منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=13)
-   -   الشيخ محمد الحامد (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=3124)

أبو يوسف 05-01-2009 07:47 AM

الشيخ محمد الحامد
 
:sm152:

[
COLOR="RoyalBlue"]


سيدي الشيخ محمد الحامد

http://www.islamup.com/uploads/image...dce661220f.bmp


عاش الشيخ محمود الحامد والد سيدي رحمهما الله تعالى ، غلبت عليه صفة التصوف واشتهر بها ، وكان حار المزاج حاد الطبع ، كثيراً ما تطغى عليه الأحوال الشديدة ، على جانب كبير من الصلابة الدينية والورع ، عفيف النفس ، كريم القلب ، يعيش من كتّـابه الذي أنشأه لتعليم الأطفال القراءة والكتابة . ولقد تربى وتلقى التصوف على يد الشيخ الكبير عبد الفتاح العبد رحمه الله تعالى ، الذي تتلمذ على يد الشيخ محمد سليمان الاروادي رحمه الله تعالى ، وهو أحد خلفاء مولانا خالد النقشبندي رحمه الله تعالى .




مولده :

في هذا البيت ، بيت العلم والتصوف ، ولد سيدي رحمه الله تعلى سنة 1328هـ - 1910م ، وكانت ولادته بعد انقطاع حمل أمه عدداً من السنين ، حتى شكا والده إلى بعض خواصه انقطاع حمل زوجته ، فأخبروه أنه كان في حمص شيخ مبارك اسمه الشيخ سليم خلف [ 1 "> ، يكتب بعض الكلمات على ورقة يعطيها لمن تشكو إليه انقطاع حملها ، فتلحسها ، فتحمل بإذن الله تعالى ، ولقد توفي ؛ لكن ولده الشيخ محمد أبو النصر يقوم مقامه في هذا ، وهو يتردد على حماة لتفقد مريديه.

وبتقدير الله سبحانه كتبت الورقة بيد الشيخ أبي النصر ، وحملت الأم بعد ذلك بإذن الله تعالى ، وولد الشيخ رحمه الله تعالى . وعاش في كنف والديه وبين أخويه ستة أعوام تقريباً ، وفجع في السادسة من عمره بوالده ، وفي العام نفسه فجع أيضاً بأمه ، وذاق مرارة اليتم والفقر عدداً من السنوات ، وكانت من أشد السنوات التي مرت على البلاد ، وهي سنوات الحرب العالمية الأولى .

وكان والده يتحدث مراراً أن ولده هذا سيكون عالماً ، ورآه مرة بعض الصالحين ، فأسرع إليه مقبلاً ومعانقاً وهو يردد : الشيخ محمد ، الشيخ محمد .

ولما مرض الوالد مرض الوفاة ، اشتد به القلق على أولاده ، خاصة وأنه لم يتمكن في خلال حياته كلها ، أن يوفر لهم شيئاً من المال يتركه لهم ، والبلاد تلفها المجاعات والأوبئة طيلة الحرب العالمية الأولى ، فأخذ يبحث عن وصي يوصيه عليهم ، فلم يجد أحداً ؛ لأن كل إنسان يشغل خلال الأزمات بنفسه ، فما كان منه إلا أن أوصى الله عليهم ، فكان يردد في مرض وفاته : " إني أوصي الله على أولادي " وأشار إلى ولده الكبير بدر – وكان حينئذ في سن الخامسة عشرة من عمره – ليقترب منه ، فهمس في أذنه بكلمات ، أوصاه بها أن يعتني بأخويه الصغيرين .

كانت وفاة الوالد في تلك الظروف القاسية ضربة شديدة ، تبعتها أخرى بوفاة الوالدة ، فلم تحتمل العائلة الصغيرة شدة هذه المصائب فتفرق شمل الإخوة ن واضطر الأخ الكبير للانفصال عن أخويه الصغيرين .

ذكر لي سيدي رحمه الله تعالى ، هذه المرحلة في حياته ، حدثني عن مشاعر الألم التي كانت تحز في نفسه ، وتمور في فؤاده ، دون أن يستطيع في ذلك الوقت التعبير عنها ، قال : لو كان لليتيم لسان يبين به عن لوعاته وآلامه ؛ لأبكي الحجارة الصماء ، مرت بنا أيام ، كنا كثيراً ما نبقى في المدرسة في فرصة الغداء دون طعام ، معظم التلاميذ يذهبون إلى بيوتهم ، ونحن نبقى في المدرسة ؛ لأنه لم يكن لنا بيت ولا طعام ، حتى إن أخي كان يبكي أحياناً من شدة الجوع ، أما أنا فكنت أشغل نفسي باللعب عن آلام الجوع .



نشأته العلمية :

لم يغفل بدر الدين عن تعليم أخيه محمد حتى في أشد أيام البؤس ، فقد أدخله المدرسة الابتدائية ، وهو ما يزال في الفترة التي كان يعيش فيها عند الأسر الفقيرة في أطراف البلد ، وأيقظ فيه روح الجد ، لما كان يرى فيه من مخايل الذكاء ، نال الدرجة الأولى على رفاقه في الصف الأول ، وفي السنة الثالثة من دراسته إنفرجت الحياة قليلاً لأخيه بدر الدين من بعد إنسحاب الأتراك من سورية وقيام الحكم الفيصلي فيها ، حيث عمل أخوه معلماً ابتدائياً ، واستمر الأمر هكذا حتى أنهى محمد مرحلة الدراسة الابتدائية ، وتخرج من الصف السادس سنة 1922م ، فأدخله أخوه المدرسة الإعدادية ، لكن محمداً لم ينسجم مع بيئته الجديدة في المدرسة ، وشعر بنفره منها ، وبدا عليه التقصير في دروسها ، فإن ميله إلى العلم الشرعي والتزامه حلقات بعض الشيوخ في طلبه ، وسلوكه الديني الصارم ، فأحس أخوه أنه يحمله على الذهاب إليها حملاً ، فأخرجه من المدرسة الإعدادية سنة 1923م ، ووضعه عند معلم خياطة للملابس العربية ليتعلم عنده مهنة الخياطة ، ويتابع معها طلب العلم الشرعي كما يريد فكان محمد يعمل في النهار في الدكان ، ويحضر بعد المغرب دروس العلماء في المساجد ، وينضم بعد العشاء إلى الحلقات الخاصة لطلب العلم ، إلى أن افتتحت في حماة مدرسة دار العلوم الشرعية سنة 1924م ، فرغب محمد في دخولها ، وكان أخوه بدر الدين في تلك السنة في دمشق يتمم دراسة الصف الأخير من دار المعلمين ، فأرسل خاله الشيخ سعيد الجابي يستشيره في إدخاله فيها ، فأقر بدر الدين الفكرة ، وعلى الفور ترك محمد دكان الخياطة ، ودخل المدرسة الشرعية ، التي كانت أسعد أيام حياته ، فرغم صغر سنة بين أقرانه من طلاب المدرسة كان الأول بينهم . وما كان رحمه الله يهتم لشؤون المعيشة ، إنما كان همة في إرواء ظمأه العلمي وإشباع طموحه الفكري ، ولم تكن المدرسة الشرعية كافية له بل كان يتردد صباحاً ومساءً على الدروس العلمية الخاصة التي كان يعقدها الشيوخ في المساجد لخواص طلابهم ، حتى بلغ عدد الحلقات العلمية التي كن يحضرها تسع حلقات في اليوم ، سمعت هذا منه رحمه الله تعالى.



مشايخه :

تتلمذ على أيدي كبار العلماء منهم شيخ الشافعية في حماة ، ورئيس جمعية العلماء فيها ، الشيخ محمد توفيق الصباغ أدام الله توفيقه ، ومنهم سماحة الأستاذ الجليل الشيخ محمد سعيد النعساني مفتي حماة ، ذو الباع الطويل في العلوم والمعارف ، ومنهم فضيلة الأستاذ الفقيه الحنفي ،

الحجة العالم العامل ، التقي الورع ، الزاهد في الدنيا ، شمس علماء حماة ، الشيخ أحمد المراد رحمه الله .



المدرسة الخسروية بحلب :

في سنة 1347هـ – 1928م أنهى رحمه الله دراسته في مدرسة حماة ، فرحل في السنة نفسها إلى حلب يبحث عن منهل علمي جديد يروي منه ظمأه العلمي ، فهيأ الله له سبيل الانتساب إلى المدرسة الخسروية الشرعية فيها ، ( وكانت تعتبر في ذلك الوقت من أرقى المدارس الشرعية في بلاد الشام ) ، وهنا ظهرت شخصيته العلمية بين أقرانه وحتى بين شيوخه ، فقد وصفه الشيخ أجمد الشماع -وهو أحد الشيوخ في المدرسة - قائلاً : " بحر علم لا تنزحه الدلاء " ، كان يحرص رحمه الله تعالى على شهود الدروس العلمية التي تلقى في مساجد حلب ، فكان يداوم على دروس عالم حلب الكبير الشيخ نجيب سراج الدين رحمه الله تعالى ، ولم يقتصر في دراسته على المناهج الرسمية بل كان يطالع الكثير من المصنفات ، يدفعه إلى ذلك شغفه العلمي ، وحرصه على بناء شخصيته العلمية بناءً كاملاً ، وكم كان يذكر رحمه الله كلمة أخيه الأستاذ بدر الدين وهو في وداعه قبل سفره إلى حلب ، قال له في محطة القطار : " أعوذ بالله من نصف عالم " .

شيوخه في حلب :

الأستاذ الشيخ أحمد الزرقا الفقه الجليل ، وكالشيخ أحمد الكردي مفتي الحنفية في حلب ، والشيخ عيسى البيانوني ، والشيخ إبراهيم السلقيني العالم العامل والتقي الورع ، والشيخ محمد الناشد ، والشيخ راغب الطباخ ، والشيخ أحمد الشماع ، والشيخ عبد المعطي ، والشيخ فيض الله الأيوبي الكردي المحقق العظيم في علمي التوحيد والمنطق ، والشيخ محمد أسعد العبجي مفتي الشافعية في حلب وهو والشيخ عبد الله حماد الباقيان في قيد الحياة من مشايخي ، جزاهم الله خير الجزاء وبارك عليهم أحياءً وأمواتاً .

ومما يزيد في أهمية هذه المرحلة بالنسبة لسيدي رحمه الله أنه فيها حصل له التحول الكبير عن أفكار دعاة السلفية ، التي كان يتبناها منذ كان في حماة ، إلى السلوك في طريق التصوف على يد شيخه العظيم الشيخ محمد أبي النصر خلف النقشبندي رحمه الله تعالى .

العودة إلى حَمَاة :

وفي سنة 1353هـ عاد رحمه الله بعد أن أنهى دراسته في حلب ، ولم تطل فترة استقراره في حماة ، فقد رحل عنها سنة 1356هـ إلى مصر ، ملتحقاً بالأزهر الشريف ، ففي هذه السنوات الأربعة أثبت الشيخ مكانته العلمية فجذب أنظار علماء البلد لديه ؛ حتى أكرهوه على أن يستلم بعض المناصب الدينية في البلد ، وكان كارهاً لها، ففي سنة 1354هـ كلف بالخطبة في جامع الأشقر، وألقى أول خطبة في الجامع المذكور يوم الجمعة لأربع خلون من ربيع الآخر .

وفي هذه الفترة أيضاً ، خاض الشيخ صراعاً فكرياً عنيفاً ضد الذين كانو يناوئون الصوفية في حماة ، وهم أتباع خاله الشيخ سعيد الجابي رحمه الله تعالى ، ومن المعلوم أن سيدي كان موافقاً لهم قبل رحلته إلى حلب ، بل إن خاله الشيخ سعيد كان يعدّه ليكون خليفته في هذا ، فأصيبوا بتحوله إلى الصوفية بخيبة أمل مريرة ، زاد من مرارتها الموقف الصارم الذي وقفه الشيخ منهم ، حتى تمكن رحمه الله من تثبيت أقدام الصوفية في البلد ، بعد أن زعزعتها الحملات العنيفة التي كان يشنها الشيخ سعيد عليهم في دروسه العامة .

وموقف سيدي هذا أدّى إلى تركه الخطبة في جامع الأشقر ، لكن الله سبحانه وتعالى عوضه عنه بجامع السلطان ، كما جر عليه كثيراً من التعب والعناء ، فنصحه شيخه أبو النصر أن يبتعد عنهم ، وعن مجادلتهم . وأنى له هذا وهو قريب منهم ! لذلك كتب إلى شيخه رحمه الله قائلاً : " كنتم أرسلتم لي كتاباً تأمرونني فيه بالإبتعاد عن المنكرين بقدر الإمكان ، وعدم مكالمتهم ومجادلتهم فيما يتعلق بأمر الطريق ، وقد وفقني الله تعالى لامتثال أمركم حسب الطاقة ، ووجدت له أثراً حميداً في نفسي وأشعرتُ بالتقدم والزيادة من الخير ببركتكم وعطفكم ، غير أني لا بد لي ياسيدي من الخلطة ببعضهم ، والاجتماع بهم ، وأنا من هذا تجاه أمر واقع ، أتمنى الخلاص منه ، فلا أقدر عليه ، ولا يخفى على مولاي – أعزه الله تعالى – أن المنكر لا يصبر عن الجدال مصداقاً لقوله – صلى الله عليه وسلم - : " ما ضل قوم بعد هديّ كانوا عليه ؛ إلا أعطوا الجدل " وعن هذا تقوم المجادلات بيننا ويشتد الخصام ، ولا نتوصل لنتيجة مرضية ، ويتعبني ذلك تعباً عظيماً وعناءً كبيراً ، وأحس بظلمة أرواحهم تسري إلى قلبي ... هذا وقد صار لي سوء الحظ بهم ، وليتني أتمكن من النجاة منهم ، فلا أراهم ولا أسمع بهم " اهـ

ومع هذا لم ينقطع الشيخ عن دراسته العلمية ، فقد كان دائب المطالعة ، وقد يسر الله له أن يستلم حجرة في الجامع الجديد ، جعل منها مكان لدارسة العلم مع بعض زملائه من شباب المشايخ في البلد ، كما بدأ يلقي دروسه العامة في هذه الفترة ، ففي سنة 1353هـ عهد إليه الشيخ أحمد المراد – رحمه الله تعالى – بالتدريس مكانه بعد الظهر في الجامع الجديد . وبعد تركه جامع الأشقر ، طلب منه الشيخ أديب الحوراني – رحمه الله تعالى – أن يخطب عنه في جامع السلطان ، وبعد مدة كلفه بالتدريس . ومنذ ذلك الوقت أصبح مسجد السلطان المركز الرئيسي لجهوده العلمية.



الرحلة إلى مصر :


وفي عام 1356هـ الموافق 1938م سهل الله له سبيل الارتحال إلى مصر ، والانتساب إلى الأزهر ، ومن الأسباب دراسته في مصر ما ذكره في رسالة أرسلها إلى شيخه أبي النصر بعد عودته إلى حماة ، قال فيها : " إن موقفي في حماة أرحج موقف ، فقد عاداني أقاربي وأتباع خالي ، وهم أكثر الناس عندنا ، وأصبحت غير مقبول النصح عندهم ، ومخدوشاً من الوجهة العلمية في نظرهم ، إذ يرون أن علمي خرافات وبدع ، جئتهم بها ، وقد فسد الرأي العام عندنا ، وأصبحت غريباً في وطني ، وغير خافٍ عليكم ضعف الطلب في حماة ، وإني أمرؤ أرغب في العلم ، لهذا كله أسأذنتكم فأذنتم لي ، وإني أعلم ما سأحمله من المشقة في البعد عنكم وعن إخواني ، ولكن الغاية التي أطلبها تدفعني إلى احتمال المصائب وتلقِّي الشدائد ، وقد قال لي أحد أشياخي لما ذكرت له أن الشوق لسيدي يكاد يحملني على العدول عن الأزهر : ( إن هذا السفر سعاد نلتها بسر شيخك. وذكر لي أن الذي يريد نشر الطريق في حماة ، ينبغي أن يكون واسع العلم ، لا يعبأ بالمنكرين ، بل يقيم الحجة عليهم ، ويلزمهم الحق بالدليل ، وهذا أمر لا تقدر عليه بدون تعلمك في الأزهر الشريف ) فوجدت لقوله وجهاً من الصواب " .اهـ

وسافر إلى مصر وهو يظن أنه يفاجأ باختلاف كبير ، فقد سبقت مصر البلاد العربية في تأثرها بأفكار الغربيين وعاداتهم ، فانتشر فيها السفور والاختلاط بين الرجان والنساء إنتشاراً كبيراً، ولم يستطع رحمه الله تحمل رؤية المنكرات ، فما كان منه بعد بضعة أيام من وصوله ، إلا أن عاد إلى حماة . ولكن الناس في حماة استهجنوا عودته ، ولاموه أشد لوم ، وأصبحت عودته حديث الأندية ، فأينما ذهب تأخذه الأبصار ، وحيثما سار تتبعه الغمزات و الابتسامات ، وسبب ذلك أن الناس كانوا ينظرون إلى الأزهر نظره إجلال وإكبار ، ويعتبرون الدراسة فيه نعمة كبرى ، ولهذا استقبلوا سيدي رحمه الله بما استقبلوه به ، وأنكروا عليه إنكاراً لم يستطع احتماله ، فكر راجعاً إلى مصر وترك حماة ليلاً ، ولم يتمكن من زيارة شيخه لوداعه .

والحقيقة أن ما يراه الزائر لأول وهلة في مصر ، لا يعبر عن حقيقة المجتمع المصري ، فالمجتمع المصري ينطوي على خير كثير ، ولا يزال في مصر الكثير من العلماء والصالحين ، وهذا ما حصل لسيدي رحمه الله ، فبعد بضعة أشهر تغير نظرته إلى المجتمع المصري ؛ وانقلب الكره والنفور عنده إلى محبة لمصر وأنس بالمصريين ، فتعرف على كثير من الصالحين ، وأقام صداقات قوية معهم ، واشتهر بلقب الشيخ الحموي ، وكانوا يراسلونه عندما يعود أثناء العطلة الصيفية إلى حماة.

وفي مصر تعرف على الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى ، وتحولت هذه المعرفة إلى علاقة حبيبة عالية بينهما ، وإلتقى بالعالم الكبير الشيخ زاهد الكوثري رحمه الله تعالى[2"> ، وقد نصح سدي أن لا يختلط بالناس كثيراً ، وذلك لما لاحظه عند سيدي من شدة نفوره من المنكرات ، وتألمه من رؤيتها ، وفيها تعرف على الرجل الصالح ، والعالم العامل ، فضيلة الشيخ مصطفى الحمامي رحمه الله تعالى ، تأثر به كثيراً وأعجب بصلاحه وتقواه ، وكان كثير الزيارة له .

ومن الملاحظ أن أكثر الذين تأثر بهم سيدي في مصر ، كانوا من خارج الأزهر ، ولم يستفد من الأزهر زيادة في علمه . فقد قالوا له بعد إختبار الانتساب إلى الأزهر : " إنك عالم لا تحتاج إلى الدارسة فيه " ، ولكنه كان يعلن أنه استفاد من دراسته في الأزهر طريقة تحقيق المسائل وتدقيقها ، وهو أمر ظاهر في آثاره العلمية وفي أجوبته الفقهية ، وكان زملاؤه في الدراسة يدهشون من كثره معلوماته ، وغزارة محفوظاته ، وخاصة في الأحكام الفقهية .

الاستقرار في حماة :

وفي عام 1362هـ / 1942م عاد رحمه الله إلى حماة ، ليعيش آخر مراحل حياته . وفي هذه المرحلة أثمرت جهودة ، وأينعت ثماره ، ومع أنها مرحلة الاستقرار ؛ فإنها كانت أكثر مراحل حياته ، تعباً ومشقة ، فهي مرحلة الجهاد ، فلما عاد الشيخ إلى حماة ، كانت البلاد في ذروة جهادها الوطني من أجل الحصول على الاستقلال ، وهذا أحد الأسباب التي دفعت الشيخ للرجوع إلى بلده . ليضم صوته إلى أصوات المطالبين بالاستقلال ، ويذكي بخطبه الحماسية جذوه النضال والجهاد في قلوب الأمة ، داعياً إلى الثورة على المستعمرين ، وتطهير البلاد منهم ، وهو الأمل من عمره الذي كان يراوده منذ رآهم يدخلون البلاد ، وكان وقتئذ في العاشرة من عمره ، ودعا الله سبحانه وتعالى ببراءة الطفل وصفائه ، أن يريره خروجهم من حماة كما شاهد دخولهم ، ولقد حقق الله أمنيته هذه ، وأقر عينه برؤيتهم يخرجون من نفس الشارع ، ومن أقواله ضد الإستعمار " أيها الإخوان لقد استخفت فرنسا بنا ، وخاست بكل العهود ، ولم ترع للمواثيق حرمة ، لقد طلبت منا آخراً أن نقبل أموراً ، فيها ترسيخ أقدامها في هذه البلد واستعباد أهلها ، فاغضبوا ثم اغضبوا ، وثوروا ثم ثوروا ، فما عاد السكون ينفع ، وما عاد السكوت يفيد ، لقد كان نبيكم صلوات الله عليه وسلامه يرتجز هو وأصحابه قائلين : *





المشركون قد بغَوا عليناوإن أرادوا فـتـنــة

أبَـــيْـــنــــا

أبَـيْـنـا ، أبَـيْـنـا





وما أجدرنا إعادة ذلك الرجز قائلين :



هذي فرنسا قد بَغَت عليناوإن أرادتْ فـتــنــةً

أبـــيْــــنــــا

أبَـيْـنـا ، أبَـيْـنــا





ولم ينقطع - رحمه الله تعالى - خطبة المنبرية أيام الجمع في أشد ساعات الخطر ، فلقد خطب وطائرات المستعمرين تضرب حماة ، وتلقي قنابلها على المساجد ؛ ولما وقت مأساة فلسطين ، تألم الشيخ كثيراً ، ودعا إلى الخروج للجهاد وأراد أن يخرج بنفسه ، ولكن كبار العلماء أشاروا عليه بالبقاء لحاجة الأمة إليه ، ولكثرة عدد المجاهدين ، ولقد استحوذت قضية فلسطين على اهتمامه ، فخصص لها الكثير من خطبه المنبرية ، وكتب عنها عدداً من المقالات في الصحف والمجلات ، وكان يرى رحمه الله تعالى ، أن حالنا مع اليهود لا تحلها إلا القوة ، وكان دائم الوصية للشباب ، لينضموا إلى الجيش ، ويكونوا من ضباطه وجنوده ، وفي عام 1956م أثناء الاعتداء الثلاثي على مصر انضم الشيخ إلى صفوف المقاومين الشعبيين ، وحمل السلاح بنفسه ، وكان يخرج على رأس إحدى المجموعات إلى حقول التدريب .

جهَادُهُ الاجتماعي :

منذ أن استقلت البلاد ، أدرك الشيخ – رحمه الله تعالى – أن الأمة أصبحت علىمفترق الطرق ، فقد ظهرت فيها دعوات مختلفة الاتجاهات ، تدعو إلى الميوعة ، والتحلل من التكاليف الدينية ، ونشر الفساد في البنية الاجتماعية للأمة ؛ وذلك بتشجيع السفور والتبرج ، واختلاط الرجال والنساء ؛ فضلاً عن أفكار تشكك الناس بعقيدتهم وتدفعهم إلى الإباحية والإلحاد .

ورأى أن واجبه الأول في هذه الحياة ، أن يقف في وجه هذه التيارات ، وأن يعمل للحفاظ على عقيدة الأمة وذاتيتها المستقلة ، وكيانها المتميز ، فقام رحمه الله تعالى بهذا الواجب ، متحملاً كل متاعبه ومسؤولياته ، ومعرضاً نفسه لمخاطر جسيمة .
[/COLOR]

أبو يوسف 05-01-2009 07:50 AM

رد: الشيخ محمد الحامد
 
جهَادُهُ التعليمي :

المدرسة والمسجد هما الميدانان الرئيسيان لجهاده التعليمي . أما المدرسة فقد كانت مركز عمله الرئيسي ، فمنذ أن عاد من مصر ، اختار طريق المدرسة ، وفضله على منصب القضاء ، لأنه رحمه الله كان حريصاً على نشر العلم ، مع أن منصب القضاء كان ميسراً له .

أما المسجد ، فقد كان الميدان الثاني لجهادة التعليمي ، وكما كانت وسيلة لاتصاله بالطبقة المثقفة في الأمة ، كان المسجد وسيلة اتصاله بأفراد الأمة جميعاً ، يلتقي بهم كل جمعة في خطب المنبرية التي كان يتناول فيها موضوعات مختلفة . بعضها في العقيدة ، وبعضها في عرض مسائل علمية يحتاج إلى معرفتها الناس ، ويختار في أكثر خطبه المواضيع ذات الصلة بحياة الأمة .



المرحلة الأخيرة :

وما ترك رحمه الله تعالى ميادين جهاده هذه حتى آخر حياته ، إلى جانب أعماله العلمية الكبيرة ، وواجباته الاجتماعية الكثيرة ، ولم يفطن - رحمه الله تعالى – وهو في خضم أعماله ومسؤولياته إلى العلة التي تسربت إلى كبده ، والتي ساعد على سرعة سريانها الأثقال الكثيرة التي ينوء بحملها العديد من الرجال . ولما بدأ أثرها يظهر في إضعاف جسده ، كان - رحمه الله – يتألم لما يشعر به من ضعف ويعجب منه ، ومع ذلك كان يجاهد ضعف جسمه بقوة روحه وشدة عزمه ؛ أصدق إنسان في هذا ، الأخ الطبيب ، السيد سلمان نجار حفظه الله تعالى ، لأنه كان ألصق الناس بروح الشيخ وقلبه وجسده ، شرفه الله تعالى بخدمة الشيخ وملازمته طيلة فترة المرض .



ظهور المرض :

كان مرض الشيخ رحمه الله تعالى كما وصفته مرضاً عضالاً ، من أهم أسبابه ، تلك الأحداث الخطيرة التي واجهته في حياته ؛ سواء منها ما حل ببلدته حماة خاصة ، أو ما حلّ بالعالم الإسلامي عامة ، وكثيراً ما كنت أسمعه يقول بيني وبينه : " أخشى أن أقع في مرض عضال لا أشفى منه " وقد حدث فعلاً ما كان يخشاه ، إذ وقع فريسة لمرض السكري منذ أكثر من خمس سنوات ، ثم كشف عنده قبل وفاته بسنة تقريباً ، أنه مصاب بتشمع الكبد الذي ظهر بعرضه الخطر المسمى بالحبن ، وإن السكري عنده مظهر لضعف الكبد ، بسبب إختلال وظيفته الاستقلابية ، وليس ناشئاً عن قصور غدة المعثكلة ( البانكرياس ) والتي تعتبر المتهم الأول لظهور السكري ، عند الأشخاص الذين هم في مثل سن الفقيد رحمه الله تعالى .

والشيخ كان مشغولاً عن مرضه بجهادة العلمي الطويل الذي ملك عليه أوقاته ، ولم يفسح له المجال لتتبع أسباب علته تتبعاً دقيقاً ، بالسفر إلى أطباء مختصين ؛ ونصحه الطبيب المختص

" موفق المالكي " - أسعده الله تعالى – بتركه سبعين بالمئة من أعماله التي اعتاد عملها ، وكانت هذه هي نسبة إصابة الكبد عنده .

تطور المرض :

ثم تطورت عنده العلة ، وداهمة العرض الأخطر لتشمع الكبد وهو النزف الداخلي الشديد المتسبب من إنفجار دوالي المريء ، والذي تكرر ثلاث مرات في حماة ، كاد يودي بحياته ، لولا أن تداركته عناية الله تعالى ، بما بذله أطباء بلدته الكرم من إسعافات ، كنقل الدم ، وسهر متواصل على صحته الغالية ، وخاصة الطبيب المؤمن عبد الرزاق الكيلاني ، وقد التف تلامذته ومريدوه حول بيته الشريف المتواضع ، لا ينامون الليل طيلة ثلاثة أشهر قبل سفره إلى بيروت ، بقلوب وجلة ، وأعين ساهرة ، أن يداهم حبيبهم الغالي ما يكرهون ، وليسعفوه بدمائهم الزكية ، لأن كل واحد منهم يعتقد أن حياته لا قيمة لها إلا بالمحافظة على حياة حبيبة ، الذي حل منه محل الروح من الجسد ، والسواد من العين . ولقد كان يقول – رحمه الله تعالى – أمام هذه المشاعر الفياضة والعواطف الجياشة : " إنه أن شفي من مرضه هذا ، فسيعمل للإسلام – وكأنه ما عمل قط !!! وأن عمله كله سيكون جارياً في صحائفهم " ويضفي على كلامه شيئاً من دعابته المعهودة ، وخفه روحه المألوفة ، فيقول : " كيف لا وأنا أعيش بدم غيري ! وقد جدد دمي مرتين ! " أي عشرة لترات تقريباً .

ومع أنه في هذه الحالة التي يرثى لها ، لم يترك جهادة العلمي ، وبيان الحقائق الشرعية في هذه الحال ؛ بل إنه لم يترك ذلك . ويدلك على مبلغ حرصه ، أنه كان يستحلف بالله الأشخاص الذين كانوا يوصلون إليه الرسائل التي ترده من البلاد والآفاق ، هل أخفى أحد منهم رسالة عنه ؟ ويقول : " ما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه في غمده حتى لقي ربه " .

السفر إلى بيروت :

الخميس 24ذي الحجة سنة 1388هـ الموافق 3آذار سنة 1969م

بعد زيارة الطبيب المالكي له في حماة ، تقرر سفره إلى بيروت لدراسة إمكانية عملية جراحية ، من شأنها قطع النزف وتخفيف الحبن ، وتركه بعدها يعيش ضمن إمكانية كبده ، ومن المواقف التي أذكرها ولا أنساها قبل وفاته بشهرين تقريباً ، ساعة الوداع ، عندما غادر بيته المبارك متوجهاً إلى لبنان ، وقد تحلق حوله لفيف من محبيه وتلامذته ، يكفكفون دموعهم ، ويكتمون زفراتهم ، خشية أن يتأثر فضيلته – رحمه الله – من هذا الموقف ، وخوفاً منهم أن يكون آخر عهدهم بحبيبهم وحبة قلوبهم ، وكأن ابن زريق عناهم بقوله :



ودعتُه وبودي لو يودعنيصفوُ الحياة وأني لا أودعهُ





وفي الطريق إلى بيروت ، كنت ثالث ثلاثة من أطباء بلدته ، رافقناه لنرعى شأنه ، ونسعفه إذا احتاج الأمر ، ولما وصلنا إلى حمص زار قبر شيخه سيدي : محمد أبي النصر خلف النقشبندي قدس الله سره [3"> . والذي كانت له المنزلة الأولى في نفسه حياً وميتاً ، وفاءً له وتبركاً بروحه الطاهرة .

في مُسْتشفى المقاصد الإسلامية :

وقد كتب لي شرف الخدمة بجوار سريره المبارك في مستشفى المقاصد الإسلامية في بيروت ، وكنت أرى الوفود الكثير المختلفة من أهل العلم وغيرهم ، يتسابقون للتشرف بزيارته ، وسماع حديثه العذب ، ولطالما سمعوا عن فضيلته الكثير الطيب ولم يروه .

وكنت اقول له رحمة به : " لا تنس أنك مريض " ، ويجيبني : " إن الله تعالى سائلي عن هذا العلم ماذا صنعت به ؟ فبم أجيبه ؟ وقد يسر لي التحصيل العالي ، وسماع الكلمة ، وقبولها عند الناس ، وقد جاءوني وأنا أحب أن أنصح لهم لله تعالى " .

وأذكر أنه زاره شيخ شابٌ ، كان على جانب عظيم من المحبة لفضيلة الشيخ رحمه الله تعالى ، رقم حداثة عهدة به . وما أن لاحت أمام ناظريه ، وأن فضيلة مولانا أحد الأقطاب المؤسسين للمجلس الشريف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حماة ، وغيرها من البلاد الشامية ، حتى اشتعلت في قلبه محبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وطلب إجازة من الشيخ رحمه الله تعالى في إقامة مجلس شريف في الديار اللبنانية ، لتعود على لبنان بالخير والبركة . فأجابه رحمه الله وشجعه على ذلك ، وقال : " لو استطعت أن آمر حفظتي بالصلاة عليه لفعلت " .وكان هذا المجلس الشريف من بركة زيارته إلى بيروت رحمه الله تعالى.



النزفة الرّابعَة :

وفي خلال إقامة مولانا - قدس الله روحه الطاهرة - في المستشفى ، فاجأه النزف الرابع قبل إجراء العملية الجراحية ، لكنه مر بسلام بعونه تعالى ، وتداركه أطباء المستشفى بالسرعة المطلوبة .

ومن طريف ما حدث أن زاره أحد الشبان ، فأحبه لمجرد رؤيته له ، وسارع إلى التبرع بدمه ، فاستوقفه إخوانه ، لأن فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى لن يقبل منه هذا التبرع ، إلا إذا تاب توبة نصوحاً ، وعاهد نفسه على القيام بطاعة الله تعالى ، وإقلاعه عما فرط به في حق نفسه ، فقبلوا منه عند ذلك أخذ الدم .

قبيل العَمَليةِ الجرَاحيَّة :

ولما كان النزف بشبحه الرهيب يتهدد حياة الشيخ رحمه الله تعالى ، مرة في كل خمسة وعشرين يوماً ، ومن المعلوم لدى أرباب مهنة الطب أنه كلما تكرر النزف ؛ زاد مقداره ، وعظم خطره ، وقضى على المريض بشكل صاعق .

وعلى هذا ، فالعملية من باب اختيار أخف الضررين ، وأهون الشرين ، وهي ملطفة وليست شافية ، تعالج اختلاط المرض " وهو النزف " ولا تقضي على المرض الحقيقي ، الذي لا يقبل التراجع ( وهو تشمع الكبد ) .وهذه العملية تجري في بيروت كأي بلد أوروبي متقدم طبياً ؛ وهذا مما أثلج صدر فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى ، ووافق رغبته بإجرائها في بلد إسلامي ، لا يغيب عنه صوت المؤذن فيه ، كما كان يقول .

وإني لأشهد أن ذلك الطبيب المؤمن [4"> ، أضفى على فضيلة مولانا رحمه الله كل عنايته ، التي استمرت نحواً من شهرين ، وهي مدة المكث في بيروت ، وكم كنت أعجب من شدة محبته للشيخ رحمه الله تعالى ، وتعلقه به في هذه الفترة الوجيزة التي تعرف بها عليه .

العملية الجراحية :
الثلاثاء بتاريخ 1 / نيسان / 1969م

وفي صباح اليوم الذي حدد لإجراء العملية الجراحية ، دخلت على فضيلة مولانا - قدس الله سرَّه - في حجرته ، فوجدته يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، وسبحته في يده الشريفة ، رابط الجأش ، هادئ النفس ، مستسلماً لقضاء الله وقدره ، فلما رآني قال لي : " يا بني اشهد بأني مسلم ، مؤمن بالله ورسالاته " . ثم أحضر إلى غرفة العمليات ، وهو لا ينفك عن ذكر الله تعالى في قلبه الشريف ، كما هو معهود عن السادة النقشبندية في مثل هذه الأحوال ، ولقد شاهدت مع اثنين من أطباء حماة العملية التي كانت على درجة عظيمة من الصعوبة ، استغرقت نحواً من ست ساعات ونصف ، ولم يستعمل خلالها مخدر ، يؤثر على الكبد الضعيف تأثيراً ضاراً ، وقد نجحت ، وخرج فضيلة مولانا رحمه الله تعالى بسلام .

فَترة الصَّحو:

وفي خلال الفترة التي أعقبت العملية ، حيث يبقى المريض تحت تأثير المخدر لمدة ما ، كان فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى ، لا ينفك عن ذكر الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقراءة القرآن الكريم بشكل صحيح ، وضبط متقن للآيات الكريمة ، حتى إنه كان يجيب ولده عندما كان يسأله عن موضع الآية من سور القرآن الكريم ، وهو أمر غير معهود في مثل هذه الحال ، إذ تصيب المريض اضطرابات تعتري تفكيره ، وهذيان ، وبوح للأسرار .

كما أذكر من خلال هذه الفترة ، أنه كان يأمرنا بالتصدق على الجيران ، وتهيئة الطعام للعصافير التي اعتاد أن يطعمها يومياً في بيته المبارك ؛ لشدة رحمته بالحيوان ، وشفقته على الضعفاء من خلق الله تعالى ، كما أريد أن بمزيد من العجب ، كيف كان فضيلة مولانا – قدس الله روحه – يفيق في أوقات الصلوات ، وكأن إنساناً يوقظه ن فيصلي مضطجعاً على قدر استطاعته ، ثم يعود بعدها إلى الإغفاء ، بسبب بقاء أثر المخدر في جسمه الشريف .

وقد حدث أن صحا فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك ، صحواً جيداً لفترة لا بأس بها ، زاره خلالها كثير من إخوانه وأحبابه من شتى البلاد ، وتهافتت عليه البرقيات والمكالمات الهاتفية من بلدته الكريمة حماة وغيرها ، للسؤال عن صحته ، وتهنئته بنجاح العملية الجراحية ، وهو يحمد الله تعالى ، ويشكره على ذلك .

حَفاوة العُلمَاء بعَالم الأوليَاء :

وكان رحمه الله تعالى ، من الذين يقال فيهم : " من كانت له فكرة ، كانت له بكل شيء عبرة " . فكان إذا ظهر الصباح ، قال : " النهار من آثار صفات الجمال لله عز وجل " ، وكان لا يترك صغيرة ولا كبيرة ، إلا ويوجهنا إلى الحكم الشرعي ، والأدب مع الله تعالى فيها . وإني لأذكر إذ كنت واقفاً تلقاء قدميه الشريفتين ، أدلكهما لآلام حلت بهما من طيلة المكث في السرير ، فأشار إليَّ بالتنحي عن وجهة قدميه ، لأن القلم الذي أحمله في صدري ، أصبح قبالة قدميه الطاهرتين ، وهذا لا يليق بالقلم ، مشيراً إلى القلم الذي ذكره الله تعالى في اللوح المحفوظ ، وتأدباً مع سلاح العلم والعلماء .

قبَيل العَودَة إلى حماة :

ثم أخذت صحته تسير نحو الإنحدار شيئاً فشيئاً ، وهو آسف لذلك أشد الأسف ؛ يتمنى أن تكون صحته في حالة تسمح له بقيام الليل ، وعبادة الله تعالى في جوفه ، وذلك عندما كان يفيق أثناء الليل إفاقات متقطعة . ولشد ما كان حزنه وأسفه ، يتضاعف إذا سمع نداءات المؤذن يدعو إلى صلاة الجمعة ، فيبكي ويقول : " أنا كنت أجمع الناس للجمعة وأخطبهم ، وأنا الآن لا أستطيع أداءها . والله إنها لحرقات في قلبي " .

وَدَاعُهُ الدّنيَا :

و قبيل عودته إلى حماة ، ألمت به وعكة شديدة ، قال لي خلالها : إنه سوف ينزل إلى حماة بعد خمسة أيام إن شاء الله تعالى . وعلى أثر هذه الوعكة ، عزف عن الطعام والشراب ، وذكر الأصحاب والأحباب ، كأنه قد ودع هذه الدنيا ، فاتجه بقلبه إلى ربه ، لا يشرك أحداً في حبه ، مازجاً مرارة الألم بحلاوة الإيمان ، فأشهد أنه راضٍ عن ربه سبحانه وتعالى.

العودة إلى حماة :

السبت 16 صفر لعام 1389هـ الموافق 3 أيار 1969م .

وبالرغم مما كان يعانيه فضيلة مولانا ، قدس الله روحه الطاهرة ، من ضعف بالجسم ، وشدة في المرض ، فإني لم ألحظ عليه أنه فقد وعيه وغاب عن الدنيا ؛ بل كان مالكاً لوعيه ، لكنه لا يستطيع النطق بسبب ضعفه الشديد ، وقد سافر إلى حماة في اليوم الثاني بعد تلك الوعكة ، بعد أن يئس الطبيب من العلاج ، وفوض أمره إلى الله تعالى ، فقال : " هو أرحم به منا " وودعه أهل المستشفى ، والمحبون في بيروت بين باك عليه - رحمه الله تعالى - وفارغ الفؤاد ملتاع على فراقه . كما استقبل أهل بلدته نبأ قدومه المفاجئ بالذعر والهلع .

إلى جوَار الرَّحمن :

وفي يوم الاثنين الثامن عشر من صفر عام تسعة وثمانين وثلاثمائة وألف هجرية . الموافق الخامس من أيار لعام تسعة وستين وتسعمائة وألف ميلادية ، في الساعة الثامنة وثمان دقائق زوالي تقريباً ؛ أي بعد صلاة العشاء بقليل ، بعد أن تليت عليه سورة ياسين ، ووصل القارئ إلى الآية الكريمة :

( الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، طوبى لهم ، وحسن مآب )

من سورة الرعد ، فاضت روحه الشريفة رحمه الله تعالى إلى بارئها ، وأنا أقرب الناس إليه ، أرطب فمه الشريف بالماء ، وأشتم منه رائحة العطر الزكية ، وإني لأرى النور يتلألأ من وجهة الشريف كالبرق المتلاحق ، فكان والله أجمل ما رأيته في حياتي ، وقد عمّ الجميع صمت سكنت فيه قلوبهم وجوارحهم ، بما أفاضه الله عليهم من سكينة وروح ، وكأنها عاجل بشراهم له في رحمة الله ورضوانه وفسيح جناته : ( يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) .

تشييعُ الجثمان الطاهِر :

ونعته نشرات الأنباء إلى العالم الإسلامي عدة مرات ، وضجت مآذن حماة وحمص في اليوم الثاني بالتهليل والتكبير ، وإذاعة النبأ على الناس ، وقد حضرت الجموع الغفيرة من أهل العلم وغيرهم من أقاصي البلاد ، وبعد صلاة الظهر ، أذيع على جميع الناس من مآذن حماة المقالة التالية : " يا أيها الأخوة المؤمنون ، من كان له حق على فضيلة الشيخ محمد الحامد رحمه الله ، فليتقدم به إلى أهله ، وذلك بناء على وصيته " .

رحم الله الفقيد رحمة واسعة ، وإني لأشهد أنه كان راضياً عن ربه ، كثير الاتهام لنفسه ، يعتقد أن المرض كفارة لذنبه ، لارفعٌ لدرجاته ، وأن طلبه للمعالجة الطبية ، لم يكن بسبب حبه لهذه الحياة الدنيا ، بل ليستعيد صحته ونشاطه ؛ حتى يتابع رسالته في نشر العلم والدعوة إلى الله تعالى . وكأنه أدرك حاجة المسلمين إلى علمه النافع ، لكنه لما شعر أن أمنيته هذه أصبحت متعذرة ، سمع منه بعض أولاده ، ما يشير إلى أنه أحب لقاء الله تعالى ، ومغادرة هذه الحياة الدنيا التافهة ، متمثلاً قول شيخ سيدي أبي النصر النقشبندي رحمه الله تعالى في آخر حياته ، وقد ضعف عن العمل : " من لا يعمل خيراً في هذه الدنيا فالموت خير له " .



خاتمـــــــــــــــة :


فأنت ترى مما تقدم ، أن مولانا - قدس الله سره - من أولي العزم من الأولياء ، صوفياً قطباً ، ليست له شطحة ، قهر أحواله حتى استولى عليها ، فاستوى متمكناً على عرش الإرشاد كاملاً مكمِّلاً ، كنت أفتقده وهو حي ، وأشتاقه وهو أمامي ، وأحن له وأنا قريب منه .

رحمه الله رحمه واسعة وإنا لله وإنا إليه راجعون .

الشيخ عبد الحميد طِهماز

أبو يوسف 05-01-2009 07:53 AM

رد: الشيخ محمد الحامد
 
من أقواله رحمه الله :

( ونحن بأي حال نحترم البحث العلمي الصحيح ، ونعظم القول فيه ، كائناً ما كان ، ومن أي مصدر كان )

( العلم أمير على التصوف ، لنفيه عنه بدعاً ودخائل ، قد تعلق به على الأيام والدهور... )

( النبي – عليه وآله الصلاة والسلام – سراج منير ، أنى سار أنار ، وحيثما اتجه أضاء . قوله الشرع ، وفعله الشرع ، وتقريره الشرع )

( ... وبعد فالسلفية الحقة مجتمعة مع الصوفية الصحيحة ؛ متى حسن الفهم وصح العزم على الجمع الذي هو شآن الدعوة وأرب الإخوان ، وإذا زخرت الصوفية بالروحانية الغامرة والرقة العميقة ، فليست بمنكرة على أختها السلفية تحريمها تنقية الإسلام مما لابسه من الغرائب عنه ، كي يعود إلى صفائه وخلوصه . لا يفترق الأخذ بالعزائم وعمق الفهم لأسرار الدين عن نفي ما علق به من أدران ، ولحق به من أوضار عبر الأزمان ، ولا يصدم هذا والنزوع إلى الخطة الأولى ، إلى الإسلام العتيق الصافي ، الذي سارت فيه القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية ... )

( والتصوف الذي أردت هو الإسلام الكامل في مقاصده وأهدافه ، والصوفية السابقون وكثير من اللاحقين ، استقام سلوكهم على هذا المبدأ وفي منهجه ، ولا شأن لي فيما شارك اسماً وامتلأ بالدخائل والبدع ، فذلك ما لم أقصد إليه ... )



إنتاجه العلمي :

المطبوع منه :

1- نظرات في كتاب اشتراكية الإسلام .

2- ردود على أباطيل . وهو كتاب ضخم ، طبع الجزء الجزء الأول منه وهو مجموعة رسائل ومقالات ، بعضها طويل وبعضها متوسط ، ومجموعة أسئلة فقهية وأجوبتها .

3- كتاب في تحريم نكاح المتعة في الإسلام .

4- حكم الإسلام في الغناء .

5- رحمة الإسلام للنساء .

6- آدم لم يؤمر باطناً بالأكل من الشجرة .

7- القول في المسكرات وتحريمها من الناحية الفقهية .

8- حكم اللحية في الإسلام .

9- التدارك المعتبر لبعض ما في كتاب القضاء والقدر .

10- بدعة زيادة التنويرات في المساجد ليالي رمضان وغيرها .

11- لزوم إتباع مذاهب الأئمة حسماً للفوضى الدينية .

12- حكم مصافحة المرأة الأجنبية .

والذي لم يطبع بعد فهو :

1- مجموعة خطب منبرية .

2- القسم الثاني والثالث من كتاب الردود .

3- تعليقات وحواشٍ على كتاب الهدية العلائية ، لم يتمه رحمه الله تعالى .

4- تعليقات وحواشٍ على كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي . لم يتمه أيضاً .



من آثاره الأدبية :

قال رحمه الله في مدح سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم :
يا حبيبَ الرحمن يا صفوةَ = الخلق يا منيتـي وراحـة روحـي
يـا وليِّـي وسيـدي وإمامـي = أنتَ لي خيرُ مشفـقٍ ونصيـحِ
لا أبي لا أخي ولا صدرَ أمـيلا = ولا ذو الإخاء خدْن الـروحِ
بلغـوا شـأوَك العلـيّ بـبـرٍ أو = وفاءٍ أو في الحنان الصحيحِ
يا بنفسي لِقاً ولو طرف = عيـن ٍوبأهلـي وكـل غـالٍ رَبيـحِ
فنعيـم اللقـاء فيـه حياتـي = وهنائي وفيه تشفـى جروحـيِ
حبُ هذا النبي سـرُ انقيـادي = وأخو الحب ما به من جمُـوحِ
والمحبـون طائـرون قلـوبـاً = وبباب الحبيبِ كم مِـنْ طريـحِ
ملك الحبُّ أمرهـم فاستكانـوا = لهواه أسـرى إسـارٍ مُريـحِ
ويخافـون أن يكـون انفكـاكٌ = أو بَراح يريـح مـن تبريـحِ
حبذا العيش والرضى عيشُ قومٍ = في غرامٍ كم فيه من مستريـح
وعليك الصلاة ممسىً ومَغـدىً = تتوالى مـع السـلام الرجيـح
وعلى الآل والصِّحاب وأهل = الــحب والمدح بالبيان الفصيـح




وقال في الاستغفار :

يا أرحم الرحماء مالي حيلة = إلا الرجوع إليك يـا ربـاه
أنا قد أسأت وأنت رب غافر = غوثاه مما قد عـرا غوثـاه
يا سيدي يامن إليه شكايتي = أوّاه مـمـا نـابـنـي أوّاه
أدرك بلطفك نادماً ذا حسرة = مستغفراً مما جنتـه يـداه
ما للضعيف إذا ألمت كربـةٌ = إلا الـدعـا اللهُ يـــا الله
يا رب نفِّس عن عبيدك كربةً = وأرحْه مما قد عنـا ودهـاه




ومن الاستغفار أيضاً قوله :


تا الله بابُ العفو بابٌ واسـعٌ = هو للألى عكفوا على الأوزار
وبرحمة الغفار أطمع أن أرى = أبداً بعيداً من عـذاب النـار
يا رب إن الذنب أثقل كاهلـي = غدوت محسوباً من الأشـرار
بدِّل بفضلك حالتي وإساءتـي = حتى أُضاف لزمـرة الأخيـار
يا قلب حُلَّ عزيمة الإصـرار = والجأ إلى الرب الكريم الباري
فعساه يرحم مثقـلاً بقيـود = هو يحلُّه أمنـاً وحسـن جـوار







رحم الله شيخنا الجليل ونفعنا بعلمه

عبدالقادر حمود 05-01-2009 03:38 PM

رد: الشيخ محمد الحامد
 
يالهذه السيرة العطرة الطيبة المباركة رحمه الله ونفعنا به وببركاته


وقد التف تلامذته ومريدوه حول بيته الشريف المتواضع ، لا ينامون الليل طيلة ثلاثة أشهر قبل سفره إلى بيروت ، بقلوب وجلة ، وأعين ساهرة ، أن يداهم حبيبهم الغالي ما يكرهون ، وليسعفوه بدمائهم الزكية ، لأن كل واحد منهم يعتقد أن حياته لا قيمة لها إلا بالمحافظة على حياة حبيبة ، الذي حل منه محل الروح من الجسد ، والسواد من العين



gu

أبو يوسف 05-06-2009 09:10 PM

رد: الشيخ محمد الحامد
 
http://www.arabsys.net/pic/thanx/15.gif


الساعة الآن 10:20 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى