثها من بداية الرسالة وما كان قاصراً على فترة معينة، أو ما يمكن ان يُساء فهمه. وعندما اريد نشرها في سنة 1959 أعاد المؤلف فيها النظر بدقة وأجرى بعض التنقيحات والتعديلات من حذف واضافة ونحن بدورنا قمنا بترجمة هذه الطبعة المنقحة.
هذا وقد كتب الاستاذ النورسي الى طلابه رسالة خاصة بعثها لهم من منفاه "قسطموني" يبين فيها رأيه في مؤلفات "سعيد القديم" عامة وفي هذه الرسالة خاصة، ثم اعقبها برسالة اخرى بعثها لهم من منفاه "اميرداغ" كلتا الرسالتين ذات اهمية في فهم مضامين مؤلفات سعيد القديم، وقد ألحقنا رسالة قسطموني بهذه المقدمة ونحيل القارئ الكريم الى "الملاحق" ص383 - 387 للاطلاع على الرسالة الاخرى قبل مطالعته مؤلفات سعيد القديم الاجتماعية.
أما عملي في الترجمة والتحقيق، فقد اقتصر على الخطوات الآتية:
1- اعتبار النص التركي الموسوم بـ "
Münazarat " المطبوع بدار سوزلر باستانبول طبعات عديدة جداً والذي اقره المؤلف نفسه هو الاساس .
2- مقابلة هذا النص بالطبعة الاولى من الرسالة المطبوعة في سنة 1913م في مطبعة "ابو الضياء" باستانبول.
3- مقابلته ايضاً بالترجمة العربية التي قام بها المؤلف نفسه، وهي المنشورة ضمن كتاب "الصيقل الاسلامي" المطبوع بمطبعة النور بانقرة سنة 1958م.
4- مقابلته ايضاً بنسخة الترجمة العربية المحفوظة في المكتبة الوطنية بازمير تحت رقم 2262/ 288/ 20 دون ذكر اسم المطبعة وسنة الطبع.
5- الاحتفاظ بالعبارات والفقرات العربية الواردة في النص التركي كما هي


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 380
ووضعها بين قوسين مركنين [ ]. فكل مابين هذين القوسين هو من عبارات المؤلف نفسه.
6- كتابة هوامش لشرح ما كان معروفاً آنذاك ويحتاج اليه القارئ اليوم، سواءً من الاحداث التاريخية أو مواقع جغرافية أو تعابير سياسية.
7- ثم عزوت الآيات الكريمة التي فيها الى مواضعها من السور، وكذا خرّجت الاحاديث الشريفة من مظانها من امهات كتب الحديث الموثوقة.
والله نسأل ان يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل. وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه اجمعين.
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 381
رأى المؤلف في مؤلفاته القديمة

نص الرسالة التي بعثها الاستاذ النورسي لطلابه من منفاه (قسطموني) يبين فيها رأيه في الاسباب الموجبة لتنقيحه "المناظرات" وعدوله عن شئ مما ذكره فيها من آراء.
لقد ألقيت نظرة الى رسالة "المناظرات" وذلك بعد مرور خمس وثلاثين سنة على تأليفها فرأيت فيها وفي امثالها من مؤلفات "سعيد القديم" أخطاءً وهفوات. اذ ألّف تلك الآثار في حالة روحية ولّدها الانقلاب السياسي 1 وأنشأتها مؤثرات خارجية وعوامل محيطة به.
انني استغفر الله بكل حولي وقوتي من تلك التقصيرات راجياً من رحمته تعالى اَن يغفر تلك الخطايا التي ارتكبتها بنية حسنة وبقصد جميل، لدفع اليأس المخيم على المؤمنين.
ان اساسين مهمين يهيمنان على آثار "سعيد القديم" -كهذه الرسالة - والاساسان ذوا حقيقة، ولكن كما تحتاج كشفيات الاولياء الى تأويل، والرؤى الصادقة الى تعبير، فان ما أحس به "سعيد القديم" باحساس مسبق - أي قبل وقوع الأمر - بحاجة كذلك الى تعبير، بل الى تعبير دقيق. الاّ ان إخباره عما توقع حدوثه وبيانه تلكما الحقيقتين بلا تأويل ولا تعبير، ادّى الى ظهور شئ من النقص والقصور وخلاف الواقع فيما أخبر عنه. الأساس الأول: هو ما زفّه من بشرى سارة للمؤمنين بظهور نورٍ في المستقبل. زفّ هذه البشرى ليزيل بها يأسهم ويرفع عنهم القنوط، فلقد أحسّ باحساس مسبق ان "رسائل النور" ستنقذ ايمان كثير من المؤمنين، وستشد أزرهم في زمان عصيب عاصف. الاّ انه نظر الى هذا النور، من خلال الأحداث السياسية التي واكبت الانقلاب وحاول تطبيق ما رآه من نور على واقع الحال من دون تعبير ولا تأويل. فوقع في ظنه ان ذلك النور سيظهر في عالم السياسة وفي مجال القوة وفي ميدان فسيح. فقد أحسّ احساساً صادقاً الاّ انه لم يوفّق في التعبير عن بُشراه توفيقاً كاملاً.

_____________________
1 المقصود اعلان المشروطية.- المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 382
الاساس الثاني: لقد أحس "سعيد القديم" ما أحسّه عدد من دهاة السياسة وفطاحل الادباء؛ بان استبداداً مريعاً مقبلٌ على الأمة، فتصدوا له، ولكن هذا الاحساس المسبق كان بحاجة الى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف 1 لإستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب. فحسبوا ظل استبدادٍ - ليس له الاّ الاسم - استبداداً أصيلاً، فهاجموه. فالغاية صحيحة الاّ ان الهدف خطأ.
وهكذا فلقد أحسّ "سعيد القديم" أيضاً بمثل هذا الاستبداد المخيف فيما مضى. وفي بعض آثاره توضيحات بالهجوم عليه، وكان يرى ان المشروطية الشرعية وسيلة نجاةٍ من تلك الاستبدادات المرعبة. لذا سعى في تأييدها بالحرية الشرعية والشورى ضمن نطاق احكام القرآن، آملاً ان تدفعا تلك المصيبة.
نعم ! لقد أظهر الزمان ان دولة تسمى داعية الحرية، قد كبّلت بثلاثمائة من موظفيها المستبدين ثلاثمائة مليوناً من الهنود، منذ ثلاثمائة سنة، وسيطرت عليهم كأنهم ثلاثمائة رجل لاغير، حتى لم تتركهم يحركون ساكناً. ونفذت قانونها الجائر عليهم بأقسى صورة من صور الظلم، آخذة آلاف الأبرياء بجريرة مجرم واحد. واعطت لقانونها الجائر هذا اسم العدالة والانضباط. فخدعت العالم ودفعته الى نار الظلم. هذه الدولة غدت مقتدى ذلك الاستبداد القادم في المستقبل.
وفي رسالة "المناظرات" هوامش قصيرة، وملاحظات وردت على صورة طُرف ولطائف، فهي من قبيل الملاطفة مع قسم من طلابه الظرفاء في تأليفه القديم ذاك، اذ قد وضح لهم الامور باسلوب الدرس والارشاد.
ثم ان زبدة هذه الرسالة "المناظرات" وروحها وأساسها، هي ما في خاتمتها من حقيقة اقامة "مدرسة الزهراء"، وماهي الاّ المهد الذي سيشهد ظهور "رسائل النور" في المستقبل. فكان يُساق الى تأسيسها دون ارادة منه. ويتحرى - بحس مسبق - عن تلك الحقيقة النورانية في صورة مادية حتى بدت جهتها المادية أيضاً، اذ منح
_____________________
1 المقصود: ان الاستبداد الذي كان يمارس في عهد السلطان عبدالحميد يعدّ ظلاً ضعيفاً للاستبدادات التي حصلت بعد عهده وبعد سقوط الخلافة. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 383
السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك المدرسة، وارسيت قواعدها فعلاً، الاّ ان اندلاع الحرب العالمية الاولى حال دون اكمال المشروع.
ثم بعد حوالي ست سنوات ذهبتُ الى انقرة، وسعيت في انجاز تلك الحقيقة، وفعلاً وافق مائة وثلاثة وستون نائباً في مجلس الأمة من بين مائتي عضو على تخصيص خمسة عشر ألف ليرة ورقية لبناء مدرستنا، ولكن ياللأسف - ألف ألف مرة - سدّت جميع المدارس الدينية، ولم استطع ان انسجم معهم فتأخر المشروع أيضاً.
بيد ان المولى القدير أسس برحمته الواسعة الخصائص المعنوية لتلك المدرسة وهويتها في "اسبارطة" فاظهر "رسائل النور" للوجود. وسيوفق - ان شاء الله - طلاب النور الى تأسيس الجهة المادية لتلك الحقيقة أيضاً.
ان سعيداً القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة "الاتحاد والترقي" 1 فانه مال الى حكومتها ولاسيما الى الجيش، حيث وقف منهم موقف تقدير واعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك الاّ بما كان يحس به من احساس مسبق من ان تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال اليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبما يخالف مشربه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن فتحول الى مخيض لا قيمة له. فعاد "سعيد الجديد" الى الاستمرار في جهاده وخالف سعيداً القديم.
_____________________
1 جمعية الاتحاد والترقي: وهي جمعية تشكلت سنة 1888م، كان شعارها »الاتحاد، المساواة، والاخوة« نادت بعزل السلطان عبد الحميد واقامة حياة برلمانية في البلاد. اتصل بعض اعضائها بالمحافل الماسونية وبالدول الاجنبية، ونجحت اخيراً في عزل السلطان. وعندما وصلت الى الحكم اسست حكماً دكتاتورياً قاسياً، ثم ورطت الدولة العثمانية في اتون الحرب العالمية الاولى (بجانب المانيا) وبعد ان تمزقت اوصال الدولة العثمانية هرب زعماؤها الى الخارج. المترجم.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:26 PM

رد: صيقل الإسلام
 

صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 385

المناظرات
وصفة طبية
لقارة شاسعة عظيمة الجانب.. رديئة الطالع
ولدولة مشهورة عريقة المجد… سيئة الحظ
ولأمة عزيزة جليلة القدر… بلا رائد
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 387
[قسم من أجوبة "سعيد القديم" عن أسئلة
طـرحتها العشـائر قبل خمس وأربعين سنة]. 1

بسم الله الرحمن الرحيم

س : ان لم يكن على الدين ضرر، فليكن مايكون ولانبالي.
ج : الاسلام كالشمس لا ينطفئ سناها بالنفخ، وكالنهار لا يحال ليلاً باغماض العين. ومن يغمض عينه فلا يجعل الظلمة الاّ من نصيبه.
تُرى لو فُوّضت حماية الدين الى رئيسٍ مغلوب على أمره، أو الى مسؤولين مداهنين، أو الى فئة من ضباط لا منطق لهم. أيكون اَولى أم يُعتمد على العمود النوراني، ذلك السيف الألماسي، الحاصل من امتزاج شرارات حمية الاسلام النيرة، ولمعات الانوار الالهية التي تشع من عاطفة الايمان في قلب كل فرد، والتي هي معدن المشاعر الاسلامية الممدّة لأفكار الامة العامة؟
فلكم ان تقدّروا أيهما اولى بالاعتماد عليه في حماية الدين ؟
نعم. سيرفع هذا العمود النوراني 2 حماية الدين على رأس شهامته، وعلى عين مراقبته وعلى كاهل حميته. فها أنتم اولاء تشاهدون ان اللمعات المتفرقة بدأت تتلألأ، وستمتزج رويداً رويداً بالانجذاب؛ لأنه قد تقرر في "فن الحكمة" -اي الفلسفة- أَن الشعور الديني ولاسيما الدين الفطري الحق، اَنفذُ كلاماً، وأعلى حُكماً، وأشد تأثيراً من كل الاحاسيس والمشاعر.
وخلاصة القول: مَن لم يعتمد على غيره يحاول هو بنفسه. وسأضرب لكم مثلاً: انتم من البدو، رأس مالكم الغنم - وانتم اعلم بأموركم - فقد عهد كلٌ منكم قسماً
_____________________
1 المقصود سنة 1910م حيث تجول الاستاذ النورسي بين العشائر التركية والكردية في شرقي الاناضول وطبع الكتاب لأول مرة في استانبول سنة 1913م. المترجم.
2 فلقد أحسّ برسائل النور حتى اَجاب عن السؤال بثلاث صفحات... ولكن حُجُب السياسة صبغَتْه بلون آخر. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 388
من اغنامه الى راعٍ، بينما الراعي كسلان ومعاونه متهاون متكاسل وكلابه جبانة، فان اعتمدتم عليه ونمتم براحة في بيوتكم، ظلت اغنامكم الوادعة تحت سطوة الذئاب الضارية واللصوص والمصائب والبلايا.. أهذا الأمر اَولى اَم التفطن الى عدم كفاءة الراعي لحمايتها، فينطلق كلٌ منكم من مسكنه كالبطل منتبهاً من نوم الغفلة، ساعياً الى الحفاظ على الأغنام، فتكونوا ألفاً من الحماة المحافظين بدلاً من راعٍ واحد... فلا يجرأ عندئذٍ ذئبٌ ولاسارق على الإقتراب من غنمكم؟… اَما جعل هذا السرّ أشقياء "مامه خوران" 1 تائبين، بل مريدين صوفيين؟ ... نعم، ان ارواحهم قد تاقت الى البكاء وصار شخصٌ 2 بنصيحةٍ سبباً لاستجاشتها، فبكوا دمعاً سخيناً بكاء الندامة..
نعم... نعم... أجل.. أجل.! لو سكن طنينُ البعوض وهدأ دويّ النحل فلا تأسوا ولاتحزنوا ولا تخمد أشواقكم أبداً، فالموسيقى الالهية العظيمة التي تجعل بنغماتها الكون في رقصٍ وانتشاء، وتهز باشجانها اسرار الحقائق، لم تسكن ابداً ولم تهدأ... بل تستمر قوية عالية هادرة.
ان ملك الملوك وسلطان السلاطين ملك الأزل وسلطان الأبد ينادي بقرآنه الكريم الذي هو موسيقاه الالهية، مالئاً الكون كله صوتاً صداحاً هادراً في قبة السماء فانعطفت النغمات المقدسة لذلك النداء السامي متموجة نحو اصداف رؤوس العلماء ومغارات قلوب الأولياء وكهوف افواه الخطباء وانعكست أصديتها من ألسنتهم سيّالة، سيارة منوّعة، مختلفة... هزّت الدنيا بشدة موجاتها، فطبعتْ بتجسّمها كتبَ الاسلام كلها وصيّرتها كأنها وترٌ من طنبور، وشريط من آلة قانون فأعلن كلُ وترٍ نوعاً من ذلك الصدى السماوي الروحاني... فمن لم يسمع - أو لم يستمع - بأذن قلبه ذلك الصدى الذي ملأ العالم ضياءاً، اَنّى له اَن يصغيَ الى طنين أمير الدولة ورجاله!
الحاصل: ان مَن يتوجس خيفة على دينه من انقلاب سياسي فليس له نصيب من الدين الاّ "الجهل" -الواهي كبيت العنكبوت- الذي يدفعه الى الخوف، وليس له الاّ "التقليد" الذي يرميه في أحضان الاضطراب والإرتباك... لأنه لما ظن - بالعجز
_____________________
1 عشيرة ساكنة شرقي الاناضول حوالى مدن »باتنوس، أرجس.. «. المترجم.
2 هو الشيخ احمد احد الاولياء الصالحين المعروفين في تلك المنطقة، وسيأتي ذكره. المترجم.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 389
وبفقدان الثقة بالنفس - ان سعادته ليسَ الاّ في جيب الحكومة، تصوَّر أن قلبه وعقله كذلك هما في كيس الحكومة. فلا جرم أن يملأه الخوف.
س: لايقول بعضهم مثلما تقول، بل يقولون: لابد اَن يجئ "السيد المهدي" لان الدنيا قد اضطربت وتشوشت لإكتهالها وهرمها، والاسلام قد اهتزّ كيانه بانتعاش المنافع الشخصية وتنفس الأغراض الدنيوية.
ج: لو استعجل السيد المهدي، وأتى، فعلى العين والرأس، فليأتِ حالاً، فقد آن أوانُه، فلقد تهيأ وتمهّد له وضعٌ ملائم حسن، فليس فاسداً كما تظنون، فالأزهار اليانعة تزدهر في الربيع، ومن شأن الرحمة الإلهية لهذه الأمة ان يجد ذلُّها نهايته، ومع هذا فمن قال: ساءَ الزمان كلياً وفسد علينا مُبدياً ميلاً الى العهد السابق، فانه يسند - من حيث لايشعر - سيئات العهد السابق الناشئة من مخالفة الاسلام الى الاسلام نفسه، كما هو ظن قسم من الاجانب.
س: مَن هم اولاء المشوّشون على الأفكار ولا يقدرون "الحرية" و " المشروطية" حق قدرهما؟
ج: جمعية تشكلت برئاسة "الجهل" آغا و"العناد" أفندي، و"الغرض" بك، و "الانتقام" باشا و"التقليد" حضرتلرى ومسيو " الثرثرة"، وهي جمعية من الناس تشوّه "الشورى" التي هي منبع سعادتنا وتكدّرها، فالمنتسبون اليها - في البشرية - هم الذين لا يضحون بدرهم واحد من حسابهم لاعظم مصلحة من مصالح الأمة ومنافعها… والذين يرون نفعَهم في اضرار الناس، وبدانتهم في هزال الآخرين… والذين يفسّرون الأمور دون محاكمة عقلية عادلة فيطلقون المعاني جزافاً… فبينما ترى أحدهم لا يكبح جماح نفسه للثأر ولا يضحي بغرضه الشخصي، اذا به يدّعي بغرورٍ استعداده لفِداء روحه للأمة… وهم اولاء الذين يحملون افكاراً غير معقولة أمثال تكوين الامارات "البكلك" اَو الحكم الذاتي "المختارية" - التي هي مقدمة طوائف الملوك - اَو الجمهورية بمفهوم الاستبداد المطلق… وهم اولاء الذين رأوا الظلم فامتلأت قلوبُهم غيظاً ورغبة في الثأر حتى لم يستطيعوا اَن يهضموا العفو العام والأمن العام وهما من اُولى حسنات "الحرية" و " المشروطية". فيثيرون الآخرين للإخلال بالأمن ويهيّجونهم للقيام بالاضطرابات كي يتشَفّوا بانزال العقوبة بهم، وتأديبهم.


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 390
س: لِمَ تفنّد جميعهم وتعدّهم فاسدين، مع انهم يبدون ناصحين لنا؟
ج: اَروني مفسداً يقول: اَنا مفسد، وماهو الاّ مفسد الا أنه يتراءى في صورة الحق، اَو يرى الباطل حقاً. نعم؛ مامن أحد يقول: مخيضي حامض.. فلا تأخذوا شيئاً الاّ بعد إمراره على المحك، لأن أقوالاً مغشوشة مزيّفة قد كثرت في تجارة الأفكار... حتى كلامي اَنا لا تأخدوه على علاّته - بحسن ظنكم - لانه صادر عني فقد اكون مفسداً، أو اُفسد من حيث لا أشعر، فعلى هذا تيقظوا! ولا تفتحوا الطريق الى القلب لكل طارِق. فليظل ما أقوله لكم في يد خيالكم، واعرضوه على المحك، فان ظهر اَنه ذهب فارسلوه الى القلب، واحتفظوه هناك، وان ظهر اَنه نحاس، فاحملوا على عاتق ذلك الكلام المنحوس كثيراً من الغيبة وشيّعوه بسوء الدعاء عليّ وردّوه خائباً اليّ.
س: لِمَ تسئ الظن بحُسن ظننا؟ فالسلاطين والحكومات السابقة ما استطاعوا ان يصرفوك عن الحق ولم يستطع كذلك اعضاء "جون تورك" 1 ان يكسبوك الى صفوفهم. فلمْ تداهنهم، حتى ألقوك في السجن وكادوا اَن يصلبوك، فما رضختَ لهم ولا خنعت اَمامهم بل برزتَ بطلاً شهماً برفضك ما وعدوك من مرتّب ضخم... فأنت اذاً بجانب الحق ولا تميل الاّ اليه، ولا تقول ماتقول انحيازاً اليهم.
ج: نعم، ان الذي عرف الحق، لايستبدل له بشئ، لأن شأن الحق رفيع وسامٍ ما ينبغي أن يُضحّى به لأجل أي شئ كان، ولكني لا أقبل حسن ظنكم هذا، لأنكم قد تحسنون الظن بالمفسد أو المحتال. انظروا الى دليل فكره ونتيجته.
س: كيف نعرف ذلك؟ ونحن جاهلون، نقلّد العلماء أمثالكم.
ج: ان لم تكونوا من أهل العلم، فأنكم من أهل العقل. بدليل؛ لو تقاسمت الزبيب مع احدكم فقد يغبنني بذكائه! فجهلكم اذاً ليس عذراً... اعلموا ان الاشجار المتشابهة تمّيزها ثمراتُها، لذا تبصّروا في ثمرات افكاري ونتاج أفكارهم، فقد تلألأت في احدهما السلامة والطاعة، وتستر في الآخر الاختلاف والفساد. سأضرب لكم مثالاً آخر:
_____________________
1 مشتقة من العبارة الفرنسية »Jeunes Turces« اي تركيا الفتاة: يطلق هذا الاسم على الجماعات والافراد المعارضين للحكم في الدولة العثمانية منذ عهد السلطان عبد العزيز وفيهم الشاعر نامق كمال وضياء باشا ممن يطالبون بالحرية. كانت مطاليب هذه الجماعات والافراد تتلخص في اعلان الدستور وتأسيس حياة برلمانية. وتعدّ جمعية الاتحاد والترقي اقوى هذه الجماعات تأثيراً، اذ استطاعت - بالتعاون مع القوى الخارجية - ازاحة السلطان عبد الحميد من الحكم. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 391
تصوّروا ناراً منيرة تتراءى في هذه الصحراء، فانا أبشركم بأنها نورٌ وليست ناراً، وحتى ان كانت فيها نار فليس الاّ طبقة عليا منها ضعيفة موروثة... فتعالوا اذاً لنحيط بها ونتحلق حولها ونتفرج عليها ونستضئ بها ونقتبس منها حتى تتلاشى طبقة النار ولنستفد منها. فان كانت نوراً - كما قلت - فبه، فقد استفدنا، وان كانت ناراً - كما قالوا - ماضرّتنا، اذ لم نقتحمها. أما هم فيقولون: "أن النار محرقة" فان كان نوراً أعمــى قلوبهــم وابصارهــم لأن النــور - الـذي يظنونه ناراً - هو نور السعادة 1 ، فاينما أشرق لم يُطفأ ولو بصبّ اُلوف القِرَب من دماء ملايين الناس، بل حاول بعض من فينا اطفاءه بضع مرات منذ سنتين إلاّ انهم خابوا.
س: انت قلت انه ليس بنار، ولكن كلامك يشير الى ناريته..؟!
ج: نعم، النور نار للأشرار.
س: ماتقول لأهل الفضيلة من تلك الزمرة؟ وهم أخيار...
ج: هناك كثير من الأخيار يسيئون وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً.
س: كيف يَرِد الشرُ من الخير؟.
ج: طلب المحال حمقٌٌ ووبال على صاحبه، لأن من كانت بغيته حكومة بريئة معصومة فطلبه محال اعتيادي، اذ لماّ لم يكن الشخص الواحد الآن معصوماً فكيف بالشخص المعنوي "الحكومة" الذي كلُ ذرة من ذراته مذنبة؟ فمدار النظر اذاً هو في ترجّح حسنات الحكومة على سيئآتها كمّاً أو نوعاً. واَنا أنظر الى هؤلاء واعدّهم فوضويين، لأنه لو عاش اُحدهم - لا سامح الله - الف سنة، ورأى الصور الممكنة للحكومات، لما ارتضى كذلك باحداها، لما في خياله وحلمه من تصّور للحكومة المعصومة، فيولد فيه هذا الحلم ميلَ التخريب فيمزق تلك الصور الممكنة.
لذا حتى الفاسدين - في نظرهم - من اعضاء "جون تورك" يعدّونهم زمرة ملعونة فوضوية مشاغبة، فمسلكهم ليس الاّ الاخلال بالأمن والإفساد.
س: فلمَ لا يجوز ان تكون ضالّتهم العهد السابق؟.
ج: اني أبعث الى سماعكم قانوناً قصير القامة طويل الهمّة، يمكنكم حفظه، فشاوروه، وهو: "ان تلك الحال محال، فإما هذه الحال وإما الإضمحلال" فالحكومة
_____________________
1 وهنا ايضاً قد أحسّ برسائل النور، ولكنه نظر اليها من تحت ستار السياسة فتبدل شكل الحقيقة - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 392
مسلمة، والأمة التي تحكمها مسلمة وأس أساس سياستها أيضاً هو الدستور الآتي: ان دين الدولة الاسلام... فوظيفتنا اذاً الحفاظ على هذا الاساس ووقايته، لأنه جوهر حياة أمتنا.
س: أتستمر الحكومة في خدمة الاسلام وتقوية الدين بعد الآن؟.
ج: بخ بخٍ وبكل سرور، نعم، فان هدف الحكومة وان كان مستتراً وبعيدا وباستثناء بعض الملحدين الجهلة - هو حماية سلسلة الاسلام النورانية وتقوية رابطته التي تجعل ثلاثمئة مليون مسلم - بسرّ الاخوة الايمانية - كياناً واحداً، اذ اِنها هي وحدها "نقطة الاستناد" وهى وحدها "نقطة الاستمداد"… ان قطرات المطر ولمعات النور كلما بقيت متفرقة وظلّت متناثرة، جفّت بسرعة وانطفأت حالاً. فينادينا رب العزة سبحانه قائلاً:
(ولاتفرقوا) (آل عمران: 103) (لاتقنطوا) (الزمر: 53) ليحول بيننا وبين الانطفاء والزوال..
نعم، ان نغمات
(لاتقنطوا) واصداءها تتجاوب من ست جهات: الضرورة، والانجذاب، والتمايل، والتجارب، والتجاوب، والتواتر، تجمع تلك القطرات واللمعات في مصافحة وعناق، وتطوي مابينها من المسافة مولدةً حوضاً من ماء يبعث على الحياة وضياءً منوراً ينير العالم أجمع. ذلك لأن الدين جمال الكمال وضياء السعادة ونمو المشاعر وسلامة الوجدان. 1
س: الآن نستفسر عن الحرية، فما هذه الحرية التي تتجاذبها التأويلات وتتراءى فيها الرؤى العجيبة الغريبة؟!.
ج: ان من عاش مع طيفها منذ عشرين سنة حتى تعقبها في الرؤى وترك كل شئ لحبّها يستطيع الأجابة عنها فهو الخبير بوصفها.
س: لقد فسّروا لنا "الحرية" تفسيراً خاطئاً سيئاً، وكأن الانسان مهما فعل - في كنف الحرية - من سفاهات ورذائل وفضائح لا يؤاخَذ عليها مادام لم يضرّ بها الناس... هكذا أفهمونا الحرية، اَهي كذلك؟!.
ج: ان الذين فسّروها هكذا، ما اعلنوا الاّ عن سفاهاتهم ورذائلهم على رؤوس الاشهاد، فهم يهذرون متذرعين بحجج واهية كالصبيان، لأن الحرية الحسناء ماهي
_____________________
1 مهلاً، لها أشارات أشبه ماتكون بالشفرات. المؤلف.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 393
الاّ تلك المتأدبة بأداب الشريعة والمتزينة بفضائلها، وليست تلك التي في السفاهة والرذائل. بل تلك حيوانية وبهيمية وتسلط شيطاني، ووقوع في أسر النفس الأمارة بالسوء.
ان الحرية العامة هي المحصّلة الناتجة من حريات الأفراد، ومن شأن الحرية عدم الاضرار سواء بالنفس اَو بالآخرين.
[على ان كمال الحرية، ان لايتفرعن، وان لا يستهزئ بحرية غيره، ان المراد حق لكن المجاهدة ليست في سبيلها] 1
س: كم رأينا من لايفسّر الحرية كما تفسّرها أنت، مع ان أفعال اعضاء من "جون تورك" تخالفك في التفسير ويناقض قولهم قولك، اِذ اِن بعضهم يفطرون في رمضان ويشربون الخمر ويتركون الصلاة...
فهيهات ان يصدُق مع الأمة من خانَ الله ولم يصدق في امتثال أمره تعالى؟
ج: اَجل، نعم! لكم الحق... ولكن الحمية شئ والعمل شئ آخر، وعندي ان القلب أو الوجدان الذي لم يتزيّن بالفضائل الاسلامية لا تُرجى منهُ الحمية الحقة والوفاء الصادق والعدالة الخالصة. ولكن لأن الصنعة غير الفضيلة، فقد يقوم الفاسق برعي الاغنام رعياً جيداً، وقد يصلّح شارب الخمر ساعةً باتقان حين لايكون سكرانَ، ولكن وا أسفى على ندرة الذين جمعوا النورَين معاً: نور القلب ونور الفكر، أو بعبارة أخرى الفضيلة والصنعة، فهم نادرون لا يكفون لملء الوظائف، فاذاً اِما الصلاح واِما المهارة... واذا تعارضا فالمهارة مرجحة في الصنعة.
واعلموا كذلك ان السفهاء التاركين للصلاة، ليسوا بـ "جون تورك" بل هم "شين الترك" اي فاسدون، فهم روافض "جون تورك" مثلما لكل شئ روافضه، فروافض "الحرية" هم السفهاء.
ايها الأتراك والاكراد! انصفوا... هل يُرفَض الحديث الشريف وينكر اذا أوّلَه الرافضي تأويلاً فاسداً أو عمل بخلافه، أم يخطّأ الرافضي حفاظاً على منزلة الحديث الشريف وكرامته؟.
_____________________
1 لا تستعجل. . . الجملة تعنى ان صاحب جريدة (الميزان) »مراد« هو محق ورئيس تحرير جريدة (طنين) »حسين جاهد« على خطأ. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 394
اَلا ان الحرية هي: ان يكون المرء مطلق العنان في حركاته المشروعة مصوناً من التعرض له، محفوظ الحقوق ولايتحكم بعضٌ في بعض، ليتجلى فيه نهي الآية الكريمة: (ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) (آل عمران: 64) ولايتأمّر عليه غير قانون العدالة والتأدب، لئلا يُفسِد حرية اخوانه.
س 1: فما لنا اذن نحن معاشر البدو، نحن احرار منذ القدم، فقد ولدتْ حريتُنا توأماً معنا، فليفرح بها الآخرون من غيرنا، فالأمر لايهمّنا.
ج: نعم، ان حب تلك الحرية والشغف بها هي التي جعلتكم تتحملون مشقات البداوة التي لا تطاق، وان سلوككم المفعم بالقناعة هو الذي اغناكم عن محاسن المدنيّة البرّاقة، فزهدتم فيها. ولكن أيها البدو! ان مالديكم من الحرية هو نصفها، والنصف الآخر هو عدم المساس بحرية الآخرين. ثم ان الحرية الممزوجة بالبداوة وبالعيش الكفاف، توجد منها ايضاً في حيوانات الجبال والبراري القريبة منكم، وفي الواقع لو كانت هناك لذة وسلوان لهذه الحيوانات فهي في حريتها تلك...
ولكن أين أنتم من تلك الحرية الانسانية الساطعة كالشمس وهي معشوقة كل روح، وصنو جوهر الانسانية، وما هي الاّ التي تربّعت على قصر سعادة المدنية وتزيّنت بحلل المعرفة وحُليّ الفضيلة والتربية الاسلامية.
س: لقد قيل في حق هذه الحرية التي تثني عليها:
[حُريّةٌ حَرِيّةٌ بالنار، لانها تختص بالكفار] فما تقول في هذا القول؟
ج: ان ذلك المسكين الشاعر قد ظن الحرية مسلك البلشفية ومذهب الإباحية. كلاّ، بل الحرية بالنسبة للانسان تولّد العبودية لله سبحانه، وقد رأيت كثيرين يهاجمون "السلطان عبد الحميد" اكثر من هجومهم على " الاحرار" 2.. وكانوا يقولون: انه على خطأ لقبوله "الحرية" و "القانون الأساس" 3 قبل ثلاثين سنة" هكذا ! فما ظنكم بقول قائل حَسِبَ الاستبداد الذي اضطر اليه السلطان عبدالحميد
_____________________
1 هذا سؤال البدو الرحل الساكنين في الخيم السوداء. - المؤلف.
2 الاحرار: هو حزب معارض لجمعية الاتحاد والترقي وذلك في الفترة القصيرة التي بدأت قبيل عزل السلطان عبد الحميد، حتى استئثار جمعية الاتحاد والترقي بالحكم. المترجم.
3 اي الدستور بالتعبير الشائع حالياً والذي يعّين صلاحية الحاكم والحكومة والبرلمان، ويحدد الخطوط الرئيسية لسياسة الدولة وقوانينها. المترجم.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:27 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 395
حريةً، وارتعد من القانون الاساس الذي هو اسم دون مسمّى! فما قيمة قوله ياتُرى؟ هذا ولقد قال مجاهدٌ خدمَ الاسلام عشرين سنة: [حريةٌ عطيةُ الرحمن اذ إنها خاصية الايمان] 1.
س: كيف تكون الحرية خاصية الايمان؟
ج: لأن الذي ينتسب الى سلطان الكون برابطة الإيمان ويكون عبداً له تتنزّه شفقتُه الايمانية عن التجاوز على حرية الآخرين وحقوقهم، مثلما تترفع شهامتُه الايمانية وعزته عن التنازل بالتذلل للآخرين والانقياد لسيطرتهم واكراههم.
نعم. ان خادماً صادقاً مخلصاً للسلطان لايتذلل لتحكّم راعٍ وسيطرته، كما لا يتنازل أن يفرض سيطرته على مسكين ضعيف. فبمقدار قوة الايمان اذن تتلألأ الحرية وتسطع. فدونكم خير القرون، العصر السعيد، عصر النبوة والصحابة الكرام.
س: هيهات! نحن عوام كيف نصير أحراراً تجاه الشخصيات الكبار أو الاولياء والصلحاء والعلماء العظام، أوَ ليس من حقهم ان يتحكموا فينا لمزاياهم، فكيف لانكون اسراء فضائلهم؟
ج: ان شأن الولاية والمشيخة والعظمة: التواضع والتجرد، وهما من لوازم الفضيلة وخصائص الكمال ورفعة الشأن، لا التكبر والتحكم.. فمن تكبّر فهو صبي متشيّخ وطفل متكهّل، فلا تعظّموه..
س: لِمَ يكون التكبّر علامة التصاغر؟
ج: لأن لكل شخص نافذة يشاهد فيها ويطل منها على المجتمع، تلك هي مرتبة الشهرة والكرامة. فاذا كانت تلك النافذة ارفع من قامة استعداده، يتطاول بالتكبر، اما اذا كانت اخفض من قامة همته يتواضع بالتحدب ويتخفض كي يشهد في تلك المرتبة ويُشاهد.
س: حسناً جداً. لقد رضينا بأن الحرية حسنة جميلة، ولكن تبدو حرية الروم والارمن شوهاء. وتسوقنا الى التوجس وقلق البال، فما رأيك فيها؟
_____________________
1 ) تعريف جميل. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 396
ج:
اولاً: ان حريتهم الاّ يُظلَموا، ولايُخلّ براحتهم، وهذا أمر شرعي. أما مازاد على هذا فهو تعدّ منهم تجاه طيشكم وسوء تصرفكم، أو استغلال لجهلكم.
ثانياً: لو كانت حريتهم - كما تظنونها - مضرة بكم، فلسنا معاشر المسلمين بخاسرين، لأن الارمن الذين هم بين ظهرانينا لا يبلغون ثلاثة ملايين، وغير المسلمين فينا ايضاً لايبلغون عشرة ملايين، بينما ملتنا الاسلامية واخواننا الحقيقيون الابديون يزيدون على ثلاثمائة مليون، الاّ انهم مقيّدون بثلاثة قيود رهيبة من قيود الاستبداد، فينسحقون تحت هذا الاستبداد المعنوي للاجانب.. وهكذا فحرية غير المسلمين - التي هي شعبة من حريتنا - انما هي مقدمة وأتاوة لحرية امتنا كافة.. وهي رافعةٌ ذلك الاستبداد المعنوي المرعب 1. وهي مفتاح لفك تلك القيود.. وهي رافعة للاستبداد المعنوي الرهيب الذي ألقاه الاجانب على كاهلنا. نعم حرية العثمانيين كشّافة لطالع آسيا العظيمة ومفتاح لحظ الاسلام واساس لسور الاتحاد الاسلامي.
س: ما تلك القيود الثلاثة التي قيّد الاستبداد المعنوى بها العالَم الاسلامي؟
ج: ان استبداد حكومة روسيا - مثلا - قيدٌ.. وتحكم الشعب الروسي قيدٌ آخر. وتغلّب عاداتهم الكفرية الجائرة على العادات الاسلامية قيد ثالث.. والحكومة الانكليزية، وان كانت تبدو غير مستبدة الاّ ان امتها متحكمة مسيطرة، وعاداتها مهيمنة، فدونكم "الهند" برهاناً على ذلك و "مصر" نصف برهان عليه.
أفلم يثبت اذاً ان امتنا الاسلامية مقيدة بثلاثة قيود، أو بقيد ونصف، وليس لنا ازاء ذلك الاّ قيد كاذب موهوم ضعيف وضعناه على أرجل غير المسلمين فينا. وقد تحملنا كثيراً من دلالهم بديلاً عن ذلك. فلقد ازدادوا نسلاً وثروة، أما نحن فقد تناقصنا نسلاً وثروة. وذلك بسبب انحصار الوظائف - التي هي ضربٌ من عمل الخادم - والعسكرية فينا.
ان الفكر الملّي 2 والدُ "الحرية" وما كان الأسرى الاّ الاكراد والأتراك.
_____________________
1 كان ينبغي ان يتحدث بهذا الكلام بعد(اربع واربعين) سنة الاّ أنه ذكره في ذلك الوقت. المؤلف.
2 يعرّفه الاستاذ المؤلف في ص415 بأن »مليتنا وجود مستقل بذاته، روحها الاسلام وعقلها القرآن والإيمان«. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 397
وهكذا نفكّ ذلك القيد الكاذب ونحلّه عن أرجل ثلاثة ملايين أو عشرة ملايين لينفسح المجال ويتمهّد الطريق أمام حرية ثلاثمائة مليون مسلم مقيدين بثلاثة قيود. 1 ولاريب أن مَن أعطى ثلاثة عاجلاً وربح ثلاثمائة آجلاً ليس بخاسر!..
[وسيأخذ الاسلام بيمينه من الحجة سيفاً صارماً جزاراً مهنداً... وبشماله من الحرية لجام فرس عربي مشرق اللون فالقاً بفأسه وقوسه رؤوس الاستبداد الذي به اندرس بساتيننا] 2.
س: هيهات! كيف تكون حريتُنا مقدمة لحرية العالم الاسلامي كافة وفجره الصادق؟.
ج: بجهتين: -
الأولى: ان الاستبداد الذي فينا أقام سداً مظلماً جائراً ازاء حرية آسيا، فما كان لضياء الحرية ان ينفذ من ذلك الستار الكثيف المظلم ليفتّح الابصار ويُري الكمالات، ولكن بخراب هذا السدّ انتشر - وسينتشر - فكر الحريّة ومفهومها حتى الى الصين، بيد أن الصين أفرطت واصبحت شيوعية. ولما ثقلت كفة الحرية في ميزان العالَم، فقد رفعت كليّاً الوحشيةَ والاستبداد اللذين في الكفة الأخرى، وسيزولان بمرور الزمن. فلو انكم قرأتم صحيفة الأفكار وتأملتم في طريق السياسة واستمعتم الى الخطباء العموميين، أعني الصحافة الصادقة في أخبارها، لعلمتم أنه قد حصل في العالم العربي والهند وجاوا ومصر والقفقاس وافريقيا وأمثالها، تحّولٌ عظيم وانقلاب عجيب ورقي فكرى وتيقظ تام نابعٌ من فوران فكر الحرية وغليانه في افكار العالم الاسلامي، فلو كنا دافعين مئة سنة ثمناً لها لكان رخيصاً، لأن الحرية كشفت عن الملّيةٍ وأظهرتها وبدأ يتجلى الجوهر النوراني للاسلام في صَدَفة الملّية، فآذنت بتحرك الاسلام واهتزازه: بأن المسلم ليس جزءاً فرداً سائباً حبلُه على غاربه، بل هو جزء لمركبات متداخلة متصاعدة، له مع سائر الاجزاء صلة رحم من حيث جاذبية الاسلام العامة. فهذا النبأ يمنح أملاً قوياً بأن نقطة الاستناد ونقطة الاستمداد في غاية القوة
_____________________
1 وقد بدأت الآن بالتحلل والانفتاح والحمد لله . المؤلف.
2 ارجع النظر اليها، انها فقرة ذات شفرات كانها تخبر عن مجموعة رسائل النور أمثال: »ذو الفقار« »حجة الله البالغة«.. مثلما تخبر عن الشعوب الاسلامية: اليمن ومصر والجزائر والهند والفاس (المغرب) والقفقاس وفارس والعرب. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 398
والمتانة، وهذا الأمل أحيا قوتنا المعنوية بعد أن كانت صريعة اليأس. وستمزّق هذه الحياة حُجُبَ الاستبداد المعنوي العام المستولي على العالم الاسلامي كله مستمدة من فكر الحرية ومفهومها الذى يفور فيه 1 [على رغم أنف أبي اليأس].
الجهة الثانية: مازال الأجانب يذلّون ملّتنا بالحِيَل، ويتذرعون باسباب واهية وحجج تافهة لذلك. أما الآن فما ظل في ايديهم ما يحتجون به من حجة تؤثر في عروق انسانيتهم، أو تهيّج اعصاب تعصبهم أو تحرك أوتارهم الخدّاعة الدساسة، بل لو وجدوا حجةً ما فلا يمكنهم أن يتذرعوا بها؛ اذ من شأن المدنية وخاصيتها: حب الانسانية.
س: هيهات! أين هذا الأمل العظيم الذي تسلّينا به، من تلك الحيّات المرعبة المحيطة بنا الفاغرة أفواهها لتنفث السم في حياتنا وتمزق دولتنا إرباً إرباً، فتحول ذلك الأمل المشرق الى يأس قاتم؟ 2.
ج: لا تخافوا، ان المدنية والفضيلة والحرية قد بدأت تهيمن على العالم الانساني مما اثقلت كفة الميزان، فبالضرورة تتخفف الكفة الأخرى شيئاً فشيئاً، فلو فرضنا محالاً من أنهم مزّقونا وقتلونا - لاسامح الله - اطمئنوا باننا نموت ونحن عشرون الاّ أننا نُبعَث ونحن ثلاثمائة، نافضين غبار الرذائل والاختلافات عن رؤوسنا متّحدين مقدّرين حقيقة مسؤليتنا، نتسلّم الراية لنقود قافلة البشرية. فنحن لا نهاب هذا الموت الذي يُنتج حياةً أشد وأقوى وأبقى. فحتى لو متنا نحن فسيبقى الاسلام حيا سالماً، فلتعش أبداً تلك الملّة المقدسة.
س: كيف نتساوى مع غير المسلمين؟.
ج: المساواة ليست في الفضيلة والشرف، بل هي في الحقوق. فالسلطان الملك والفقير المسكين كلاهما سيّان في الحقوق.. فيا للعجب إن الشريعة التي نهت عن تعذيب نملة وأمرت الاّ تداس عمداً، أتهمل حقوق بني آدم؟ كلا !
ولكن نحن الذين لم نمتثل الشريعة.
_____________________
1 وقد بدأ تمزقها بعد خمس واربعين سنة، ولله الحمد والمنّة. المؤلف.
2 سؤال محير ذو حقيقة. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 399
ألا تكفي لتصحيح خطئكم هذا، محاكمة أمير المؤمنين الامام عليّ رضى الله عنه، مع يهودي فقير، ومرافعة صلاح الدين الأيوبي - وهو مدار فخركم - مع نصراني مسكين 1.
س: إن منح الحرية للروم والأرمن يقلقنا، فتارةً يتجاوزون علينا وأخرى يفتخرون بأن الحرية والمشروطية هما نتيجة سعيهم فيحرموننا فضائلها.
ج: اظن ان تجاوزهم الحدود الآن هو تشفٍّ لغيظ ما توهموا من تجاوزكم عليهم في الماضي... أو هو تصنّع وتظاهر وتهديد تجاه ما يتوقعون واهمين من تعدٍّ منكم عليهم في المستقبل، فإن اطمأنوا واعتقدوا بعدم التعدي عليهم فسيرضخون - بلا شك - للعدالة ويقتنعون بها، وإن لم يقنعوا بالعدالة فالحق يُرغم أُنوفهم بقوته ويسوقهم مضطرين الى الاقتناع.
أما قولهم "نحن الذين حصلنا على المشروطية" فهو كذب بيّن، اذ ما برزت الحرية والمشروطية الى الوجود الاّ بحراب جنودنا وبأقلام مجتمعنا الحامل لروح الأمة، بل كان هدف هؤلاء وامثالهم من الثرثارين المهاذير هو "اللامركزية السياسية" التي هي إبنة عم "الامارة" و "الحكم الذاتي" الاّ أن تسعين بالمئة منهم قد اتّبعونا، وظلّت خمسة من العشرة الباقية يثرثرون، والبقية الباقية باتوا يعذرون ولايرغبون في العدول عن أوهامهم الماضية.
س: كيف تشير الينا بمحبة اليهود والنصارى، مع أن القرآن الكريم ينهى عن ذلك بقوله تعالى
(لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء) (المائدة: 51).
ج: اولاً: كما يلزم أن يكون الدليل قطعي المتن، يلزم كذلك أن يكون قطعي الدلالة،مع أن للتأويل والاحتمال مجالاً، لأن النهي القرآني ليس بعام بل مطلق، والمطلق قد يُقيّد، والزمان مفسّر عظيم، فاذا ما أظهر قيدَه فلا أعتراض عليه.
_____________________
1 بينما كان سعيد القديم يجاهد بحماسة »للحرية« جاعلاً السياسة وسيلة للاسلام بناءً على ما تشعه خاصّية »النور« الساطعة من أمل قوي وسلوان تام أحسّ من قبيل الحسّ المسبق: ان استبداداً مطلقاً رهيباً لا دينياً سيأتي، بناء على مافهمه من معنى حديثٍ شريف، فأخبر به قبل خمسين سنة.
وقد أحس أن ما أخبر به من أنباء مسلية وآمال مشرقة سيكذبه ذلك الاستبداد المطلق فعلياً طوال خمس وعشرين سنة، لذا نبذ السياسة منذ ثلاثين سنة قائلاً: »اعوذ بالله من الشيطان والسياسة« واصبح سعيداً الجديد - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 400
وايضاً، إن كان الحكم قائماً على المشتق، فانه يفيد علّية مأخذ الأشتقاق للحكم. فاذن المنهيّ عنه في هذه الآية الكريمة هو محبتهم من حيث ديانتهم اليهودية والنصرانية.. وايضاً، لا يكون المرء محبوباً لذاته، بل لصفته وصنعته، لذا فكما لا يلزم ان تكون كل صفةٍ من صفات المسلم مسلمة، كذلك لا يلزم أن تكون جميع صفات الكافر وصنعته كافرة ايضاً.
فعلى هذا، لِمَ لا يجوز اقتباس ما استحسنّاه من صفة مسلمة أو صنعة مسلمة فيه؟ فان كانت لك زوجة كتابية، لاشك أنك تحبها.
ثانياً: لقد حدث انقلاب ديني عظيم في العصر النبوي السعيد، وجّه كل الأفكار والأذهان نحو الدين، فارتبطت بالدين جميع الحسّيات والمشاعر، فكانت العداوة والمحبة تدوران حول ذلك المحور "الدين"، لهذا كانت تُشمّ رائحة النفاق من المحبة مع غير المسلم. ولكن الانقلاب الحاضر العجيب في العالم هو انقلاب مدني ودنيوي، فالمدنية والرقيّ الدنيوي يجذبان العقول كلها ويشغلانها ويشدّان بهما جميع الأذهان فضلاً عن أن معظم غير المسلمين ليسوا ملتزمين إلتزاماً جادّاً بدينهم اساساً... فعلى هذا فان محبتنا لهم ماهي الاّ لإقتباس ما استحسناه من مدنيتهم وتقدمهم ولأجل المحافظة على نظام البلاد وأمنها الذي يُعدّ اساس سعادة الدنيا، فهذه الصداقة اذاً لا تدخل قطعاً ضمن النهي القرآني.
س: ان قسماً من افراد "جون تورك" يقولون: لا تخاطبوا النصارى بــ: "يا كافر" استهانةً بهم، فهم أهل كتاب!.. لماذا لا نخاطب الكافر بـ "ايها الكافر"؟!.
ج: مثلما لا تقولون للأعور: أيها الاعور! لئلا يتأذى، فهناك نهيٌ عن آذاهم كما جاء في الحديث الشريف: [من آذى ذمياً... الخ] 1.
وثانياً للكافر معنيان:
فالأول : وهو المتبادر الى الذهن عُرفاً وهو: المُنكِر للخالق سبحانه والملحد الذي لادين له، فهذا المعنى ليس لنا الحق في اطلاقه على أهل الكتاب.
وثانيه: هو المنكِر لرسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم وللاسلام، فهذا المعنى، لنا الحق ان نطلقه
_____________________
1 تمام الحديث: (من آذى ذمياً فأنا خصمه) رواه ابو داود عن عدة ابناء اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . قال في المقاصد: وسنده لابأس به. (راجع كشف الخفاء 2/298).



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 401
عليهم، وهم راضون به كذلك. ولكن لماّ كان المعنى الأول هو الذي يتبادر الى الذهن مباشرة، صارت تلك الكلمة، كلمة تحقير واهانة واذى، زد على ذلك انه لا اضطرار لخلط "دائرة الاعتقاد" بـ "دائرة المعاملات" وربما هذا هو ما يقصده ذلك القسم من "جون ترك".
س: نسمع كثيراً من الأخبار المؤسفة والحوادث السيئة، لاسيما من غير المسلمين. . كأن تزوج احدهم بمسلمة.. وكذا وكذا في مكان، وكيت وكيت في مكان آخر، وحدث ماحدث في مكان... الخ...
ج: نعم، ان وقوع هذه الأمور السيئة الفاسدة وأمثالها أمر هو أقرب مايكون بالضرورة - مع الأسف - في دولة مستجدة وغير مستقرة، وفي أمة جاهلة متخلفة، علماً انه كان هناك أسوأ من هذه السيئات في الماضي، ولكنها كانت خافية عنّا، الاّ أنها ظهرت الآن للعيان. فالداء اذا ماظهر يسهل علاجه. وكذا فالذي لايرى من الامور العظيمة الاّ التقصيرات ينخدع ويخدع الآخرين بالخب الخبيث اذ من شأنه إنبات سيئة واحدة وإثمارها كي تطغى على الحسنات، هذا وان الطور العجيب لهذا الخب، هو أنه يجمع الامور المتفرقة في الزمان والمكان ويوحّدها معاً، وينظر من خلال ذلك الحجاب الاسود الى الأشياء. حقاً إن الخب بأنواعه المختلفة هو ماكنة الغرائب ومصنعها. ألا ترى ان عاشقاً خبّاً كيف يرى الكائنات تتراقص متضاحكة متحابة متجاذبة.. وان والدة حزينة بوفاة طفلها كيف ترى الكائنات نادبة متباكية حزينة؟ فكلٌ يجني ما يشتهيه وما يلائمه. سأورد لكم مثلاً بهذه المناسبة:
تأملوا! اذا دخل احدكم في بستان رائع جميل يشتمل على أنواع الأزاهير والثمرات، لأجل أن يتنزه فيه ويستجمّ ساعة من الزمان. وكانت في بعض جوانب البستان بعض العفونات والنجاسات - حيث أن وجود النقص مع الكمال من مقتضيات هذا العالم وليس المبّرأ من النقص الاّ الجنة - فإنه لايبحث ولا يتحرّى الاّ تلك العفونات ولا يديم النظر الاّ الى تلك النجاسات، لانحراف في مزاجه. وكأن ليس في ذلك البستان الباهر الاّ تلك. ثم يتوسع ويتسنبل ذلك الخيال الفاسد بحكم التوهم والتخيل حتى يحسب ان ذلك البستان الرائع مسلخٌ قذرٌ أو مزبلة وسخة ويأخذه الدوار والغثيان، ويبدأ بالتقيؤ وينكص على عقبيه


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 402
فيا ترى هل ترضى الحكمة والمصلحة بوجههما الصبوح أمثال هذا الخيال المنغّص للذة حياة البشر.
ألا تَرَون: أن مَن أحسَنَ رؤيتَه حَسُنَتْ رويّته وتفكيره، فتحسُنُ رؤياه، ويستمتع بحياته.
س: كيف يجوز تجنيد غير المسلم وانخراطه في سلك الجيش؟.
ج: بأربعة اوجه 1:
اولاً: ما الجندية الاّ للحرب.. فلقد قاتلتم بالأمس دُبّاً ضخماً وعاونكم النساء والغجر والصبيان والكلاب ونصروكم، فهل في ذلك من بأس عليكم أو من عارٍ عليكم؟
ثانياً: كان للنبي صلى الله عليه وسلم معاهدون وحلفاء من مشركي العرب وكانوا يخرجون معاً الى الحرب، بينما هؤلاء أهل كتاب.. ولأنهم يكونون متفرقين في الجيش، لا متجمعين، فان كثرتنا الغالبة، وقوة مشاعرنا، ستحدّان من الضرر الموهوم.
ثالثاً: قد استُخدم في جيش الدول الإسلامية غير المسلمين - ولو نادراً - والجيش الانكشاري 2 شاهد على هذا.
س: كان المسلمون هم الأغنياء وكان اولئك هم الفقراء، الاّ ان الآية انعكست الآن، فما الحكمة؟.
ج: هناك سببان لهذا حسب علمي:
الأول: الفتور في السعي وعدم الرغبة خلافاً لما هو مستفاد من الأمر الربّاني:
(وأن ليس للإنسان الاّ ماسعى) (النجم: 39) وانطفاء جذوة شوق الكسب المستفاد من الأمر النبوي بأن [الكاسب حبيب الله] 3 وذلك نتيجة إيحاءات بعض الرجال وتلقينات قسم من الوعاظ الجاهلين، اولئك الذين لم يدركوا ان اعلاء كلمة
_____________________
1 المذكور هنا ثلاثة اوجه أما الوجه الرابع فهو انحصار العسكرية فينا فقد ادمج في السؤال الذي يلي الجواب. الوجه الرابع اصبح السؤال التالي.
2 وهو تنظيم عسكري وضعه الغازي اورخان ابن عثمان (مؤسس الدولة العثمانية)، خدم الدولة العثمانية كثيراً في البداية، ثم دبّ فيه الفساد واصبح مشكلة عويصة، الى ان نجح السلطان محمود الثاني في إلغائه وتصفيته واقامة »النظام الجديد« بدلاً منه، وهو نظام سعى الى التجديد في الجيش العثماني. المترجم.
3 وفي كشف الخفاء 1 / 157 (افضل الاعمال الكسب الحلال). المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 403
الله في الوقت الحاضر يتوقف على الرقي المادي... ولم يتفهموا قيمة الدنيا [من حيث هي مزرعة الآخرة].. ولم يميّزوا بين متطلبات القرون الوسطى والقرون الأخرى.. ولم يفرقوا بين قناعتين بعيدتين عن بعضهما "القناعة في التحصيل والكسب" وهي المذمومة والقناعة في المحصول والاجرة، وهي الممدوحة.. ولم يتبينوا البون الشاسع بين "التواكل" الذي هو عنوان الكسل و "التوكل" الذي هو صَدَفَة الاخلاص الحقيقي.
فالاول: هو تكاسل في ترتيب المقدمات وهو في حكم التمرد على النظام القائم بين الأسباب التي هي مقتضى مشيئة الله تعالى. والآخر: هو توكل ايماني في ترتُّب النتائج، وهو من مقتضيات الاسلام، والذي يقود صاحبه الى التوفيق حتى في النتائج شريطة عدم التدخل في التقديرات الإلهية.
فالتَبَسَ عليهم كلا الأمرين... ولم يتفرسوا سرّ (أمتّي.. أمتّي) 1 ولا يفهمون حكمة (خير الناس أنفعهم للناس) 2 فهؤلاء هم الذين حطموا ذلك الميل وأطفأوا ذلك الشوق...
والسبب الثاني: هو سلوكنا في المعيشة مسلكاً غير طبيعي، مسلكاً يوافق الكسل ويلائمه، ويداعب الغرور ويربت عليه، وهو المعيشة على الوظيفة الحكومية.. لذا لقينا جزاء ما كسبت أيدينا.
س: كيف؟.
ج: ان الطريق المشروع للمعيشة والسبيل الطبيعي والحيوي اليها هو "الصناعة، الزراعة، التجارة". أما الطريق غير الطبيعي فهو الوظيفة الحكومية والأمارة بأنواعها. وعندي ان الذين جعلوا مدار معيشتهم "الأمارة" - وان تسمّت بأي اسم كان- فهم في زمرة الشحاذين العاجزين المتسولين ومن زمرة المخادعين الحيالين.. وفي نظري ان الذي ينخرط في سلك الوظيفة أو الامارة، فليدخل اليها لأجل الحمية والخدمة
_____________________
1 جزء من حديث الشفاعة الطويل، ذكر الاستاذ المؤلف جزء منه بمعناه. والحديث بطوله أخرجه البخاري برقم 3340 و 3361 و 4712 ومسلم برقم 194 والترمذي برقم 2551 "تحفة" وقال: هذا حديث حسن صحيح، كلهم من حديث ابي هريرة رضي الله عنه باختلاف في السياق.
2 حديث حسن أخرجه القضاعي في مسند الشهاب وابن عساكر في تاريخ دمشق 2 / 420 / 2 وانظر الصحيحة 426 وصحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 6538 .



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 404
للأمة والاّ لو دخلها للمعيشة والمنفعة فحسب، فلا يقوم الاّ بضرب من التسوّل 1، اذ ثبت أن حصر كل الوظائف فينا، أضاع علينا ثرواتنا بتسليمها ليد الاسراف، وان حصر العسكرية فينا شتت ذرارينا في الآفاق. فلو كان الأمر يستمر على هذا المنوال لكنا ضائعين منقرضين. فعلى هذا، فان هذه المسألة، أي أخذهم الى الجندية فيه "مصلحة مرسلة" قرينة من الضرورة، فضلاً عن أننا مضطرون اليه اضطراراً، والمصالح المرسلة في مذهب الامام مالك، تعدّ علّة شرعية.
س: كيف يمكن أن يصير الأرمني والياً أو قائمقاماً، كما يحدث الآن؟
ج: كما صار ساعاتياً وميكانيكياً وكناساً... لأن المشروطية هي حاكمية الأمة، والحكومة ليست الاّ خادمة.
ولئن صدقت المشروطية فالقائمقام والوالي ليسوا رؤساء بل خدام مأجورون، فغير المسلم لا يكون رئيساً مطلقاً، بل يكون خادماً. فلو فرضنا أن الوظيفة والأمارة ضرب من الرئاسة والسيادة، فان اشراكنا ثلاثة آلاف غير مسلم في سيادة رئاستنا يفتح طريقاً الى الرئاسة أمام ثلاثمائة الف من اخواننا المسلمين في اقطار العالم، فالذي يخسر واحداً ويربح الألف لا يتضرر..
س: ألا ترى ان بعض احكام الشريعة لها علاقة بولاية الوالي مثلاً.
ج: ان الذي يمثل الخلافة بعد الآن هو بالضرورة المشيخة الاسلامية ورئاسة الأمور الدينية وستكون ممتازة، ومقدسة سامية، منفصلة رقيبة ناظرة على الكل... فالمستولي الآن ليس شخصاً فرداً، بل الأفكار العامة، لذا هناك حاجة الى شخصية معنوية مثلها، تكون أمينة على الفتوى.
س: كنا نسمع سابقاً والى الآن أن اكثر أفراد "جون تورك" هم من الماسونيين، الذين يعادون الدين.
ج: لقد ألقى الاستبداد هذه التلقينات إبقاءً لنفسه، ومما يسند هذا الوهم ويقوّيه عدم مبالاة بعضهم بالدين..
_____________________
1 لا تستاؤا ولا تسخطوا أيها الموظفون من كلام سعيد القديم هذا الذي قاله قبل خمس وأربعين سنة. المؤلف.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:28 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 405
ولكن اطمأنوا، ان قصد من لم ينضم منهم الى الماسونية، ليس اضرار الدين، بل نفع الأمة وتأمين سلامتها، ولكن البعض منهم يفرطون في الهجوم على التعصب المقيت الذي لايليق بالدين. ويبدو انكم تطلقون على الذين سبق منهم خدمات للحرية والمشروطية أو الذين ارتضوا بهما اسم "جون تورك". فاعلموا ان قسماً من اولئك هم مجاهدو الاسلام، وقسماً منهم فدائيو سلامة الأمة، فالذين يشكلون القسم الأعظم منهم والعقدة الحياتية لهم هم من غير الماسونيين ويمثلون اكثرية الاتحاد والترقي. فهناك علماء ومشايخ في صفوف "جون تورك" بقدر عشائركم.. رغم وجود زمرة من الماسونيين المفسدين السفهاء فيهم، وهم قلّة قليلة لا يتجاوزون عشرة بالمئة منهم، بينما التسعون بالمئة الباقية منهم مسلمون ذوو عقيدة امثالكم ومعلوم ان الحكم للأكثرية... فأحسنوا الظن بهم. إذ إن سوء الظن يضركم ويضرهم معاً حسب قاعدة [ان زين عين الرضا، حسن النظر باللطف والشفقة، وان نور الفؤاد بالرفق والرحمة، ولقد سما على الحق باقدام التوفيق وسعد من اختار الاستضاءة بمصباح (أنا عند ظن عبدي بي)] 1.
س: لِمَ يضرّهم سوء ظنّنا؟.
ج: لأن كثيراً منهم - مثلكم - لم يمحّصوا الاسلام وما عرفوا الاّ ظواهره بالتقليد، والتقليد يتشتت ويتمزق بإلقاء الشبهات والشكوك فانظروا مثلاً: اذا خاطبتم بعضهم: بانكم لادين لكم - وبخاصة من كان منهم سطحياً في الدين ومتوغلاً في الفلسفة المادية - فلربما يتردد ويشك في أمره بوساوس من أن مسلكه خارج عن الاسلام فيشرع بالقيام باعمال وحركات منافية للاسلام، ناشئة من اليأس والعناد ولسانه يردد: ليكن مايكون فلا أبالي..
فيا ايها البعيدون عن الانصاف!.. أرايتم كيف تصبحون سبباً لضلالة بعض المنكوبين؟! علماً ان كثيراً ما يصلح الفاسد اذا كرّر عليه القول: انت صالح، انت فاضل، ويفسد الصالح اذا ما كرر عليه انت فاسد، انت طالح. وهذا أمر مجرّب وقد حدث كثيراً.
س: لماذا؟.
_____________________
1 كرر النظر في هذه الفقرة العربية الأخيرة، ففيها شفرات ولها اشارات. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 406
ج: لأنه لو كان في ضمير البعض سوء، فلا ينبغي ان يُهاجَم، لأن هناك كثيراً من السيئات كلما بقيت مستورة تحت ستار الحسنة ولم يمزق عنها حجابها وتغوفل عنها، انحصرت في نطاق ضيق وربما يسعى صاحبُها لإصلاحها تحت حجاب الحياء. ولكن ما ان يُمزَّق الحجابُ ويُرفع حتى يُرمى بالحياء فيُزال، واذا ما أُظهر معه الهجوم، فالسيئة تتوسع توسعاً هائلاً… ولقد رأيت في حادثة (31 مارت) 1 حالة قريبة من هذا: عندما نادى من كانوا يجودون بارواحهم للاسلام من اصحاب الهمم بالدعوة الى المشروطية، والذين كانوا يعتقدون ان نعمة المشروطية غاية المنى وجوهر الحياة، وجدّوا في تطبيق تفرعاتها وفق الشريعة مرشدين المسؤولين في الدولة وموجهين لهم للتوجه الى القبلة في صلاة العدالة طالبين اعلاء الشريعة المقدسة حقاً بقوة المشروطية، وابقاء المشروطية بقوة الشريعة، محمّلين مخالفة الشريعة السيئات السابقة جميعَها، فما ان نادى هؤلاء بهذا النداء وقاموا بتطبيق بعض الامور الفرعية اذا ببعض مَن لايميّز يمينه عن شماله يبرز أمامهم ويجابهونهم ظناً منهم ان الشريعة تشد أزر الاستبداد - حاشاها - فقلّدوا كالببغاء منادين: "بأنّا نطالب بالشريعة" فاختفى الهدف ولم يعد يُفهم القصد الحقيقي، وانجر الوضع الى مارأيتم. ومعلوم ان الخطط قد مُهّدت وحيكت من قبل. فلما آل الأمر الى هذا هجم بعض من يتقنع كذباً بالحمية على ذلك الاسم السامي، واعترضوا متعدين عليه. فدونكم نقطة سوداء مظلمة جديرة بالاعتبار. [ولقد قعدت الهمة بتلك النقطة ولم تقدر على النهوض. ولقد شوشت طنطنة الاغراض صدى موسيقى الحرية، ولقد تقلصت المشروطية منحصرة اسماً على قليلين، فتفرق عنها حماة ذمارها] 2
_____________________
1 حادثة 31 مارت 1325 (حسب التقويم الرومي)، وهي حادثة تمرد وعصيان عسكري بدأ في معسكر »طاش قشلة« في استانبول، ثم انتشر الى معسكرات اخرى فيها، ثم نزل الجنود المتمردون الى الشوارع، وقتلوا بعض الوزراء والنواب والضباط.
وقعت هذه الحادثة في 13 نيسان 1909 اي بعد اعلان المشروطية الثانية ووصول جمعية الاتحاد والترقي الى موقع مؤثر في الحكم، ولكنها لم تكن قد شددت قبضتها بعدُ، أتهم السلطان عبد الحميد ظلماً باثارة التمرد، واستدعت الجمعية مدداً عسكرياً من مقرها الرئيس في »سلانيك« ومع ان السلطان كان بمقدوره تشتيت هذا المدد العسكري الاّ انه لم يفعل حقناً للدماء. وبعد وصول الجيش الى استانبول اُعلنت الاحكام العرفية وقُضي على التمرد، وشكلت محكمة عسكرية اعدمت الكثيرين، وانتهزت الجمعية هذه الحادثة وقامت بعزل السلطان. المترجم
2 قف أمام هذه الفقرة.. لاتغادرها.. انعم النظر فيها.. ولقد سكت - في تلك الحادثة - الشهام الغيارى والنجباء والكرماء من أولي العزائم والهمم العالية، وكمّمت الصحافة المغرضة صوت الحرية الحقة، فانحصرت المشروطية في قلّة قليلة جداً من الناس وتشتت عنها فدائيوها. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 407
س: لِمَ نتضرر ممن نظن أن لادين لهم؟.
ج: سأمثل لكم صورة تمثيلية على شاشة الخيال تبيّن لكم مضاره. تصوّروا في هذه الصحراء قصراً وسط بستان زاهر، وفي زاوية من القصر هناك حمام للمياه المعدنية -كمستحمكم في وادى "بيت الشباب" 1 - فأنتم مضطرون الى الدخول في ذلك القصر شئتم أم أبيتم بسبب ارتعاشكم من شدة البرد ولكمات الثلج ولطمات الريح. ولكن لأنكم قد سمعتم - أو رأيتم - ان في باب القصر اشخاصاً عمياناً وفي الحوض رجالاً عراةً يستحمون فتتوهمون - من هذا - ان القصر كلّه دار عميان ومنزل عرايا... فلما أردتم الدخول والوهم آخذ بايديكم - تنزعون عنكم لباس الطاعة لتوافقوهم، وتغمضوا عين الحقيقة - التي هي العقيدة - لئلا تنظروا الى عوراتهم، علماً أن عيونهم مفتحة وعوراتهم مستورة، يتشاورون فيما بينهم بتفكر وتأمل في غرفٍ محتشمة ويداوون في بعض الزوايا العميان ويخدمون العرايا لسترهم.
فبالله عليك اذا دخلت عليهم بهذه الصورة الجنونية، وعورتك مكشوفة وعينك معصوبة، فهل تتصور اعظم من هذه الحالة المزرية الداعية الى الاستهزاء والسخرية.
وفي نظري أن من جاء - في الحقيقة - من نسل مسلم، لاتترك فطرتُه ووجدانهُ الاسلامَ البتة، حتى إن تجرد عقلُه وفكرُه عن الاسلام. بل حتى اولئك الذين هم أشدّ سفاهة وبلاهة يوالون الاسلام الذي هو سور حصين لمستندنا. وسيما المطلعين على السياسة. ولم يشهد التأريخ منذ العصر النبوي السعيد الى الآن ان رجّح مسلم ديناً آخر على الاسلام بمحاكمته العقلية، أو دخل ديناً آخر بدليل عقلي. نعم! هناك من يمرق من الدين، فتلك مسألة أخرى.. أما التقليد فلا أهمية له... بينما منتسبو سائر الأديان قد دخلوا ويدخلون حظيرة الاسلام افواجاً أفواجاً بالمحاكمة العقلية والبراهين القاطعة، فاذا ما أريناهم الاسلام الصادق المستقيم، والصدق والاستقامة اللائقين بالاسلام، فسوف يدخلون في الاسلام أفواجاً. وكذلك يشهد التأريخ وينبئنا ان رقي المسلمين وتمدنهم يكمن في اتباعهم حقيقة الاسلام ويتناسب معه، في حين رقي الآخرين وتمدنهم يتناسب تناسباً عكسياً مع تمسكهم بدينهم.. وكذا تشهد لنا الحقيقة ان الانسان المنتبه لايمكن أن يكون هملاً بدون دين البتة، ولاسيما المتيقظ
_____________________
1 منطقة في جنوب شرقي تركيا تعد مركز عشائر الارتوشي الكردية. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 408
الذي ذاق طعم الانسانية وعرف ماهية ذاته وأنه مهيأ ومرسل الى الخلود، فلايمكن لهذا أن يعيش دون دين مطلقاً، لأن المتنبه إن لم يتمسك بالدين الحق الذي هو جوهر الحقيقة، لايمكنه أن يقف دون "نقطة استناد" أمام هجوم الكائنات عليه ودون "نقطة استمداد" لاستثمار آماله غير المحدودة.. ومن هذا السر فقد انتبه الآن في الجميع ميلُ البحث والتحري عن الدين الحق. فثبت من براعة الاستهلال هذا بأن الاسلام هو الدين الفطري للبشرية في المستقبل.
أيا من لاينصفون! كيف ضاقت في نظركم حقيقةُ الاسلام التي لها القدرة على أن تعم العالم أجمع وتوحّده وتربّيه وتضيئَه نوراً. فرُحتم تحصرون الاسلام في الفقراء وفي المتعصبين من العلماء، وتريدون ان تطردوا نصف أهله منه، كيف تجرأتم على ذلك الاسلام العظيم الذي هو القصر النوراني الجامع لكمالات الانسانية كلها وهو المربي المزكّي لأحاسيس البشرية النبيلة ومشاعرها الراقية كلها، فتخيلتموه خيمة المآتم السوداء مضروبة على حشد من الفقراء والبدو الجائعين.
نعم! ان المرء بحسب ما تريه مرآتُه. فمرآتُكم السوداء الكاذبة اذاً قد مثّلت لكم الأمر هكذا.
س: انت تغالي وتفرط، اِذ تُظهر الخيال عينَ الحقيقة وتُهيننا بظنك اننا جهلاء، فنحن في عصر آخر الزمان 1 والفساد يستشري وسينقلب من سئ الى أسوأ.
ج: لماذا تكون الدنيا ميدان تقدمٍ وترقٍ للجميع، وتكون لنا وحدنا ميدان تأخر وتدنٍ.. فهل الأمر هكذا؟! فها أنذا آليتُ على نفسي ألاّ أخاطبكم، فأدير اليكم ظهري وأتوجه بالخطاب الى القادمين في المستقبل: أيا مَن اختفى خلف عصر شاهق لما بعد ثلاثمائة سنة، يستمع الى كلمات النور بصمت وسكون. وتلمحنا بنظر خفي غيبي.. أيا من تتسمّون بـ "سعيد وحمزة ، وعمر وعثمان وطاهر، ويوسف وأحمد وامثالهم" انني أتوجه بالخطاب اليكم: ارفعوا هاماتكم وقولوا: "لقد صدقت" وليكن هذا التصديق دَيْناً في اعناقكم. ان معاصري هؤلاء وان كانوا لايعيرون سمعاً
_____________________
1 ربما جاء هذا الاعتراض من وليّ عظيم كان حاضراً في ذلك الوقت فاعترض على ما أحسّه سعيد القديم - قبل خمس وأربعين سنة - »بحسّ مسبق« من أن ميدان رسائل النور الضيق هو واسع جداً وهو سياسي ايضاً. لذا صدرت أغلب أجوبته في هذه الرسالة في ضوء ذلك الاحساس. فلربما أبدى ذلك الولي العظيم اعتراضه على هذه النقطة فقط - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 409
لأقوالي، لندعهم وشأنهم. انني أتكلم معكم عبر أمواج الاثير الممتدة من الوديان السحيقة للماضي - المسمّى بالتأريخ - الى ذرى مستقبلكم الرفيع.. ماحيلتي لقد استعجلتُ وشاءت الاقدارُ أن آتي الى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم ستأتون اليها في ربيع زاهر كالجنة، ان ما يُزرع الآن ويُستنبت من بذور النور ستتفتح أزاهير يانعة في أرضكم.. نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا، أنكم اذا جئتم لتعبروا الى سفوح الماضي، عوجوا الى قبورنا، واغرسوا بعض هدايا ذلك الربيع على قمة "القلعة" 1 التي هي بمثابة شاهد قبر مدرستي، والمستضيفة لرفاتنا وعظامنا والحارسة لتراب "خورخور" 2 سنوصي الحارس ونذكّره... نادونا... ستسمعون صدى "هنيئاً لكم" ينطلق من قبورنا [ولو من الشاهد على طيف الضيف].
ان عيون هؤلاء الذين يرتضعون معنا ثدي هذا الزمان في قفاهم تنظر الى الماضي دوماً، وتصوراتُهم شبيهة بهم معزولة وبلا حقيقة، هؤلاء الصبيان وان كانوا ينظرون الى حقائق هذا الكتاب 3 ويتوهمونها خيالاً.. فلا أبالي، لأنني على ثقة من أن مسائل هذا الكتاب ستتحقق فيكم واضحة.
أيا من أخاطبكم، ألا معذرةً، اني اصرخ عالياً، وأنا معتلٍ منارة العصر الثالث عشر الهجري، ادعو اولئك المدنيين المتحضرين صورةً وشكلاً والمتهاونين في الدين حقيقة، والذين يجولون في أودية الماضي السحيق فكراً.. ادعوهم الى الجامع.. فيا ايتها القبور المتحركة برجلين اثنتين، ايتها الجنائز الشاخصة! ويا أيها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما.. وهو الاسلام، انصرفوا من أمام باب الجيل المقبل، لا تقفوا امامه حجر عثرة، فالقبور تنتظركم.. تنحّوا عن الطريق ليأتي الجيل الجديد الذي سيرفع أعلام الحقائق الاسلامية عالياً ويهزها خفاقة تتماوج على وجوه الكون.
س: ان أسلافنا كانوا أفضل منا أو مثلنا، فهل يكون احفادنا أفسد منّا؟
ج: ايها الأتراك والأكراد، لو أنني أقمت اجتماعاً عظيماً، ودعوت أجدادكم من قبل ألف سنة وكذا اولادكم من بعد عصرين.. دعوتهم جميعاً الى المجلس الصاخب لهذا العصر، ألا يقول اجدادكم الذين اصطفوا يميناً:
_____________________
1 المقصود قلعة مدينة "وان" التي هي بمثابة شاهد قبر للمدرسة الدارسة (خورخور) والتي تمثل نموذجاً لمدرسة الزهراء في وان - المؤلف.
2 اسم نبع صغير اسفل قلعة »وان« وعنده مدرسة المؤلف. المترجم.
3 انه ينبئ بحس مسبق عن كليات رسائل النور التي ستؤلف في المستقبل - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 410
أيها الاولاد التافهون والخلف المتبذّرون، أأنتم زبدة حياتنا ونتيجتها؟ هيهات.. لقد جعلتمونا أسوةً عقيمة وتركتمونا عاقرين..!!. وكذا، أفلا يقول اولادكم الذين اصطفوا يساراً والمقبلون من مدنية المستقبل، مصدقين اجدادكم المصطفين يميناً:
أيها الآباء الكسالى!.. أ أنتم تمثلون حياتنا كلها دقّها وجلّها، أمَ أنتم رمزها والحد الأوسط لرابطتنا مع اولئك الاجداد الأشاوس؟ هيهات لَكَمْ اصبحتم انتم أنموذجاً تافهاً وعيّنة لا حقيقة لها وقياساً ذا إلتباس واختلاط. 1
فيا أيها البدو الرحل ويا أدعياء الانقلاب 2.
لقد رأيتم على لوحة الخيال 3 أن الطرفين معاً قد أقاما الحجة عليكم في هذا الاجتماع.
س: نحن لانستحق هذا القدر من الاهانة والتحقير. نقطع على أنفسنا عهداً على اننا لانتقاعس عن التمسك بالأَخلاف ولانتشبث بأذيال الأسلاف [ففتحنا السمع لكلامك فمرحباً به].
ج: يمكنكم الآن أن تعودوا الى وظيفتكم في طرح الاسئلة لأنكم أظهرتم الندامة.
س: هل بحث علماء السلف عن مساوئ الاستبداد؟ 4.
ج: نعم، وألف مرة نعم. ان أغلب الشعراء في قصائدهم وكثيراً من المؤلفين في ديباجات كتبهم، شكوا من الزمان واعترضوا على الدهر وهجموا على الفَلَك 5 وداسوا الدنيا بالاقدام وسحقوها...
فاذا استمعتم اليهم بأذن القلب ونظرتم اليهم بعين العقل لرأيتم أن سهام الاعتراضات جميعها لاتستهدف ولاتصيب الاّ صدر الاستبداد الذي تلففَ وتزمّلَ بستار الماضي المظلم. ولسمعتم الصراخات والآهات جميعها انما تصدر من تحت مخالب الاستبداد، ومع ان الاستبداد لم يكن يُرى، ولم يكن يُعلَم اسمه ومعناه، الاّ
_____________________
1 من عبارات علم المنطق. وقد قالها لحضور مجلس طلابه الذين تلقوا في وقتها درساً في المنطق - المؤلف.
2 أضيف مؤخراً - المؤلف.
3 فالخيال بدوره مثل المشاهد السينمائية - المؤلف.
4 ان ذلك الدرس الذي القي قبل اربعين سنة لهو درس ضروري في الوقت الحاضر كذلك، اذ ان هذه المحاورة الدائرة بين السؤال والجواب قادرة على مواكبة الحياة وتعيش حية في كل وقت وهي نابضة بالحياة الآن - المؤلف.
5 الفلك: يعني الدهر، ايام الحياة، الحياة المقدّرة على الانسان - المترجم.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 411
أن أرواح الجميع كانت تتسمّم بمعناه، وتتألم به، وتعلم أن هناك أحداً ينفث السم. حتى ان بعض الدهاة كلما كان يتنفس كان يصرخ صراخاً من الاعماق، الاّ أن العقل ماكان ليدرك ماهيته جيداً، اذ كان مُنبثاً في الظلمات غير متجمع على حال. لذا عندما ظنوا البلايا - المحال ازالتُها - مصائب سماوية، بدأوا بشن الهجوم على الزمان وصنع الدهر وصوّبوا سهاماً نحو صدر الفَلَك، اذ من القواعد المقررة انه: اذا خرج أمرٌ من دائرة الجزء الأختياري، ومن الجزئية ودخل الدائرة الكلية العمومية، أو كان دفعه محالاً بحسب العادة يُسند الى الزمان، ويُلقى اللوم على الدهر، وترمى قبة الفلك بالحجارة، واذا أنعمت النظر جيداً لرأيت ان الاحجار الآيبة تنقلب يأساً وتتحجر في القلب [انظر كيف أطالوا فيما لايلزم وكلما اضاءت لهم السعادة أثنوا على مَن سادهم، وكلما أظلم عليهم شتموا الزمان 1].
س: أما تكون الشكوى من الزمان والاعتراض على الدهر اعتراضاً على بدايع صنعة الصانع جلّ جلاله؟
ج: كلا، ثم كلا، بل ربما تعني الشكوى ما يأتي:
كأن الشاكي يقول: ان ماهية العالم المنظمة بدستور الحكمة الأزلية غير مستعدة لانجاز الأمر الذي أطلبه، والشئ الذي أبغيه، والحالة التي اشتهيها، ولايسمح به قانون الفلك المنقش بيد العناية الأزلية، ولاتوافقه طبيعة الزمان المطبوعة بمطبعة المشيئة الأزلية، ولا تأذن له الحكمة الإلهية المؤسّسِة للمصالح العامة.. لذا لا يقطف عالمُ الممكنات من يد القدرة الإلهية تلك الثمرات التي نطلبها بهندسة عقولنا وتَشَهّي هوانا وميولنا. وحتى لو أعطتها لَماَ تمكن من قبضها والاحتفاظ بها، ولو سقطتْ لَمَا تمكّن من حملها. نعم لا يمكن أن تسكن دائرة عظيمة عن حركاتها المهمة لاجل هوى شخص...
س: ما تقول في كثير من الشعراء والعلماء الذين أفرطوا - في زمانهم - في الثناء على الامراء والحكام؟ مع انك تنظر الى كثير منهم نظرك الى مستبدين؟ فاذاً قد أساءوا العمل.
_____________________
1 تمهل، لاتغادر هذه الفقرة، ادركها جيداً. وهي تعني: انهم يمنحون الحسنات الى الرؤساء ويلصقون السيئات بالزمان، فيبدون شكواهم بالشتم - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 412
ج: [ولولا خلال سنّة الشعر مادرى بُناة المعالي كيف تُبنى المكارم]
كانت نواياهم حسب هذه القاعدة هي حض الأمراء - بحيلة لطيفة - على الترفع عن السيئات، وجعلهم يتسابقون في مضمار الحسنات بادخال المكافأة الشعرية موضع التسابق في الأوساط، ولكن لما كانت تلك المكافأة الشعرية قد سُلِبتْ من عرق جبين أمة عظيمة فقد تصرفوا تصرفاً مستبداً، أي انهم قد أساءوا في العمل وان أحسنوا في النيّة.
س: لِمَ ؟.
ج: أفلا ترون ان محصل كلامهم في قصائدهم وبعض مؤلفاتهم إنما هو غصبٌ ضمني لمحاسن قوم عظيم وإغارة عليها، ثم اهداء تلك المحاسن الى شخص مستبد. فباظهارهم أن تلك المحاسن صادرة منه، أثنوا على الاستبداد - من هذه الزاوية - دون أن يشعروا.
س: نحن معاشر الاتراك والاكراد لنا من الشجاعة ما يملأ قلوبنا، بل ملء أجسادنا.. بل انبسطت حتى تجلّت بين هذه الوديان جبالاً محصنة لنا، ولنا من الذكاء ما يملأ رؤوسنا، ولنا من الغيرة ما يملأ صدرونا، ولنا من الطاعة ما يملأ أبداننا وجوارحنا، فأفرادنا يملأون الأودية حياةً وتتزين بهم الجبال 1 فما بالنا بقينا هكذا سافلين مفلسين أذلاء، حتى صرنا لقىً على الطريق يدوسنا الممتطون للرقي والسارعون المجدون للمستقبل، مع ان الامم المجاورة، وان كانوا أقلّ منا عدداً وأقصر منا قوة، الاّ انهم يتطاولون علينا [ان ركسهم يغلب طاهرنا] 2 .
ج: أما حينما انفتح بالمشروطية باب للتوبة وتاب الكثيرون، فليس لي حق في توبيخ الرؤساء وتعنيفهم، الاّ انني ألقم السابقين وأعنيهم، فان انجرح شعور البعض واحترامه فليعذرني، إذ احترام الحق وعدم جرحه أولى، فاحترام شعور الملّة أعلى وأغلى شأناً منهم. اعلموا أن سبباً مهماً لذلك التدني هو بعض الرؤساء والخدّاعون المتظاهرون بالحميّة ممن يدّعون الفداء والتضحية للأمة، أو قسم من المتشيخين المدّعين غير المؤهلين للولاية.
_____________________
1 اذاً لم تفتر قوتهم المعنوية - المؤلف.
2 اذا أردت فأنعم النظر، فان العبارة تشير الى »وارتكس« »عضو المبعوثان« من الأرمن والسيد »ملا طاهر« النائب عن »حكاري« في ذلك الوقت - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 413
فهذه السنّة السيئة المخالفة للسنة النبوية السنيّة هي الأخرى من سيئات الاستبداد.
س: كيف ؟
ج: ان لكل أمة من الأمم حوضاً معنوياً يشكل جسارة الأمة، ويصون عرضها، وتجتمع فيه قوتها. ولها كذلك خزينة معنوية تشكل سخاء الأمة، وتضمن منافعها العامة. وتخزن فيها ما فضل من الأموال. فالقسمان المذكوران من الرؤساء - بعلم أو بدون علم - فد فتحوا ثغرات وثقوباً في جوانب ذلك الحوض وتلك الخزينة. وسحبوا موارد البقاء وأَسالوا مادة الحياة، فجففوا الحوض وأفرغوا الخزينة، فاذا استمر الأمر على هذا المنوال فستنهار الدولة تحت غَلَبة الديون البالغة المليارات، فكما أن الرجل اذا فقد كلاً من قواه الغضبية - الدافعة - وقواه الشهوية - الجاذبة - يصبح ميتاً وان كان حياً يرزق.. وكما أن القطار اذا ثقب خزانه البخارى بثقوب يتعطل عن الحركة.. وكما ان المسبحة اذا انقطع خيطها تتبعثر حباتها.. كذلك الأمر في الأمة - التي هي شخصية معنوية - فان الرؤساء الذين يجففون حوضَ قوتِها ويفرغون خزينة ثروتها ويقطعون حبل فكرها الملّي، يفتتّونها قطعاً وأوصالاً، ويجعلونها سائبة ذليلة دون كيان، عديم الوجود... نعم، [حقيقت كتم نمى كنم براى دل عامى جند]، فلا اجرح شعور الحقيقة لأجل فئة من العوام.
س: ان هذا المقام أجدر بالتفصيل، فلا تدعه مجملاً ومبهماً؟
ج: ان العهد السابق قد انتهز بداوتكم وجهلكم، وحاك خططاً، فاستغلها قسم من الكبراء باسلوب خبيث مستخدمين القوة والارغام، فثقبوا ذلك الكنز وذلك النبع، وأسالوا زلال الحياة في صحراء قاحلة وأرض سبخة، فما نبتَ ولا اخضرّ الاّ كسالى وانتهازيين، حتى كانوا يستغلون الضعف البشري والعواطف الحساسة لدى اولئك المساكين الذين مدّوا ايديهم الى صيد صغير، بتنفيرهم من ثروة الدنيا لترتخي اظفارهم عن الصيد... فيفلت منهم ، ليخطفوه هم بمخالبهم لأنفسهم.
نعم ان لكل امة سخاءً وكرماً وهو بذل مقدار من ثروتها لمصلحة الامة ومنفعتها، بيد أنه اُستغل سخاء الأمة فينا استغلالاً سيئاً بخلاف سخاء الأمم الأخرى الذي يتخزن في جوفها حوضاً واسعاً ليسقي بستان العلوم والمعارف، وكذا من طبيعة كل امة جسارةً، لأجل المحافظة على شرف الامة وصيانة عرضها.


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 414
وقد أساء بعض الكبراء في العهد السابق استعمال هذه الجسارة فألقوها في صحراء الاختلاف وأضاعوها وأخذ كلٌّ يضرب عنق الآخر بغمدٍ من تلك القوة وغلاف منها، حتى كسروه... وهكذا انكسرت... حتى أنهم صرفوا - فيما بينهم - تلك القوة العظيمة المركبة من خمسمائة ألف من الأبطال المستعدين للحفاظ على شرف الامة فأبادوها في أرض الأختلافات جاعلين أنفسهم مستحقين للتأديب والتأنيب. فان استفدتم من "المشروطية" و"الحرية الشرعية" وسددتم تلك الثغرات أو جعلتموها مسايل اليه كالحوض، وأعطيتم تلك القوة الرائعة بيد الدولة لصرفها في الخارج فستحصلون ثمنها رحمةً، وعدالة ومدنية.
فان شئتم نتبادل فيما بيننا اسلوب الحوار، فأنا أسألكم وأجيبوا انتم.
ج: [فاسأل ولا تجد به خبيراً].
س: هل يمكن ان تكون أمة الارمن اشجع منكم؟ 1.
ج: كلا، ثم كلا، لم تكن ولن تكون..
س: فلماذا اذن لايبوح فدائيهم بأسراره ولايفشي عن أخيه شيئاً ولو قطّع إرباً إرباً وأحرق حرقاً، بينما لو طُعن شجاع منكم يفرش اسراره جميعاً مع دمه المهراق... فما سبب هذا التفاوت العظيم في الشجاعة؟...
ج: نحن لانعرف كنه ماهيته، ولكننا نعلم ان ثمة شيئاً يصيّر الذرة جبلاً ويخضع الأسد للثعلب، فذلك وظيفتك - في الاجابة - نحن لانطيق حملها، فقد عرفنا وجود ذلك الشئ فعليك بشرح ماهيتنا.
ج: فاستمعوا اذاً، وافتحوا آذانكم جميعاً، فان همة أرمني متيقظ بالفكر الملّي، هي مجموع أمته، وكأن أمته قد صغرت واصبحت نفسَه أو استقرت في قلبه، فمهما كانت روحه عزيزة وغالية عنده الاّ أن أمته أعظم عنده وأعزّ. وحتى لو كان له ألف روح لضحّى به مفتخراً لما يحمل من فكر سامٍ -بالنسبة اليه - علماً أن أقصى ما كان يتصوره اشجعكم في السابق - ولا أقصد الحاليين - الذي لم يك متيقظاً ولا داخلاً في النور، ولاعالماً بشرف الملّة الاسلامية، هو مجرد شرف نفسه أو نفعها، أو شرف
_____________________
1 ان الأتراك والأكراد لكونهم علماء عظاماً في فن الشجاعة، اصبحوا هم المجيبين وأنا السائل - المؤلف.


عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:29 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 415
عشيرته أو رئيسها، فاذن ينظر بنظر قصير ويفكر بتفكير قاصر. فلا جرم قليلٌ مَن يُفدي روحه العزيزة لمثل هذه المقاصد الصغيرة..
فلو تصورتم وفكّرتم بالملّية الاسلامية 1 مثل ما ينظرون بملّيتهم الى الأمور. لأعلنتم على رؤوس الأشهاد في العالم شجاعتكم وبسالتكم ولسموتم الى العلا، ولو تصور الأرمن وفكّروا مثلكم تفكيراً سطحياً وقاصراً لكانوا لقىً أذلاء.
حقاً، إن لكم استعداداً لشجاعة لاتجارى ولبسالة لاتمارى، بدليل أن أحدكم يستخف حياته ويفدي روحه رخيصة لصغائر الامور -كمنفعة بسيطة او عزة جزئية أو شرف رمزي اعتباري أو ليقال أنه جَسور أو لأستعظام شرف رئيسه. فكيف اذا تنبّه هؤلاء.. ألا يستخفّون بحياتهم فداءً للملّة الاسلامية - التي لاتقدّر بثمن - ولو كانوا مالكين لألف روح اذ تكسبهم أخوةُ ثلاثمائة مليون مسلم ومساندتهم وعونهم المعنوى، فلا غرو أن الذي يضحّي بحياته لعشرة قروش، يضحّي بها بشوق مضاعف لعشر ليرات.
فوا أسفى! انه مثلما انتقلت محاسننا الى غير المسلمين فسجايانا الحميدة هم الذين سرقوها كذلك، وكأن قسماً من اخلاقنا الاجتماعية السامية لم يجد رواجاً عندنا، فنَفَر منا والتجأ اليهم، وان قسماً من رذائلهم لم يلق رواجاً عندهم فجُلب الى سوق جهالتنا.
ألا ترون - بحَيرة شديدة - أن غير المسلمين قد سرقوا الكلمة البيضاء والخصلة الحمراء كأمثال:- "ان مُتّ أنا فلتسلم دولتي ولتحيا أمتي واحبّتي" التي هي أس أساس الكمال والرقي والتقدم الحاضر، بل هي مقتضى الدين المبين، ذلك لأن فدائييهم يقول "ان متّ فلتحيا أمتي، انّ لي فيها حياة معنوية..." علماً أن الكلمة الحمقاء والسجية العوراء التي هي أساس الذلّ والأنانية هي التي تقودنا وقد شلّت همتنا وهي التي تتمثل بالعبارة الآتية [اذا متّ ظمآناً فلا نزل القطر..]...
وهكذا فان أفضل خصالنا ومقتضى ديننا هو أن نقول، بروحنا وجسدنا ووجداننا وفكرنا وبكل قوانا: "إن متنا، فأمتنا الاسلامية حية، وهي باقية خالدة فلتحيا أمتي ولتسلم، وحسبي الثواب الأخروي فان حياتي المعنوية التي في حياة
_____________________
1 ان ملّيتنا وجود مستقل بذاته، روحها الاسلام وعقلها القرآن والايمان - المؤلف.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 416
الأمة تحييني وتعيّشني، وتجعلني في نشوة ولذة في العالم العلوي، فينبغي أن نجعل الدساتير النورانية للنور والحميّة لنا دستوراً مردّدين: [والموت يوم نوروزنا].
س: كيف نجمع قوتنا ونحافظ على شرف الملّة الاسلامية؟ 1.
ج: احفروا بالفكر الملّي في جوف الأمة حوضاً للمعرفة والمحبّة - كحوض الكوثر - وسدّوا بالمعارف والعلوم ثغرات تحتها يسيل منها الماء، وافتحوا بالفضيلة الاسلامية المسايل التي تصب الماء فيه. هناك نبع كبير ضائع أسئ استعماله الى يومنا هذا فجرى في الأرض السبخة الرملية فما أدّى الاّ الى ترعرع متسولين عجزة.. فشيّدوا مجرىً جميلاً له وصُبوا الماء بالمساعي الشرعية الى ذلك الحوض ثم اسقوا بستان كمالاتكم به، فهذا نبعٌ لاينضب ولاينفد ابداً.
س: ما ذلك النبع؟.
ج: الزكاة، فانتم أحناف وشوافع.
س: [حبذا ونعمت ان لم تذهب غائضه، بل فاضت الى تلك الخزينة] 2 .
ج: [أجل أن فيكم ذكاوة انما تتزاهر بالزكاة].
س: كيف؟.
ج: لو أعطى الأذكياء زكاة ذكائهم، وصرف الأغنياء ولو زكاة زكاتهم لمنفعة الأمة، لتسابقت امتنا مع الأمم الأخرى.
س: ثم ماذا؟
ج: ان ما يعين ذلك النبع هو الإعانة الملّية الاسلامية، وهي الصدقات والنذور التي هي ابناء عمومة الزكاة تنبض بعرقها، وتعين في الخدمات.
س: لِمَ تسخَر كثيراً من عاداتنا المستمرة وتزيفها؟ 3 .
_____________________
1 لقد ورد الى القلب أنه: يمكن أن تكون هذه الدروس التي ألقيت قبل خمس واربعين سنة على العشائر البدو دروساً الآن لطلاب النور الحاليين أيضاً - المؤلف.
2 لا تمتعض ان هذا الكلام قد لبس لبوس الزكاة - المؤلف.
3 تجد كأن بعض الاسئلة دخيلة في الموضوع وكأن ودياناً تفصل بينها ولكن اذا ركب الخيال منطاداً وأخذ بيده منظاراً مكبراًَ فلربما يجد مواطنها - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 417
ج: لأن لكل زمان حكماً، وهذا الزمان يحكم على عادات هرمة بالموت والنسخ، لأن مضارها قد ترجّحت على منافعها، وهذا الترجيح يفتي بأعدامها والقضاء عليها.
س: ما أول ما يلزمنا؟.
ج: الصدق.
س: ثم ؟
ج: عدم الكذب.
س: ثم ؟
ج : الصدق والاخلاص والوفاء، والثبات، والتساند.
س: فقط ؟
ج: أجل.
س: ولِمَ ؟
ج : ان ماهية الكفر الكذب، وماهية الايمان الصدق، أليس هذا البرهان كافياً: أن بقاء حياتنا مرهونة بدوام الايمان والصدق والتساند.
س: ألا يلزم اولاً اصلاح رؤسائنا؟.
ج: نعم، كما أن الرؤساء قد أخذوا أموالكم وحجزوها في جيوبهم، فقد أخذوا عقولكم أيضاً أو حجزوها في أدمغتكم. لذا فأنا الآن اخاطب عقولكم الموجودة لديهم:
فيا ايتها الرؤوس والرؤساء، ايّاكم والتواكل الذي هو عين التكاسل، ولاتسوّفوا في الأعمال فيحولها بعضكم الى بعض، اخدمونا بأموالنا التي في ايديكم وبما تملكون من عقول. فقد أخذتم اجرتكم باستخدامكم هؤلاء المساكين... فهذا أوان الخدمة والعمل [فعليكم بالتدارك لما ضيّعتم في الصيف]. 1
س: يبدو منذ سنين أنه قد تنبهت الرغبة في التدين وتيقّظ الشعور الديني والنزوع الى الحق، حتى تاب أشقياء "كه وه دان ومامه خوران" توبةً نصوحاً
_____________________
1 "في الصيف ضيّعتِ اللبن" مثل يضرب لمن يطلب شيئاً قد فوّته على نفسه. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 418
بنصيحة من السيخ أحمد واصبحوا مريدين صوفيين [وقد قطع الطريق على الشقاوة هذا الميلان].
ج: ما أرشدهم الاّ المشروطية الرشيدة والشيخ رسائل النور 1 لأنه لما ارتقت المشروطية الشرعية عرش الأفكار، هزّت الحبل المتين للملّية، فاهتز بدوره الاسلام - وهو العروة الوثقى - وعرف كل مسلم أنه ليس هملاً سائباً، بل مرتبط بالآخرين بالمنفعة المشتركة والحسّ المجرد، فالمسلمون جميعاً مرتبطون كالعشيرة الواحدة. اذ كما ان الحسنة التي تصدر من فرد من العشيرة يفتخر بها الكل، ويشتركون معه، فلا ينحصر ذلك الشرف على الفرد نفسه، بل يصبح ألوفاً -كالشمعة التي تظهر لها آلاف الصور في آلاف المرايا- فيمدّ الرابطة الحياتية لتلك العشيرة بالنور والقوة. كذلك الأمر اذا ارتكب احدهم جناية فان أفراد العشيرة كلهم يعدّون متهمين معه الى حدّ ما. فمثلاً: اذا ارتبط أفراد هذا المجلس برباط، والقى أحدهم نفسه في الطين، فاما أن يوقع اصدقاءه في الطين أو يضجرهم بكثرة الحركة، وبناء على هذا فان السيئة الواحدة تتصاعد الى الألف والحسنة المنفردة تصير
(كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبّة) (البقرة: 261).
فهذا السر الذي يقود الى التوبة أجهش المتيقظين فكراً أو روحاً بالبكاء، ولكن العقل الذي هو في قمة المنارة لايرى جيداً سببه الذي هو في قعر بئر الوجدان.
الحاصل: ان المسلمين تنبهوا ويتنبهون 2 وبدأوا يرون الشر شراً والخير خيراً.. فهذا هو السرّ الذي جعل عشائر هذه البوادي والوديان يتوبون الى الله توبة نصوحاً والمسلمون كلهم بدورهم يستعدّون لكسب هذا السرّ شيئاً فشيئاً.
الاّ انكم أقرب الى الملّية الاسلامية لأنكم بدو لم تفسد بعدُ فطرتكم الأصلية.
س: مع علمك بأن اكرام الضيف عادة مستحسنة عندنا، فَلِمَ لاتنزل ضيفاً على أحدنا وتحجم عنا، فعاداتنا هذه قديمة وأصيلة فلِمَ تستحف بهذه العادات وتمنع طلابك من تناول طعامنا وقبول هدايانا، مع أنه واجبٌ علينا خدمتكم والاحسان اليكم، وهو من حقكم علينا.
_____________________
1 لما كان طلاب النور قد دخلوا ضمن مامه خوران، فيجب اطلاق شيخ رسائل النور - بدلاً عن الشيخ المشروطية - لانهم ستار الاحرار والحمية الاسلامية والملّية وهم لامحالة ضمن دائرة الاتحاد المحمدي - المؤلف.
2 نعم قد استقلت بعد خمس واربعين سنة كلٌ من عشائر البلدان العربية وباكستان، فهم يصدقون سعيداً القديم في درسه هذا، وسيصدقونه في المستقبل - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 419
ج:
اولاً: العلم عزيز، لاأريد أن أذلّه.. وأريد أن أريكم أن من أهل العلم من لايتنزل للدنيا، ولايجعل صنعة العلم وسيلة العيش، وأن الطلاب ليسوا متسولين ولا شحاذين.
ثانياً: اريد ان انصح فعلاً بعض الموظفين الذين يظهرون الاهمال والكسل في وظيفتهم ولا يقنعون بمرتّباتهم فلا تمسك تلك المرتبات ايديهم عن اكرام الضيوف.
ثالثاً: بعض الرؤساء الذين انقطعت مجاري وارداتهم الظالمة يزلّون الى ظلمات الظلم بفتحهم ابواب مصاريف واسعة جداً، فأريد أن أبيّن لهم طريقاً لسد تلك الأبواب.
رابعاً: أريد أن أريكم مقياساً تقيسون به من يسيح فيما بينكم ويجول، أهُم يقومون بهذا العمل لأجل الملّة أم لهوى أنفسهم؟ فأبيّن بذلك محكّاً بين الحيلة والحمية.
س: تصبح بهذا مانعاً لإحسان الناس، ألا ينتج هذا استخفافاً بسخاوتهم؟
ج: الإحسان انما يكون إحساناً حقاً إن كان للنوع او للمحتاج أو الفقير، وعنده يكون السخاء سخاءً حقاً، واذا كان السخاء لأجل الأمة، أو للفرد الذي يتضمن الأمة، فهو سخاء جميل، ولكن ان كان لغير المحتاج يعوّده الكسل والتسوّل.
والخلاصة: ان الأمة باقية، بينما الفرد فانٍ.
س: [ما تقول في الاحسانات الشخصية في السلف، أمناء الأمة، ورشدائها، وسيوف الدولة وصلاحها... تجلت العبوسية بمكارمها باهداء عشرة دنانير لشعرٍ لايوزن شعيرة].
ج: 1 [فيه مافيه... مع انها بالنهاية قد انجرّت الى النوع والملّة، لأن اللسان الذي خَدَمه الشعرُ خيط الملّية، مع أن هذا الزمان هو الذي كشف عن احتياج الملّية وفتح الباب لهذا المقصد العالي].
س: ان الرؤساء المتغلبون، قد تهاووا، وأوصد باب الظلم دونهم، دع الساقطين وشأنهم، واترك الذين يعانون السكرات، يتمّوا سكراتهم...
_____________________
1 هذه العبارة نابعة من مصنع الموضوع ولابسة ما اهدي اليه من الأسلوب المحلّي - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 420
ج: انني أريد ان أحفّظَكم سنّة الحرية الشرعية حتى يمتثلوها ماداموا على قيد الحياة. نعم، لقد تساقط الرؤساء الذين تربَّوا بقوة الاستبداد وحدها، وهم يستحقونه، الاّ أن فيهم حماة.
[نعم أن بينهم حماة للمليّة، فنشكرهم.. ومتكاسلين، فنشكوَهم.. ومتحيرين، فنرشدهم.. وأمواتاً فنحافظ على ميراثهم لئلا يأخذه مَنْ..] برز الى الميدان حديثاً.
س: لقد كنتَ - سابقاً - تودّ الشيوخ جميعاً وتحبهم بل تحسن الظن حتى بالمتشيخين، فما هذا الهجوم على قسم من المتشيخين الذين ابتلوا بالبدع؟
ج: قد يرد العداء من فرط المحبة وشدتها! نعم، فكما كنت أحبّهم لأجل نفسي، فقد عشقتهم لنفس الاسلام أضعاف أضعافها،
[لقد انتقش في سويداء قلوبهم الطاهرة الصبغة الربّانية وفي خلدهم ضياء الحقيقة] 1
[نديمانْ بادَهَا خوْر دند رفتند تهى خمخانها كردندورَفتنْد]. 2
الاّ أن أس أساس مسلكهم: تنوير القلوب وربطها بالفضيلة الاسلامية والسير عليها، أي: الانطباع بالحمية الاسلامية، اي: ترك المنافع الشخصية لأجل الاخلاص، اي: التوجه الى تأسيس المحبة العامة، أي: خدمة الاتحاد الاسلامي والدعوة اليه.
[فوا أسفاً لقد أساؤا متكئين وتكاسلوا في خدمتهم فحينئذٍ أريد تحويل هممهم الى مجراها الحقيقي القديم ].
س: انت تذكر دوماً "الاتحاد الاسلامي" ألا تعرّفه لنا؟.
ج: قد عرّفته في مؤلفي "المحكمة العسكرية العرفية"وسوف أريكم حجراً من ذلك القصر المعلّى ونقشاً منه:
ان "الكعبة المكرمة" هي الحجر الأسود لكعبة سعادتنا التي هي الاتحاد الاسلامي المنوّر. و "الروضة المطهّرة" درّته البيضاء، و"جزيرة العرب" مكته المكرمة و"الدولة العثمانية" المنفّذة للحرية الشرعية بحذافيرها هي مدينته المنورة لمدنيّتها.
_____________________
1 ان هذا الاسلوب قد نسج من قطع الخرق المباركة لأحد السلاسل (للأولياء الصوفيين) أي هو اشارة الى أولياء عظام من أمثال: الشاه النقشبندي، الامام الرباني، خالد ضياء الدين، سيد طه، سيد صبغة الله ، وسيدا - المؤلف.
2 بيت بالفارسية تعنى: ان الندماء شربوا ما شربوا وتركوا الحانة خالية. المترجم.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 421
فان شئت ان ترى مليّة الاسلام والحجر الاساس للاتحاد الاسلامي ونقشه، فدونك التوقير اللائق الغيور النابع من الحياء والحمية.. والتبسم البرئ الناشئ من الاحترام والرحمة.. والحلاوة الروحانية الحاصلة من الفصاحة والملاحة.. والنشوة السماوية الناشئة من العشق الفتي والشوق الربيعي.. واللذة الملكوتية المتولدة من الحزن الغروبي والفرح السَحَري.. والزينة المقدّسة المتجلّية من الحُسن المجرد والجمال المجلّى 1 فيمكن أن يرى من اللون النوراني الباعث من امتزاج هذه الخصال الحميدة شئ من منظر اللون الأرجواني من بين الألوان السبعة لقوس قزح قاب قوسي الشرق والغرب والطاق المعلّى لكعبة سعادتهما.
ولكن لايحصل الاتحاد بالجهل، بل الاتحاد امتزاج للأفكار، وهذا الامتزاج لايتمّ الاّ بالنور الوضئ للمعرفة.
س: لِمَ سكتّ في السابق؟.
ج: [لأن الاستبداد كان مانعاً للاتحاد فكنت سكتّ على جمر الغضى] 2
س: الهجوم على المشايخ الذين وقعوا في البدع فيه خطر عليك، لأن فيهم أولياء [ألا تخاف أن تصيبهم بجهالة فتصبح على ما فعلت من النادمين].
ج: [ان المولى جل جلاله قد وَسَم بقدرته على جباههم الرفيعة نقش الحقيقة. ومُرادي أن أرشد من طاش فهمه من ذلك النقش] 3 نعم ان هجومي ليس عليهم بل لهم. وذلك لئلا يقلل من شأنهم غير الكفوئين الذين يتزيّونَ بزيّهم. فعلى هذا أعلن ولا أبالي:
اني على عزم جازم ان أقتحم المهالك - ايّاً كانت - أمام ما أصبو اليه من سلامة الاسلام، ولن يثنوني عن عزمي بالتهديد والتخويف. وما قيمة هذه الحياة الدنيا التي يفديها أدنى أرمني لقومه؟. فكيف أخاف عليها وعلاقتي واهية معها، ولاسيما انها كادت تطير مني سبع مرات، الاّ أن الله سبحانه أبقاها عندي أمانةً. فاذاً ليس لي
_____________________
1 ان كل فقرة من هذه الفقرات في هذا الاسلوب المسلسل تشير الى شعاع من اشعة الاسلام والى جمال من جماله والى سجية من سجاياه والى رابطة من روابطه والى اساس من اسسه - المؤلف.
2 قلت هذا الكلام عندما كنت افكر في لزوم اللغة العربية - المؤلف.
3 ان المرشدين قد اجتمعوا في هذه التكية، اي في هذه العبارة، فلا تغادرهم دون زيارة لهم ففيها اشارة الى كل من المولوي والقادري والنقشبندي والبكتاش - المؤلف.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 422
حق المنّة في بذلها والتضحية بها. ومع ان الروح ارادت الطيران من القفص الى الشجر، والعقل نزع الى الهروب الى اليأس، الاّ انهما استُبقيا كي تفدي الحياة نفسها في المستقبل. فالتهديد اذن باستلاب هذه الحياة لاقيمة له وليس بشئ عندي. ولم يبق ما يهددوني به الاّ الحياة الأخروية، فلو حرمت حتى من هذه الحياة، فلن أحجم عن مقصدي ولا أرضى بالبقاء تحت وطء منّتها وثقلها. فان دَعوا على تلك الروح المحترقة الآن بنار الأسى والأسف لتحرق في نار جهنم، فليكن ولا أبالي، لأن الوجدان باخراجه نار الاسى منه يتضمن فردوساً من المقاصد، كما أن الخيال يشكل جنة من الأمل. فليكن الجميع على علم أنني قابض على حياتيّ بيدي كلتيهما ومنهمك بحربين مع عدوين في ميدانين للمبارزة، فلا يرتقينّ أحدٌ إلى ميداني من يملك حياة واحدة!.
س: ما تطلب من الشيوخ الحاليين؟.
ج: الإخلاص الذي يترنمون به دوماً، والجهاد الأكبر الذي يرابطون في التكايا التي هي معسكرات معنوية بالطريقة، التي هي جندية روحانية فيها.. وترك التزام النفس وترك المنافع الشخصية الذي هو معنى الزهد، الذي هو شعارهم.. والمحبة التي يدعونها وهي جوهر مزاج الاسلام. ها هم قد أخذوا منا اجرتهم باستخدامنا، فالآن نطالبهم بالعمل وهو دَيْن في رقابهم.
س: كيف يكونون؟
ج: اِما أن يولّوا وينصرفوا عنّا أو يرفعوا العناد والغيبة والانحياز فيما بينهم، لأن قسماً من المتشيخين المبتدعين قد تسببوا في تشكيل فرقٍ من أهل البدع والضلالة.
س: كيف يمكن أن يتحدوا ويتفقوا فيما بينهم، وبعضهم ينكر على بعض. وتحرم في قواعدهم ودساتيرهم محبة المُنكِر، بل حتى الأنس به، فلا ريب أن مسألة الانكار مسألة مهمة؟!.
ج: وعلى هذا فلي الحق اذاً أن أخاطب بما يأتي: ايها الحمقى أما سمعتم أو أما علمتم ان الآية الكريمة
(انما المؤمنون إخوة) (الحجرات :10) ناموس إلهي، وهل


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 423
تعاميتم عن الدستور النبوي الكريم (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)؟ 1.
فيا للعجب... كيف تتمكن أن تنسخ مسألة الانكار هذه - الواهية المترددة بين الصدق والكذب - هذين الأساسين العظيمين الضروريين، ألا إن مسألة الانكار ليست بكلام الله تعالى حتى لاتقبل النسخ.. أما علموا أن الزمان قد نَسَخَ ذلك الانكار بفتوى غلبة ضرّه على نفعه، والعمل بالمنسوخ لايجوز؟.
س: ألا يمكن أن يكون العداء فيما بينهم لرؤية بعضهم من بعض أفعالاً غير مشروعة؟.
ج: عجباًَ ! بأى وجه حق، وبأي انصاف وبأي سبب تغلبت أسبابُ العداء الناشئة من تصرفات غير مشروعة واهية كحجج الصبيان، وترجحت على اسباب المحبة العظيمة - كجبل سَبحان - 2 الناشئة من الايمان والاسلام والانسانية والجنسية.
نعم، ان الاسلام والانسانية اللتين تقتضيان المحبة هما كجبل "أُحُد" أما الأسباب المنتجة للعداء فليست الاّ كالحصيّات الصغيرة. فالذي يجعل العداء يتغلب على المحبة يرتكب في الحقيقة حماقة عظيمة، كمن يبخس من قيمة جبل "أُحد" ويستصغره الى أدنى من حصاة !!.
ان العداء والمحبة كالضياء والظلام لايجتمعان أبداً، فاذا تغلب العداء، انقلبت المحبة الى مداراة وتصنّع، أما اذا تغلبت المحبة فالعداء ينقلب الى ترحّم واشفاق ورقّة قلب.
ان مذهبي هو ابداء الحب للمحبة، واظهار الخصام للعداء، أي أن أحبّ شئ اليّ في الدنيا هي المحبة، وابغض شئ عندي هو الخصام والعداء.
س: ما الفرق بين الشيخ الولي والمتشيخ المدّعي للولاية؟.
ج: ان كان هدف الشخص وغايته الاتحاد بضياء القلب ونور الفكر، وكان مسلكه المحبة، وشعاره ترك حبّ الذات والأنانية، وكان مشربه انكار الذات
_____________________
1 رواه مسلم في كتاب الايمان: 71 والبخاري في الايمان: 7 .
2 جبل في شرقى تركيا. المترجم.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 424
(المحويّة) وطريقته الحميّة الاسلامية، ربما يكون شيخاًَ مرشداً حقاً. ولكن ان كان مسلكه اظهار مزاياه بتنقيص الآخرين، ويلقّن محبته - الى مريديه - بخصومة الآخرين، وينحاز الى نفسه ويلتزم جانبها مما يستلزم الاختلاف وشق العصا، وكان يظهر أن محبته متوقفة على خصومة الآخرين مما ينتج الغيبة والميل اليها.. فما هو الاّ متشيّخ يتطلع الى الرئاسة، أو ذئب متغنّم (في زي غنم) فلا ينتهي به الأمر الاّ الى جعل الدين وسيلة لجرّ مغانم الدنيا. أو هو منخدع بلذة منحوسة مشؤومة أو بأجتهادٍ خطأ يجعله يُحسن الظن بنفسه ويفتح طريق سوء الظن في المشايخ الكرام والذوات المباركة.
س: كلامك حسن جميل، ولكن اين من يسمع؟ ومسلكك عالٍ ورفيع ولكن من يتّبع؟
ج: [ما لايدرك كله لايترك كله] 1.. و [انما الاعمال بالنيات] 2.. [ان الملام على من اتبع الهوى والسلام على من اتبع الهدى].
س: مارأيك في الاختلافات الرهيبة بين علماء العالم الاسلامي؟ وماذا تقول فيها؟
ج: ان العالم الاسلامي في نظري كمجلس النواب (البرلمان) غير المنتظم أو كمجلس الشورى اختل نظامه، وما نسمعه في الفقه بأن: "هذا هو رأي الجمهور، وعليه الفتوى" انما هو نظير رأى الأكثرية في ذلك المجلس. وما عدا رأى الجمهور من الأقوال ان لم تكن خالية من الحقيقة والجوهر واللب، تفوّض الى رأي صاحب القابليات والمواهب والاستعدادات لينتخب كلُّ استعدادٍ وموهبة مايناسب تربيته وينسجم معها. وهاهنا نقطتان مهمتان 3.
الأولى: ان "القول" الذي أُنتخب بميل هذا الاستعداد، والذي يتضمن الحقيقة - الى حدّ ما - وظلَّ في الأقلية، مقيّد في نفس الأمر، ومخصَّص بالاستعداد الذي انتخبه، الاّ أن صاحبه اهمله فتركَهُ مطلقاً، والتزمه متبعوه فجعلوهُ عاماً، وتعصّب له
_____________________
1 (ما لا يدرك كله لا يترك جلّه) هو معنى الآية (فاتقوا الله ما استطعتم) والحديث (اتق الله ما استطعت) ولفظ الترجمة قاعدة وليس بحديث (كشف الخفاء للعجلونى 2/196)
2 متفق عليه.
3 تأمل جيداً في هاتين النقطتين ويحسن بك أن تقدرهما حق قدرهما. المؤلف.



عبدالقادر حمود 04-02-2011 03:31 PM

رد: صيقل الإسلام
 
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 425
مقلّدوه وسعوا في هدم المخالفين حفاظاً عليه.. من هذه النقطة تولدت المصادمة والمشاجرة والجرح والردّ حتى تشكل من الغبار المثار من تحت أرجلهم ومن الابخرة المتصاعدة من أفواههم ومن البروق المنطلقة من ألسنتهم - سحاباً ذا بروق وذا رحمة أحياناً- فولّد حجاباً أمام شمس الاسلام الساطعة، ولكن ذلك السحاب المبشّر بالرحمة الواهب للاستعداد والقابلية من فيض نور الشمس، مثلما لم يُنزل الغيث.. فقد حجب النور أيضاً...
الثاني: ان القول الذي ظل في الأقلية، إن لم يغلبْ ما فيه من الحقيقة والجوهر على ما في الاستعدادات المنتخبة له، من هَوَسٍ وهوى أو تدين موروث ومزاج. فانه - أي ذلك القول - يبقى على خطر عظيم، لإنه بدلاً من أن ينصبغ الاستعداد به وينقلب الى مايقتضيه، يصرفه لنفسه ويلقحه ويسخّره لأمره.
وها هنا يتحول الهُدى الى الهوى، ويتشرب المذهب من المزاج. ان النحل يشرب الماء فيقطّر عسلاً، بينما الحية تشربه وتنفث سمّاً.
س: ياترى، ألا يجد هذا المجلس الاسلامي العالي على سطح الارض انتظاماً وتنسيقاً لأعماله مرة أخرى؟.
ج: أعتقد بأن العالم الاسلامي قاطبة سيصير بمثابة مجلس نواب (برلمان) مقدّس في الملّة الانسانية وبين بنى آدم، وسيشكل وينظم السلف والخلف فيما بينهم مجلساً للشورى مولياً كلٌّ منهم وجهَه للآخرَ على مدى العصور الاّ أن القسم الأول وهم الآباء الشيوخ، سينصتون بهدوء وثناء.
س: 1 ان قسماً من الأجانب يوردون شبهات حول مسائل كتعدد الزوجات والرق، كأنها لاتساير المدنية، فيثيرون الأوهام حول الشريعة.
ج: سأقول لكم قاعدة بصورة مجملة لأنني على نية اصدار تفاصيلها في رسالة مستقلة.
ان أحكام الاسلام على قسمين:
الأول: وهو الذي يؤسَّس عليه الشريعة وهو الحُسن الحقيقي والخير المحض.

_____________________
1 هذا السؤال طرح من قبل أحد الأرناووط - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 426
الثاني: الشريعة المعدِّلة، أي تأتي الشريعة وتخرج الشئ من صورته البشعة الظالمة الى صورة ملائمة للزمان والمحيط قابلة للتطبيق حسب الطبيعة البشرية، أخذاً بالصورة المعدَّلة اختياراً لأهون الشرّين وأخف الضررين، حتى يتيسّر الوصول الى الحُسن الحقيقي تماماً. لأن رفع أمرٍ مستأصل في الطبيعة البشرية رفعاً آنياً يقتضي قلبَ الطبيعة البشرية رأساً على عقب.
وعلى هذا فالشريعة ليست هي التي أوجدت الرقّ، بل هي التي أوجدت السُبُل، ومهّدت الطريق لتحويل الرقّ من أقسى صوَره الى ماييسّر الوصول الى الحرية التامة والانتقال اليها. اي عدّلت تلك الصورة البشعة وقلّلت منها. ثم ان تعدّد الزوجات الى حدّ الأربع زوجات، مع أنها موافقة لطبيعة الأنسان والعقل والحكمة، فان الشريعة لم تجعلها من الواحدة الى الأربعة، بل أنزلتها وأنقصتها من الزوجات الثمانية والتسعة الى الأربعة، ولاسيما قد وضعت شرائط - في التعدد - بحيث لاتؤدي مراعاتُها الى ضررٍ ما، وحتى لو حصل في بعض النقاط شر، فهو شرّ أهون، وأهون الشرّ عدالة اضافية (نسبية)، إذ الخير المحض لايمكن ان يحصل في جميع أحوال العالم، هيهات!!..
***
لقد صادفت - بسوء التصادف - أهل الأفراط والتفريط من مهاجمي الحكومة والمعترضين عليها. فقسمٌ من أهل الأفراط كانوا يضللون الأتراك -الذين هم قوام الاسلام بعد العرب - حتى تجاوز بعض جهلاء هذا القسم الى تكفير أهل القانون محتجين بوضع "القانون الأساسي" و "اعلان الحرية" قبل هذا بثلاثين سنة ومستدلين بالآية الكريمة
(ومنْ لم يحكم بما أنزل الله...) (المائدة: 44) فهؤلاء المساكين لم يعرفوا أن (ومَن لم يحكم) هو يعني "مَن لم يصدّق". فيا للعجب... كيف لا اعارض مَن ظن الاستبداد السابق حريةً وهاجم القانون الأساس! ولكن مع أن اولئك كانوا يعارضون الحكومة الاّ أنهم أرادوا استبداداً أشدّ، لهذا كنت أرفضهم وأردّ عليهم، فمضللّو أهل "الحرية" هم الآن من هذا القسم.
أما القسم الثاني: وهم أهل التفريط فلا يعرفون الدين، ويعترضون ظلماً على المسلمين ويهاجمونهم بدون انصاف محتجّين بالتعصب، فالذين انسلخوا من


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 427
"عثمانيتهم" وتجردوا منها، والذين يريدون التمثل بأوروبا وتقليدها كليّاً، هم الآن من هذا القسم.
أيها العوام! فالآن... نستودعكم الله...
انتظروا فان لي دعوى أبحثها مع الخواص، ولي مسألة مهمة مع الحكومة، مع الأشراف، مع اولئك الذين ليسوا من الماسونيين من جماعة الاتحاد والترقي.
ياطبقة الخواص! نحن العوام ومعاشر أهل المدرسة الدينية نطالبكم بحقنا!..
س: ماتريدون؟ .
ج: نريد أن تصدقوا قولكم بفعلكم، ولاتعتذروا بقصور غيركم، ولا تتواكلوا فيما بينكم وتتكاسلوا في خدمتنا الواجبة عليكم، وان تتداركوا فيما فاتنا بسببكم، وان تستمعوا الى أحوالنا وتستشيروا حاجاتنا، وان تستفسروا عن اوضاعنا، وتَدَعوا لَهوَكم جانباً!..
الحاصل: اننا نطلب ضمان مستقبل العلماء في الولايات الشرقية ونطلب نصيبنا من معنى "الاتحاد" و"الترقى" لا من الاسم فنطلب ماهو هيّن عليكم وعظيم عندنا.
س: افصح عن مقصدك ولاتتركه مبهماً. ماذا تريد؟.
ج: نطلب تأسيس "مدرسة الزهراء" - شقيقة الجامع الأزهر - التي تتضمن الجامعة. نطلب تأسيسها في "بتليس" مع رفيقتها في كل من "وان" و"دياربكر" جناحَي بتليس، اطمأنوا أننا - نحن الأكراد - لسنا كالآخرين - فنحن نعلم يقيناً أن حياتنا الاجتماعية تنشأ من حياة الأتراك وسعادتهم.
س: كيف؟ مثل ماذا؟ ولِمَ؟.
ج: ان لها بعض شرائط تربوية، ومجاري واردات، ومحاسن ثمرات...
س: ما شرائطها؟.
ج: ثمانية:
اولاها: التسمية باسم "المدرسة" لأنه مألوف ومأنوس وجذّاب، ومع كونه عنواناً اعتبارياً الاّ أنه يتضمن حقيقة عظيمة ممّا يهيّج الأشواق وينبّه الرغبات.


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 428
ثانيها: مزج العلوم الكونية الحديثة ودرجها مع العلوم الدينية معَ جعل اللغة العربية واجبة، والكردية جائزة، والتركية لازمة.
س: ما الحكمة في هذا المزج، حتى تدعو اليه دائماً وتدافع عنه؟.
ج: لتخليص المحاكمة الذهنية (العقلية) من ظلمات السفسطة الحاصلة من أربعة أنواع من الأقيسة التمثيلية الفاسدة 1 وازالة المغالطة التي تولدها الملكة المتفلسفة على التقليد الطفيلي.
س: كيف؟ مثل ماذا؟.
ج: ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبإمتزاجهما تتجلّى الحقيقة، فتتربّى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولد التعصب في الاولى والحيل والشبهات في الثانية.
الشرط الثالث: انتخاب المدرسين فيها، أما من العلماء الأكراد من ذوي الجناحين أي الموثّقين والمعتمدين من قبل الأكراد والأتراك او ممن يعرفون اللغة المحلية ليُستأنس بهم.
رابعها: الإستشارة باستعداد الأكراد وقابلياتهم، وجعل صباوتهم وبساطتهم نصب العين، وكم من لباس يُستحسن على قامة، يستقبح على أخرى، وتعليم الصبيان قد يكون بالقسر أو بمداعبة ميولهم.
الشرط الخامس: تطبيق قاعدة "تقسيم الأعمال" بحذافيرها، حتى يتخرج من كل شعبة متخصصون مَهَرة مع أنها مداخل ومخارج بعضها ببعض.
الشرط السادس: ايجاد سبيل بعد تخرج المداومين وضمان تقدمهم واستفاضتهم حتى يتساووا مع خريجي المدارس العليا ويتعامل معهم بنفس المعاملة مع المدارس العليا والمعاهد الرسمية، وجعل امتحاناتها كامتحانات تلك المدارس منتجة، دون تركها عقيمة.
_____________________
1 من أمثال تلك القياسات الفاسدة: قياس المعنويات على الماديات، واتخاذ ماتقوله اوروبا حجة في المعنويات، أي كما أنهم ماهرون في الماديات، ويقتدى بهم فيها، فهم ماهرون في العقائد ايضاً. وثانيتها: رفض أقوال العلماء - ممن لم يطّلعوا على بعض العلوم الحديثة - في العلوم الدينية ايضاً. ثالثتها: الاعتماد على النفس والاعتداد بها في الدين لاغتراره بمهارته في العلوم الحديثة. رابعتها: قياس السلف على الخلف والماضي على الحاضر، ثم شن الهجوم وتقديم الاعتراضات الباطلة - شقيق المؤلف عبدالمجيد.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 429
الشرط السابع: اتخاذ دار المعلمين - موقتاً - ركيزة لهذه المدرسة ودمجها معها، ليسري الانتظام والاستفاضة من العلم من هذه الى تلك والفضيلة والتدين من تلك الى هذه، حتى يكون كل منها ذا جناحين بالتبادل.
س: ما وارداتها؟
ج: الحمية والغيرة..
س: ثم ؟
ج: ان هذه المدرسة كنواة تتضمن - بالقوة - شجرة طوبى. فان اخضرّت بالحميّة والغيرة إستغنت عنكم وعن خزائنكم المنضوبة، وذلك بجذبها الطبيعي لحياتها المادية.
س: بأي جهة؟
ج: بجهات عديدة:
الاولى: الأوقاف، لو انتظمت انتظاماً حقيقياً، لأسالَت الى هذا الحوض عيناً سيالة بتوحيد المدارس.
الثانية: الزكاة، فنحن شافعيون وأحناف، فاذا أبدت - بعد حين - تلك المدرسة الزهراء خدماتها للاسلام والانسانية، فلا ريب أن يتوجه اليها قسم من الزكاة وتحصرها لنفسها باستحقاق، وحتى لو كانت لها زكاة الزكاة لكفتها.
الثالثة: النذور والصدقات... فكما ان هذه المدرسة تكوّن وتمثل عند العقول أسمى "مدرسة" وبنظر القلوب والوجدان أقدس زاوية "تكية" وذلك بما تنشره من ثمرات وما تعمه من ضياء وما تقدمه للاسلام من خدمات جليلة. أي فكما هي مدرسة دينية فهي مدرسة حديثة، وتكية أيضاً. وحينها يتوجه اليها قسم من النذور والصدقات التي هي من جملة التكافل الاجتماعي في الاسلام.
الرابعة: الإعارة.. بتوسيع واردات دار المعلمين - بعد الدمج لأجل التبادل المذكور- توسيعاً نسبياً، يمكن اعارة تلك الواردات اليها موقتاً، وحينما تستغني - بعد مدة - ستردّ تلك العارية.
س: ما ثمرات هذه المدرسة حتى تصرخ وتدعو اليها بحماسة من قبل عشر سنين بل من قبل خمس وخمسين سنة؟.


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 430
ج: مجملاً تأمين مستقبل العلماء الأكراد والأتراك 1 واقحام المعرفة عن طريق "المدرسة" الى كردستان واظهار محاسن "المشروطية" و "الحرية" والاستفادة منها.
س: يحسن بك أن توضح أكثر وتفصّل.
ج:
الأول: توحيد المدارس الدينية واصلاحها...
الثاني: انقاذ الاسلام من الأساطير والأسرائيليات والتعصب الممقوت، تلك التي صدّأت سيف الاسلام المهنّد.
نعم إن شأن الاسلام الصلابة في الدين وهي المتانة والثبات والتمسك بالحق، وليس التعصب الناشئ عن الجهل وعدم المحاكمة العقلية، وفي نظري ان أخطر انواع التعصب هو ذلك الذي يحمله قسم من مقلدي اورربا وملحديها، لما يصرّون بعناد على شبهاتهم السطحية، وليس هذا من شأن العلماء المتمسكين بالبرهان.
الثالث: فتح باب لنشر محاسن المشروطية.
نعم، ليس هناك في العشائر من فكرٍ يجرح المشروطية، ولكن ان لم تستحسن في نظرهم فلا يستفاد منها. وهذا أشد ضرراً، فلاشك أن المريض لايستعمل دواءً يظنه مشوباً بالسم.
الرابع: فتح طريق لجريان العلوم الكونية الحديثة الى المدارس الدينية، بفتح نبع صافٍ لتلك العلوم بحيث لاينفر منها أهل المدارس الدينية، ولقد قلت مراراً بأن فهماً خطأً وتوهماً مشؤوماً قد أقاما - لحد الآن - سدّين أمام جريان العلوم.
الخامس: اكرر ماقلته مراراً - بل مئة مرة - ان هذه المدرسة تصالح بين أهل المدرسة "الدينية" والمدرسة "الحديثة" وأهل الزوايا "التكايا" وتجعلهم يتحدون - في الأقل- في المقصد، وذلك بما تحدث فيما بينهم من الميل وتبادل الأفكار.
نعم، نشاهد بأسى وأسف أن تباين أفكارهم كما فرّق الاتحاد فيما بينهم فان تخالف مشاربهم قد وقّف التقدم والرقي أيضاً وذلك لأن كلاً منهم بحكم التعصب
_____________________
1 لقد ألقيت هذه المباحث حول »مدرسة الزهراء« في السنة الثالثة من اعلان الحرية على صورة خطب للأهالي في كل من بتليس ووان ودياربكر وغيرها من الأماكن، وقابلوني جميعاً بالموافقة وبأن هذه المسألة حقيقة وممكنة وقابلة للتطبيق، لذا أستطيع أن أقول انني مترجم لما كان يدور بخلدهم في هذه المسألة - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 431
لمسلكه ونظره السطحي لمسلك الآخر، انساق الى الافراط والتفريط، ففرّط هذا بتضليل ذاك، وأفرط ذاك بتجهيل هذا.
الخلاصة: ان الاسلام لو تجسّم لكان قصراً مشيداً نورانياً ينور الأرض ويبهجها فأحد منازله "مدرسة حديثة"، واحدى حجراته "مدرسة دينية"، واحدى زواياه "تكية"، ورواقه مجمع الكل، ومجلس الشورى، يكمل البعض نقص الآخر.. وكما أن المرآة تمثل صورة الشمس وتعكسها فهذه المدرسة الزهراء ستعكس وتمثل أيضاً صورة ذلك القصر الإلهي الفخم في البلدان الخارجية.
يا أيها الاشراف! اخدمونا كما خدمناكم والاّ... يا أهل الحكومة الذين تدّعون الوصاية علينا بعدم بلوغنا سن الرشد كما تظنون أمّنوا وسائل سعادتنا كيما نطيعكم، وإلاّ.. يا اعضاء الاتحاد والترقي القدماء يامن تعهّدتم وتحمّلتم بحق الواجب الاجتماعي للأكراد والأتراك حسناً فعلتم وقمتم بهذا المزج، فان احسنتم فحسناً وإلاّ.. [فردّوا الأمانات الى أهلها] 1 .
س: هناك عتاب كبير على العلماء حتى...
ج: انه ظلم عظيم وعدم انصاف شديد.
س: لماذا؟
ج: لأنه حماقة كحماقة من يهب وجوداً على ذنب صدر من العدم.
س: ماذا تعني؟.
ج: ان إدانة العلم، بذنب ناشئ من عدم الحلم، لشخص - اقترن علمه بعدم الحلم - كم هي حماقة وبلاهة، كذلك فان إدانة العلماء المساكين - وهم المرشدون دوماً الى قدسية الاسلام وسمّوه، والمبلّغون لأحكام الدين، حسب طاقاتهم والذين يستحقون اكثر احتراماً ومحبة ورحمة في الوقت الحاضر - ادانتهم بذنب وخطأ ناشئ من عدم وجود علماء بمستوى لائق لهذا العصر، ثم القاء ذلك الذنب وتلك
_____________________
1 تنبيه: يا اعضاء الحكومة وأهل السياسة الذين تعدّون أنفسكم من الخواص، لاتسلّوا أنفُسَكم بالاستناد الى هذا الكتاب الذي يخاطب العوام ويلقنهم الدروس في تحطيم اليأس لأن سوء استعمالكم أسوأ تأثيراً من سوء فهمهم، لكي ارشدكم جعلتُ الزمان وكيلاً، فلم تعيروا الى درس الزمان بالاً، فذقتم صفعة تأديبية - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 432
الخطيئة على كاهل هؤلاء المساكين، ان لم تكن هذه حماقة اعظم وبلاهة اكبر فما هي اذن؟ !...
نعم، ان الضرر لم يصبنا من "وجودهم" بل من "عدم وجود" ما نبتغيه من العلماء الأفذاذ، لأن اغلب الأذكياء قد اتجهوا الى المدارس الحديثة والأغنياء لم يتنازلوا الى نمط المعيشة في المدرسة الدينية، والمدرسة نفسها - لعدم وجود الانتظام وفقدان الاستزادة من العلوم وانقطاع سبل التخرج - لم تتمكن تهيئة علماء بمقتضى هذا العصر، احذروا! ان كره العلماء وبغضهم خطر عظيم. 1
س: فان كانت نيتك خالصة توفّق وقليل من يخلص النية، فانظر الى نيتك.
ج: لله الحمد ولا فخر 2 .. ان عناصر الأغراض الشخصية ومصالحها المخلّة باخلاص النيّة - من نسب ونسل وطمع وخوف - لاتعرفني ولا أعرفهن، بل لا أريد ان أتعرّف اليهن، ذلك لأني لست صاحب نسب شهير كي أجدّ في صون ماضيه، ولست صاحب اولاد كي أسعى لضمان مستقبلهم. ولكن لي جنون - أيّ جنون - حتى أعْجَزَ المحكمة العسكرية بهيبته ورهبته في علاجه، ولي جهل مطبق - وايّ جهل - حتى جعلني أمياً لا أستطيع قراءة المكتوب على الدينار والدرهم. أما التجارة الأخروية... فقد آليت على نفسي ألاّ أتراجع عن طريقي التي أسلكها ولو ضيّعت فيها رأس مالي. واني على خسارتها منذ الآن، اذ أسقط في آثام كثيرة... فلم يبق الاّ الشهرة الكاذبة... ولقد مللت منها، وأهرب منها. لأنها تحمّلني مالايمكن أن اتحمله من وظائف..
س: لِمَ تحسن الظن -كلما امكنك ذلك - بحكومة المشروطية وأفراد "جون تورك" غير الملحدين؟.
ج: لانكم تسيئون الظن بهم كلما تيسّر لكم ذلك، فأنا أحسن الظن بهم، فان كانوا بمثل ما أقول فبه ونِعمَ، والاّ فانا أرشدهم الى الصواب كي يسلكوه.
س: ما رأيك في الاتحاد والترقي؟.
_____________________
1 يا أهل المدارس (الدينية): لاتيأسوا ان العلوم الدينية والعلوم الحديثة في الوقت الحاضر هما المسيطرتان. وان طريق التقدم والرقي سيكون بالعلم وبانواعه كافة، وسوف يرتقي أرفعه واعلاه الى أسمى طبقة - المؤلف.
2 ان التحدث بنعم الله ضرب من الشكر، مثلما يحدّث الشيخ عن كرامته شكراً لنعم الله عليه - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 433
ج: مع انني أثمّن قيمتهم الاّ انني اعترض على الشدّة التي يزاولها سياسيوهم 1 واهنئ - في الوقت ذاته واستحسن - الى حدٍّ ما- فروعهم وشعبهم الاقتصادية والثقافية ولاسيما في الولايات الشرقية.
***
سؤال: ما الذي ألقانا في غياهب الضياع واقعدنا عن معالي الامور؟
الجواب:
ان الحياة حركة وفعالية، أما الشوق فجوادُها، وهو مطية الهمة. فحالما تمتطي همتُكم صهوة جواد الشوق ناشدة معالي الامور في ميادين معركة الحياة، اذا بـ"اليأس" أول ما يصادفها، هذا العدو الألد هو الذي يفتّ من قوة الهمة.. فعليكم ان تضربوه بسيف الآية الكريمة:
(لا تقنطوا) (الزمر: 53).
ثم يشن "حب الظهور وميل التفوق" هجومه، هذا الميل المغروز في الانسان يحاول التحكم على خدمة الحق الخالصة من الحسد والمنازعة، فيهوي بضرباته على رأس الهمة ويطرحها الارضَ من على جوداها.. فعليكم ان تبعثوا اليه حقيقة الآية الكريمة:
(كونوا قوامين) (النساء : 135).
ثم يبرز الى الميدان "الاستعجال" فيُزلّ قدم الهمة ويُقلبها على عقبيها بطفراته خطوات ترتب الاسباب والمسببات. فتشوش مراحل العلل التي وضعها الله سبحانه في سننه الكونية.. فعليكم ان تحتموا منه بالخندق الأمين للآية الكريمة:
(اصبروا وصابروا ورابطوا) (ال عمران : 200).
ثم يتصدى لها "الرأي الشخصي" المستبد والتفكير الانفرادي الذي يبدد اعمال الانسان، رغم انه مكلّف بفطرته رعاية حقوقه ضمن رعايته لحقوق الآخرين.. فعليكم ان تصدوه بالحقيقة الشامخة في الحديث الشريف: (خير الناس انفعهم للناس). 2
ثم يخرج الى ساحة المعركة عدوٌ آخر وهو: "التقليد" فيجد الفرصة سانحة لتقليد
_____________________
1 يظهر الظلم عند عدم توزيع العدالة توزيعاً عادلاً. فلا يمكن جرح شعور ألف من الناس لأجل شخص واحد. فالشدة شيء والحمية شيء آخر، اذ لو التزم مغرورٌ معجب بنفسه الحقَّ، يسوق الكثيرين الى الباطل، وربما يرغمهم عليه (بما يستعمل من شدة) - المؤلف.
2 حديث حسن أخرجه القضاعي في مسند الشهاب وابن عساكر في تاريخ دمشق، 2 / 420 / 2 وانظر الصحيحة 426 وصحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 6538 .



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 434
الكسالى والمتخلفين، وبه يقصم ظهر الهمة.. فعليكم تحدّيه بالحقيقة الشاهقة، تلك هي حكمة الآية الكريمة: (لا يضركم من ضل اذا اهتديتم) (المائدة: 105). كيلا تبلغ يدُ العدو أذيال الهمة.
ثم يلوح العدوّ الغدّار وهو: "التسويف" الناجم من العجز وفقدان الثقة بالنفس، فينشأ منه تأجيل الاعمال الاخروية من اليوم الى الغد، وهكذا حتى يمسك يدّ الهمة ويقعدها عن النهوض.. فعليكم الاقتداء بسر الآية الكريمة:
(وعلى الله فليتوكل المتوكلون) (ال عمران : 122). على الله لا على غيره. فاجعلوا التوكل عليه سبحانه حصناً للهمة.
ثم يدخل الساحة العدو الملحد وهو: "التدخل في ما هو موكول امره الى الله" فينزل هذا التدخل بضرباته القاسية ولطماته الموجعة على وجه الهمة حتى يُعمي بصرَها... فعليكم ان ترسلوا عليه الحقيقة الدائبة والرابحة دوماً وهي الآية الكريمة:
(فاستقم كما امرت) (هود: 122). كي تقفه عند حدّه، فلا يتجاوزه، اذ ليس للعبد ان يتأمر على سيده.
واخيراً يُقبل "حب الراحة والدعة" الذي هو أم المصائب ووكر الرذائل فيصفّد الهمة الكريمة بسلاسله واغلاله ويقعدها عن طلب معالي الامور ويقذفها في هاوية السفالة والذلة.. فعليكم ان تُخرجوا على ذلك السفاح الساحر، البطل المجاهد في الآية الكريمة:
(وأن ليس للانسان الاّ ما سعى) (النجم: 39).
[حقاً ان لكم في الجهاد وتحمّل المشاق راحة كبرى، وان الذي يملك فطرة حساسة راحتُه في السعي والعمل].


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 435
كان الذين لايعرفونني في اثناء تجوالي ينظرون الى ملابسي ويحسبونني تاجراً، ويسألون:
- أأنت تاجر؟
- نعم، وكيمياوي كذلك!
- كيف؟
- هناك مادتان، امزجهما معاً، فيولدان ترياقاً شافياً، وضياء كهربائياً.
- اين هما؟
- في سوق المدنية والفضيلة، صندوق يمشي على رجلين مكتوب عليه "الانسان" فيه جوهر ساطع أو أسود قاتم وهو القلب.
- وما المادتان.
- الايمان والمحبة والوفاء والحمية.
الجريدة السيارة
ابو لاشئ، ابن الزمان، اخو العجائب، رفيق الغرائب.
بديع الزمان سعيد النورسي


الساعة الآن 01:09 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى