منتديات البوحسن - نواعير الخابور

نواعير الخابور ... أنين الذكرى نواعير المحشوش ( أنموذجا )‏

في دورانها الدائم تساير الزمن وترافق الأيام ، وفي أنينها تبكي المدينة ، وفي مائها المتدفق تحكي قصة الأجيال وكفاحهم من أجل الوجود والبقاء ، تعزف موسيقاها الخالدة تلك السيمفونية الريفية بحزن ورتابة دون ملل أو كلل .. يتذكر المغتربون الأهل بأنينها .. ويصغي السائح بتمعن لموسيقاها .. ويبكي العاشق المحزون لبكائها .. تلك هي نواعير الخابور المترامية على ضفافه والذي يحتضنها كما يحتضن الأب الحنون صغاره ..‏

كانت هي أيضاً تزينه بدواليبها الخشبية كما تزين الأقراط وجوه الحسناوات .. وكل منها تخبئ لنا بين حجارتها ألاف القصص والحكايات و أسرار العاشقين ..غالباً ما كانت الخليل والملاذ الأمين للمتيمين .. يبوحون أليها بما يفيض في خلجان القلوب من ألام وحسرات .. وكثيراً ما تغنى الشعراء بهن وخطت ريش الرسامين دواليبهن الخشبية ..‏

تعتبر النواعير من أهم الأوابد الأثرية والتاريخية في سورية ، وقد عرفها الإنسان قديماً كما لعبت دوراً هاماً في حياة منطقة الجزيرة السورية .. وهناك العشرات من بقايا هياكلها مترامية على ذراع الخابور ..‏

كما اكتسبت النواعير مسميات كثيرة نذكر منها:‏

( ناعورة ) مأخوذ من صوتها نعرت الريح أي هبت الريح .‏

( دولاب ) مأخوذ من شكلها الدائري .‏

( اسم المنطقة ) نواعير تل أبو عمشة – دواليب الدشيشة .‏

( الصفــة ) دولاب العويصي في قرية السيالات في ريف الحسكة ، حيث كان له صوت قوي يشبه العويص ، والعويص في لهجة أهل الجزيرة السورية " عواء أبن آوى - ( اسم صاحبها ) نواعير المحشوش للشيخ محشوش براك الملحم على الخابور وسط مدينة الحسكة‏

كانت الإبل تأتي من المراعي البعيدة على صوت الناعورة حيث كانت البهائم تستأنس جداً بصوتها ، وكحالة اجتماعية أيضاً كانت ملتقى للناس الذين يأتون إليها لأغراض عدة منها على سبيل المثال لا الحصر(غسل الصوف والفراش واللباس والسباحة والصيد ) وأحياناً تكون هذه الأعمال ذريعة لرؤية الحبيب عند الناعورة ..‏

وللتعّرف أكثر على النواعير وكيفية إنشائها وأقسامها وعملها نأخذ نواعير المحشوش " أنموذجاً " كونها امتازت عن غيرها بأمور عدة كالحجم الكبير والموقع الاستراتيجي وماله من أثر كبير في رسم مدينة الحسكة على الخارطة السورية ..‏

الشيخ محشوش براك الملحم أحد وجهاء قبيلة الجبور ، رجل سبق عصره بفكره المتدفق علماً ومعرفة أراد أن يطوع مياه النهر القوية الجارية ويستفاد منها في زراعته ومعيشته ، فقام باستقدام أحد الحرفيين المهرة المتخصصين وأسمه ( أرتين يغييان ) سنة 1896 ميلاداً ، لينشئ نواعيره في موقع استراتيجي في أرضه على الضفة اليسرى لنهر الخابور والتي سميت منطقته فيما بعد بقلب الحسكة .. صنعت من أخشاب السنديان والتوت الذي أحضروه من مدينتي دير الزور والبوكمال بالإضافة للمسامير الحديدية والصناديق المعدنية وكانت سعة الصندوق الواحد / عشرون ليتراً / .. وكانت هذه الخطوة من اللبنات الأولى تقريباً بتأسيس مدينة الحسكة وهذا الكلام مذكور في مكتبة / كايهكا / في الولايات المتحدة الأمريكية .. هذا ما أكده لنا الدكتور/ محمد مسلط البراك / رئيس جمعية الصداقة السورية الأمريكية .. حفيد الشيخ محشوش.. ثم زحف الكثير من الناس إلى جوارها عام 1911 ميلادياً لينتج عنه تجمع سكاني يمارس نشاطي الزراعة والتجارة مما أوجد ذلك الحالة الاقتصادية وهذا معيار أساسي بتكوين المدن ..‏

كانت مادة الخشب هي المادة الرئيسية في صناعة الناعورة وتتألف كل مجموعة من الأخشاب من أسم خاص بها وهي مرتبة بدقة متناهية في هيكل الناعورة ، نذكر منها: / الكعب – القلب – الأعتاب – الوشاحات – القيود – الدائرة / بالإضافة إلى إنشاء قاعدة الناعورة وهي من الحجارة السوداء والأسمنت على الأغلب ، أستغرق بناءها أكثر من خمسة أشهر .. وهي ذات حركة دائمة عاموديه دائرية ، منقلبة صناديقها فارغة معدة لرفع الماء ثم تصبه في سواقي وقناطر معدة لهذا الغرض مما يسهل وصول الماء للبساتين والمنازل .. أما كمية الماء الذي تستخرجه الناعورة فهي تفوق أي محرك آلي اليوم ناهيك عن المصاريف من مازوت وزيت وكهرباء وما يتبعه من جهد بشري .‏

ويمكن القول أنها إبداع هندسي إنساني فريد طوع مياه الأنهار العالية الضفاف .. ولعل أدق ما يقال عن نسب النواعير أنها من أبداع الشرق العربي في العصور الوسطى شاءت الأقدار في عقد السبعينات من القرن المنصرم أن تكف الناعورة عن عزفها بعد تفاني دام أكثر من ثمانين عاماً ، وأن تلملم أشيائها الخلابة وترحل تاركة ً خلفها ذكريات جميلة تبعثرت من حولها ورُسم بعضها على هيكلها الأسود الحجري ، وهيكلها اليوم هو عزاءنا الوحيد .. يقف شامخاً يعاند الزمن رغم ألمه وحزنه المتواري بين مسامات حجارته .. وهياكل النواعير الأخرى على النهر ليست بأحسن حال منه ..‏

الحسكة: عبد الغفور الملحـــم‏