منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   المواضيع الاسلامية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=7)
-   -   دراسات في القرآن والنبوة: (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=6963)

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:13 PM

دراسات في القرآن والنبوة:
 
تقديم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله و سنتي" [1].
لقد أوضح البيان النبوي الساطع مدى التلازم بين القرآن الكريم والنبوة الشريفة، وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة الذين حظوا بالصحبة المباركة -رضي الله عنهم- مثالا حيا وسامقا لهذا التلازم.
غير أن الانكسار التاريخي المبكر الذي ابتليت به الأمة الإسلامية بالانقلاب الأموي الغاشم الذي أطاح بالخلافة الراشدة وأسس للملك العاض الوراثي في الأمة، هذا الانكسار أثر سلبا على ذلكم التلازم بما أحدثه من انفصام نكد بين القرآن الكريم، باعتباره وحيا من الله تعالى وذكرا وشرعا وأحكاما، وبين الإرث النبوي الشريف باعتباره تجسيدا عمليا لذلك الوحي.
وفي ظل ذلك الانكسار وما صاحبه من انحرافات خاصة على مستوى الحكم وتوزيع الثروة، أُفقد القرآن الكريم مكانته في التشريع والتوجيه، بعد أن كان عند جيل الصحابة والتابعين رضي الهن عنهم فرقانا فاصلا في جميع مناحي الحياة، وبرهانا ساطعا به "يبرهن على الهدى والضلالة، على الصلاح والفساد، على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته"[2]"، وبعد أن كانت العلاقة التي تربط المسلمين بالقرآن الكريم موسومة بالرقي في مدارج الإيمان، وكانت الجماعة التي تلقت القرآن بنية التعبد والتنفيذ مطبوعة بالحرص على طلب مقامات الإحسان.
وفي إطار مشروع المنهاج النبوي الذي ندب الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين -حفظه الله- كل جهوده لاستجلائه وتوضيح معالمه والدعوة إليه وتربية الناس عليه، متوكلا على الله تعالى، ومستهديا بنوره سبحانه، ومسترشدا بفهم متكامل للوحي والنبوة ومدى التلازم بينهما، يأتي هذا الكتاب "القرآن والنبوة" الذي يندرج ضمن مشروع ضخم صدرت منه لحد الآن خمسة كتب، هي: "في الاقتصاد: البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية" و"رجال القومة والإصلاح" و"الخلافة والملك" و"مقدمات لمستقبل الإسلام" و"إمامة الأمة".
ويعود تاريخ تأليف هذا الكتاب إلى حوالي ثلاثة عقود، وقد حالت ظروف الحصار الغاشم الذي ووجهت -وتواجه به- دعوة العدل والإحسان دون طبعه في أوانه.
ورغم ما يلمسه القارئ في هذا الكتاب من حضور لبعض الوقائع والأحداث التي تعود إلى تاريخ تأليفه، فإن كتاب "القرآن والنبوة" احتفظ بجوهره القائم -مثل باقي مكتوبات الأستاذ المرشد ومسموعاته ومرئياته- على الدعوة الحثيثة إلى تجديد الإيمان في القلوب ترقيا في مدارج الدين وطلبا للغاية الإحسانية، وتجديد عزة الأمة وكرامتها طلبا للغاية الاستخلافية العدلية.
والسؤال الكبير الذي يتصدى هذا الكتاب للإجابة عنه هو كيف لنا أن نعيد للقرآن الكريم والنبوة الشريفة تلازمهما ودورهما في تحقيق ذلكم المشروع التجديدي الشامل ببعديه العدلي والإحساني؟ وبأي فهم، وبأية إرادة نتعامل مع القرآن الكريم والنبوة الشريفة من أجل تجديد الإيمان في القلوب والعزة في الأمة؟
وعلى طول صفحات الكتاب، وفي خضم معالجة هذا السؤال، يلح الأستاذ عبد السلام ياسين على الأساس التربوي الإحساني لهذا التجديد، مؤكداً أن "تنزل القرآن من عالم الأحكام إلى عالم الواقع إنما يتم على يد بشر. فحين كان القرآن دستور قيادة رباها القرآن، وكان به لا بغيره الفرقان، وكان هو على غيره البرهان، وكان طابع الجماعة الإيمان والإحسان، نشأت دولة القرآن امتداداً بين الأرض والسماء، تشد وحدته وتصونه أن يزيغ العروةُ الوثقى.
"فكذلك الخلافة الثانية لن تتحقق بمجرد أن الناس فهموا الأحكام القرآنية وكتبوها وتحالفوا على تطبيقها. نجاحهم في تجديد الخلافة لا يتوقف على ذكائهم وإن كان الذكاء من أهم الفضائل، ولا على ضبطهم التنظيمي، وإن كان التنظيم قوة واجبة، ولا على أجهزة تحاذي ما كان في دولة الخلافة الأولى وتحاكيها. إنما ينجحون بمقدار ما معهم من خُلُق القرآن وفرقانه وبرهانه وإحسانه"[3].
وبنفس الإلحاح يحرص هذا الكتاب على تجلية الأبعاد الحقيقية لديننا الحنيف ومقاصده وأهداف إحيائه في النفس وفي الأمة منبها إلى أن "تمجيد النظام الإسلامي في السياسة والاجتماع والاقتصاد كأنه إيديولوجية، أي منظومة فكرية، تبُزُّ في المقارنة كل مذهب بشري ما هو في الحقيقة إلا مسخ للدين، إن لم نربط النظام الإسلامي لشؤون الأرض والناس بالمبدإ والمعاد، والألوهية والربوبية، ووحدة الخلق، ومصيرهم بعد الموت، وبالآخرة والبعث والخلود في الجنة أو النار... واللب هو مصيرك يا إنسان إلى ربك، وعبورك هذه الدنيا لتُختبر فيها وتصير إلى جزائك"[4].
ابن سليمان، المغرب الأقصى في 03 ذي القعدة 1430
عمر أمكاسو
[1] رواه الإمام مالك في الموطأ عن جابر رضي الله عنه، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة
[2] عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص 18
[3] القرآن والنبوة، ص 28
[4] نفسه، ص 89-90

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:17 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
1 مرفق
الفصل1:عبد يوحى إليه
الحديث عن الوحي
الضلالة لا توافق الهدى
فرقان وبرهان وإحسان
فرقان
برهان
إحسان
السنة وحي من الوحي
أمرهم شورى بينهم
رحماء بينهم
يحبهم ويحبونه
بناء تقوض

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:18 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
الحديث عن الوحي
أسمع في هذا الصباح[1]أخبار العالم: مجلس النواب الأمريكي يصوت على تمويل جيل جديد من الصواريخ النووية الهدف من صناعتها "ردع المنافسة الروسية" في هذا الميدان. النظام السعودي يقترح على فرنسا بضعة ملايير دولار قرضا لدعم الفرنك وإنقاذه. يقول المعلق: "لتطابق رأي الدولتين في قضية فلسطين". الدولة العنصرية في جنوب أفريقيا ووكلاؤها المكلفون بالتخريب والتآمر على الدول السوداء. عالم متحرك عنيف. مستقبل الإنسانية معلق على توازن الردع والردع المضاد النوويين. أموال المسلمين تصبح رشوة لمكافأة دول تؤيد العرب في صفقتهم الخاسرة. الأوربي المستعمر يعيث في الأرض فسادا. ولم تذكر الأخبار بحريق بيروت المهول وقد مضى عليه الآن أقل من خمسة أشهر. لم تذكر الأخبار فلسطين المحتلة والاحتلال الاستيطاني ل"الأراضي المحتلة". هكذا سمي الجزء الذي لما تبتلعه عصابة اليهود كما ابتعلت بيت المقدس والأرض التي حوله، أرضا باركها الله وضيعها العرب فأصبحت تسمى إسرائيل.
عالم متحرك عنيف. فيبدو من يتحدث فيه عن الوحي والنبوة ناشزا حالما. يبدو للغافل عن الله الإخبار عن المنهاج النبوي، وذكر الله ورسوله وسط هذه الأحداث الصاخبة انفلاتا من حلبة المواجهة. ذلك أن قيادة العالم أفلتت من الأمة التي جالت في العالم قرونا تحكم باسم الله وتتبع خُطا رسول الله، حتى ألفت الآذان أن تسمع ضوضاء العالم بمعزل تام عن خالق العالم ورسالة الله للعالم وصفوة الله من العالم محمد صلى الله عليه وسلم.
نكتب هذا إلحاحا على أن المنهاج النبوي مسلك يعبر الدنيا بما فيها من قوى واصطدام واضطراب ونشاط ولا يتجنبها. وأن القرآن كلام الله، الله الذي يسير العالم ويحكم ما يريد. قدر الله يجري في العالم كما يشاء الله، ونحن مغلوبون منهوبون مقهورون بما كسبت أيدينا. هذا الكسب ومسؤوليتنا عن هزيمتنا هما شرع الله. ورجوعنا لشرع الله نعظمه ونقدسه ونعمل بمقتضاه يسدد خطانا على صراط الله المستقيم المؤدي للحسنيين. واتباع الرسول الذي يوحى إليه هو المنهاج. فهذا علاقة عنوان هذا الفصل بما يجري في العالم.
قال الله تعالى يخاطب حبيبه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾ [2]. روح من الله إلى رسول الله. نور محمول إلينا، باق بين ظهرانينا. به فقط يستنير لنا المنهاج، الصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات من غيب نؤمن به، وما في الأرض من حقائق محرقة تصطلي الأمة بنارها. والله ورسوله الملجأ. فأين نذهب؟ كل المذاهب الضالة جربت فينا ففتكت بنا. ونور الله بين أيدينا. يا للهلكة! هلكة من يتحدث عن محمد العبقري بطل القومية. قال تعالى يخاطب أمثال هؤلاء: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [3].
عبد يوحى إليه. والوحي والرسالة مناط الإيمان كله. لذلك يركز وَثنيو القومية وأساتذتهم من المستشرقين هجومهم على الوحي والرسالة ليتعتعوا المسلمين عن يقينهم بأن الرسول مبعوث مأمور من لدن خالق الأرض والسماء، خالق الإنسان ومصيره من الدنيا للآخرة. وبنعوت خبيثة كالعبقرية والبطولة يحاولون أن يمحوا وجه العبد الذي فزع لما باغته الوحي ورأى جبريل، ثم استأنس، ثم تلقى القرآن، ثم دعا قومه، ثم أوذي في الله فصبر، ثم ربى وجاهد، وهدى الله به العالم إلى يوم القيامة. عبد لا يشرع من عنده، وإن خطط فتطبيقا للوحي يصحبه التوفيق الإلهي. وإن حمل السلاح فاستجابة للأمر الإلهي. وإن قال فبالله، وإن تحرك فبإذنه، وإن غضب فله، وإن أحب ففيه. عبد رباني إلهي. عبد يوحى إليه.
كان القرآن ينزل طريا مواكبا للمسيرة التاريخية موجها لها. هو العلم، وهو المنهاج، وهو البرنامج، وهو النور الهادي إلى صراط الله. وكانت نظرة العبد الرسول صلى الله عليه وسلم ونظرة أصحابه مجتمعة لا تشتت فيها. لم يكن القرآن تراثا يحتل حيزا من الفكر ورفوفا من المكتبة، بل كان هو الفهم، وهو العلم، وهو الحياة. كان تناقض صارخ بين أحوال الجاهلية وبين ما يدعو إليه القرآن. فنهض أهل القرآن. خرقوا كل سياج يصد عن سبيل الله. حطموا المنكر وغيروا الواقع حتى يستقيم على ما يأمر به الله. كانت وحدة مشخصة في العبد الصادق الرسول، ممثلة في كلمة الله الموحى بها، ماثلة في جماعة هي جيل القرآن كما يقول سيد قطب رحمه الله.
لم تكن الحياة أشتاتا ونتفا في سلوك أهل القرآن. الحياة والموت، الدنيا والآخرة، العابد والمعبود، كانت جميعا يلفها في عقيدة التوحيد والرسالة والملائكة والبعث والقدر شرعة واحدة. يسير بها في صراط الله منهاج واحد. لم تكن العاطفة في واد والعقل تائها في التحليل الفلسفي. كان الإنسان جميعا. نحن أشتات اليوم. فمعنى اتباعنا المنهاج النبوي أن نجتمع عقلا وعاطفة، ماضيا وحاضرا ومصيرا، دينا ودنيا وآخرة، أفرادا على بينة من هويتهم وعبوديتهم لله ومسؤوليتهم أمامه، وجماعة على بينة من مصيرها التاريخي فيها استعداد وقدرة على الجهاد. بالقرآن انكشف لجيل القرآن ما في النفس البشرية والكيان البشري الكلي من أسرار كانت غامضة حتى علمهم إياها الوحي. وبه ارتفع عن أعينهم التناقض الظاهر العقلاني بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والجماعة، بين البشر والكون. بالقرآن ابتنيت نفوس مؤمنة، ومجتمع مؤمن، وحركة في العالم إيمانية. بالقرآن عرف أهل القرآن الله عز وجل، وبه استناروا في سلوكهم النفسي ومعراجهم الروحي في معارج الإيمان. وبالقرآن كانوا القوة التي حطمت باطل الشرك، وبه أقاموا العدل.
[1] من شهر صفر 1403
[2] الشورى: 52-53
[3] النجم: 1-4

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:19 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
الضلالة لا توافق الهدى
كان القرآن مصدر العلم للجيل القرآني. يعلمون أنه العروة الوثقى. به يستمسكون والهدى منه يلتمسون. يُثَوِّرونه -كما يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- ليستنبطوا منه الحق. ويحكمون بحكمه في صغير الأمر وكبيره. في الحيض والنفاس أخص خصوصيات الإنسان، وفي قتال العدو وتمكين دين الله في الأرض أعم الشؤون وأوسعها مدى. واليوم طرد القرآن وطرد أهله. فانكسف وجه الإسلام حتى في عين أمة الإسلام. هذا رجل من الجيل القرآني يتحدث عن القرآن ويتخوف على الأمة الظلام إن نبذت القرآن. يقول الإمام علي عليه السلام:
"فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وآله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه وأحكمه. ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه، وليُقِرّوا به إذ جحدوه، وليثبتوه إذ أنكروه". وتحدث عن زمان يخاف أن ينبذ فيه القرآن. يقول: "فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم (وجود جسم المصحف وتلاوة التالي بمعزل عن أمر الأمة)، ومعهم وليسا معهم. لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا. فاجتمع القوم على الفرقة، وافترقوا على الجماعة. كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم. فلم يبق عندهم منه إلا اسمه"[1].
يقول الإمام علي كرم الله وجهه: "أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانتقاض من المبرم. فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به. ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق. ولكن أخبركم عنه: ألا إنَّ فيه علم ما يأتي، والحديث على الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم".
كيف نعود ونتخذ القرآن إماما، وكيف نجتمع عليه علما وعملا، وكيف "ننظم" به ما بيننا. هذه هي الأسئلة الجوهرية. ولله در الإمام إذ يقول: "أرسله بحجة كافية، وموعظة شافية، ودعوة متلافية (تداركت الناس قبل هلاكهم). أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبين به الأحكام المفصولة (المفصّلة). فمن يتبع غير الإسلام دينا تتحقق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته (سقطته)، ويكن مآبه إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل"[2].
عروتنا منفصمة وكبوتنا هزائم فظيعة في كل ميدان والاسم الإسلام على الواجهة. والكتاب يتلى في المذياع والأشرطة. والشقوة تزداد تحققا. ودواء دائنا في القرآن ودولة القرآن. ودولة القرآن إنما تستحق الاسم إن اتخذنا القرآن إماما، كل القرآن، في كل المجالات، فإن الضلالة لا توافق الهدى.
[1] نهج البلاغة ج2 ص30-31. هذا كتاب نفيس يعتبره الشيعة أوثق مصادرهم. وعندنا من يشك في نسبته. واقرأ مقدمة الشيخ محمد عبده للكتاب لتطلع على مدى تأثير الكتاب ببيانه وصولته
[2] نفس المصدر ص61-62

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:19 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
فرقان وبرهان وإحسان
قال الله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [1].
وقال عز من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ [2].
وقال سبحانه: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ [3].
[1] الفرقان: 1
[2] النساء: 174
[3] لقمان: 2-3

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:20 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
فرقان
يَعْمَى السائرون في تخمينات الفكر عن هداية القرآن إذ يحسبون القرآن كلاما من الكلام. والمومن يتلقى توجيه كلام الله إذعانا ورضى كما تلقاه العبد النبي الرسول صلى الله عليه وسلم وحيا وخطابا ورسالة. كلام الله صفة من صفاته. فهو من عند الله الذي أنزل على عبده الكتاب، "نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يَضِل نهجه، وشعاعا لا يُظلم نوره، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه"[1].
فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق هداهم الله بالقرآن، وفريق حقت عليهم الضلالة. فريق اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله، وفريق اعتصموا بحبل الله جميعا وما تفرقوا. فريق تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم، وفريق أقاموا الدين وما تفرقوا فيه.
الفيصل بين الإيمان والكفر موقف الناس من القرآن. و"ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان في عمى" . كذلك نزله الله تبارك وتعالى على عبده فرقانا. تحت دولة القرآن سيبقى من يتخذون القرآن مهجورا، لكن أهل القرآن حاملي الرسالة المبلغين عن رسول الله، المترجمين عن كتابه، يجب أن يخدموا الغايات التي رسمها القرآن، ويسخروا لذلك ما في أيديهم من سلطان. في دولة القرآن يجب أن يسود القرآن سيادة مطلقة. من لا يدخل تحت لوائه فذلك فرقان ما بيننا وبينه.
[1] نهج البلاغة ج2 ص177

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:20 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
برهان
في هذه العهود سادت العقلانية الكافرة الغازية، وتسلل إلى فكر المسلمين نغمة جديدة ما عرفها من سبقونا بإيمان. فمنذ نحو قرن مضى تقرأ وتسمع تمجيدا للعقل، وتقرأ وتسمع هولا مهولا: أن القرآن قرين العقل. ومن وراء الكلمة ما لا يجسرون على إظهاره. من ورائها أن العقل هو الإمام. واقفز سطورا ثم اقرأ أمجاد العقل الذي بنى حضارة أوربا.
معنى كون القرآن برهانا كما قال الله تعالى، ومعنى كونه نورا مبينا، أن كلام الله هو المرجع، به يبرهن على الهدى والضلالة، على الصلاح والفساد، على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته. أما أجيال الإلحاد فباتت عميّة عن القرآن البرهان حين تدعو إلى "قراءة" القرآن قراءة جديدة. أي معالجته النقدية بأدوات العقلانية والتاريخانية، وربطه بمحمد البطل البليغ، وقطعه من ثمة عن الجناب الإلهي. ربطه بظروف الجزيرة العربية على عهد البعثة، ومن ثمة الحكم عليه بالتخلف في مضمار الفكر عن العقل البشري المتأله الذي صنع الصواريخ، وابتكر الحاسوبات الإلكترونية، وحلل التاريخ، وضبط -في زعمه- سير الحضارة، وهيمن على الكرة الأرضية، وغزا الفضاء، وركب أعضاء صناعية للمرضى، وفتح للبشرية أبواب مستقبل العالم. القرآن في حسبان هؤلاء الخَلْف يدخل في حيز ضيق من العقل البشري المتطور، في ركن مغبر بصفته جزءا من التراث المصون في متاحفه.
معنى كون القرآن برهانا أن نحكم بكلام الله الأزلي على عقل البشر المخلوق العبد الخاضع لتطورات الزمان والمكان. معناه أن يجلس العقل مجلس التلميذ يستهدي الوحي ويستنير به. فمن جالس القرآن هكذا أبصر النور. ومن عمي فلا مخرج له من شبكة العقلانية بجانبيها الفلسفي المُخرِّص والعلومي المخترع. شبكة صنعتها من حولها هذه الخفاشة العمياء لتمسكها عن مراتع هلاكها في عالم النور. الإيمان بالله وكتبه ورسله هلاك العقل المتأله المعبود.
قد يكون من التلاميذ الذكي الألمعي مثل الجيل، بل الأجيال، الذين ثوروا القرآن بعد أن اتخذوه إماما. وقد يكون التلاميذ البلداء لا يحسنون مجالسة القرآن، ولا الفهم عنه، ولا تحويل أوامره لصيغ تطبيقية. وقد كان ولا يزال من المسلمين الصادقي العقيدة من كانوا أقصر من أن يترجموا عن القرآن. لا عن خيانة بل عن وفاء حرفي بليد. وسيطرح السؤال في دولة القرآن عن وظيفة العقل وحدوده، عن علاقته بالوحي المنزل ومكانه منه. وهنا أيضا يجب أن يكون البرهان في الجواب هو القرآن لا من تحدث باسمه فأخطأ، ولا من اجتهد فقصر، ولا من حرف وخان. لماذا اختنق العقل فكان اختناقه سببا لانحطاط المسلمين؟ لماذا انحطوا والقرآن فيهم يتلى؟ لماذا هزموا والقرآن قوة؟ وجهلوا والقرآن علم؟ وتظالموا والقرآن عدل؟ وتعادوا وتقاتلوا والقرآن أخوة؟
تاريخنا بشري، والقرآن شاهد على أخطائنا وبرهان علينا. ما اختنق العقل تحت دول العض والجبر، بل خُنق. القرآن كلمة الله. ومن فهم هذه الإضافة العظيمة، وهي نسبة الكلمة لله جلت عظمته، ثم علم أن هذه الكلمة موجهة إليه، وأنه مسؤول عن طاعة أمر الله المنزل فيها لا يكون عبدا لغير الله. لا يطيع الحاكم في معصية الله.
تآمَرَ حكام العض والجبر على سد باب الاجتهاد وصادروا العقل المستنير بالقرآن وخنقوه. وبذلك أغلقوا منافذ الحرية والمسؤولية عن الناس. ثم إن تاريخنا عرف الحروب الداخلية والغزو الخارجي وفتنة العقل حين سُخِّرَ العقل لتأويل القرآن تأويلا يبرر به كل فريق مذهبه الذي يحارب مذاهب أخرى على الزعامة والملك. في هذا الجو لا قرار للناس يسمح بتأثيل ثمرات العقل. حارب العقلُ العقلَ -والقرآن تَبَعٌ مبرر- في حروب الفتنة الأولى، ثم في قتال السنة والشيعة، ثم في مناظرات العلماء الجدلية. علماء إلى جانب الحكم يستنطقون القرآن بما يُطْرِبُ أهواء الحكام، يترجمون عن الهوى الساكن فيهم. وآخرون يقاتلونهم، فتصطدم الأسلحة العقلية، وتنعكف، وتنثني، وتعوج بآثار الاصطدام ونار الحمية. والعقل آلة لا تنفصل عن حياة الناس اليومية وهمومهم ومصالحهم وخصوماتهم.
العقل ليس مَلَكاً محلقا في فضاء البراءة والإخلاص. بل هو قسمة سماوية موحولة في أسباب الأرض، لاصقة بها. سيما إن لم يُجالس العقلُ القرآن المجالسة المطولة، أو لم تكن له الأهلية لتلك المجالسة.
أشَعَّ العقلُ إشعاعا متألقا في حياة الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن لهم ركام فكري يحجب عنهم نور الوحي. فاحتل العقل في خدمة القرآن مكانته، وانطلقت قوى الجماعة، وربحوا خيري الدنيا والآخرة. وتألق العقل في خدمة القرآن على يد علمائنا عبر كل الأجيال إلى يومنا، خاصة في الفقه والحديث وعلوم النقل باستثناء مجالات السلطان ومشروعيته، وسياسة الأمة وفروضها، وقسمة الأموال. كان علماؤنا يسمون الحكام ظلمة ثم يُسْكِتُون العقل مخافة أن تزيد الفتنة اضطراما.
واتصل المسلمون بالفلسفة اليونانية فتلقفتها أجيال دخلوا في صراع مع العقل الأصيل الذي بقي على فطرته تلميذا للوحي أصيلا قويا. انبرى المعتزلة لدحض أفكار الفلاسفة الملحدين، فما لبثت الخلطة أن أصابت الفكر المعتزلي بعدوى التخريص فأخذ في الطعن على الوحي ابتداء من القول بخلق القرآن، وذاك مذهب يهواه بعض معاصرينا الفلاسفة المؤخرين الذين يعتبرون القرآن تراثا عتيقا يستحق كل تمجيد كما تستحق المخلفات الموروثة، شريطة أن يبقى على رفوفه، ولا بأس أن يكون ترنيمة يتلهى بترديده الغيبيون السذج.
ظهرت عبقرية العقل المسلم في ميدان العلوم فأثَّثَ حضارة رائعة، وتقدم في منهاج البحث والاختراع، حتى أصابته النكبة التي خنقت العقل في كل مظاهره.
وفي غد دولة القرآن نواجه عالما يؤله العقل وينكر الوحي. بلغ العقل أوْجَهُ اليوم. وشقيت الإنسانية بقيادته ومخترعاته: إنتاج واستهلاك، نمو اقتصادي لا حدود له، إنسان دابة على الأرض لا غاية له، ألف مليار دولار سنويا لإنتاج الأسلحة، خمسمائة مليون نسمة في العالم تتضور وتموت جوعا، خمسون مليون طفل في العالم يموتون مرضا وفاقة كل سنة. على رأس كل نسمة بشرية في الأرض ما يعادل خمسة أطنان من المتفجرات على شكل قنابل وصواريخ نووية. مجتمعات متخمة وأخرى منهوبة. تلك متعلمة آمنة، وهذه مجهلة تخوض حروبا يدبرها ويمولها ويسلحها الأسياد. والعالم غارق تحت سيل من الدعاية للعقلانية وحضارة العقلانية. العقلاء من القوم يولون وجوههم شطر الإسلام عسى نفحة من الوحي تعيد الأمل للإنسانية المعذبة بعقلانية العقل الزائغ عن وظيفته.
القرآن يجب أن يكون البرهان على مكان العقل بين المخلوقات. للعقل وظيفة مرسومة يجب أن ينشط فيها كل النشاط. له حدود معلومة لا يتعداها إلا حصد الإنسان الوبال.
فكيف تتصرف دولة القرآن مع العقل، وأية مجالات تفتح له، وبأية وسائل تراقبه؟

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:21 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
إحسان
إن هذه الجوهرة الثمينة التي أودعها الله سبحانه في الإنسان وسميت العقل كائن لا يخضع لمراقبة من خارج. يمكن إخماد أنفاسه بقهر الناس وإماتتهم، لكن مراقبته وتحديد حريته تفضي به إما إلى تمرد وثورة أو إلى سكون وذبول فموت. فما يبقى إلاَّ مُراوَدَتُهُ بالإقناع حتى يتجاوز العتبة التي في أسفلها يكون خادما للهوى المتجدد والنزعات المتلونة، ومن فوقها يتنفس نسيم الإيمان ويصبح عبداً للرحمان.
يقترن ذكر العقل في القرآن بذكر القلب. قال الله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [1]. فنفهم أن من الناس من يعقل بالهوى، ومنهم من يعقل بالقلب.
القلب المومن هو الذي يعقل عن الله. العقل المُعتبر شرعا هو وظيفة قلبية تابعة للإيمان. وفي هذا يكون خلاص العقل من رِبْقة الهوى. معنى هذا بلغة العصر أن العقل بلا غاية تتجاوز الإنسان، وبالتالي تتجاوز العقل الإنساني المعاشي والمصلحة المباشرة والكون المنظور، يبقى فراشة تحترق حول ينابيع المعارف الكونية محجوبا عن مصدر الكون ومعارفه. وهو الله الخالق جل جلاله.
تجد العقلانية تفرض في الفيلسوف المُخرِّص والعالم الباحث صرامة المنهجية، وحياد العقل، وتحري النتائج المنطقية حسب المنطق المختار. وتفرض خاصة عزل العقل عن العاطفة. ومن تلك الصرامة وهذا العزل تولدت الحضارة المتحجرة اللا إنسانية التي يُسيطر بأسها على العالم اليوم. العقل غاية لنفسه، يتأمل ذاته بإعجاب وغرور في استدلالات الفيلسوف ومخترعات الباحث. ولا يبقى وقت ولا مكان ليسأل العقل نفسه من أنا ومن أين جئت وفيم كل هذا؟ ما خرج العقل العقلاني من تأمل الكون بدرس الذين يعقلون العقل المطلوب. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [2].
الكون آيات وعلامات، والعقل آلة زائغة فاشلة إن اشتغلت بالأثر عن المؤثر، ووقفت عند مظاهر الخلق، تقبل ببلادة التفسير العقلاني الذي يقول إن كل هذا لا معنى له. فمن يزعزع العقل المتحجر على ماديته من هذه المواقع المحصنة؟
الجواب أن دعوة الرسل وخطاب الله عز وجل عباده في القرآن يعتمدان على إثارة كوامن الإنسان التي خلقها سبحانه قبل العقل ومن وراء العقل وفوق العقل في طيات الكائن البشري حتى يميل المعنى الإنساني المسمى قلبا إلى "سماع" الحق. وكلمة "سمع" في القرآن أساسية. فهي في القرآن مفتاح القلب ومدخل الإيمان. وهي في القرآن كثير. قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [3]. على العقل أن يجالس القرآن والداعيَ ويتلمذ له و"يسمع". فالسماع بهذا المعنى القرآني هو مصدر العلم. ثم يتسرب الإيمان للقلب، ويتسع القلب ليكون وعاء صالحا لاستيعاب القرآن ورسالة القرآن.
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: "أوتينا الإيمان قبل القرآن"، يخاطب جيلا لم ينزل القرآن فيهم وإنما نزلوا هم بعد نزول القرآن. فيقول: "وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فأنتم تنثرونه نثر الدقل". أخرجه وصححه الحاكم رحمه الله. والدقل رديء التمر.
العقل الفطري الذي تفتح فسمع بسماع القلب، وآمن بإيمانه، يَسْبِقُ إليه تعظيم المتكلم بالقرآن، وتصديق المبلغ للقرآن، فيهتدي. أما الذي استعرض صفحات المصحف، أو سمع سماع المتكئ، أو "قرأ" قراءة الفيلسوف المؤرخ، فالقرآن عنده بضاعة كسائر البضائع الكلامية. يستهين به كما عبر الصحابي الجليل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي رحمهم الله. وأثنى الله سبحانه على المحسنين في كتابه فوصفهم بأنه يحبهم، وأن رحمته قريب منهم، وأن لهم عنده الجزاء والأجر، وأنه سبحانه لا يضيع أجرهم، وأن كتاب الله الحكيم هدى ورحمة لهم كما قرأنا أول العنوان من سورة لقمان.
الإحسان درجة فوق الإيمان، والاهتداء بالقرآن والاسترحام به والاستدلال بآياته الحكيمة وآيات الله في الكون لا يحق لنا منه نصيب إلا بمقدار ما معنا من إحسان. أي من تعلق بالله جل جلاله واستماع لكلامه مستحضرين من يخاطبنا وما يريد منا وما يريد بنا وإلى أي مصير يصيرنا. وبهذا يكون محور حياتنا هذا الموقف الإحساني، وتكون قبلتَنا الله جلت عظمته، ويسارع العقل لإسعاف كياننا العام في عبوديته لله وحده لا شريك له. وبالإقناع الدعَويِّ فقط يمكن للعقل أن ينتقل هذه النقلة لا بالإكراه والمراقبة. الإقناع الدعوي يبدأ بصحبة في الله.
ثم إن القرآن خاطب المومنين عامة -والمومنون على درجات من الإحسان متفاوتة- بالتكاليف الشرعية. فإذا كان من يقرأ القرآن أو يزعم أنه يحكم بالقرآن وقلبه خاو من الإيمان فلا يعدو زَعْمُه وقراءته أن يكونا ثوبَيْ زور ملفقين على دخائل النفاق والاستهزاء بكتاب الله.
يعني هذا أن ركائز دولة القرآن لا يمكن أن تكون ضرورة سياسية، ولا احتراما للتراث، ولا اقتناعا بجدوى المذهب الاقتصادي السياسي الاجتماعي للقرآن، ولا قهرا على رقاب الأمة باسم القرآن. إنما عماد دولة القرآن الإحسان، أي موقف جماعة المسلمين من ربهم موقف العبيد المطيعين. شمولية العبودية التي لا تبعض فتشرك بالله وأمر الله جزئية في الحاكمية، أو التشريع، أو الأخلاق، أو الفكر، أو الاقتصاد، أو السياسة، أو النظام الاجتماعي. عبودية لله شاملة، لا شمولية إديولوجية تستعبد الإنسان.
لا يمكن هنا أن نتخطى سؤالا يطرحه العصر على المسلمين. وهو: كيف تتصورون شموليةً لا تصب مجتمعكم الإسلامي باسم الإسلام وشمول شريعته في مسار الظلم واحتكار السلطة واستعلاء الحاكم على المحكوم واستعباد الإنسان في الداخل والعدوان عليه في العالم؟ كيف تتجنبون شمولية ظلم الحكم الشيوعي الذي يحتكر فيه الحزب كل ما تقوم به حياة الناس باسم شمولية المذهب؟ عن هذا السؤال وأمثاله يجيب هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
[1] الحج: 46
[2] البقرة: 164
[3] الأنعام: 36

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:21 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
السنة وحي من الوحي
عندما تعرض سجلات التاريخ البشري على الباحث فيقارن، يجد لا محالة في تاريخ الإسلام على عهد الملك العاض والجبرية نصيبا من الظلم الداخلي لا ينكره إلا من لا يحب أن يعطي للكلمات معناها في الحديث النبوي وللأحداث التاريخية اعتراف الإنصاف. ومع استغراق حكم العض والجبر معظم تاريخنا، فصفحات تاريخنا أقل قتامة بما لا يقارن من تاريخ البشرية العام.
الذي ينفرد به الإسلام هو الشهادة التاريخية، المتمثلة في السيرة النبوية وفي الخلافة الرشيدة، ثم بعدُ في ومضات تاريخية هنا وهناك، بأن القرآن قابل للتطبيق، وبأن دولة القرآن ليست مثالا حالما تمخضت عنه الفلسفة الأرضية كما تمخضت عن المذاهب الفكرية، حتى إذا وقفت المذهبية على أرض التطبيق أسفرت عن ثغرات تملأها رؤوس الملايين من البشر وآلام الشعوب وأنين المقهورين وبؤس الإنسان.
مذاهب شمولية أرضية فلسفية، مثل الاشتراكية العلمية في زعمها، تكون على الورق وفي خطاب المناضلين وحماس الجماهير المظلومة أملا رائقا. ويعتمد المناضلون على غضب الناس على الظلم الحاضر ليعبئوا الإرادات في طلب مستقبل العدل والحرية والكرامة. ابحث بعد انتصار الطليعة واحتلالها مناصب الحكم عن تلك الأحلام الأولى وعن تلك الوعود الخلابة. اسأل التاريخ عن دعوة بشرية، وعن دولة بشرية، تحقق فيهما رخاء الإنسان وسعادته. ربما تشير الأصبع بعد تردد إلى عصر ذهبي استقر فيه الأمر لملك أو إمبراطور بنى الأهرام على الجماجم، أو قاد الجحافل ودوخ البلاد، أو فسح للفنون والآداب. وينفرد الإسلام وحده بتلك الصفحة السماوية من تاريخ الأرض، يَحتفظ بها كل مسلم ذكرى حية. هي صفحة النبوة ثم الخلافة على منهاج النبوة. انتظار الأمة للإمامة المهدية إنما هو انعكاس تلك الصفحة على مرآة الأمل، يؤيد إخبار السنة النبوية بعودة الخلافة على منهاج النبوة بعد عهود العض والجبر ذلك الأمل. وتحفز الصحوة الإسلامية اليوم حادِيَ الانجذاب لتجديد مثال تحقق في التاريخ ويمكن أن يعاد تحقيقه. بل يتأكد تحقيقه بإذن الله كما قرأنا في حديث الخلافة الثانية. وفرق ما بين الصورة الإديولوجية الفلسفية للمجتمع الفاضل وبين التركيب الإلهي أن تلك موكولة لقدرة البشر على حبك نظام المجتمع على غرار الصورة المتخيلة، بينما يصحب التوفيق الإلهي سعي المومنين. وكان التوفيق والعصمة رائدي السيرة النبوية.
كيف نتلافى أخطار شمولية تخنق الإنسان كما فعلت دولة الإديولوجية؟ كيف تكون خلافة على منهاج النبوة كما جاء الوعد لا استمرارا للملك الجبرية ولا تكرارا للملك العاض؟
الجواب في أن تنزل القرآن من عالم الأحكام إلى عالم الواقع إنما يتم على يد بشر. فحين كان القرآن دستور قيادة رباها القرآن، وكان به لا بغيره الفرقان، وكان هو على غيره البرهان، وكان طابع الجماعة الإيمان والإحسان، نشأت دولة القرآن امتدادا بين الأرض والسماء، تشد وحدتَه وتصونه أن يزيغ العروةُ الوثقى. فكذلك الخلافة الثانية لن تتحقق بمجرد أن الناس فهموا الأحكام القرآنية وكتبوها وتحالفوا على تطبيقها. نجاحهم في تجديد الخلافة لا يتوقف على ذكائهم وإن كان الذكاء من أهم الفضائل، ولا على ضبطهم التنظيمي وإن كان التنظيم قوة واجبة، ولا على أجهزة تُحاذي ما كان في دولة الخلافة الأولى وتحاكيها. إنما ينجحون بمقدار ما معهم من خُلُق القرآن وفرقانه وبرهانه وإحسانه.
ثم إن الأنظمة الفلسفية التي بنيت عليها الدول الفكرية صيغت صياغة تساعد على أن تحتكرها "نخبة" مثقفة قادرة وحدها على فهم النص وتأويله. كانت الكنيسة النصرانية ولا تزال محتكرة للفهم والتأويل. وكذلك الكنيسة الاشتراكية العلمية في زعمها[1]. فلذلك ثار العقل ضد الكنيسة لما شب عن طوقها، ولفظها ولفظ معها دين النصرانية. ولذلك تحكم الدول الشيوعية طبقة لا تسمح لأحد أن يشاركها في العلم ولا تأويل النصوص المذهبية، وتُسكت كل نأمَة تَنْشُد الحق. أما القرآن فخطاب الله لعباده، خطاب مباشر لا يصح أن يحتكره محتكر، ولا أن يحرم من تعلمه والقيام بحقه طالب. ولكل مومن ومومنة الحق وعليهما الواجب أن لا يطاع مخلوق في معصية الخالق. والنموذج الحي الخالد هو السنة المعصومة في نطقها كما هي معصومة في تطبيقها التاريخي على عهد النبوة. صلى الله على محمد وآله وصحبه.
[1] كتبت هذا قبل انهيار الشيوعية وتمزق إمبراطوريتها وموت مذهبها. (ملاحظة سنة 1410)

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:22 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
أمرهم شورى بينهم
ما من نظام اجتماعي فكري مُتطور إلا يضع في مثالياته النظرية حق الناس في حكم أنفسهم بأنفسهم. لهؤلاء ديمقراطية تعددية، ولأولئك ديمقراطية مركزية، وبين الفريقين طائفة الديمقراطية الاشتراكية. وكأن المذاهب الفكرية سبقت الطبيعة البشرية فوضعت لها حدودا تكف الناس عن التظالم والتآكل. وكأن هذه المذاهب حين أدرجت في نظمها حق الناس في حكم أنفسهم جعلتها جامعة مانعة. وعند التطبيق، عند الانتقال من القانون إلى الواقع، يظهر قصور النظرية عن استيعاب الطبيعة البشرية وإمكاناتها، لا مكان في هذه الأنظمة لشيء زائد عن المصلحة الدنيوية المادية. فإذن لا حديث فيها عن التربية الخلقية إلا بمقدار ما يلزم للمواطن أن يكون صالحا أو رفيقا أو مناضلا. فصلاحية المجتمع الرأسمالي أن يكون المواطن نشيطا منتجا حاذقا ماهرا في تحصيل الربح إن كان مالكا، ماهرا في الدفاع عن الأجر وظروف العمل إن كان عاملا. وهكذا. وفي المعسكر الآخر صلاح الرفيق أن يسمع ويطيع ويخلص للحزب ويكدح كالعبد في خدمة آلة الدولة وكبرائها من الطبقة الحاكمة. هنا وهناك ديمقراطية. الواحدة منهما ترخي العنان في نطاق قانون الغابة الرأسمالية، والأخرى تشده شدا منكرا في وحشية غابوية. فإذن لا هي جامعة ولا مانعة تلك الأنظمة والمذاهب.
اسمع كيف يصف الله عز وجل شورى المسلمين، وكيف وردت في سياق إيماني لا يفصلها شيء عن الشرعية الكلية التي تحرر الإنسان من بغي الإنسان حين تجعله عبدا لله وحده لا شريك له. قال تعالى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ [1].
لا إله إلا الله، ما عند الله خير وأبقى. فمن هذه الزاوية ينظر المومن لأمر الدنيا، ومنها يعالج المومنون أمرهم بالشورى وقد تطهروا من الآثام والفواحش. ولمكان ما عند الله في قلوبهم يغفرون إذا غضبوا. ولنفس السبب ينتصرون على البغي ولا يقبلون الظلم.
سياق جميل؛ لكن هل تجسد هذا في التاريخ؟ نعم، وهذه خاصية الإسلام أنْ جاء مع القرآن الشاهد التاريخي: السنة النبوية والخلافة الأولى.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:24 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
رحماء بينهم
قال الله تعالى: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [1].
الموقف الكلي للعبد المحسن أمام مولاه عابدا ضارعا سامعا مطيعا لا يُوَلِّدُ أنانيةَ راهب الكنيسة الذي يحتكر الفهم وينتصب ليُعْبَدَ من دون الله، ولا أنانيةَ الزعيم الذي يُفيض من عليائه الشرعية على سياسة الوقت.
رحماء بينهم، وأشداء على الكفار. هذه السنة، وهذا هو المنهاج النبوي في علاقة العباد بربهم، علاقة تنظم الجماعة في سلك الرحمة الإلهية الممتدة بركة من السماء وشَجَنَةً بين المومنين على الأرض. القرآن هدى ورحمة وبشرى للمحسنين. وحول محمد صلى الله عليه وسلم صحابة رحماء بنفس الرحمة، مهديون بنفس الهدى. قرآن يتلى فيتجسد حقائق تسعى بين الناس. وحي يأتي به جبريل عليه السلام فلا يلبث أن يتحول التعليم القرآني حياة نابضة بالأخوة والقوة. الركع السجد لا يبتغون سوى فضل الله ورضوانه.
هنالك سلسلة من المعاني القرآنية النبوية لا تزال تتلى ألفاظها بينما حقائقها غابت عن الأذهان وغابت من أنفس المسلمين وواقعهم وتقلص أثرها في الأمة. إنها معانٍ كالنور، والبركة، والرحمة، والسكينة التي تنزل على المومنين في ساحة القتال، ومجالس القرآن، وحلق الذكر. وكأن عدوى الفكر الجاهلي والإرهاب الفكري الذي يطارد الغيبيات جعل بعض المسلمين، غفر الله لنا ولهم، يتنازلون عن إيمانهم، حتى إن بعضهم فسر الجن بأنه يشبه أن يكون نوعا من المكروب، وبعضهم أحال القرآن نوعا من دائرة معارف كونية. إن لغة الجاهلية التي سرت عدواها في لغتنا كما سرت عدوى التشبه بهم في سائر أوجه حياتنا لا تتسع لتعبر عن معاني القلب. فتجد منا من لا يتجاوز في تصوره درجة التسليم لنور القرآن، وسكينة القلوب، وطمأنينتها، وسيما الوجوه الساجدة، وبركة السماء، وما إلى هذا من معجزات الأنبياء، وكرامة الأولياء، وعالم الجن والملائكة، وحقائق الجنة والنار، وأسرار القدر، والإلهام، والتحديث. كل هذا واجب الإيمان به. لكن أن يصبح كل هذا لب حياة الأمة دون أن يتسطح في خرافية شعبية، ودون أن تدخله شعوذة، ودون أن يحمل على مغالاة وانحراف، هو المطلب التربوي الأول. وما من معنى قرآني إلا وهو شعبة من شعب الإيمان، فإن نضبت شعب الرحمة وأخواتها فلا يبقى في يدنا إلا شكل القرآن وشكل الإيمان والصورة الظاهرة الحرفية للدين.
قال الله تعالى لنبيه الكريم: ﴿ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [2]. هذا معنى رحماء بينهم. رحماء بتأليف إلهي بين القلوب. فإن غاب هذا التأليف القلبي، ولا تعوضه الألفة الطبيعية بين الناس، فما يجدي توحيد الخط الفكري. في الديمقراطية التعددية يحدث الخلاف فلا حرج في الانفصال عن الحزب، فهي أساسا تعددية. وفي الديمقراطية المركزية يفرض تماسك الجسم الحزبي بالقهر والإرهاب و"الانضباط الثوري". لا مكان للرحمة هنا ولا هناك.
وقال عز من قائل: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [3]. شورى على رحمة، ورحمة تلين القلب، مظهرها العفو وحب الخير عند الله لإخوانك. ليست نقاشا على جفاف الفكر وتناطح المصالح والأنانيات. ثم توكل، والله يحب المتوكلين. وما التوكل في قاموس المذاهب الفكرية، وما حب الله عباده حتى عند من يومن بالله؟
قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [4].
وقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [5].
فإذن منة الله على أمة الإسلام أن بعث فيها رسولا يزكي -أي يربي ويطهر- ويعلم الكتاب ومعه الحكمة. نبي أمي لكيلا تحسب أنها فلسفة وبراعة وعبقرية. نبي أمي اسمه في التوراة والإنجيل، وظيفته وظيفة الأنبياء، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث، ويحرر الناس من الإصر والأغلال، كناية عن أنواع العبودية لغير الله. ومع النبي الأمي نور ورحمة وسكينة وتأييد ونصر. كل هذه معان غيبية تجسدت في المجتمع القرآني فكان ظهور الإسلام معجزة تاريخية. معجزة في تأليف أمة موحدة بين أعرق البشر في العصبية الجاهلية. معجزة عسكرية. معجزة أخلاقية. معجزة إيمانية. معجزة كلية جعلت من عرب أميين قادة النصر، وأئمة العلم، وهداة البشرية، ومحرري الشعوب.
[1] الفتح: 29
[2] الأنفال: 62-63
[3] آل عمران: 159
[4] آل عمران: 164
[5] الأعراف: 157

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:25 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
يحبهم ويحبونه
يجب أن نُزيل وهما يتمثل في اعتقاد أن القرآن مجرد مجموعة نصوص، وأنه متى جعلنا هذه النصوص دستورا فقد حكمنا بما أنزل الله، وخرجنا من دوائر الكفر والظلم والفسق. نعم في القرآن أحكام مضبوطة وأصول للاجتهاد وشريعة تتناول بالتفصيل أو بالإجمال كل نشاطات الإنسان وكل علاقات المجتمع. لكن الوهم الخطير هو أن نتصور الحكم بما أنزل الله عملية قانونية فقهية، بالمعنى الدارج للفقه لا بالمعنى القرآني. من الوهم أن نتصور أن دولة القرآن تقوم بمجرد رفع النصوص شعارا. والإلزام بها، والناس كالناس، والقلوب جافة من معاني الإيمان والرحمة، ناشفة منها.
كلا حتى تسمع القلوب وتستجيب لله وتقيم الصلاة الإقامة القلبية الخاشعة ليصح أن يكون أمرهم شورى بينهم، ويكون للشورى مدلول غير مدلول الاصطلاح على مسطرة ديمقراطية لتصريف شؤون الناس!
عند الناس هذا دين وهذه دنيا. لا دخل للدين في الدولة ولا تنفي الدولة حُرية الأديان ما دام في حَظيرته التي سيَّجَتْها له الدولة وحصرته فيها. وانفصام الدين والدولة حدث في تاريخ أوربا، فلما غزانا الفكر الأوربي أعدانا بالفهم الازدواجي العدائي بين الدعوة والدولة. أما في تاريخ الإسلام فلم يَجْرُأْ أحد قبل أتاتورك على فصل الدولة عن الدعوة، أي فصل معاني القلب عن مجال الحياة الاجتماعية والسياسية، فإقامة دولة القرآن على المنهاج النبوي تبغي تركيبا اجتماعيا روحه الرحمة الجامعة بين المومنين، محبة وتَوادُداً عضويا يصل العباد بربهم، ويرشحهم ليحبهم الله بمحبتهم لله ولمن يحبهم الله.
قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [1].
اسمعْ أن محبة الله عباده ومحبتهم إياه وذلتهم على المومنين وعزتهم على الكافرين فضل من الله. كلمة تلحق بِسِرْب معاني الرحمة والحكمة والنور وأخواتهن. واسمع الشرط الإحساني (يحبهم ويحبونه) الذي تُبْنَى عليه الرَّحِمُ الإيمانية التي بها كانوا رحماء بينهم أشداء على أعدائهم. نرجع إن شاء الله في فصل لاحق للحديث عن الولاية بين المومنين.
أيّ عبد موفق لا يطير فرحا حين يعلم أن الله عز وجل يحب من يحب، وأنه يقربه، ويفعل به ما يفعل بأوليائه مما يحفل بذكره والتشويق إليه القرآن والسنة؟
واتباع الرسول الهادي ومحبته شرط في ذلك. قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [2]. فمن هنا حرصنا على التمهيد للحديث عن الدولة بالحديث عن الإيمان والإحسان. وبهذا لا يكون بحثنا عن المنهاج النبوي خارج المنهاج النبوي، وكأنَّ هذا المنهاج حيلة فكرية، أو مهارة نظرية، أو أسلوب سياسي، أو تنظيم يبني المجتمع من خارج بقهر الدولة. المنهاج اتباع، والاتباع هو السنة. وهي وحي من الوحي. هي روح من أمر الله: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [3]. روى أبو داود والترمذي والإمام أحمد بسند صحيح عن المقدام بن معديكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني، هو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله" . هذه رواية الترمذي. وعند أبي داود يبدأ الحديث هكذا: "ألا أني أوتيت الكتاب ومثله معه" .
قوم حملوا الحديث النبوي سلاحا يقاتلون به المومنين، يبدعون ويضللون ويكفرون. وقوم من الدعاة على أبواب جهنم أنكروا السنة إطلاقا. أولئك أحالوا دين أبي القاسم الرؤوف الرحيم بالمومنين نقمة على المومنين، وسنته ربْقة، فأشاعوا الكراهية بين المسلمين. جمع الله لهم مع عزتهم على المومنين ذلة على عتبات حكام الجبر. أما منكرو السنة فهم أشنع المتكئين أهل الخذلان نعوذ بالله.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:25 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
بناء تقوض
أين تلك الجماعة التي سرت فيها روح القرآن، وتآلفت قلوبها بفضل الله ورحمته؟ بناء قوضته ظروف التاريخ، بل قدر الله! أستغفر الله من تعابير ومصطلحات فرضتها علينا ضرورة مخاطبة الناس على قدر عقولهم. ويجد المرء حَرَجا، منذ لوَّثَ لغتَنا الشريفة أصحابُ الفكر المترجم، أن يجمع بين لسانَيْ القدَر والشرع كما يجمع القرآن وتجمع السنة. وهذا من التقويض التاريخي.
إن عرض حاضرنا على السنة المطهرة كفيل أن يكشف لنا بالمقارنة فداحة الخراب. كما أن استعراضنا لتاريخنا كفيل أن يدلنا على مراحل النقض والتدمير. كانت النظرة واحدة، وكان شمل القلب والعقل مجتمعا، وألفة القلوب رابطة بين عباد أحبوا الله وأحبهم الله حين اتبعوا الإمام المبين. كانت لهم في رسول الله إسوة لا تغيب فتنسى، ولا تضعُف فَيَفْتُرَ في الهمم طلب وجه الله. واليوم ما سبيل جمع ما أصبح شتيتا؟ ما منهاجه؟ جاهلية اليوم من نوع جديد على التاريخ. لا مكان فيها للدين إلا في رُكْنٍ تنسحب عليه أحكام القانون. الحياة الشخصية لا بأس أن تُترَك لشرائع "الأحوال" الشخصية. القاضي يطلق ويزوج في حدود عدم تعدد الزوجات مثلا. الأخلاق من شأن الأسر والمدرسة والجمعيات "الدينية". خارج المسجد لكيلا يفسدوا على الدولة توجيهها للدين. حياة المجتمع الاقتصادية والسياسية واليومية والثقافية والترفيهية لا دخل فيها للدين بتاتا. وصحوة ناشئة أمامها ركام الخراب الضخم. فماذا تجمع؟ وكيف تعود بالأمة لوحدة المنهاج النبوي وتماسك الأمة وأخُوة الإيمان والعزة على الأعداء؟
دولة القرآن في غدنا الموعود تحتاج لأسوة. قال أهل اللغة الإساء بكسر الهمزة ما يستند عليه، ومنه الأسوة. لا بد لدولة القرآن من سند تعتمد عليه. لا بد من نموذج تحذو حذوه. من منوال تنسج عليه. وليس إلا السنة النبوية المعصومة. فهي قوتنا.
إن من يبني على رسم مبتكر قد يبدع الغرائب، وقد يبدع النُّكْرَ المشوَّه. وأصحاب "اليوتوبيات" -وهي عندهم المجتمعات المثالية في خيال الفلاسفة- على علم بمصير الإنسانية البئيس من جراء ما رسموا. وما روسيا الفتك والاستعباد وأمريكا العنف والغابة ببعيد.
أما بناء الإسلام فعلى أسوة مؤيَّدَة نجحت. وإعادة البناء على ذلك المنهاج ممكنة، بل موعودة مُؤكدة. يقول بعضهم: هلم نبني ما جاء به القرآن لا نعدوه، فهو أهدى وأمتن وَصْلاً من سنة انحدرت إلينا على يد أجيال طويلة. جواب هؤلاء في الحديث الصحيح كما ورد. وآخرون يقولون: إن ضرورة الإبداع المستقبلي تقتضي أن نعالج مشاكل الحاضر والمستقبل بمناهج متطورة. فأين السنة المحترمة -أي المسكينة المتخلفة- من مشاكل التصنيع والصراع الدولي وآفاق العلم وإمكانيات التكنولوجيا؟ هؤلاء نوع ممن لا يحبون أن يفهموا أن الإنسان وحده في مصيره فوق الأرض وفي البرزخ وفي دار الجزاء هو محور الأمر كله. وإن السنة المطهرة ما هي شكل اللباس وحجم الإنتاج وأدوات العمل وأساليب الأمن والحرب. السنة النبوية روح ونور ورحمة وفضل. وهي أيضا تعاليم خالدة تنتظم سلوك العبد المنيب الحريص على آخرته في عبادته الظاهرة والباطنة، في خُلُقه وتعامله، في عبوديته لله عز وجل، عبوديةٍ مجسدة في الأسوة المعصوم صلى الله عليه وسلم. السنة شورى في الحكم، ثم لا بأس إن جلس المومنون في المسجد يدبرون أمرهم أو جلسوا في بيت خاص سموه برلمانا أو غير ذلك يتفرغون فيه لشأنهم. السنة إخاء وعدل. وذلك يقتضي حسن الخلافة عن الله في ماله، وحسن القسمة، وحسن التضامن والمواساة. لا دخل في ذلك لنوع إدارة الاقتصاد وتشجيع الإنتاج ما دام ذلك لا يتعدى حدود الله إلى الإسراف والتبذير وأكل أموال الناس بالباطل. السنة قوة. لا يسألنا الله كيف صنعنا السلاح ولا كيف نظمنا مدارس العلم ومعامل الصناعة، ولا عن تقنيات كل ذلك. إنما يسألنا وتلعننا السنة إن لم نُعِدَّ ما أُمِرْنا به من قوة، وإن لم ننظم وسائلنا البشرية والعلمية والمادية لنصنع اقتصاد القوة والكفاية ولننظم مجتمع القرآن ودولة العز بالله القوي العزيز.
السنة تنافي البدع، تنافي الشرك المتسرب إلينا مع كل خيط يربطنا برباط التبعية والتلمذة والانكسار الانهزامي أمام الجاهلية.
لا يمكن أن نجمع بين المنهاج النبوي ومذاهب العصر في أية نقطة. ومن يريد أن يبني إسلاما على منوال مستعار كمن يروم أن تلد له الفأرة غزالا.
نبدأ إن شاء الله تعالى في الفصول التالية بتأمل البناء الأول كيف تم. ثم كيف انتقض عروة عروة. ونتأمل أسباب الانتقاض، ونلتمس منهاج النبوة لإعادته كما كان.
جاء عند الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليُنقضن عرا الإسلام عروة عروة. فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم. وآخرهن الصلاة" .
بدأ الخراب من أكثر جوانب البناء حساسية وهو الحكم. لا بد أن يستقر هذا في أذهان بعضنا ممن يدافع عن الحكام على المسلمين بأي ثمن. لا بد أن نفهم تاريخنا، وأنه أطوار بدأت بالنبوة، ثم الخلافة على منهاج النبوة، ثم الملك العاض والجبرية. قرأت لبعض علمائنا تعليقا على حديث الملك العاض كله تبرير لهذا الملك واعتبار له وقبول لكون الإعلام النبوي سبق به. يكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم أطلق عليه وصفا حيوانيا هو العض، وعلى تاليه اسم الجبرية وهي حرفة الجبارين. أفما يكفي هذا؟ ثم ها هو حديث نقض عرا الإسلام يُعْلِمُ بانتقاض الحكم أولَ ما ينتقض من الإسلام. وقد كان ذلك مبكرا جدا في تاريخنا.
إن معجزة هذا الدين أن القرون الطويلة من فساد الحكم لم تقض عليه. كلمة "فساد الحكم" أقرب ما نترجم به كلام النبوة السامي العفيف حين وصم مراحل الفساد بالعض والجبر.
والصفحة الناصعة من تاريخ الخلافة الثانية أمامنا. جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ويخفون بفرح ونشاط لتشييد الإسلام بعد كنس ركام النقض في عصور الدخَن الماضي والشر المحيط.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:27 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
1 مرفق
الفصل2:"قل ما كنت بدعا من الرسل"
شوكة الكـفر
أفق الجهاد
صرامة
حكمة
رقة
علم
صيحة على الجاهلية
محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل
حبه صلى الله عليه وسلم من حب الله
محبة أصحابه الخارقة له صلى الله عليه وسلم
عظمة الرسالة

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:28 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
شوكة الكـفر
حدث على رأس هذا القرن الخامس عشر الذي نرجو الله أن يحقق لنا فيه النصر أربعة أحداث هامة في دار الإسلام. أولها قومة المسلمين في إيران أثبتت أن الإيمان الأعزل يستطيع أن يغلب نظاما يُعَدُّ جيشه خامس جيش في العالم؛ ومن ورائه أمريكا بكل خيلائها وترساناتها وأجهزتها. الحدث الثاني هجوم تتار العصر الروس على أفغانستان بوحشية ما سبق في التاريخ الإنساني مثلها في القسوة نظرا للأسلحة المستعملة. أسلحة كيماوية وطائرات عمودية مصفحة، ونظرا للهجوم المنظم على كل حي بتحريق الأراضي والقرى وقتل الناس والأغنام[1]. أما الحدث الثالث فهو غزو اليهود بيروت وما خربوا ودمروا وجزروا الأبرياء العزل. قتلوا النساء والأطفال والرجال بالصواريخ والقادُوم. أمَّا مجزرة حماة فهي أفظع من أن يكتبها قلم.
كشفت هذه الأحداث عن حيوية إخواننا العجم لما تحرروا في إيران وأفغانستان من كابوس الحكم الظالم. وكشفت عن خنوع حكام الجبر في بلاد العرب وعبوديتهم للجاهلية لما تلا حريقَ بيروت مؤتمرات وحفلات اتفق فيها زعماء العرب على الاعتراف بدولة اليهود ومسالمتها. وملأوا العالم ضجيجا أنهم صانعو سلام وعباقرة دبلوماسية.
تتوجه قوى الجاهلية وحلفاؤها من بيننا لقطع جرثومة الإسلام. فالثورة الإسلامية في إيران سخر لها أذناب الجاهلية يحاربونها بكل أنواع الأسلحة الاقتصادية والعسكرية والدعائية. وأفغانستان مختبر تجرب فيه روسيا أسلحتها المدمرة استعدادا لغزو العالم. والمقاومة الفلسطينية التي لا تحركها دواعي الجهاد الإسلامي[2]كما نحب أثبتت على كل حال مروءة المقاتل الشهم فاستحقت من كل ذي مروءة الاحترام. هذه المقاومة خذلها حكام العرب خذلانا فظيعا في بيروت، ثم تباروا بعدئذ لإيواء فلول المنظمة ليخنقوها. فيجمعنا وإياهم الاضطهاد. وعسى تفهم المقاومة الفلسطينية أن لا نصر إلا بالإسلام. ثم إن المومنين مقهورون حيثما كانوا. لا أقصد إسلام الخمول والرضى بالحكم الظالم. أقصد المومنين الذين استيقظت فيهم روح الرسالة ومعاني الجهاد وحب التحرر من الطاغوت ليعبد الله وحده في الأرض.
جاهلية غالبة، وعُصبَة الإسلام ضعيفة. وشوكة الكفر علينا عاتية.
بدأ الأنبياء والرسل عليهم السلام جهادهم في ظروف كانت الغلبة فيها للجاهلية، وما كان يتبعهم إلا المستضعفون. ما كان سر انتصارهم على الملإ المستكبرين بكثرة عدد ولا بوفرة سلاح. ومن يتأمل ميلاد البعثة المحمدية، وقلة المومنين في مكة أمام كثرة عدوهم، ثم يضع هذا الاعتبار في نطاق الجزيرة العربية وفي نطاق العالم لا يتصور أن حفنة من الرجال تستطيع ذلك الانتشار السريع الحاسم في ظرف خمسين سنة، يبلغ فيها سلطان الإسلام ودعوة الإسلام ذلك المبلغ.
ما انتصر الإسلام الأول في أية بعثة نبوية بتفوق تضبطه الأرقام وتفصح عنه الأرقام. إنما انتصرت الدعوات النبوية بالتأييد الإلهي الذي يظهر في التاريخ على صورة روح جديدة تسري في المومنين وتصوغ منهم جندا يطيع الله والرسول، وينبذ كل إله غير الله، ويقطع كل ولاء غير الولاء لله ورسوله.
[1] ثم هزيمة روسيا المنكرة وسحبها ذيول الخيبة هاربة من وجه أُسْدِ الله المجاهدين. (ملاحظة 1410)
[2] كان ذلك قبل تجَدُّدِ الانخراط القوي للحركة الإسلامية في المقاومة الفلسطينية

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:29 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
أفق الجهاد
لا يتناسب طموح المومنين اليوم وهم قلة مستضعفة، والأمة من حولهم مستنكرة لهم من جراء الحرب الإعلامية والقمعية، والجاهلية متكالبة عليهم، مع هَدَفِهم السامي في إقامة خلافة الله في الأرض. الخطاب القرآني الذي نزل على عصبة الخير الأولى يشُد من عَضُدِنَا لكيلا تغرنا كثرة العدو وقوته، ولكيلا تيئسنا قلة عَدَدنا وعُدَدنا. قال الله تعالى: ﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [1].
إن الله سبحانه ينصر من ينصره، وإن رسالة الله إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم لا تنحصر في زمان ولا مكان. إنها امتداد لرسالات إخوانه الأنبياء قبله. لكنها رسالة شاملة تستغرق الزمان إلى يوم القيامة، والمكان والأجناس والأقوام. إنها رسالة للإنسانية خالدة. فلهذا تسمو دعوة الإسلام على كل دعوة، وتنتصر ولا بد ولو بعد حين. وكيف لا يَنتصر من ينصرهم الله ويكون معهم؟ حيثما يكون الله ربا يكون جنده في حِمَى مَلِكٍ قوي عزيز. إن الأرض والسماوات ومن فيهن في قبضته. وجند الله إن استقاموا على سَنَنِ النبيئين هم صفوة الله من خلقه. وقد قدَّر الله عز وجل أن يقوى حزب الشيطان في عصرنا، وأن تنتصب الجاهلية أعتى ما كانت الجاهلية لتحارب دين الله. فإن كان الناس في الأرض يحسبون قوى الخصم بالميزان العددي والمادي ناسين وحدة الخالق وعبودية الخلق أجمعين، ناسين أنَّ يد الله هي الممدة لهؤلاء وهؤلاء، فإن جند الله ينبغي أن يستحضروا كل هذه الحقائق. وإلا كانت حركتهم واحدة من الحركات العمياء تتصادم مع غيرها من الحركات بلا هدى ولا كتاب منير.
الدعاة إلى الله على بينة واتّباع هم ورثة النبوة، لا منهاج لهم إلا منهاج النبوة. واتساع أفق طموح الأنبياء يعني تمام التوكل على الله وتمام التصديق بوعده. خطوات دعْوَتِهم عليهم السلام تُعطي التابعين الوارثين نموذجا خالدا للتربية والتعبئة والجهاد. خطوات هي الشريعة، واتساع أفق هو التعرض للقدر الموعود. وهما شقان متكاملان لنظرة المومنين وحركة المومنين. ومن ينظر بعين واحدة يخبط مع الناس.
ما بلغنا من خبر النبيئين والمرسلين قبل تاج الرسل صلى الله وسلم عليهم أجمعين لا يشكل الأسوة الكافية لتوضيح منهاج النبوة في النظرة والحركة. والكنز الغالي الذي بين أيدينا هو السيرة المحمدية تعطينا المثال الحي لمسيرة جند الله منذ ميلاده إلى تأسيس دولة القرآن واكتمال الدين.
بدأت البعثة وسط جاهلية بلاد العرب تحيط بها جاهلية منتشرة في العالم بعد أن حرف اليهود والنصارى دين الله إلا من بقي منهم على أثارة من علم. كان البشر طبقات تؤول إلى مستكبرين بقيادة دولتي الفرس والروم ومستضعفين هم سائر الشعوب المقهورة. وكذلك اليوم في جاهلية العصر. دوائر ظلمانية تنبثق من خلالها صحوة الإسلام المتجدد، واستكبار عالمي يُنِيخ بكلكله على المستضعفين.
انبعث الإسلام الأول أربعين سنة بعد أن غزا أبرهة الحبشي مكة، ووُلدت دولة القرآن في المدينة وسَطَ يَهُود، ورغم مكرهم وعدائهم وخيانتهم. كذلك اليوم صليبية ولا كأبرهة، ويهودية مسلحة بمال العالم -وصفوته مال العرب- مسلحة بالتكنولوجيا تسير يدا في يد مع الصليبية.
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قومة شاملة ضد كل شرك وطغيان. كلمته الجامعة لا إله إلا الله، هي رفض للجاهلية والاستكبار، هي تحقير لكل من يناوئ دين الله، هي عزة لا نهاية لها بالله. كذلك ينبغي أن يتحرك جند الله اليوم ليغيروا وجه العالم تغييرا شاملا، لا تغريهم إصلاحية جزئية، ولا تصطادهم حبائل المساومة ليتنازلوا عن صرامة لا إله إلا الله.
[1] محمد: 3

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:29 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
صرامة
يتراءى للملاحظ السطحي أن جاهلية هذا العصر حضارة متماسكة. وقد تكبر في عينه إنجازاتها الصناعية والعلمية إذا قاس كل ذلك بمقياس الكم. لكن الإنسان تحت الهياكل الحضارية ما أصابه؟ إنسان عصرنا وثني يعبد مصنوعاته كما كان يعبدها وثني الجاهلية الأولى. يعبد شهواته كما كان يعبدها من قبله. كان للعرب هبل واللات والعزى. وهبل هذا العصر وأصنامه أكثر إتقانا في الصنعة لكنها أكثر فتكا بأخلاق الإنسان وحياة الإنسان. هبل هذا العصر حكام متألهون. معابدهم التلفزيون والصحف وسائر وسائل الإعلام. أصنام تتكلم وتفتري وتفرض ألوهيتها على الناس. فأصنام الجاهلية الأولى أمامها هي السذاجة بعينها. أين سطو القبائل بعضها على بعض يومذاك من الهجمة الاستعمارية وضرب الشعوب بعضها ببعض نيابة عن شقي الجاهلية المعاصرة؟ أين أسلحة ذلك العصر من أسلحة الإلكترون والصواريخ؟ أم أين مرور جحافل الغزو على الخيل يومئذ من تدمير بيروت وتحريق قرى أفغانستان ومدنها؟
كان في مكة مواخير، وحول الكعبة وفي قلبها ثلاثمائة وستون صنما، لكن أين ذلك من احتلال اليهود بيت المقدس وتلويثه بالرجس الخبيث؟
كانت تلك جاهلية في روحها، وهذه اليوم نفس الروح تهيمن على العالم باسم الحضارة والتقدم. وكانت قومة الرسول صلى الله عليه وسلم قومة واحدة لم يعالج جانبا من جوانب الفساد ولم يتوجه فيها لقبيلة دون قبيلة. كانت دعوته شاملة عامة. كانت قومة الحق ضد الباطل. وأتى الأمر من أساسه حين كانت لا إله إلا الله رمز دعوته ومعناها وبرنامجها.
كان معه صلى الله عليه وسلم التأييد الإلهي يظهر في كلمة التوحيد التي ألفت القلوب فحررت الإنسان، ويظهر في شوكة الإسلام التي كسرت الجهاز الجاهلي.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:30 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
حكمة
عالمنا المعاصر يَلفه ظلام الجاهلية وتعتصره يدها الأثيمة. شجرة البِرِّ ذبلت من وَهَج الكفر، فـ"الدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور. على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها. قد درست منار الهدى وظهرت أعلام الردى(...) شعارها الخوف ودِثارها السيف"[1]. هكذا يصف الإمام علي كرم الله وجهه جفاف الجاهلية الأولى. يقول رضي الله عنه: "بعثه والناس ضُلاَّلٌ في حيرة، وخابطون في فتنة. قد استهوتهم الأهواء، واستذلتهم الكبرياء، واستزلتهم الجاهلية الجهلاء. حُيارَى في زَلْزَلٍ مِن الأمر، وبلاء من الجهل"[2]. ويقول: "فإن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا(...) فقاتل بمن أطاعه من عصاه. يقودهم إلى منجاتهم".
كانت العرب قبائل أمية. وهذا يميزها عن الوسط الاجتماعي الموجهة إليه الدعوة في عصرنا. مجتمعاتنا موبوءة بالثقافة المغربة في طائفة المثقفين، موبوءة بالخرافية والشرك والبدع على المستوى الشعبي. وعند حكامنا تمتزج ردة المغربين بشعوذة الحثالة. واسأل عرافي باريس ولندن وساحرات الأكواخ الشعبية عن زبنائهم من الحكام على رقاب المسلمين.
كانت القبائل دويلات متناحرة، لُحمتها العصبية العشائرية. فكانت معالجة هذه العصبية لفتح ذريعة فيها تتسرب منها الدعوة قضية فهم للواقع الاجتماعي إذ ذاك. لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمد إلى وجهاء كل قوم ورؤسائهم آملا أن يكون إسلامهم مفتاحا لإسلام القبيلة. كان يحدث ذلك أحيانا قليلة في الفترة الأولى، ولم تبدأ وفود العرب تجيء خاضعة لله ورسوله إلا بعد الانتصارات الحاسمة لجند الله بحد السلاح. كان المستضعفون هم أنصار الدعوة وعمادها الذي لا يكذب من أول يوم. واقرأ التعليم القرآني في قوله تعالى عن رسوله الحريص على إسلام الناس: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ [3].
كان قانونُ الصحراء يقضي أن الغَلَبَ للأقوى. فكان هناك سُلَّمٌ سلطوي بمقتضاه تنضوي قبيلة تحت جناح أخرى، ويحتمي شخص بشخص، على أن تصل السلطة العربية قمتها في محميتي الفرس والروم، محمية المناذرة وسلطنة آل غسان. ومن خلال شبكة القوة والأحلاف هذه نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم مستعملا في مراحل جهاده عُرف الجاهلية بما لا يشكل تنازلا عن أهدافه. واعتمد على ما في العرب من مروآت، فصادَقَ، وحالَفَ، واستعار السلاح من المشركين، وبعث أصحابه يتعلمون "التكنولوجيا" في الشام حتى صنعوا له المنجنيق في حصار الطائف. لم تلوثه الجاهلية ولا لوثت حزب الله تحت قيادته لما كانت القلوب طاهرة بلا إله إلا الله من كل شرك.
[1] نهج البلاغة ج1 ص157
[2] نهج البلاغة ج1 ص186
[3] عبس :1-6

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:32 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
رقة
تغلغل نور الإسلام في تلك البيئة فصنع العجب. والسبب في عودة الجاهلية العربية إلى الفطرة، السبب في انتقال العرب من جاهلية لإسلام، "أنهم، لخلق التوحش الذي فيهم، أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنَفَة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، قلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية (يقصد أولياء الله الدعاة إليه) كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلُق الكِبْر والمنافسة منهم. فسهُل انقيادهم واجتماعهم. وذلك بما يشملهم من الدين المُذْهِبِ للغلظة والأنَفَة، الوازع عن التحاسد والتنافس"[1].
[1] ابن خلدون رحمه الله في المقدمة ص266 ط.دار الكتاب اللبناني

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:32 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
علم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن كما بعث بالسيف. لا إله إلا الله حد القرآن الحاسم، وجند الله المنظم شوكة الإسلام الضرورية. لكن الإسلام، وهو استسلام قلبي لله عز وجل واعتراف به، ما كان ليبدل تلك الجاهلية الغليظة برقة الأخوة الإيمانية لولا حكمة الداعي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولولا معرفته ببيئته، تلك المعرفة التي مهدت له تبليغ رسالة ربه بالبيان والتعليم. كلمة "جاهلية" تحتوي معنيين: الجهل ضد العلم، والجهل ضد الحِلْم. هي إذن جهل وعنف. فلو كان السيف الإسلامي وحْدَه سلاحَ المرسلين لقابله سيف الأعداء، ولكانت الغلبة للأقوى عضُداً. لكن كان السيف ظلا تحته تتقدم الدعوة. يلقى السيف السيف فيُديل الله لمن يشاء من عباده على من يشاء، ويلقى الجهل العلم، وتلقى الغلظة الوحشية رقةَ الإيمان وعزتَه بالله لا بالعصبية، فما أسرع هزيمة الباطل! ما أسرع هزيمة الجهل!
كانت الأمم الجاهلية يومذاك متعطشة لكلمة الحق كما هي اليوم. لعل كلمة الحق اليوم لا تنفذ إلى الآذان والعقول لوجود الحصار الثقافي والغزو الفكري بنفس السهولة التي كانت تنفذ بها يومئذ. لكن قد رُفِعَ عنا حواجز كانت تعوق الدعوة على عهد النبوة والخلافة الأولى. إنها حواجز المسافات، وقلة وسائل الاتصال وعسرها. فهذا يكافئ ذاك.
رغم هوس الجاهلية المعاصرة وضجيجها فإن منافذ الدعوة كثيرة، أهمها شِقْوَةُ الإنسان بما يعانيه تحت ركام الحضارة المادية. إما ركام البضائع والثروة واللذات حتى الملل، وإما ركام البؤس والجوع والجهل والاحتقار. وينتظر الإنسان مَنْ يعلمه فضائل الإسلام، ويبلغه حقيقته، ليَتجلى له مدى جهله حين نسي الله. هوس الجاهلية هذه ينتظر البلاغ الموقظ ليكتشف الناس ما هم فيه من ظلام كما اكتشف العربي جاهليته. روى الإمام الدارمي عن مجاهد عن مولاه أن أهله "بعثوا معه بقدح فيه زُبْد ولبن إلى آلهتهم. قال: فمنعني أن آكل الزبدَ مخافتُها (أي الآلهة). قال: فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن. ثم بال على الصنم وهو إساف ونائلة. قال هرون: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل معه أربعة أحجار: ثلاثة لقدره، والرابع يعبده، ويربي كلبه، ويقتل ولده".
ذهنية بدائية ساذجة، تقول! ولعلك تنسى أن الأيديَ المحركة لما يسمى بالثقافة العالمية، وهم يهود هوليود وسوق الكتب والمجلات العالمية، لا يتركون حيلة "ليبيعوا" للعالم ثقافة طفولية تخفض المستوى الفكري العام، تعده ليتقبل الدعاية التجارية والسياسية ويبتلع كل كبيرة من البهتان. فمن يعلم الإنسان المعاصر قذارة الأوثان المعاصرة؟

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:33 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
صيحة على الجاهلية
من يعلم أن حضارة المادة أردته أسفل سافلين. من يعلم المسلمين الناعسين بعدُ عن حقهم تلك الصيحة الخالدة التي أيقظ بها الأنبياء أممهم: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ [1]؟
وثنية الجاهلية الأولى تُؤله الحجر والشجر، وتقرب القرابين للأصنام وتتمسح بها. بذلك فقد الإنسان كرامته الآدمية وحُرمته الإنسانية. وإنسان اليوم، والمسلمون وهم مستضعفو العالم في المرتبة الأولى، ضحايا الإهانة المنظمة على يد الجاهلية العالمية ورأس حَرْبَتها اليهود والصليبيون الجدد. التدين الناعس أصبح أرجوزة بليدة خاملة. فأين تلك الصيحة النبوية على الجاهلية؟
أقول هنا: إن البلاغ الإسلامي ينبغي ألا يحاكي الخطاب الثقافي الجاهلي في تثَنِّيه وتحذلقه الفلسفي. يجب ألاَّ ننهزم أمام العقلانية الكافرة التي تكشط من كلام من يحاور المغربين على أرضهم كل نداءات القلب الحارة. لا إله إلا الله ليست فلسفة. اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ليست استدلالا منطقيا. فليكن بلاغُنا في حدة الصيحة الشاملة المتأججة غضبا على الظلم. لا نفترها ونخمدها بالحذلقة.
[1] الأعراف: 59،65،73،85 - المومنون: 23 - هود: 50،61،84

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:34 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل
وليكن بلاغنا الإسلامي، بعد كلمة لا إله إلا الله التي يفسرها القرآن، مشبعا بالحب لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، مفعما بالتقدير لمكانته عند الله عز وجل وبالاقتناع بعصمة سنته وقيادته. فطالما طعنوا في الشخص الكريم ليوهنوا في قلوبنا حب من جعل الله حبه مقرونا باتباعه وتعزيره وتوقيره ونصرته وفدائه بالمهج. والأدهى من ذلك أن من المخربين من هم أبناء الإسلام ودعاته، ورثوا جفوة الأعراب وجفاء من لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقُوا على إسلام حرفي. ما كان صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، وما طلب إلينا أن نفضله على الرسل. لكن الله تعالى أمرنا بالتأسي به وعلمنا مكانته في مثل قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [1].
من كانت مبايعته هي مبايعة لله، ومعاهدته معاهدته، وكان المبلغ عنه، وكان حبيبه كما جاء في الأخبار الصحاح، وكان خليفته في الأرض، وكان المشرع في دين الله، يوحى إليه من لدن الله، ويعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى حيث لا يبلغ مخلوق حتى الملك المقرب، فأنى لنا بالفلاح إن لم نحبه ونوقره ونتبرك به ونتقرب إلى الله عز وجل باتباعه ومحبته والصلاة عليه؟
قوم سلاحهم الشك والتشكيك يرونها ظاهرة شرك إن سُيِّدَ في لفظ محمد صلى الله عليه وسلم، أو عُظِّمَ في اللهجة، أو سُكِبَتْ العَبرةُ حنينا إليه. أولئك ما قرأوا أنه عبد يوحى إليه، وأنه سيد ولد آدم. إنما هو عندهم عبد آدمي بلَّغَ وانتهى ووَلَّى. نعوذ بالله من الخذلان!
لننس هذه الوحشية في صحبة أحباء الله ورسوله. قال الإمام علي كرم الله وجهه: "أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا، وأعز الأرومات مَغْرسا. من الشجرة التي صَدعَ منها أنبياءَه، وانتخب منها أمناءه. عترتُه خير العِتَرِ، وأسرته خير الأسر. وشجرته خير الشجر. نبتت في كرم، وبسقت في كرم،(...) فهو إمام من اتقى، وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوؤه، وشهاب سطع نوره، وزَنْدٌ برق لمعه. سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحُكمه العدل"[2]. "بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وآله شهيدا وبشيرا ونذيرا. خيرَ البرية طفلا، وأنجبَها كهلا. أطهرَ المطهرين شيمة. وأجودَ المستَمْطرِين دِيمَةً"[3]. "أرسله داعيا إلى الحق وشاهدا على الحق. فبلغ رسالات ربه غيْرَ وانٍ ولا مقصر. وجاهد في الله أعداءه غير واهن ولا مُعَذِّرٍ. إمامُ من اتقى، وبصرُ من اهتدى"[4].
تنفسنا نسيم أهل الله فلنرجع. إن الله تعالى علمنا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الحجرات. هذا الأدب حرف لا معنى له، أم هو أدب من يريد الدخول على مقام النبوة ليعظم النبي من وراء الشخص البشري؟ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [5]. مِنَ الناس من لم تُزايلْهم أعرابيةُ الغِلظة، فساء أدبُهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كسوء أدبهم مع بعضهم. والله عز وجل يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [6]. وقال سبحانه: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [7]. أمَا كفى هذا تمييزاً لمن يعقل؟
هذا النبي الخاتم العزيز على ربه هو القدوة الخالدة للبشرية، خاتم بالزمان وخاتم بالكمال. غشِيَتْ أعينٌ لا تستنير بنوره، وخابت وخسرت ذمم فَصَمَتْ ما بينها وبينه! قال الله في حقه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾ [8].
[1] الفتح: 10
[2] نهج البلاغة ج1 ص185
[3] نفس المصدر ص200
[4] نفس المصدر ص229
[5] الحجرات: 3-4
[6] الحجرات: 2
[7] الأحزاب: 40
[8] الأحزاب: 45-4

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:34 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
حبه صلى الله عليه وسلم من حب الله
إن تمييز الله نبيه عنا لا يهدف لرفعه فوقنا رفعا يبعده عنا، لكن يهدف لتمكين هيبته في نفوسنا وتعميق حبه في قلوبنا. وكما أن تَعَالِيَ المولى سبحانه وتقدُّسَهُ لا يجعله بعيدا عن عباده بل يبقى قريبا، فكذلك هذا الرجل الذي لا يَصفو حبنا له من أكدار البشرية لو بقي في أعيننا واحدا من بعض رجالنا. وحبه صلى الله عليه وسلم من حب الله. ومِن حب الله والتعلق الدائم به يفيض الحب على رسوله بالإضافة والتبعية. فمهما توغل حب العبد المصطفى في قلوبنا فسيبقى حبا مضافا. ولا خطر من الشرك كما يتوهم أهل اليُبْسِ والجفوة، عافانا الله.
حب الله ورسوله ليس عاطفة -وهذه كلمة محدثة تترجم لغة بشرية- حب الله ورسوله حركة قلبية كأخواتها من معاني القلب والغيب: الرحمة والسكينة والإيمان والإحسان وما إليها. أما الغرام، الذي يعبر عنه بكلمة الحب وهي شريفة أنزلها الاستعمال الدارج عن مكانتها، فهو حركة نفسية. وتشترك الانفعالات البشرية في التسمية، فيكون للمومن والجاهلي فرح وغضب، حب وبغض، وسائر ما تعتلج به الأنفس. لكن المومن وحده المختص بحاسة القلب يفرح بالله، ويغضب لله، ويحب في الله، ويبغض فيه. أما الكافر المطبوع على قلبه فلا يعدو الانفعالَ النفسيَّ. فمن أخص خصائص المومن حياةُ القلب، لا يعرفها عالم الجاهلية. وقد مستنا عدوى العقلانية الجافة، واختلطت في مجتمعاتنا دوافع النفس البشرية المشتركة مع الدوافع الجاهلية الهِيَاجِيَّةِ المُعْدية، فضمُرَت، ثم ذبُلَت، ثم ماتت رقائق القلب من تواد، وتراحم، وتساكن. فإذا مجتمعنا تركيب تُقَعْقِعُ فيه المصالح، والعلاقات النفعية الجافة، والكراهية، والتحاسد، والتباغض، والعنف وهو الجاهلية.
ما ذاك إلا لتعطيل، بل تعطل، الحياة القلبية. وإنَّ معين هذه الحياة حب الله ورسوله. فمتى غابت هذه الشُّعبة العظمى من شعب الإيمان من حياة المسلمين هوَوْا في دَرَكات العَمَاية. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "إن من أحب غير الله، لا من حيث نسبتُه إلى الله تعالى، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى. وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود لأنه عين حب الله تعالى. وكذلك حب العلماء والأتقياء، لأن محبوبَ المحبوب محبوب. ورسول المحبوب محبوب، ومحب المحبوب محبوب. وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل، فلا يتجاوزه إلى غيره. فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى. ولا مستحق للمحبة سواه"[1].
روى الإمام البخاري رحمه الله عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر ابن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنتَ أحبُّ إلي من كل شيء إلا نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم" لا! والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر!" .
وروى الشيخان رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لياتين على أحدكم يوم ولا يراني. ثم لأنْ يراني أحبُّ إليه من أهله ومالُهُ مَعَهُم" .
فهذا تشجيع مؤكد لحبه صلى الله عليه وسلم حبا على الأرض وبعد أن قبض. ويقسم أن حبه المطلوب شرعا هو ما تجاوز المَيْلَ المضاف إلى نفسك وطبعك لترتفع به فوقها.
وأنه لا إيمان بدون محبته صلى الله عليه وسلم لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يومن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" .
ولا يذوق حلاوةَ الإيمان ذائقٌ إلا بها. روى الشيخان رحمهما الله عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" .
[1] الإحياء ج4 ص258

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:35 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
محبة أصحابه الخارقة له صلى الله عليه وسلم
إنَّ عقلنة الإسلام وصَفَّهُ مع المذاهب الفكرية كارثة. وإن حياد العقل عن الهوى والنفس واضطرابها ضرورة لكيلا تكدر منابع المعرفة عفونات النفس وظلامها. لكن معاني القلب الإيمانية نور، ووصل العقل بنور القلب يفتح له مجال العلم الإيماني والإحساني. وإنما أُتينا من رفقة العقلانية الإلحادية وأنماط التفكير الجاهلي، حتى أصبحنا لا نميز بين نور القلب، وقد غاب من حياتنا، وبين هواجس النفس وضبابها وظلامها التي تعلمنا المنهجية العلمية أن نحترز منها ونعزلها. وإن استئناف الحياة الإيمانية تحت دولة الإسلام يقتضي أن نعيد تأسيس مناهج العلم ومناهج الحياة الاجتماعية فنعيد إلى الرحمة والحب في الله وأخواتها مكانتهن.
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخجلون من التعبير عن حبهم الشديد له، حب قلبي صادق، لا كوثنية عبادة الزعيم، وتهييج الجماهير بالخطب والمهرجانات. أخرج الطبراني رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب لي من ولدي. وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى أتِيَ فأنظر إليك. وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفِعْتَ مع النبيئين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: " ﴿ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ﴾ [1].
محبة خرقت الطبع المائل لمحبة النفس والولد، وخرقت حجاب الموت، ونفذت إلى الآخرة!
وروى الطبراني رحمه الله حديثا حسنه الهيثمي رحمه الله عن حصين بن وحوح الأنصاري رضي الله عنه أن طلحة بن البراء رضي الله عنه لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم""جعل يلصق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقبل قدميه. قال: يا رسول الله! مرني بما أحببت ولا أعصي لك أمرا! فعجب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو (الصحابي) غلام. فقال له عند ذلك: "اذهب فاقتل أباك"! فخرج موليا ليفعل. فدعاه فقال له: "أقبل فإني لم أبعث بقطيعة رَحِمٍ"! فمرض طلحة بعد ذلك، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده في الشتاء في برد وغَيْم. فلما انصرف قال لأهله: "لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت. فآذنوني (أخبروني) به حتى أشهد وأصلي عليه. وعجلوه". فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم بن عوف حتى توفي وجَنَّ عليه الليل. فكان فيما قال طلحة: ادفنوني وألحقوني بربي عز وجل. ولا تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخاف عليه اليهود أن يُصاب في سَبَبي (لمروره ببلد اليهود في عيادته إياه). فأخُبِر النبي صلى الله عليه وسلم حين أصْبَحَ. فجاء حتى وقف على قبره، فصف الناس معه، ثم رفع يده فقال: "اللهم القَ طلحة تضحكُ إليه ويضحك إليك"" .
لوحة رائعة تصور العلاقة الحميمة بين نبي الرحمة وأمته حتى الغلمان. أرأيت كيف يعلم النبي صلى الله عليه وسلم محبته عمر رضي الله عنه، وكيف يُقسم عليها، وكيف يمتحن عليها كما امتحن الغلام رضي الله عنه! محبة تَفدي بالنفس، وتصحَب عبر الموت، وتجعل المحبوب وأمنه مركز الهم، يُنْسَى معه الكرب، حتى كرب الموت!
حدث ابن إسحاق رحمه الله أن سعد بن معاذ رضي الله عنه "اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أن يبنوا له عريشا يكونُ فيه. قال: "ثم نلقى عدونا. فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا. وإن كانت الأخرى جلستَ على ركائبك (أي ركبت عليها)، فلحقت بمن وراءنا من قومنا. فقد تخلَّفَ عنك أقوام ما نحن بأشدَّ حبا لك منهم. ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك" .
بهذا ومثله ندرك أهمية الحب في الله في حياة الأمة المقاتلة. أشداء على الكفار رحماء بينهم. تلك الشدة توَتُّرٌ يستند إلى هذه الرحمة، وتستمد قوتها منها. يقاتلون حبا لله وفداء لرسوله ورحمة بينهم. حبل الحب لله وفي الله ممتد قوي وثيق. لا جرم أن تنكسر على حده قوى العنف الجاهلي وعصبياته.
[1] النساء: 69

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:35 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
عظمة الرسالة
رسول كالرسل ما هو بدع منهم، لكنه خاتمهم وإمامهم. أمِرْنَا أن لا نفرق بين أحد من رسل الله. أيْ أن نومن بهم جميعا، وأن نعتقد أن الإسلام دين الله دينهم جميعا. وجاءنا في الحديث النهي عن تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على يونس بن متى. كما جاءت أحاديث يذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إخوانه الأنبياء بحب وتقدير وتواضع.
لكن الرسالة الخاتمة العظيمة نزلت على إمام المرسلين. فيجب أن نعرف مقامه. ولا يمنعنا ذلك العلمُ من إعطاء كل ذي حق حقه، فلا نفرق في الإيمان، ولا نفضل حيث يكون التفضيل تفاخرا.
وقد وردت أحاديث كثيرة في مناقب سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. قراءتها ترفع بعض الحجب عن المتردد. يُرْجَى ذلك إن شاء الله.
نزلت على الرسول الكامل صلى الله عليه وسلم الرسالة الكاملة، قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ [1]. قال علماء اليهود وأحبارهم في هذه الآية لعمر: "إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا!" رواه البخاري وغيره. عرف الأحبارُ الحق، وأدركوا أنها الرسالة الخالدة التي وعد به الله البشرية على لسان رسله. قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [2] الشُّفُوفُ والنصر والإشعاع الذي تخبو معه كل الأجرام.
رسول خاتم ورسالة خاتمة. لا تحتاج لتكميل ولا تطوير. نُزُلاً من حكيم حميد. لا يعني هذا أن العقل المومن، وهو أيضا خَلْقُ حكيم حميد، قد عطل، وأن تحديات العصور للمسلمين بمشاكلها المستجدة يمكن أن تواجه ببلادة حامل الأوقار الذي لا يعرف ما يحمل، ولا روح ما يحمل، ولا أهمية ما يحمل، ولا سرّ ما يحمل. نحن حاملو رسالة، لكن هل نقدر معنى أن معنا آخر كلمة خاطب بها الخالق خلقه، وأكمل رسالة أنزلها رب السماوات والأرض لعباده؟
ورثة رسالة لا رشد لهم إن لم يتبعوا منهاج النبوة، ويتفانوا في حب الله ورسوله، ويتعلموا من الله ورسوله، ويهتدوا بنور الله المودَع في قلوب أولياء الله، ورثة رسالة الله، حملة رسالة لا أكتاف تنهض بعبئها، ولا قوة شوكة تدفع عنها اللصوص، ولا قوة بلاغ تخرق بها حواجز الجاهلية إلا إن استعدنا على منهاج النبوة تماسك حملة الرسالة، وشوكة حملة الرسالة، وصلاحية الائتمان على الرسالة. يقول الإمام البنا رحمه الله في وصف حملة الرسالة الأولين: "وبهذه المشاعر الثلاثة: 1) الإيمان بعظمة الرسالة 2) والاعتزاز باعتناقها 3) والأمل في تأييد الله إياها، أحياها الراعي الأول صلى الله عليه وسلم في قلوب المومنين من صحابته، بإذن الله. وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في أخلاقهم وأعمالهم، معتدين بتكريم الله إياهم، واثقين بنصره وتأييده. فدانت لهم الأرض، وفرضوا على الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة، وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدلوا فيها سيآت المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة"[3].
بهذه الدفعة انتشر الإسلام، وعلى يد أهل الثقة بالله، والاعتزاز برسالة الله، والإيمان بوعد الله خفقت بنوده في الآفاق. ثقة، اعتزاز، إيمان. كلها معان قلبية نابعة من روح الروح، بعد أن فجر فيها نور الوحي وأحيت فيها بركة النبوة معاني حب الله ورسوله.
لا يمكن أن نفسر الانتصار العظيم الخاطف لجند الله بضعف الإمبراطورية الرومية، ولا بانحلال المملكة الفارسية، ولا بتفكك الدولة الفيزكوطية بإسبانيا. كانت هناك قوة معنوية، هي قوة الإيمان من وراء القوة العسكرية التي كان التفوق فيها للعدو أضعافا. قوة خارقة مكنت الصحابة رضي الله عنهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من تطويع بلاد العرب وتنظيمها في أقل من عشر سنين، ومكنتهم في أقل من اثنتي عشرة سنة بعد وفاته من فتح فلسطين والعراق ومصر. لم تقف خيلهم المظفرة إلاَّ عند الحواجز الطبيعية مثل جبال الطورس وإيران وصحاري النوبة وليبيا.
بهر العالم عدلُ المومنين وعفتُهم ورحمتهم بالخلق بعد وحشية المستكبرين وجشعهم وظلمهم. يكتب ميكائيل السوري، نصراني من ذلك العصر، ما يلي: "إن الرب المنتقم(...) لما رأى شر الروم الذين كانوا يبتزون كنائسنا وأديرتنا ويسوموننا العذاب بلا رحمة، جاء بأولاد إسماعيل من الجنوب ليحررنا منهم.(...) ليس من الفضل الهيّن أن نتحرر من وحشية الروم وشرهم وغضبهم وجشعهم العنيف وأنْ نرتاح من كل ذلك"[4].
وحرر حملة الرسالة أمما أخرى من الرِّق الاجتماعي والاضطهاد الديني. كان حملة الرسالة قلةً عدداً، لكن عظمة رسالتهم فتحت لهم نفوس الشعوب فسهل عليهم دَحْرَ العدو بحد السيف، سيف قرين القرآن وخادمه. ينقل كارودي عن إكناسيو ألاكي قوله: "كيف أمكن لحفنة من عرب الجزيرة أن يفرضوا لغتهم ودينهم على خمسة عشر مليونا من سكان بَلَدٍ امتداده ستمائة ألف كلمتر مربع؟"[5]. يقصد شبه الجزيرة الإيبيرية التي فتحها طارق بن زياد.
خرجت الرسالة العظيمة من صحراء العرب القاحلة بعد أن أخصبت قلوب البدو الجُفاة، فإذا هم بنعمة الله إخوان. ثم انطلقوا بها يُخَصِّبُون المجتمعات البشرية، يخرجون الناس من عبودية العباد لعبادة الله، يعلمون الإنسانية نَمطاً جديدا عاليا من الأخلاق والرحمة والعدل والسياسة. قال ربعي بن عامر رضي الله عنه على بساط رستم قولته الخالدة: "الله ابتعثنا ليخرج بنا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتِها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام"[6]. والمستضعفون في الأرض تحت ظلم الجاهلية المعاصرة وضيقها واستعبادها ينتظرون حملة الرسالة جندَ الله ليحرروهم ويؤاخوهم.
[1] المائدة: 3
[2] الفتح: 28
[3] دعوتنا في طور جديد
[4] كتاب "بشائر الإسلام" لكارودي ص37. (طبعة لوسوي الفرنسية)
[5] نفس المصدر
[6] تاريخ الطبري رحمه الله

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:36 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
تركت فيكم...
هل ضاع سِرُّ تربية جيل القرآن جند الرحمان وتنظيمه وقيادته بوفاة الرسول المعظم وغياب شخصه الكريم؟ هل خبا إلى غير رَجعة ذلك النور النبوي الذي قَبَسَ منه الصحابة فوصلهم بنور القرآن وقربهم من الله جلت قدرته فأحبهم ونصرهم؟ كلا، بل هو صلى الله عليه وسلم النموذج الخالد لكل الأجيال. فمتى اكتشفنا من خلال كتاب الله وسنة نبيه سر التربية النبوية ومنهاجها انفتحت عنا أغلاق الجاهلية الراتعة في الأفئدة، المقيمة عليها، المقيدة لطاقات الفطرة الإيمانية، تمنعها من الانطلاق.
جاءت أحاديث كثيرة تأمرنا بالتمسك بعده صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنته وأهل بيته. أحاديث تضمن لنا الهدى إن فعلنا. روى الترمذي عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: وهو كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يَردا علي الحوض. فانظروا كيف تَخْلُفوني فيهما" . قال الترمذي: حديث حسن غريب.
القرآن وأهل البيت. هذه معادلة أعطاها الشيعة ما تستحق من الحرص على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. هؤلاء هم الآن، شهر صفر 1403، في عنفوان الثورة والحرب مع زعماء الجاهلية البعثية وكيلة الاستكبار العالمي. يا مرحبا بثورة تحت راية الإسلام! ومع كل ثوران وتغيير عميق تحدث اضطرابات يفلت معها زمام القول والعمل. طوينا في الحُسبان أخطاءَ الثورة الطبيعيةَ كتعاونها ضد المومنين مع نظام النصيرية الكافر وقلنا هذا حِلْفٌ اضطرت إخوانَنا إليه الحاجةُ الماسَّةُ لمَنْفَذ دبلوماسي ومورِدٍ للسلاح يخرق حصار الجاهلية المتفقة على خنق الثورة. ونطوي في الحُسبان توقف الثورة الإيرانية عن مد يد المساعدة للأمة الإسلامية المقاتلة في أفغانستان. ونقول: ثورة لها من همها ما يكفيها. لكنَّ إخوتنا عندما يعلنون على العالم ويبثون في صفوف المسلمين أنَّ إسلامهم هو إسلام آل البيت يوهمون المسلمين المتطلعين للتحرر من كابوس الجاهلية أن إسلام أهل السنة مُعادٍ لآل البيت، فتحدث البلبلة، ونسمع من الشباب أفواجا "تتشيع" كأنها تخرج من دين لدين.
إن إنجاز إخوتنا الذين زحزحوا عن صدورهم احتلال أمريكا ونهضوا هذه النهضة الرائعة لبركة من السماء. لكن رفع شعار آل البيت بما يوهم ضلال من يحبون آل البيت، دينا يدينون به الله دون أن يتسموا شيعة، يوشك أن يُفضي إلى تجذير الخلاف المذهبي فإذا البركة نقمة. سدد الله خطانا. ثم إن علماء السنة في إيران، أمام الدعوة إلى مذهب نشأ خلال قرون فهو يحمل أثرها بدل الدعوة إلى الإسلام الجامع، أخذوا ينظمون صفوفهم للدفاع عن حقهم في احترام مذهبهم. فما سمعنا تسامحا بل اضطهادا مذهبيا.
اللهم احفظ المسلمين من هذه الطامة التي تهدد، واجمع شملهم.
كتاب الله جامع، وإمامة آل البيت لا ينكرها مسلم. ومحبة آل البيت دين. فيبقى أن نسدد ونقارب ونجتهد لنجد صيغة موحدة. لا نطمع في رفع الخلاف من الأرض، فذلك طمع فيما لا مطمع فيه. لكنْ سَدُّ الذرائع لكيلا يدخل علينا مرة أخرى داءُ الطائفية الذي شتت شملنا. لا نطمع في العلاج السريع لمرض قروني، لكن نأسف إذ نرى الخطوات الأولى للثورة في إيران تتجه إلى غير ما يدل عليه الكلام الطيب الذي نسمعه من الإمام الخميني الذي يدعو لوحدة المسلمين في وجه الكفر والاستكبار، ويدعو لتخطي الطائفية. نأسف ونتألم. فهل هناك بلاغ في القمة لا يجد استجابة على مستوى التنفيذ؟ المهمة ضخمة ضخمة. ونحن نعذر، لكن نحذر.
كتاب الله وعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم توأمان. وهما الثَّقَلان فينا كما جاء في لفظ الحديث. ثَقَلاَنِ يُرَزِّنَانِ المسلمين مخافَة أن تستخِفَّهم الطائفية، أو السطحية، أو العقلانية الإلحادية، أو التأويلية التي تبعدهم عن روح الإسلام. وروحُ الإسلام هو المنهاج الذي نحتاج، ويحتاج الشيعة، أن نبحث عنه، وننفي عنه رواسب قرون الانحطاط والحروب بين المسلمين. ننفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن عبد الرحمان السلمي وحُجر بن حجر، عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلى بهم ذات يوم، قال: "ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجِلَتْ منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله! كأن هذه موعظةُ مُوَدِّع، فماذا تعهَد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً. فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. تمسكوا بها. وعَضُّوا عليها بالنواجذ. وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور. فإن كلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ" .
وصية عُلْوِيَّةٌ ما كان أنصع بيانها، وأوضح خَطْوَها، قبل أن تنشبَ الفتنة، ويُحْمَلَ السيف بين المسلمين، وتَدْلَهِمَّ الآفاق، ويفسُدَ الحكم، وتُنْقَضَ بعد ذلك كثيرٌ من عُرا الإسلام! الطاعة لعبد حبشي تعني الأخوةَ الإيمانية المُسَوِّيَّةَ للأجناس، لا تعني الطاعة العمياءَ للظالم القويِّ المتسلط كما تفسر ذلك أحاديث أخرى. ومع ذلك خضعت أجيال من المسلمين للعربي والعجمي والحبشي الظالم مخافة الفتنة وانتشارها. الاختلاف الكثير الذي خوفنا منه حبيبنا الهادي صلى الله عليه وسلم حدث، وعض كل فريق على ما يحسبه السنة الراشدة المهدية. والتقى العض المذهبي بالملك العاض، أو خالفه وحاربه، فكان تاريخُنا الممزق.
نرجو الله عز وجل أن نعبُرَ مواقعَ الردى في خطانا نحو الخلافة الثانية المهدية.
المنهاج النبوي جوهرٌ لَصق به أثناء معارك الاختلاف كثير من هذه الأدْران البشرية التاريخية. تولدت الشكوك في الرجال، وتولد التقديس المُغالي للرجال، وتولد التقليد الحرفيُّ للرجال. وتبنّت الأجيال أحقاد من مضوا، وأخطاءهم، وأفكارهم البشرية غير المعصومة من الميل والمبالغة. دخل كل هذا في بوتقة الصراع الطائفي المحالف أو المحارب للصراع السُّلالي الملكي فانصهر جسمين جامدين على خلافهما. هما الآن جسم الأمة الواحدة. ولا يمكن لشِقٍّ من الأمة أن يزعم أنه وحده الأمة.
ولعل الله عز وجل يجعل دواء الاختلاف في الاستضاءة بنور النبوة الذي لا ينكسف، وتبخير الجمود تحت شمسها الساطعة سطوع القرآن. لعل الله جلت عظمته يُلهِم الأمة مراجعة ما ائتُمِنَتْ عليه من دين الله، تعرض الخلاف على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. من يعرض، ومن يفهم ومن يُسَوِّي الخلاف؟ وبأي إرادة ومن أي منطلق وإلى أي هدف؟ لا يستوي الشيعة وهم الآن في ذروة الانتشاء بنصر الله المبين، من ذراه يتكلمون ويخططون، مع علمائنا الذين لا يزال سوادهم الأعظم تحت وطأة القرون، وتقليد القرون، وضرورة القرون، التي أدخلت كثيرا منهم تحت جناح الملك العاض والجبريِّ، طاعة منهم للعربي والعجمي والحبشي، وسَيْراً مع حرفية السنة، وربما اختيارا عن اقتناع لأهْوَن الشرور. لا نعجلْ، فبعد تحرير دار الإسلام يفتح الله تعالى لنا باباً لنتجاوز المَهاويَ التاريخية المهددة انقطاعا عن تاريخ الفتنة ووصلة بالنموذج الخالد.
يجمعنا حب الله ورسوله. ويجمعنا تحدي الجاهلية لنا، وخطرها المحدق بنا. يجمعنا واجب حمل الرسالة الخالدة للعالم، وواجب بناء الأساس للإمامة المهدية، وهي هي الخلافة الثانية الموعودة. ولن يحمل الرسالةَ جسمٌ مُصَدَّعٌ. لن يقوى على رد العدوان صفٌّ مشتت. ما هي حال مُرْضِيَةٌ أن يتخاصم ورَثَةُ الرسالة العظيمة على ميراثهم العظيم ودليل السماء بين أيديهم، وشخص الرسول المعصوم وسنته ماثلة في ضمائرهم.
كثير من سوء التفاهم راجع لوحشة طويلة ما تجالس فيها المسلمون من كلا الطائفتين، ولا تحاوروا، ولا تشاكوا آلامهم، ولا تبادلوا همهم. ويرحم الله الأستاذ حسنًا البنا، كان شديد الحرص على الاجتماع بعلماء الشيعة بحثاً عن أسباب الربط بين المسلمين.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:37 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
1 مرفق
الفصل3:الهجرة والنصرة
مدرسة الشدائد
الهجرة
النصرة
البيعة
المؤاخاة
خطوة نحو السلطان

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:38 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
مدرسة الشدائد
منذ ثلاثين سنة[1] دخل في لبنان العرب حديث جديد عن الثورة، وضرورة الثورة، والموقف الثوري، وأمجاد الثورة. وما من زعيم قائد إلا سمى تقلبه في البلاد ثورة. وأسفرت هذه "الثورة" عن وجه العنف على الأمة، والانهزام الفظيع أمام العدو، بل مسالمته آخر الأمر والارتماء بين أحضانه. والمفروض أن الثورة نهضة عامة لأمة كرهت حاضرها فتبذل الجهد والأرواح لتتحرر وتبني مستقبلا كريما. وبقيت "ثورة" الزعماء العرب ثورة كلامية، وهياجا خطابيا، وسفكا للدماء البريئة، دماء الأحرار، خاصة المومنين.
أشداء على المستضعفين رحماء على العدو، عكسَ المسلك الإيماني.
رخاوة الثوريين وغيرهم من الرجعيين أمام العدو يترجم رخاوة في الشخصية الغثائية، شخصية نشأت في ظل المؤامرات الانقلابية التي تحمل في أحشائها بذور التخاذل بين قادة "الثورة"، وبذور العنف بينهم، وبذور التجبر على أمة ما هم منها، رغم الدعوى العريضة. إلى جانب هذه نلاحظ تباشير القوة في ثورات أخذت تتميز في المسلمين بطابع القوة على مواجهة العدو، أقصد ثورة إيران وجهاد أفغانستان والمقاومة الفلسطينية. وأستعمل هنا كلمات ثورة ورجعية وما إليها بالمعنى الدارج المتعارف، وإن كنت أحب التميز. فلا أطلق على نهضة المسلمين إلا اللفظة القرآنية الحديثية مصوغة للمناسبة وهي "قومة". على أنَّ في صفوف المقاومة الفلسطينية، إلى جانب رجال مومنين، أخلاطاً تكتسح الكيانَ المقاتل، فتُفْسِدُ سمته الإسلامية. هذه الثورات الثلاثة الرئيسية انبثقت عن أحداث شديدة وحدت القوى المقاتلة، فظهرت بركة وحدتها في عمق ثورة إيران وإقدامِها الرائع على تحدي القوى الشيطانية، وظهرت في صمود أفغانستان الذي يذكر بتاريخنا المشرق الأول، وظهرت في تفرد المقاومة الفلسطينية -على ما هنالك من دخَنٍ، بل من اختلاط- بالوقوف أمام اليهود وقوفا فضح زعماء "الثورات" وعباقرة صنع السلام. وهو المصطلح المنافق للاستسلام والانهزام.
شدائد صنعت ما نرى. كتلت رجالا حول قضية آمنوا بعدلها. كذلك تتكتل الشعوب أمام التحديات الصارمة، حتى مع غياب الإيمان بالله. فبهذا التكتل تشترك الحركة الإسلامية المقاتلة مع حركات تحرر الشعوب الأخرى في معاني الثورية.
ولكي تكون قومةٌ إسلامية على النمط الأول لا تكفي شدائد تاريخية تجمع غضب الأمة، بل لا بد من مرور كل مومن من مدرسة الشدائد، يتربى فيها تربية تمكنه من الانقطاع عن ماضيه، وحاضره، ومألوفه، وراحته، وعلاقته بكل ما يشده إلى الأرض وشهواتها، ليرتبط بموعود الله، ولتملأ جوانحه محبة الله، والشوق إلى لقائه. فيهون عليه الموت، ويهون عليه من دونها بذل المال والجهد. من هذه المدرسة مَرَّ المهاجرون والأنصار أفرادا. حتى إذا آنَ أن يتجمع منهم جند الجهاد، تجسدت فيهم تلك التربية، وهي روح الجماعة، تنظيما مرصوصا لا يُقاوَم.
من حديث أخرجه أبو نُعيم والطبراني أن المقداد بن الأسود قال: "والله لقد بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بُعث عليه نبي من الأنبياء" .
كان لما لقيهُ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه من أذى في مكة أكبرُ الأثر في صياغة الشخصية الإسلامية المقاتلة. وقد هيأ الله عز وجل من الأسباب الخارجية التي تقرب بين المستضعفين المضطهدين ما يكمل الرحمة الصرفة التي ألفت القلوب.
ليس هذا الكتاب كتاب تاريخ ووصف، إنما هو كتاب منهاج تكفي الإشارة فيه إلى مغزى مراحل السيرة النبوية، وهي النموذج في تربية الرجال في الميدان.
هذه اليوم شدائد مَهُولَةٌ تطحن المومنين وتربيهم لتُخرج لنا إن شاء الله رجالا على ذلك الطراز. وإن كان من هذه الشدة ما يبدو لنا قاتلا، فمن وراء دروس الشدة الرجولةُ إن شاء الله. ولعل جرائم الجبارين "الثوريين" توقظ ولو بعد حين غَيْرة هذه الأمة، يوم تتقدم صحوتُها لتزول عنا كل أوهام حول إسلام الدعاة على أبواب جهنم وإنسانيتهم.
على أن جند الله إن استطاع أن يوفر على نفسه الاصطدام قبل اكتمال القوة كان أحكم. ونشدانُ الشدة من أجل الشدة غير وارد شرعا ولا حيلة. الذي لا يمكن بدونه اعتبار جند الله مؤهلا لحمل الرسالة وأعبائها، وقيادة الجهاد ومهماته، هو التربية على الهجرة والنصرة. وهما معنيان خالدان.
[1] من تاريخ كتابة الكتاب عام 1403، أي منذ ما يقرب من ستين سنة

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:38 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
الهجرة
كانت الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرةُ إليه انتقالا من مكان لمكان، وقطعا لحبال الجاهلية بترك الأهل والعشيرة والمال والماضي كله. حبال الجاهلية تمثل في حياة المسلم حديث العهد بالإسلام الأمن والحماية، فلا يكاد يُحدِّث نفسه بقطعها والارتماء في المجهول. حتى إذا قويَ إيمانه واشتدت رابطته بالله ورسوله وإخوانه المومنين أخذ يهون عليه ما سوى ذلك، حتى يكون بموعود الله ورسوله أوثق منه بما عنده. وحتى تكون الأخوة الإيمانية الجديدة هي حياتَه. وإذ ذاك يكون الانتقال من مكان لمكان تنفيذا لهجرة في النفس وُلِدتْ، ثم شبت وطرَدَتْ هواجس الخوف الذي يثبط همم الشاكّين عن العظائم.
إنه انقطاع على كل المستويات، عن كل علائق الماضي. إنه ميلاد مجتمع جديد، وإنسان جديد، وتضامن جديد، ونيَّة جديدة. تنْفتح على موعود الله في مستقبل النصر في الدنيا والفلاح في دار النعيم.
كانت أولُ هجرة في الإسلام هجرة محمد صلى الله عليه وسلم مألوفَهُ، وتخليه في غار حراء. هنالك وُصل قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم بنور الوحي. هنالك وصلت حلقات العروة الوثقى بين السماء والأرض. هذه العروة التي تمسك بها كل مومن بعده صلى الله عليه وسلم، فرفعته فوق اعتبارات المصلحة الوقتية.
ثم كانت هجرة المومنين إلى الحبشة، أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، رَجاء أن يجنبهم بعض العَنَتِ. وقال: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنَّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" . كانت تمريناً على الهجرة النهائية بعدئذ وتهييئا لها. كانت فتحا لباب من المعاناة ما كان يعرفه العرب، وهم من نعرف حنينا إلى الأوطان، ولُصوقاً بالربوع والديار. وكان اللجوء إلى مَلِكٍ لا يَظْلِمُ درساً لنا في التماس الفرج، إذا كنا في ضيق، عند ومع من يضمن لنا حرية الإرادة والحركة في انتظار فتح من الله. ولستُ هنا أدُلُّ على مُستَراح للتخاذل والانضواء تحت ظلِّ الطغاة. والضرورة تُقدر بقَدْرِها.
ثم كان الإسراء والمعراج هجرة ثالثة، فارق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم جسما وروحا هذا العالم، ليتلقى من ربه عز وجل في الأفُق الأعلى، وليرى من آياته الكبرى. وعاد العبد المصطفى يحدث أصحابه وقومه بمعراجه ومسراه الشريفين. فكانت خطوة أخرى في طريق الانفصال عن المألوف والعادي والأرضي. ازداد الانفصال بين أمثال أبي بكر ممن اطمأنوا وصدقوا وبين كفرة قريش الذين استهزؤوا وكذبوا.
تألفت الجماعة في مكة، وبرهنت بصمودها على أصناف الأذى وضروب البغي، وبتماسكها، على أنها مجتمعٌ متميزٌ، رغم بقاء المومنين في نطاق الأسرة والعشيرة. أدت التربية النبوية مهمتها في صياغة إنسان جديد، وربط علاقات جديدة متينة لا تنال منها المحن. فأصبحت الجماعة قادرة على تحمل صدمات أقصى على درب الجهاد. وأصبح قيام دولة القرآن ممكنا بوجود حملة للدولة ودعائم لبنائها. بيد أن عداء مكة وظروفها، وهيمنة الملإ عليها، وعدم التوازن والتكافؤ الكبيرين بين القوة الناشئة والجاهلية المسيطرة لا تسمح بمحاولة القومة المباشرة. كان لا بد من أرض تحتضن دولة القرآن في ميلادها، وتحصنها من عدوان عالم الجاهلية، وهي لا تشكل عددا إلا نقطة في بحر.
كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف هجرة فردية. كانت حَلقة من خرجاته الدائمة صلى الله عليه وسلم للمواسم والقبائل يعرض عليها نفسه. وتميزت خرجة الطائف بعنف ثقيف عليه. ألَّبوا عليه صبيانهم وسفهاءهم، ورجموه بالحجارة حتى أدْمَوْا عَقِبَهُ الشريف. اصطفّوا صفين في طريقه يهينونه بكل أنواع الإهانة. وكانت غنيمتَه من هذه الهجرة مستضعف مسكين، هو العبد عداس النصراني، آمن به وأكرمه حين اجتمع المستكبرون على أذاه.
وكانت هجرة الحبشة جماعية. لكنها ما كانت لتؤسس دولة الإسلام في أرض لا تفتح ذراعيها للدين الجديد رغم إسلام النجاشي. ولا يكفي العطف المحايد لتمكين الدعوة في الأرض.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:39 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
النصرة
خذلان ودفع في الطائف، وعطف في الحبشة من جانب ملك مومن. لم تكتمل شروط الهجرة المؤسِّسَة. لم تلق الدعوة في التجربتين نُصرةً تُكَمِّلُها. إذا كانت الهجرة بذرةً فالنصرة هي الأرضُ الضرورية لبذرها، والبيئة المناسبة لصلاحها. وهذا ما تيسر إلا في الهجرة إلى يثرب.
كتب الإمام البنا رحمه الله: "وإن ذلك المهاجِرَ الذي كان يترك أهله، ويفارق أرضه في مكة ويفِرُّ بدينه، كان يجد أمامه أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينتظرون، وكلهم شوق إليه، وحب له، وسرور بمقدمه. وما كان لهم سابق معرفة ولا قديم صلة، وما ربطهم به وشيجةٌ من صهر أو عُمومة، ما دفعتهم إليه غاية أو منفعة. وإنما هي عقيدة الإسلام، جعلتهم يحنون إليه ويتصلون به، ويعُدّونه جزءا من أنفسهم، وشقيقا لأرواحهم. وما هو إلا أن يصل المسجدَ حتى يلتَفَّ حوله الغُرُّ الميامينُ من الأوس والخزرج، كلهم يدعوه إلى بيته ويُؤْثره على نفسه، ويَفديه بروحه وعياله، ويتشبث بمطلبه هذا، حتى يؤولُ الأمر إلى الاقتراع. حتى روى الإمام البخاري ما معناه: "ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة". وحتى خلد القرآن للأنصار ذلك الفضل أبد الدهر. فما زال يبدو غُرَّةً مُشرقة في جبين السنين في قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9)[1]
نرى تداخل الهجرة والنصرة وتضامنهما حتى لا يكونُ لإحداهما معنى وأثر تاريخي بدون الأخرى.
[1] إلى أي شيء ندعو الناس؟

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:40 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
البيعة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في السنة الثانية عشرة للبعثة الداعيةَ الفاتحَ مُصعَبَ بنَ عمير رضي الله عنه بعد لقائه مع رجال من الأوس والخزرج. وبعد سنة من النشاط الدعَوِيِّ الموفَّق لم يبق بيت من الحَيَّيْنِ إلا دخله الإسلام. فجاء وفدُ القبيلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعوه إن هو هاجر إليهم أن ينصروه. بذلك العَقْدِ العظيم بدأ تاريخ جديد في الإسلام.
من حديث رواه الإمام أحمد رحمه الله عن جابر رضي الله عنه أن الإسلام لما فشا في يثرب اجتمع المسلمون، وأظهروا إسلامهم، وتآمروا قائلين: "حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟" قال: "فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعْبَ العَقَبَة. فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين (أي متسللين) حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله! عَلامَ نُبايعك؟ قال: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفَقَةِ في العُسْر واليُسْر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم. وعلى أن تنصروني فتمْنعوني إذا قَدِمْتُ عليكم بما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم. ولكم الجنة". قال: فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة رضي الله عنه وهو من أصغرهم إلاَّ أنا، فقال: رُوَيْداً يا أهل يَثْربَ! فإنّا لم نضرب إليه أكباد الإبل (سفر طويل شاق أرهق الإبل) إلا ونحن نعلم أنه رسول الله. وإنَّ إخراجه اليومَ مُنَاوَاةٌ (أي معاداة) للعرب كافَّةً، وقتلُ خيارِكُم، وتَعَضُّكُم السيوف. فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله. وإما أنتم تخافون من أنفسكم خِيفَةً فذَروه. فبيِّنُوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله. قالوا: أَمِطْ عنا (ابتعد) يا أسعد! فوالله لا نَدَع هذه البَيْعة ولا نُسْلَبُها أبداً! قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وَشَرَطَ، ويعطينا على ذلك الجنة" . قال الهيثمي رحمه الله رجاله رجال الصحيح.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:40 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
المؤاخاة
كان الأنصار رضي الله عنهم إذن على بيِّنَةٍ من واجبهم بمقتضى البيعة، وعلموا أنها عداوةُ العرب، وأنها الحرب، وأنه الموتُ. واختاروا عن رِضىً الطاعةَ لله ورسوله مهما كانت النتائج، والتزموا بالتحرك في المنشط والمكره، والتزموا بالنفقة في العسر واليسر، والتزموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي بالقيام في بلدهم بفرض التحول الجذري، وإقامة المجتمع الإسلامي على قواعدَ مُنافية للمألوف. والتزموا بالشجاعة في الله، شجاعة الكلمة، وشجاعة اقتحام صف العدو. والتزموا بحماية حامل الرسالة صلى الله عليه وسلم كما يحمون أنفسهم وأهليهم. وكانت وقْفَةُ أسعد رضي الله عنه تهدف على تركيز الفهم عند قومه لخطورة التزامهم، وكانت استجابتهم الثابتة تأكيدا لصدق غيرتهم التي دفعتهم، بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان، لعرض أنفسهم على النبي الطوَّافِ في جبال مكة الطريد فيها.
فلما رحل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل مكة حل أجلُ الوفاء بالبيعة. فكان الإيثار الذي مدحه الله تعالى في القرآن.
وكانت الهجرة رحلةً منظمة. لم تكن نَفْرَةَ خائف ولا مُغامرةَ يائس. نقرأ في السيرة كيف احتال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج والاختفاء بغار ثور والسفر. ونقرأ كيف هيأ أبو بكر رضي الله عنه الرحلة. ونقرأ كيف احتال كل صحابي للخروج. ولم تكن لتُلهيَ حيلةُ السفر، ولا همومُ الغربة، ولا تَرَبُّصُ قريش، أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإعداد المادي لهجرتهم. فما انثالوا على إخوانهم بيثرب انثيال اللاجئ ليكونوا عبئا على ضيافة قوم كرام وإيثار إخوة رُحماء. قال الإمام الشاطبي: "فكان منهم من احتال على نفسه فهاجر بماله أو شيء منه. فاستعانَ به لما قدم المدينة في حرفته التي كان يحترف من تجارة أو غيرها، كأبي بكر رضي الله عنه، فإنه هاجر بجميع ماله، وكان خمسة آلاف. ومنهم من فر بنفسه ولم يقدر على استخلاص شيء من ماله. فقدم المدينة صفر اليدين. وكان الغالبَ على أهل المدينة العملُ في حوائطهم (حقولهم المغروسة يحيط بها جدار) وأموالهم بأنفسهم. فلم يكن لغيرهم معهم كبيرُ فضل في العمل (لم يكونوا يحتاجون لمساعدين أجراء في أعمالهم). وكان من المهاجرين من أشركهم الأنصارُ في أموالهم، وهم الأكثرون، بدليل قصة بني النضير. فإنَّ ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قال للأنصار: "إن شئتم قسمتها بين المهاجرين، وتركتم نصيبكم فيها، وخلى المهاجرون بينكم وبين دوركم وأموالكم فإنهم عيال عليكم". فقالوا: نعم!.(...) وقد قال المهاجرون أيضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ما رأينا قوما أبذلَ من كثير، ولا أحسنَ مُواساةً من قليل، من قوم نزلنا بين أظهرهم-يعني الأنصار. لقد كَفَوْنَا المؤونة وأشركونا في المَهْنَإ. حتى لقد خِفْنَا أن يذهبوا بالأجر كلِّهِ".
هكذا تمت إعادة قسمة الأموال، وسُوِّيَت المسألة الاقتصادية. تعفُّفٌ من جانب، وبذلٌ لا حدود له من جانب. وتنافُسٌ في أجر الآخرة ومكارم الأخلاق. أشركوهم وكفَوْهم المؤونة. أشركوهم في المهنإ، أي آثروهم بالراحة، إذ قدموا لهم هديَّةً جهودَ أعمالهم. وردت كلمة أشركوهم مرتين في نص الشاطبي. ولا أريد أن أقف كما يفعل بعضهم يتصيد الكلمات ليشبه أخوة الإسلام وبذل الإسلام باشتراكية تعشش أوْهَامُها في ذهنه، وتسكنه نية تدليس "إسلام يساري" أو "اشتراكية إسلامية" من صنعه وتلفيقه.
لا يمكن تأسيس دولة القرآن على قواعد اقتصاد يكون فيه الإنسان عبدا للمصالح الأنانية، ويحتكر فيه فريق من الناس الأرزاق بينما يبقى فريق يتسول الصدقات. وما كانت المؤاخاة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، رجلا مع رجل، وأسرة مع أسرة، إلْحَاقاً طُفَيْلِيّاً لأسرة عاطلة بأسرة تعمل وتنتج. فقد ذكر الشاطبي رحمه الله أن من المهاجرين من كان يلتقط نوى التمر فَيَرُضُّهُ ويبيعه عَلَفاً للإبل. وقرأنا في السيرة كيف رفض عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه عَرْضَ أخيه سعد بن الربيع رضي الله عنه الذي قدّم له شطر ماله وخيره في إحدى زوجيه يطلقها له. وباستثناء أهل الصُّفَّة الذين كانوا جُندا مرابطا يهب عند كل هَيْعَةٍ، فإن المهاجرين أحدثوا -وهم قريش التاجرة- نشاطا اقتصاديا نافس اليهود الذين كانوا يحتكرون التجارة والصناعة في المدينة.
لم تكن المؤاخاة ولا الإيثار الرائع زَهْرَةً عاطفية أينعت مع الحماس. بل كانت بذلا يحتقر معه المومن متاع الدنيا بجانب حق الأخوة وبجانب الجزاء في الجنة. ثم كانت النفقةُ وفاءً بعقد البيعة كما رأينا. فالتقت ثمار التربية بحكمةِ التنظيم. التقت رحمة الإيمان ببذل الإيمان.
الأسوة في هذا لغد الإسلام في دولة القرآن، ومغزاه ومرماه، أن تكون إعادة القسمة وإحلال عدل الإسلام ورخاء الإسلام القاعدة الماديَّةَ التي يختل البناء وينهار بدونها. فإنه إن زعم زاعم أنه يحكم بما أنزل الله ثم يُبْقِي قوما في المهنإ والترف، وقوما في الكدح والبؤس، فإنما هو زعم وباطل. تُكَذِّبُ فيه الحقائق الأولية النافخين في البوق. ولا بد في ذلك من تَدَرُّج حتى يُكبَحَ جِمَاحُ الرأسمالية والأنانية الطبقية دون أن تُكسر عجلة الاقتصاد.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:41 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
خطوة نحو السلطان
كانت الهجرة والنصرة، وتأمين القاعدة الاقتصادية، والربط المتين لكل هذا بِعُرا الإيمان، وبالعَقد والبيعة المفَصَّلة المنظمة، خُطوة حاسمة في الطريق إلى دولة القرآن.
كانت فرحةً عارمةً يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فرحة عَبَرت كل طبقات الناس، وهزتهم، وطبعت حياتهم. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "... ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به. حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء! وقال أنس رضي الله عنه: شهدْتُه يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضْوأ من يوم دخل المدينة علينا. وشهدته يوم مات فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات" [1].
يوم تاريخي طبع ذاكرة الأجيال، فهو يوم التحول الحقيقي في مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. يوم كامِن في ضمير الأمة مذخور ليوم تحوّلٍ ممكن تستجده لنا الدعوة إن شاء الله على ذلك المنهاج الخالد.
ثم ابتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فكان البناء أولَ عَمل اشترك فيه المهاجرون والأنصار. وأخذت الرابطة الجهادية تُفْتَل. وكان الرسول القائد يعطي المثال في حمل اللَّبِنِ وتنشيط الرجال.
ثم عقد صلى الله عليه وسلم هدنةً مع اليهود أهل الكتاب أعطت اليهود حقوق المواطنة إلى جانب أمة المومنين. فكان العَقد بمثابة دستور مكتوب يستكمل بعد بناء المؤسسة المركزية، وهي المسجد، وبعد عقد المؤاخاة، الظروف النظامية والأساس الدستوري الإداري الاقتصادي الأمني لمجتمع مقبل على قتال طويل.
كان دستورا مفصلا يعطي الحقوق والواجبات بدقة وعدل. لكن اليهود خانوا وغدروا وتآمروا. ففقدوا بذلك حقوقا سمحة أعطتها إياهم يد حكيمة يصرفها الوحي. هذا الدستور سابقة تشرع لنا وضع دستور ينظم دولة القرآن غدا فيما يخص توزيع السلطان، والمسؤوليات، وأمور الأمن والخوف، وعلاقات المسلمين فيما بينهم، وعلاقتهم بأهل الذمة بيننا، وعلاقتهم بعدئذ بالعالم.
[1] زاد المعاد ج2 ص55

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:42 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
1 مرفق
الفصل4:الجهـاد
البيضاء الواضحة
إن الله اشترى...
الكـتيبة الخضراء
الرحمة والحكمة

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:43 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
البيضاء الواضحة
روى الإمام أحمد وابن ماجة رحمهما الله عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" . الحديث حسنه الحافظ المنذري رحمه الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تُركتم على الواضحة، ليلها كنهارها. وكونوا على دين الأعراب وغِلمان الكُتَاب". وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: "تُركتم على الجادة: مَنْهَجٍ عليه أُم الكتاب".
في هذا الفصل الأخير، ونحن نسير على المنهاج، نريد أن نكون في الوضوح التام وعلى بينة كاملة من حقيقة الإسلام كما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن من الناس من يفهم الإسلام حسَبَ هواه، أو في حدود ظروفه، أو عبر نصوص مستغلقَة عليه، ويقول: هذا دين محمد صلى الله عليه وسلم. ومنهم من يُؤَول، ومنهم من يحرف، ومنهم من يَنْتَحِل.
أخطر المحرفين من يُظْهِرُ تمجيدَ الإسلام فيقول: إنه ثورة. خطرُ هذا أن من يحبون الإسلام يفرحون بالكلمة المشحونة في هذا العصر بالدلالات البطولية. ويَنسَوْن أن في التسمية إنزالا لدين الله من شموليته الجامعة للدنيا والآخرة، من كونه رسالة الله حملها عبد رسول إلى الإنسانية، من كونه طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، من كونه نورا إلهيا. إنزالا يسويه بالمذاهب الأرضية. إن تمجيد النظام الإسلامي في السياسة والاجتماع والاقتصاد كأنه إديولوجية، أي منظومة فكرية، تَبُزُّ في المقارَنة كلَّ مذهب بشري ما هو في الحقيقة إلا مسخ للدين، إن لم نربط النظام الإسلامي لشؤون الأرض والناس بالمبدإ والمعاد، والألوهية والربوبية، ووحدة الخلق، ومصيرهم بعد الموت، وبالآخرة والبعث والخلود في الجنة أو النار. الفهم الصحيح هو ما كانت النظم السياسية الاجتماعية والاقتصادية فيه تأخذ مكانها باعتبارها فروعا للشريعة. واللب هو مصيرك يا إنسان إلى ربك، وعبورك هذه الدنيا لتُخْتَبَر فيها وتصير إلى جزائك. وتكتسبُ النظُمُ التي تمهد لك وتساعدك على معرفة الله تعالى وعبادته أهميتَها من خدمتها للدعوة التي تعرفك بوجود الله، وتحبب إليك الإيمان وتصلك بالمومنين حتى تصبح واحدا منهم، فتفوز في الدار الآخرة. فإذا كان التركيز على تفوق النظام الإسلامي على النظم البشرية، وتَقَلَّص ذكر الموت والآخرة والجنة والنار والألوهية والربوبية والنبوة ومصيرك بعد الخروج من دار الدنيا، فهو الخلط والطمس. وطمس الدين مقصود التراثيين المُغرَّبين الذين يُبْرِزون الخصائص الثورية في الإسلام ليسطحوه على مستوى اهتمام عصرٍ سمَتُه الأساسية الماديةُ التي تؤله الاقتصاد والإنتاج والاستهلاك والديمقراطية والثورة وسائر هذه الأشياء التي تشغل حيز الفكر، وحيز الاهتمام، وحيز النشاط الإنساني. فإذا بالإنسان دابة كادحة مفتونة بين كل هذا الركام الجاهلي. لذلك نتحفظ في استعمال مصطلحات العصر في وصف الإسلام. فلا يصلح لتوضيح الجادة البيضاء إلا لغة القرآن ولغة النبوة.
نعم بكل تأكيد! الإسلام دين جهاد. نعم الإسلام دين مقاتلة المُستكبرين. نعم هو دين العدل ونصير المستضعفين. وهو مع هذا كل لا يتجزأ. وسواء في التحريف من يحكم باسم الإسلام حكما ظالما فيعطل العدل، ومن يدعو لعدل تغيب معه معالم الهداية السماوية.
فما هي البيضاء الواضحة التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم باليوم له ليل ونهار، غيب وشهادة. إيمان في القلب إن شئت، وشريعة ظاهرة. فإن ذهب الإيمان وبقي النظام الإسلامي فذلك الزيغ. وإن كان في القلوب إيمان وتعطل الحكم بما أنزل الله في ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة فهو أيضا الزيغ.
الجادة الواضحة في كلام الإمام علي كرم الله وجهه ما كان على منهج أم الكتاب. واقرأ الكتاب تجد فيه خطابا مباشرا من الله جلت عظمته للإنسان يدعوه إليه. وتجد كل ما هنالك يدور حول هذه النقطة ويرجع إليها. لِمَ بعث الله الرسل؟ لم فرض الله الجهاد؟ لم جعلها دنيا وآخرة، جنة ونارا؟ ما الغاية من كل هذا؟
وصية الإمام عمر رضي الله عنه أن نكون على دين الأعراب وغِلمان الكُتَّاب تعني أن دين الله ليس فلسفة معقدة، وأنه في متناول الإنسان من حيث الفطرةُ المشتركة، لا من حيث المعارفُ المكتسبة، ولا من حيث المكانةُ الاجتماعية، ولا من حيث مستوى المعيشة، ولا من حيث النظام الاقتصادي والسياسي الذي يعيش تحته الإنسان. على أن الوصية تفيد أيضا أن قاعدة الأمة ومستضعفيها هم لُحْمةُ الدين والمقصودون بالرسالة. فليس الإسلام إذن دين نخبة اجتماعية. بل هو دين عدل وتسوية أمام الله تعالى. وكل ما يعاكس العدل يجب جهاده لنفس السبب الذي من أجله يجب جهاد الكفر. والكفر والفقر أخوان.
الإسلام دين. هذه جملة يفهم منها إنسان العصر اللاييكي أنَّ الإسلام علاقة بين الإنسان وربه لا علاقة لها بالمجتمع ونظامه، ولا بالحكم واختياره، ولا بقسمة الأرزاق وإنتاجها. كلمة "دين" سطَّحها الذين نسبوا للسيد المسيح عليه السلام القول بإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وتختلط في الذهنية المعاصرة مفاهيم الجاهلية بمعاني الإسلام، وتحتل لغتَنا كما احتلت أرضنا وعقولنا، فيغمُض علينا ديننا.
ما هي البيضاء الواضحة وقد أدركت هذه الأجيال دين الخمول الموروث، علموهم أنه الدين الصحيح؟ الاستسلام للحاكم الظالم دين. التخلي عن كل اهتمام بأمر المسلمين دين. الانزواء في تعبد خامل دين. البدع والجهل دين. مظاهر اللباس والاكتحال ومضغ بعض العبارات هو جماع الدين. إسلام ميت. إسلام خوف وجهل وخنوع. غثائية نشأت عن ترك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وهي كل لا يتجزأ. وهي جهاد.

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:43 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
إن الله اشترى...
رأينا كيف ولِمَ وعلى ماذا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة. كانت مبايعة جامعة مانعة: الطاعة لله ورسوله التي تتفرع فتغطي المجالات الاقتصادية والاجتماعية والحربية والسياسية. كل لا يتجزأ، رمزُ كليته أن تقاتل فتموتَ وتذهبَ كلُّك فداء لدينك. إنها بيعة صفق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيدي الأنصار، ويد الله فوق أيديهم. صفقة بمقتضاها اشترى الله تعالى وباع العبد وشهد النبي. صفقة بضاعتها الجنة ضمنها النبي، وثمنها الأنفس والأموال جميعا مُسْتغْرَقَةً بلا تحفظ. والمومنون مسؤولون عن دفع الثمن مسؤولية جماعية تسمى في الفقه الجهادي للقرآن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [1].
بيضاء واضحة والله! يَقتُلون ويُقتَلون. ووعد الله على الجزاء والوفاء مؤكد. لكن القتال عمل مشترك بين الناس. ففي كل ثورة قتال وإن قادها وشارك فيها كفار. وتختلف غايات الناس في القتال ودوافعهم. عدوان أو دفاع، انتقام أو طلب للغنيمة. كل ذلك قتال. وما يقدس قتال المومنين عدوهم إلا ارتباط القتال بعقيدة وغاية وبيعة. فيكون بمجموع هذا جهادا لا سفكا للدماء، جهادا لتكون كلمة الله هي العليا لا ثورة محرومين على مترفين. وكلمة الله ما جاء في أم الكتاب: إخراج الإنسان من كل عبودية أرضية، وهدايته بالدعوة لا بالسيف للعبودية لله عز وجل. فالسيف والجهاد وسيلتان. والفوز العظيم ليس الاستيلاء على السلطان لكن الجزاء الموفى في الآخرة.
يصف الله تبارك وتعالى المجاهدين المقاتلين الفائزين بصفات متدرجة يكون الجهاد نتيجة لها. فما كل مقاتلٍ مجاهدٌ في سبيل الله. الطريق هكذا: توبة، ثم عبادة، ثم حمد لله على نعمة الإسلام إذ تشعر بالتوبة والعبادة أيَّ رجلٍ صِرْتَ، ثم سياحةٌ وهي الصيام، ثم ركوع وسجود أي إقامة عماد الدين، ثم بعد ذلك فقط تتأهل لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبعدها تستحق أن تُسْتَأْمَنَ على حدود الله لتحفظها. تحفظها بماذا إذا كان العدوان محيطا بك كما كان محيطا بأصحاب بيعة العقبة وإخوانهم المهاجرين وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان؟ واضحة بيضاء! إما أن تقف عند "التائبون" أو في مرحلة تالية حتى ولو كنت مقيما للصلاة، وإما أن تدخل في عداد الفائزين الفوز العظيم بجهادك بالنفس والمال بلا تحفظ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحفظ حدود الله، لكيلا تنتهك في ميادين الحكم، والعبادة، والاقتصاد، وقسمة الأرزاق، ووحدة المسلمين، وقتال عدوهم، وحمل الرسالة، وتبليغها لمن حولك، ولمن يساكنك في دار الإسلام، ولمن هو اليوم في دار الدعوة، وللجن والإنس كافة.
بيضاء واضحة والله! ما الإسلام دين ثورة، ولا دين ديمقراطية، ولا دين قسمة، ولا دين تقدمية، ولا دين اشتراكية. إنه دين الله. وما كان من خير ومروءة وإنصاف وحكمة تقصده هذه الأسماء فهو مقصود للشريعة باعتبار إنصاف الإنسان، وتحريره، وتهييء المعيشة الكريمة له، وإشراكه في شؤون الدولة، وسائلَ لغاية سامية هي أن يعرف ربه. تنتهي الثورة بسقوط نظام مكروه ليحل محله نظام غيرُه. قد يموت قوم ويصعد قوم أسوأ منهم للإنسان أو أرأفُ به. لكن هل دخل في حساب الثورة مصير الإنسان الكلي، مصيره هنا في القسمة، ومصيره بعد الموت؟ تنتهي الديمقراطية بتوزيع أحسنَ للسلطان. لكن هل تعطي الديمقراطية معنى وغاية لحياة الإنسان وموته؟ وهل تكشف لُغْزَ وجوده؟
اضطراب في العالم، وقتال، وثورات، ودفاع، وخصام. هذا قدر الله. والإسلام وسطَ هذا كله دينُ الله، يبدو أهلُه جُزءاً من هذا العالم الصاخب، يغلِبون تارة ويُغلَبون تارة. يكونون قوة قاهرة عهدا، ويصبحون غثاءً وقصعةً للآكلين طورا آخر. وشَرْعُ الله يناديهم أن يجاهدوا لينصروا دين الله. ليس الله مغلوبا فيحتاج نصيرا. أستغفر الله. ليس دينه هينا عليه فيترك اليهود ينجسون بُقعة مقدسة.
إن الله عز وجل غالب على أمره. وإنما فرض الجهاد ليُخْفِي قدره تحت ستار شرعه. وفرض علينا القتال في سبيله -وهو القوي العزيز لا حول لنا إلا به- ليختَبر ويَبْتَلِيَ من ينفذ شرط الفوز العظيم فيرتب جزاء الآخرة على عملنا في الدنيا. ومن حكمته تعالى أن جعل قانون المدافعة بين الناس أصْلاً قدريا وفريضةً شرعية. تاريخ بشريّ ظاهر، ويد الله الخفية من وراء ذلك. والبيعة الإيمانية ناجزة الثمن مؤجلة البضاعة، ليهتدي للواضحة المتقون المومنون بالغيب.
[1] التوبة: 111-112

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:44 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
الكـتيبة الخضراء
بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة بعد البعثة يعاني اضطهاد قومه. ما كان له ولأصحابه شوكة يحتمون بها، ولا نزل الإذنُ بقتال المشركين. إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل واحد من أصحابه يتمتع بالوضع الاجتماعي القائم الذي كان يقضي أن تدافعَ العشيرة عن بنيها. أحيانا كانت حماية العشيرة لا تكفي كما حدث بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هجرة الطائف حين التمس جِوار المطعم بن عديّ، فلم يدخل مكة إلا في جواره. ونقرأ على أي مدى تتحرك عصبية العشيرة في صالح الإسلام بالتضامن القوي الذي أظهره بنو هاشم حين قاطعتهم قريش في الشِّعْبِ.
نزل الإذن بالقتال قُبَيْلَ بيعة العقبة، فكانت هذه البيعة تأسيسا عسكريا، إضافة إلى معناها الشمولي. حتى إذا استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وبنى المسجد، وكتب وثيقة المهادنة مع اليهود، بدأ يهيئ النفوس للتجنيد الدائم الذي كان ضروريا لبقاء عُصْبَةِ الإسلام حية وسط محيط مُنَاوِئٍ. كانت قبائل العرب تدين لقريش بنوع من الولاء لما لقريش من حرمة سدانة البيت المعظم، ثم لما لها من مال. فيمكن أن نعتبر أنَّ بلاد العرب كلها عَدُوٌّ بالفعل للإسلام يومئذ أو عدوٌّ محتمل جدا. ولم يكن المومنون في بدء الدولة القرآنية النبوية إلاَّ عشرات قليلة. لكن نفوسهم التي زكتها العبادة، وزكتها صحبته صلى الله عليه وسلم، ووثَّقت مراسها بيعةٌ صادقةٌ مع الله ورسوله، كانت مستعدة لتَلَقِّي الأوامر الجُلَّى وتنفيذها.
روى الحاكم رحمه الله وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم! إنا لله وإنا إليه راجعون! لَيَهْلِكُنَّ! فأنزل الله عز وجل: " ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [1]"وهي أول آية نزلت في القتال.
"ثم فرض الله تعالى عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم. فقال عزَّ من قائل: " ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [2]"ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرما ثم مأذونا به ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين. إمَّا فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كفاية على المشهور. والتحقيق أن جنس الجهاد فرضُ عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع. أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية. وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان والصحيح وجوبه" [3]قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد بعد أن ألهب في النفوس حب الله ورسوله، حبا يفدي الإسلام الغاليَ العزيز بكل ما يملكه إن بَخِلَ المالكون. بدأت سرايا الجهاد ببعثة حمزة بعد ستة أشهر من الهجرة. كان قوامها ثلاثون رجلا. ثم السرايا والغزوات حتى بلغ الجند المومن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا في غزوة بدر، ثم قُرَابَةَ ثلاثين ألفا في غزوة تبوك. بدأ الجهاد مناوشات مع وثنيي العرب، ثم مواجهةً مع الشرك والكفر والنفاق كافة في غزوة الخندق، ثم تفرُّغاً لليهود، ثم يصعد الجهاد حتى يرتفع جند الله إلى قوة تقاتل القوى العالمية إذ ذاك في غزوتي مُؤْتَةَ وتبوك. وتدرجت الصعاب من امتحان استعداد المومنين للقتال في غزوة بدر، فامتحانهم على الصبر في تحمل الهزيمة في أحد، فامتحانهم على التوكل على الله ولو أجمع العالم كله على قتالهم في غزوة الخندق، ثم امتحانهم على الطاعة في صلح الحديبية، ثم امتحانهم على العفو عند المقدرة في فتح مكة، ثم امتحانهم على ألاَّ تعجبهم كثرتهم في غزوة حنين، ثم الامتحان الأكبر في غزوة العُسْرة.
علمهم نصر الله وتأييد الملائكة في بدر أن النصر من عند الله. وعلمتهم أحد أن الشهادة في سبيل الله أخت النصر وإحدى الحسنيين. وعلمتهم الخندق أن لا غالب إلا الله. وعلمتهم الحديبية أن سلاح السياسة قد يكون أنجع من سلاح الحديد عند الاقتضاء. وعلمهم فتح مكة أن وعد الله حق. وعلمتهم حنين أن التكتل في جسم مختلط لا يفيد بل هو كارثة. وعلمتهم العسرةُ التجردَ التام عن كل مقاييس القدرة البشرية، وعن كل حسابات ما هو ممكن وما هو مستحيل. فقد كان سفر ثلاثين ألف رجل في صيف الصحراء، وفي سنة مجدبَة، وبالضبط في وقت طابت فيه الثمار بالمدينة بعد انتظار، والمسافة بعيدة، وهجوما على عدو متفوق جدا في قعر داره، أموراً غير عادية، محَّصَ الله عز وجل بها المومنين تمحيصا، وفرَزَ بها المنافقين والكسالى من بين جند الله الذين لا يصدهم صاد عن المُضِيِّ فيما نُدِبُوا إليه.
آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أشقَّها وأقواها: جوع، وعطش، وصحراء، ونفاق مثبِّط، وثمار طابت فهي تغري قوما مستهم المسغبة. وكان الجهاد جهدا مضنيا، وبذلا لا حد له، وصبرا مثاليا.
على هذا ترَكَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم. تركنا أمة مقاتلة قوية على رد التحديات، وعلى اتخاذ المبادرات، وتحمل المشقات. قابِلْ غثائيَّةَ اليوم بقوة ذلك الجيل، ثم لا تنس أن تلك القوة كانت ثمرةَ تربية. فأين المفتاح؟ هل ضاع؟ كلا والله! وإنها غدا للخلافة الثانية على المنهاج الخالد إن شاء الله تعالى.
في السنة الثامنة من الهجرة نقضت قريش هدنتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعانت حلفاءها من بني بكر على قتال حلفاء رسول الله صلى الهأ عليه وسلم من خُزاعَةَ. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاجأ المشركين بمكة، فما كان لهم إلا الاستسلام مخرجٌ. بعد ثمان سنوات رجع ذلك الطريد في جبال مكة ومعه جند الله. معه الكتيبة الخضراء، يردِفها كتائب المسلمين من قبائل العرب. هلكت قريش كما كان نطق أبو بكر رضي الله عنه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على إظهار قوة جنده ليردَعَ بذلك ما بقي من نخوة الجاهلية. فقد روى البخاري رحمه الله عن هشام عن أبيه رضي الله عنهما قال: "لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح(...) فأسلم أبو سفيان. فلما سار قال (أي رسول الله صلى الله عليه وسلم) للعباس: احبس أبا سفيان عند خَطْمِ الجبل حتى ينظر إلى المسلمين. فحبسه العباس. فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم. تمر كتيبةً كتيبةً على أبي سفيان. فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غَفَارُ. قال: مالي ولغفار! ثم مرت جُهَيْنَةُ. قال مثل ذلك. ثم مرت سعد بن هُذَيْم، فقال مثل ذلك. ومرت سُلَيْمُ، فقال مثل ذلك. حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها. قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية. فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يومُ المَلْحَمَةِ! اليومَ تُسْتَحَلُّ الكعبة! فقال أبو سفيان: يا عباس! حبذا يوم الذِّمار! (أي الهلاك. كان يظن أن هذا الجند المجند سيخرب مكة ويذبح أهلها). ثم جاءت كتيبة -وهي أقل الكتائب عَدداً- (وهي الكتيبة الخضراء كما جاء في روايات أخرى لخضرة، أي سواد، دروعهم) فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام. فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: قال كذا وكذا. قال: كذب سعد، ولكنْ هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة" . الحديث. وروى ابن إسحاق رحمه الله أن أبا سفيان بعد أن رأى قوة المسلمين قال للعباس رضي الله عنه: "ما لأحَدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة! والله يا أبا الفضل لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك الغَداةَ عظيما! فقال: يا أبا سفيان! إنها النبوءة! قال: فنعم إذن!".
ما لي ولغَفار! ما لي ولسُليم! هذا عربي جاهلي لا يعرف من القتال إلا النزاع القبلي والثارات والغارات. أما أن تتآلف القبائل تحت راية واحدة وتقاتل على غاية أسمى من العداوات البدوية فهذا فوق تصوره. وذُهِلَ الرجل أمام الكتائب المنظمة، وأمام مشهد الكتيبة الخضراء المدججة بالسلاح، فأيقن بهلاك قريش، لا سيما بعد أن سمع مقالة رجل من المسلمين ما اكتمل عنده الفرقان بين حروب الجاهلية وجهاد الإسلام. وحَسِبَها أبو سفيان مُلكاً لما رأى من النظام والطاعة ووحدة القيادة.
كان فتح مكة رحمة. "اذهبوا فأنتم الطلقاء". كلمة نبي رحيم لا مَلِكٍ جبار.
هكذا ألف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة وهكذا تركها. بيضاء واضحة هي المحجة النبوية. لا إسلام الخمول والاستسلام، ولا الثورة والعنف، ولا الزهادة والانزواء، لكن القوة في خدمة الحق والعدل: اليقظة الإيمانية المقاتلة.
[1] الحج: 39
[2] البقرة: 190
[3] زاد المعاد ج2 ص58

عمرأبوحسام 11-01-2011 01:46 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
1 مرفق
الرحمة والحكمة
في هذه الفقرة الأخيرة نريد أن نصطلح على مفتاح لغوي وفكري نسهل به التفاهم بيننا. ونرجع للقرآن والسنة للاستدلال والاستشهاد فما لنا مرجع سواهما. وقد رأينا أن لغة العصر رَمَت العربية الشريفة بدائها، فاختلطت المفاهيم. ورأينا أن غياب المعاني السماوية والقلبية والأخروية من كلام الناس غَيْرِنا أحدث بالعَدْوَى والتقليد والانطباعِ الغافلِ تفريغا لِلُغتنا من محتواها الإيماني الغيبـي.
المفتاح اللغوي الفكري الذي نقترحه هو أن نسمي رحمة كل معاني الغيب الربانية والقدرية والقلبية والملكوتية والأخروية. وأن نسمي حكمة ما تدركه الحواس ويعالجه العقل وتأمر به الشريعة. فالإيمان عندنا قول وعقيدة وعمل. كلمة عقيدة لا تؤدي المعنى الذي قصدناه بكلمة رحمة، وكلمتا عمل وقول لا تؤديان ما تدل عليه كلمة حكمة من تفكير، وتلق للشريعة، واستنباط لأحكامها، ثم تطبيق لأوامرها، والتماس أحسن السبل لذلك. فإن قلنا: الإيمان رحمة وحكمة، فعسى نستوعب في كلمة إيمان الجانب القلبي الغيبـي الغائب في لغة الجاهلية ومن والاها، والجانب الشرعي العقلي. في اصطلاح الماركسيين وفلسفتهم يتمثل البناء في أرض وسقف. فأرضهم الاقتصاد والصراع التاريخي، وما يمس الفكر والنفس البشرية من دين، وعلوم، وفنون، وفلسفة، ونظام، فهو بنية فوقية. أما البنية الإيمانية فأساسها الرحمة الإلهية التي خلقت الإنسان، وصورته، وأخرجته للدنيا، وخاطبته على لسان الرسل، وأماتته، وجازته، وزودته بدنيا فيها معاشه، وبدليل سماوي منزل من عند الله هو الشرع، وبعقل يطبق به الشرع على أعماله في اتخاذ الوسائل وتحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالرحمة الإلهية، ابتداء من وجود الله ووحدته وربوبيته وكونه مالك الملك واتصافه بالأسماء الحسنى، هي الأصل. والحكمة فرع، وهي أن يسمع العباد تنزيل ربهم فيستجيبوا بالسعي والجهاد ليفعلوا ما به أُمِرُوا على خير صورة يقدر عليها العقل والحيلة البشرية، وتسمح بها الشريعة، أو تندب إليها، أو تأمر بها.
ويلتئم البناء في سلوك المومن وسلوك جماعة المومنين. فالقلب أمير المملكة الإنسانية، هو وعاء لرحمة الله المتمثلة في التصديق، والحب، والسكينة، والرقة، والعزة بالله، والشوق إلى الله، وأخواتهن. والعقل آلة الحكمة إن ائتمر ونفذ. وما يسميه الماركسيون مثالية هو تعلق أحلام الفيلسوف بأهداف أخلاقية ينسى الحالم بها وجود الأرض، وصراعها، ومشقتها، وطبائع البشر في العُدوان والنهب، وعنادهم الشرير، وضرورة تكتل أصحاب المصالح ليحاربوا خصومهم. لا ينسى خطاب الله المومنين أن يذكرهم بأن الدنيا دار بلاء، ودفاع، ومناهضة للظلم والاستكبار. بل يجعل الجهاد هو الصورة العليا للإيمان المكتمل. بناؤهم مادي في أساسه، بشري نفسي هَوَسِيٌّ في سقفه. وبناء المومنين أركانه التوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج. والجهاد ذروة السنام. بناؤنا تنزيل من حكيم حميد، مشدود إلى قلوب مِلْؤُها الرحمة، وعقول رائدُها الحكمةُ. بناؤُنا يربط الإنسان بالله عز وجل، وبناؤهم يؤول إلى علاقات اجتماعية يجب سحق الإنسان لتغييرها. رحمة الإسلام تُبقي، وتتحنَّنُ، وترفق. من موقف قوة. من موقف حكمة. من موقف المجاهد الصامد.


الدراسة للشيخ عبد السلام ياسين
مرشد جماعة العدل و الإحسان
و صاحب الإجتهاد في مسألة الفكر و الفقه و التفكير المنهاجي النبوي

و صورته هي التي تظهر في فهرس كل فصل

فراج يعقوب 05-19-2013 06:20 PM

رد: دراسات في القرآن والنبوة:
 
جزاك الله خيرا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم


الساعة الآن 03:23 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى