منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   رسائل ووصايا في التزكية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=15)
-   -   الكلمات (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=6066)

عبدالرزاق 02-02-2011 12:47 AM

الكلمات
 
بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.



أيها الأخ!

لقد سألتني بعض النصائح، فها أنذا أسدي اليك بضع حقائق ضمن ثماني حكايات قصيرة، فاستمع اليها مع نفسي التي أراها احوج ما تكون الى النصيحة، وسأوردها لك بأمثلة عسكرية لكونك جندياً، فلقد خاطبتُ بها نفسي يوماً خطاباً مسهباً، في ثماني (كلمات) أفدتها من ثماني آيات كريمات، اذكرها الان لنفسي ذكراً مقتضباً، وبلسان العوام، فمن يجد في نفسه الرغبة فليُلق السمع معنا.

الكلمة الأولى

((بسم الله)) رأس كل خير وبدء كل أمر ذي بال، فنحن أيضاً نستهل بها.

فيا نفسي إعلمي! ان هذه الكلمة الطيبة المباركة كما أنها شعار الإسلام، فهي ذكر جميع الموجودات بألسنة أحوالها.

فان كنت راغبة في إدراك مدى ما في ((بسم الله)) من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

ان البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابد له أن ينتمي الى رئيس قبيلة، ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الاشقياء، وينجز اشغاله ويتدارك حاجاته، وإلاّ فسيبقى وحده حائراً مضطرباً أمام كثرة من الاعداء، ولا حد لها من الحاجات.

وهكذا.. فقد توافق ان قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان احدهما متواضعاً، والآخر مغروراً، فالمتواضع انتسب الى رئيس، بينما المغرور رفض الانتساب. فتجولا في هذه الصحراء.. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم وإن لقيه قاطع طريق يقول له: ((إنني اتجول باسم ذلك الرئيس)).. فيتخلى عنه الشقي. اما المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات ما لا يكاد يوصف، اذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسوّل مستديم، فأذلّ نفسه واهانها.

فيا نفسي المغرورة! إعلمي!.. انك انتِ ذلك السائح البدوي. وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء. وان ((فقرك)) و ((عجزك)) لاحد لهما، كما ان اعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما. فما دام الأمر هكذا؛ فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي، لتنجي من ذُلّ التسول امام الكائنات، ومهانة الخوف امام الحادثات.

نعم! ان هذه الكلمة الطيبة ((بسم الله)) كنز عظيم لا يفنى ابداً، اذ بها يرتبط((فقرك)) برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق ((عجزك)) بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات الى المجرات، حتى انه يصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مقبولين لدى القدير الرحيم ذي الجلال.

ان الذي يتحرك ويسكن ويصبح ويمسي بهذه الكلمة ((بسم الله)) كمن انخرط في الجندية؛ يتصرف باسم الدولة ولا يخاف أحداً، حيث انه يتكلم باسم القانون وباسم الدولة، فينجز الاعمال ويثبت امام كل شئ.

وقد ذكرنا في البداية: ان جميع الموجودات تذكر بلسان حالها اسم الله، اي انها تقول: ((بسم الله)).. أهو كذلك؟

نعم! فكما لو رأيت ان أحداً يسوق الناس الى صعيد واحد، ويرغمهم على القيام بأعمال مختلفة، فانك تتيقن ان هذا الشخص لا يمثل نفسه ولا يسوق الناس باسمه وبقوته، وانما هو جندي يتصرف باسم الدولة، ويستند الى قوة سلطان.

فالموجودات ايضاً تؤدي وظائفها باسم الله؛ فالبذيرات المتناهية في الصغرتحمل فوق رؤوسها باسم الله اشجاراً ضخمة واثقالاً هائلة. أي ان كل شجرة تقول: ((بسم الله)) وتملأ ايديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها الينا.. وكل بستان يقول: ((بسم الله)) فيغدو مطبخاً للقدرة الإلهية تنضج فيه انواع من الاطعمة اللذيذة.. وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع ـ كالابل والمعزى والبقر ـ يقول: ((بسم الله)) فيصبح ينبوعاً دفاقاً للّبن السائغ، فيقدم الينا باسم الرزاق ألطف مغذّ وانظفه.. وجذور كل نبات وعشب تقول ((بسم الله)) وتشق الصخور الصلدة باسم الله وتثقبها بشعيراتها الحريرية الرقيقة فيُسخَّر أمامها باسم الله وباسم الرحمن كل أمر صعب وكل شئ صلد!.

نعم، ان انتشار الاغصان في الهواء وحملها للأثمار، وتشعب الجذور في الصخور الصماء، وخزنها للغذاء في ظلمات التراب.. وكذا تحمّل الاوراق الخضراء شدة الحرارة ولفحاتها، وبقاءها طرية ندية.. كل ذلك وغيره صفعة قوية على افواه الماديين عَبَدة الاسباب، وصرخة مدوية في وجوههم، تقول لهم: ان ما تتباهون به من صلابة وحرارة ايضاً لا تعملان بنفسيهما، بل تـؤديان وظائفـهما بأمر آمر واحد، بحيث يجعل تلك العروق الدقيقة الرقيقة كــأنها عصا موســى تشق الصخـور وتمتثـل أمر} فَقُلنا اضـرب بعصاك الحَجَر{ (البقرة:60) ويجعل تلك الاوراق الطرية الندية كأنها اعضاء ابراهيم عليه السلام تقرأ تجاه لفحة الحرارة: } يا نارُ كوني برداً وسلاماً....{ (الانبياء:69).

فما دام كل شئ في الوجود يقول معنىً ((بسم الله)) ويجلب نِعَم الله باسم الله ويقدمّها الينا، فعلينا ان نقول ايضاً ((بسم الله)) ونعطي باسم الله ونأخذ باسم الله. وعلينا ايضاً ان نردّ أيدي الغافلين الذين لم يعطوا باسم الله.

سؤال: اننا نبدي احتراماً وتوقيراً لمن يكون سبباً لنعمة علينا، فيا ترى ماذا يطلب منا ربنُّا الله صاحب تلك النعم كلها ومالكها الحقيقي؟

الجواب: ان ذلك المنعم الحقيقي يطلب منا ثلاثة امور ثمناً لتلك النعم الغالية:

الاول: الذكر.. الثاني: الشكر.. الثالث: الفكر..

فـ ((بسم الله)) بدءاً هي ذكرٌ، و ((الحمد لله)) ختاماً هي شكرٌ، وما يتوسطهما هو ((فكر)) اي التأمل في هذه النعم البديعة، والادراك بأنها معجزة قدرة الأحد الصمد وهدايا رحمته الواسعة... فهذا التأمل هو الفكر.

ولكن أليس الذي يقبّل أقدام الجندي الخادم الذي يقدّم هدية السلطان يرتكب حماقة فظيعة وبلاهة مشينة؟ اذن فما بال مَن يُثني على الاسباب المادية الجالبة للنعم، ويخصصها بالحب والود، دون المنعم الحقيقي! ألا يكون مقترفاً بلاهة أشد منها الف مرة؟

فيا نفس!! ان كنت تأبين أن تكوني مثل الاحمق الابله،

فاعطي باسم الله..

وخذي باسم الله..

وابدأي باسم الله..

واعملي باسم الله..

والسـلام.



ملاحظة : وضع الاستاذ المؤلف ((المقام الثاني من اللمعة الرابعة عشرة)) عقب هذه الكلمة الاولى ، لمناسبة المقام حبث يضم ستة من اسرار ((بسم الله الرحمن الرحيم)). وسيجده القارئ الكريم في موضعه من كتاب ((اللمعات)) فليراجع . ـ المترجم .

عبدالقادر حمود 02-02-2011 12:52 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

] الذين يُؤمنون بالغَيب[

ان كنت تريد ان تعرف مدى ما في الايمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع الى هذه الحكاية القصيرة:

خرج رجلان في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة. فمضى احدهما وكان انانياً شقياً الى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد الى جهة ثانية.

فالاناني المغرور الذي كان متشائماً لقي بلداً في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءاً وفاقاً على تشاؤمه، حتى انه كان يرى - أينما اتجه - عجزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات ايدي رجال طغاة قساة ومن اعمالهم المدمّرة. فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من اماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجاً لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من اهل هذه المملكة يتراءى له عدواً يتربص به، واجنبياً يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءاً يائساً مريراً.

أمّا الآخر الرجل الربّاني العابد لله، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.

فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق. وفي كل طرف سـروراً، وفي كل زاويـة حبـوراً، وفي كل مكان محاريب ذكر. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقاً صدوقاً وقريباً حبيباً له. ثم يرى ان المملكة كلها تعلن - في حفل التسريح العام - هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضاً أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون الى الخدمة والجندية.

فبينما كان ذلك الرجل الاول المتشائم منشغلاً بألمه وآلام الناس كلهم.. كان الثاني السعيد المتفائل مسروراً مع سرور الناس كلهم فرحاً مع فرحهم. فضلاً عن انه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده.

ولدى عودته الى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه، وعن أخباره، فيعلم كل شئ عن حاله فيقول له:

ــ ((يا هذا لقد جننتَ! فان ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح واجازة نهب وسلب. عُد الى رشدك، وطهّر قلبك.. لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وان مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك… لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور)).

وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع الى صوابه رويداً رويداً، ويفكر بعقله ويقول متندماً:

ــ نعم لقد اصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك؛ فلقد انقذتني من جحيم الشقاء.

فيا نفسي!

اعلمي ان الرجل الاول هو الكافر أو الفاسق الغافل فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الاحيـاء ايتام يبكون تألماً من ضــربات الزوال وصفعات الفراق..

أما الانسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته..

وأما الموجودات الضخام ـ كالجبال والبحار ـ فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة..

وامثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الانسان وضلالته تذيق صاحبها عذاباً معنوياً مريراً.

أما الرجل الثاني، فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار الانس والجان..

أما الوفيات كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي اعفاء من الوظائف، وانهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنوياً، حيث انهم ينقلون الى عالم آخر غير ذي قلق، خال من اوضار المادة واوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعاً لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم..

اما المواليد كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي سَوقة تجنيد عسكرية، وتسلُّم سلاح، وتسنّم وظائف وواجبات، فكل كائن انما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راضٍ قانع.. .

وأما الاصوات المنبعثة والاصداء المرتدة من ارجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف والشروع فيها، أو شكر وتهليل ايذاناً بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته..

فالموجودات كلها ـ في نظر هذا المؤمن ـ خدام مؤنسون، وموظفون أخلاّء، وكتبٌ حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.. وهكذا يتجلى من ايمانه كثير جداً من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق.

فالايمان اذن يضم حقاً بذرة معنوية منشقة من طوبى الجنة..

اما الكفر فانه يخفي بذرة معنوية قد نفثته زقوم جهنم.

فالسلامة والأمان اذن لا وجود لهما إلاّ في الاسلام والايمان.

فعلينا ان نردد دائماً:

الحمد لله على دين الاسلام وكمال الايمان.

عبدالرزاق 02-02-2011 12:55 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثالثة



بسم الله الرحمن الرحيم
] يا أيها الناس اعبدوا..[ (البقرة: 21)

ان كنت تريد ان تفهم كيف ان العبادة تجارة عظمى وسعادة كبرى، وان الفسق والسفه خسارة جسيمة وهلاك محقق، فانظر الى هـذه الحكاية التـمثيليـة وانصت اليها:

تسلَّم جنديان اثنان ـ ذات يوم ـ أمراً بالذهاب الى مدينة بعيدة، فسافرا معاً، الى أن وصلا مفرق طريقين، فوجدا هناك رجلاً يقول لهما:

ـ ان هذا الطريق الايمن، مع عدم وجود الـضرر فيه، يجد المسافرون الذين يسلكونه الراحة والاطمئنان والربح مضموناً بنسبة تسعة من عشرة. أما الطريق الايسر، فمع كونه عديم النفع يتضرر تسعة من عشرة من عابريه. علماً ان كليهما في الطول سواء، مع فرق واحد فقط، هو ان المسافر المتجه نحو الطريق الايسر ـ غير المرتبط بنظامٍ وحكومة ـ يمضي بلا حقيبة متاع ولا سلاح، فيجد في نفسه خفَّة ظاهرة وراحة موهومة. غير أن المسافر المتجه نحو الطريق الايمن ـ المنتظم تحت شرف الجندية ـ مضطر لحمل حقيبة كاملة من مستخلصات غذائية تزن أربع اوقيات وسلاحاً حكومياً يزن اوقيتين يستطيع أن يغلب به كل عدو.

وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريق الايمن، ومضى في دربه حاملاً على ظهره وكتفه رطلاً من الاثقال الا ان قلبه وروحه قد تخلّصا من آلاف الارطال من ثقل المنَّة والخوف.

بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتزام، سلك سبيل الشمال، فمع أن جسمه قد تخلص من ثقل رطل فقد ظل قلبه يرزح تحت آلاف الارطال من المنَّ والاذى، وانسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصرها الحد. فمضى في سبيله مستجدياً كل شخص، وجلاً مرتعشاً من كل شئ، خائفاً من كل حادثة، الى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه.

أما المسافر المتوجه نحو الطريق الايمن ـ ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبته وسلاحه ـ فقد سار منطلقاً مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت الى منَّة أحد أو يطمع فيها أو يخاف من أحد.. الى أن بلغ المدينة المقصودة وهنالك وجد ثوابَه اللائق به كأي جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى.

فيا أيتها النفس السادرة السارحة!

اعلمي أن ذينك المسافرين؛ أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقانون الإلهي، والآخر هم العصاة المتبعون للاهواء..

وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الارواح ويمر من القبر المؤدي الى عالم الآخرة..

وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيل ظاهراً إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلك لان العابد يقول في صلاته: ] لا إله إلا الله[ أي لا خالق ولا رازق إلاّ هو، النفع والـضر بيده، وانه حكيم لا يعمل عبثاً كما أنه رحيم واسع الرحمة والاحسان.

فالمؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئ باباً ينفتح الى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخَّر لأمر ربه، فيلتجىء اليه بالتضرع. ويتحصَّن أمام كل مصيبة مستنداً الى التوكل، فيمنحه ايمانه هذا الامان التام والاطمئنان الكامل.

نعم! أن منبع الشجاعة ككل الحسنات الحقيقية هو الايمان والعبودية، وأن منبع الجبُن ككل السيئات هو الضلالة والسفاهة.

فلو أصبحت الكرة الارضية قنبلة مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابداً لله ذا قلب منوَّر، بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها باعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفاً ـ ممن يُعدّ ذا عقل راجح ـ اذا رأى في الفضاء نجماً مذنباً يعتوره الخوف ويرتعش هلعاً ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الاوهام (لقد ارتعد الامريكان يوماً من نجم مذنب ظهر في السماء حتى هجر الكثيرون مساكنهم أثناء ساعات الليل).

نعم! رغم أن حاجات الانسان تمتد الى ما لا نهاية له من الاشياء، فرأس ماله في حُكم المعدوم. ورغم أنه معرَّض الى ما لانهاية له من المصائب فاقتداره كذلك في حكم لا شئ، اذ ان مدى دائرتي رأس ماله واقتداره بقدر ما تصل اليه يده، بينما دوائر آماله ورغائبه وآلامه وبلاياه واسعة سعة مد البصر والخيال.

فما أحوج روح البشر العاجزة الـضعيفة الفقيرة الى حقائق العبادة والتوكل، والى التوحيد والاستسلام! وما أعظم ما ينال منها من ربح وسعادة ونعمة! فمن لم يفقد بصره كلياً يرى ذلك ويدركه. اذ من المعلوم أن الطريق غير الـضار يُرجَّح على الطريق الـضار حتى لو كان النفع فيه احتمالاً واحداً من عشرة احتمالات. علماً أن مسألتنا هذه، طريق العبادة، فمع كونه عديم الـضرر، واحتمال نفعه تسعة من عشرة، فانه يعطينا كنزاً للسعادة الابدية، بينما طريق الفسق والسفاهة ـ باعتراف الفاسق نفسه ـ فمع كونه عديم النفع فانه سبب الشقاء والهلاك الابديين، مع يقين للخسران وانعدام الخير بنسبة تسعة من عشرة... وهذا الامر ثابت بشهادة ما لا يحصى من (اهل الاختصاص والاثبات) بدرجة التواتر والاجماع. وهو يقين جازم في ضوء أخبار أهل الذوق والكشف.

نحصل من هذا:

أن سعادة الدنيا أيضاً ـ كالآخرة ـ هي في العبادة وفي الجندية الخالصة لله.

فعلينا اذن أن نردد دائماً:

الحمد لله على الطاعة والتوفيق..

وأن نشكره سبحانه وتعالى على أننا مسلمون.

عبدالرزاق 02-02-2011 12:56 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الرابعة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

((الصلاة عماد الدين))(1)

ان كنت تريد ان تعرف أهمية الصلاة وقيمتها، وكم هو يسير نيلها وزهيد كسبها، وان من لا يقيمها ولا يؤدي حقها أبله خاسر.. نعم! ان كنت تريد ان تعرف ذلك كله بيقين تام ـ كحاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً ـ فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

يُرسل حاكمٌ عـظيم ـ ذات يوم ـ إثنين من خَدَمه الى مزرعته الجميلة، بعد أن يمنح كلاً منهما أربعاً وعشرين ليرة ذهبية، ليتمكنا بها من الوصول الى المزرعة التي هي على بُعد شهرين.. ويأمرهما: أنفقا من هذا المبلغ لمصاريف التذاكر ومتطلبات السفر، واقتنيا ما يلزمكما هناك من لوزام السكن والاقامة.. هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد، توجد فيها جميع انواع وسائط النقل من سيارة وطائرة وسفينة وقطار.. ولكلٍ ثمنه.

يخرج الخادمان بعد تسلمهما الأوامر.. كان أحدهما سعيداً محظوظاً، اذ صرف شيئاً يسيراً مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفه في تجارة رابحة يرضى بها سيدُه، فارتفع رأس ماله من الواحد الى الالف.

اما الخادم الآخر، فلسوء حظه وسفاهته صرف ثلاثاً وعشرين مما عنده من الليرات الذهبية في اللّهو والقمار، فأضاعها كلها إلا ليرة واحدة منها لحين بلوغه المحطة..

خاطبه صاحبه:

ـ يا هذا.. اشتر بهذه الليرة الباقية لديك تذكرة سفر، فلا تضيّعها كذلك، فسيدُنا كريمٌ رحيمٌ، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوه عما بدر منك من تقصير، فيسمحوا لك بركوب الطائرة، ونبلغ معاً محل اقامتنا في يوم واحد. فان لم تفعل ما اقوله لك فستضطر الى مواصلة السير شهرين كاملين في هذه المفازة مشياً على الاقدام، والجوع يفتك بك، والغربة تخيم عليك وانت وحيد شارد في هذه السفرة الطويلة.

تُرى لو عاند هذا الشخص، فصرف حتى تلك الليرة الباقية في سبيل شهوة عابرة، وقضاء لذة زائلة، بدلاً من اقتناء تذكرة سفر هي بمثابة مفتاح كنزٍ له. ألا يعني ذلك أنه شقي خاسر، وأبله بليد حقاً.. ألا يُدرك هذا أغبى انسان؟

فيا من لا يؤدي الصلاة! ويا نفسي المتضايقة منها!

ان ذلك الحاكم هو ربُّنا وخالقنا جلّ وعلا..

أما ذلكما الخادمان المسافران، فأحدهما هو المتديّن الذي يقيم الصلاة بشوق ويؤديها حق الأداء، والآخر هو الغافل التارك للصلاة..

وأما تلك الليرات الذهبية الاربعة والعشرون فهي الاربع والعشرون ساعة من كل يوم من أيام العمر..

وأما ذلك البستان الخاص فهو الجنة..

وأما تلك المحطة فهي القبر..

وأما تلك السياحة والسفر الطويل فهي رحلة البشر السائرة نحو القبر والماضية الى الحشر والمنطلقة الى دار الخلود. فالسالكون لهذا الطريق الطويل يقطعونه على درجات متفاوتة، كلٌ حسب عمله ومدى تقواه، فقسم من المتقين يقطعون في يوم واحد مسافة ألف سنة كأنهم البرق، وقسم منهم يقطعون في يوم واحد مسافة خمسين ألف سنة كأنهم الخيال. وقد أشار القرآن العظيم الى هذه الحقيقة في آيتين كريمتين..

أما تلك التذكرة فهي الصلاة التي لا تستغرق خمسُ صلوات مع وضوئها اكثر من ساعة!

فيا خسارة مَن يصرف ثلاثاً وعشرين من ساعاته على هذه الحياة الدنيا القصيرة ولا يصرف ساعةً واحدة على تلك الحياة الابدية المديدة!. ويا له من ظالم لنفسه مبين! ويا له من احمق ابله!

لئن كان دفع نصف ما يملكه المرء ثمناً لقمار اليانصيب ـ الذي يشترك فيه اكثر من الف شخص ـ يعدّ أمراً معقولاً، مع أن احتمال الفوز واحد من ألف، فكيف بالذي يحجم عن بذل واحدٍ من اربعة وعشرين مما يملكه، في سبيل ربح مضمون، ولأجل نيل خزينة أبدية، بأحتمال تسع وتسعين من مائة.. ألا يُعدّ هذا العمل خلافاً للعقل، ومجانباً للحكمة.. ألا يدرك ذلك كلُّ من يعدّ نفسه عاقلاً؟

ان الصلاة بذاتها راحة كبرى للروح والقلب والعقل معاً. فضلاً عن أنها ليست عملاً مرهقاً للجسم. وفوق ذلك فان سائر اعمال المصلي الدنيوية المباحة ستكون له بمثابة عبادة لله، وذلك بالنية الصالحة.. فيستطيع اذن ان يحوّل المصلي جميع رأس مال عمره الى الآخرة، فيكسب عمراً خالداً بعمره الفاني.

عبدالرزاق 02-02-2011 12:57 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الله مَعَ الذينَ اتّقوا والذينَ هُمْ مُحْسِنون[ (النحل:128)
اذا أردت أن ترى ان اقامة الصلاة واجتناب الكبائر وظيفة حقيقية تليق بالانسان ونتيجة فطرية ملائمة مع خلقته.. فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة واستمع اليها:

كان في الحرب العالمية الاولى، وفي أحد الأفواج، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه. والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه. كان المتقن واجبه يهتم الاهتمام كله باوامر التدريب وشؤون الجهاد. ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث أنه ادرك يقيناً ان اعاشته ورعاية شؤونه وتزويده بالعتاد بل حتى مداواته اذا تمرض بل حتى وضع اللقمة ــ اذا احتاج الأمر ــ في فمه، انما هو من واجب الدولة. واما واجبه الاساس فهو التدّرب على امور الجهاد ليس إلاّ، مع علمه ان هذا لا يمنع من ان يقوم بشؤون التجهيز وبعض اعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الاثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما اقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعاً، ولا يجيب: انني اسعى لأجل كسب لوازم العيش.

اما الجندي الآخر، الجاهل بواجباته فلم يكن ليبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب. فكان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بامور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها حتى كان يَدَع الفوج ليزاول البيع والشراء في الاسواق.

قال له صديقه المجدّ ذات يوم:

ـ يا اخي!! إن مهمتك الأصلية هي التدرّب والاستعداد للحرب، وقد جئ بك الى هنا من أجل ذلك؛ فاعتمد على السلطان واطمئن اليه في أمر معاشك، فلن يَدَعَك جائعاً، فذلك واجبُه ووظيفته. ثم إنك عاجز وفقير لن تستطيع أن تدير أمور معيشتك بنفسك، وفوق هذا فنحن في زمن جهاد وفي ساحة حرب عالمية كبرى، أخشى أنهم يعدّونك عاصياً لأوامرهم فينزلون بك عقوبة صارمة.

نعم؛ ان وظيفتين اثنتين تبدوان أمامنا:

احداهما: وظيفة السلطان، وهي قيامه باعاشتنا. ونحن قد نُستخدم مجاناً في انجاز تلك الوظيفة.

واُخراهما: هي وظيفتنا نحن، وهي: التدريب والاستعداد للحرب، والسلطان يقدّم لنا مساعدات وتسهيلات لازمة.

فيا اخي تأمل لو لم يُعِر الجندي المهمِل سمعاً لكلام ذلك المجاهد المدرَّب كم يكون خاسراً ومتعرضاً للأخطار والتهلكة؟!

فيا نفسي الكسول!!

ان تلك الساحة التي تمور موراً بالحرب هي هذه الحياة الدنيا المائجة.. وأمّا ذلك الجيش المقسم الى الافواج فهو الأجيال البشرية.. وأمّا ذلك الفوج نفسه فهو المجتمع المسلم المعاصر.. وأمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الانسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والأنس، إنقاذاً لقلبه وروحه معاً من الهلاك الأبدي والخسران المبين.

وأما تانك الوظيفتان الاثنتان؛ فاحداهما منح الحياة ورعايتها. والاخرى عبادة واهب الحياة ومربيها والسؤال منه والتوكل عليه والأطمئنان اليه.

أجل! ان الذي وهب الحياة؛ وأنشأها صنعةً صمدانية معجزة تتلمع، وجعلها حكمةً ربانية خارقة تتألق، هو الذي يربيـها، وهو وحـده الـذي يرعاها ويديمـها بالرزق.

أوَ تريد الدليل؟!

إن أضعف حيوان وأبلده ليُرزَق بأفضل رزق وأجوده (كالاسماك وديدان الفواكه). وان أعجز مخلوق وأرقه ليأكل أحسن رزق وأطيبه (كالاطفال والصغار).

ولكي تفهم ان وسيلة الرزق الحلال ليست الاقتدار والاختيار، بل هي العجز والـضعف، يكفيك ان تعقد مقارنه بين الأسماك البليدة والثعالب، وبين الصغار الذين لا قوة لهم والوحوش الكاسرة، وبين الاشجار المنتصبة والحيوانات اللاهثة.

فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مَثَـلُهُ كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبه وخندقه ويتسوّل متسكعاً في الاسواق. بينما الذي يقيم الصلاة دون ان ينسى نصيبه من الرزق، يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم لئلا يكون عالةً على الآخرين فجميل عمله، بل هو رجولة وشهامة، وهو ضرب من العبادة أيضاً.

ثم إن فطرة الانسان وما أودع الله فيه من أجهزة معنوية تدلاّن على أنه مخلوق للعبادة؛ لان ما اُودع فيه من قدرات وما يؤديه من عمل لحياته الدنيا لا تبلغه مرتبة أدنى عصفور ـ الذي يتمتع بالحياة اكثر منه وافضل ـ بينما يكون الانسان سلطان الكائنات وسيد المخلوقات من حيث حياته المعنوية والاخروية بما اودع الله فيه من علم به وافتقار اليه وقيام بعبادته.

فيا نفسي!

إن كنت تجعلين الحياة الدنيا غاية المقصد وافرغت في سبيلها جهدك فسوف تكونين في حكم أصغر عصفور.

اما ان كنت تجعلين الحياة الاخرى غاية المنى وتتخذين هذه الحياة الدنيا وسيلة لها ومزرعة، وسعيتِ لها سعيها.. فسوف تكونين في حكم سيد الاحياء والعبد العزيز لدى خالقه الكريم وستصبحين الـضيف المكرم الفاضل في هذه الدنيا.

فدونك طريقان اثنان، فاختاري أيّما تشائين.

واسألي الرب الرحيم الهداية و التوفيق.

عبدالرزاق 02-02-2011 12:58 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السادسة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفُسَهم وأموالَهم بأنّ لَهم الجنة[ (التوبة: 111)

اذا أردت أن تعلم ان بيع النفس والمال الى الله تعالى، والعبودية له، والجندية في سبيله أربح تجارة واشرفها! فانصت الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وضع سلطان ـ ذات يوم ـ لدى اثنين من رعاياه وديعةً وامانةً، لكل منهما مزرعة واسعة، فيها كل ما تتطلبه من مكائن وآلات وأسلحة وحيوانات وغيرها.. وتوافق ان كان الوقت آنذاك وقت حرب طاحنة، لا يقرّ قرار لشئ؛ فإما ان تبدّله الحرب وتغيّره أو تجعله أثراً بعد عين. فأرسل السلطان رحمةً منه وفضلاً أحدَ رجاله المقربين مصحوباً بأمره الكريم ليقول لهما:

((بيعوا لي ما لديكم من أمانتي لأحفظها لكم، فلا تذهب هباء في هذا الوقت العصيب، وسأردّها لكم حالما تضع الحرب أوزارها.. وسأوفي ثمنها لكم غالياً، كأن تلك الامانة ملككم.. وستُشغل تلك المكائن والآلات التي في حوزتكم الآن في معاملي وبأسمي وعهدتي.. وسترتفع اثمانها من الواحد الى الالف، فضلاً عن أن جميع الارباح ستعود اليكم ايضاً.. وسأتعهد عنكم بجميع تكاليفها ومصاريفها، حيث انكم عاجزون فقراء لا تتحملون مصاريف تلك المكائن.. وسأرد لكم جميع ارداتها ومنافعها، علماً اني سأبقيها عندكم لتستفيدوا منها وتتمتعوا بها الى أن يحين وقت أخذها.

فلكم خمس مراتب من الارباح في صفقة واحدة.

وان لم تبيعوها لي فسيزول حتماً كل ما لديكم، حيث ترون أن أحداً لا يستطيع أن يمسك بما عنده.. وستحرمون من تلك الاثمان الغالية.. وستهمل تلك الآلات الدقيقة النفيسة والموازين الحساسة والمعادن الثمينة، وتفقد قيمتها كلياً، وذلك لعدم استعمالها في اعمال راقية.. وستتحملون وحدكم ادارتها وتكاليفها وسترون جزاء خيانتكم للامانة.. فتلك خمس خسائر في صفقة واحدة. وفوق هذا كله ان هذا البيع يعني ان البائع يصبح جندياً حراً أبياً خاصاً بي، يتصرف باسمي ولا يبقى اسيراً عادياً وشخصاً سائباً..)).

أنصت الرجلان ملياً الى هذا الكلام الجميل والامر السلطاني الكريم. فقال العاقل الرزين منهما:

سمعاً وطاعة لأمر السلطان، رضيت بالبيع بكل فخر وشكر.

أما الآخر المغرور المتفرعن الغافل فقد ظن أن مزرعته لا تبيد أبداً، ولا تصيبها تقلبات الدهر واضطرابات الدنيا، فقال:

((لا!.. ومَن السلطان؟ لا ابيع ملكي ولا أفسد نشوتي!)).

ودارت الايام.. فاصبح الرجل الأول في مقام يغبطه الناس جميعاً، اذ اضحى يعيش في بحبوحة قصر السلطان، يتنعم بألطافه ويتقلب على ارائك افضاله. أما الآخر فقد ابتلي شرّ بلاء حتى رثى لحاله الناس كلهم، رغم انهم قالوا: انه يستحقها! اذ هو الذي ورّط نفسه في مرارة العذاب جزاء ما ارتكب من خطأ، فلا دامت له نشوته ولا دام له ملكه.

فيا نفسي المغرورة!

انظري من خلال منظار هذه الحكاية الى وجه الحقيقة الناصعة. فالسلطان هو سلطان الازل والأبد وهو ربك وخالقك. وتلك المزرعة والمكائن والآلات والموازين هي ما تملكينه في الحياة الدنيا من جسم وروح وقلب، وما فيها من سمع وبصر وعقل وخيال، اي جميع الحواس الظاهرة والباطنة. وأما الرسول الكريم فهو سيدنا محمد e . وأما الأمر السلطاني المحكم فهو القرآن الكريم الذي يعلن هذا البيع والتجارة الرابحة في هذه الآية الكريمة: ] إنَّ الله اشترى من المؤمنينَ أنفُسَهم وأموالَهُم بأنَّ لَهم الجنّةَ[ وأما الميدان المضطرب والحرب المدمّرة فهي احوال هذه الدنيا، اذ لا قرار فيها ولا ثبات، كلها تقلبات تلحّ على فكر الانسان بهذا السؤال:

((ان جميع ما نملك لا يستقر ولا يبقى في ايدينا، بل يفنى ويغيب عنّا، أليس هناك من علاج لهذا؟ ألا يمكن ان يحل البقاء بهذا الفناء؟!)).

وبينما الانسان غارق في هذا التفكير، إذا به يسمع صدى القرآن السماوي يدوّي في الآفاق ويقول له بتلك الآية الكريمة: نعم! ان هناك علاجاً لهذا الداء، بل هو علاج لطيف فيه ربح عظيم في خمس مراتب.

سؤال: وما العلاج؟

الجواب: بيعُ الامانة الى مالكها الحقيقي، في هذا البيع خمس درجات من الربح في صفقة واحدة.

الربح الاول: المال الفاني يجد البقاء، لأن العمر الزائل الذي يوهب للحي القيوم الباقي، ويبذل في سبيله سبحانه، ينقلب عمراً ابدياً باقياً. عندئذٍ تثمر دقائق العمر ثماراً يانعة وازاهير سعادة وضاءة في عالم البقاء مثلما تفنى البذور ظاهراً وتنشق عنها الازهار والسنابل.

الربح الثاني: الثمن هو الجنة.

الربح الثالث: يرتفع ثمن كل عضو وحاسة ويغلو من الواحدة الى الألف.

فمثلاً: العقل عضو وآلة، إن لم تبعه ـ يا اخي ـ لله ولم تستعمله في سبيله، بل جعلته في سبيل الهوى والنفس، فانه يتحول الى عضو مشؤوم مزعج وعاجز، اذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذٍ الى درك آلة ضارة مشؤومة، ألا ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس في اللهو أو السكر انقاذاً لنفسه من ازعاجات عقله؟ ولكن اذا بيع العقل الى الله، واُستُعمل في سبيله ولأجله، فانه يكون مفتاحاً رائعاً بحيث يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية وكنوز الحكمة الربانية فاينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر يرى الحكمة الإلهية في كل شئ، وكل موجود، وكل حادثة. ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا الى مرتبة مرشدٍ رباني يهئ صاحبه للسعادة الخالدة.

ومثلاً: العين حاسة، تطل الروح منها على هذا العالم، فان لم تستعملها في سبيل الله، واستعملتها لأجل النفس والهوى، فانها بمشاهدتها بعض المناظر الجميلة المؤقتة الزائلة تصبح في درك الخادمة والسمسارة الدنيئة لإثارة شهوات النفس والهوى. ولكن إن بعتها الى خالقها البصير واستعملتها فيما يرضيه، عندئذٍ تكون العين مطالِعة لكتاب الكون الكبير هذا وقارئة له، ومشاهِدة لمعجزات الصنعة الربانية في الوجود، وكأنها نحلة بين ازاهير الرحمة الإلهية في بستان الارض، فتقطّر من شَهْد العبرة والمعرفة والمحبة نور الشهادة الى القلب المؤمن.

ومثلاً: ان لم تبع حاسة الذوق ـ التي في اللسان ـ الى فاطرها الحكيم، واستعملتها لأجل المعدة والنفس، فحينئذٍ تهوي الى درك بوّاب معمل المعدة واصطبلها، فتهبط قيمتها. ولكن ان بعتَها الى الرزاق الكريم، فانها ترقى الى درجة ناظر ماهر لخزائن الرحمة الإلهية، ومفتش شاكر لمطابخ القدرة الصمدانية.

فيا ايها العقل! أفق، اين الآلة المشؤومة من مفتاح كنوز الكائنات؟

ويا ايتها العين! ابصري جيداً، اين السمسرة الدنيئة من الامعان في المكتبة الإلهية؟

-ويا أيها اللسان! ذق بحلاوة اين بواب المعمل والاصطبل من ناظر خزينة الرحمة الإلهية؟.

فان شئت ـ يا اخي ـ فقس بقية الاعضاء والحواس على هذا، وعندها تفهم ان المؤمن يكسب حقاً خاصية تليق بالجنة، كما ان الكافر يكتسب ماهية توافق جهنم. فما جوزي كل منهما بهذا الجزاء العادل إلاّ لأن المؤمن يستعمل بايمانه أمانة خالقه سبحانه بأسمه وضمن دائرة مرضاته، وان الكافر يخون الأمانة فيستعملها لهواه ولنفسه الأمارة بالسوء.

الربح الرابع: ان الانسان ضعيف بينما مصائبه كثيرة، وهو فقير ولكن حاجته في ازدياد، وعاجز إلاّ أن تكاليف عيشه مرهقة، فإن لم يتوكل هذا الانسان على العلي القدير ولم يستند اليه، وان لم يسلّم الأمر اليه ولم يطمئن به، فسيظل يقاسي في وجدانه آلاماً دائمة، وتخنقه حسراته وكدحه العقيم، فإما يحوله الى مجرم قذر أو سكير عابث.

الربح الخامس: انه من المتفق عليه اجماعاً بين أهل الاختصاص والشهود والذوق والكشف أن العبادات والاذكار والتسبيحات التي تقوم بها الاعضاء عندما تعمل ضمن مرضاته سبحانه تتحول الى ثمار طيبة لذيذة من ثمار الجنة، وتقدّم اليك في وقت انت في أمس الحاجة اليها.

وهكذا.. ففي هذه التجارة ربح عظيم فيه خمس مراتب من الارباح، فان لم تقم بها فستحرم من ارباحها جميعها، فضلاً عن خسرانك خمس خسارات اخرى هي:

الخسارة الاولى: ان ما تحبه من مال وأولاد، وما تعشقه من هوى النفس وما تعجب به من حياة وشباب، سيضيع كله ويزول، مخلفاً آثامه وآلامه مثقل بها ظهرك.

الخسارة الثانية: ستنال عقاب من يخون الأمانة. لأنك باستعمالك اثمن الآلات والاعضاء في أخس الاعمال قد ظلمت نفسك.

الخسارة الثالثة: لقد افتريت وجنيت على الحكمة الإلهية، اذ اسقطت جميع تلك الاجهزة الانسانية الراقية الى دركات الأنعام بل أضل.

الخسارة الرابعة: ستدعو بالويل والثبور دائماً، وستئن من صدمة الفراق والزوال ووطأة تكاليف الحياة التي ارهقت بها كاهلك الـضعيف مع أن فقرك قائم وعجزك دائم.

الخسارة الخامسة: ان هدايا الرحمن الجميلة ـ كالعقل والقلب والعين وما شابهها ـ ما وُهبت لك إلاّ لتهيئك لفتح ابواب السعادة الابدية، فما اعظمها خسارة أن تتحول تلك الهدايا الى صورة مؤلمة تفتح لك ابواب جهنم!.

والآن.. سننظر الى البيع نفسه. أهو ثقيل متعب حقاً بحيث يهرب منه الكثيرون؟.

ـ كلا، ثم كلا.. فلا تعب فيه ولا ثقل ابداً. لأن دائرة الحلال واسعة فسيحة، تكفي للراحة والسعادة والسرور. فلا داعي للولوج في الحرام.

أما ما افترضهَّ الله علينا فهو كذلك خفيف وضئيل، وان العبودية لله بحد ذاتها شرف عظيم اذ هي جندية في سبيله سبحانه وفيها من اللذة وراحة الوجدان ما لا يوصف.

أما الواجب فهو ان تكون ذلك الجندي، فتبدأ باسم الله، وتعمل باسم الله، وتأخذ وتعطي في سبيله ولأجله، وتتحرك وتسكن ضمن دائرة مرضاته وأوامره، وان كان هناك تقصير فدونك باب الاستغفار، فتضرع اليه وقل:

اللّهم اغفر لنا خطايانا، واقبلنا في عبادك، واجعلنا امناء على ما أمّنته عندنا الى يوم لقائك ... آمـين.

عبدالرزاق 02-02-2011 12:58 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السابعة

آمنت بالله وباليوم الاخر

ان كنت ترغب ان تفهم كيف ان الايمان بالله وباليوم الآخر، أثمن مفتاحين يحلاّن لروح البشر طلسم الكون ولغزه، ويفتحان امامها باب السعادة والهناء.. وكيف ان توكّل الانسان على خالقه صابراً، والرجاء من رزّاقه شاكراً، أنفع علاجين ناجعين.. وان الإنصات الى القرآن الكريم، والانقياد لحكمه، وأداء الصلوات وترك الكبائر، اغلى زاد للآخرة، واسطع نور للقبر، وأيسر تذكرة مرور في رحلة الخلود.. أجل! ان كنت تريد ان تفهم هذه الامور كلها فأنصت معي الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وقع جندي ـ في الحرب العالمية ـ في مأزق عصيب ووضع محيّر، اذ أصبح جريحاً بجرحين غائرين في يمينه وفي شماله. وخلفه أسد هصور يوشك ان ينقضّ عليه. وامامه مشنقة تبيد جميع أحبته وتنتظره ايضاً، زد على ذلك كانت امامه رحلة نفي شاقة طويلة رغم وضعه الفظيع المؤلم!.. وبينما كان هذا المسكين المبتلى مستغرقاً في تفكير يائس من واقعه المفجع هذا، اذا برجل خيّرٍ كأنه الخضر عليه السلام يتلألأ وجهه نوراً يظهر عن يمينه ويخاطبه:

ـ لا تيأس ولا تقنط. سأعلمك طلسمين اثنين، ان أحسنتَ استعمالهما ينقلب ذلك الأسد فرساً اميناً مسخراً لخدمتك، وتتحول تلك المشنقة ارجوحة مريحة لطيفة تأنس بها.. وسأناولك دواءين اثنين، إن احسنت استعمالهما يصيّران جرحيك المنتنين زهرتين شذّيتين، وسأزودك بتذكرة سفر تستطيع بها ان تقطع مسافة سنة كاملة في يوم واحد كأنك تطير!! وإن لم تصدّق بما اقول فجرّبه مرة، وتيقنّ من صحته وصدقه... فجرَّب الجندي شيئاً منه، فرآه صدقاً وصواباً.

نعم، وانا كذلك ـ هذا المسكين سعيد ـ أصدّقه، لانني جربته قليلاً، فرأيته صدقاً وحقاً خالصاً.

ثم، على حين غرة رأى رجلاً لعوباً دساساً ـ كأنه الشيطان ـ يأتيه من جهة اليسار مع زينة فاخرة، وصور جذابة، ومُسْكرات مغرية، ووقف قبالته يدعوه:

ـ اليّ اليّ أيها الصديق، أقبل لنلْهُ معاً ونستمتع بصور الحسناوات هذه، ونطرب بسماع هذه الألوان من الاغاني ونتلذذ بهذه المأكولات اللذيذة.. ولكن يا هذا! ما هذه التمتمة التي ترددها؟!

ـ انه طلسم ولغز!

ـ دع عنك هذا الشئ الغامض، فلا تعكّر صفو لذتنا، واُنسَ نشوتنا الحاضرة.. يا هذا... وما ذلك بيدك؟

ـ انه دواء!

ـ إرمه بعيداً، انك سالم صحيح ما بك شئ، ونحن في ساعة طرب وانس ومتعة. وما هذه البطاقة ذات العلامات الخمس؟

ـ انها تذكرة سفر، وأمر اداري للتوظيف!

ـ مزّقها، فلسنا بحاجة الى سفر في هذا الربيع الزاهي!

وهكذا حاول بكل مكر وخديعة ان يقنع الجندي، حتى بدأ ذلك المسكين يركن شيئاً قليلاً الى كلامه.

نعم، إن الانسان ينخدع، ولقد خُدعت انا كذلك لمثل هذا الماكر!

وفجأة دوّى صوت كالرعد عن يمينه يحذّره:

ـ اياك ان تنخدع.. قل لذلك الماكر الخبيث:

ان كنت تستطيع قتل الاسد الرابـض خلفي، وان ترفع اعواد المشنقة من امامي، وان تبرأني من جرحيّ الغائرين في يميني وشمالي، وان تحول بيني وبين رحلتي الشاقة الطويلة.. نعم إن كنت تقدر على ايجاد سبيل لكل هذا فهيا أرنيه، وهات ما لديك، ولك بعد ذلك ان تدعوني الى اللهو والطرب، وإلاّ فاسكت ايها الأبله، ليتكلم هذا الرجل السامي ــ الشبيه بالخضر ــ ليقول ما يروم.

فيا نفسي الباكية على ما ضحكتْ أيام شبابها. اعلمي! ان ذلك الجندي المسكين المتورط هــو أنــتِ، وهو الانســان.. وان ذلك الاســد هـو الأجـل.. وان اعواد المشنقة تلك هي الموت والزوال والفراق الذي تذوقه كل نفس.. ألا تَرَين كيف يفارقنا كل حبيب اِثر حبيب ويودعنا ليل نهار.. اما الجرحان العميقان، فأحدهما: العجز البشري المزعج الذي لا حدّ له. والآخر: هو الفقر الانساني المؤلم الذي لا نهاية له.. اما ذلك النفي والسفر المديد فهو رحلة الامتحان والابتلاء الطويلة لهذا الانسان، التي تنطلق من عالم الارواح مارةً من رحم الأم ومن الطفولة والصبا ثم من الشيخوخة ومن الدنيا ثم من القبر والبرزخ ومن الحشر والصراط.. واما الطلسمان فهما الايمان بالله وباليوم الآخر. نعم ان الموت بهذا الطلسم القدسي يلبس صورة فرس مسخّر بدلاً عن الاسد، بل يتخذ صورة بُراق يُخرج الانسان المؤمن من سجن الدنيا الى روضة الجنان، الى روضة الرحمن ذي الجلال. ومن هنا كان الكاملون من الناس يحبّون الموت ويطلبونه، حيث رأوا حقيقته. ثم ان سير الزمان ومروره على كل شئ ونفوذ الزوال والفراق والموت والوفاة فيه يتخذ بهذا الطلسم الايماني صورةً وضّاءة حيث تحفِـز الانسان الى رؤية الجِدَّة بتجدد كل شئ، بل يكون مبعث التأمل في الوان مختلفة متنوعة وانواع متباينة لمعجزات إبداع الخالق ذي الجلال وخوارق قدرته، وتجليات رحمته سبحانه ومشاهدتها باستمتاع وبهجة كاملين. بمثل ما يضفي تبدل المرايا العاكسة لألوان نور الشمس، وتغيّر الصور في شاشة السينما من جمال وروعة الى تكون المناظر الجذابة وتشكلها.

أما ذانك العلاجان.

فاحدهما: التوكل على الله والتحلي بالصبر، اي الاستناد الى قدرة الخالق الكريم والثقة بحكمته سبحانه.

ـ أهو كذلك؟

نعم، ان من يعتمد بهوية "عجزه" على سلطان الكون الذي بيده أمر ] كن فيكون[ كيف يجزع ويضطرب؟ بل يثبت أمام أشد المصائب، واثقاً بالله ربه، مطمئن البال مرتاح القلب وهو يردد: ] إنّا لله وإنّا اليه راجعون[ .

نعم، ان العارف بالله يتلذذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه. وحقاً ان في الخوف لذة! فلو تمكنّا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما اطيـب حالاتك وألـذها؟ فربما يكـون جــوابه: هو عندما ألوذ بصدر أمي الحنون بخوفي ورجائي وعجزي.. علماً ان رحمة جميع الوالدات وحنانهن ما هي الاّ لمعةُ تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية الواسعة.

ومن هنا وجد الذين كَمُل ايمانُهم لذة تفوق اية لذة كانت في العجز ومخافة الله،حتى انهم تبرأوا الى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم ولاذوا بعجزهم اليه تعالى واستعاذوا به وحده، مقدِّمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل.

أما العلاج الآخر فهو: الدعاء والسؤال ثم القناعة بالعطاء، والشكر عليه والثقة برحمة الرزاق الرحيم.

ـ أهو هكذا؟

نعم! ان من كان ضيفاً لدى الذي فَرَش له وجه الارض مائدةً حافلة بالنعم، وجعل الربيع كأنه باقة انيقة من الورود ووضعها بجانب تلك المائدة العامرة بل نثرها عليها، ان مَن كان ضيفاً عند هذا الجواد الكريم جل وعلا كيف يكون الفقر والحاجة لديه مؤلماً وثقيلاً؟. بل يتخذ فقره وفاقته اليه سبحانه صورة مُشهٍّ لتناول النِعم. فيسعى الى الاستزادة من تلك الفاقة كمن يستزيد من شهيته. وهنا يكمن سبب افتخار الكاملين واعتزازهم بالفقر الى الله تعالى.. (واياك ان تظن خلاف ما نقصد بالفقر؛ انه استشعار الانسان بالفقر اليه سبحانه والتضرع اليه وحده والسؤال منه، وليس المقصود اظهار الفقر الى الناس والتذلل لهم والسؤال منهم بالتسول والاستجداء!).

أما ذلك المستند أو الأمر الاداري أو البطاقة فهو أداء الفرائض وفي مقدمتها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر.

ــ أهو هكذا؟

نعم! ان جميع اهل الاختصاص والشهود وجميع اهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والاولياء الصالحين متفقون على ان زاد طريق أبد الآباد، وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبُراقها ليس إلاّ امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه،والاّ فلا يغني العلم والفلسفة والمهارة والحكمة شيئاً في تلك الرحلة، بل تقف جميعها منطفئة الاضواء عند باب القبر.

فيا نفسي الكسول!

ما اخف اداء الصلوات الخمس واجتناب الكبائر السبع وما أريحها وأيسرها امام عِظَم فوائدها وثمراتها وضرورتها! ان كنتِ فطنة تفهمين ذلك. ألا قولي لمن يدعوكِ الى الفسق واللهو والسفاهة، والى ذلك الشيطان الخبيث الماكر:

لو كانت لديك وسيلة لقتل الموت، ولإزالة الزوال عن الدنيا، ولو كان عندك دواء لرفع العجز والفقر عن البشرية، ووساطة لغلق باب القبر الى الابد، فهاتها اذن وقُلها لأسمع وأطيع.. وإلاّ فاخرس، فان القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا. فلننصت اليه، ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم، حتى يكون لساننا رطباً بذكره وتلاوته.

نعم! ان الكلام كلامه. فهو الحق، وهو الذي يُظهر الحقيقة وينشر آيات نور الحكمة.

اللّهم نوِّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن. اللهم اَغنِنا بالافتقار اليك ولا تُفقِرنا بالإستغناء عنك، تبرأنا اليك مِن حولنا وقوتنا والتجأنا الى حولك وقوتك فاجعلنا من المتوكلين عليك ولا تكِلْنا الى أنفسنا واحفظنا بحفظك وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

وصلِّ وسلم على سيّدنا محمد عبدك ونبيك وصفيك وخليلك وجمال ملكك ومليك صنعك وعين عنايتك وشمس هدايتك ولسان محبتك ومثال رحمتك ونور خلقك وشرف موجوداتك وسراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك وكاشف طلسم كائناتك ودلاّل سلطنة ربوبيتك ومبلّغ مرضياتك ومعرّف كنوز أسمائك ومعلم عبادك وترجمان آياتك ومرآة جمال ربوبيتك ومدار شهودك واشهادك وحبيبك ورسولك الذي أرسلته رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى ملائكتك المقربين وعلى عبادك الصالحين... آمين .(

عبدالرزاق 02-02-2011 12:59 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم

] الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم[ (البقرة:255)

] اِنّ الدينَ عند الله الاسلام[ (آل عمران: 19)

اذا اردت ان تفهم ما الدنيا وما دور الروح الانسانية فيها، وما قيمة الدين عند الانسان وكيف أنه لولا الدين الحق لتحولت الدنيا الى سجن رهيب، وأن الشخص الملحد هو أشقى المخلوقات، وأن الذي يحل طلسم العالم ولغزه المحير وينقذ الروح البشرية من الظلمات اِن هو إلا يا الله... لا إله إلا الله.. أجل اذا كنت تريد أن تفهم كل ذلك فانصت الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة وتفكر فيها ملياً:

كان شقيقان في قديم الزمان يذهبان معاً الى سياحة طويلة، فواصلا سيرهما سوية الى أن وصلا الى مفرق طريقين، فرأيا هناك رجلاً وقوراً فسألاه: أيّ الطريقين أفضل؟.

فأجابهما: في الطريق اليمين التزام اجباري للقانون والنظام، إلاّ أن في ثنايا ذلك التكليف ثمة أمان وسعادة. أما طريق الشمال ففيه الحرية والتحرر الا أن في ثنايا تلك الحرية تهلكة وشقاء. والآن لكم الخيار في سلوك أيهما.

وبعد الاستماع الى هذا الكلام سلك الأخ ذو الطبع الطيب طريق اليمين قائلاً: توكلت على الله. وانطلق راضياً عن طيب نفس باتباع النظام والانتظام. أما الأخ الآخر الغاوي، فقد رجّح طريق الشمال لمجرد هوى التحرر الذي فيه.

والآن فلنتابع خيالاً هذا الرجل السائر في طريق ظاهره السهولة والخفة وباطنه من قبله الثقـل والعــناء. فمـا أن عبر الوديـان العمـيقة والمــرتـفعـات العاليـة الوعرة حتى دخل وسط مفازة خالية وصحراء موحشة؛ فسمع صوتاً مخيفاً، ورأى أن أسداً ضخماً غضوباً قد انطلق من الأحراش نحوه؛ ففر منه فراراً وهو يرتعد خوفاً وهلعاً، فصادف بئراً معطلة على عمق ستين ذراعاً فألقى نفسه فيها طلباً للنجاة، وفي أثناء السقوط لقَيت يداه شجرةً فتشبث بها. وكان لهذه الشجرة جذران نبتا على جدار البئر وقد سلّط عليهما فأران، أبيض وأسود. وهما يقضمان ذينك الجذرين بأسنانهما الحادة. فنظر الى الأعلى فرأى الأسد واقفاً كالحارس على فوهة البئر، ونظر الى الأسفل فرأى ثعباناً كبيراً جداً قد رفع رأسه يريد الاقتراب منه وهو على مسافة ثلاثين ذراعاً، وله فم واسع سعة البئر نفسها. ورأى ثمة حشرات مؤذية لاسعة تحيط به. نظر الى أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، الا أنها تثمر بصورة خارقة أنواعاً مختلفة وكثيرة من فواكه الأشجار ابتداء من الجوز وانتهاء الى الرمان.

لم يكن هذا الرجل ليفهم ـ لسوء ادراكه وحماقته ـ بأن هذا الأمر ليس اعتيادياً، ولا يمكن أن تأتي كل هذه الأشياء مصادفةً ومن دون قصد. ولم يكن يفهم أن في هذه الشؤون العجيبة أسراراً غريبة، وأن هناك وراء كل ذلك من يدبّر هذه الأمور ويسيّرها.

فبينما يبكي قلب هذا الرجل وتصرخ روحه ويحار عقله من اوضاعه الاليمة اذا بنفسه الأمارة بالسوء أخذت تلتهم فواكه تلك الشجرة متجاهلة عما حولها وكأن شيئاً لم يحدث؛ سادّة أذنيها عن صرخات القلب وهواتف الروح، خادعة نفسها بنفسها رغم أن قسماً من تلك الفواكه كانت مسمومة ومضرة.

وهكذا نرى أن هذا الرجل الشقي قد عومل بمثل ما جاء في الحديث القدسي ((أنا عند ظن عبدي بي))(1) أي: أنا أعامل عبدي مثلما يعرفني هو. فلقد عومل هكذا، وسيعامل مثلها ايضاً، بل لابد أن يرى مثل هذه المعاملة جزاء تلقيه كل ما يشاهده أمراً عادياً بلا قصد ولا حكمة وكأنه الحق بعينه، وذلك لسوء ظنه وبلاهته الخرقاء؛ فصار يتقلب في نار العذاب ولا يستطيع أن يموت لينجو ولا يقدر على العيش الكريم.

ونحن بدورنا سنرجع تاركين وراءنا ذلك المشؤوم يتلوى في عذابه؛ لنعرف ما جرى للأخ الآخر من أحوال.

فهذا الرجل المبارك ذو العقل الرشيد ما يزال يقطع الطريق دون أن يعاني الضيق كأخيه، ذلك لأنه لا يفكر الا في الأشياء الجميلة ـ لما له من جمال الخُلق ـ ولا يأخذ بعنان الخيال الا بما هو جميل ولطيف، لذا كان يستأنس بنفسه ولا يلاقي الصعوبة والمشقة كأخيه. ذلك لأنه يعرف النظام، ويعمل بمقتضى الولاء والاتباع. فيرى الأمور تسهل له، ويمضي حراً منطلقاً مستظلاً بالأمان والاستقرار. وهكذا مضى حتى وجد بستاناً فيه أزهار جميلة وفواكه لطيفة مع ثمة جثث حيوانات وأشياء منتنة مبعثرة هنا وهناك بسبب اهمال النظافة. كان أخوه الشقي قد دخل ــ من قبل ــ في مثل هذا البستان أيضاً غير أنه انشغل بمشاهدة الجيف الميتة وانعام النظر فيها مما أشعره بالغثيان والدوار. فغادره دون أن يأخذ قسطاً من الراحة لمواصلة السير. أما هذا الأخ فعملاً بقاعدة ((انظر الى الأحسن من كل شي)) فقد أهمل الجيف ولم يلتفت اليها مطلقاً، بل استفاد مما في البستان من الأشياء والفواكه. وبعدما استراح فيه الراحة التامة مضى الى سبيله.

ودخل ــ هو أيضاً كأخيه ــ في صحراء عظيمة ومفازة واسعة. وفجأة سمع صوت أسد يهجم عليه فخاف الاّ انه دون خوف أخيه، حيث فكّر بحُسن ظنه وجمال تفكيره قائلاً: لابد أن لهذه الصحراء حاكماً، فهذا الأسد اذن يحتمل أن يكون خادماً أميناً تحت أمرته.. فوجد في ذلك اطمئناناً، غير أنه فرّ كذلك حتى وصل وجهاً لوجه الى بئر معطلة بعمق ستين ذراعاً فألقى نفسه فيها وأمسك ــ كصاحبه ــ بشجرة في منتصف الطريق من البئر.. وبقي معلقاً بها، فرأى حيوانين اثنين يقطعان جذري تلك الشجرة رويداً رويداً.. فنظر الى الأعلى فرأى الأسد، ونظر الى الأسفل فرأى ثعباناً ضخماً، ونظر الى نفسه فوجدها ــ كأخيه تماماً ــ في وضع عجيب غريب. فدهش من الأمر هو كذلك إلا انه دون دهشة أخيه بألف مرة، لما منحه الله من حُسن الخلق وحُسن التفكير والفكر الجميل الذي لا يريه الا الجهة الجميلة من الأشياء. ولهذا السبب فقد فكّر هكذا: أن هذه الأمور العجيبة ذات علاقات مترابطة بعضها ببعض، وأنها لتظهر كأن آمراً واحداً يحركها؛ فلابد اذن أن يكون في هذه الأعمال المحيرة سرّ مغلق وطلسم غير مكشوف.

أجل! ان كل هذا يرجع الى أوامر حاكم خفي، فأنا اذن لست وحيداً، بل ان ذلك الحاكم الخفي ينظر اليّ ويرعاني ويختبرني، ولحكمة مقصودة يسوقني الى مكان، ويدعونني اليه. فنشأ لديه من هذا التفكير الجميل والخوف اللذيذ شوقٌ أثار هذا السؤال: مَن يكون يا ترى هذا الذي يجرّبني ويريد أن يعرّفني نفسه؟ ومَن هذا الذي يسوقني في هذا الطريق العجيب الى غاية هادفة؟ ثم نشأ من الشوق الى التعرف محبة صاحب الطلسم، ونمت من تلك المحبة رغبة حل الطلسم، ومن تلك الرغبة انبثقت رغبة اتخاذ وضع جميل وحالة مقبولة لدى صاحب الطلسم حسب ما يحبه ويرضاه.

ثم نظر أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، غير أن في نهاية أغصانها آلاف الأنواع من الأثمار والفواكه، وعندها ذهب خوفه وزال نهائياً، لأنه علم علماً قاطعاً بأن شجرة التين هذه انما هي فهرس ومعرض، حيث قلد الحاكم الخفي نماذخ ما في بستانه وجناته بشكل معجز عليها وزيّنها بها، اشارةً لما أعدّه من أطعمة ولذائذ لضيوفه.. وإلا فان شجرة واحدة لن تعطي أثمار آلاف الأشجار. فلم يرَ أمامه الاّ الدعاء والتضرع، فألح متوسلاً بانكسار الى أن اُلهم مفتاح الطلسم فهتف قائلاً:

((يا حاكم هذه الديار والآفاق! التجئ اليك وأتوسل وأتـضرع، فانا لك خادم، أريد رضاك وأنا أطلبك وأبحث عنك))..

فانشق جدار البئر فجأة بعد هذا الدعاء، عن باب يفتح الى بستان فاخر طاهر جميل، وربما انقلب فم ذلك الثعبان الى ذلك الباب واتخذ كل من الأسد والثعبان صورة الخادم وهيأته.. فأخذا يدعوانه الى البستان حتى أن ذلك الأسد تقمص شكل حصان مسخّر بين يديه.

فيا نفسي الكسلى! ويا صاحبي في الخيال..

تعالا لنوازن بين أوضاع هذين الأخوين كي نعلم كيف أن الحسنة تجلب الحسنة وأن السيئة تأتي بالسيئة.

ان المسافر الشقي الى جهة الشمال معرّض في كل آن أن يلج في فم الثعبان فهو يرتجف خوفاً وهلعاً. بينما هذا السعيد يُدعى الى بستان أنيق بهيج مثمر بفواكه شتى.. وان قلب ذلك الشقي يتمزق في خوف عظيم ورعب أليم بينما هذا السعيد يرى غرائب الأشياء وينظر اليها بعبرة حلوة وخوف لذيذ ومعرفة محبوبة.. وان ذلك الشقي المسكين ليعاني من الوحشة واليأس واليتم عذاباً وأي عذاب! بينما هذا السعيد يتلذذ في الأنس ويترفل في الأمل والشوق.. ثم ان ذلك المنكود يرى نفسه محكوماً عليه ـ كالسجين ـ بهجمات الحشرات المؤذية، بينما هذا السعيد المحظوظ يتمتع متعة ضيف عزيز. وكيف لا وهو ضيف عند مضيّف كريم، فيستأنس مع عجائب خدمه. ثم أن ذلك السئ الحظ ليعجّل عذابه في النار بأكله مأكولات لذيذة الطعم ظاهراً ومسمومة حقيقةً ومعنىً، اذ ان تلك الفواكه ما هي الاّ نماذج، قد اُذن للتذوق منها فحسب ليكون طالباً لحقائقها وأُصولها ويكون شاريها الأصيل وإلاّ فلاسماح للشراهة منها كالحيوان. أما هذا السعيد المحمود فانه يتذوق منها اذ يعي الأمر، مؤخِّراً أكلها وملتذاً بالانتظار.. ثم ان ذلك الشقي يكون قد ظلم نفسه بنفسه؛ جاراً عليها وضعاً مظلماً وأوهاماً ذات ظلمات حتى كأنه في جحيم، بانعدام بصيرته عن حقائق ساطعة كالنهار وأوضاع جميلة باهرة، فلا هو مستحق للشفقة ولا له حق الشكوى، مَثَله في هذا مثل رجل وسط أحبائه في موسم الصيف وفي حديقة جميلة بهيجة في وليمة طيبة للأفراح، فلعدم قناعته بها راح يرتشف كؤوس الخمر ـ أم الخبائث ـ حتى أصبح سكيراً ثملاً؛ فشرع بالصراخ والعويل، وبدأ بالبكاء، ظاناً نفسه أنه في قلب الشتاء القارس، ومتصوراً أنه جائع وعار وسط وحوش مفترسة. فمثلما أن هذا الرجل لا يستحق الشفقة والرأفة، اذ ظلم نفسه بنفسه متوهماً أصدقاءه وحوشاً، محتقراً لهم.. فكذلك هذا المشؤوم.

ولكنما ذلك السعيد يبصر الحقيقة، والحقيقة بذاتها جميلة، ومع ادراك جمال الحقيقة فانه يحترم كمال صاحب الحقيقة ويوقّره فيستحق رحمته.

فاعلم اذن سراً من أسرار: ] ما أصَابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِن الله وما أصَابَك مِن سَيئةٍ فَمِن نَفسِكَ[ (النساء:79)

فلو وازنت سائر هذه الفروق وأمثالها لعلمت أن النفس الأمارة للأول قد أحضرت له جهنم معنوية، بينما الآخر قد نال ــ بحسن نيته وحسن ظنه وحسن خصلته وحسن فكره ــ الفيض والسعادة والاحسان العميم.

فيا نفسي. ويا أيها الرجل المنصت معي الى هذه الحكاية!

اذا كنت تريد أن لا تكون مثل ذلك الأخ المشؤوم وترغب في أن تكون كالأخ السعيد فاستمع الى القرآن الكريم وأرضخ لحكمه واعتصم به واعمل بأحكامه.

واذا كنت قد وعيت ما في هذه الأقصوصة التمثيلية من حقائق؛ فانك تستطيع أن تطبق عليها الحقيقة الدينية والدنيوية والانسانية والايمانية كلها. وسأقول لك الأسس، واستخرج بنفسك الدقائق!

فالاخوان الاثنان: أحدهما روح المؤمن وقلب الصالح، والآخر روح الكافر وقلب الفاسق.. أما اليمين من تلكما الطريقين فهو طريق القرآن وطريق الايمان وأما الشمال فطريق العصيان والكفران.. وأما ذلك البستان في الطريق فهو الحياة الاجتماعية المؤقتة للمجمتع البشري والحضارة الانسانية التي يوجد فيها الخير والشر والطيب والخبيث والطاهر والقذر معاً. فالعاقل هو مَن يعمل على قاعدة: ((خذ ما صفا.. دع ما كدر)) فيسير مع سلامة القلب واطمئنان الوجدان.

وأما تلك الصحراء فهي هذه الدنيا وهذه الارض.. وأما ذلك الأسد فهو الأجل والموت.. وأما تلك البئر فهي جسد الانسان وزمان الحياة. وأما ذلك العمق البالغ ستين ذراعاً فهو اشارة الى العمر الغالب، وهو معدل العمر ستون سنة.. وأما تلك الشجرة فهي مدة العمر ومادة الحياة.. وأما الحيوانان الاثنان، الأسود والابيض فهما الليل والنهار.. وأما ذلك الثعبان فهو فم القبر المفتوح الى طريق البرزخ ورواق الآخرة، الا أن ذلك الفم هو للمؤمن باب يفتح من السجن الى البستان.. وأما تلك الحشرات المضرة فهي المصائب الدنيوية، الا أنها للمؤمن في حكم الايقاظات الإلهية الحلوة والالتفاتات الرحمانية لئلا يغفل.. وأما مطعومات تلك الشجرة فهي النعم الدنيوية التي صنعها ربّ العزة الكريم لكي تكون فهرساً للنعم الأخروية ومذكِّرة بها، بمشابهتها لها، وقد خلقها البارئ الحكيم على هيئة نماذج لدعوة الزبائن الى فواكه الجنة، وان اعطاء تلك الشجرة على وحدتها الفواكه المختلفة المتباينة اشارة الى آية الصمدانية وختم الربوبية الآلهية وطغراء سلطنة الألوهية. ذلك لأن ((صنع كل شئ من شئ واحد)) أي صنع جميع النباتات وأثمارها من تراب واحد، وخلق جميع الحيوانات من ماء واحد، وابداع جميع الأجهزة الحيوانية من طعام بسيط. وكذا ((صنع الشئ الواحد من كل شئ)) كبناء لحم معين وجلد بسيط لذي حياة من مطعومات مختلفة الأجناس.. انما هي الآية الخاصة للذات الأحدية الصمدية والختم المخصوص للسلطان الازلي الابدي وطغراؤه التي لا يمكن تقليدها أبداً.

نعم ان خلق شئ من كل شئ وخلق كل شئ من شئ، انما هو خاصية تعود الى خالق كل شئ.. وعلامة مخصوصة للقادر على كل شئ. وأما ذلك الطلسم فهو سر حكمة الخلق الذي يُفتح بسر الايمان.

واما ذلك المفتاح فهو ] الله لا إله الا هو الحي القيوم[ و ((يا الله)) و ] لاإله إلا الله..[

وأما انقلاب فم ذلك الثعبان الى باب البستان فهو رمز الى أن القبر هو سجن الوحشة والنسيان والاهمال والـضيق، فهو كبطن الثعبان لأهل الـضلالة والطغيان. ولكنه لأهل الايمان والقرآن باب مفتوح على مصراعيه من سجن الدنيا الى بستان البقاء، ومن ميدان الامتحان الى روضة الجنان، ومن زحمة الحياة الى رحمة الرحمن.. وأما انقلاب ذلك الأسد المفترس الى حصان مسخر والى خادم مؤنس فهو اشارة الى أن الموت لأهل الـضلال فراق أبدي أليم من جميع الاحبة، وخروج من جنة دنيوية كاذبة الى وحشة سجن انفرادي للقبر، وضياع في تيه سحيق، بينما هو لأهل الهداية وأهل القرآن رحلة الى العالم الآخر، ووسيلة الى ملاقاة الأحبة والأصدقاء القدامى، وواسطة الى دخول الوطن الحقيقي ومنازل السعادة الأبدية، ودعوة كريمة من سجن الدنيا الى بساتين الجنان، وانتظار لأخذ الأجرة للخدمات تفضلاً من الرحمن الرحيم، وتسريح من تكاليف الحياة واجازة من وظيفتها، واعلان الانتهاء من واجبات العبودية وامتحانات التعليم والتعليمات.

نحصل من هذا كله:

أن كل من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنم حقيقةً ومعنىً، حتى لو كان يتقلب ظاهراً في بحبوحة النعيم.

وان كل من كان متوجهاً الى الحياة الباقية ويسعى لها بجد واخلاص فهو فائز بسعادة الدارين وأهل لهما معاً حتى لو كانت دنياه سيئة وضيقة، الا أنه سيراها حلوة طيبة، وسيراها قاعة انتظار لجنته، فيتحملها ويشكر ربه فيها وهو يخوض غمار الصبر.

اللهم اجعلنا من أهل السعادة والسلامة والقرآن والايمان .. آمين.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بعدد جميع الحروفات المتشكلة في جميع الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول الى آخر الزمان.

وارحمنا ووالدينا وارحم المؤمنين والمؤمنات بعددها برحمتك يا أرحم الراحمين آمين .. والحمد لله رب العالمين.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:00 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة التاسعة



بسم الله الرحمن الرحيم

] فَسُبْحانَ الله حينَ تُمسونَ وحين تُصبِحُون ^ وَلَه الحَمدُ في السَموات والارضِ وَعَشِيّا وحين تُظهِرون[ (الروم: 17 ـ 18)

أيها الأخ! تسألني عن حكمة تخصيص الصلاة في هذه الاوقات الخمسة المعينة، فسنشير الى حكمة واحدة فقط من بين حِكمها الوفيرة.

نعم، كما ان وقت كل صلاة، بداية انقلابٍ زمني عظيم ومهم، فهو كذلك مرآة لتصرف إلهي عظيم، تعكس الآلاء الإلهية الكلية في ذلك الوقت. لهذا فقد اُمر في تلك الاوقات بالصلاة ، أي الزيادة من التسبيح والتعظيم للقدير ذي الجلال، والاكثار من الحمد والشكر لنعمه التي لا تحصى والتي تجمعت بين الوقتين. ولأجل فهم بعضٍ من هذا المعنى العميق الدقيق، ينبغي الاصغاء ــ مع نفسي ــ الى خمس نكات(1).

C النكتة الاولى:

ان معنى الصلاة هو التسبيح والتعظيم والشكر لله تعالى. اي تقديسُه جل وعلا تجاه جلاله قولاً وفعلاً بقول: سبحان الله.. وتعظيمه تجاه كماله لفظاً وعملاً بقول: الله اكبر.. وشكره تجاه جماله قلباً ولساناً وجسماً بقول: الحمد لله.

اي أن التسبيح والتكبير والتحميد هو بمثابة نوى الصلاة وبذورها، فوُجِدت هذه الثلاثة في جميع حركات الصلاة واذكارها. ولهذا ايضاً تُكرّر هذه الكلمات

الطيبة الثلاث ثلاثاً وثلاثين مرة عقب الصلاة، وذلك للتأكيد على معنى الصلاة وترسيخه، اذ بهذه الكلمات الموجزة المجملة يؤكد معنى الصلاة ومغزاها.

C النكتة الثانية:

ان معنى العبادة هو سجودُ العبد بمحبة خالصة وبتقدير واعجاب في الحضرة الإلهية وامام كمال الربوبية والقدرة الصمدانية والرحمة الإلهية مشاهداً في نفسه تقصيرَه وعجزَه وفقرَه.

نعم، كما ان سلطنة الربوبية تتطلب العبودية والطاعة، فان قدسيتَها ونزاهتها تتطلب ايضاً أن يُعلن العبدُ ــ مع استغفاره برؤية تقصيره ـ أن ربّه منزّهٌ عن اي نقص، وانه مُتعالٍ على جميع أفكار أهل الـضلالة الباطلة، وانه مقدّس من جميع تقصيرات الكائنات ونقائصها. اي يعلن ذلك كله بتسبيحه، بقوله: سبحان الله.

وكذا قدرة الربوبية الكاملة تطلب من العبد ايضاً أن يلتجىء اليها، ويتوكل عليها لرؤيته ضعفَ نفسه الشديد وعجزَ المخلوقات قائلاً: الله اكبر باعجاب وتقدير واستحسان تجاه عظمة آثار القدرة الصمدانية، ماضياً الى الركوع بكل خضوع وخشوع.

وكذا رحمة الربوبية الواسعة تتطلب ايضاً ان يُظهر العبدُ حاجاته الخاصة وحاجات جميع المخلوقات وفقرها بلسان السؤال والدعاء، وان يعلن احسان ربه وألاءه العميمة بالشكر والثناء والحمد بقوله: الحمد لله.

أي أن افعال واقوال الصلاة تتضمن هذه المعاني. ولأجل هذه المعاني فُرضت الصلاة من لدنه سبحانه وتعالى.

C النكتة الثالثة:

كما أن الانسان هو مثالٌ مصغّر لهذا العالم الكبير، وان سورة الفاتحة مثالٌ منوّر للقرآن العظيم، فالصلاة كذلك فهرس نوراني شامل لجميع العبادات، وخريطة سامية تشير الى أنماط عبادات المخلوقات جميعاً.

C النكتة الرابعة:

ان عقارب الساعة التي تعد الثواني والدقائق والساعات والايام، كلٌ منها يناظر الآخر، ويمثّل الآخر، ويأخذ كلٌ منها حكم الآخر.

كذلك في عالم الدنيا الذي هو ساعة إلهية كبرى، فان دوران الليل والنهار الذي هو بحكم الثواني للساعة، والسنوات التي تعدّ الدقائق، وطبقات عمر الانسان التي تعد الساعات، وأدوار عمر العالم التي تعد الأيام، كل منها يناظر الآخر، ويتشابه معه، ويماثله، ويذكّر كل منها الآخر، ويأخذ حكمه.

فمثلاً:

وقت الفجر الى طلوع الشمس: يشبه ويذكّر ببداية الربيع وأوله، وبأوان سقوط الانسان في رحم الأم، وباليوم الأول من الأيام الستة في خلق السموات والارض، فينبّه الانسان الى ما في تلك الاوقات من الشؤون الإلهية العظيمة.

اما وقت الظهر: فهو يشبه ويشير الى منتصف الصيف، والى عنفوان الشباب، والى فترة خلق الانسان في عمر الدنيا، ويذكّر ما في ذلك كله من تجليات الرحمة وفيوضات النعمة.

أما وقت العصر: فهو يشبه موسم الخريف، وزمن الشيخوخة، وعصر السعادة الذي هو عصر خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، ويذكّر ما في ذلك كله من الشؤون الإلهية والآلاء الرحمانية.

أما وقت المغرب: فأنه يذكّر بغروب أغلب المخلوقات واُفولها نهاية الخريف، ويذكّر أيضاً بوفاة الانسان، وبدمار الدنيا عند قيام الساعة، ومع ذلك فهو يعلّم التجليات الجلالية، ويوقظ الانسان من نوم الغفلة وينبهه.

أما وقت العشاء: فيذكّر بغشيان عالم الظلام وستره آثار عالم النهار بكفنه الاسود، ويذكّر ايضاً بتغطية الكفن الابيض للشتاء وجه الارض الميتة، وبوفاة حتى آثار الانسان المتوفى ودخولها تحت ستار النسيان، وبانسداد أبواب دار امتحان الدنيا نهائياً، ويعلن في ذلك كله تصرفات جلالية للقهار ذي الجلال.

اما وقت الليل: فانه يذكّر بالشتاء، وبالقبر، وبعالم البرزخ، فضلاً عن انه يذكّر روح الانسان بمدى حاجتها الى رحمة الرحمن.

أما التهجد في الليل: فانه يذكّر بـضرورته ضياء لليل القبر، ولظلمات عالم البرزخ، وينبّه ويذكّر بنعم غير متناهية للمنعم الحقيقي عبر هذه الانقلابات، ويعلن ايضاً عن مدى أهلية المنعم الحقيقي للحمد والثناء.

أما الصباح الثاني: فانه يذكّر بصباح الحشر. نعم، كما ان مجئ الصبح لهذا الليل، ومجئ الربيع لهذا الشتاء معقول وضروري وحتمي، فان مجئ صباح الحشر وربيع البرزخ هما بالقطعية والثبوت نفسيهما.

فكل وقت اذن ـ من هذه الاوقات الخمسة ـ بداية انقلاب عظيم، ويذكّر بانقلابات اخرى عظيمة، فهو يذكّر ايضاً بمعجزات القدرة الصمدانية وهدايا الرحمة الإلهية سواء منها السنوية أو العصرية أو الدهرية، باشارات تصرفاتها اليومية العظيمة.

أي ان الصلاة المفروضة التي هي وظيفة الفطرة واساس العبودية والدَّين المفروض، لائقة جداً ومناسبة جداً في ان تكون في هذه الاوقات حقاً.

C النكتة الخامسة:

ان الانسان بفطرته ضعيف جداً، ومع ذلك فما اكثر المنغصات التي تورثه الحزن والألم، وهو في الوقت نفسه عاجز جداً، مع ان اعداءه ومصائبه كثيرة جداً، وهو فقير جداً مع ان حاجاته كثيرة وشديدة، وهو كسول وبلا اقتدار مع ان تكاليف الحياة ثقيلة عليه، وانسانيته جعلته يرتبط بالكون جميعاً مع ان فراقَ ما يحبه وزوال ما يستأنس به يؤلمانه، وعقله يريه مقاصد سامية وثماراً باقية، مع ان يده قصيرة، وعمره قصير، وقدرته محدودة وصبره محدود.

فروح الانسان في هذه الحالة (في وقت الفجر) احوج ما تكون الى أن تطرق ـ بالدعاء والصلاة ـ باب القدير ذي الجلال، وباب الرحيم ذي الجمال، عارضةً حالها أمامه، سائلة التوفيق والعون منه سبحانه، وما اشد افتقار تلك الروح الى نقطة استناد كي تتحمل ما سيأتي امامها من اعمال، وما ستحمل على كاهلها من وظائف في عالم النهار الذي يعقبه. الا يُفهم ذلك بداهةً؟

(وعند وقت الظهر) ذلك الوقت الذي هو ذروة كمال النهار وميلانه الى الزوال، وهو أوان تكامل الاعمال اليومية، وفترة استراحة موقتة من عناء المشاغل، وهو وقت حاجة الروح الى التنفس والاسترواح مما تعطيه هذه الدنيا الفانية والاشغال المرهقة الموقتة من غفلةٍ وحيرةٍ واضطراب فضلاً عن انه أوان تظاهر الآلاء الإلهية.

فخلاصُ روح الانسان من تلك المضايقات، وانسلالها من تلك الغفلة والحيرة، وخروجها من تلك الأمور التافهة الزائلة، لا يكون إلاّ بالالتجاء الى باب القيوم الباقي ـ وهو المنعم الحقيقي ـ بالتضرع والتوسل امامه مكتوف اليدين شاكراً حامداً لمحصّلة نِعَمه المتجمعة، مستعيناً به وحده، مع اظهار العجز امام جلاله وعظمته بالركوع، واعلان الذل والخضوع ـ باعجاب وتعظيم وهيام ـ بالسجود امام كماله الذي لا يزول، وأمام جماله الذي لا يحول.. وهذا هو اداء صلاة الظهر، فما اجملها، وما ألذَّها، وما أجدرها، وما أعظم ضرورتها!. ومن ثم فلا يحسبنّ الانسان نفسه انساناً إن كان لا يفهم هذا.

(وعند وقت العصر): الذي يذكّر بالموسم الحزين للخريف، وبالحالة المحزنة للشيخوخة، وبالايام الأليمة لآخر الزمان، وبوقت ظهور نتائج الاعمال اليومية. فهو فترة حصول المجموع الكلي الهائل للنعم الإلهية، أمثال التمتع بالصحة والتنعم بالعافية، والقيام بخدمات طيبة. وهو كذلك وقت الاعلان بان الانسان ضيف مأمور، وبأن كل شئ يزول وهو بلا ثبات ولا قرار، وذلك بما يشير اليه انحناء الشمس الـضخمة الى الاُفول.

نعم ان روح الانسان التي تنشد الابدية والخلود، وهي التي خُلقت للبقاء والابد، وتعشق الاحسان، وتتألم من الفراق، تُنهض بهذا الانسان ليقوم وقت العصر ويسبغ الوضوء لاداء صلاة العصر، ليناجي متضرعاً امام باب الحضرة الصمدانية للقديم الباقي وللقيوم السرمدي، وليلتجئ الى فضل رحمته الواسعة، وليقدم الشكر والحمد على نعمه التي لا تحصى، فيركع بكل ذلٍّ وخضوع أمام عزة ربوبيته سبحانه ويهوي الى السجود بكل تواضع وفناء امام سرمدية الوهيته، ويجد السلوان الحقيقي والراحة التامة لروحه بوقوفه بعبودية تامة وباستعداد كامل امام عظمة كبريائه جل وعلا. فما اسماها من وظيفةٍ تأديةُ صلاة العصر بهذا المعنى! وما أليقها من خدمة! بل ما احقّه من وقتٍ لقضاء دَين الفطرة، وما اعظمه من فوزٍ للسعادة في منتهى اللذة! فمن كان انساناً حقاً فسيفهم هذا.

(وعند وقت المغرب) الذي يذكّر بوقت غروب المخلوقات اللطيفة الجميلة لعالم الصيف والخريف في خزينة الودائع منذ ابتداء الشتاء، ويذكّر بوقت دخول الانسان القبر عند وفاته وفراقه الأليم لجميع أحبته، وبوفاة الدنيا كلها بزلزلة سكراتها وانتقال ساكنيها جميعاً الى عوالم اخرى. ويذكّر كذلك بانطفاء مصباح دار الامتحان هذه. فهو وقت ايقاظٍ قوي وانذارٍ شديد لاولئك الذين يعشقون لحد العبادة المحبوبات التي تغرب وراء اُفق الزوال. لذا فالانسان الذي يملك روحاً صافية كالمرآة المجلوة المشتاقة فطرةً الى تجليات الجمال الباقي، لأجل اداء صلاة المغرب في مثل هذا الوقت يولّي وجهه الى عرش عظمة مَن هو قديم لم يزل، ومن هو باقٍ لا يزال، ومَن هو يدبر أمر هذه العوالم الجسيمة ويبدّلها، فيدّوي بصوته قائلاً: (الله اكبر) فوق رؤوس هذه المخلوقات الفانية، مُطلقاً يده منها، مكتوفاً في خدمة مولاه الحق منتصباً قائماً عند مَن هو دائمٌ باقٍ جل وعلا ليقول: ((الحمد لله)) أمام كماله الذي لا نقص فيه، وامام جماله الذي لا مثيل له، واقفاً أمام مُثنياً رحمته الواسعة ليقول: ] اياك نعبد واياك نستعين[ . ليعرض عبوديته واستعانته تجاه ربوبية مولاه التي لا معين لها وتجاه الوهيته التي لا شريك لها، وتجاه سلطنته التي لا وزير لها. فيركع اظهاراً لعجزه وضعفه وفقره مع الكائنات جميعاً أمام كبريائه سبحانه التي لا منتهى لها، وامام قدرته التي لا حدّ لها، وامام عزته التي لا عجز فيها، مسبحاً ربّه العظيم قائلاً: ( سبحان ربي العظيم). ثم يهوي الى السجود امام جمال ذاته الذي لا يزول، وامام صفاته المقدسة التي لا تتغير، وامام كمال سرمديته الذي لا يتبدل، مُعلناً بذلك حبَّه وعبوديته في اعجاب وفناء وذلٍ، تاركاً ما سواه سبحانه قائلاً: (سبحان ربي الأعلى) واجداً جميلاً باقياً ورحيماً سرمدياً بدلاً من كل فانٍ. فيقدس ربَّه الاعلى المنزَّه عن الزوال المبرأ من التقصير ويجلس للتشهد، فيقدّم التحيات والصلوات الطيبات لجميع المخلوقات هديةً باسمه الى ذلك الجميل الذي لم يزل والى ذلك الجليل الذي لا يزال، مجدداً بيعتَه مع رسوله الاكرم بالسلام عليه مُظهراً بها طاعته لأوامره، فيرى الانتظام الحكيم لقصر الكائنات هذا، ويُشهِدُه على وحدانية الصانع ذي الجلال، فيجدّد ايمانه وينوّره، ثم يشهد على دلاّل الربوبية ومبلّغ مرضياتها وترجمان آيات كتاب الكون الكبير ألا وهو محمد العربي e . فما ألطفَ وما أنزه أداء صلاة المغرب وما أجلّها من مهمة ـ بهذا المضمون ـ وما أعزّها واحلاها من وظيفة، وما أجملها وألذّها من عبودية، وما أعظمها من حقيقة اصيلة! وهكذا نرى كيف انها صُحبة كريمة وجلسة مباركة وسعادة خالدة في مثل هذه الـضيافة الفانية.. أفيحسب مَن لم يفهم هذا نفسه أنساناً؟.

(وعند وقت العشاء) ذلك الوقت الذي تغيب في الأفق حتى تلك البقية الباقية من آثار النهار، ويخيّم الليلُ فيه على العالم، فيذكّر بالتصرفات الربانية لـ(مقلب الليل والنهار) وهو القدير ذو الجلال في قلبه تلك الصحيفة البيضاء الى هذه الصحيفة السوداء.. ويذكّر كذلك بالاجراءات الإلهية لـ(مسخر الشمس والقمر) وهو الحكيم ذو الكمال في قلبه الصحيفة الخضراء المزيِّنة للصيف الى الصحيفة البيضاء الباردة للشتاء.. ويذكّر كذلك بالشؤون الإلهية لـ(خالق الموت والحياة) بانقطاع الآثار الباقية ــ بمرور الزمن ــ لأهل القبور من هذه الدنيا وانتقالها كلياً الى عالم آخر. فهو وقت يذكّر بالتصرفات الجلالية، وبالتجليات الجمالية لخالق الارض والسموات، وبانكشاف عالم الآخرة الواسع الفسيح الخالد العظيم، وبموت الدنيا الضيقة الفانية الحقيرة، ودمارها دماراً تاماً بسكراتها الهائلة. انها فترة ـ أو حالة ـ تُثبت أن المالك الحقيقي لهذا الكون بل المعبود الحقيقي والمحبوب الحقيقي فيه لا يمكن ان يكون إلاّ مَن يستطيع ان يقلّب الليل والنهار والشتاء والصيف والدنيا والآخرة بسهولة كسهولة تقليب صفحات الكتاب، فيكتب ويثبت ويمحو ويبدل، وليس هذا إلاّ شأن القدير المطلق النافذ حكمه على الجميع جلّ جلاله.

وهكذا فروح البشر التي هي في منتهى العجز وفي غاية الفقر والحاجة، والتي هي في حيرة من ظلمات المستقبل وفي وَجَل مما تخفيه الايام والليالي.. تدفع الانسان عند ادائه لصلاة العشاء ـ بهذا المضمون ـ ان لا يتردد في أن يردد على غرار سيدنا ابراهيم عليه السلام ] لا أحبُّ الآفلين[ . فيلتجئ بالصلاة الى باب مَن هو المعبود الذي لم يزل ومَن هو المحبوب الذي لا يزال، مناجياً ذلك الباقي السرمدي في هذه الدنيا الفانية، وفي هذا العالم الفاني، وفي هذه الحياة المظلمة والمستقبل المظلم، لينشر على ارجاء دنياه النور من خلال صحبة خاطفةٍ ومناجاة موقتة، ولينّور مستقبله ويضمد جراح الزوال والفراق عما يحبّه من أشياء وموجودات ومن اشخاص واصدقاء وأحباب، بمشاهدة توجّه رحمةِ الرحمن الرحيم، وطلب نور هدايته، فينسى ـ بدوره ـ تلك الدنيا التي أنسته، والتي اختفت وراء العشاء، فيسكب عبرات قلبه، ولوعة صدره، على عتبة باب تلك الرحمة، ليقوم بوظيفة عبوديته النهائية قبل الدخول فيما هو مجهول العاقبة، ولا يعرف ما يُفعل به بعده، من نوم شبيه بالموت، وليختم دفتر اعماله اليومية بحسن الخاتمة. ولأجل ذلك كله يقوم بأداء الصلاة، فيتشرف بالمثول امام مَن هو المعبود المحبوب الباقي بدلاً من المحبوبات الفانية، وينتصب قائماً امام مَن هو القدير الكريم بدلاً من جميع العجزة المتسولين، وليسمو بالمثول في حضرة مَن هو الحفيظ الرحيم لينجو من شر من يرتعد منهم من المخلوقات الـضارة. فيستهلّ الصلاة بالفاتحة، أي بالمدح والثناء لرب العالمين الكريم الرحيم الذي هو الكامل المطلق والغني المطلق، بدلاً من مدح مخلوقات لا طائل وراءها وغير جديرة بالمدح وهي ناقصة وفقيرة وبدلاً من البقاء تحت ذلّ المنّة والأذى، فيرقى الى مقام الـضيف الكريم في هذا الكون، والى مقام الموظف المرموق فيه رغم انه ضئيل وصغير بل هو معدوم، وذلك بسموه الى مرتبة خطاب ] اياك نعبد[ أي انتسابه لمالك يوم الدين ولسلطان الازل والابد. فيقدّم بقوله: ] اياك نعبد واياك نستعين[ عبادات واستعانات الجماعة الكبرى والمجتمع الاعظم لجميع المخلوقات طالباً الهداية الى الصراط المستقيم الذي هو طريقه المنوّر الموصل الى السعادة الابدية عبر ظلمات المستقبل بقوله: ] اهدنا الصراط المستقيم[ ويتفكر في كبريائه سبحانه وتعالى ويتأمل في أن هذه الشموس المستترة ـ التي هي كالنباتات والحيوانات النائمة الآن ـ وهذه النجوم المنتبهة، جنود مطيعة مسخّرة لأمره جل وعلا، وان كل واحد منها ما هو إلا مصباح في دار ضيافته هذه، وكل واحد منها خادم عامل، فيكبّر قائلاً ] الله اكبر[ ليبلُغَ الركوع. ثم يتأمل بالسجدة الكبرى لجميع المخلوقات كيف أن انواع الموجودات في كل سنة، وفي كل عصر ـ كالمخلوقات النائمة في هذا الليل ــ بل حتى الارض نفسها وحتى العالم كله، انما هي كالجيش المنظم، بل كالجندي المطيع، عندما تسرّح من وظيفتها الدنيوية بأمر: ] كن فيكون[ أي عندما تُرسل الى عالم الغيب تسجد في منتهى النظام في الزوال على سجادة الغروب مكبّرة (الله اكبر). وهي تُبعث وتُحشر كذلك في الربيع بنفسها أو بمثلها، بصيحة احياء وايقاظٍ صادر من أمر ] كن فيكون[ فيتأهب الجميع في خضوع وخشوع لأمر مولاهم الحق. فهذا الانسان الـضعيف اقتداء بتلك المخلوقات، يهوي الى السجود امام ديوان الرحمن ذي الكمال والرحيم ذي الجمال قائلاً: (الله اكبر) في حبٍ غامرٍ بالأعجاب وفي فنائيةٍ مفعمة بالبقاء وفي ذلّ مكللٍ بالعز.

فلا شك يا أخي قد فهمت ان اداء صلاة العشاء سموٌ وصعودٌ فيما يشبه المعراج، وما أجملها من وظيفةٍ وما احلاها من واجبٍ وما اسماها من خدمةٍ وما اعزّها وألذّها من عبودية وما أليقها من حقيقة اصيلة!

اي ان كل وقت من هذه الاوقات اشارات لانقلاب زمني عظيم، وأمارات لاجراءات ربانية جسيمة، وعلامات لإنعامات إلهية كلية، لذا فان تخصيص صلاة الفرض ـ التي هي دَين الفطرة ـ في تلك الاوقات هو منتهى الحكمة.



] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنآ اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا اِنِّكَ اَنْتَ العَليمُ الحَكيمُ[

اللّهم صل وسلم على مَن ارسلته معلّماً لعبادك، ليعلّمهم كيفية معرفتك والعبودية لك،

ومعرّفاً لكنوز اسمائك،

وترجماناً لايات كتاب كائناتك،

ومرآةً بعبوديته لجمال ربوبيتك،

وعلى آله وصحبه اجمعين.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

آمين برحمتك يا ارحم الراحمين.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:12 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة العاشرة



مبحث الحشر





تنبيه

ان سبب ايرادي التشبيه والتمثيل بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريب المعاني الى الأذهان من ناحية، واظهار مدى معقولية الحقائق الاسلامية ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية اخرى، فمغزى الحكايات انما هو الحقائق التي تنتهي اليها، والتي تدل عليها كنايةً. فهي اذن ليست حكايات خيالية وانما حقائق صادقة.













بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَانْظُرْ اِلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ اْلاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذَلِكَ لَـمُحْيىِ اْلـمَوْتىَ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ[ (الروم: 50)

يا أخي!

إِن رمتَ ايضاح أمر الحشر وبعضَ شؤون الآخرة على وجهٍ يُلائم فهمَ عامة الناس، فاستمع معي الى هذه الحكاية القصيرة.

ذهب اثنان معاً الى مملكة رائعة الجمال كالجنة (التشبيه هنا للدنيا) واذا بهما يَريان ان أهلها قد تركوا ابواب بيوتهم وحوانيتهم ومحلاتهم مفتوحة لا يهتمون بحراستها.. فالاموال والنقود في متناول الايدي دون ان يحميها أحد. بدأ أحدهما - بما سوّلت له نفسه - يسرق حيناً ويغصب حيناً آخر مرتكباً كل انواع الظلم والسفاهة، والاهلون لا يبالون به كثيراً.

فقال له صديقه:

- ويحك ماذا تفعل؟ انك ستنال عقابك، وستلقيني في بلايا ومصائب. فهذه الاموال أموال الدولة، وهؤلاء الأهلون قد اصبحوا - بعوائلهم واطفالهم - جنود الدولة أو موظفيها، ويُستخدمون في هذه الوظائف ببزّتهم المدنية، ولذلك لم يُبالوا بك كثيراً. إعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان. أسرع يا صاحبي بالاعتذار وبادر الى التوسل.

ولكن صاحبه الأبله عاند قائلاً:

- دعني يا صاحبي، فهذه الاموال ليست أموال الدولة، بل هي أموال مشاعة، لا مالك لها. يستطيع كل واحد ان يتصرف فيها كما يشاء. فلا أرى ما يمنعني من الاستفادة منها، أو الانتفاع بهذه الاشياء الجميلة المنثورة امامي. واعلم اني لا اصدّق بما لا تراه عيناي...

وبدأ يتفلسف ويتفوه بما هو من قبيل السفسطة(1). وهنا بدأت المناقشة الجادّة بينهما. وأخذ الحوار يشتد اذ سأل المغفل:

- وما السلطان؟ فانا لا اعرفه. فردّ عليه صاحبه:

- انك بلاشك تعلم انه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة، بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب. فكيف يسوغ لك القول: انه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك، حتى كأن قطاراً مشحوناً بالارزاق الثمينة يأتي من الغيب كل ساعة ويفرغ هنا ثم يذهب(1)! أوَ لا ترى في أرجاء هذه المملكة اعلانات السلطان وبياناته، واعلامَه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكّته وطرّته على الاموال كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟.. يبدو انك تعلمت شيئاً من لغة الافرنج، ولكنك لا تستطيع قراءة هذه الكتابات الاسلامية ولا ترغب ان تسأل من يقرأها ويفهمها، فتعال اذن لأقرأ لك أهم تلك البلاغات والاوامر الصادرة من السلطان.. فقاطعه ذلك المعاند قائلاً:

- لنسلّم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن ان تضره وتنقص من خزائنه ما أحوزه لنفسي منها؟ ثم اني لا أرى هنا عقاباً من سجن أو ما يشبهه!

أجابه صاحبه:

- يا هذا، ان هذه المملكة التي نراها ما هي الاّ ميدان اِمتحانٍ واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جداً.. ألا ترى ان قافلة تأتي يومياً وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة، انها تملأ وتخلى باستمرار، وسوف تفرغ نهائياً وتبدل بأخرى باقية دائمة، وينقل اليها الناس جميعاً فيثاب أو يُعاقب كلٌ حسب عمله.

ومرة اخرى تمرّد صديقه الخائن الحائر قائلاً:

- أنا لا أؤمن ولا اصدق! فهل يمكن ان تُباد هذه المملكة العامرة، ويرحل عنها أهلُها الى مملكة اخرى؟ وعندها قال له صديقه الناصح الامين:

- يا صاحبي ما دمتَ تعاند هكذا وتصرّ، فتعال أبين لك دلائل لا تعد ولا تحصى مجملةً في اثنتي عشرة صورة تؤكد لك ان هناك محكمة كبرى حقاً، وداراً للثواب والاحسان، واخرى للعقاب والسجن، وانه كما تفرغ هذه المملكة من أهلها يوماً بعد يوم، فسيأتي يوم تفرغ فيه منهم نهائياً وتباد كليّاً.

C الصورة الأولى

أمن الممكن لسلطنةٍ - ولاسيما كهذه السلطنة العظمى - أن لا يكون فيها ثوابٌ للمطيعين ولا عقاب للعاصين؟.. ولما كان العقاب والثواب في حكم المعدوم في هذه الدار..

فلابد اذن من محكمةٍ كبرى في دارٍ اخرى.

C الصورة الثانية

تأمل سير الاحداث والاجراءات في هذه المملكة، كيف يوزَّع الرزقُ رغداً حتى على أضعف كائن فيها وأفقره، وكيف ان الرعاية تامة والمواساة دائمة لجميع المرضى الذين لا معيل لهم. وانظر الى الاطعمة الفاخرة والاواني الجميلة والأوسمة المرصعة والملابس المزركشة.. فالموائد العامرة مبثوثة في كل مكان.. وانظر! الجميع يتقنون واجباتهم ووظائفهم اِلا أنت وأمثالك من البلهاء، فلا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، فأعظم شخص يؤدي ما أنيط به من واجب بكل تواضع، وفي غاية الطاعة، تحت ظل جلال الهيبة والرهبة. اذن فمالِكُ هذه السلطنة ومليكها ذو كرم عظيم، وذو رحمة واسعة، وذو عزة شامخة، وذو غيرة جليلة ظاهرة، وذو شرف سامٍ. ومن المعلوم ان الكرم يستوجب اِنعاماً، والرحمة لا تحصل دون احسان، والعزة تقتضي الغيرة، والشرف السامي يستدعي تأديب المستخفين، بينما لا يتحقق في هذه المملكة جزء واحد من ألفٍ مما يليق بتلك الرحمة ولا بذلك الشرف. فيرحل الظالم في عزته وجبروته ويرحل المظلوم في ذله وخنوعه.

فالقـضية اذن مؤجلة الى محكمة كبرى.

C الصورة الثالثة

انظر، كيف تُنجز الاعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظام بديع، وتأمل كيف يُنظر الى المعاملات بمنظار عدالةٍ حقة وميزانٍ صائب. ومن المعلوم ان حكمة الحكومة وفطنتها هي اللطف بالذين يحتمون بحماها وتكريمهم. والعدالة المحضة تتطلب رعاية حقوق الرعية، لتصان هيبة الحكومة وعظمة الدولة.. غير انه لا يبدو هنا اِلا جزءٌ ضئيلٌ من تنفيذ ما يليق بتلك الحكمة، وبتلك العدالة. فأمثالك من الغافلين سيغادرون هذه المملكة دون أن يرى اغلبهم عقاباً.

فالقـضية اذن مؤجلة بلا ريب الى محكمة كبرى.

C الصورة الرابعة

انظر الى ما لا يعد ولا يحصى من الجواهر النادرة المعروضة في هذه المعارض، والاطعمة الفريدة اللذيذة المزيّنة بها الموائد، مما يُبرز لنا أن لسلطان هذه المملكة سخاءً غير محدود، وخزائن ملأى لا تنضب.. ولكن مثل هذا السخاء الدائم، ومثل هذه الخزائن التي لا تنفد، يتطلبان حتماً دار ضيافة خالدة أبدية، فيها ما تشتهيه الانفس. ويقتضيان كذلك خلود المتنعمين المتلذذين فيها، من غير ان يذوقوا ألم الفراق والزوال؛ اذ كما ان زوال الألم لذة فزوال اللذة ألم كذلك.. وانظر الى هذه المعارض، ودقق النظر في تلك الاعلانات، واصغ جيداً الى هؤلاء المنادين الدعاة الذين يصفون عجائب مصنوعات السلطان - ذي المعجزات - ويعلنون عنها، ويظهرون كماله، ويفصحون عن جماله المعنوي الذي لا نظير له، ويذكرون لطائف حسنه المستتر.

فلهذا السلطان اذن كمال باهر، وجمال معنوي زاهر، يبعثان على الاعجاب. ولاشك ان الكمال المستتر الذي لا نقص فيه يقتضي اعلانه على رؤوس الاشهاد من المعجبين المستحسنين، ويتطلب اعلانه امام انظار المقدّرين لقيمته. أما الجمال الخفي الذي لا نظير له، فيستلزم الرؤية والاظهار، أي رؤية جماله بوجهين.

احدهما: رؤيته بذاته جمالَه في كل ما يعكس هذا الجمال من المرايا المختلفة.

ثانيهما: رؤيته بنظر المشاهدين المشتاقين والمعجبين المستحسنين له. وهذا يعني ان الجمال الخالد يستدعي رؤية وظهوراً، مع مشاهدةٍ دائمةٍ، وشهودٍ أبدي.. وهذا يتطلب حتماً خلودَ المشاهدين المشتاقين المقدّرين لذلك الجمال، لأن الجمال الخالد لا يرضى بالمشتاق الزائل. ولأن المشاهد المحكوم عليه بالزوال يبدل تصور الزوال محبته عداءً، واعجابه استخفافاً، وتوقيره اهانةً، اذ الانسان عدو لما يجهل ولما يقصر عنه.. ولما كان الجميع يغادرون دور الضيافة هذه بسرعة ويغيبون عنها بلا ارتواء من نور ذلك الجمال والكمال، بل قد لا يرون اِلا ظلالاً خافتة منه عبر لمحات سريعة..

فالرحلة اذن منطلقة الى مشهد دائم خالد.

C الصورة الخامسة

تأمل، كيف ان لهذا السلطان - الذي لا نظير له - رأفة عظيمة تتجلى في خضم هذه الأحداث والامور، اذ يغيث الملهوف المستغيث، ويستجيب للداعي المستجير، واذا ما رأى أدنى حاجة لأبسط فرد من رعاياه فانه يقضيها بكل رأفة وشفقة، حتى انه يرسل دواءً او يهيئ بيطاراً لإسعاف قدم نعجة من النعاج.

هيا بنا يا صاحبي لنذهب معاً الى تلك الجزيرة، حيث تضم جمعاً غفيراً من الناس. فجميع اشراف المملكة مجتمعون فيها.. انظر فها هو ذا مبعوث كريم للسلطان متقلّد اعظم الأوسمة وأعلاها يرتجل خطبة يطلب فيها من مليكه الرؤوف أموراً، وجميع الذين معه يوافقونه ويصدّقونه ويطلبون ما يطلبه.

أنصت لما يقول حبيب الملك العظيم، انه يدعو بأدبٍ جم وتضرّع ويقول:

يا من اسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يا سلطاننا، أرنا منابع واصولَ ما أريتَه لنا من نماذج وظلال.. خذ بنا الى مقر سلطنتك ولا تهلكنا بالـضياع في هذه الفلاة.. أقبلنا وارفعنا الى ديوان حـضورك.. ارحمنا... اطعمنا هناك لذائذ ما أذقتنا اياه هنا، ولا تعذبنا بألم التنائي والطرد عنك.. فهاهم اولاء رعيتك المشتاقون الشاكرون المطيعون لك، لا تتركهم تائهين ضائعين، ولا تفنِهم بموت لا رجعة بعده..

أسمعت يا صاحبي ما يقول؟. تُرى أمن الممكن لمن يملك كل هذه القدرة الفائقة، وكل هذه الرأفة الشاملة، ان لا يعطي مبعوثه الكريم ما يرغب به، ولا يستجيب لأسمى الغايات وانبل المقاصد؟ وهو الذي يقضي بكل اهتمامٍ أدنى رغبة لأصغر فرد من رعاياه؟ مع أن ما يطلبه هذا المبعوث الكريم تحقيق لرغبات الجميع ومقاصدهم، وهو من مقتضيات عدالته ورحمته ومرضاته. ثم انه يسير عليه وهيّن، فليس هو بأصعب مما عرضه من نماذج في متنزهات هذه المملكة ومعارضها.. فما دام قد انفق نفقات باهظة وأنشأ هذه المملكة لعرض نماذجه عرضاً مؤقتاً، فلابد أنه سيَعرِض في مقر سلطنته من خزائنه الحقيقية ومن كمالاته وعجائبه ما يبهر العقول. اذن فهؤلاء الذين هم في دار الامتحان هذه ليسوا عبثاً، وليسوا سدى، بل تنتظرهم قصورُ السعادة السرمدية الخالدة، او غياهب السجون الابدية الرهيبة.

C الصورة السادسة

تعال، وانظر الى هذه القاطرات الضخمة، والى هذه الطائرات المشحونة، والى هذه المخازن الهائلة المملوءة، والى هذه المعارض الانيقة الجذابة.. وتأمل في الاجراءات وسير الامور.. انها جميعاً تبيّن ان هناك سلطنة عظيمة حقاً(1) تحكم من وراء ستار. فمثل هذه السلطنة تقتضي حتماً رعايا يليقون بها. بينما تشاهد انهم قد اجتمعوا في هذا المضيف - مضيف الدنيا - والمضيف يودّع يومياً صنوفاً منهم ويستقبل صنوفاً. وهم قد حضروا في ميدان الامتحان والاختبار هذا، غير أن الميدان يُبدّل كل ساعة، وهم يلبثون قليلاً في هذا المعرض العظيم، يتفرجون على نماذج آلاء المليك الثمينة وعجائب صنعته البديعة، غير ان المعرض نفسه يحوّل كل دقيقة، فالراحل لا يرجع والقابل يرحل كذلك.. فهذه الامور تبين بشكل قاطع ان وراء هذا المضيف الفاني، ووراء هذه الميادين المتبدلة، ووراء هذه المعارض المتحولة، قصور دائمة خالدة، ومساكن طيبة ابدية وجنائنُ مملوءة بحقائق هذه النماذج، وخزائن مشحونة باصولها.

فالاعمال والافعال هنا اذن ما هي الا لأجل ما اُعدّ هنالك من جزاء. فالملك القدير يكلف هنا ويجازي هناك، فلكل فردٍ لون من السعادة حسب استعداده وما اقدم عليه من خير.

C الصورة السابعة

تعال، لنتنزه قليلاً بين المدنيين من الناس لنلاحظ احوالهم، وما تجري حولهم من امور. انظر، فها قد نُصبَت في كل زاوية آلاتُ تصوير عديدة تلتقط الصور، وفي كل مكان كتّاب كثيرون يسجلون كل شئ، حتى أهون الامور.

هيا انظر الى ذاك الجبل الشاهق فقد نصبت عليه آلة تصوير ضخمة تخص السلطان نفسه(1) تلتقط صور كل ما يجري في هذه المملكة. فلقد اصدر السلطان أوامره لتسجيل الامور كلها، أو تدوين المعاملات في مملكته. وهذا يعني ان السلطان المعظم هو الذي يملي الحوادث جميعها، ويأمر بتصويرها.. فهذا الاهتمام البالغ، وهذا الحفظ الدقيق للأمور، وراءه محاسبة بلا شك، اذ هل يمكن لحاكمٍ حفيظ - لا يهمل أدنى معاملة لأبسط رعاياه - أن لا يحفظ ولا يدوّن الاعمال العظيمة لكبار رعاياه، ولا يحاسبهم ولا يجازيهم على ما صنعوا مع انهم يُقدمون على اعمال تمسّ الملك العزيز، وتتعرض لكبريائه، وتأباه رحمته الواسعة؟.. وحيث انهم لا ينالون عقاباً هنا..

فلابد انه مؤجل الى محكمة كبرى.

C الصورة الثامنة

تعال، لأتلو عليك هذه الأوامر الصادرة من السلطان. انظر، انه يكرر وعده ووعيده قائلاً: لآتينّ بكم الى مقر سلطنتي، ولأسعدنّ المطيعين منكم، ولأزجنّ العصاة في السجن، ولأدمرنّ ذلك المكان الموقت، ولأنشأن مملكة اخرى فيها قصور خالدة وسجون دائمة.. علماً ان ما قطعه على نفسه من وعد، هين عليه تنفيذه، وهو بالغ الأهمية لرعاياه. أما اِخلاف الوعد فهو منافٍ كلياً لعزته وقدرته.

فانظر ايها الغافل: اِنك تصدق اكاذيب أوهامك، وهذيان عقلك، وخداع نفسِك، ولا تصدّق مَن لا يحتاج الى مخالفة الوعد قطعاً، ومَن لا تليق المخالفة بغيرته وعزته اصلاً، ومَن تشهد الامور كافة على صدقه.. انك تستحق العقاب العظيم بلاشك، اذ إن مَثلكَ في هذا مثل المسافر الذي يغمض عينيه عن ضوء الشمس، ويسترشد بخياله، ويريد ان ينير طريقه المخيف ببصيص عقله الذي لا يضئ الا كضياء اليراعة (ذباب الليل).

وحيث انه قد وعد، فسيفي بوعده حتماً، لأن وفاءه سهل عليه وهين، وهو من مقتضيات سلطنته، وهو ضروري جداً، لنا ولكل شئ.

اذن هناك محكمة كبرى وسعادة عظمى.

C الصورة التاسعة

تعال، لننظر الى رؤساء(1) من هذه الدوائر، قسم منهم يمكنهم الاتصال بالسلطان العظيم مباشرة، بهاتف خاص. بل لقد ارتقى قسم آخر وسما الى ديوان قدسه.. تأمل ماذا يقول هؤلاء؟ انهم يخبروننا جميعاً ان السلطان قد أعدّ مكاناً فخماً رائعاً لمكافأة المحسنين وآخر رهيباً لمعاقبة المسيئين. وانه يَعِد وعداً قوياً ويُوعِد وعيداً شديداً، وهو أجلّ وأعزّ من أن يذلّ الى خلاف ما وعد وتوعد. علماً بأن اخبار المخبرين قد وصلت من الكثرة الى حد التواتر ومن القوة الى درجة الاتفاق والاجماع فهم يبلغوننا جميعاً: بأن مقر هذه السلطنة العظيمة التي نرى آثارها وملامحها هنا، انما هو في مملكة اخرى بعيدة. وان العمارات في ميدان الامتحان هذا بنايات وقتية، وستُبدّل الى قصور دائمة، فتبدل هذه الارض بغيرها. لأن هذه السلطنة الجليلة الخالدة - التي تُعرف عظمتُها من آثارها - لا يمكن ان تقتصر هيمنتُها على مثل هذه الامور الزائلة التي لا بقاء لها ولا دوام ولا كمال ولا قرار ولا قيمة ولا ثبات. بل تستقر على ما يليق بها وبعظمتها من امور تتّسم بالديمومة والكمال والعظمة.

فاذن هناك دار اخرى.. ولابد ان يكون الرحيل الى ذلك المقر.

C الصورة العاشرة

تعال يا صاحبي، فاليوم يوم عيد ملكي عظيم(2).. ستحدث تبدلات وتغيرات وستبرز أمور عجيبة.. فلنذهب معاً للنزهة، في هذا اليوم البهيج من ايام الربيع الى تلك الفلاة المزدانة بالازهار الجميلة.. انظر! هاهم الناس متوجهون الى هناك.. انظر! هاهنا امر غريب عجيب، فالعمارات كلها تنهار وتتخذ شكلاً آخر! حقاً انه شئ معجز! اذ العمارات التي انهارت قد أعيد بناؤها هنا فوراً، وانقلبت هذه الفلاة الخالية الى مدينة عامرة! انظر.. انها تريك كل ساعة مشهداً جديداً وتتخذ شكلاً غير شكلها السابق - كشاشة السينما - لاحظ الأمر بدقة لترى روعة هذا النظام المتقن في هذه الشاشة التي تختلط فيها المشاهد بكثرة وتتغير بسرعة فهي مشاهد حقيقية يأخذ كل شئ مكانه الحقيقي في غاية الدقة والانسجام، حتى المشاهد الخيالية لا تبلغ هذا الحد من الانتظام والروعة والاتقان، بل لا يستطيع ملايين الساحرين البارعين من القيام بمثل هذه الاعمال البديعة.. اذن فللسلطان العظيم المستور عنا الشئ الكثير من الامور الخارقة.

فيا أيها المغفل! انك تقول: كيف يمكن ان تدمّر هذه المملكة العظيمة وتعمّر من جديد في مكان آخر؟.

فها هو ذا أمامك ما لا يقبله عقلك من تقلبات كثيرة وتبدلات مذهلة، فهذه السرعة في الاجتماع والافتراق، وهذا التبدل والتغير، وهذا البناء والهدم.. كلها تنبىء عن مقصد، وتنطوي على غاية، اذ يُصرف لأجل اجتماع في ساعة واحدة ما ينفق لعشر سنوات ! فهذه الاوضاع اذن ليست مقصودة لذاتها، بل هي أمثلة ونماذج للعرض هنا. فالسلطان يُنهي اعماله على وجه الاعجاز، كي تؤخذ صورها، وتُحفظ نتائجها وتُسجل كما تُسجل وتُحفظ كل ما في ميدان المناورات العسكرية. فالأمور والمعاملات اذن ستجري في الاجتماع الاكبر وتستمر وفق ما كانت هنا. وستعرض تلك الامور عرضاً مستمراً في المشهد الاعظم والمعرض الاكبر. أي ان هذه الاوضاع الزائلة تنتج ثماراً باقية وتولّد صوراً خالدة هناك.

فالمقصود من هذه الاحتفالات اذن هو بلوغ سعادة عظمى، ومحكمة كبرى، وغايات سامية مستورة عنا.

C الصورة الحادية عشرة

تعال أيها الصديق المعاند، لنركب طائرة أو قطاراً، لنذهب الى الشرق او الى الغرب - أي الى الماضي أو الى المستقبل - لنشاهد ما اظهره السلطان من معجزات متنوعة في سائر الاماكن. فما رأيناه هنا في المعرض، أو في الميدان، أو في القصر، من الأمور العجيبة له نماذج في كل مكان، اِلاّ انه يختلف من حيث الشكل والتركيب. فيا صاحبي، أنعم النظر في هذا، لترى مدى ظهور اِنتظام الحكمة، ومبلغ وضوح اشارات العناية، ومقدار بروز امارات العدالة، ودرجة ظهور ثمرات الرحمة الواسعة، في تلك القصور المتبدلة، وفي تلك الميادين الفانية، وفي تلك المعارض الزائلة. فَمَن لم يفقد بصيرته يفهم يقيناً أنه لن تكون - بل لا يمكن تصور - حكمة أكملَ من حكمة ذلك السلطان ولا عناية اجملَ من عنايته، ولا رحمة أشمل من رحمته، ولا عدالة أجلّ من عدالته.. ولكن لما كانت هذه المملكة - كما هو معلوم - قاصرةً عن اظهار حقائق هذه الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، ولو لم تكن هناك في مقر مملكته - كما توهمت - قصور دائمة، وأماكن مرموقة ثابتة، ومساكن طيبة خالدة، ومواطنون مقيمون، ورعايا سعداء تحقق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، يلزم عندئذٍ اِنكار ما نبصره من حكمة، وانكار ما نشاهده من عناية، وانكار ما نراه من رحمة، وانكار هذه الامارات والاشارات للعدالة الظاهرة البينة.. انكار كل ذلك بحماقة فاضحة كحماقة من يرى ضوء الشمس وينكر الشمس نفسَها في رابعة النهار! ويلزم أيضاً القول بأن القائم بما نراه من اجراءات تتسم بالحكمة وافعالٍ ذات غايات كريمة وحسنات ملؤها الرحمة انما يلهو ويعبث ويغدر - حاشاه ثم حاشاه - وما هذا الا قلب الحقائق الى أضدادها، وهو المحال باتفاق جميع ذوي العقول غير السوفسطائي الابله الذي يُنكِر وجودَ الاشياء، حتى وجودَ نفسه.

فهناك اذن ديار غير هذه الديار، فيها محكمة كبرى ، ودار عدالة عليا، ومقرَّ كرم عظيم، لتظهر فيها هذه الرحمة وهذه الحكمة وهذه العناية وهذه العدالة بوضوح وجلاء.

C الصورة الثانية عشرة

تعال فلنرجع الآن يا صاحبي، لنلتقي ضباطَ هذه الجماعات ورؤساءها، انظر الى معدّاتهم.. أزوّدوا بها لقضاء فترة قصيرة من الزمن في ميدان التدريب هذا، أم انها وُهبَت لهم ليقضوا حياة سعيدة مديدة في مكان آخر؟ ولما كنا لا نستطيع لقاء كل واحد منهم، ولا نتمكن الاطلاع على جميع لوازمهم وتجهيزاتهم، لذا نحاول الاطلاع على هوية وسجل أعمال واحد منهم كنموذج ومثال. ففي الهوية نجد رتبة الضابط، ومرتّبه، ومهمته، وامتيازاته، ومجال اعماله، وكل ما يتعلق بأحواله.. لاحظ، ان هذه الرتبة ليست لأيام معدودة بل لمدة مديدة.. ولقد كتب في هويته انه يتسلّم مرتّبه من الخزينة الخاصة بتاريخ كذا.. غير أن هذا التاريخ بعيد جداً، ولا يأتي الا بعد انهاء مهام التدريب في هذا الميدان.. أما هذه الوظيفة فلا توافق هذا الميدان الموقت ولا تنسجم معه، بل هي للفوز بسعادة دائمة في مكان سامٍ عند الملك القدير.. أما الواجبات فهي كذلك لا يمكن ان تكون لقضاء ايام معدودة في دار الضيافة هذه، وانما هي لحياة أخرى سعيدة أبدية.. يتضح من الهوية بجلاء، ان صاحبها مهيأ لمكان أخر، بل يسعى نحو عالم آخر.

انظر الى هذه السجلات التي حدّدت فيها كيفية استعمال المعدّات والمسؤوليات المترتبة عليها، فان لم تكن هناك منزلة رفيعة خالدة غير هذا الميدان، فلا معنى لهذه الهوية المتقنة، ولا لهذا السجل المنتظم، ولسقط الضابط المحترم والقائد المكرم والرئيس الموقر الى درك هابط ولقي الشقاء والذلة والمهانة والنكبة والضعف والفقر.. وقس على هذا، فأينما انعمت النظر متأملاً قادك النظر والتدبر الى أن هناك بقاء بعد هذا الفناء..

فيا صديقي! ان هذه المملكة المؤقتة ما هي إلا بمثابة مزرعة، وميدان تعليم، وسُوق تجاري، فلابد ان تأتي بعدها محكمة كبرى وسعادة عظمى. فاذا انكرتَ هذا، فسوف تضطر الى انكار كل الهويات والسجلات التي يمتلكها الضابط، وكل تلك العُدد والاعتدة والتعليمات، بل تضطر الى انكار جميع الأنظمة في هذه المملكة، بل اِنكار وجود الدولة نفسها، وينبغي عند ذلك أن تكذّب جميع الاجراءات الحادثة. وعنده لا يمكن ان يُقال لك انك انسان له شعور. بل تكون اذ ذاك أشد حماقة من السوفسطائيين.

وإياك اِياك أن تظـن أن دلائـل واشـارات تبـديل المملكة منحصـرة في((اثنتي عشرة)) صورة التي أوردناها، اذ ان هناك ما لايعد ولا يحصى من الامارات والادلة على أن هذه المملكة المتغيرة الزائلة تتحول الى اخرى مستقرة باقية، وهناك الكثير الكثير من الاشارات والعلامات تدل على أن هؤلاء الناس سينقلون من دار الضيافة المؤقتة الزائلة الى مقر السلطنة الدائمة الخالدة.

يا صاحبي! تعال لأقرر لك برهاناً اكثر قوة ووضوحاً من تلك البراهين الاثنى عشر التي انبأت عنها تلك الصور المتقدمة. تعال، فانظر الى المبعوث الكريم، صاحب الأوسمة الرفيعة الذي شاهدناه في الجزيرة - من قبل - انه يبلّغ أمراً الى الحشود الغفيرة التي تتراءى لنا على بُعد. فهيّا نذهب ونصغيِ اليه.. انتبه! فها هو يُفسّر للملأ البلاغ السلطاني الرفيع ويوضحه قائلاً لهم:

تهيأوا! سترحلون الى مملكة اخرى خالدة، ما اعظمها من مملكة رائعة! ان مملكتنا هذه تعدّ كالسجن بالنسبة لها. فاذا ما اصغيتم الى هذا الامر بامعان، ونفّذتموه باتقان ستكونون اهلاً لرحمة سلطاننا واحسانِه في مستقره الذي تتجهون اليه، والا فالزنزانات الرهيبة مثواكم جزاء عصيانكم الأمر وعدم اكتراثكم به..

انه يذكّر الحاضرين بهذا البلاغ، وانت ترى على ذلك البلاغ العظيم ختمَ السلطان الذي لا يُقلّد. والجميع يدركون يقيناً - إلا أمثالك من العميان - ان ذلك المبعوث المجلل بالأوسمة الرفيعة هو مبلِّغ أمين لأوامر السلطان، بمجرد النظر الى تلك الأوسمة.

فيا ترى هل يمكن الاعتراض على مسألة تبديل هذه المملكة التي يدعو اليها ذلك المبعوث الكريم بكل ما أوتي من قوة، ويتضمنه البلاغ الملكي السامي؟ كلا.. لا يمكن ذلك أبداً، اِلا اذا انكرتَ جميع ما تراه من أمور وحوادث.

فالآن ايها الصديق! لك أن تقول ما تشاء.

ماذا عساي أن أقول؟ وهل بقي مزيد من قول لقائل امام هذه الحقائق! وهل يقال للشمس وهي في كبد السماء، اين هي؟. ان كل ما أريد أن أقوله هو: الحمد لله، وألف شكر وشكر، فقد نجوت من قبضة الأوهام والاهواء، وتحررت من أسار النفس والسجن الابدي، فآمنت بأن هناك دار سعادة عند السلطان المعظم، ونحن مهيأون لها بعد هذه الدار الفانية المضطربة.

وهكذا تمت الحكاية التي كانت كناية عن الحشر والقيامة. والآن ننتقل بتوفيق العلي القدير الى الحقائق العليا، فسنبينها في (اثنتي عشرة حقيقة) وهي متسانده مترابطة مقابل الصور الاثنتي عشرة، بعد ان نمهد لها بمقدمة.















المقدمة

نشير اشارات فحسب الى بعض المسائل التي أوضحناها في اماكن اخرى، أي في الكلمات الثانية والعشرين، والتاسعة عشرة، والسادسة والعشرين.

` الاشارة الأولى

هناك ثلاث حقائق للمغفل ولصديقه الناصح الأمين المذكورَين في الحكاية:

الاولى: هي نفسي الامارة وقلبي.

الثانية: متعلمو الفلسفة وتلاميذ القرآن الكريم.

الثالثة: ملة الكفر والامة الاسلامية.

ان عدم معرفة الله سبحانه وتعالى هو الذي أوقع متعلمي الفلسفة وملة الكفر والنفس الامارة في الضلالة الرهيبة. فمثلما قال الناصح الامين - في الحكاية - انه لا يمكن ان يكون حرف بلا كاتب، ولا قانون بلا حاكم، كذلك نقول:

انه محال ان يكون كتاب بلا كاتب، ولا سيما كتاب كهذا الذي تتضمن كل كلمة من كلماته كتاباً خُطّ بقلم دقيق، والذي تحت كل حرف من حروفه قصيدة دُبجت بقلم رفيع. وكذلك من أمحل المحال أن يكون هذا الكون من غير مبدع، حيث ان هذا الكون كتاب على نحو عظيم تتضمن كل صحيفة فيه كتباً كثيرة، لا بل كل كلمة منها كتاباً، وكل حرف منها قصيدةً.. فوجه الارض صحيفة، وما اكثر ما فيها من كتب! والشجرة كلمة واحدة، وما اكثر ما فيها من صحائف! والثمرة حرف، والبذرة نقطة.. وفي هذه النقطة فهرس الشجرة الباسقة وخطة عملها. فكتاب كهذا ما يكون الا من ابداع قلم صاحب قدرة متصف بالجمال والجلال والحكمة المطلقة. أي أن مجرد النظر الى العالَم ومشاهدته يستلزم هذا الايمان، الاّ مَنْ أسكَرته الضلالة!.

ومثلما لا يمكن ان تكون دار بلا بنّاء، لاسيما هذه الدار التي زيّنت بأبدع زينة، ونقشت بأروع نقوش وأعجبها وشيّدت بصنعة خارقة، حتى ان كل حجر من أحجارها يتجسم فيه فن ما في البناء كله. فلا يقبل عـاقل أن تكـون دار مثل هذه الدار بلا بنّاء ماهر، وبخاصة أنه يشيِّد في هذا الديوان - في كل ساعة - مساكنَ حقيقية في غاية الانتظـام والتنـاسـق، ويغيّرها بانتـظـام وسهـولة كاملين - كسهولة تبديل الملابـس - بل انه ينـشئ فـي كل ركن غـرفـاً صغيـرة عدة في كـل مشهد حقيقي.

فلابد لهذا الكون العظيم من خالق حكيم عليم قدير مطلق، لأن هذا الكون انما هو كالقصر البديع؛ الشمسُ والقمر مصابيحه، والنجوم شموعه وقناديله، والزمن شريط يعلق عليه الخالق ذو الجلال - في كل سنة - عالماً آخر يبرُزه للوجود، مجدّداً فيه صوراً منتظمة في ثلاثمائة وستين شكلاً وطرازاً، مبدلاً اِياه بانتظام تام، وحكمة كاملة، جاعلاً سطح الارض مائدة نِعَمٍ، يزيّنها في كل ربيع بثلاثمائة ألف نوع من أنواع مخلوقاته، ويملؤها بما لا يعد ولا يحصى من آلائه، مع تمييز كلٍ منها تمييزاً كاملاً، على الرغم من تداخلها وتشـابكها.. وقس على هذه الاشياء الامور الاخرى.. فكيف يمكن التغافل عن صانع مثل هذا القصر المنيف؟

ثم، ما اعظم بلاهة من ينكر الشمس في رابعة النهار، وفي صحوة السماء! في الوقت الذي يُرى تلألؤ أشعتها، وانعكاس ضوئها، على زَبَد البحر وحَبابه، وعلى مواد البر اللامعة وعلى بلورات الثلج الناصعة، لأن انكار الشمس الواحدة ورفضها - في هذه الحالة - يستلزم قبول شُميسات حقيقية اصيلة، بعدد قطرات البحر وبعدد الزَبَد والحباب وبعدد بلورات الثلج! ومثلما يكون قبول وجود شمسٍ عظيمة في كل جزيئة - وهي تسع ذرة واحدة - بلاهةً، فان عدم الايمان بالخالق ذي الجلال، ورفض التصديق بأوصاف كماله سبحانه - مع رؤية هذه الكائنات المنتظمة المتبدلة والمتعاقبة بحكمة في كل آن والمتجددة بتناسق وانتظام في كل وقت - ضلالة ادهى ولاشك، بل هذيان وجنون.. لأنه يلزم اذ ذاك قبول ألوهية مطلقة في كل شئ حتى في كل ذرة!.

لأن كل ذرة من ذرات الهواء - مثلاً - تستطيع أن تدخل في كل زهرة، وفي كل ثمرة، وفي كل ورقة، وتتمكن ان تؤدي دورها هناك. فلو لم تكن هذه الذرة مأمورةً ومسخرةً للزم أن تكون على علمٍ باشكال ما تمكنت من الدخول فيه، وبصورته وتركيبه، وهيئته، أي يجب ان تكون ذات علم محيط، وذات قدرة شاملة كي تستطيع القيام بذلك!!

وكل ذرة من ذرات التراب - مثلاً - يمكـن ان تكون سـبباً لنشـوء البـذور ونمو أنواعها جميعاً. فلو لم تكـن مأمورة ومسـخّرة للزم أن تحـتوي آلات وأجهزة معنوية بعدد انواع الاعشاب والاشجار، أو يجب منحها قدرة ومهارة بحيث تعلم جميع اشكال تراكيبها، فتصنعها، وتعرف جميع صورها، فتنسجها.. وقس على هذا سائر الموجودات، حتى تفهم أن للوحدانية دلائل واضحة باهرة في كل شئ.

نعم، ان خلق كل شئ من شئ واحد، وخلق شئ واحد من كل شئ، انما هو عمل يخصّ خالق كل شئ. فتدبر وتأمل في قوله تعالى ] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[ . واعلم ان عدم الاعتقاد بالإله الواحد الأحد يستلزم الاعتقاد بآلهة عدة بعدد الموجودات!

` الاشارة الثانية:

لقد جاء في الحكاية ذكر مبعوث كريم، وذُكر أن من لم يكن أعمى يفهم من رؤية أوسمته: أنه شخص عظيم، لا يأتمر الاّ بأمر السلطان، فهو عامله الخاص.. فهذا المبعوث انما هو رسولنا الاعظم e .

نعم، يلزم ان يكون لمثل هذا الكون البديع ولصانعه القدوس، مثل هذا الرسول الكريم، كلزوم الضوء للشمس. لانه كما لا يمكن للشمس الاّ ان تشع ضياءً كذلك لا يمكن للألوهية إلاّ ان تظهر نفسها بارسال الرسل الكرام عليهم السلام.

فهل يمكن ان لا يرغب جمالٌ في غاية الكمال في اظهار نفسه بوسيلة ودليل يعرّفه؟

ام هل يمكن ان لا يطلب كمالٌ في غاية الجمال الاعلانَ عنه بوساطة يلفت الانظار اليه؟

أم هل يمكن ان لا تطلب سلطنةٌ كلية لربوبية عامة شاملة اعلان وحدانيتها وصمدانيتها على مختلف الطبقات بوساطة مبعوث ذي جناحين؟ أي ذي صفتين: صفة العبودية الكلية، فهو ممثل طبقات المخلوقات عند الحضرة الربانية. وصفة الرسالة والقرب اليه، فهو مُرسل من لدنه سبحانه الى العالمين كافة.

ام هل يمكن لصاحب جمال مطلق ان لا يروم ان يشهد هو ويُشهِد خلقه محاسن جماله ولطائف حسنه في مرايا تعكس هذا الجمال؟ أي بوساطة رسول حبيب؛ فهو حبيب لتودده الى الله سبحانه بعبوديته الخالصة، وهو رسول حبيب لأنه يحبب الله سبحانه الى الخلق باظهار جمال اسمائه الحسنى.

أم هل يمكن ان لا يريد مَن يملك خزائن مشحونة بأغلى الاشياء واعجبها وبما يدهش العقول، اظهارَ كماله المستتر. وان لا يطلب عرضه على انظار الخلق اجمعين، وكشفَه على مرأى منهم، بوساطة معرّف حاذق ومعلن وصّاف؟

أم هل يمكن لِمَن زيّن هذا الكون بمخلوقات معبّرة عن كمال اسمائه الحسنى، وجعله قصراً رائعاً، وجمّله ببدائع صنعته المذهلة، وعرضه على الأنظار، ثم لا يكل أمر ايضاحه الى مرشد معلم رائد؟.

أم هل يمكن ان لا يبيّن مالك هذا الكون بوساطة رسول: ما الغاية من تحولات هذا الكون وما القصد من هذا الطلسم المغلق؟ وان لا يجيب بوساطته عن ألغاز الاسئلة الثلاثة المستعصية في الموجودات، وهي: من أين؟ والى أين؟ ومن تكون؟

ام هل يمكن للخالق ذي الجلال الذي عرّف نفسه الى ذوي الشعور بهذه المخلوقات الجميلة، وحبّبها اليهم بنعمه الغالية، أن لا يبيّن لهم بوساطة رسول ما يريد منهم وما يرضيه ازاء هذه النعم السابغة؟

ام هل يمكن للخالق الذي ابتلى النوع الانساني باختلاف المشاعر والاتجاهات، وهيأ استعداده للعبودية التامة الكلية، أن لا يطلب توجيه انظار هذا النوع من الكثرة الى التوحيد بوساطة مرشد مرسل؟

وهكذا فان هناك دلائل اخرى زيادة على ما تقدم، كلها براهين قاطعة تبين: ((وظائف النبوة ومهامها))، وتوضّح: ان الالوهية لا تكون بلا رسالة.

والآن، فهل ظهر في العالم مَن هو اكثر اهلية، واجمع لتلك الاوصاف والوظائف التي ذكرت، من محمد الهاشمي e ؟ ام هل هناك احد أليق منه e لمنصب الرسالة ومهمة التبليغ؟ وهل اظهر الزمان احداً اعظم أهلية منه؟ كلا. ثم كلا.. فهو امام جميع المرسلين، وقرة عين كل الاصفياء، وسلطان جميع المرشدين، وزبدة كل المختارين والمقربين، صاحب الوف المعجزات كشق القمر، ونبعان الماء من بين اصابعه الشريفة، مما عدا دلائل نبوته واماراتها التي لا تحصى، مما هو محل اجماع اهل الفضل والعلم، وعدا القرآن العظيم الذي هو بحر الحقائق والمعجزة الكبرى، اذ انه كالشمس الساطعة دليل قاطع على صدق رسالته.. ولقد اثبتنا اعجاز القرآن بما يقرب من أربعين وجهاً من وجوه الاعجاز في ((رسائل النور)) ولاسيما في ((الكلمة الخامسة والعشرين)).



` الاشارة الثالثة

لا يخطرنّ على بال أحد ويقول: ما أهمية هذا الانسان الصغير وما قيمته حتى تنتهي هذه الدنيا العظيمة وتفتح دنيا اخرى لمحاسبته على اعماله!

لأن هذا الانسان، هو سيد الموجودات رغم انه صغير جداً، لما يملك من فطرة جامعة شاملة.. فهو قائد الموجودات،و الداعي الى سلطان الوهية الله، والممثل للعبودية الكلية الشاملة ومظهرها، لذا فان له اهمية عظمى.

ولا يخطرن على البال كذلك: كيف يكون هذا الانسان محكوماً بعذاب أبدي، مع أن له عمراً قصيراً جداً؟.

لأن الكفر جريمة كبرى، وجناية لا حدود لها، حيث انه يهبط بقيمة الكائنات ودرجتها - التي توازي قيمة مكاتيب صمدانية ودرجتها - الى هاوية العبث، ويوهم عدم وجود الغاية من ايجادها.. انه تحقير بيّن للكائنات كلها وانكارٌ لما يشاهد من انوار الاسماء الحسنى كلها، وانكار آثارها في هذه الموجودات، ومن ثم فانه تكذيب ما لا يحصى من الادلة الدالة على حقيقة وجود ذات الحق سبحانه وتعالى، وكل هذا جناية لا حدود لها، والجناية التي لا حدود لها توجب عذاباً غير محدد بحدود.

` الاشارة الرابعة

لقد رأينا في الحكاية بصورها الاثنتي عشرة:

انه لا يمكن بوجه من الوجوه أن تكون لسلطان عظيم مملكة مؤقتة - كأنها دار ضيافة - ثم لا تكون له مملكة اخرى دائمة مستقرة، ولائقة لأبهته وعظمته ومقام سلطنته السامية.

كذلك لا يمكن بوجه من الوجوه أن لا ينشئ الخالق الباقي سبحانه عالماً باقياً بعد أن أوجد هذا العالم الفاني.

ولا يمكن ايضاً ان يخلق الصانع السرمدي هذه الكائنات البديعة الزائلة، ولا ينشئ كائنات أخرى دائمة مستقرة.

ولا يمكن ايضاً ان يخلق الفاطر الحكيم القدير الرحيم هذا العالم الذي هو بحكم المعرض العام وميدان الامتحان والمزرعة الوقتية ثم لا يخلق الدار الآخرة التي تكشف عن غاياته وتظهر اهدافه!

ان هذه الحقيقة يتم الدخول فيها من ((اثنى عشر باباً)). وتفتح تلك الابواب بـ (اثنتي عشرة حقيقة)، نبدأ بأقصرها وأبسطها.



الحقيقة الأولى

باب الربوبية والسلطنة

وهو تجلي اسم ((الرَّب))

أمن الممكن لـمَن له شأن الربوبية وسلطنة الالوهية، فأوجد كوناً بديعاً كهذا الكون؛ لغايات سامية ولمقاصد جليلة، اظهاراً لكماله،ثم لا يكون لديه ثواب للمؤمنين الذين قابلوا تلك الغايات والمقاصد بالايمان والعبودية، ولا يعاقِب أهل الضلالة الذين قابلوا تلك المقاصد بالرفض والاستخفاف..؟!



الحقيقة الثانية

باب الكرم والرحمة

وهو تجلي اسم ((الكريم والرَّحيم))

أمن الممكن لربّ هذا العالم ومالكه الذي أظهر بآثاره كرماً بلا نهاية، ورحمة بلا نهاية، وعزة بلا نهاية، وغيرة بلا نهاية، ان لا يقدّر مثوبة تليق بكرمه ورحمته للمحسنين، ولا يقرر عقوبة تناسب عزته وغيرته للمسيئين؟.. فلو أنعم الانسان النظر في سير الحوادث ابتداءً من أضعف كائن حيّ وأشده عجزاً (1) وانتهاءً بأقوى كائن، لوجد ان كل كائن يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، بل يَمنح سبحانه أضعفَهم وأشدّهم عجزاً ألطف الارزاق وأحسنها، ويسعف كل مريض بما يداويه.. وهكذا يجد كل ذي حاجة حاجته من حيث لا يحتسب.. فهذه الضيافة الفاخرة الكريمة، والاغداق المستمر، والكرم السامي، تدلّنا بداهة، ان يداً كريمة خالدة هي التي تعمل وتدير الامور.

فمثلاً: ان اكــساء الأشجــار جمـيعاً بحلل شبيـهة بالسـندس الخـضر - كأنها حور الجنة - وتزيينَها بمرصعات الازهار الجميلة والثمار اللطيفة، وتسخيرَها لخدمتنا بانتاجها ألطف الاثمار المتنوعة وألذها في نهايات اغصانها التي هي أيديها اللطيفة.. وتمكيننا من جني العسل اللذيذ - الذي فيه شفاء للناس - من حشرة سامة.. واِلباسَنا أجمل ثياب وألينها مما تحوكه حشرة بلا يد.. وادّخار خزينة رحمة عظيمة لنا في بذرة صغيرة جداً.. كل ذلك يرينا بداهةً كرماً في غاية الجمال، ورحمة في غاية اللطف.

وكذا، ان سعي جميع المخلوقات، صغيرها وكبيرها - عدا الانسان والوحوش الكاسرة - لإنجاز وظائفها بانتظام تام ودقة كاملة، ابتداءً من الشمس والقمر والارض الى اصغر مخلوق، بشكل لا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، ضمن الطاعة التامة والانقياد الكامل المحفوفَين بهيبة عظيمة، يظهر لنا ان هذه المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن الا بأمر العظيم ذي العزة والجلال.

وكذا، ان عناية الامهات بأولادهن الضعاف العاجزين - سواء في النبات أو الحيوان أو البشر - عناية ملؤها الرأفة والرحمة(1)، وتغذيتها بالغذاء اللطيف السائغ من اللبن، تريك عظمة التجليات، وسعة الرحمة المطلقة.

فما دام رب هذا العالم ومدبّره له هذا الكرم الواسع، وهذه الرحمة التي لا منتهى لها، وله الجلال والعزة المطلقان، وان العزة والجلال المطلقين يقتضيان تأديب المستخفين، والكرم الواسع المطلق يتطلب اِكراماً غير متناه، والرحمة التي وسعت كل شئ تستدعي احساناً يليق بها، بينما لا يتحقق من كل ذلك في هذه الدنيا الفانية والعمر القصير الا جزء ضئيل جداً هو كقطرة من بحر.

فلابد ان تكون هناك دار سعادة تليق بذلك الكرم العميم، وتنسجم مع تلك الرحمة الواسعة.. والا يلزم جحود هذه الرحمة المشهودة، بما هو كانكار وجود الشمس التي يملأ نورُها النهارَ، لأن الزوال الذي لا رجعة بعده يستلزم انتفاء حقيقة الرحمة من الوجود، بتبديله الشفقة مصيبةً، والمحبة حرقةً، والنعمة نقمةً واللذة ألماً، والعقل المحمود عضواً مشؤوماً.

وعليه فلابد من دار جزاء تناسب ذلك الجلال والعزة وتنسجم معها. لأنه غالباً ما يظل الظالمُ في عزته، والمظلومُ في ذلته وخنوعه، ثم يرحلان على حالهما بلا عقاب ولا ثواب.

فالامر اذن ليس اِهمالاً قط، وِان اُمهلَت الى محكمة كبرى، فالقضية لم تُهمل ولن تُهمل، بل قد تُعَجّل العقوبة في الدنيا. فانزال العذاب في القرون الغابرة بأقوام عصت وتمردت يبين لنا ان الانسان ليس متروكاً زمامه، يسرح وفق ما يملى عليه هواه، بل هو معرّض دائماً لصفعات ذي العزة والجلال.

نعم، ان هذا الانسان الذي انيط به - من بين جميع المخلوقات - مهام عظيمة، وزود باستعدادات فطرية كاملة، اِن لم يعرف ربه ((بالايمان)) بعد ان عرّف سبحانه نفسَه اليه بمخلوقاته البديعة المنتظمة.. وان لم ينل محبته بالتقرب اليه بـ ((العبادة)) بعد أن تحبب اليه سبحانه بنفسه وعرّفها اليه بما خلق له من الثمار المتنوعة الجميلة الدالة على رحمته الواسعة.. وان لم يقم بالتوقير والاجلال اللائقين به ((بالشكر والحمد)) بعد ان اظهر سبحانه محبته له ورحمته عليه بنعمه الكثيرة... نعم، اِن لم يعرف هذا الانسان ربه هكذا، فكيف يُترك سدى دون جزاء، ودون ان يعدّ له ذو العزة والجلال داراً للعقاب؟

وهل من الممكن ان لا يمنح ذلك الرب الرحيم دار ثوابٍ وسعادة ابدية، لأولئك المؤمنين الذين قابلوا تعريفَ ذاته سبحانه لهم بمعرفتهم اياه بـ ((الايمان)) ومحبته لهم، بالحب والتحبب له بـ ((العبادة))، ورحمته لهم بالاجلال والتوقير له بـ ((الشكر))؟

















الحقيقة الثالثة

باب الحكمة والعدالة

وهو تجلي اسم ((الحكيم والعادل))

أمن الممكن(1) لخالق ذي جلال أظهر سلطان ربوبيته بتدبير قانون الوجود ابتداء من الذرات وانتهاء بالمجرات، بغاية الحكمة والنظام وبمنتهى العدالة والميزان.. ان لا يعامل بالاحسان من احتموا بتلك الربوبية وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وان لا يجازي اولئك الذين عصوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمة والعدالة؟.

بينما الانسان لا يلقى ما يستحقه من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة الا نادراً، بل يؤخر، اذ يرحل اغلب أهل الضلالة دون ان يلقوا عقابهم، ويذهب اكثر اهل الهداية دون أن ينالوا ثوابهم.. فلابد ان تناط القضية بمحكمة عادلة، وبلقاءٍ آيل الى سعادة عظمى.

نعم، انه لواضح ان الذي يتصرف في هذا الكون انما يتصرف فيه بحكمة مطلقة. أفتطلب برهاناً على هذا؟.. فانظر الى رعايته سبحانه للمصالح والفوائد في كل شئ!.. ألا ترى ان اعضاء الانسان جميعاً سواء العظام منها أو العروق وحتى خلاياه الجسمية وكل جزء منه ومكان، قد روعيت فيه فوائد وحكم شتى، بل ان في اعضاء جسمه من الفوائد والاسرار بقدر ما تنتجه الشجرة الواحدة من الثمار، مما يدل على ان يد حكمة مطلقة تدير الامور. فضلاً عن التناسق البديع في صنعة كل شئ والانتظام الكامل فيها اللذان يدلان على ان الامور تؤدى بحكمة مطلقة.

نعم، ان تضمين الخطة الدقيقة لزهرة جميلة في بُذيرتها الصغيرة، وكتابة صحيفة اعمال شجـرة ضخمة وتاريخ حياتها وفهرس اجهـزتها، في نويّتـها بقلم القَدَر المعنوي.. يرينا بوضوح ان قلم حكمةٍ مطلقة هو الذي يتصرف في الأمر.. وكذا، وجود روعة الصنعة الجميلة وغاية حُسنها في خلقة كل شئ، يُظهر ان صانعاً حكيماً مطلقاً هو صاحب هذا الابداع وهذه النقوش..

نعم، ان ادراج فهرس الكائنات جميعاً، ومفاتيح خزائن الرحمة كافة ومرايا الاسماء الحسنى كلها، في هذا الجسم الصغير للانسان، لمما يدل على الحكمة البليغة في الصنعة البديعة.. فهل من الممكن لمثل هذه الحكمة المهيمنة على مثل هذه الاجراءات والشؤون الربانية ان لا تحسن معاملة أولئك الذين استظلوا بظلها وانقادوا لها بالايمان، وان لا تثيبهم اثابة أبدية خالدة؟.

وهل تريد برهاناً على انجاز الاعمال بالعدل والميزان؟

ان منح كل شئ وجوداً بموازين حساسة، وبمقاييس خاصة، وإلباسَه صورة معينة، ووضعَه في موضع ملائم.. يبيّن بوضوح ان الامور تسير وفق عدالة وميزان مطلقين.

وكذا، اعطاء كل ذي حق حقه وفق استعداده ومواهبه، أي اعطاء كل ما يلزم، وما هو ضروري لوجوده، وتوفير جميع ما يحتاج الى بقائه في افضل وضع، يدلّ على أن يد عدالة مطلقة هي التي تُسيّر الامور.

وكذا، الاستجابة المستمرة والدائمة لما يُسأل بلسان الاستعداد او الحاجة الفطرية، أو بلسان الاضطرار، تُظهر ان عدالةً مطلقة، وحكمة مطلقة هما اللتان تُجريان عجلة الوجود.

فالآن، هل من الممكن أن تهمل هذه العدالة وهذه الحكمة تلك الحاجة العظمى، حاجة البقاء لأسمى مخلوق وهو الانسان؟ في حين انهما تستجيبان لأدنى حاجة لأضعف مخلوق؟ فهل من الممكن ان تردّا أهم ما يرجوه الانسان واعظم ما يتمناه، وألاّ تصونا حشمة الربوبية وتتخلفا عن الاجابة لحقوق العباد؟.

غير ان الانسان الذي يقضي حياة قصيرة في هذه الدنيا الفانية لا ينال ولن ينال حقيقة مثل هذه العدالة. وانما تؤخّر الى محكمة كبرى. حيث تقتضي العدالة الحقة أن يلاقي هذا الانسان الصغير ثوابَه وعقابه لا على اساس صغره، بل على اساس ضخامة جنايته، وعلى اساس أهمية ماهيته، وعلى اساس عظمة مهمته.. وحيث ان هذه الدنيا العابرة بعيدة كل البعد عن أن تكون محلاً لمثل هذه العدالة والحكمة بما يخص هذا الانسان - المخلوق لحياة ابدية - فلابد من جنة أبدية، ومن جهنم دائمة للعادل الجليل ذي الجمال وللحكيم الجميل ذي الجلال.





الحقيقة الرابعة

باب الجود والجمال

وهو تجلي اسم ((الجواد والجميل))

أمن الممكن لجود وسخاء مطلقين، وثروة لا تنضب، وخزائن لا تنفد، وجمال سرمدي لا مثيل له، وكمال ابدي لا نقص فيه، ان لا يطلب دار سعادةٍ ومحل ضيافةٍ، يخلد فيه المحتاجون للجود، الشاكرون له، والمشتاقون الى الجمال، المعجبون به؟

ان تزيين وجه العالم بهذه المصنوعات الجميلة اللطيفة، وجعل الشمس سراجاً، والقمر نوراً، وسطح الارض مائدة للنعم، وملأها بألذ الأطعمة الشهية المتنوعة، وجعل الاشجار أواني وصحافاً تتجدد مراراً كل موسم.. كل ذلك يظهر سخاءً وجوداً لا حد لهما. فلابد ان يكون لمثل هذا الجود والسخاء المطلقين، ولمثل هذه الخزائن التي لا تنفد، ولمثل هذه الرحمة التي وسعت كل شئ، دارَ ضيافة دائمة، ومحل سعادة خالدة يحوي ما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين وتستدعي قطعاً ان يخلد المتلذذون في تلك الدار، ويظلوا ملازمين لتلك السعادة ليبتعدوا عن الزوال والفراق، اذ كما ان زوال اللذة ألم فزوال الألم لذة كذلك، فمثل هذا السخاء يأبى الايذاء قطعاً.

أي ان الامر يقتضي وجود جنة أبدية، وخلود المحتاجين فيها؛ لأن الجود والسخاء المطلقين يتطلبان احساناً وانعاماً مطلقين، والاحسان والانعام غير المتناهيين يتطلبان تنعماً وامتناناً غير متناهيين، وهذا يقتضي خلود انعام مَن يستحق الاحسان اليه، كي يظهر شكره وامتنانه بتنعمه الدائم ازاء ذلك الانعام الدائم.. وإلا فاللذة اليسيرة - التي ينغّصها الزوال والفراق - في هذه الفترة الوجيزة لا يمكن أن تنسجم ومقتضى هذا الجود والسخاء.

ثم انظر الى معارض اقطار العالم التي هي مشهد من مشاهد الصنعة الإلهية، وتدبّر في ما تحمله النباتات والحيوانات على وجه الارض من اعلانات ربانية(1) وانصت الى الداعين الادلاء الى محاسن الربوبية وهم الانبياء عليهم السلام والاولياء الصالحون، كيف انهم يرشدون جميعاً الناس لمشاهدة كمال صنعة الصانع ذي الجلال بتشهيرهم صنعته البديعة ويلفتون انظارهم اليها.

اذن، فلصانع هذا العالم كمال فائق عظيم مثير للاعجاب، خفي مستتر، فهو يريد اظهاره بهذه المصنوعات البديعة، لأن الكمال الخفي الذي لا نقص فيه ينبغي الاعلان عنه على رؤوس اشهادٍ مقدّرين مستحسنين معجبين به. وان الكمال الدائم يقتضي ظهوراً دائماً، وهذا بدوره يستدعى دوام المستحسنين المعجبين، اذ المعجب الذي لا يدوم بقاؤه تسقط في نظره قيمة الكمال(2).

ثم ان هذه الموجودات العجيبة البديعة الدقيقة الرائعة المنتشرة في هذا الكون تدل بوضوح - كدلالة ضوء النهار على وجود الشمس - على محاسن الجمال المعنوي الذي لا مثيل له، وتريك كذلك لطائف الحسن الخفي الذي لا نظير له(3). وان تجلي ذلك الحُسن الباهر المنزّه، وذلك الجمال الزاهر المقدس يشير الى كنوز كثيرة خفية موجودة في الاسماء الحسنى، بل في كل اسم منها.

ومثلما يطلب هذا الجمال الخفي السامي الذي لا مثيل له، أن يرى محاسنه في مرآة عاكسة ويشهد قِيَم حُسنه ومقاييس جماله في مرآة ذات مشاعر وأشواق اليه، فانه يريد الظهور والتجلي ليرى جماله المحبوب ايضاً بأنظار الآخرين. أي أن النظر الى جمال ذاته يستدعي أن يكون من جهتين:



الاولى: مشاهدة الجمال بالذات في المرايا المختلفة المتعددة الالوان.

والاخرى: مشاهدة الجمال بنظر المشاهدين المشتاقين المعجبين المستحسنين.

أي أن الجمال والحسن يقتضيان الشهود والإشهاد (الرؤية والاراءة) وهذا الشهود والإشهاد يستلزمان وجود المشاهدين المشتاقين والمستحسنين المعجبين.. ولما كان الجمال والحسن خالدَين سرمديين فانهما يقتضيان خلود المشتاقين وديمومتهم. لأن الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل الآفل. لذا فالمشاهد الذي يشعر بالزوال - وقضى على نفسه بعدم العودة الى الحياة - تتحول بمجرد تصوره الزوال محبته عداءً، واعجابه استخفافاً، واحترامه اهانةً، لأن الشخص الاناني مثلما يعادي مايجهله يعادي ما لا تصل اليه يده ايضاً، فيضمر عداءً وحقداً وانكاراً لذلك الجمال الذي ينبغي ان يقابَل بما يستحقه من محبة بلا نهاية وشوق بلا غاية واِعجاب بلا حدّ. ومن هذا يُفهم سرّ كون الكافر عدواً لله سبحانه وتعالى.

ولما كان ذلك الجود في العطاء غير المحدود، وذلك الحسن في الجمال الذي لا مثيل له، وذلك الكمال الذي لا نقص فيه.. يقتضي خلود الشاكرين، وبقاء المشتاقين المستحسنين، ونحن نشاهد رحلة كل شخص واختفاءه بسرعة في دار ضيافة الدنيا هذه، دون أن يستمتع باحسان ذلك السخاء اِلا نزراً يسيراً بما يفتح شهيته فقط، ودون أن يرى من نور ذلك الجمال والكمال اِلاّ لمحة خاطفة. اذن الرحلة منطلقة نحو متنزهات خالدة ومَشاهدَ أبدية.

الخلاصة: مثلما أن هذا العالم يدل بموجوداته دلالة قاطعة يقيناً على صانعه الكريم ذي الجلال، فصفاته المقدسة سبحانه واسماؤه الحسنى تدل كذلك على الدار الآخرة بلا ريب وتظهرها، بل تقتضيها.





الحقيقة الخامسة

باب الشفقة وعبودية محمدe

وهو تجلي اسم ((المجيب والرَّحيم))

أمن الممكن لرب ذي رحمة واسعة وشفقة غير متناهية يبصر أخفى حاجة لأدنى مخلوق، ويسعفه من حيث لا يحتسب برأفة غير متناهية ورحمة سابغة، ويسمع أخفت صوت لأخفى مخلوق فيغيثه، ويجيب كل داعٍ بلسان الحال والمقال، أمن الممكن الا يقضى هذا الرب المجيب الرحيم أهم حاجة لأعظم عباده(1) وأحب خلقه اليه، ولا يسعفه بما يرجوه منه؟

فحُسن تربية صغار الحيوانات وضعافها، واعاشتها بسهولة ولطف ظاهريين ترياننا ان مالك هذه الكائنات يسيّرها بربوبية لا حدّ لرحمتها. فهل يعقل لهذه الربوبية المتصفة بكمال الشفقة والرأفة الاّ تستجيب لأجمل دعاء لأفضل مخلوق؟..

وكما بينتُ هذه الحقيقة في ((الكلمة التاسعة عشرة)) أعيد بيانها هنا:

فيا صديقي الذي يسمعني مع نفسي! لقد ذكرنا في الحكاية: ان هناك اجتماعاً في جزيرة، وان مبعوثاً كريماً يرتجل خطبة هناك، فحقيقة ما أشارت اليه الحكاية هي ما يأتي:

تعال! لنتجرد من قيود الزمان، ولنذهب بأفكارنا الى عصر النبوة، وبخيالنا الى تلك الجزيرة العربية كي نحظى بزيارته e ، وهو يزاول وظيفته بكامل عبوديته. انظر! كيف انه سبب السعادة بما اتى به من رسالة وهداية، فانه e هو الداعي لايجاد تلك السعادة وخلق الجنة بدعائه وبعبوديته.

انظر الى هذا النبي الكريم إلامَ يدعو.. انه يدعو الى السعادة الابدية في صلاة كبرى شاملة، وفي عبادة رفيعة مسـتغرقة، حتى أن الجـزيرة العـربيـة، بل الارض برمّتها، كأنها تصلي مع صلاته، وتبتهل الى الله بابتهاله الجميل، ذلك لأن عبوديتهe تتضمن عبودية جميع أمته الذين اتبعوه، كما تتضمن - بسـر الموافـقة في الاصـول - سرّ العبودية لجميع الانبياء عليهم السـلام. فهو يؤم صلاة كبــرى - ايّما صلاة - ويتضرع بدعاء - ويا له من تضــرع رقيق - فــي خـلـق عظـيـم، كـأن الـذين تنوروا بنور الايمان - من لدن آدم عليه السلام الى الآن والى يوم القيامة - اقتدوا به، وأمّنوا على دعائه(1).

انظر! كيف يدعو الله حاجة عامة كحاجة البقاء والخلود!. هذه الدعوة التي لا يشترك فيها معه أهل الارض وحدهم، بل أهل السموات ايضاً، لا بل الموجودات كافة. فتقول بلسان الحال: ((آمين اللهم آمين استجب يا ربنا دعاءه، فنحن نتوسل بك ونتضرع اليك مثله)).

ثم انظر! انه يسأل تلك السعادة والخلود بكل رقة وحزن، وبكل حب وود، وبكل شوق والحاح، وبكل تضرع ورجاء، يُحزن الكون جميعاً ويبكيه فيُسهمه في الدعاء.

ثم انظر وتأمل! انه يدعو طالباً السعادة لقصد عظيم، ولغاية سامية.. يطلبها لينقذ الانسان والمخلوقات جميعاً من التردي الى هاوية أسفل سافلين وهو الفناء المطلق والضياع والعبث، ويرفعه الى أعلى عليين وهو الرفعة والبقاء وتقلّد الواجبات وتسلّم المسؤوليات، ليكون أهلاً لها ويرقى الى مرتبة مكاتيب صمدانية.

انظر! كيف انه يطلب الاستعانة مستغيثاً ببكاء، متضرعاً راجياً من الاعماق، متوسلاً بإلحاح.. حتى كأنه يُسمع الموجودات جميعاً، بل السموات، بل العرش، فيهزّهم وجداً وشوقاً الى دعائه ويجعلهم يرددون: آمين اللّهم آمين(2).

وانظر! انه يسأل السعادة والبقاء الابدي، ويرجوهما من قدير سميع كريم، ومن عليم بصير رحيم يرى ويسمع أخفى حاجة لأضعف مخلوق فيتداركه برحمته، ويستجيب له، حتى إن كان دعاءً بلسان الحال.

نعم، انه يستجيب له ببصيرة ورحمة ويغيثه بحكمة، مما ينقي أية شبهةٌ بأن تلك الرعاية الفائقة ليست الاّ من لدن سميع بصير، وان ذلك التدبير الدقيق ليس اِلاّ من عند كريم رحيم.

نعم، ان الذي يقود جميع بنى آدم على هذه الارض متوجهاً الى العرش الاعظم، رافعاً يديه، داعياً بدعاء شامل لحقيقة العبودية الأحمدية التي هي خلاصة عبودية البشرية.. تُرى ماذا يريد؟ ماذا يريد شرف الانسانية، وفخر الكائنات، وفريد الازمان والاكوان؟!. لننصت اليه.. انه يسأل السعادة الابدية لنفسه ولأمته، انه يسأل الخلود في دار البقاء، انه يسأل الجنة ونعيمها.. نعم، يسألها ويرجوها مع تلك الاسماء الإلهية المتجلية بجمالها في مرآة الموجودات.. انه يستشفع تلك الاسماء الحسنى كما ترى.

أرأيت ان لم يكن شئ من اسباب موجبة لا تعد ولا تحصى للآخرة ولا شئ من دلائل وجودها، أليس دعاء واحد من هذا النبي الكريم e سبباً كافياً لايجاد الجنة(1) التي هي سهلة على قدرة خالقنا الرحيم، كسهولة اعادة الحياة الى الارض في ايام الربيع؟.

نعم، ان الذي جعل سطح الارض في الربيع مثالاً للحشر، فاوجد فيه مائة نموذج من نماذجه بقدرته المطلقة، كيف يصعب عليه ايجاد الجنة؟.. اذن فكما كانت رسالته e سبباً لايجاد دار الامتحان هذه، وصارت بياناً وايضاحاً لسر ((لَوْلاَك لَوْلاَكَ لَمَا خَلَقْتُ الافْلاَكَ))(2) فان عبوديته كذلك اصبحت سبباً لخلق تلك الدار السعيدة الابدية.

فهل من الممكن يا ترى لانتظام العالم البديع الذي حيّر العقول والصنعة المتقنة وجمال الربوبية الشاملة في اطار رحمته الواسعة، ان يقبل قبحاً فظيعاً وظلماً شنيعاً وفوضى ضاربة اطنابها، بعدم استجابة ذلك الدعاء أي أن لا يراعي ولا يسمع ولا ينجز اكثر الرغبات اهمية، واشدها ضرورة في حين انه يراعي باهتمام بالغ ابسط الرغبات وأصغرها، ويسمع أخفت الاصوات وادقها ويقضي لكل ذي حاجة حاجته! كلا ثم كلا الف ألف مرة، ان مثل هذا الجمال يأبى التشوه ولن يكون قبيحاً(1).

فالرسول e اذن يفتح بعبوديته باب الآخرة مثلما فتح برسالته باب الدنيا.

عليه صلوات الرحمن ملء الدنيا ودار الجنان.

اللّهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك، ذلك الحبيب الذي هو سيد الكونين، وفخر العالمين، وحياة الدارين، ووسيلة السعادتين، وذو الجناحين، ورسول الثقلين وعلى آله وصحبه اجمعين، وعلى اخوانه من النبيين والمرسلين. آمين.





الحقيقة السادسة

باب العظمة والسرمدية

وهو تجلي اسم ((الجليل والباقي))

أمن الممكن لرب جليل يدير الموجودات ويسخّرها من الشموس الى الاشجار والى الذرات والى ما هو اصغر منها، كأنها جنود مجندة، أن يقصر نشر سلطانه على مساكين فانين يقضون حياة مؤقتة في دار ضيافة الدنيا هذه ولا ينشئ مقراً سامياً سرمدياً ومدار ربوبية جليلة باقية له؟!

ان ما نشاهده في هذا الكون من الاجراءات الجليلة الضخمة امثال تبدل المواسم.. ومن التصرفات العظيمة امثال تسيير النجوم.. ومن التسخيرات المدهشة امثال جعل الارض مهاداً والشمس سراجاً.. ومن التحولات الواسعة امثال اِحياء الأرض وتزيينها بعد جفافها وموتها.. ليبيّن لنا بجلاء ان وراء الحجاب ربوبية جليلة عظيمة تحكم وتُهيمن بسلطانها الجليل. فمثل هذه السلطنة الربانية تستدعي رعايا يليقون بها، ومظاهر تناسبها. بينما ترى ان مَن لهم افضل المزايا وأجمعها من الرعايا والعباد قد اجتمعوا مؤقتاً منهوكين في مضيف الدنيا، والمضيف نفسه يملأ ويفرغ يومياً، والرعايا لا يلبثون فيه اِلاّ بمقدار أداء تجربة مهماتهم في ميدان الاختبار هذا. والميدان نفسه يتبدل كل ساعة. فالرعايا يقفون دقائق معدودة لرؤية ما في معارض سوق العالم من نماذج الآلاء الثمينة للخالق ذي الجلال، ومشاهدين - لأجل التجارة - بدائع صنعه سبحانه في هذا المعرض الهائل، ومن ثم يغيبون، والمعرض نفسه يتبدل ويتغير كل دقيقة!. فمَن يرحل فلا عودةََ له، والقابل راحل. فهذا الوضع يبين بوضوح وبشكل قاطع ان وراء هذا المضيف الفاني، وخلف هذا الميدان المتغير، وبعد هذا المعرض المتبدل، قصوراً دائمة تليق بالسلطنة السرمدية، ومساكن ابدية ذات جنان، وخزائن ملأى بالأصول الخالصة الراقية للنماذج التي نراها في الدنيا؛ لذا فالدأب والسعي هنا انما هو للتطلع الى ما هناك.. والاستخدام هنا لقبض الاجرة هناك. فلكلٍ حسب استعداده واجتهاده سعادة وافرة ان لم يفقدها.

نعم، انه محال ان تظل مثل هذه السلطنة السرمدية مقصورة على هؤلاء الفانين الاذلاء..

فانظر الى هذه الحقيقة من خلال منظار هذا المثال:

هب انك تسير في طريق، وتشاهد أن عليها (فندقاً فخماً) بناه ملك عظيم لضيوفه، وهو ينفق مبالغ طائلة لتزيينه وتجميله كي يُدخل البهجة في قلوب ضيوفه، ويعتبروا بما يرون. بيد أن اولئك الضيوف لا يتفرجون الا على أقل القليل من تلك التزيينات، ولا يذوقون الا أقل القليل من تلك النعم، حيث لا يلبثون الا قليلاً ومن ثم يغادرون الفندق دون ان يرتووا ويشبعوا. سوى ما يلتقطون من صور أشياء في الفندق بما يملكون من آلة تصــوير وكـذلك يفـعل عمال صاحب الفندق وخدامه حيث يلتقطون حركات هؤلاء النــزلاء وسكنــاتهم بكل دقة وأمــانة ويســجلونها. فهــا أنت ذا ترى ان الملك يهدّم يومياً اغلب تلك التزيينات النفيسة، مجدداً اِياها بأخرى جديدة للضيوف الجدد. أفبعد هذا يبقى لديك شك في مَن بنى هذا الفـندق على قارعة هذه الطريق يملك قصوراً دائمة عالية، وله خزائن زاخرة ثمينة لا تنفد، وهو ذو سخاء دائم لا ينقطع. وان ما يبديه من الكرم في هذا الفندق هو لإثارة شهية ضيوفه الى ما عنده من اشياء، ولتنبيه رغباتهم وتحريكها لما أعدّ لهم من هدايا؟.

فان تأملت من خلال هذا المثال في أحوال فندق الدنيا هذه، وانعمت النظر فيها بوعي تام فستفهم الاسس التسعة الآتية:



الاساس الاول:

انك ستفهم ان هذه الدنيا - الشبيهة بذلك الفندق - ليست لذاتها. فمحال أن تتخذ لنفسها بنفسها هذه الصورة والهيئة. وانما هي دار ضيافة تملأ وتفرغ، ومنزل حلّ وترحال، أنشئت بحكمة لقافلة الموجودات والمخلوقات.



الأساس الثاني:

وستفهم ان ساكني هذا الفندق هم ضيوف مسافرون، وان ربهم الكريم يدعوهم الى دار السلام.



الاساس الثالث:

وستفهم ان التزيينات في هذه الدنيا ليست لأجل التلذذ والتمتع فحسب، اذ لو اذاقتك اللذة ساعة، اذاقتك الالم بفراقها ساعات وساعات، فهي تذيقك مثيرة شهيتك دون ان تشبعك، لقصر عمرها أو لقصر عمرك، اذ لا يكفي للشبع.

اذن فهذه الزينة الغالية الثمن والقصيرة العمر هي للعبرة(1)، وللشكر، وللحض على الوصول الى تناول اصولها الدائمة، ولغايات اخرى سامية.

الاساس الرابع:

وستفهم ان هذه الزينة في الدنيا(1) بمثابة صور ونماذج للنعم المدّخرة لدى الرحمة الإلهية في الجنة للمؤمنين.

الاساس الخامس:

وستفهم ان هذه المصنوعات الفانية ليست للفناء، ولم تخلق لتشاهَد حيناً ثم تذهب هباءً، وانما اجتمعت هنا، واخذت مكانها المطلوب لفترة قصيرة كي تُلتقط صورها، وتُفهم معانيها، وتُدوّن نتائجها، ولتُنسج لأهل الخلود مناظر أبدية دائمة ولتكون مداراً لغايات اخرى في عالم البقاء.

ويفهم من المثال الآتي، كيف ان هذه الاشياء لم تخلق للفناء بل للبقاء، بل ان فناءها الظاهري ليس اِلاّ اطلاقاً لسراحها بعدما انهت مهامّها، وكيف أن الشئ يفنى من جهة الا انه يبقى من جهات كثيرة:

تأمل في هذه الزهرة - وهي كلمة من كلمات القدرة الإلهية - انها تنظر الينا مبتسمة لنا لفترة قصيرة، ثم تختفي وراء ستار الفناء. فهي كالكلمة التي نتفوه بها، التي تودع آلافاً من مثيلاتها في الآذان وتبقى معانيها بعدد العقول المنصتة لها، وتمضي بعد أن أدت وظيفتها، وهي افادة المعنى. فالزهرة ايضاً ترحل بعد أن تودع في ذاكرة كل من شاهدها صورتها الظاهرة، وبعد ان تودع في بذيراتها ماهيتها المعنوية، فكأن كل ذاكرة وكل بذرة، بمثابة صور فوتوغرافية لحفظ جمالها وصورتها وزينتها، ومحل اِدامة بقائها.

فلئن كان المصنوع وهو في أدنى مراتب الحياة يعامل مثل هذه المعاملة للبقاء، فما بالك بالانسان الذي هو في أسمى طبقات الحياة، والذي يملك روحاً باقية، ألا يكون مرتبطاً بالبقاء والخلود؟ ولئن كانت صورة النبات المزهر المثمر، وقانون تركيبه – الشبيه جزئياً بالروح – باقية ومحفوظة في بُذيراتها بكل انتظام، في خضم التقلبات الكثيرة، أفلا يُفهم كم تكون روح الانسان باقية، وكم تكون مشدودة مع الخلود، علماً انها قانون أمري، وذات شعور نوراني، تملك ماهية راقية، وذات حياة، وذات خصائص جامعة شاملة، وقد اُلبست وجوداً خارجياً؟!



الاساس السادس:

وستفهم ان الانسان لم يترك حبله على غاربه، ولم يترك طليقاً ليرتع اينما يريد، بل تُسجّل جميع اعماله وتُلتقط صورها، وتدوّن جميع أفعاله ليحاسب عليها.



الاساس السابع:

وستفهم أن الموت والاندثار الذي يصيب في الخريف مخلوقات الربيع والصيف الجميلة، ليس فناءً نهائياً، واعداماً أبدياً، وانما هو اعفاء من وظائفها بعد اكمالها وإيفائها، وتسريح منها(1)، وهو افساح مجالٍ وتخليةُ مكانٍ لما سيأتي في الربيع الجديد من مخلوقات جديدة. فهو تهيؤ وتهيأة لما سيحل من الموجودات المأمورة الجديدة.

وهو تنبيه رباني لذوي المشاعر الذين أنسَتهم الغفلة مهامهم، ومنعهم السُكر عن الشكر.



الاساس الثامن:

وستفهم ان الصانع السرمدي لهذا العالم الفاني له عالم غير هذا، وهو عالم باقٍ خالد، ويشوّق عباده اليه، ويسوقهم اليه.



الاساس التاسع:

وستفهم ان الرحمن الرحيم جل جلاله سوف يكرم في ذلك العالم الفسيح عباده المخلصين بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. آمنا.



الحقيقة السابعة

باب الحفظ والحفيظية

وهو تجلي اسم ((الحفيظ والرَّقيب))

أمن الممكن لحفيظ ورقيب يحفظ بانتظام وميزان ما في السماء والارض، وما في البر والبحر، من رطب ويابس فلا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً الا احصاها، ان لا يحافظ ولا يراقب اعمال الانسان الذي يملك فطرة سامية، ويشغل رتبة الخلافة في الارض، ويحمل مهمة الامانة الكبرى؟. فهل يمكن ان لا يحافظ على افعاله التي تمس الربوبية؟ ولا يفرزها بالمحاسبة؟ ولا يزنها بميزان العدالة؟ ولا يجازي فاعلها بما

نعم، ان الذي يدير امر هذا الكون هو الذي يحافظ على كل شئ فيه ضمن نظام وميزان. والنظام والميزان هما مظهران من مظاهر العلم والحكمة مع الارادة والقدرة، لاننا نُشاهد أن أيّ مصنوع كان لم يُخلق ولا يُخلق اِلاّ في غاية الانتظام والميزان، وان الصور التي يغيّرها طوال حياته في انتظام دقيق كما أن مجموعها ايضاً ضمن نظام متقن محكم. ونرى ايضاً ان الحفيظ ذا الجلال يحفظ صور كل شئ حالما يختم عمره مع انتهاء وظيفته ويرحل من عالم الشهادة، يحفظها سبحانه في الاذهان التي هي أشبه ما تكون بالالواح المحفوظة(1) وفي ما تشبه بمرايا مثالية، فيكتب معظم تاريخ حياته في بذوره وينقشه نقشاً في ثماره، فيديم حياته ويحفظها في مرايا ظاهرة وباطنة..فذاكرة البشر، وثمر الشجر، ونواة الثمر، وبذر الزهر.. كل ذلك يبين عظمة احاطة الحفيظية.

ألا ترى كيف يُحافَظ على كل شئ مزهر ومثمر في الربيع الشاسع العظيم، وكيف يُحافظ على جميع صحائف اعماله الخاصة به، وعلى جميع قوانين تركيبه ونماذج صوره، كتابةً في عدد محدود من البُذيرات. حتى اذا ما أقبل الربيع تُنشر تلك الصحائف وفق حساب دقيق يناسبها فيخرج الى الوجود ربيعاً هائلاً في غاية الانتظام والحكمة؟ ألا يبين هذا مدى نفوذ الحفظ والرقابة، ومدى قوة احاطتهما الشاملة؟ فلئن كان الحفظ الى هذا الحد من الاتقان والاحاطة فيما لا أهمية له وفي أشياء مؤقتة عادية، فهل يُعقل عدم الاحتفاظ بأعمال البشر، التي لها ثمار مهمة في عالم الغيب وعالم الآخرة وعالم الأرواح، ولدى الربوبية المطلقة؟! فهل يمكن اهمالها وعدم تدوينها؟ حاش لله...

نعم، يفهم من تجلي هذه الحفيظية، وعلى هذه الصورة الواضحة، ان لمالك هذه الموجودات عناية بالغة لتسجيل كل شئ وحفظه، وضبطِ كل ما يجري في ملكه، وله منتهى الرعاية في حاكميته، ومنتهى العناية في سلطنة ربوبيته، بحيث انه يكتب ويستكتب أدنى حادثة وأهون عمل محتفظاً بصور كل ما يجري في ملكه في محافظَ كثيرة. فهذه المحافظة الواسعة الدقيقة تدل على انه سيُفتح بلاشك سجلٌ لمحاسبة الاعمال، ولاسيما لهذا المخلوق المكرّم والمعزّز والمفطور على مزايا عظيمة، ألا وهو الانسان. فلابدّ ان تدخل اعماله التي هي عظيمة، وافعاله التي هي مهمة ضمن ميزان حساس ومحاسبة دقيقة، ولابد ان تُنشر صحائف اعماله.

فيا ترى هل يقبل عقل بأن يُترك هذا الانسان الذي أصبح مكرّماً بالخلافة والامانة، والذي ارتقى الى مرتبة القائد والشاهد على المخلوقات، بتدخله في شؤون عبادة أغلب المخلوقات وتسبيحاته باعلانه الوحدانية في ميادين المخلوقات الكثيرة وشهوده شؤون الربوبية الكلية.. فهل يمكن ان يُترك هذا الانسان، يذهب الى القبر لينام هادئاً دون أن ينبّه ليُسأل عن كل صغيرة وكبيرة من اعماله، ودون ان يُساق الى المحشر ليحاكم في المحكمة الكبرى؟ كلاّ ثم كلاّ!.

وكيف يمكن ان يذهب هذا الانسان الى العدم، وكيف يمكن ان يتوارى في التراب فيفلت من يد القدير ذي الجلال الذي تشهد جميع الوقائع التي هي معجزات قدرته في الازمنة الغابرة على قدرته العظيمة لما سيحدث من الممكنات في الازمنة(1) الآتية. تلك القدرة التي تحدث الشتاء والربيع الشبيهين بالقيامة والحشر؟ ولما كان الانسان لا يحاسَب في هذه الدنيا حساباً يستحقه، فلابدّ انه سيذهب يوماً الى محكمة كبرى وسعادة عظمى.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:22 AM

رد: الكلمات
 
الحقيقة الثامنة
باب الوعد والوعيد
وهو تجلي اسم ((الجميل والجليل))
أمن الممكن لمبدع هذه الموجودات وهو العليم المطلق والقدير المطلق ألاّ يوفي بما أخبر به مكرراً الانبياء عليهم السلام كافة بالتواتر من وعد ووعيد، وشهد به الصدِّيقون والاولياء كافة بالاجماع، مُظهراً عجزاً وجهلاً بذلك؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. علماً ان الأمور التي وعد بها، وأوعدها، ليست عسيرة على قدرته قطعاً، بل هي يسيرة وهينة، وسهلة كسهولة اعادة الموجودات التي لا تحصى للربيع السابق بذواتها(1) أو بمثلها(2) في الربيع المقبل. أما الوفاء بالوعد فكما هو ضروري لنا ولكل شئ ضروري كذلك لسلطنة ربوبيته. بعكس اخلاف الوعد فهو مضاد لعزة قدرته، ومنافٍ لإحاطة علمه، حيث لا يتأتى اخلاف الوعد اِلا من الجهل أو العجز.
فيا أيها المنكر! هل تعلم مدى حماقة ما ترتكب من جناية عظمى بكفرك وانكارك! انك تصدّق وهمَك الكاذب وعقلك الهاذي ونفسَك الخدّاعة، وتكذّب مَن لا يضطر الى اخلاف الوعد، ولا الى خلافه ابداً، بل لا يليق الاخلاف بعزته وعظمته قطعاً. واِن جميع الاشياء وجميع المشهودات تشهد على صدقه وأحقيته!!.. انك ترتكب اذن جناية عظمى لا نهاية لها مع صغرك المتناهي، فلا جرم انك تستحق عقاباً عظيماً أبدياً.. ولقياس عِظَم ما يرتكبه الكافر من جناية فقد وَرَد ان ضرس بعض اهل النار كالجبل(3).. ان مَثَلك هو كمثَل ذلك المسافر الذي يغمض عينيه عن نور الشمس ويتبع ما في عقله من خيال، ثم يريد أن ينوّر طريقه المخيف بضياء ما في عقله من بصيص كنور اليراعة!.
فما دام الله سبحانه قد وعد، وهذه الموجودات كلماته الصادقة بالحق، وهذه الحوادث في العالم آياته الناطقة بالصدق، فانه سيوفي بوعده حتماً، وسيفتح محكمة كبرى، وسيهب سعادة عظمى.
الحقيقة التاسعة
باب الإحياء والاماتة
وهو تجلي اسم ((الحي القيوم والمحيي والمميت))
أمن الممكن للذي اظهر قدرتَه باِحياء الأرض الضخمة بعد موتها وجفافها، وبعث اكثر من ثلاثمائة ألف نوع من انوع المخلوقات، مع ان بعث كل نوع عجيب كأعجوبة بعث البشر.. والذي اظهر احاطةَ علمه ضمن ذلك الإحياء بتمييزه كل كائن من بين ذلك الامتزاج والتشابك.. والذي وجّه انظار جميع عباده الى السعادة الأبدية بوعدهم الحشر في جميع أوامره السماوية.. والذي اظهر عظمة ربوبيته بجعله الموجودات متكاتفة مترافقة، فادارها ضمن أمره وارادته، مسخراً أفرادها، معاوناً بعضها بعضاً.. والذي أولى البشر الاهمية القصوى، بجعله أجمع ثمرة في شجرة الكائنات، وألطفها وأشدها رقةً ودلالاً، واكثرها مستجاباً للدعاء، مسخراً له كل شئ، متخذاً اِياه مخاطباً.. أفمن الممكن لمثل هذا القدير الرحيم ولمثل هذا العليم الحكيم الذي أعطى هذه الأهمية للانسان ان لا يأتي بالقيامة؟ ولا يحدث الحشر ولا يبعث البشر، أو يعجز عنه؟ وان يعجز عن فتح أبواب المحكمة الكبرى وخلق الجنة والنار؟!. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
نعم، ان الرب المتصرف في هذا العالم جلّ جلاله يُحدث في هذه الأرض المؤقتة الضيقة في كل عصر وفي كل سنة وفي كل يوم نماذج وأمثلة كثيرة واشارات عديدة للحشر الاكبر. فعلى سبيل المثال:
انه يحشر في بضعة ايام في حشر الربيع ويبعث اكثر من ثلاثمائة ألف نوع من أنواع النباتات والحيوانات من صغير وكبير، فيحيي جذور الاشجار والاعشاب، ويعيد بعض الحيوانات بعينها كما يعيد أمثال بعضها الآخر. ومع أن الفروق المادية بين البُذيرات المتناهية في الصغر جزئية جداً، اِلا أنها تُبعث وتُحيا بكل تميّز، وتشخّص في منتهى السرعة في ستة ايام، أو ستة أسابيع، وفي منتهى السهولة والوفرة، وبانتظام كامل وميزان دقيق، رغم اختلاطها وامتزاجها. فهل يصعب على من يقوم بمثل هذه الاعمال شئ، أو يعجز عن خلق السموات والارض في ستة أيام، أولا يستطيع ان يحشر الانسان بصيحة واحدة؟.. سبحان الله عما يصفون.
فيا ترى ان كان ثمة كاتبٌ ذو خوارق يكتب ثلاثمائة ألف كتاب مُسحت حروفُها ومُسخت، في صحيفة واحدة دون اختلاط ولا سهو ولا نقص، وفي غاية الجمال، ويكتبها جميعاً معاً خلال ساعة واحدة. وقيل لك: ان هذا الكاتب سيكتب من حفظه في دقيقة واحدة كتابك الذي وقع في الماء وهو من تأليفه. فهل يمكنك أن ترد عليه وتقول: لا يستطيع. لا أصدق؟!.. أو أن سلطاناً ذا معجزات يرفع الجبال وينسفها ويغير المدن بكاملها ويحول البحر براً، باشارة منه، اظهاراً لقدرته وجعلها آية للناس.. فبينما ترى منه هذه الاعمال اذا بصخرة عظيمة قد تدحرجت الى وادٍ وسدّت الطريق على ضيوفه، وقيل لك: ان هذا السلطان سيميط حتماً تلك الصخرة من على الطريق ويحطمها مهما كانت كبيرة، حيث لا يمكن ان يدع ضيوفه في الطريق.. كم يكون جوابك هذياناً أو جنوناً اذا ما أجبته بقولك: لا، لا يستطيع أن يفعل؟!!.. أو أن قائداً يمكنه أن يجمع من جديد افراد جيشه الذي شكله بنفسه في يوم واحد. وقيل لك: ان هذا سيجمع افراد تلك الفرق وسينضوي تحت لوائه أولئك الذين سرّحوا وتفرّقوا، بنفخة من بوق، فأجبته: لا، لا اصدق!. عندها تفهم أن جوابك هذا ينبئ عن تصرف جنوني، أيّ جنون!!
فاذا فهمت هذه الأمثلة الثلاثة فتأمل في ذلكم البارئ المصور سبحانه وتعالى الذي يكتب امام انظارنا باحسن صورة واتمها بقلم القدرة والقدر اكثر من ثلاثمائة الف نوع من الانواع على صحيفة الارض، مبدلاً صحيفة الشتاء البيضاء الى الاوراق المتفتحة للربيع والصيف، يكتبها متداخلة دون اختلاط، يكتبها معاً دون مزاحمة ولا التباس، رغم تباين بعضها مع البعض الآخر في التركيب والشكل. فلا يكتب خطأ مطلقاً. أفيمكن ان يُسال الحفيظ الحكيم الذي أدرج خطة روح الشجرة الضخمة ومنهاجها في بذرة متناهية في الصغر محافظاً عليها، كيف سيحافظ على ارواح الاموات؟. أم هل يمكن أن يُسأل القدير ذو الجلال الذي يُجري الارض في دورتها بسرعة فائقة، كيف سيزيلها من على طريق الآخرة، وكيف سيدمّرها؟ أم هل يمكن أن يُسأل ذو الجلال والاكرام الذي أوجد الذرات من العدم ونسّقها بأمر ((كُنْ فَيَكُونُ)) في أجساد جنود الاحياء ، فأنشأ منها الجيوش الهائلة، كيف سيجمع بصيحة واحدة تلك الذرات الاساسية التي تعارفت فيما بينها، وتلك الاجزاء الاساسية التي انضوت تحت لواء فرقة الجسد ونظامه؟
فها أنت ذا ترى بعينيك كم من نماذج وأمثلة وامارات للحشر شبيهة بحشر الربيع، قد أبدعها الباري سبحانه وتعالى في كل موسم، وفي كل عصر، حتى ان تبديل اللّيل والنّهار، وانشاء السحاب الثقال وافناءها من الجو، نماذج للحشر وأمثلة وامارات عليه.
واذا تصورت نفسك قبل ألف سنة مثلاً، وقابلت بين جناحي الزمان الماضي والمستقبل، ترى أمثلة الحشر والقيامة ونماذجها بعدد العصور والايام.
فلو ذهبت الى استبعاد الحشر الجسماني وبعث الاجساد متوهماً انه بعيد عن العقل ، بعد ما شاهدت هذا العدد الهائل من الأمثلة والنماذج، فستعلم انت كذلك مدى حماقة من ينكر الحشر.
تأمل ماذا يقول الدستور الاعظم حول هذه الحقيقة:
] فَانْظُر اِلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذلِكَ لَمُحيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ[ (الروم: 50)
الخلاصة: لا شئ يحول دون حدوث الحشر، بل كل شئ يقتضيه ويستدعيه. نعم! ان الذي يحيي هذه الارض الهائلة وهي معرض العجائب ويميتها كأدنى حيوان، والذي جعلها مهداً مريحاً وسفينة جميلة للانسان والحيوان، وجعل الشمس ضياءً وموقداً لهذا المضيف، وجعل الكواكب السيّارة والنجوم اللامعة مساكن طائرات للملائكة.. ان ربوبية خالدة جليلة الى هذا الحدّ، وحاكمية محيطة عظيمة الى هذه الدرجة، لا تستقران ولا تنحصران في أمور الدنيا الفانية الزائلة الواهية السيالة التافهة المتغيرة. فلابد أن هناك داراً اخرى باقية، دائمة، جليلة، عظيمة، مستقرة، تليق به سبحانه فهو يسوقنا الى السعي الدائب لأجل تلك الممالك والديار ويدعونا اليه وينقلنا الى هناك. يشهد على هذا اصحاب الأرواح النيرة، وأقطاب القلوب المنورة، وأرباب العقول النورانية، الذين نفذوا من الظاهر الى الحقيقة، والذين نالوا شرف التقرب اليه سبحانه. فهم يبلغوننا متفقين انه سبحانه قد أعد ثواباً وجزاءاً، وأنه يَعِد وعداً قاطعاً، ويوعد وعيداً جازماً..
فاخلاف الوعد لا يمكن أن يدنو الى جلاله المقدّس، لأنه ذلّة وتذلل. وأما اخلاف الوعيد فهو ناشئ من العفو أو العجز. والحال أن الكفر جناية مطلقة(1) لا يستحق العفو والمغفرة. اما القدير المطلق فهو قدوس منزّه عن العجز، وأما المخبرون والشهود فهم متفقون اتفاقاً كاملاً على اساس هذه المسألة رغم اختلاف مسالكهم ومناهجهم ومشاربهم. فهم من حيث الكثرة بلغوا درجة التواتر، ومن حيث النوعية بلغوا قوة الاجماع، ومن حيث المنزلة فهم نجوم البشرية وهداتها وأعزة القوم وقرة عيون الطوائف. ومن حيث الأهمية فهم في هذه المسألة ((أهل اختصاص وأهل اثبات)). ومن المعلوم ان حكم اثنين من أهل الاختصاص في علم أو صنعة يرجّح على آلاف من غيرهم، وفي الاخبار والرواية يرجح قول اثنين من المثبتين على آلاف من النافين المنكرين، كما في اثبات رؤية هلال رمضان، حيث يرجّح شاهدان مثبتان، بينما يضرب بكلام آلاف من النافين عرض الحائط.
والخلاصة: لا خبر اصدق من هذا في العالم، ولا قضية أصوب منها، ولا حقيقة اظهر منها ولا اوضح.
فالدنيا اذن مزرعة بلا شك، والمحشر بيدر، والجنة والنار مخزنان.
الحقيقة العاشرة
باب الحكمة والعناية والرحمة والعدالة
وهو تجلي اسم ((الحكيم والكريم والعادل والرَّحيم))
أمن الممكن لمالك الملك ذي الجلال الذي أظهر في دار ضيافة الدنيا الفانية هذه، وفي ميدان الامتحان الزائل هذا، وفي معرض الارض المتبدل هذا، هذا القدر من آثار الحكمة الباهرة، وهذا المدى من آثار العناية الظاهرة، وهذه الدرجة من آثار العدالة القاهرة، وهذا الحد من آثار الرحمة الواسعة! ثم لا ينشئ في عالم ملكه وملكوته مساكن دائمة، وسكنة خالدين، ومقامات باقية، ومخلوقات مقيمين. فتذهب هباءاً منثوراً جميع الحقائق الظاهرة لهذه الحكمة، ولهذه العناية، ولهذه العدالة، ولهذه الرحمة؟.
وهل يعقل لحكيم ذي جلال اختار هذا الانسان من بين المخلوقات، وجعله مخاطباً كلياً له، ومرآة جامعة لأسمائه الحسنى، ومقدّراً لما في خزائن رحمته من ينابيع، ومتذوقاً لها ومتعرفاً اليها، والذي عرّف سبحانه ذاته الجليلة له بجميع أسمائه الحسنى، فأحبّه وحبّبه اليه.. أفمن المعقول بعد كل هذا ان لا يُرسل ذلك((الحكيم)) جل وعلا هذا الانسان المسكين الى مملكته الخالدة تلك؟ ولا يسعده في تلك الدار السعيدة بعد أن دعاه اليها؟؟
أم هل يعقل أن يحمّل كل موجود وظائف جمّة - ولو كان بذرة - بثقل الشجرة، ويركّب عليه حِكَماً بعدد أزهارها، ويقلّده مصالح بعدد ثمارها، ثم يجعل غاية وجود تلك الوظائف والحكم والمصالح جميعها مجرّد ذلك الجزء الضئيل المتوجه الى الدنيا. أي يجعل غاية الوجود هي البقاء في الدنيا فقط، الذي لا أهمية له حتى بمثقال حبة من خردل؟ ولا يجعل تلك الوظائف والحِكَم والمصالح بذوراً لعالم المعنى، ولا مزرعة لعالم الآخرة لتثمر غاياتها الحقيقية اللائقة بها.
وهل يعقل ان تذهب جميع هذه المهرجانات الرائعة والاحتفالات العظيمة هباءً بلا غاية، وسدى بلا معنى وعبثاً بلا حكمة؟!
أم هل يعقل ان لا يوجّه كلها الى عالم المعنى وعالم الآخرة لتظهر غاياتُها الأصيلة وأثمارُها الجديرةُ بها؟!
نعم! أمن الممكن ان يظهر كل ذلك خلافاً للحقيقة، خلافاً لأوصافه المقدّسة وأسمائه الحسنى: ((الحكيم، الكريم، العادل، الرحيم)) كلا.. ثم كلا.
أم هل من الممكن أن يكذِّب سبحانه حقائقَ جميع الكائنات الدالة على أوصافه المقدّسة من حكمةٍ وعدلٍٍ وكرمٍ ورحمة، ويردّ شهادة الموجودات جميعاً، ويبطل دلائل المصنوعات جميعاً! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهل يقبل العقل أن يعطي للانسان اجرة دنيوية زهيدة، زهادة شعرة واحدة، مع انه اناط به وبحواسه مهاماً ووظائف هي بعدد شعرات رأسه؟ فهل يمكن ان يقوم بمثل هذا العمل الذي لا معنى له ولا مغزى خلافاً لعدالته الحقة، ومنافاة لحكمته الحقيقة؟ سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
أوَ من الممكن أن يقلّد سبحانه كل ذي حياة، بل كل عضو فيه - كاللسان مثلاً - بل كل مصنوع، من الحِكم والمصالح بعدد أثمار كل شجرة مُظهراً حكمته المطلقة ثم لا يمنح الانسان البقاء والخلود، ولا يهب له السعادة الأبدية التي هي أعظم الحِكَم، وأهم المصالح، وألزم النتائج؟ فيترك البقاء واللقاء والسعادة الابدية التي جعلت الحكمة حكمة، والنعمة نعمةً، والرحمة رحمةً، بل هي مصدر جميع الحكم والمصالح والنعم والرحمة ومنبعها. فهل يمكن ان يتركها ويهملها ويسقط تلك الأمور جميعها الى هاوية العبث المطلق؟ ويضع نفسه - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - بمنزلة من يبني قصراً عظيماً يضع في كل حجر فيه آلاف النقوش والزخارف، وفي كل زاوية فيه آلاف الزينة والتجميل، وفي كل غرفة فيه آلاف الآلات الثمينة والحاجيات الضرورية.. ثم لا يبني له سقفاً ليحفظه؟! فيتركه ويترك كل شئ للبلى والفساد! حاشَ لله.. ان الخير يصدر من الخيّر المطلق، وان الجمال يصدر من الجميل المطلق، فلن يصدر من الحكيم المطلق العبث البتة.
نعم! ان كل من يمتطي التاريخ ويذهب خيالاً الى جهة الماضي سيرى انه قد ماتت بعدد السنين منازلُ ومعارضُ وميادين وعوالمُ شبيهة بمنزل الدنيا وميدان الابتلاء ومعرض الاشياء في وقتنا الحاضر. فعلى الرغم مما يُرى من اختلاف بعضها عن البعض الآخر صورةً ونوعاً، فانها تتشابه في الانتظام والابداع وابراز قدرة الصانع وحكمته.
وسيرى كذلك - ما لم يفقد بصيرته - ان في تلك المنازل المتبدلة، وفي تلك الميادين الزائلة، وفي تلك المعارض الفانية.. من الأنظمة الباهرة الساطعة للحكمة، والاشارات الجليّة الظاهرة للعناية، والامارات القاهرة المهيمنة للعدالة، والثمار الواسعة للرحمة ما سيدرك يقيناً أنه:
لا يمكن ان تكون حكمةٌ اكملَ من تلك الحكمة المشهودة، ولا يمكن ان تكون عناية أروع من تلك العناية الظاهرة الآثار، ولا يمكن أن تكون عدالة أجلّ من تلك العدالة الواضحة أماراتها. ولا يمكن ان تكون رحمة اشمل من تلك الرحمة الظاهرة الثمار.
واذا أفتُرض المحال، وهو أن السلطان السرمدي - الذي يدير هذه الامور، ويغيّر هؤلاء الضيوف والمستضافات باستـمرار - ليست له منـازل دائمة ولا أماكن راقية سامية ولا مقامات ثابتة ولا مساكن باقية ولا رعايا خالدون، ولا عبادٌ سعداء في مملكته الخالدة. يلزم عندئذٍ انكار الحقائق الاربعة: (الحكمة والعدالة والعناية والرحمة) التي هي عناصر قوية شاملة كالنور، والهواء والماء والتراب، وانكار وجودها الظاهر ظهور تلك العناصر. لانه من المعلوم ان هذه الدنيا وما فيها لا تفي لظهور تلك الحقائق، فلو لم يكن هناك في مكان آخر ما هو اهل لها، فيجب انكار هذه الحكمة الموجودة في كل شئ أمامنا - بجنون من ينكر الشمس الذي يملأ نورها النهار - وانكار هذه العناية التي نشاهدها دائماً في أنفسنا وفي أغلب الاشياء. وانكار هذه العدالة الجلية الظاهرة الامارات(1). وانكار هذه الرحمة التي نراها في كل مكان. وكذلك يلزم ان يعتبر صاحب ما نراه من الاجراءات الحكيمة والافعال الكريمة، والآلاء الرحيمة (حاشَ لله ثم حاشَ لله) لاهياً لاعباً ظالماً غدّاراً تعالىالله عن ذلك علواً كبيراً، وما هذا الاّ انقلاب الحقائق باضدادها، وهو منتهى المحال، حتى السوفسطائيون الذين انكروا وجود انفسهم لم يدنوا الى تصوّر هذا المحال بسهولة.
والخلاصة: أنه ليست هناك علاقة أو مناسبة بين ما يُشاهَد في شؤون العالم من تجمعات واسعة للحياة، وافتراقات سريعة للموت، وتكتلات ضخمة، وتشتتات سريعة، واحتفالات هائلة، وتجليات رائعة.. وبين ما هو معلوم لدينا من نتائج جزئية، وغايات تافهة مؤقتة، وفترة قصيرة تعود الى الدنيا الفانية. لذا فالربط بينهما بعلاقة، أو ايجاد مناسبة، لا ينسجم مع عقل ولا يوافق مع حكمة، اذ يشبه ذلك ربط حِكَم هائلة وغايات عظيمة كالجبل بحصاة صغيرة جداً، وربط غاية تافهة جزئية مؤقتة - بحجم الحصاة - بجبل عظيم!!.
أي اِنّ عدم وجود هذه العلاقة بين هذه الموجودات وشؤونها وبين غاياتها التي تعود الى الدنيا، يشهد شهادة قاطعة، ويدل دلالة واضحة على ان هذه الموجودات متوجهة الى عالم المعنى، حيث تعطي ثمارها اللطيفة اللائقة هناك، وان انظارها متطلعة الى الاسماء الحسنى، وان غاياتها ترنو الى ذلك العالم. ومع ان بذورها مخبوءة تحت تراب الدنيا الاّ ان سنابلها تبرز في عالم المثال. فالانسان - حسب استعداده - يَزرع ويُزرع هنا ويحصد هناك في الآخرة.
نعم! لو نظرت الى وجوه الموجودات المتوجهة الى الاسماء الحسنى والى عالم الآخرة لرأيت:
ان لكل بذرة - وهي معجزة القدرة الإلهية - غايات كبيرة كبر الشجرة.
وان لكل زهرة - وهي كلمة الحكمة(1) - معاني جمّة بمقدار ازهار الشجر.
وان لكل ثمرة - وهي معجزة الصنعة وقصيدة الرحمة - من الحِكَم ما في الشجرة نفسها. أما من جهة كونها أرزاقاً لنا فهي حكمة واحدة من بين الوف الحكم، حيث أنها تنهي مهامها، وتوفي مغزاها فتموت وتدفن في معداتنا.
فما دامت هذه الاشياء الفانية تؤتي ثمارها في غير هذا المكان، وتودع هناك صوراً دائمة، وتعبّر عن معانٍ خالدة، وتؤتي اذكارها وتسابيحها الخالدة السرمدية هناك. فالانسان اذن يصبح انساناً حقاً مادام يتأمل وينظر الى تلك الوجوه المتوجهة نحو الخلود. وعنده يجد سبيلاً من الفاني الى الباقي.
اِذن هناك قصد آخر ضمن هذه الموجودات المحتشدة والمتفرقة التي تسيل في خضم الحياة والموت، حيث ان احوالها تشبه - ولا مؤاخذة في الأمثال - احوالاً وأوضاعاً تُرتّب للتمثيل، فتنفق نفقات باهظة لتهيئة اجتماعات وافتراقات قصيرة، لأجل التقاط الصور وتركيبها لعرضها على الشاشة عرضاً دائماً.
وهكذا فان احدى غايات قضاء الحياة - الشخصية والاجتماعية - في فترة قصيرة في هذه الدنيا هي أخذ الصور وتركيبها، وحفظ نتائج الاعمال، ليحاسب امام الجمع الاكبر، وليعرض امام العرض الاعظم، وليهيأ استعداده ومواهبه للسعادة العظمى. فالحديث الشريف: (الدنيا مزرعة الآخرة)(1) يعبّر عن هذه الحقيقة.
وحيث أن الدنيا موجودة فعلاً، وفيها الآثار الظاهرة للحكمة والعناية والرحمة والعدالة، فالآخرة موجودة حتماً، وثابتة بقطعية ثبوت هذه الدنيا.
ولما كان كل شئ في الدنيا يتطلع من جهة الى ذلك العالم، فالسير اذن والرحلة الى هناك، لذا فان انكار الآخرة هو انكار للدنيا وما فيها.
وكما ان الأجل والقبر ينتظران الانسان، فان الجنة والنار كذلك تنتظرانه وتترصدانه.
الحقيقة الحادية عشرة
باب الانسانية
وهو تجلي اسم ((الحق))
أمن الممكن للحق سبحانه وهو المعبود الحق ان يخلق هذا الانسان ليكون اكرمَ عبدٍ لربوبيته المطلقة، واكثر اهمية لربوبيته العامة للعالمين، واكثر المخاطبين ادراكاً وفهماً لأوامره السبحانية، وفي احسن تقويمٍ حتى اصبح مرآة جامعة لأسمائه الحسنى ولتجلي الاسم الاعظم ولتجلي المرتبة العظمى لكل اسم من هذه الاسماء الحسنى. وليكون أجملَ معجزات القدرة الإلهية، واغناها اجهزةً وموازينَ لمعرفة وتقدير ما في خزائن الرحمة الإلهية من كنوز، واكثرالمخلوقات فاقة وحاجة الى نعمه التي لا تحصى، واكثرها تألماً من الفناء، وأزيدها شوقاً الى البقاء، وأشدها لطافة ورقة وفقراً وحاجة. مع انه من جهة الحياة الدنيا اكثرها تعاسة، ومن جهة الاستعداد الفطري أسماها صورة.. فهل من الممكن ان يخلق المعبود الحق الانسانَ بهذه الماهية ثم لا يبعثه الى ما هو مؤهّل له ومشتاق اليه من دار الخلود؟! فيمحق الحقيقة الانسانية ويعمل ما هو منافٍ كلياً لأحقيته سبحانه؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً..
وهل يعقل للحاكم بالحق والرحيم المطلق الذي وهب لهذا الانسان استعداداً فطرياً سامياً يمكّنه من حمل الامانة الكبرى التي أبت السموات والارض والجبال ان يحملنها، أي خَلقَه ليعرف صفات خالقه سبحانه الشاملة المحيطة وشؤونه الكلية وتجلياته المطلقة، بموازينه الجزئية وبمهاراته الضئيلة.. والذي بَرأه بشكل ألطف المخلوقات واعجزها وأضعفها. فسخر له جميعَها من نبات وحيوان، حتى نصبه مشرفاً ومنظماً ومتدخلاً في انماط تسبيحاتها وعباداتها.. والذي جعله نموذجاً - بمقاييس مصغّرة - للاجراءات الإلهية في الكون، ودلاّلاً لاعلان الربوبية المنزهة - فعلاً وقولاً - على الكائنات، حتى منحه منزلة اكرم من منزلة الملائكة، رافعاً اياه الى مرتبة الخلافة.. فهل يمكن ان يهب سبحانه للانسان كل هذه الوظائف ثم لا يَهَبَ له غاياتها ونتائجها وثمارها وهي السعادة الابدية؟ فيرميه الى درك الذلّة والمسكنة والمصيبة والاسقام، ويجعله أتعس مخلوقاته؟ ويجعل هذا العقل الذي هو هدية مباركة نورانية لحكمته سبحانه ووسيلة لمعرفة السعادة آلةَ تعذيبٍ وشؤم، خلافاً لحكمته المطلقة، ومنافاة لرحمته المطلقة؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
الخلاصة: كما اننا رأينا في الحكاية أن في هوية الضابط ودفتر خدمته رتبته، ووظيفته ومرتّبه وأفعاله وعتاده، واتضح لدينا أن ذلك الضابط لا يعمل لأجل هذا الميدان المؤقت، بل لما سيرحل اليه من تكريم وإنعام في مملكة مستقرة دائمة.
كذلك فان ما في هوية قلب الانسان من لطائف، وما في دفتر عقله من حواس، وما في فطرته من اجهزة وعتاد متوجهة جميعاً ومعاً الى السعادة الابدية،بل ما مُنحت له الاّ لأجل تلك السعادة الأبدية. وهذا ما يتفق عليه أهل التحقيق والكشف.
فعلى سبيل المثال:
لو قيل لقدرة التخيل في الانسان وهي أحدى وسائل العقل وأحد مصوّريه: ستُمنح لكِ سلطنةَ الدنيا وزينتها مع عمر يزيد على مليون سنة ولكن مصيرك الى الفناء والعدم حتماً. نراها تتأوه وتتحسر. (ان لم يتدخل الوهم وهوى النفس).
أي ان أعظم فانٍ - وهو الدنيا وما فيها - لا يمكنه ان يُشبع اصغر آلة في الانسان وهي الخيال!
يظهر من هذا جلياً ان هذا الانسان الذي له هذا الاستعداد الفطري والذي له آمالٌ تمتد الى الابد، وافكارٌ تحيط بالكون، ورغباتٌ تنتشر في ثنايا انواع السعادة الابدية. هذا الانسان انما خلق للابد وسيرحل اليه حتماً. فليست هذه الدنيا الاّ مستضافاً مؤقتاً، وصالة انتظار الآخرة.
الحقيقة الثانية عشرة
باب الرسالة والتنزيل
وهو تجلي ((بِسْمِ الله الرَّحْمن الرَّحيم))
أمن الممكن لمن أيّد كلامَه جميعُ الأولياء الصالحين المعزّزين بكشفياتهم وكراماتهم، وشهد بصدقه جميعُ العلماء والأصفياء المستندين الى تدقيقاتهم وتحقيقاتهم.. ذلكم هو الرسول الكريم e الذي فتح بما أوتي من قوة طريقَ الآخرة وباب الجنة، مصَّدقاً بألفٍ من معجزاته الثابتة، وبآلاف من آيات القرآن الكريم الثابت اعجازُه بأربعين وجهاً. فهل من الممكن ان تسد اوهامٌ هي أوهى من جناح ذبابة ما فتحه هذا الرسول الكريم e من طريق الآخرة وباب الجنة؟!
***
وهكذا لقد فُهم من الحقائق السابقة ان مسألة الحشر حقيقة راسخة قوية بحيث لا يمكن ان تزحزحها أيّة قوة مهما كانت حتى لو استطاعت أن تزيح الكرة الأرضية وتحطمها، ذلك لان الله سبحانه وتعالى يقرّ تلك الحقيقة بمقتضى اسمائه الحسنى جميعها وصفاته الجليلة كلها. وان رسوله الكريم e يصدّقها بمعجزاته وبراهينه كلها. والقرآن الكريم يثبتها بجميع آياته وحقائقه. والكون يشهد لها بجميع آياته التكوينية وشؤونه الحكيمة.
فهل من المكن يا ترى ان يتفق مع واجب الوجود سبحانه وتعالى جميعُ الموجودات - عدا الكفار - في حقيقة الحشر، ثم تأتي شبهة شيطانية واهية ضعيفة لتزيح هذه الحقيقة الراسخة الشامخة وتزعزعها؟! كلاّ... ثم كلا...
ولا تحسبنّ ان دلائل الحشر منحصرة في ما بحثناه من الحقائق الاثنتي عشرة، بل كما ان القرآن الكريم وحدَه يعلّمنا تلك الحقائق، فانه يشير كذلك بآلاف من الأوجه والامارات القوية الى أن خالقنا سينقلنا من دار الفناء الى دار البقاء.
ولا تحسبنّ كذلك ان دلائل الحشر منحصرة فيما بحثناه من مقتضيات الاسماء الحسنى ((الحكيم، الكريم، الرحيم، العادل، الحفيظ)) بل ان جميعَ الاسماء الحسنى المتجلية في تدبير الكون تقتضي الآخرة وتستلزمها.
ولا تحسب ايضاً ان آيات الكون الدّالة على الحشر هي تلك التي ذكرناها فحسب، بل هناك آفاق وأوجه في اكثر الموجودات تفتح وتتوجه يميناً وشمالاً، فمثلما يدل ويشهد وجه على الصانع سبحانه وتعالى يشير وجه آخر الى الحشر ويومئ اليه.
فمثلاً: ان حسن الصنعة المتقنة في خلق الانسان في احسن تقويم، مثلما هو اشارة الى الصانع سبحانه، فان ما فيه من قابليات وقوى جامعة، التي تزول في مدّة يسيرة، تشير الى الحشر. حتى اذا ما لوحظ وجهٌ واحدٌ فقط بنظرتين، فانه يدل على الصانع والحشر معاً.
فمثلاً: اذا لوحظت ماهيةُ ما هو ظاهرٌ في اغلب الاشياء من تنظيم الحكمة وتزيين العناية وتقدير العدالة ولطافة الرحمة، تبين انه صادرة من يد القدرة لصانع حكيم، كريم، عادل، رحيم. كذلك اذا لوحظت عظمة هذه الصفات الجليلة وقوتها وطلاقتها، مع قصر حياة هذه الموجودات في هذه الدنيا وزهادتها فان الآخرة تتبين من خلالها.
اي ان كل شئ يقرأ ويستقرئ بلسان الحال قائلاً:
امَنْتُ بِالله وَبِالْيَوْم اْلاخِرِ
الخاتمة
ان الحقائق الاثنتي عشرة السابقة يؤيد بعضها البعض الآخر، وتكمل احداها الاخرى وتسندها وتدعمها، فتتبين النتيجة من مجموعها واتحادها معاً. فأي وهم يمكنه ان ينفذ من هذه الاسوار الاثنى عشر الحديد، بل الالماس المنيعة ليزعزع الايمان بالحشر المحصّن بالحصن الحصين؟
فالآية الكريمة ] مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ اِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ (لقمان:28) تفيد ان خلق جميع البشر وحشرهم سهل ويسير على القدرة الإلهية، كخلق انسان واحد وحشره. نعم، وهو هكذا حيث فصلت هذه الحقيقة في بحث ((الحشر)) من رسالة ((نقطة من نور معرفة الله)). اِلا اننا سنشير هنا الى خلاصتها مع ذكر الامثلة، ومن اراد التفصيل فليراجع تلك الرسالة.
فمثلاً: ولله المثل الاعلى- ولا جدال في الأمثال - ان الشمس مثلما تُرسل - ولو ارادياً - ضوءَها بسهولة تامة الى ذرة واحدة، فانها ترسله بالسهولة نفسها الى جميع المواد الشفافة التي لا حصر لها، وذلك بسر ((النورانية)).
وان أخذ بؤبؤ ذرّة شفافة واحدة لصورة الشمس مساوٍ لأخذ سطح البحر الواسع لها، وذلك بسر ((الشفافية)).
وان الطفل مثلما يمكنه ان يحرك دُميَتَه الشبيهة بالسفينة، يمكنه أن يحرّك كذلك السفينة الحقيقية، وذلك بسرّ ((الانتظام)) الذي فيها.
وأن القائد الذي يسيّر الجندي الواحد بامر ((سِر))، يسوق الجيش باكمله بالكلمة نفسها، وذلك بسرّ ((الأمتثال والطاعة)).
ولو افترضنا ميزاناً حساساً جداً في الفضاء، بحيث يتحسس وزن جوزة صغيرة في الوقت الذي يمكن ان توضع في كفتيه شمسان. ووجدت في الكفتين جوزتان أو شمسان، فان الجهد المبذول لرفع احدى الكفتين الى الأعلى والاخرى الى الاسفل هو الجهد نفسه، وذلك بسر ((الموازنة)).
فما دام اكبر شئ يتساوى مع أصغره، وما لا يعــدّ من الاشياء يظهر كالشــئ الواحد في هذه المخلوقات والممكنات الاعتيادية - وهي ناقصة فانية - لما فيها من (النورانية والشفافية والانتظام والامتثال والموازنة) فلابدّ أنه يتساوى أمام القدير المطلق القليل والكثير، والصغير والكبير، وحشرُ فرد واحد وجميع الناس بصيحة واحدة، وذلك بالتجليات ((النورانية)) المطلقة لقدرته الذاتية المطلقة وهي في منتهى الكمال، و ((الشفافية)) و ((النورانية)) في ملكوتية الاشياء، و ((انتظام)) الحكمة والقدرة، و ((امتثال)) الاشياء وطاعتها لأوامره التكوينية امتثالاً كاملاً، وبسر ((موازنة)) الامكان الذي هو تساوي الممكنات في الوجود والعدم.
ثم ان مراتب القوة والضعف لشئ ما عبارة عن تداخل ضده فيه، فدرجات الحرارة - مثلاً - ناتجة من تداخل البرودة، ومراتب الجمال متولدة من تداخل القبح، وطبقات الضوء من دخول الظلام. اِلاّ انّ الشئ ان كان ذاتياً غير عرضي، فلا يمكن لضده أن يدخل فيه، واِلا لزم اجتماع الضدين وهو محال. أي أنه لا مراتب فيما هو ذاتي وأصيل. فما دامت قدرة القدير المطلق ذاتية، وليست عرضية كالممكنات، وهي في كمال المطلق، فمن المحال اذن أن يطرأ عليها العجزُ الذي هو ضده. أي ان خلق الربيع بالنسبة لذي الجلال هيّن كخلق زهرة واحدة، وبعث الناس جميعاً سهل ويسير عليه كبعث فرد منهم، بخلاف ما اذا اُسند الامرُ الى الاسباب المادية، فعندئذٍ يكون خلقُ زهرةٍ واحدة صعباً كخلق الربيع.
***
وكل ما تقدّم من الامثلة والايضاحات - منذ البداية - لصور الحشر وحقائقه ما هي اِلاّ من فيض القرآن الكريم، وما هي اِلا لتهيئة النفس للتسليم والقلب للقبول؛ اذ القول الفصل للقرآن الكريم والكلام كلامه، والقول قوله، فلنستمع اليه.. فلله الحجَّة البالغة...
] فانظر الى آثار رَحمتِ الله كيف يُحيي الأرضَ بعدَ موتِها إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير[ (الروم: 50)
] قال مَن يحيي العظام وهي رميم ^ قل يحييها الذي انشأها أول مرة وهو بكل خلقٍ عليم[ (يس:78،79)
] يا أيها الناسُ اتقوا ربكمْ ان زلزلة الساعَة شيءٌ عظيمٌ ^ يوم تَرونَها تَذهَل كلّ مرضعةٍ عما أرضعت وتـضعُ كلّ ذات حملٍ حَملها وترى الناسَ سُكارى وما هم بِسُكارى ولكنّ عذاب الله شديدٌ[ (الحج: 1 - 2)
] الله لا اِلهَ الاّ هو ليجمَعَنّكُمْ الى يوم القيامَةِ لا ريبَ فيهِ ومن اصدَقُ من الله حَديثاً[ (النساء:87)
] ان الأبرار لفي نعيم ^ وانّ الفجّارَ لفي جحيم [ (الانفطار: 13 - 14)
] اذا زُلزلت الارض زلزالها ^ وأخرجَتِ الارض اثقالها ^ وقال الانسان ما لها ^ يومئذٍ تحدِّث أخبارَها ^ بأن ربَّك أوحى لها ^ يومئذٍ يصدُرُ النّاسُ اشتاتاً ليروا اعمالهم ^ فمنْ يَعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يَرَه ^ ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرّاً يَرَهُ[ (سورة الزلزال)
] القارعة^ ما القارعة ^ وما ادراك ما القارعة ^ يومَ يكونُ الناس كالفراش المبثوث ^ وتكون الجبال كالعِهنِ المنفوش ^ فأما مَن ثقلت موازينُه ^ فهو في عيشةٍ راضيةٍ ^ وأما مَنْ خفَّت موازينُه ^ فأمه هاوية ^ وما ادراك ماهِيَهْ ^ نارٌ حامية[ (سورة القارعة)
] ولله غيبُ السمواتِ والارض وما أمرُ الساعة الاّ كلمحِ البصر أو هو أقرب ان الله على كلٌ شيءٍ قدير[ (النحل:77)
* * *
ولنستمع الى امثال هذه الآيات البينات. ولنقل آمنا وصدقنا:
آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وبالقدر خيره وشرّه من الله تعالى، والبعث بعد الموت حق، وان الجنة حق، والنار حق، وان الشفاعة حق، وان منكراً ونكيراً حق، وأنَّ الله يبعث من في القبور.
اشهد أن لا اِله اِلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
اللّهم صلّ على ألطف وأشرف واكمل وأجمل ثمرات طوبى رحمتك الذي أرسلته رحمةً للعالمين ووسيلة لوصولنا الى أزين واحسن وأجنى واعلى ثمرات تلك الطوبى المتدلية على دار الاخرة أي الجنّة.
اللّهم أجرنا وأجر والدينا من النار وأدخلنا وأدخل والدينا الجنّة مع الابرار بجاه نبيّك المختار... آمين.
C فيا أيها الأخ القارئ لهذه الرسالة بانصاف! لا تقل لِمَ لا احيط فهماً بهذه الكلمة العاشرة.. لا تَغتَم ولا تتضايق من عدم الاحاطة بها، فان فلاسفة دهاة - امثال ابن سينا - قد قالوا: (الحشر ليس على مقاييس عقلية) اي ((نؤمن به فحسب، اذ لا يمكن سلوك سبيله، وسبر غوره بالعقل)) وكذلك اتفق علماء الاسلام بأن قضية الحشر قضية نقلية، أي ان أدلتها نقلية، ولا يمكن الوصول اليها عقلاً. لذا فان سبيلاً غائراً، وطريقاً عالياً سامياً في الوقت نفسه، لا يمكن ان يكون بسهولة طريق عام يمكن ان يسلكه كل سالك.
ولكن بفيض القرآن الكريم، وبرحمة الخالق الرحيم قد مُنَّ علينا السير في هذا الطريق الرفيع العميق، في هذا العصر الذي تحطم فيه التقليد وفسد الاذعان والتسليم. فما علينا اِلاّ تقديم آلاف الشكر الى البارى عز وجل على احسانه العميم وفضله العظيم، اذ ان هذا القدر يكفي لانقاذ ايماننا وسلامته. فلابد ان نرضى بمقدار فهمنا ونزيده بتكرار المطالعة.
هذا وان أحد اسرار عدم الوصول الى مسألة الحشر عقلاً هو ان الحشر الاعظم هو من تجلي (الاسم الاعظم)، لذا فان رؤية واراءة الافعال العظيمة الصادرة من تجلي الاسم الاعظم، ومن تجلي المرتبة العظمى لكل اسم من الاسماء الحسنى هي التي تجعل اثبات الحشر الاعظم سهلاً هيناً وقاطعاً كاثبات الربيع وثبوته، والذي يؤدي الى الاذعان القطعي والايمان الحقيقي.
وعلى هذه الصورة توضّح الحشر ووُِضِح في هذه (الكلمة العاشرة) بفيض القرآن الكريم. واِلاّ لو اعتمد العقل على مقاييسه الكليلة لظلّ عاجزاً مضطراً الى التقليد.
ذيل رسالة الحشر
القطعة الأولى
من لاحقة الكلمة العاشرة وذيلها المهم
بسم الله الرحمن الرحيم
] فَسُبْحَانَ الله حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ ^ وَلَهُ الْحَمْدُ فىِ السَّمواتِ وَاْلارْضِ وَعَشِيّاً وَحينَ تُظْهِرُونَ ^ يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْيىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرجونَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ اَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ اِذَآ اَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ^ وَمِنْ آيَاتِه اَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ اَنْفُسِكُمْ اَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا اِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً اِنَّ في ذلِكَ لاياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ وَاْخْتِلافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَالْوَانِكُمْ اِنَّ فى ذلِكَ لايَاتٍ لِلْعَالِمينَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالّيْلِ والنَّهَارِ وَاْبتغَآؤُكُمْ مِنْ فـَضْلِهِ اِنَّ فى ذلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ^ وَمِنْ آيَاتِه يُريكُمُ اْلبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعَاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَيُحْيى بِهِ اْلاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ فى ذلِكَ لايَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ^ وَمنْ آيَاتِهِ اَنْ تَقُومَ السَّمآءُ وَاْلاَرضُ بِاَمْـرِه ثـُمَّ اِذَا دَعـَاكـُمْ دَعْـوَةً مِنَ الاَرْضِ اِذا اَنْتُـمْ تَخرُجُونَ ^ وَلَهُ مَنْ فىِ السَّمواتِ وَاْلارْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ^ وَهُوَ الَّذى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ اَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمثَلُ الاَعْلى فىِ السَّمواتِ وَالارْضِ وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيمُ[ (الروم17 - 27)
سنُبيّن في هذا (الشعاع التاسع) برهاناً قوياً، وحجةً كبرى، لما تبينه هذه الآيات الكريمة من محور الايمان وقطبه، وهو الحشر، ومن البراهين السامية المقدسة الدالة عليه.
وانه لعناية ربانية لطيفة ان كتب (سعيد القديم)(1) قبل ثلاثين سنة في ختام مؤلّفه (محاكمات) الذي كتبه مقدمة لتفسير (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز) ما يأتي:
المقصد الثاني: سوف يفسر آيتين تبيّنان الحشر وتشيران اليه.
ولكنه ابتدأ بـ: نخو(2) بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم. وتوقف، ولم تتح له الكتابة.
فألف شكر وشكر للخالق الكريم وبعدد دلائل الحشر واماراته أن وفّقني لبيان ذلك التفسير بعد ثلاثين سنة. فأنعمَ سبحانه وتعالى عليّ بتفسير الآية الاولى:
] فَانْظُر اِلى آثَارِ رَحْمَـتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذَلِكَ لَمُحيىِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِِّ شَيءٍْ قَديرٌ[ (الروم: 50)
وذلك بعد نحو عشر سنوات، فأصبحت (الكلمة العاشرة) و (الكلمة التاسعة والعشرين) وهما حجتان ساطعتان قويتان اخرستا المنكرين الجاحدين..
وبعد حوالى عشر سنوات من بيان ذلك الحصن الحصين للحشر، أفاض عليّ سبحانه وتعالى وانعم بتفسير الآيات المتصدرة لهذا الشعاع، فكان هذه الرسالة.
فهذا (الشعاع التاسع) عبارة عن تسعة مقامات سامية مما اشارت اليها الآيات الكريمة مع مقدمة مهمة.
المقدمة
هذه المقدمة نقطتان:سنذكر اولاً وباختصار نتيجة واحدة جامعة من بين النتائج الحياتية والفوائد الروحية لعقيدة الحشر، مبينين مدى ضرورة هذه العقيدة للحياة الانسانية ولاسيما الاجتماعية.
ونورد كذلك حجة كلية واحدة - من بين الحجج العديدة لعقيدة الايمان بالحشر - مبينين ايضاً مدى بداهتها ووضوحها حيث لا يداخلها ريب ولا شبهة.
النقطة الأولى
سنشير الى أربعة أدلة على سبيل المثال وكنموذج قياسي من بين مئات الادلة على أن عقيدة الاخرة هي أس الاساس لحياة الانسان الاجتماعية والفردية، وأساس جميع كمالاته ومُثله وسعادته.
الدليل الأول:
ان الاطفال الذين يمثلون نصف البشرية، لا يمكنهم ان يتحمّلوا تلك الحالات التي تبدو مؤلمةً ومفجعة امامَهم من حالات الموت والوفاة اِلاّ بما يجدونه في انفسهم وكيانهم الرقيق اللطيف من القوة المعنوية الناشئة من ((الايمان بالجنة)). ذلك الايمان الذي يفتح باب الامل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود وتبكي لأدنى سبب. فيتمكنون به من العيش بهناء وفرح وسرور. فيحاور الطفل المؤمن بالجنة نفسه: أن اخي الصغير أو صديقي الحبيب الذي توفي، اصبح الآن طيراً من طيور الجنة، فهو اذن يسرح من الجنة حيث يشاء، ويعيش افضل واهنأ منّا. واِلاّ فلولا هذا الايمان بالجنة لهدم الموتُ الذي يصيب اطفالاً امثاله - وكذلك الكبار - تلــك القــوة المعنــوية لهــؤلاء الذين لا حيــلة لهم ولا قــوة، ولحطـّم نفسياتهم، ولدمّر حياتهم ونغَصها فتبكي عندئذٍ جميع جوارحــهم ولطـائفهم من روح وقلب وعقل مع بكاء عيونهم. فإما أن تموت احاسيسهم وتغلظ مشاعرهم أو يصبحوا كالحيوانات الضالة التعسة.
الدليل الثاني:
اِن الشيوخ الذين هم نصف البشرية، انما يتحملون ويصبرون وهم على شفير القبر بـ ((الايمان بالآخرة)). ولا يجدون الصبر والسلوان من قرب انطفاء شعلة حياتهم العزيزة عليهم، ولا من انغلاق باب دنياهم الحلوة الجميلة في وجوههم اِلاّ في ذلك الايمان. فهؤلاء الشيوخ الذين عادوا كالاطفال واصبحوا مرهفي الحس في أرواحهم وطبائعهم، انما يقابلون ذلك اليأس القاتل الأليم الناشئ من الموت والزوال، ويصبرون عليه بالأمل في الحياة الآخرة. والاّ فلولا هذا الايمان بالآخرة لشعر هؤلاء الآباء والامهات - الذين هم اجدر بالشفقة والرأفة والذين هم في أشد الحاجة الى الاطمئنان والسكينة والحياة الهادئة - ضراماً روحياً واضطراباً نفسياً وقلقاً قلبياً، ولضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، ولتحولت سجناً مظلماً رهيباً، ولانقلبت الحياة الى عذاب أليم قاسٍ.
الدليل الثالث:
ان الشباب والمراهقين الذين يمثلون محور الحياة الاجتماعية لا يهدّئ فورة مشاعرهم، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود الى الظلم والتخريب، ولا يمنع طيش انفسهم ونزواتها، ولا يؤمّن السير الافضل في علاقاتهم الاجتماعية الاّ الخوف من نار جهنم. فلولا هذا الخوف من عذاب جهنم لقلب هؤلاء المراهقون الطائشون الثملون بأهوائهم الدنيا الى جحيم تتأجج على الضعفاء والعجائز، حيث ((الحُكُم للغالب)) ولحوّلوا الحياة الانسانية السامية الى حياة حيوانية سافلة.
الدليل الرابع:
ان الحياة العائلية هي مركز تجمّع الحياة الدنيوية ولولبها وهي جنة سعادتها وقلعتها الحصينة وملجأها الامين. وان بيت كل فرد هو عالمَه ودنياه الخاصة. فلا سعادة لروح الحياة العائلية اِلاّ بالاحترام المتبادل الجاد والوفاء الخالص بين الجميع، والرأفة الصادقة والرحمة التي تصل الى حد التضحية والايثار. ولا يحصل هذا الاحترام الخالص والرحمة المتبادلة الوفية اِلاّ بالايمان بوجود علاقات صداقة أبدية، ورفقة دائمة، ومعيّة سرمدية، في زمن لا نهاية له، وتحت ظل حياة لا حدود لها، تربطها علاقات أبوّةٍ محترمة مرموقة، واخوةٍ خالصة نقية، وصداقةٍ وفيّة نزيهة، حيث يحدّث الزوجُ نفسه: ((ان زوجتي هذه رفيقة حياتي وصاحبتي في عالم الابد والحياة الخالدة، فلا ضير اِن اصبحت الان دميمة أو عجوزاً، اذ إن لها جمالاً أبدياً سيأتي، لذا فأنا مستعد لتقديم اقصى ما يستوجبه الوفاء والرأفة، وأضحي بكل ما تتطلبه تلك الصداقة الدائمة)).. وهكذا يمكن أن يكنّ هذا الرجل حباً ورحمة لزوجته العجوز كما يكنّه للحور العين. والاّ فان صحبة وصداقة صورية تستغرق ساعة أو ساعتين ومن ثم يعقبها فراق أبدي ومفارقة دائمة لهي صحبة وصداقة ظاهرية لا اساس لها ولا سند. ولا يمكنها ان تعطي الاّ رحمة مجازية، واحتراماً مصطنعاً، وعطفاً حيواني المشاعر، فضلاً عن تدخُل المصالح والشهوات النفسانية وسيطرتها على تلك الرحمة والاحترام فتنقلب عندئذٍ تلك الجنة الدنيوية الى جحيم لا يطاق.
وهكذا فان نتيجة واحدة للايمان بالحشر من بين مئات النتائج التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للانسان، وتعود اليها، والتي لها مئات الأوجه والفوائد، اذا ما قيست على تلك الدلائل الاربعة المذكورة آنفاً، يُدرك أن وقوع حقيقة الحشر وتحققها قطعي كقطعية ثبوت حقيقة الانسان السامية وحاجاته الكلية. بل هي اظهر دلالة من حاجة المعدة الى الاطعمة والاغذية، واوضح شهادةً منها. ويمكن ان يقدّر مدى تحققها تحققاً أعمق واكثر اذا ما سلبت الانسانية من هذه الحقيقة، الحشر، حيث تصبح ماهيتها التي هي سامية ومهمة وحيوية بمثابة جيفة نتنة ومأوى الميكروبات والجراثيم.
فليلق السمعَ علماء الاجتماع والسياسة والاخلاق من المعنيين بشؤون الانسان واخلاقه واجتماعه، وليأتوا ويبينوا بماذا سيملأون هذا الفراغ؟ وبماذا سيداوون ويضمدون هذه الجروح الغائرة العميقة؟!
النقطة الثانية
تبين هذه النقطة بايجاز شديد برهاناً واحداً - من بين البراهين التي لا حصر لها - على حقيقة الحشر وهو ناشئ من خلاصة شهادة سائر الاركان الايمانية. وعلى النحو الآتي.
ان جميع المعجزات الدالة على رسالة سيدنا محمد e مع جميع دلائل نبوته وجميع البراهين الدالة على صدقه، تشهد بمجموعها معاً، على حقيقة الحشر، وتدل عليها وتثبتها، لأن دعوته e طوال حياته المباركة قد انصبّت بعد التوحيد على الحشر. وأن جميع معجزاته وحججه الدالة على صدق الانبياء عليهم السلام - وتحمل الآخرين على تصديقهم - تشهد على الحقيقة نفسها، وهي الحشر. وكذا شهادة ((الكتب المنزلة)) التي رقّت الشهادة الصادرة من ((الرسل الكرام)) الى درجة البداهة، تشهدان على الحقيقة نفسها. وعلى النحو الآتي:
فالقرآن الكريم - ذو البيان المعجز - يشهد بجميع معجزاته وحججه وحقائقه - التي تثبت أحقيته - على حدوث الحشر ويثبته، حيث ان ثُلث القرآن بأكمله، وأوائل أغلب السور القصار، آيات جلية على الحشر. أي أن القرآن الكريم ينبئ عن الحقيقة نفسِها بآلاف من آياته الكريمة صراحة أو اشارةً ويثبتها بوضوح، ويظهرها بجلاء. فمثلاً:
] اذا الشمسُ كُوّرت[
] يا ايها الناسُ اتقوا ربَّكم ان زلزلة الساعة شيءٌ عظيم[
] اذا زلزلت الارض زلزالها[
] اذا السماءُ انفطرت[
] اذا السماء انشقت[
] عمّ يتساءلون[
] هل اتاك حديثُ الغاشية[
فيثبت القرآن الكريم بهذه الآيات وأمثالها في مفتتح ما يقارب أربعين سورة ان الحشر لا ريب فيه، وأنه حَدثٌ في غاية الأهمية في الكون، وان حدوثه ضروري جداً ولابد منه، ويبين بالآيات الأخرى دلائل مختلفة مقنعة على تلك الحقيقة.
تُرى ان كان كتاب تثمر اشارةٌ واحدةٌ لآيةٍ من آياتِه تلك الحقائق العلمية والكونية المعروفـة بالعـلـوم الاسـلامية، فكيـف اذن بشهادة آلاف من آيـاته ودلائـله التي تبين الايمان بالحشر كالشمس ساطعة؟ ألا يكون الجحود بهذا الايمان كانكار الشمس بل كانكار الكائنات قاطبة؟! ألا يكون ذلك باطلاً ومحالاً في مائة محال؟!
تُرى هل يمكن ان يوصَم آلاف الوعد والوعيد لكلام سلطان عزيز عظيم بالكذب أو انها بلا حقيقة، في حين قد يخوض الجيش غمار الحرب لئلا تُكذَّب اشارةٌ صادرة من سلطان.
فكيف بالسلطان المعنوي العظيم الذي دام حكمه وهيمنته ثلاثة عشر قرناً دون انقطاع، فربّى ما لا تعد من الارواح والعقول والقلوب والنفوس، وزكّاها وأدارها على الحق والحقيقة، ألا تكفي اشارة واحدة منه لإثبات حقيقة الحشر؟ علماً أن فيه آلاف الصراحة الواضحة المثبتة! أليس الذي لا يدرك هذه الحقيقة الواضحة احمقَ جاهلاً؟ ألا يكون من العدالة المحضة ان تكون النار مثواه؟
ثم ان الصحف السماوية والكتب المقدسة جميعها التي حكَمت كل منها لفترة من العصور والازمنة، قد صدّقت بآلاف من الدلائل دعوى القرآن الكريم في حقيقة الحشر مع ان بيانها لها مختصر وموجز، وذلك بمقتضى زمانها وعصرها، تلك الحقيقة القاطعة التي بيّنها القرآن الكريم الذي ساد حكمه على العصور جميعها، وهيمن على المستقبل كله، بيّنها بجلاء وافاض في ايضاحها.
يُدرج هنا نص ما جاء في آخر رسالة (المناجاة) انسجاماً مع البحث، تلك الحجة القاطعة الملخَّصة للحشر، والناشئة من شهادة سائر الاركان الايمانية ودلائلها على الايمان باليوم الآخر، ولاسيما الايمان بالرسل والكتب، والتي تبدد الاوهام والشكوك، حيث جاءت باسلوب موجز، وعلى صورة مناجاة.
((يا ربي الرحيم.. لقد أدركتُ بتعليم الرسول e وفهمتُ من تدريس القرآن الحكيم، ان الكتبَ المقدسة جميعها، وفي مقدمتها القرآن الكريم، والأنبياءَ عليهم السلام جميعهم، وفي مقدمتهم الرسول الاكرم e ، يدلّون ويشهدون ويشيرون بالاجماع والاتفاق الى ان تجليات الاسماء الحسنى - ذات الجلال والجمال - الظاهرةَ آثارُها في هذه الدنيا، وفي العوالم كافة، ستدوم دواماً اسطعَ وأبهرَ في أبد الآباد.. وان تجلياتها - ذات الرحمة - وآلاءها المــشاهدة نمـاذجــها في هذا العـالم الفاني، ستثمر بابهى نور واعظم تألق، وستبقى دوماً في دار السعادة.. وان اولئك المشتاقين الذين يتــملّونها - في هــذه الحيــاة الدنيا القصــيرة - بلهفــةٍ وشــوق سيرافـقـونـها بالمحبة والودّ، ويصحبونها الى الابد، ويظلون معها خالدين.. وان جميع الانبياء وهم ذوو الارواح النيرة وفي مقدمتهم الرسول الاكرم e ، وجميع الأولياء وهم اقطاب ذوي القلوب المنورة، وجميع الصديقين وهم منابع العقول النافذة النيّرة، كل اولئك يؤمنون ايماناً راسخاً عميقاً بالحشر ويشهدون عليه ويبشرون البشرية بالسعادة الابدية، وينذرون اهل الضلالة بأن مصيرهم النار، ويبشرون أهل الهداية بأن عاقبتهم الجنة، مستندين الى مئات المعجزات الباهرة والآيات القاطعة، والى ما ذكرتَه انت يا ربي مراراً وتكراراً في الصحف السماوية والكتب المقدسة كلها من آلاف الوعد والوعيد. ومعتمدين على عزة جلالك وسلطان ربوبيتك، وشؤونك الجليلة، وصفاتك المقدسة كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال وبناءً على مشاهداتهم وكشفياتهم غير المعدودة التي تنبئ عن آثار الآخرة ورشحاتها. وبناءً على ايمانهم واعتقادهم الجازم الذي هو بدرجة علم اليقين وعين اليقين.
فيا قدير ويا حكيم ويا رحمن ويا رحيم ويا صادق الوعد الكريم، ويا ذا العزة والعظمة والجلال ويا قهار ذو الجلال. انت مقدّس ومنزّهٌ، وانت متعال عن ان تُوصِم بالكذب كل أوليائك وكل وعودك وصفاتك الجليلة وشؤونك المقدسة.. فتكذّبهم، أو تحجب ما يقتضيه قطعاً سلطان ربوبيتك بعدم استجابتك لتلك الأدعية الصادرة من عبادك الصالحين الذين احببتهم واحبّوك، وحبّبوا انفسهم اليك بالايمان والتصديق والطاعة، فانت منزّه ومتعال مطلق عن أن تصدّق أهل الضلالة والكفر في انكارهم الحشر، اولئك الذين يتجاوزون على عظمتك وكبريائك بكفرهم وعصيانهم وتكذيبهم لك ولوعودك، والذين يستخفّون بعزة جلالك وعظمة ألوهيتك ورأفة ربوبيتك..
فنحن نقدّس بلا حد ولا نهاية عدالتَك وجمالك المطلقين ورحمتك الواسعة وننزّهها من هذا الظلم والقبح غير المتناهي..
ونعتقد ونؤمن بكل ما اوتينا من قوة بأن الآلاف من الرسل والأنبياء الكرام، وبما لا يعدّ ولا يحصى من الاصفياء والأولياء الذين هم المنادون اليك هم شاهدون بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين على خزائن رحمتك الأخروية وكنوز احساناتك في عالم البقاء، وتجليات اسمائك الحسنى التي تنكشف كلياً في دار السعادة..
ونؤمن ان هذه الشهادة حق وحقيقة، وان اشاراتهم صدق وواقع، وان بشاراتهم صادقة وواقعة.. فهؤلاء جميعاً يؤمنون بأن هذه الحقيقة الكبرى - أي الحشر - شعاع عظيم من اسم ((الحق)) الذي هو مرجع جميع الحقائق وشمسها، فيرشدون عبادك - باذن منك - ضمن دائرة الحق، ويعلمونهم بعين الحقيقة.
فيا ربي! بحق دروس هؤلاء، وبحرمة ارشاداتهم، آتنا ايماناً كاملاً وارزقنا حسن الخاتمة، لنا ولطلاب النور، واجعلنا اهلاً لشفاعتهم... آمين)).
وهكذا فان الدلائل والحجج التي تثبت صدق القرآن الكريم بل جميع الكتب السماوية، وان المعجزات والبراهين التي تثبت نبوة حبيب الله بل الانبياء جميعهم، تثبت بدورها أهم ما يدعون اليه، وهو تحقق الآخرة وتدل عليها. كما ان اغلب الادلة والحجج الشاهدة على وجوب واجب الوجود ووحدته سبحانه، هي بدورها شاهدة على دار السعادة وعالم البقاء التي هي مدار الربوبية والالوهية وأعظم مظهر لهما، وهي شاهدة على وجود تلك الدار وانفتاح أبوابها - كما سيُبين في المقامات الآتية - لأن وجوده سبحانه وتعالى، وصفاته الجليلة، وأغلب اسمائه الحسنى، وشؤونه الحكيمة، وأوصافه المقدسة أمثال الربوبية والالوهية والرحمة والعناية والحكمة والعدالة تقتضي جميعها الآخرة وتلازمها، بل تستلزم وجود عالم البقاء بدرجة الوجوب وتطلب الحشر والنشور للثواب والعقاب بدرجة الضرورة أيضاً.
نعم، ما دام الله موجوداً، وهو واحد، أزلي أبدي، فلابد ان محور سلطان الوهيته وهو الآخرة، موجود ايضاً.. وما دامت الربوبية المطلقة تتجلى في هذه الكائنات ولا سيما في الاحياء وهي ذات جلال وعظمة وحكمة ورأفة ظاهرة واضحة، فلابد أن هناك سعادة أبدية تنفي عن الربوبية المطلقة أيّ ظن بكونها تترك الخلق هملاً دون ثواب، وتبرئ الحكمة من العبث، وتصون الرأفة من الغدر. أي أن تلك الدار موجودة قطعاً ولابد من الدخول فيها.
وما دامت هذه الأنواع من الإنعام والاحسان واللطف والكرم والعناية والرحمة مشاهدة وظاهرة أمام العقول التي لم تنطفئ، وامام القــلوب الـتي لــم تمـت، وتدلّنا على وجوب وجود رب رحمن رحيم وراء الحجاب، فلابد من حياة باقية خالدة، لتنقذ الإنعامَ من الاستهزاء أي يأخذ الانعام مداه، وتصون الاحسان من الخداع ليستوفي حقيقته، وتنقذ العناية من العبث لتـستكمل تحقـقها، وتنجي الرحمــة من النقمة فيتم وجوهها، وتبرىء اللطف والكرم من الاهانة ليفيضا على العباد. نعم، ان الذي يجعل الاحسان احساناً حقاً، والنعمة نعمةً حقاً، هو وجود حياةٍ باقيةٍ خالدةٍ في عالم البقاء والخلود.. نعم، لابد ان يتحقق هذا.
وما دام قلم القدرة الذي يكتب في فصل الربيع وفي صحيفة ضيقة صغيرة، مائة الف كتاب، كتابةً متداخلة بلا خطأ ولا نصب ولا تعب، كما هو واضح جليٌ امام اعيننا. وان صاحب ذلك القلم قد تعهّد ووعد مائة ألف مرة لأكتبنّ كتاباً اسهل من كتاب الربيع المكتوب أمامكم ولأكتبنّه كتابةً خالدة، في مكان اوسع وارحبَ وأجملَ من هذا المكان الضيق المختلط المتداخل.. فهو كتاب لا يفنى ابداً، ولأجعلنكم تقرأونه بحيرة واعجاب!. وانه سبحانه يذكر ذلك الكتاب في جميع أوامره، اي ان اصول ذلك الكتاب قد كُتبت بلا ريب، وستُكتب حواشيه وهوامشه بالحشر والنشور، وستدوّن فيه صحائف اعمال الجميع..
وما دامت هذه الارض قد اصبحت ذات اهمية عظمى من حيث احتواؤها على كثرة المخلوقات، ومئات الالوف من انواع ذوي الحياة والأرواح المختلفة المتبدلة، حتى صارت قلب الكون وخلاصته، ومركزه وزبدته ونتيجته وسبب خلقه. فذُكرت دائماً صنواً للسماوات كما في ] رَبُّ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ[ في جميع الأوامر السماوية...
وما دام ابن آدم يحكم في شتى جهات هذه الارض - التي لها هذه الماهيات والخواص - ويتصرف في اغلب مخلوقاتها مسخِّراً اكثر الاحياء له، جاعلاً اكثر المصنوعات تحوم حوله وفق مقاييسه وهواه، وحسب حاجاته الفطرية، وينظمها ويعرضها ويزيّنها، وينسّق الأنواع العجيبة منها في كل مكان بحيث لا يلفت نظر الانس والجن وحدهم، بل يلفت ايضاً نظر أهل السموات والكون قاطبة، بل حتى نظر مالك الكون، فنال الاعجاب والتقدير والاستحسان، وأصبحت له - من هذه الجهة - أهمية عظيمة، وقيمة عالية، فاظهر بما أوتي من علم ومهارة انه هو المقصود من حكمة خلق الكائنات، وأنه هو نتيجتها العظمى وثمرتها النفيسة، ولا غرو فهو خليفة الارض..وحيث أنه يعرض صنائع الخالق البديعة، وينظّمها بشكل جميل جذاب في هذه الدنيا، فقد اُجّل عذابه على عصيانه وكفره، وسُـمح له بالعيش في الدنيا واُمهل ليقوم بهذه المهمة بنجاح..
وما دام لابن آدم - الذي له هذه الماهية والمزايا خلقةً وطبعاً، وله حاجات لا تُحدّ مع ضعفه الشديد، وآلام لا تُعدّ مع عجزه الكامل - ربٌ قدير، له القدرة والرأفة المطلقة مما يجعل هذه الارض الهائلة العظيمة مخزناً عظيماً لأنواع المعادن التي يحتاجها الانسان، ومستودعاً لأنواع الاطعمة الضرورية له، وحانوتاً للأموال المختلفة التي يرغبها، وانه سبحانه ينظر اليه بعين العناية والرأفة ويربيه ويزوده بما يريد...
وما دام الرب سبحانه - كما في هذه الحقيقة - يحبّ الانسان، ويحبّب نفسه اليه، وهو باقٍ، وله عوالم باقية، ويُجري الامور وفق عدالته، ويعمل كل شئ وفق حكمته، وان عظمة سلطان هذا الخالق الأزلي وسرمدية حاكميته لا تحصرهما هذه الدنيا القصيرة، ولا يكفيهما عمر الانسان القصير جداً، ولا عمر هذه الارض المؤقتة الفانية. حيث يظل الانسان دون جزاء في هذه الدنيا لما يرتكبه من وقائع الظلم، وما يقترفه من انكار وكفر وعصيان، تجاه مولاه الذي انعم عليه ورباه برأفة كاملة وشفقة تامة، مما ينافي نظام الكون المنسّق، ويخالف العدالة والموازنة الكاملة التي فيها، ويخالف جماله وحسُنه، اذ يقضي الظالم القاسي حياته براحة، بينما المظلوم البائس يقضيها بشظف من العيش. فلا شك ان ماهية تلك العدالة المطلقة - التي يشاهد آثارها في الكائنات - لا تقبل أبداً، ولا ترضى مطلقاً، عدم بعث الظالمين العتاة مع المظلومين البائسين الذين يتساوون معاً امام الموت.
وما دام مالك الملك قد اختار الارض من الكون، واختار الانسان من الارض، ووهب له مكانة سامية، وأولاه الاهتمام والعناية، واختار الانبياء والأولياء والأصفياء من بين الناس، وهم الذين انسجموا مع المقاصد الربانية، وحبّبوا انفسهم اليه بالايمان والتسليم، وجعلهم أولياءه المحبوبين المخاطبين له، واكرمهم بالمعجزات والتوفيق في الأعمال وأدّب اعداءهم بالصفعات السماوية، واصطفى من بين هؤلاء المحبوبين إمامَهم ورمزَ فخرهم واعتزازهم، ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم . فنوّر بنوره نصف الكرة الأرضية ذات الأهمية، وخُمس البشرية ذوي الأهمية، طوال قرون عدة، حتى كأن الكائنات قد خُلقت لأجله، لبروز غاياتها جمـيعاً به، وظهورهـا بالدين الـذي بُعث به، وانجلائها بالقرآن الـذي اُنزل عليه. فبينما يستــحق أن يكافأ على خدماته الجليلة غير المحدودة بعمرٍ مديد غيـر محدود وهو أهـلٌ له، اِلاّ أنه قضى عمراً قصيراً وهو ثلاث وستون سنة في مجاهدة ونصَب وتعب! فهل يمكن، وهلٌ يعقل مطلقاً، وهل هناك أي احتمال ألاّ يُبـعَث هو وأمــثــاله وأحبـاؤه معاً؟! وألاّ يــكون الآن حياً بروحه؟! وان يفنى نهائياً ويصير الى العدم؟ كلا.. ثم كلا.. وحاشاه ألف ألف مرة. نعم، ان الكون وجميع حقائق العالم يدعو الى بعثه ويريده ويطلب من رب الكون حياتَه.
ولقد بيّنتْ رسالة ((الآية الكبرى)) وهي الشعاع السابع واثبتت بثلاثة وثلاثين اجماعاً عظيماً، كل منه كالجبل الأشم في قوة حجّته، بأن هذا الكون لم يصدر اِلاّ من يد واحدٍ أحد، وليس ملكاً اِلا لواحد احد. فاظهرت التوحيد - بتلك البراهين والمراتب بداهةً - انه محور الكمال الآلهي وقطبه. وبيّنت أنه بالوحدة والأحدية يتحول جميعُ الكون بمثابة جنودٍ مستنفرين لذلك الواحد الاحد، وموظفين مسخّرين له. وبمجئ الآخرة ووجودها تتحقق كمالاته وتصان من السقوط وتسود عدالته المطلقة، وتنجو من الظلم، وتُنزّه حكمته العامة وتبرأ من العبث والسفاهة، وتأخذ رحمتُه الواسعة مداها، وتُنقذ من التعذيب المشين. وتبدو عزته وقدرته المطلقتان وتُنقَذان من العجز الذليل. وتتقدّس كل صفة من صفاته سبحانه وتتجلى منزّهة جليلة.
فلابد ولا ريب مطلقاً أن القيامة ستقوم، وان الحشر والنشور سيحدث، وان أبواب دار الثواب والعقاب ستُفتح، بمقتضى ما في حقائق هذه الفقرات الثمانية المذكورة المبتدئة بـ ((ما دام)) التي هي مسألة دقيقة ونكتة ذات مغزى لطيف من بين مئات النكات الدقيقة للايمان بالله؛ وذلك: كي تتحقق اهمية الارض ومركزيتها، وأهمية الانسانية ومكانتها.. ولكي تتقرر عدالة رب الارض والانسان وحكمته ورحمته وسلطانه.. ولكي ينجو الاولياء والاحبّاء الحقيقيون والمشتاقون الى الرب الباقي من الفناء والاعدام الأبدي.. ولكي يرى اعظمُهم وأحبّهم وأعزّهم ثوابَ عمله، ونتائج خدماته الجليلة التي جعلت الكائنات في امتنان ورضى دائمين.. ولكي يتقدس كمال السلطان السرمدي من النقص والتقصير، وتتنزّه قدرتُه من العجز، وتبرأ حكمتُه من السفاهة، وتتعالى عدالته عن الظلم.
والخلاصة: ما دام الله جل جلاله موجوداً فان الآخرة لا ريب فيها مطلقاً.
وكما تثبت الاركان الايمانية الثلاثة - المذكورة آنفاً - الحشرَ بجميع دلائلها وتشهد عليه. كذلك يستلزم الركنان الايمانيان ((وبملئكته، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى)) أيضاً الحشرَ، ويشهدان شهادة قوية على العالم الباقي ويدلان عليه على النحو الآتي:
ان جميع الدلائل والمشاهدات والمكالمات الدالة على وجود الملائكة ووظائف عبوديتهم، هي بدورها دلائل على وجود عالم الأرواح وعالم الغيب وعالم البقاء وعالم الآخرة ودار السعادة والجنة والنار اللتين ستعمران بالجن والانس، لان الملائكة يمكنهم - بإذن إلهي - ان يشاهدوا هذه العوالم ويدخلوها، لذا فالملائكة المقربون يخبرون بالاتفاق - كجبريل عليه السلام الذي قابل البشر - بوجود تلك العوالم المذكورة وتجوالهم فيها. فكما اننا نعلم بديهة وجود قارة امريكا التي لم نرها من كلام القادمين منها، كذلك يكون الايمان بديهة بما اخبرت به الملائكة - وهو بقوة مائة تواتر - عن وجود عالم البقاء ودار الآخرة والجنة والنار... وهكذا نؤمن ونصدق.
وكذلك الدلائل التي تثبت ((الايمان بالقدر)) - كما جاءت في رسالة القدر ((الكلمة السادسة والعشرين)) هي بدورها دلائل على الحشر ونشر الصحف وموازنة الاعمال عند الميزان الاكبر، ذلك لأن ما نراه أمام أعيننا من تدوين مقدّرات كل شئ على ألواح النظام والميزان، وكتابة احداث الحياة ووقائعها لكل ذي حياة في قواه الحافظة، وفي حبوبه ونواه، وفي سائر الالواح المثالية. وتثبيت دفاتر الاعمال لكل ذي روح ولا سيما الانسان، واقرارها في ألواح محفوظة.. كل هذا القدر من القَدَر المحيط، ومن التقدير الحكيم، ومن التدوين الدقيق، ومن الكتابة الأمينة، لا يمكن أن يكون الاّ لأجل محكمة كبرى، ولنيل ثواب وعقاب دائمين. والاّ فلا يبقى مغزى ولا فائدة أبداً، لذلك التدوين المحيط والكتابة التي تسجل وتحفظ أدق الامور. فيقع اذن ما هو خلاف الحكمة والحقيقة. أي اِنْ لم يحدث الحشر فان جميع معاني كتاب الكون الحقة التي كتبت بقلم القَدَر سوف تمسخ وتفسد! وهذا لا يمكن ان يكون مطلقاً، وليس له احتمال ابداً، بل هو محال في محال. كإنكار هذا الكون، بل هو هذيان ليس اِلاّ.
نحصل مما تقدم: ان جميع دلائل اركان الايمان الخمسة هي بدورها دلائل على الحشر ووجوده، وعلى النشور وحدوثه، وعلى وجود الدار الآخرة وانفتاح ابوابها. بل تستدعيه وتشهد عليه، لذا فانه من الوفاق الكامل والانسجام التام ان يبحث ثلث القرآن الكريم المعجز البيان بكامله عن الحشر لما له من الاسس والبراهين التي لا تتزعزع، ويجعله اساساً وركيزة لجميع حقائقه التي يرفعها على ذلك الحجر الاساس.
(انتهت المقدمة)

عبدالرزاق 02-02-2011 01:33 AM

رد: الكلمات
 
القطعة الثانية

من الذيل

هي المقام الاول من تسعة مقامات لطبقات البراهين التسع التي تدور حول الحشر والتي أشارت اليها باعجاز الآية الكريمة الآتية:



] فَسبحانَ الله حين تُمسون وحين تُصبحون ^ وله الحمدُ في السموات والارض وَعَشياً وحين تُظهرون^ يُخرج الحيَّ من الميتِ ويُخرج الميتَ من الحي ويُحيي الارضَ بعد موتها وكذلك تخرجون[ (الروم: 17 - 19)

سيُبيَّن - ان شاء الله - ما اظهرته هذه الآيات الكريمة من البرهان الباهر والحجة القاطعة للحشر(1).

ولقد بيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة، ان الحياة تثبت اركان الايمان الستة، وتتوجه نحوها وتشير الى تحقيقها.

نعم! فما دامت (الحياة) هي حكمة خلق الكائنات، واهم نتيجتها وجوهرها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل أن الخواص التسع والعشرين للحياة وعظمة ماهيتها، وما يُفهم من غاية شجرتها ونتيجتها، وثمرتها الجديرة بعظمة تلك الشجرة، ما هي اِلاّ الحياة الأبدية والحياة الآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. والاّ يلزم ان تظل شجرة الحياة المجهَّزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور - ولا سيما الانسان - دون ثمر ولا فائدة ولا حقيقة، ولظل الانسان تعساً وشقياً وذليلاً وأحط من العصفور بعشرين درجة، بالنسبة لسعادة الحياة، مع أنه أسمى مخلوق وأكرم ذوي الحياة وارفع من العصفور بعشرين درجة.

بل العقل الذي هو أثمن نعمة يصبح بلاءً ومصيبة على الانسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل، فيعذّب قلبَه دائماً معكراً صفو لذة واحدة بتسعة آلام!. ولاشك أن هذا باطل مائة في المائة.

فهذه الحياة الدنيا اذن تثبت ركن (الايمان بالآخرة) اثباتاً قاطعاً بما تظهر لنا في كل ربيع اكثر من ثلاثمائة الف نموذج من نماذج الحشر.

فيا ترى هل يمكن لربّ قدير، يهئ ما يلزم حياتك من الحاجات المتعلقة بها جميعاً ويوفر لك اجهزتها كلها سواءٌ في جسمك أو في حديقتك أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى أنه يعلم رغبة معدتك فيما يكفل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مبُدياً قبوله لذلك الدعاء بما بثّ من الاطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئن تلك المعدة ! فهل يمكن لهذا المدبّر القدير ان لا يعرفك؟ ولا يراك؟ ولا يهئ الاسباب الضرورية لأعظم غاية للانسان وهي الحياة الأبدية؟ ولا يستجيب لأعظم دعاء وأهمه وأعمّه، وهو دعاء البقاء والخلود؟ ولا يقبله بعدم انشائه الحياة الآخرة وايجاد الجنة؟ ولا يسمع دعاء هذا الانسان وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الارض ونتيجتها.. ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الاعماق، والذي يهز العرش والفرش! فهل يمكن ان لا يهتم به اهتمامَه بدعاء المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الانسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمته المطلقة للانكار؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا.

وهل يعقل ان يسمع اخفت صوت لأدنى جزء من الحياة فيستمع لشكواه ويسعفه، ويحلم عليه ويربيه بعناية كاملة ورعاية تامة وباهتمام بالغ مسخراً له اكبر مخلوقاته في الكون، ثم لا يسمع صوتاً كهزيم السماء لأعظم حياة وأسماها وألطفها وأدومها؟ وهل يعقل ألاّ يهتم بدعائه المهم وهو دعاء البقاء، وألاّ ينظر الى تضرعه ورجائه وتوسله؟ ويكون كمن يجهز بعناية كاملة جندياً واحداً بالعتاد، ولا يرعى الجيش الجرار الموالي له !! وكمن يرى الذرة ولا يرى الشمس! أو كمن يسمع طنين الذباب ولا يسمع رعود السماء! حاشَ لله مائة ألف مرة حاشَ لله.

وهل يقبل العقل - بوجه من الاوجه - ان القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعته كثيراً، ويحبّب نفسه بها الى مخلوقاته وهو أشد حباً لمن يحبونه، فهل يعقل ان يُفني حياة مَن هو اكثر حباً له، وهو المحبوب، وأهلٌ للحب، وعابدٌ لخالقه فطرةً؟ ويُفني كذلك لب الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي والاعدام النهائي!! ويولّد جفوة بينه وبين محبيه ويؤلمهم أشد الايلام! فيجعل سر رحمته ونور محبته معرّضاً للانكار! حاشَ لله ألف مرة حاش للّه... فالجمال المطلق الذي زيّن بتجليه هذا الكون وجمّله، والرحمة المطلقة التي أبهجت المخلوقات قاطبة وزيّنتها، لاشك انهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حد عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق والظلم المطلق.

النتيجة:

ما دامت في الدنيا حياة، فلابد ان الذين يفهمون سر الحياة من البشر، ولا يسيئون استعمال حياتهم، يكونون اهلاً لحياة باقية، في دار باقية وفي جنة باقية... آمنا.

* * *

ثم، ان تلألؤ المواد اللماعة على سطح الارض، وتلمّع الفقاعات والحباب والزبد على سطح البحر، ثم انطفاء ذلك التلألؤ والبريق بزوال الفقاعات ولمعان التي تعقبها كأنها مرايا لشُميسات خيالية يظهر لنا بداهة ان تلك اللمعات ما هي اِلاّ تجلي انعكاس شمسٍ واحدة عالية. وتذكر بمختلف الالسنة وجود الشمس، وتشير اليها بأصابع من نور.. وكذلك الامر في تلألؤ ذوي الحياة على سطح الارض وفي البحر، بالقدرة الإلهية وبتجلّى اسم ((المحيي)) للحي القيوم جلّ جلاله، واختفائها وراء ستار الغيب لفسح المجال للذي يخلفها - بعد أن ردّدت ((يا حي)) - ما هي اِلاّ شهادات واشارات للحياة السرمدية ولوجوب وجود الحي القيوم سبحانه وتعالى.

وكذا، فان جميع الدلائل التي تشهد على العلم الإلهي الذي تُشاهَد آثاره من تنظيم الموجودات، وجميع البراهين التي تثبت القدرة المتصرفة في الكون، وجميع الحجج التي تثبت الارادة والمشيئة المهيمنة على ادارة الكون وتنظيمه، وجميع العلامات والمعجزات التي تثبت الرسالات التي هي مدار الكلام الرباني والوحي الإلهي.. جميع هذه الدلائل التي تشهد وتدلّ على الصفات الإلهية السبع الجليلة، تدل وتشهد أيضاً بالاتفاق على حياة ((الحي القيوم)) سبحانه؛ لأنه لو وجدت الرؤية في شئ فلابد أن له حياة أيضاً، ولو كان له سمع فذلك علامة الحياة، ولو وجد الكلام فهو اشارة الى وجود الحياة، ولو كان هناك الاختيار والارادة فتلك مظاهر الحياة.. وهكذا فان جميع دلائل الصفات الجليلة التي تشاهد آثارها ويُعلم بداهة وجودها الحقيقي، أمثال القدرة المطلقة، والارادة الشاملة، والعلم المحيط، تدل على حياة ((الحي القيوم)) ووجوب وجوده، وتشهد على حياته السرمدية التي نوّرت بشعاعٍ منها جميعَ الكون وأحيَت بتجلٍ منها الدار الآخرة كلها بذراتها معاً..

* * *

والحياة كذلك تنظر وتدل على الركن الايماني (الايمان بالملائكة) وتثبته رمزاً.

اذ ما دامت الحياة هي أهم نتيجةٍ للكون، وان ذوي الحياة لنفاستهم هم اكثر انتشاراً وتكاثراً، وهم الذين يتتابعون الى دار ضيافة الارض قافلة إثر قافلة، فتعمّر بهم وتبتهج. وما دامت الكرة الأرضية هي محط هذا السيل من ذوي الحياة، فتملأ وتخلى بحكمة التجديد والتكاثر باستمرار، ويُخلق في أخس الاشياء والعفونات ذوو حياة بغزارة، حتى اصبحت الكرة الأرضية معرضاً عاماً للاحياء.. وما دام يُخلق بكثرة هائلة على الأرض أصفى خلاصة لترشح الحياة وهو الشعور والعقل والروح اللطيفة ذات الجوهر الثابت، فكأن الأرض تحيا وتتجمل بالحياة والعقل والشعور والارواح.. فلا يمكن ان تكون الاجرام السماوية التي هي اكثر لطافة واكثر نوراً وأعظم أهمية من الارض جامدة بلا حياة وبلا شعور. فالذين سيعمّرون السماوات اذن يعمرونها ويبهجون الشموس والنجوم، ويهبون لها الحيوية، ويمثلون نتيجة خلق السماوات وثمرتها، والذين سيتشرفون بالخطابات السبحانية، هم ذوو شعور وذوو حياة من سكان السموات وأهاليها المتلائمين معها حيث يوجدون هناك بسرّ الحياة، وهم الملائكة.

* * *

وكذلك ينظر سر الحياة وماهيتها ويتوجه الى ((الايمان بالرسل)) ويثبته رمزاً.

نعم! ما دام الكون قد خُلق لأجل الحيـاة، وان الحيــاة هــي اعظـم تجل واكمل نقش وأجمل صنعة للحي القيوم جـلّ جلاله، وما دامت حياته الســرمدية الخـالدة تظهر وتكشف عن نفسها بارسال الرســل وانـزال الكتب. اِذ لو لم تكن هناك ((رسل)) ولا ((كتب)) لما عُرفت تلك الحياة الازلية، فكما ان تكلم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الانبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنزلة عليهم، يبـيـنون ويدلون على ذلك المتكلم الحي الذي يأمر وينهى بكلماته وخطاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد ان الحياة التي في الكون تدل دلالة قاطعة على ((الحي الازلي)) سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده،كما أن شعاعات الحياة الازلية كذلك وتجلياتها تنظر وتتوجه الى مالها ارتباطات وعلاقات معها من اركان الايمان مثل (ارسال الرسل) و (انزال الكتب) وتثبتهما رمزاً، ولا سيما ((الرسالة المحمدية)) و ((الوحي القرآني)). اذ يصح القول: انهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت الحياة، حيث انهما بمثابة روح الحياة وعقلها.

نعم، كما ان الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة. كذلك الحياة المحمدية - المادية والمعنوية - مترشحة من الحياة ومن روح الكون، فهي خلاصة خلاصتها والرسالة المحمدية مترشحة من حسّ الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي اصفى خلاصته، بل ان حياة محمد e - المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل ... أجل... أجل.

فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، وأصطدمت باحدى سيارات الفـضاء، وقامت القيامة.

والحـيـاة كـذلك، تنظر الى الركـن الايماني ((الـقـدر)) وتدل عليــه وتثبـته رمــزاً؛ اذ ما دامت الحياة ضياءً لعالم الشهادة وقد استولت عليه وأحاطت به، وهي نتيجة الوجود وغايته، واوسع مرآةٍ لتجليات خالق الكون، وأتم فهرس ونموذج للفعالية الربانية، حتى كأنها بمثابة نوع من خطتها ومنهجها - اذا جاز التشبيه - فلابد أن سر الحياة يقتضي ان يكون عالم الغيب أيضاً - وهو بمعنى الماضي والمستقبل، أي المخلوقات الماضية والقابلة - في نظام وانتظام وان يكون معلوماً ومشــهوداً ومتـعيناً ومتهيأً لإمـتـثـال الأوامر الـتـكوينـية، أي كــأنه في حـياة معنوية. مَثَلُها كمثل تلك

البذرة الاصلية للشجرة وأصولها، والنوى والاثمار التي في منتهاها، التي تتميز بمزايا نوعٍ من الحياة كالشجرة نفسها. بل قد تحمل تلك البذور قوانين حياتية أدق من قوانين حياة الشجرة.

فكما أن البذور والأصول التي خلفها الخريف الماضي، وسيخلفها هذا الربيع تحمل نور الحياة وتسير وفق قوانين حياتية، مثل ما يحمله هذا الربيع من حياة، كذلك شجرة الكائنات، وكلُّ غصنٍ منه وكلُّ فرعٍ، له ماضيه ومستقبله، وله سلسلة مؤلفة من الاطوار والاوضاع، القابلة والماضية، ولكلّ نوعٍ ولكلّ جزء منه وجودٌ متعدد بأطوار مختلفة في العلم الإلهي، مشكلاً بذلك سلسلةَ وجودٍ علمي. والوجود العلمي هذا، الشبيه بالوجود الخارجي هو مظهرٌ لتجلٍ معنوي للحياة العامة، حيث تؤخذ المقدرات الحياتية من تلك الالواح القدرية الحية ذات المغزى العظيم.

نعم، ان امتلاء عالم الارواح - وهو نوع من عالم الغيب - بالارواح التي هي عين الحياة، ومادتها، وجوهرها وذواتها، يستلزم ان يكون الماضي والمستقبل - وهما نوعان من عالم الغيب وقسم ثان منه - متجلّية فيهما الحياة.. وكذا فان الانتظام التام والتناسق الكامل في الوجود العلمي الإلهي لأوضاع ذات معانٍ لطيفة لشئ ما ونتائجَه واطوارَه الحيوية ليبيّن ان له اهلية لنوع من الحياة المعنوية.

نعم، ان مثل هذا التجلي، تجلي الحياة الذي هو ضياء شمس الحياة الازلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، ولا في هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكل عالم من العوالم مظهراً من مظاهر تجلي ذلك الضياء حسب قابليته. فالكونُ اذن بجميع عوالمه، حيّ ومشع مضئ بذلك التجلي، وِالاّ لأصبح كل من العوالم - كما تراه عين الضلالة - جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الدنيا المؤقتة الظاهرة، وعالماً خرباً مظلماً.

وهكذا يُفهم وجهٌ من أوجه الايمان بالقضاء والقدر من سر الحياة ويثبت به ويتضح. أي كما تظهر حيوية عالم الشهادة والموجودات الحاضرة بانتظامها وبنتائجها، كذلك المخلوقات الماضية والآتية التي تعدّ من عالم الغيب لها وجود معنوي، ذو حياة معنى، ولها ثبوت علمي ذو روح بحيث يظهر باسم المقدرات اثر تلك الحياة المعنوية بوساطة لوح القضاء والقدر.

القطعة الثالثة

من الذيل

C سؤال يرد بمناسبة مبحث الحشر:

ان ما ورد في القرآن الكريم مراراً ] اِنْ كَانَتْ اِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً[ (يس:29)، ] وَمَآ اَمْرُ السَّاعَةِ اِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ [ (النحل:77) يـبين لنا ان الحشر الاعظم سيظهر فجأة الى الوجود، في آن واحد بلا زمان. ولكن العقول الضيقة تطلب امثلة واقعية مشهودة كي تقبل وتذعن لهذا الحدث الخارق جداً والمسألة التي لا مثيل لها.

الجواب: ان في الحشر ثلاث مسائل هي: عودةُ الارواح الى الاجساد، وإحياءُ الاجساد، وانشاء الاجساد وبناؤها.

المسألة الأولى: وهي مجئ الارواح وعودتها الى اجسادها ومثاله هو:

اجتماع الجنود المنتشرين في فترة الاستراحة والمتفرقين في شتى الجهات على الصوت المدوي للبوق العسكري.

نعم، ان الصور الذي هو بوق اسرافيل عليه السلام، ليس قاصراً عن البوق العسكري كما أن طاعة الارواح التي هي في جهة الأبد وعالم الذرات والتي أجابت بـ] قَالُوا:بَلى[ (الاعراف:172) عندما سمعت نداء ] اَلَسْتُ بِرَبِكُم[ (الاعراف: 172) المقبل من اعماق الازل ونظامها يفوق بلاشك أضعاف اضعاف ما عند أفراد الجيش المنظم. وقد اثبتت((الكلمة الثلاثون)) ببراهين دامغة ان الارواح ليست وحدها جيش سبحاني بل جميع الذرات ايضاً جنوده المتأهبون للنفير العام.

المسألة الثانية: وهي إحياء الاجساد. ومثالُه هو:

مثلما يمكن اِنارة مئات الآلاف من المصابيح الكهربائية ليلة مهرجان مدينة عظيمة، من مركز واحد في لحظة واحدة، كأنها بلا زمان. كذلك يمكن انارة مئات الملايين من مصابيح الأحياء وبعثها على سطح الارض من مركز واحد. فما دامت الكهرباء وهي مخلوقة من مخلوقات الله سبحانه وتعالى وخادمة إضاءة في دار ضيافته، لها هذه الخصائص والقدرة على القيام بأعمالها حسب ما تتلقاه من تعليمات وتبليغات ونظام من خالقها، فلابد ان الحشر الاعظم سيحدث كلمح البصر ضمن القوانين المنظمة الإلهية التي يمثلها آلاف الخدم المنوّرِين كالكهرباء.

المسألة الثالثة: وهي انشاء الاجساد فوراً ومثاله هو:

انشاء جميع الاشجار والاوراق التي يزيد عددها ألف مرة على مجموع البشرية، دفعة واحدة في غضون بضعة ايام في الربيع، وبشكل كامل، وبالهيئة نفسها التي كانت عليها في الربيع السابق.. وكذلك ايجاد جميع أزهار الاشجار وثمارها واوراقها بسرعة خاطفة، كما كانت في الربيع الماضي.. وكذلك تنبّه البُذيرات والنوى والبذور وهي لا تحصى ولا تعد والتي هي منشأ ذلك الربيع في آن واحد معاً وانكشافها واحياؤها.. وكذلك نشور الجثث المنتصبة والهياكل العظمية للاشجار، وامتثالها فوراً لأمر ((البعث بعد الموت)) .. وكذلك احياء افراد انواع الحيوانات الدقيقة وطوائفها التي لا حصر لها بمنتهى الدقة والاتقان.. وكذلك حشر أمم الحشرات ولا سيما الذباب (الماثل امام اعيننا والذي يذكرنا بالوضوء والنظافة لقيامه بتنظيف يديه وعيونه وجناحيه باستمرار وملاطفته وجوهنا) الذي يفوق عدد ما ينشر منه في سنة واحدة عدد بنى آدم جميعهم من لدن آدم عليه السلام.. فحشر هذه الحشرة في كل ربيع مع سائر الحشرات الاخرى واحياؤها في بضعة ايام، لا يعطي مثالاً واحداً بل آلاف الامثلة على انشاء الاجساد البشرية فوراً يوم القيامة.

نعم، لما كانت الدنيا هي دار ((الحكمة)) والدار الآخرة هي دار ((القدرة)) فان ايجاد الاشياء في الدنيا صار بشئ من التدريج ومع الزمن. بمقتضى الحكمة الربانية وبموجب اغلب الاسماء الحسنى امثال ((الحكيم، المرتّب، المدبر، المربي)). اما في الاخرة فان ((القدرة)) و ((الرحمة)) تتظاهران اكثر من ((الحكمة)) فلا حاجة الى المادة والمدة والزمن ولا الى الانتظار. فالاشياء تنشأ هناك نشأة آنية. وما يشير اليه القرآن الكريم بـ ] وَمَآ اَمْرُ السَّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ اَوْ هُوَ اَقْرَبُ[ (النحل:77)، هو ان ما ينشأ هنا من الاشياء في يوم واحد وفي سنة واحدة ينشأ في لمحة واحدة كلمح البصر في الآخرة.

واذا كنت ترغب ان تفهم ان مجئ الحشر أمر قطعي كقطعية مجئ الربيع المقبل وحتميته، فانعم النظر في ((الكلمة العاشرة)) و ((الكلمة التاسعة والعشرين)). وان لم تصدق به كمجئ هذا الربيع، فلك ان تحاسبني حساباً عسيراً.

المسألة الرابعة: وهي موت الدنيا وقيام الساعة، ومثاله:

انه لو اصطدم كوكب سيار او مذنّب بأمر رباني بكرتنا الارضية التي هي دار ضيافتنا، لدمّر مأوانا ومسكننا - أي الارض - كما يُدمّر في دقيقة واحدة قصر بُني في عشر سنوات.

القطعة الرابعة

من الذيل

] قَالَ مَنْ يُحْيىِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَميمٌ ^ قُل يُحْييْهَا الَّذى اَنْشَاَهَآ اَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ[ (يس:78ــ 79)

لقد جاء في المثال الثالث في الحقيقة التاسعة للكلمة العاشرة، أنه:

اذا قال لك احدهم ان شخصاً عظيماً في الوقت الذي ينشئ امام انظارنا جيشاً ضخماً في يوم واحد يمكنه ان يجمع فرقة كاملة من الجنود المتفرقين للاستراحة بنفخ من بوق، ويجعلهم ينضوون تحت نظام الفرقة، وقلتَ: لا، لا أصدق ذلك، ألا يكون جوابك وانكارك جنوناً وبلاهة؟ كذلك، فان الذي أوجد اجساد الحيوانات كافة، وذوي الحياة كافة من العدم، تلك الاجساد التي هي كالفرق العسكرية للكائنات الشبيهة بالجيش الضخم ونظّم ذراتها ولطائفها ووضعها في موضعها اللائق، بنظام كامل وميزان حكيم بأمر ((كن فيكون))، وهو الذي يخلق في كل قرن بل في كل ربيع، مئآت الآلاف من انواع ذوي الحياة وطوائفها الشبيهة بالجيش.. فهل يمكن ان يُسأل هذا القدير وهذا العليم كيف سيجمع بصيحة واحدة من بوق اسرافيل جميع الذرات الاساس والاجزاء الاصلية من الجنود المتعارفين تحت لواء فرقة الجسد ونظامها؟! وهل يمكن ان يُستبعد هذا منه؟ أوَ ليس استبعاده بلاهة وجنوناً؟

وكذلك فان القرآن الكريم قد يذكر من افعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يعدّ الاذهان للتصديق ويحضر القلوب للايمان بافعاله المعجزة في الآخرة. أو أنه يصوّر الافعال الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل نقنع ونطمئن اليه بما نشاهده من نظائرها العديدة. فمثلاً.

] اَوَلَمْ يَرَ الاِنْسانُ اَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَاِذَا هُوَ خَصيمٌ مُبينٌ[ الى آخر سورة (يس).. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة.

انه يقدّم النشأة الاولى اولاً، ويعرضها للانظار قائلاً: انكم ترون نشأتكم من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة ومن المضغة الى خلق الانسان، فكيف تنكرون اذن النشأة الاخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟.. ثم يشير بـ ] اَلّذى جَعَلَ لكم مِنَ الشَّجَرِ الاَخْـضَرِ نَاراً [ (يس:80) الى تلك الآلاء وذلك الاحسان والانعام الذي انعمه الحق سبحانه على الانسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدى ولاعبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام.. ثم انه يقول رمزاً : انكم ترون احياء واخضرار الاشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟.. ثم هل يمكن ان يعجز مَن خلق السماوات والارض عن اِحياء الانسان واماتته وهو ثمرة السموات والارض، وهل يمكن لمن يدير أمر الشجرة ويرعاها ان يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث ((شجرة الخلقة)) التي عجنت جميع اجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟.. وهكذا فان الذي سيحييكم في الحشر هو مَن بيده مقاليد السموات والارض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر((كن فيكون)) تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسير وهيّن كخلق زهرة واحدة، وايجاد جميع الحيوانات سهل على قدرته كايجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ] مَنْ يُحيْىِ الْعِظَامََ[ ؟

ثم انه بعبارة ] فَسُبْحَانَ الَّذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِ شَيْء[ (يس:83) يبين انه سبحانه بيده مقاليد كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنزلين يغلق هذا ويفتح ذاك. فما دام الأمر هكذا فان نتيجة جميع الدلائل هي: ] واَلَيْهِ تُرْجَعُونَ[ أي انه يحييكم من القبر، ويسوقكم الى الحشر، ويوفي حسابكم عند ديوانه المقدس.

وهكذا ترى ان هذه الآيات قد هيأت الاذهان، واحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت نظائرها بافعال في الدنيا.

هذا وقد يذكر القرآن ايضاً افعالاً اخروية بشكل يحسس ويشير الى نظائرها الدنيوية، ليمنع الانكار والاستبعاد فمثلاً:



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم

] اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت^ وَاِذَا النُّجُومُ انْكَـدَرَت^ وَاِذَا الْجِـبَـالُ سُيـِّرَت ^ وَاِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَت ^ وَاِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت ^ وَاِذَا الْبِحَارُ سُجِرَت^ وَاِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَت ^ وَاِذَا الـمَوْؤُدَةُ سُئِلَت ^ بِاَىِّ ذَنْبٍ قُتِلَت ^ وَاذَِا الصُّحُفُ نُشِرَت^ وَاِذَا السَّمآءُ كُشِطَت ^ وَاِذَا الْجَحيمُ سُعِّرَت^ وَاِذَا الْجَنَّةُ اُزْلِفَت ^ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَآ اَحْـضَرَت[ الى اخر السورة

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيم

] اِذَا السَّمَآءُ اْنفَطَرَت ^ وَاِذَا الْكَواكِبُ اْنَتَثَرَت ^ وَاِذَا البِحَارُ فُجِرَت ^ وَاِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت^ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَاَخَّرَتْ[ الى آخر السورة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم

] اِذَا السَّمَآءُ انْشَقَّت ^ وَاَذِنَتْ لِرَبِهَا وَحُقَّت ^ وَاِذَا الارْضُ مُدَّت ^ وَاَلْقَتْ مَا فِىهَا وَتَخَلَّت ^ وَاَذِنَتْ لِرَبِهَا وَحُقَّتْ [ الى آخر السورة

فترى ان هذه السوّر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة باسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقل دونها ويبقى في حيرة. ولكن الانسان ما أن يرى نظائرها في الخريف والربيع اِلاّ ويقبلها بكل سهولة ويسر. ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجاً، فمثلاً:

] وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ[ تفيد هذه الآية: ستنشر في الحشر جميع اعمال الفرد مكتوبة على صحيفة. وحيث ان هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقل اليها سبيلاً، اِلاّ أن السورة كما تشير الى الحشر الربيعي وكما ان للنقاط الاخرى نظائرها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جلي. فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال وله وظائف وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تـظهر به الاسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الاعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر. أي انه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فانه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الاغصان وتفتح الاوراق والاثمار.

نعم، اِن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ] وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ[ .

وهكذا قس النقاط الاخرى على هذا المنوال. وان كانت لديك قوة استنباط فاستنبط.

ولاجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ] اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ[ ايضاً. فان لفظ ((كُوِّرَتْ)) الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّتْ وجُمعتْ، فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ الى نظيره ومثيله في الدنيا:

اولاً: ان الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والاثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضئ الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته واظهرها الى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابها.

ثانياً: ان الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الاسحار ولفّها في الأماسي، وهكذا يتناوب الليل والنهار عل هامة الارض، وهي تجمع متاعها مقللة من تعاملها، أو قد يكون القمر - الى حدٍ ما - نقابا لأخذها وعطائها ذلك. أي كما ان هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر اعمالها بهذه الاسباب فلابد من أن يأتي يوم تعفى من مهامها، وتفصل من وظيفتها، حتى ان لم يكن هناك سبب للاعفاء والعزل. ولعلّ توسع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويداً رويداً، تسترجع الشمس - بهذا التوسع - وبأمر رباني ما لفّته ونشرته على رأس الارض باذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: الى هنا انتهت مهمتك مع الارض، فهيّا الى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين اِياها بالخيانة وعدم الوفاء.

بهذا تقرأ الشمسُ الامرَ الرباني ] اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ[ على وجهها المبقع.

القطعة الخامسة

من الذيل

ان اخبار مائة واربعة وعشرين ألفاً من المصطفين الاخيار وهم الانبياء والمرسلون(1) عليهم الصلاة والسلام - كما نص عليه الحديث - اخباراً بالاجماع والتواتر مستندين الى الشهود عند بعضهم والى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، واعلانهم بالاجماع ان الناس سيساقون اليها، وان الخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

وان تصديق مائة واربعة وعشرين مليوناً من الأولياء كشفاً وشهوداً ما أخبر به هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين دليل قاطع وايّ دليل على وجود الآخرة..

وكذا، فان تجلّيات جميع الأسماء الحسنى لخالق الكون المتجلّية في ارجاء العالم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

وكذا القدرة الإلهية وحكمتها المطلقة، التي لا اسراف فيها ولا عبث، والتي تحيي جنائز الأشجار الميّتة وهياكلها المنتصبة، تحييها وهي لا تعد ولا تحصى على سطح الأرض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ((كن فيكون)) وتجعلها علامة على ((البعث بعد الموت)) فتحشر ثلائمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الالوف من نماذج الحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

وكذا الرحمة الواسعة التي تديم حياة جميع ذوي الأرواح المحتاجة الى الرزق، وتعيّشها بكمال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر انواع الزينة والمحاسن بما لا يُعدّ ولا يحصى، في فترة قصيرة جداً في كل ربيع. لا شك أنهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.



وكذا، عشق البقاء، والشوق الى الأبدية وآمال السرمدية المغروزة غرزاً لا انفصام لها في فطرة هذا الانسان الذي هو أكمل ثمرة لهذا الكون، وأحب مخلوق الى خالق الكون، وهو أوثق صلة مع موجودات الكون كله، لا شك انه يشير بالبداهة الى وجود عالم باقٍ بعد هذا العالم الفاني، والى وجود عالم الآخرة ودار السعادة الأبدية.

فجميع هذه الدلائل تثبتبقطعية تامة - الى حدّ يستلزم القبول - وجود الآخرة بمثل بداهة وجود الدنيا(1). فما دام أهم درس يلقننا القرآن ايّاه هو ((الأيمان بالآخرة)) وهذا الدرس رصين ومتين الى هذه الدرجة، وفي ذلك الايمان نور باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم ما لو اجتمعت مائة الف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء، ذلك السلوان النابع من هذا الايمان؛ لذا علينا نحن الشيوخ ان نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين:

((الحمد لله على كمال الايمان

عبدالرزاق 02-02-2011 01:34 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الحادية عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] والشمسِ وضُحاها ^ والقمرِ اذا تلاها ^ والنهارِ اذا جلاّها ^ واليّل اذا يَغْشَاها^ والسماِء ومَا بناها ^ والارضِ وما طَحاها ^ ونفسٍ وما سوَّاها..[ (الشمس:1ـ7)

ايها الأخ ! ان شئت أن تفهم شيئاً من اسرار حكمة العالم وطلسمه، ولغز خلق الانسان، ورموز حقيقة الصلاة، فتأمل معي في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة.

كان في زمان ما سلطان له ثروات طائلة وخزائن هائلة تحوي جميع أنواع الجواهر والألماس والزمرد، مع كنوز خفية اخرى عجيبة جداً. وكان صاحب علمٍ واسع جداً، واحاطة تامة، واطلاع شامل على العلوم البديعة التي لاتحد، مع مهارات فائقة وبدائع الصنعة.

وحيث ان كل ذي جمال وكمالٍ يحب أن يشهَد ويُشاهِد جمالَه وكمالَه، كذلك هذا السلطان العظيم، أراد أن يفتح معرضاً هائلاً لعرض مصنوعاته الدقيقة كي يُلفت أنظار رعيته الى أبهة سلطنته، وعظمة ثروته ويُظهِر لهم من خوارق صنعته الدقيقة وعجائب معرفته وغرائبها، ليشاهِد جمالَه وكمالَه المعنويين على وجهين:

الاول: أن يرى بالذات معروضاته بنظره البصير الثاقب الدقيق.

والثاني: ان يراها بنظر غيره.

ولأجل هذه الحكمة بدأ هذا السلطان بتشييد قصر فخم شامخ جداً، وقسّمه بشكل بارع الى منازل ودوائر مزيّناً كلَّ قسمٍ بمرصعات خزائنه المتنوعة، وجمّله بما عملت يداه من ألطف آثار ابداعه وأجملها، ونظّمه ونسقه بأدق دقائق فنون علمه وحكمته، فجهزه وحسّنه بالآثار المعجزة لخوارق علمه.

وبعد أن أتمه وكمله، أقام في القصر موائد فاخرة بهيجة تضم جميع أنواع أطعمته اللذيذة، وأفضل نِعَمه الثمينة، مخصصاً لكل طائفة ما يليق بها ويوافقها من الموائد، فأعدّ بذلك ضيافة فاخرة عامة، مبيناً سخاءاً وابداعاً وكرماً لم يشهد له مثيل، حتى كأن كل مائدة من تلك الموائد قد امتلأت بمئات من لطائف الصنعة الدقيقة وآثارها، بما مَدّ عليها من نِعمٍ غالية لا تحصى.

ثم دعا أهالي أقطار مملكته ورعاياه، للمشاهدة والتنزه والضيافة، وعلّم كبير رُسُل القصر المكرّمين ما في هذا القصر العظيم من حكمٍ رائعة، وما في جوانبه ومشتملاته من معان دقيقة، مخصصاً اياه معلماً رائداً واستاذاً بارعاً على رعيته، ليعلّم الناس عظمة باني القصر وصانع ما فيه من نقوش بديعة موزونة ، ومعرّفاً لكل الداخلين رموزَه وما تعنيه هذه المرصعات المنتظمة والاشارات الدقيقة التي فيه، ومدى دلالتها على عظمة صاحب القصر وكماله الفائق ومهارته الدقيقة. مبيناً لهم أيضاً تعليمات مراسيم التشريفات بما في ذلك آداب الدخول والتجول، وأصول السير وفق ما يرضي السلطان الذي لا يُرى إلاّ من وراء حجاب.

وكان هذا المعلم الخبير يتوسط تلامذته في أوسع دائرة من دوائر القصر الضخم وكان مساعدوه منتشرين في كلٍ من الدوائر الاخرى للقصر.

بدأ المعلم هذا بالقاء توجيهاته الى المشاهدين كافة قائلاً:

((ايها الناس ان سيدنا مليك هذا القصر الواسع البديع، يريد ببنائه هذا وباظهار ما ترونه أمام اعينكم من مظاهر، أن يعرّف نفسه اليكم، فاعرفوه واسعوا لحسن معرفته.

وانه يريد بهذه التزيينات الجمالية، أن يحبب نفسه اليكم، فحببوا أنفسكم اليه، باستحسانكم أعماله وتقديركم لصنعته.

وأنه يتودد اليكم ويريكم محبته بما يسبغه عليكم من آلائه ونعمه وأفضاله فأحبوه بحسن اصغائكم لأوامره وبطاعتكم اياه.

وانه يظهر لكم شفقته ورحمته بهذا الاكرام والاغداق من النعم فعظّموه أنتم بالشكر.

وانه يريد أن يظهر لكم جماله المعنوي بآثار كماله في هذه المصنوعات الجميلة الكاملة فأظهروا أنتم شوقكم ولهفتكم للقائه ورؤيته، ونيل رضاه.

وانه يريد منكم أن تعرفوا أنه السلطان المتفرد بالحاكمية والاستقلال، بما ترون من شعاره الخاص، وخاتمه المخصص، وطرته التي لاتقلد على جميع المصنوعات.. فكل شئ له، وخاص به، صدر من يد قدرته. فعليكم أن تدركوا جيداً، ان لا سلطان ولا حاكم إلاّ هو.فهو السلطان الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا مثيل..)).

كان هذا المعلم الكبير يخاطب الداخلين للقصر والمتفرجين، بامثال هذا الكلام الذي يناسب مقام السلطان وعظمته واحسانه.

ثم انقسم الداخلون الى فريقين:

الفريق الاول:

وهم ذوو العقول النيرة، والقلوب الصافية المطمئنة، المدركون قدر أنفسهم، فحيثما يتجولون ـــ في آفاق هذا القصر العظيم - ويسرحون بنظرهم الى عجائبه يقولون: لابد أن في هذا شأناً عظيماً !! ولابد أن وراءه غاية سامية!.. فعلِموا أن ليس هناك عبث، وليس هو بلعب، ولا بلهو صبياني.. ومن حيرتهم بدأوا يقولون:

يا تُرى أين يكمن حل لغز القصر، وما الحكمة في ما شاهدناه ونشاهده؟!

وبينما هم يتأملون ويتحاورون في الامر، اذا بهم يسمعون صوت خطبة الاستاذ العارف وبياناته الرائعة، فعرفوا ان لديه مفاتيح جميع الاسرار وحل جميع الالغاز، فأقبلوا اليه مسرعين:

- السلام عليكم أيها الاستاذ.. ان مثل هذا القصر الباذخ ينبغي أن يكون له عرّيفاً صادقاً مدققاً اميناً مثلك، فالرجاء أن تعلّمنا مما علّمك سيدُنا العظيم.

فذكَّرهم الاستاذ بخطبته المذكورة آنفاً، فاستمعوا اليه خاشعين، وتقبّلوا كلامه بكل رضى واطمئنان، فغنموا أيمّا غنيمة، اذ عملوا ضمن مرضاة سلطانهم، فرضي عنهم السلطان بما أبدوا من رضى وسرور لأوامره. فدعاهم الى قصر أعظم وأرقى لايكاد يوصف، وأكرمهم بسعادة دائمة، بما يليق بالمالك الجواد الكريم، وتلائم هؤلاء الضيوف الكرام المتأدبين، وحريّ بهؤلاء المطيعين المنقادين للاوامر.

أما الفريق الآخر:

وهم الذين قد فسدت عقولهم، وانطفأت جذوة قلوبهم، فما أن دخلوا القصر، حتى غلبتْ عليهم شهواتُهم، فلم يعودوا يلتفتون إلا لما تشتهيه أنفسُهم من الاطعمة اللذيذة، صارفين أبصارهم عن جميع تلك المحاسن، سادّين آذانهم عن جميع تلك الارشادات الصادرة من ذلك المعلم العظيم، وتوجيهات تلاميذه.. فأقبلوا على المأكولات بشراهة ونهم، كالحيوانات، فأطبقت عليهم الغفلة والنوم وغشيهم السُكرُ، حتى فقدوا أنفسهم لكثرة ما أفرطوا في شرب ما لم يؤذن لهم به فازعجوا الضيوف الآخرين بجنونهم وعربدتهم. فأساءوا الادب مع قوانين السلطان المعظم وانظمته، لذا أخذهم جنوده وساقوهم الى سجن رهيب لينالوا عقابهم الحق، جزاءً وفاقاً على ما عملوا من سوء الخُلق.

فيا من ينصت معي الى هذه الحكاية؛ لابد انك قد فهمت ان ذلك السلطان قد بنى هذا القصر الشامخ لأجل تلك المقاصد المذكورة، فحصول تلك المقاصد يتوقف على أمرين:

احدهما:

وجود ذلك المعلم الاستاذ الذي شاهدناه وسمعنا خطابه، اذ لولاه لذهبت تلك المقاصد هباءاً منثوراً، كالكتاب المبهم الذي لا يُفهم معناه، ولا يبينه استاذ، فيظل مجرد أوراق لا معنى لها!..

ثانيهما:

إصغاء الناس الى كلام ذلك المعلم، وتقبّلهم له.

بمعنى ان وجود الاستاذ مدعاة لوجود القصر. واستماع الناس اليه سبب لبقاء القصر، لذا يصح القول: لم يكن السلطان العظيم ليبني هذا القصر لولا هذا الاستاذ. وكذا يصح القول: حينما يصبح الناس لا يصغون اليه ولا يلقون بالاً الى كلامه، فسيغير السلطان هذا القصر ويبدله.

الى هنا انتهت القصة يا صديقي. فان كنت قد فهمت سر الحكاية، فانظر من خلالها الى وجه الحقيقة:

ان ذلك القصر هو هذا العالم، المسقف بهذه السماء المتلألئة بالنجوم المتبسمة، والمفروش بهذه الارض المزيّنة من الشرق الى الغرب بالازهار المتجددة كل يوم.

وذلك السلطان العظيم، هو الله تعالى سلطان الأزل والابد الملك القدوس ذو الجلال والاكرام الذي ] تسبّح له السمواتُ السبعُ والارضُ ومَن فيهن..[ حيث أن ] كلٌ قد علم صلاتَه وتسبيحَه[ (النور: 41) وهو القدير ] الذي خلقَ السمواتِ والأرض في ستة ايام ثم استوى على العرش يُغشي الليلَ النهارَ يَطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره[ (الاعراف: 54).

أما منازل ذلك القصر فهي ثمانية عشر الفاً من العوالم التي تزينت كل منها وانتظمت بما يلائمها من مخلوقات.. اما الصنائع الغريبة في ذلك القصر فهي معجزات القدرة الإلهية الظاهرة في عالمنا لكل ذي بصر وبصيرة.. وما تراه من الاطعمة اللذيذة التي فيه، هي علامات الرحمة الالهية من الاثمار والفواكه البديعة التي تشاهد بكل وضوح في جميع مواسم السنة وخاصة في الصيف وبالأخص في بساتين (بارلا)(1).

ومطبخ هذا القصر هو سطح الارض وقلبها الذي يتّقد ناراً.

وما رأيته في الحكاية من الجواهر في تلك الكنوز الخفية، هي في الواقع امثلة لتجليات الاسماء الحسنى المقدسة.

وما رأيناه من النقوش ورموزها، هي هذه المخلوقات المزينِّة للعالم وهي نقوش موزونة لقلم القدرة الالهية الدالة على اسماء القدير ذي الجلال.

اما ذلك المعلم الاستاذ فهو سيدنا، وسيد الكونين محمد e ، ومساعدوه هم الانبياء عليهم السلام. وتلاميذه هم الاولياء الصالحون، والعلماء الاصفياء.

أما خدام السلطان العظيم فهم اشارة الى الملائكة عليهم السلام في هذا العالم.

وأما جميع من دُعُوا الى دار ضيافة الدنيا فهم اشارة الى الانس والجن وما يخدم الانسان من حيوانات وأنعام.

أما الفريقان:

فالأول: هم اهل الايمان الذين يتتلمذون على مائدة القرآن الكريم الذي يفسّر آيات كتاب الكون.

والآخر: هم اهل الكفر والطغيان الصمّ البكم الضالون الذين اتبعوا اهواءهم والشيطان، فما عرفوا من الحياة إلاّ ظاهرها، فهم كالأنعام بل هم اضل سبيلاً.

أما الفريق الأول الذين هم الابرار السعداء؛ فقد انصتوا الى المعلم العظيم والاستاذ الجليل ذي الحقيقتين؛ اذ هو عبد، وهو رسول؛ فمن حيث العبودية يعرِّف ربَّه ويوصفه بما يليق به من اوصاف الجلال، فهو اذاً في حكم ممثلٍ عن أمته لدى الحضرة الالهية.. ومن حيث الرسالة يبلّغ احكام ربّه الى الجن والانس كافة بالقرآن العظيم.

فهذه الجماعة السعيدة بعدما اصغوا الى ذلك الرسول الكريم e وانصاعوا لأوامر القرآن الحكيم، اذا بهم يرون أنفسهم قد قُلِّدوا مهمات لطيفة تترقى ضمن مقامات سامية كثيرة، تلك هي الصلاة، فهرس انواع العبادات.

نعم! لقد شاهدوا بوضوح تفاصيل فريضة الصلاة وارتقوا في مقاماتها الرفيعة التي تشير اليها اذكارُها وحركاتُها المتنوعة، على النحو الآتي:

اولاً: بمشاهدتهم الآثار الربانية المبثوثة في الكون، وجدوا انفسهم في مقام المشاهدين محاسن عظمة الربوبية، بمعاملة غيابية، فأدّوا وظيفة التكبير والتسبيح، قائلين: الله اكبر.

ثانياً: وبظهورهم في مقام الدعاة والأدلاّء الى بدائع صنائعه سبحانه وآثاره الساطعة، التي هي جلوات اسمائه الحسنى، أدّوا وظيفة التقديس والتحميد بقولهم: سبحان الله والحمد لله.

ثالثاً: وفي مقام ادراك النعم المدخرة في خزائن الرحمة الالهية وتذوقها بحواسَ ظاهرة وباطنة شرعوا بوظيفة الشكر والحمد.

رابعاً: وفي مقام معرفة جواهر كنوز الاسماء الحسنى وتقديرها حق قدرها بموازين الاجهزة المعنوية المودعة فيهم، بدأوا بوظيفة التنزيه والثناء.

خامساً: وفي مقام مطالعة الرسائل الربانية المسطرّة بقلم قدرته تعالى على صحيفة القَدَر، باشروا بوظيفة التفكر والاعجاب والاستحسان.

سادساً: وفي مقام التنزيه بإمتاع النظر الى دقة اللطف في خلق الاشياء، ورقة الجمال في اتقانها، دخلوا وظيفة المحبة والشوق الى جمال الفاطر الجليل والصانع الجميل.

وهكذا.. بعد أداء هذه الوظائف في المقامات السابقة، والقيام بالعبادة اللازمة

بمعاملة غيابية، لدى مشاهدة المخلوقات، ارتقوا الى درجة النظر الى معاملة الصانع الحكيم وشهودها ومعاملة افعاله معاملةً حضورية، وذلك أنهم:

قابلوا أولاً تعريفَ الخالق الجليل نفسَه لذوي الشعور بمعجزات صنعته، قابلوه بمعرفةٍ ملؤها العَجب والحيرة قائلين: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف بمعجزات جميع مخلوقاتك.

ثم استجابوا لتحبّب ذلك الرحمن بثمرات رحمته سبحانه، بمحبةٍ وهيام مرددين : إياك نعبد واياك نستعين.

ثم لَبّوا ترحمّ ذلك المنعم الحقيقي بنِعَمه الطيبة واظهار رأفته عليهم، بالشكر والحمد، وبقولهم: سبحانك ما شكرناك حق شكرك يا مشكورُ بألسنة احوالٍ فصيحة تنطق بها جميع احساناتك المبثوثة في الكون، وتعلن الحمدَ والثناء اعلاناتُ نِعَمِك المعدّة في سوق العالم والمنثورة على الارض كافة. فجميع الثمرات المنضّدة لرحمتك الواسعة، وجميع الأغذية الموزونة لنعمك العميمة، توفي شكرها بشهادتها على جُودك وكرمك لدى انظار المخلوقات.

ثم قابلوا اظهار كبرياء جماله وجلاله وكماله سبحانه في مرايا الموجودات المتبدلة على وجه الكون، بقولهم: الله اكبر، وركعوا في عجز مكلّل بالتعظيم، وهَوَوا الى السجود في محبة مفعمة بالذل والفناء لله، وفي غمرة إعجاب وتعظيم وإجلال.

ثم اجابوا اظهار ذلك الغني المطلق سبحانه ثروتَه التي لا تنفد ورحمته التي وسعت كل شئ، بالدعاء الملح والسؤال الجاد، باظهار فقرهم وحاجتهم قائلين: اياك نستعين.

ثم استقبلوا عرضَ ذلك الخالق الجليل للطائف صنائعه وروائع بدائعه ونشره لها في معارضَ أمام انظار الأنام، بالاعجاب والتقدير اللازمين، قائلين: ما شاء الله، تبارك الله، ما اجمل خلقَ هذا.. شاهدين مستحسنين لها، هاتفين: هلموا لمشاهدة هذه البدائع، حيّ على الفلاح.. اشهدوها وكونوا شهداء عليها.

ثم اجابوا اعلان ذلك السلطان العظيم - سلطان الازل والابد - لربوبية سلطنته في الكون كله، واظهاره وحدانيته للوجود كافة، بقولهم: سمعنا واطعنا.. فَسمعوا، وانقادوا واطاعوا.

ثم استجابوا لإظهار رب العالمين اُلوهيته الجليلة، بخلاصة عبودية تنمّ عن ضعفهم الكامن في عجزهم، وفقرهم المندمج في حاجاتهم.. تلك هي الصلاة.

وهكذا بمثل هذه الوظائف المتنوعة للعبودية، ادّوا فريضة عمرهم ومهمة حياتهم في هذا المسجد الاكبر المسمى بدار الدنيا، حتى اتخذوا صورة أحسن تقويم، واعتلوا مرتبةً تفوق جميع المخلوقات قاطبة، اذ أصبحوا خلفاء أمناء في الارض، بما اُودع فيهم من الايمان والأمانة..

وبعد انتهاء مدة الامتحان والخروج من قبضة الاختبار يدعوهم ربهم الكريم الى السعادة الابدية والنعيم المقيم ثواباً لإيمانهم، ويرزقهم الدخول الى دار السلام جزاء اسلامهم، ويكرمهم - وقد اكرمهم - بنعمٍ لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر، اذ المشاهد المشتاق لجمال سرمدي والعاشق الذي يعكسه كالمرآة، لابد ان يظل باقياً ويمضي الى الابد.

هذه هي عقبى تلاميذ القرآن.. اللّهمّ اجعلنا منهم!.

أما الفريق الآخر وهم الفجار والاشرار فما ان دخلوا بسن البلوغ قصر هذا العالم الاّ وقابلوا بالكفر دلائل الوحدانية كلها، وبالكفران الآلاء التي تُسبغ عليهم، واتهموا الموجودات كلها بالتفاهة وحقّروها بالعبثية ورفضوا تجليات الاسماء الإلهية على الموجودات كلها، فارتكبوا جريمة كبرى في مدة قصيرة، مما استحقوا عذاباً خالداً.

نعم، ان الانسان لم يُوهَب له رأس مال العمر، ولم يودَع فيه أجهزة انسانية راقية إلاّ ليؤهله ذلك على تأدية الوظائف الجليلة المذكورة.

فيا نفسي الحائرة ويا صديقي المغرم بالهوى!

أتحسبون أن ((مهمة حياتكم)) محصورة في تلبية متطلبات النفس الامارة بالسوء ورعايتها بوسائل الحضارة اشباعاً لشهوة البطن والفرج؟ أم تظنون أن الغاية من درج ما اُودع فيكم من لطائف معنوية رقيقة، وآلات وأعضاء حساسة، وجوارح وأجهزة بديعة، ومشاعر وحواس متجسسة، انما هي لمجرد استعمالها لإشباع حاجات سفلية لرغبات النفس الدنيئة في هذه الحياة الفانية؟ حاشَ وكلا!!

بل إن خلق تلك اللطائف والحواس والمشاعر في وجودكم وادراجَها في فطرتكم انما يستند الى أساسين اثنين:

الاول: أن تجعلكم تستشعرون بالشكر تجاه كل نوع من أنواع النعم التي أسبغها عليكم المنعم سبحانه. أي عليكم الشعور بها والقيام بشكره تعالى وعبادته.

الثاني: أن تجعلكم تعرفون أقسام تجليات الاسماء الحسنى التي تعم الوجود كله، معرفتها وتذوقها فرداً فرداً.أي عليكم الايمان بتلك الاسماء ومعرفتها معرفة ذوقية خالصة.

وعلى هذين الاساسين تنمو الكمالات الانسانية، وبهما يغدو الانسان انساناً حقاً.

فانظر الآن - من خلال هذا المثال - لتعرف ان الانسان بخلاف الحيوان لم يزوّد بالاجهزة لكسب هذه الحياة الدنيا فقط:

أعطى سيدٌ خادمَه عشرين ليرة ليشتري بها بدلة لنفسه، من قماش معين. فراح الخادم واشتراها من أجود أنواع الاقمشة ولبسها. ثم أعطى السيد نفسه خادماً آخر ألف ليرة ولكن وضع في جيبه ورقة تعليمات وأرسله للتجارة.

فكل مَن يملك مسكة من العقل يدرك يقيناً أن هذا المبلغ ليس لشراء بدلة، اذ قد اشتراها الخادم الاول بعشرين ليرة!

فلو لم يقرأ هذا الثاني ماكُتب له في الورقة، وأعطى كل ما لديه الى صاحب حانوتٍ واشترى منه بدلة - تقليداً لصديقه الآخر - ومن أردأ أنواع البدلات، ألا يكون قد ارتكب حماقة متناهية، ينبغي تأديبه بعنف وعقابه عقاباً رادعاً؟

فيا صديقي الحميم، ويا نفسي الامارة بالسوء!

استجمعوا عقولكم، ولا تهدروا رأس مال عمركم، ولا تبددوا طاقات حياتكم واستعداداتها لهذه الدنيا الفانية الزائلة، وفي سبيل لذة مادية ومتاع حيواني.. فالعاقبة وخيمة، اذ تُردّون الى دَرَكةٍ أدنى من أخس حيوان، علماً أن رأس مالكم أثمن من أرقى حيوان!

فيا نفسي الغافلة!

ان كنت تريدين أن تفهمي شيئاً من: غاية حياتك، ماهية حياتك، صورة حياتك، سر حقيقة حياتك، كمال سعادة حياتك.. فانظري الى مجمل ((غايات حياتك)) فانها تسعة أمور:

أولها: القيام بالشكر الكلي، ووزن النِعم المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية بموازين الحواس المغروزة في جسمك.

ثانيها: فتح الكنوز المخفية للاسماء الالهية الحسنى بمفاتيح الاجهزة المودعة في فطرتك، ومعرفة الله جل وعلا بتلك الاسماء الحسنى.

ثالثها: اعلان ما ركّبت فيك الاسماء الحسنى من لطائف تجلياتها وبدائع صنعتها، واظهار تلك اللطائف البديعة أمام أنظار المخلوقات بعلمٍ وشعور، وبجوانب حياتك كافة في معرض الدنيا هذه.

رابعها: اظهار عبوديتك أمام عظمة ربوبية خالقك، بلسان الحال والمقال.

خامسها: التجمل بمزايا اللطائف الانسانية التي وهبتْها لك تجليات الاسماء، وابرازها أمام نظر الشاهد الازلي جل وعلا.. مثلك في هذا كمثل الجندي الذي يتقلد الشارات المتنوعة التي منحها السلطان في مناسبات رسمية، ويعرضها أمام نظره ليُظهر آثار تكرّمه عليه وعنايته به.

سادسها: شهود مظاهر الحياة لذوي الحياة، شهود علمٍ وبصيرة، اذ هي تحياتُها ودلالاتها بحياتها على بارئها سبحانه.. ورؤية تسبيحاتها لخالقها، رؤيةً بتفكرٍ وعبرة، اذ هي رموز حياتها.. وعرض عبادتها الى واهب الحياة سبحانه والشهادة عليها، اذ هي غايةُ حياتها ونتيجتها.

سابعها: معرفة الصفات المطلقة للخالق الجليل، وشؤونه الحكيمة، ووزنها بما وهب لحياتك من علم جزئي وقدرة جزئية وارادة جزئية، أي بجعلها نماذج مصغرة ووحدة قياسية لمعرفة تلك الصفات المطلقة الجليلة.

فمثلاً: كما انك قد شيدت هذه الدار بنظام كامل، بقدرتك الجزئية وارادتك الجزئية، وعلمك الجزئي، كذلك عليك أن تعلم - بنسبة عظمة بناء قصر العالم ونظامه المتقن - أن بنّاءه قدير، عليم، حكيم، مدبِّر.

ثامنها: فهم الاقوال الصادرة من كل موجود في العالم وادراك كلماته المعنوية - كل حسب لسانه الخاص - فيما يخص وحدانية خالقه وربوبية مبدعه.

تاسعها: ادراك درجات القدرة الإلهية والثروة الربانية المطلقتين، بموازين العجز والضعف والفقر والحاجة المنـطـوية في نفـسك، اذ كما تُدرك أنـواع الاطعـمة ودرجاتها ولذاتها، بدرجات الجوع وبمقدار الاحتياج اليها، كذلك عليك فهم درجات القدرة الإلهية وثروتها المطلقتين بعجزك وفقرك غير المتناهيين.

فهذه الامور التسعة وأمثالها هي مجمل ((غايات حياتك)).

أما ((ماهية حياتك الذاتية)) فمجملها هو:

انها فهرس الغرائب التي تخص الاسماء الإلهية الحسنى..

ومقياس مصغر لمعرفة الشؤون الالهية وصفاتها الجليلة..

وميزان للعوالم التي في الكون..

ولائحة لمندرجات هذا العالم الكبير..

وخريطة لهذا الكون الواسع ..

وفذلكة لكتاب الكون الكبير..

ومجموعة مفاتيح تفتح كنوز القدرة الإلهية الخفية..

وأحسن تقويمٍ للكمالات المبثوثة في الموجودات، والمنشورة على الاوقات والازمان..

فهذه وامثالها هي ((ماهية حياتك)).

وإليك الآن ((صورة حياتك)) وطرز وظيفتها، وهي: إن حياتك كلمة حكيمة مكتوبة بقلم القدرة الإلهية .. وهي مقالة بليغة تدل على الاسماء الحسنى المشهودة والمسموعة ..فهذه وامثالها هي صورة حياتك.

أما ((حقيقة حياتك)) وسرّها فهي:

انها مرآة لتجلي الاحدية، وجلوة الصمدية، أي أن حياتك كالمرآة تنعكس عليها تجلي الذات الأحد الصمد تجلياً جامعاً، وكأن حياتك نقطةٌ مركزيةٌ لجمع أنواع تجليات الاسماء الإلهية المتجلية على العالم أجمع.

أما ((كمال سعادة حياتك)) فهو:

الشعور بما يتجلى من أنوار التجليات الإلهية في مرآة حياتك وحبها، واظهار الشوق اليها، وأنت مالكٌ للشعور، ثم الفناء في محبتها، وترسيخ تلك الانوار المنعكسة وتمكينها في بؤبؤ عين قلبك.

ولأجل هذا قيل بالفارسية هذا المعنى للحديث النبوي القدسي الذي رفعك الى اعلى عليين:

من نكنجم درسموات وزمين

أز عجب كنجم بقلب مؤمنين(1)

فيا نفسي!

ان حياتك التي تتوجه الى مثل هذه الغايات المثلى، وهي الجامعة لمثل هذه الخزائن القيّمة.. هل يليق عقلاً وانصافاً ان تُصرف في حظوظ تافهة، تلبية لرغبات النفس الامارة، واستمتاعاً بلذائذ دنيوية فانية، فتهدر وتضيّع بعد ذلك.

فان كنت راغبة في عدم ضياعها سدىً، ففكّري وتدبّري في القَسَم وجواب القَسَم في سورة ((الشمس)) ثم اعملي مع تذكر الحكاية التمثيلية المذكورة في المقدمة، التي ترمز الى تلك السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم

] والشمس وضُحاها^ والقمر اذا تلاها^ والنهار اذا جلاها^ واليل اذا يغشاها^ والسمآء وما بناها^ والارض وما طحاها^ ونفسٍ وما سوّاها^ فألهمها فجورها وتقواها^ قد افلح من زكاها^ وقد خاب من دساها[ .

اللهم صلّ وسلم على شمس سماء الرسالة وقمر برج النبوة، وعلى آله واصحابه نجوم الهداية.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

آمين آمين آمين.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:36 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثانية عشرة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ومَن يؤتَ الحكمة فقد اوتي خيراً كثيراً[ (البقرة: 269)

هذه الكلمة تشير الى موازنة اجمالية بين حكمة القرآن الكريم المقدسة وحكمة الفلسفة، وتشير أيضاً الى خلاصة مختصرة لما تلقنه حكمة القرآن من تربية الانسان في حياتيه الشخصية والاجتماعية فضلاً عن انها تضم اشارة الى جهة ترجح القرآن الكريم وأفضليته على سائر الكلام الإلهي وسموه على الاقوال قاطبة. بمعنى أن هناك أربعة أسس في هذه الكلمة:

C الاساس الاول:

من خلال منظار هذه الحكاية التمثيلية أنظر الى الفروق بين حكمة القرآن الكريم وحكمة العلوم:

اراد حاكم عظيم ذو تقوى وصلاح وذو مهارة وابداع أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليلة وتناسب اعجازه البديع في كلماته، فأراد أن يُلبِس القرآن الكريم ما يناسب اعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.

فطفق بكتابة القرآن، وهو مصور مبدع، كتابة عجيبة جداً مستعملاً جميع أنواع الجواهر النفيسة والاحجار الكريمة ليشير بها الى تنوع حقائقه العظيمة فكتب بعض حروفه المجسمة بالالماس والزمرد وقسماً منها باللؤلؤ والمرجان وطائفة منها بالجوهر

والعقيق ونوعاً منها بالذهب والفضة، حتى أضفى جمالاً رائعاً وحسناً جالباً للانظار يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها. فالجميع يقفون أمام هذه الكتابة البديعة مبهوتين يغمرهم التبجيل والاعجاب، ولا سيما أهل الحقيقة الذين بدأوا ينظرون اليها نظرة اعجاب وتقدير أشد، لما يعلمون أن الجمال الباهر هذا يشف عما تحته من جمال المعاني وهو في منتهى السطوع واللمعان وغاية اللذة والذوق.

ثم عرض ذلك الحاكم العظيم، هذا القرآن البديع الكتابة، الرائع الجمال، على فيلسوف أجنبي وعلى عالم مسلم. وأمرهما:

((ليكتب كل منكما كتاباً حول حكمة هذا القرآن!)) ملمحاً الى اختبارهما ليكافئهما.

كتب الفيلسوف كتاباً. وكتب العالم المسلم كتاباً. كان كتاب الفيلسوف يبحث عن نقوش الحروف وجمالها، وعلاقة بعضها ببعض، وأوضاع كل منها، وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها فحسب. ولم يتعرض في كتابه الى معاني ذلك القرآن العظيم قط، إذ إنه جاهل باللغة العربية جهلاً مطبقاً، بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليلة، وانما حصر نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق. ومع هذا فهو مهندس بارع، ومصور فنان، وكيميائي حاذق، وصائغ ماهر، لذا فقد كتب كتابه هذا وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون.

أما العالم المسلم، فما أن نظر الى تلك الكتابة البديعة حتى علم أنه: كتاب مبين وقرآن حكيم. فلم يصرف اهتمامه الى زينته الظاهرة، ولا أشغل نفسه بزخارف حروفه البديعة، وانما توجه كليا ًـ وهو التواق للحق ـ الى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مما انشغل به الفيلسوف الاجنبي بملايين الاضعاف، فبحث عما تحت تلك النقوش الجميلة من حقائق سامية جليلة وأسرار نيرة بديعة فكتب كتابه تفسيراً قيماً لهذا القرآن الحكيم، فأجاد وأتقن.

قدّم كلٌ منهما ما كتبه الى الحاكم العظيم. تناول الحاكم أولاً مؤلَّف الفيلسوف ونظر اليه ملياً. فرأى أن ذلك المعجب بنفسه والمقدس للطبيعة، لم يكتب حكمةً حقيقية قط، مع أنه بذل كل ما في طوقه، إذ لم يفهم معاني ذلك الكتاب، بل ربما زاغ واختلط عليه الامر، وأظهر عدم توقير واجلال لذلك القرآن، حيث أنه لم يكترث بمعانيه السامية، وظن أنه مجرد نقوش جميلة وحروف بديعة، فبخس حق القرآن وازدراه من حيث المعنى. لذا رد الحاكم الحكيم مؤلَّف ذلك الفيلسوف وضربه على وجهه وطرده من ديوانه.

ثم أخذ مؤلَّف العالم المسلم المحقق المدقق، فرأى أنه تفسير قيم جداً، بالغ النفع. فبارك عمله، وقدر جهده، وهنّأه عليه وقال: هذه هي الحكمة حقاً، وانما يطلق اسم العالم والحكيم حقاً على صاحب هذا المؤلَّف، وليس الآخر إلاّْ فنان صنَّاع قد أفرط وتجاوز حدّه. وعلى اثره كافأ ذلك العالم المسلم وأجزل ثوابه، آمراًَ أن تمنح عشر ليرات ذهبية لكل حرف من حروف كتابه.

فاذا فهمت - يا أخي - أبعاد هذه الحكاية التمثيلية، فانظر الى وجه الحقيقة:

فذلك القرآن الجميل الزاهي، هو هذا الكون البديع.. وذلك الحاكم المهيب هو سلطان الازل والابد سبحانه. والرجلان: الاول - أي ذلك الاجنبي - هو علم الفلسفة وحكماؤها. والاخر: هو القرآن الكريم وتلاميذه.

نعم، ان القرآن الكريم ((المقروء)) هو أعظم تفسير وأسماه، وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع، الذي هو قرآن آخر عظيم ((منظور)).

نعم! ان ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والانس الى الآيات الكونية التي سطَّرها قلمُ القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الازمنة والعصور. وهو الذي ينظر الى الموجودات - التي كل منها حرف ذو مغزى - بالمعنى الحرفي، أي ينظر اليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل. وهكذا يكشف أمام الانظار الجمالَ الحقيقي للكائنات.

أما ما يسمونه بعلم الحكمة وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات، وظلّت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة. فبينما كان عليها أن تنظر الى كتاب الكون نظرتها الى الحروف - الدالة على كاتبها - فقد نظرت اليها بالمعنى الاسمي، أي أن الموجودات قائمة بذاتها، وبدأت تتحدث عنها علـى هـذه الصــورة فتـقول: ما أجمل هذا! بـدلاً من:ما أجمـل خـلـق هذا، سالبة بهذا القول الجمال الحقيقي للشئ. فأهانت باسنادها الجمال الى الشئ نفسه جميع الموجودات حتى جعلت الكائنات شاكية عليها يوم القيامة..

نعم! ان الفلسفة الملحدة انما هي سفسطة لا حقيقة لها وتحقير للكون واهانة له.

C الاساس الثاني:

للوصول الى مدى الفرق بين التربية الاخلاقية التي يربي بها القرآن الكريم تلاميذه، والدرس الذي تلقنه حكمة الفلسفة، نرى أن نضع تلميذيهما في الموازنة:

فالتلميذ المخلص للفلسفة ((فرعون)) ولكنه فرعون ذليل، اذ يعبد أخس شئ لأجل منفعته، ويتخذ كل ما ينفعه رباً له.

ثم أن ذلك التلميذ الجاحد ((متمرد وعنود)) ولكنه متمرد مسكين يرضى لنفسه منتهى الذل في سبيل الحصول على لذة، وهو عنود دنئ اذ يتذلل ويخنع لاشخاص هم كالشياطين، بل يقبّل أقدامهم!

ثم أن ذلك التلميذ الملحد ((مغرور، جبار)) ولكنه جبار عاجز لشعوره بمنتهى العجز في ذاته، حيث لا يجد في قلبه من يستند اليه.

ثم أن ذلك التلميذ ((نفعي ومصلحي)) لا يرى إلاّ ذاته. فغاية همته تلبية رغبات النفس والبطن والفرج، وهو ((دسّاس مكّار)) يتحرى عن مصالحه الشخصية ضمن مصالح الامة.

بينما تلميذ القرآن المخلص هو ((عبد)) ولكنه عبد عزيز لا يستذل لشئ حتى لأعظم مخلوق، ولا يرضى حتى بالجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

ثم أنه تلميذ ((متواضع، ليّن هيّن)) ولكنه لا يتذلل بارادته لغير فاطره الجليل ولغير أمره وإذنه.

ثم أنه ((فقير وضعيف)) موقن بفقره وضعفه، ولكنه مستغنٍ عن كل شئ بما ادخره له مالكُه الكريم من خزائن لا تنفد في الآخرة. وهو ((قوي)) لاستناده الى قوة سيده المطـلقة.

ثم أنه لا يعمل إلاّ لوجه الله، بل لا يسعى إلاّ ضمن رضاه بلوغاً الى الفضائل ونشرها.

وهكذا تفهم التربية التي تربي بها الحكمتان، لدى المقارنة بين تلميذيهما.

C الاساس الثالث:

أما ما تعطيه حكمة الفلسفة وحكمة القرآن من تربية للمجتمع الانساني فهي:

أن حكمة الفلسفة ترى ((القوة)) نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية.

وتهدف إلى ((المنفعة)) في كل شئ.

وتتخذ ((الصراع)) دستوراً للحياة.

وتلتزم ((بالعنصرية والقومية السلبية)) رابطة للجماعات.

أما ثمراتها فهي اشباع رغبات الاهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس واثارة الهوى.

ومن المعلوم أن شأن ((القوة)) هو ((الإعتداء)).. وشأن ((المنفعة)) هو ((التزاحم)) اذ لا تفي لتغطية حاجات الجميع وتلبية رغباتهم.. وشأن ((الصراع)) هو ((النزاع والجدال)).. وشأن ((العنصرية)) هو ((الإعتداء)) اذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب العناصر الاخرى.

ومن هنا تلمس لِمَ سُلبت سعادةُ البشرية، من جراء اللهاث وراء هذه الحكمة.

أما حكمة القرآن الكريم، فهي تقبل ((الحق)) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية، بدلاً من ((القوة)).. وتجعل ((رضى الله سبحانه)) ونيل الفضائل هو الغاية، بدلاً من ((المنفعة)).. وتتخذ دستور ((التعاون)) أساساً في الحياة، بدلاً من دستور ((الصراع)) .. وتلتزم برابطة ((الدين)) والصنف(1) والوطن لربط فئات الجماعات بدلاً من العنصرية والقومية السلبية.. وتجعل غاياتها الحد من تجاوز النفس الامارة ودفع الروح الى معالي الامور، واشباع مشاعرها السامية لسوق الانسان نحو الكمال والمثل الانسانية.

ان شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن دستور (التعاون) هو (اغاثة كل للاخر).. وشأن (الدين) هو (الاخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس) وكبح جماحها وأطلاق الروح وحثها نحو الكمال هو (سعادة الدارين).

C الاساس الرابع:

اذا أردت أن تفهم كيف يسمو القرآن على سائر الكلمات الإلهية وتعرف مدى تفوّقه على جميع الكلام. فانظر وتأمل في هذين المثالين:

المثال الاول: أن للسطان نوعين من المكالمة، وطرازين من الخطاب والكلام:

الاول: مكالمة خاصة بوساطة هاتف خاص مع أحد رعاياه من العوام، في أمر جزئي يعود الى حاجة خاصة به.

والآخر: مكالمة باسم السلطنة العظمى، وبعنوان الخلافة الكبرى وبعزة الحاكمية العامة، بقصد نشر أوامره السلطانية في الآفاق، فهي مكالمة يجريها مع أحد مبعوثيه أو مع أحد كبار موظيفه.. فهي مكالمة بأمر عظيم يهم الجميع.

المثال الثاني: رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط - حسب سعتها - نوراً وضياء يحمل الالوان السبعة في الشمس. فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، ويمكنه أن يستفيد منها فيما اذا وجهها الى غرفته المظلمة، أو الى مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرآة على ما تعكسه من نور الشمس وليست بمقدار عِظمَ الشمس.

بينما رجل آخر يترك المرآة، ويجابه الشمس مباشرة، ويشاهد هيبتها ويدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جداً وينظر الى شعشعة سلطانها الواسع المهيب ويقابلها بالذات دون حجاب ثم يرجع ويفتح من بيته الصغير ومن مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجداً سبلاً الى الشمس التي هي في أعالي السماء ثم يجري حواراً مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية. فيناجي الشمس بلسان حاله ويحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر والامتنان فيقول: (إيه يا شمس! يا من تربعت على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء وزهراءها! يا من أضفيت على الارض بهجة ونوراً، ومنحت الازهار ابتسامة وسروراً،فلقد منحت الدفء والنور معاً لبيتي ومشتلي الصغير كما وهبت للعالم أجمع الدفء والنور).

بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس ويحاورها بهذا الاسلوب، اذ إن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة وقيودها، وهي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة واستيعابها للضوء.

وبعد.. فانظر من خلال منظار هذين المثالين الى القرآن الكريم لتشاهد اعجازه، وتدرك قدسيته وسموه.

أجل ان القرآن الكريم يقول:

] ولو أنّ ما في الارضِ مِن شجرةٍ أقلامٌ والبحُر يمدّه من بعدهِ سبعةُ أبحرٍ ما نفدتْ كلمات الله، ان الله عزيز حكيم [ (لقمان:27) .

وهكذا فان منح القرآن الكريم اعلى مقام من بين الكلمات جميعاً، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مردّه أن القرآن قد نزل من الاسم الاعظم ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الاسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والارض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابُه الازلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الالوهية، اذ في بدايات بعضها رموز وشفرات. وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.

ولأجل هذه الاسرار اُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به اسم (كلام الله).

أما سائر الكلمات الإلهية: فان قسماً منها كلام نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجل جزئي لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فدرجات هذه الكلمات مختلفة متفاوتة من حيث الخاص والكلي، فأكثر الإلهامات من هذا القسم إلاّ أن درجاتها متفاوتة جداً.

فمثلاً: ان ابسطها واكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات، ثم إلهام عوام الناس، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الاولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.

ومن هذا السر نرى ان ولياً يقول: ((حدّثنى قلبي عن ربي)) أي: بهاتف قلبه. ومن دون وسـاطة مَلَك، فهو لا يقول: حدّثني رب العـالمـين. أو نراه يقـول: ان قلـبـي عـرشٌ ومرآة عاكسة لتجليات ربـي. ولا يقـول: عـرش رب العـالمين؛ لأنه يمـكن ان ينال حظاً من الخطاب الرباني وفق استعداداته وحسب درجة قابلياته وبنسبة رفع ما يقارب سبعين الف حجاب.

نعم! انه بمقدار علو كلام السلطان الصادر من حيث السلطنة وسموه على مكالمته الجزئية مع أحد رعاياه من العوام، وبمقدار ما يفوق الاستفادة من فيض تجلي الضوء من الشمس التي هي في السماء على استفادة فيضها من المرآة، يمكن فهم سمو القرآن الكريم على جميع الكلام الإلهي والكتب السماوية.

فالكتب المقدسة والصحف السماوية تأتي بالدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في درجة العلو والسمو. كل له درجته وتفوقه، كل له حظه من ذلك السر للتفوق، فلو اجتمع جميع الكلام الطيب الجميل للانس والجن - الذي لم يترشح عن القرآن الكريم - فانه لا يمكن أن يكون نظيراً قط للقرآن الكريم ولا يمكن أن يدنو الى أن يكون مثله.

واذا كنت تريد أن تفهم شيئاً من أن القرآن الكريم قد نزل من الاسم الاعظم ومن المرتبة العظمى لكل اسم من الاسماء الحسنى فتدبّر في (آية الكرسي) وكذا الآيات الكريمة التالية وتأمل في معانيها الشاملة العامة السامية:

] وعندَه مفاتِحُ الغَيب[ (الانعام :59)

] قل اللّهم مالكَ الملك[ (آل عمران :26)

] يُغشي الليلَ النهار يطلُبُه حثيثاً والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره[ (الاعراف:54)

] يا أرض ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي[ (هود:44)

] تسبح له السمواتُ السبعُ والارضُ ومَن فيهن[ (الاسراء:44)

] ما خَلْقُكُم ولا بَعثُكُم إلاّ كَنفسٍ واحدة[ (لقمان:28)

] إنّا عرضنا الأمانةَ على السمواتِ والارض والجبال[ (الاحزاب:72)

] يومَ نطوي السماءَ كطيّ السّجلِ للكتب[ (الانبياء:104)

] وما قدروا الله حقّ قدرِه والارضُ جميعاً قـبـضتُه يومَ القيامة[ (الزمر:67)

] لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته..[ (الحشر:21)

وأمثالها من الآيات الجليلة، ثم دقق النظر في السور المبتدئة بـ ] الحمد لله[ و] تسبح..[ . لترى شعاع هذا السر العظيم ثم أنظر الى السور المستهلة بـ] الم[ و] ألر[ ، و] حم[ لتفهم أهمية القرآن لدى رب العالمين.

واذا فهمت السر اللطيف لهذا الاساس الرابع، تستطيع أن تفهم: السر في أن أكثر الوحي النازل الى الانبياء انما هو بوساطة ملك، أما الالهام فبلا وساطة.

وتفهم السر في أن أعظم ولي من الاولياء لا يبلغ أي نبي كان من الانبياء. وتفهم السر الكامن في عظمة القرآن وعزته القدسية وعلو اعجازه.. وتفهم سر لزوم المعراج وحكمة ضرورته، أي تفهم السر في رحلته e الى السموات العلا والى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى ومن ثم مناجاته معه سبحانه، مع أنه جل جلاله ] أقرب اليه من حبل الوريد[ ثم عودته بطرف العين الى مكانه.

أجل! ان شق القمر كما أنه معجزة لاثبات الرسالة، أظهرت نبوته الى الجن والانس. كذلك المعراج هو معجزة عبوديته e أظهرت محبوبيته الى الارواح والملائكة.

اللّهم صل وسلم عليه وعلى آله، كما يليق برحمتك وبحرمته

آمــــين

عبدالرزاق 02-02-2011 01:37 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ونُنـزّل من القرآنِ ما هو شِفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين[ (الاسراء: 82)

] وما علّمناه الشِعْرَ وَمَا يَنْبَغي لهُ[ (يس:69)

اذا اردتَ أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية، واردت أن تعرف ما يمكن ان يُستخلص من كل منهما من دروس العبرة والعظة، ورمتَ أن تلمس ما ينطويان عليه من علوم.. فامعن النظر وتأمل فيما يأتي:

ان القرآن الكريم، ببياناته القوية النافذة، انما يمزّق غطاء الاُلفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر الاّ انها عادية مألوفة مع انها خوارق قدرةٍ بديعة ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت انظارهم الى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحاً كنزاً لا يفنى للعلوم امام العقول.

اما حكمة الفلسفة، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الاُلفة والعادة، فتجاوزها دون اكتراث. بل تتجاهلها دون مبالاة بها، فلا تعرض امام انظار ذوي الشعور الا افراداً نادرة شذّت عن تناسق الخلقة، وتردّت عن كمال الفطرة السليمة مدّعية انها نماذج حكمةٍ ذات عبرة.

فمثلاً: ان الانسان السوي الذي هو في احسن تقويم جامعٍ لمعجزات القدرة الإلهية، تنظر اليه حكمةُ الفلسفة نظرها الى شئ عادي مألوف، بينما تلفت الانظار الى ذلك الانسان المشوّه الذي شذّ عن كمال الخلقة، كأن يكون له ثلاثة ارجل أو رأسين مثلاً، فتثير حوله نظر العبرة والاستغراب.

ومثلاً: ان اعاشة جميع الصغار من خزائن الغيب اعاشةً في منتهى الانتظام التي تمثل ألطف معجزة من معجزات رحمته تعالى واعمّها في الوجود، تنظر اليها حكمة الفلسفة أمراً مألوفاً عادياً، فتسترها بستار الكفران، بينما تلفت الانظار الى اعاشة حشرة شذت عن النظام ونأت عن طائفتها وظلت وحيدة في الغربة فريدة في اعماق البحر، فبدأت تقتات على ورق نبات اخضر هناك حتى انها لتثير اشجان الصيادين الى ما يتجلى منها من لطف وكرم بل تدفعهم الى البكاء والحزن(1).

فشاهد في ضوء هذه الامثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وافلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل.

ولأجل هذا السر فالقرآن الكريم الذي هو جامع لحقائق باهرة ساطعة لا نهاية لها، مستغنٍ عن خيالات الشعر.. وثمة سبب آخر لتنزه القرآن عن الشعر هو ان القرآن مع انه في اتم نظام خارق واكمل انتظام معجز ويفسّر - باساليبه المنتظمة - تناسق الصنعة الإلهية في الكون نراه غير منظوم، فكل آية من نجوم آياته لا تتقيد بنظام الوزن، لذا تصبح كأنها مركز لأكثر الآيات وشقيقتها. اذ تمثل خيوط العلاقة بين الآيات المترابطة في المعنى دائرة واسعة. فكأن كل آيةٍ حرةٍ - غير مقيدة بنظام الوزن - تملك عيوناً باصرة الى اكثر الآيات، ووجوهاً متوجهة اليها.

ومن هذا نجد في القرآن الكريم آلافاً من القرائين حتى أنه يهب لكل ذي مشرب قرآناً منه. فسورة الاخلاص - مثلاً - تشتمل على خزينة عظيمة لعلم التوحيد، تضم ستاً وثلاثين سورة اخلاصٍ، تتكون من تراكيب جملها الست ذات العلاقات المترابطة بعضها ببعض، كما وضّح ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.

نعم! ان عدم الانتظام الظاهر في نجوم السماء، يجعل كل نجم منها غير مقيـد وكأنها مركز لاكثر النجوم ضمن دائرة محيطها. فتمد خيوط العلاقات وخطوط الاواصر الى كل منها اشارة الى العلاقات الخفية فيما بين الموجودات قاطبة. وكأن كل نجمة - كنجوم الآيات الكريمة - تملك عيوناً باصرة الى النجوم كافة ووجوهاً متوجهة اليها جميعاً .

فشاهد كمال الانتظام في عدم الانتظام. واعتبر! واعلم من هذا سراً من أسرار الآية الكريمة ] وما علّمناه الشعر وما ينبغي له[ (يس:69)

واعلم ايضاً حكمةً اخرى لـ] وما ينبغي له[ مما يأتي:

ان شأن الشعر هو تجميل الحقائق الصغيرة الخامدة، وتزيينها بالخيال البراق، وجعلها مقبولة تجلب الاعجاب.. بينما حقائق القرآن من العظمة والسمو والجاذبية بحيث تبقى اعظم الخيالات واسطعها قاصرة دونها، وخافته امامها.

فمثلاً:قوله تعالى ] يومَ نطوي السماءَ كطي السّجل للكتب[ (الانبياء104) ] يُغشي الليلَ النهار يطلبُه حثيثاً[ (الاعراف:54) ] ان كانت الاّ صيحةً واحدةً فاذا هم جميعٌ لدينا مُحـضَرون[ (يس:53). وامثالها من الحقائق التي لا حدّ لها في القرآن الكريم شاهدات على ذلك.

اذا شئت ان تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ اعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد اسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، اذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في اذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ] يسبّح لله ما في السموات وما في الارض الملكِ القدوسِ العزيزِ الحكيم[ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم ان وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين،بصدى قوله تعالى ] تسبّح له السمواتُ السبعُ والارضُ[ (الاسراء:44) الى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الارض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري الى ذلك العصر تتذوق دقائق الاعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! انك اذا نظرت الى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفاً، واضاءته سائر العلوم الاسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي اذا نظرت الى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فانك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف انها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه اعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

واذا اردت مشاهدة اعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع الى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد اُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقاتِ ارتباط بين اغصان الشجرة وثمراتها واوراقها وازاهيرها - كما هو موجود بين اعضاء جسم الانسان - فكل جزء من اجزائها يأخذ شكلاً معيناً وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فاذا قام احدٌ - من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد - ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من اعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين اغصانها وثمراتها واوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها - البعيدين عن بعضهما بما لايحد - بصورٍ وخطوط تمثل اشكال اعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى ادنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين - كهذا المثال - ايضاً فان بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود الى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا الى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش الى العرش ومن الذرات الى الشموس) قد حافظت - تلك البيانات الفرقانية - على الموازنة والتناسب واعطت لكل عضو من الاعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون - لدى اجراء تحقيقاتهم وابحاثهم - الى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. ان الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق انما هو أنت وحدك ايها القرآن الحكيم!

فلنـمـثل - ولله المثل الاعلى - الاســمـاء الالهــيـة وصفاتها الجليـلة والشــؤون الربانية وافعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتد دائرة عظمتها من الازل الى الابد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى

اجراءاتها من حدود ] فالق الحب والنوى[ (الانعام:95) ] ويحوُل بين المرء وقلبه[ (الانفال:24) ] وهو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (آل عمران:6) الى ] خلق السموات والارض في ستة أيام[ (هود:7) والى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) ] وسخر الشمس والقمر[ فنرى ان القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها واغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً اخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الاسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والافعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع اولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين امام جمال بيانه المعجز والاعجابُ يغمرهم: ((سبحان الله! ما اصوبَ هذا! وما اكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما اجمله وأليقه)).

فلو اخذنا مثلاً اركانَ الايمان الستة التي تتوجه الى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الإلهي والتي تعد غصناً من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها واغصانها وثمراتها وازاهيرها مراعياً في تصويره انسجاماً بديعاً بين ثمراتها وازاهيرها معّرفاً طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الانسان عاجزاً عن ادراك ابعاده ومبهوتاً أمام حسن جماله.

ثم ان الاسلام الذي هو فرع من غصن الايمان، أبدع القرآن الكريم واتى بالرائع المعجب في تصوير ادق فروع اركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على ابسط ادابها ومنتهى غاياتها واعمق حِكَمها واصغر فوائدها وثمراتها وابهر دليل على ذلك هوكمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوصذلك القرآن الجامع ومن اشاراته ورموزه..

فكمال انتظام هذه الشريعة الغراء وجمال توازنها الدقيق وحسن تناسب احكامها ورصانتها كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابداً على أحقية القرآن الكريم بمعنى ان البيانات القرآنية لا يمكن ان تستند الى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان اميّ، بل لابد ان تستند الى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الاشياء معاً..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالازل والابد معاً والشاهد بجميع الحقائق في آن واحد. ومما يشير الى هذه الحقيقة الآية الكريمة:

] الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً[ (الكهف:1)



اللهم يا منـزِّل القرآن! بحق القرآن وبحقّ من اُنزل عليه القرآن

نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الايمان والقرآن

آمين يا مستعان!!

المقام الثاني

من الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

[ حوار مع عدد من الشباب الذين تتجاذبهم الاغراءات والأهواء ولكنهم لم يفقدوا بعدُ صوابهم ]

طلب عدد من الشباب ان تعينهم (رسائل النور) وتمدّ لهم يد النجدة سائلين:

كيف يمكننا أن ننقذ آخرتنا ازاء ما يحيط بنا في زماننا هذا من فتنة الاغراء وجاذبية الهوى وخداع اللهو؟

فأجبتهم باسم شخصية (رسائل النور) المعنوية قائلاً:

القبر ماثل أمام الجميع! لا يمكن أن ينكره أحد. كلُّنا سندخله لا مناص! والدخول فيه بثلاثة طرق لا غيرها:

الطريق الاول: يؤدي الى أن القبر باب ينفتح للمؤمنين الى رياض جميلة وعالمٍ رحب فسيح أفضلَ وأجملَ من هذه الدنيا.

الطريق الثاني: يوصل الى أن القبر باب لسجن دائم للمتمادين في الضلالة والغي - مع ايمانهم بالآخرة - فهم يعامَلون بجنس ما كانوا يعتقدونه ويرون الوجود والحياة من خلاله؛ فيُعزَلون عن جميع أحبتهم في هذا السجن الانفرادي، لعدم عملهم بما كانوا يعتقدونه.

الطريق الثالث: ينساق اليه مَن لا يؤمن بالآخرة من أرباب الضلالة، فاذا القبر بابٌ الى العدم المحض واعدامٌ نهائي له. والقبر في نظره مشنقة تُفنيه وتُفني معه جميعَ أحبته. فهذا هو جزاء جحوده بالآخرة.

هذان الشقان بديهيان، لا يحتاجان الى دليل، اذ يمكن مشاهدتهما رأي العين.

فما دام الاجلُ مستوراً عنا بستار الغيب، والموتُ يمكنه أن يدركنا في كل حين، يضرب عنق الانسان دون تمييز بين الشاب والشيخ، فلا شك أن الانسان الضعيف الذي يرى هذه القضية المذهلة أمام عينيه، في كل وقت، سوف يتحرى عما ينجيه من ذلك الاعدام، ويبحث عما يحوّل له بابَ القبر من ظلمة قاتمة الى نور ساطع ينفتح الى عالم خالد ورياض مونقة في عالم النور والسعادة الخالدة.. ولا ريب أن هذه المسألة هي القضية الكبرى لدى الانسان، بل هي أعظم و أجلّ من الدنيا كلها.

ان ظهور هذه الحقيقة، حقيقة الموت والقبر، بالطرق الثلاثة المتقدمة، ينبئ بها مائة وأربعة وعشرون ألفاً من المخبرين الصادقين، وهم الانبياء الكرام عليهم السلام الحاملون لواء تصديقهم الذي هو معجزاتهم الباهرة.. وينبىء بها مائة وأربعة وعشرون مليوناً من الاولياء الصالحين، يصدّقون ما أخبر به أولئك الانبياء الكرام، ويشهدون لهم على الحقيقة نفسها بالكشف والذوق والشهود.. وينبئ بها ما لا يعد ولا يحصى من العلماء المحققين، يثبتون ما أخبر به أولئك الانبياء والاولياء بأدلتهم العقلية القاطعة البالغة درجة علم اليقين(1)، وبما يصل الى تسع وتسعين بالمئة من الثبوت والجزم.. فالجميع يقررون:

أن النجاة من الاعدام الابدي، والخلاص من السجن الانفرادي، وتحويل الموت الى سعادة أبدية، انما تكون بالايمان بالله وطاعته ليس الاّ.

نعم! لو سار أحدُهم في طريقٍ غيرَ مكترث بقول مخبر عن وجود خطر مهلك، ولو باحتمال واحد من المائة، أليس ما يحيط به من قلق وخوف عما يتصوره ويتوقعه من مخاطر كافياً لقطع شهيته عن الطعام؟ فكيف اذن بإخبار مئات الآلاف من الصادقين المصدّقين، إخباراً يبلغ صدقُهم مائة في المائة، واتفاقهم جميعاً على أن الضلالة والجحود يدفعان الانسان الى مشنقة القبر وسجنه الانفرادي الابدي - كما هو ماثل امامكم - وان الايمان والعبادة بيقين مائة في المائة، كفيلان برفع أعواد المشنقة واغلاق باب السجن الانفرادي، وتحويل القبر الى باب يُفتح الى قصور مزيّنة عامرة بالسعادة الدائمة، وكنوز مليئة لا تنضب.. علماً أنهم مع أخبارهم هذا يدلون على اماراتها ويظهرون آثارها.

والآن أوجه اليكم هذا السؤال:

- تُرى ما موقف الانسان البائس، ولا سيما المسلم، ازاء هذه المسألة الجسيمة الرهيبة؟ هل يمكن أن تزيل سلطنةُ الدنيا كلها مع ما فيها من متع ولذائذ، ما يعانيه الانسان من اضطراب وقلق في انتظار دوره في كل لحظة للدخول الى القبر، إن كان فاقداً للايمان والعبادة؟.

ثم أن الشيخوخة والمرض والبلاء، وما يحدث من وفيات هنا وهناك، تقطّر ذلك الألم المرير الى نفس كل انسان، وتُنذره دوماً بمصيره المحتوم. فلا جرم أن أولئك الضالين وأرباب السفاهة والمجون سيتأجج في قلوبهم جحيمٌ معنوي، يعذبهم بلظاه حتى لو تمتعوا بمباهج الدنيا ولذائذها، بيد أن الغفلة وحدها هي التي تحول دون استشعارهم ذلك العذاب الاليم.

فما دام أهل الايمان والطاعة يرون القبر الماثل أمامَهم باباً الى رياض سعادة دائمة ونعيم مقيم، بما مُنحوا من القدر الالهي من وثيقة تُكسبهم كنوزاً لا تفنى بشهادة الايمان، فان كلاً منهم سيشعر لذة عميقة حقيقية راسخة، ونشوة روحية لدى انتظاره كل لحظة مَن يناديه قائلاً: تعال خذ بطاقتك! بحيث أن تلك النشوة الروحية لو تجسمت لاصبحت بمثابة جنة معنوية خاصة بذلك المؤمن، بمثل ما تتحول البذرة وتتجسم شجرةً وارفة.

ولما كان الامر هكذا، فالذي يدَع تلك المتعة الروحية الخالصة لأجل لذة مؤقتة غير مشروعة منغصة بالآلام - كالعسل المسموم - بدافع من طيش الشباب وسفاهته، سينحط الى مستوى أدنى بكثير من مستوى الحيوان.. بل لا يبلغ أن يكون حتى بمثل الملاحدة الاجانب أيضاً؛ لان مَن ينكر منهم رسولَنا الكريم صلى الله عليه وسلم فقد يؤمن برسل آخرين، وإن لم يؤمن بالرسل كلهم، فقد يؤمن بوجوده تعالى. وإن لم يؤمن بالله، فقد تكون له من الخصال الحميدة ما يريه الكمالات. بينما المسلم لم يعرف الرسل الكرام ولا آمن بربه ولا عرف الكمالات الانسانية الا بوساطة هذا النبي الكريم e لذا مَن يترك منهم التأدب بتربيته المباركة ويحل ربقته عن أوامره فلا يعترف بنبي آخر، بل يجحد حتى بالله سبحانه وتعالى. ولا يستطيع أن يحافظ على أسس الكمالات الانسانية في روحه؛ ذلك لان أصول الدين وأسس التربية التي جاء بها الرسول الكريم e هي من الرسوخ والكمال ما لا يمكن أن يحرز نوراً ولا كمالاً قط مَن يَدَعها ويتركها، بل يُحكَم عليه بالتردي والسقوط المطلق، اذ هو e خاتم النبيين وسيد الانبياء والمرسلين، وإمام البشرية بأكملها، في الحقائق كلها، بل هو مدار فخرها واعتزازها، كما أثبت ذلك اثباتاً رائعاً على مدى أربعة عشر قرناً.

فيا مَن فُتنتم بزهرة الحياة الدنيا ومتاعها، ويا مَن يبذلون قصارى جهدهم لضمان الحياة والمستقبل بالقلق عليهما! أيها البائسون!

ان كنتم ترومون التمتع بلذة الدنيا والتنعم بسعادتها وراحتها، فاللذائذ المشروعة تُغنيكم عن كل شئ، فهي كافية ووافية لتلبية رغباتكم وتطمين أهوائكم. ولقد أدركتم - مما بيناه آنفاً - أن كل لذة ومتعة خارج نطاق الشرع فيها ألف ألمٍ وألم، اذ لو أمكن عرض ما سيقع من أحداث مقبلة بعد خمسين سنة مثلاً، على شاشة الآن مثلما تُعرض الاحداث الماضية عليها لبكى أربابُ الغفلة والسفاهة بكاءً مراً أليماً على ما يضحكون له الآن.

فمن كان يريد السرور الخالص الدائم والفرح المقيم في الدنيا والآخرة، عليه أن يقتدي بما في نطاق الايمان من تربية محمد e .

حوار مع فريق من الشباب

جاءني - ذات يوم - فريق من الشباب، يتدفقون نضارة وذكاءً، طالبين تنبيهات قوية وارشادات قويمة تقيهم من شرورٍ تتطاير من متطلبات الحياة ومن فتوة الشباب ومن الاهواء المحيطة بهم.

فقلت لهم بمثل ما قلته لأولئك الذين طلبوا العون من رسائل النور:

اعلموا ان ما تتمتعون به من ربيع العمر ونضارة الحياة ذاهب لا محالة، فان لم تلزموا انفسكم بالبقاء ضمن الحدود الشرعية، فسيضيع ذلك الشباب ويذهب هباءً منثوراً، ويجرّ عليكم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة بلايا ومصائب وآلاماً تفوق كثيراً ملذات الدنيا التي أذاقكم اياها.. ولكن لو صرفتم ربيع عمركم في عفة النفس وفي صون الشرف وفي طاعة ربكم بتربيته على الاسلام، اداءاً لشكر الله تعالى على ما أنعم عليكم من نعمة الفتوة والشباب، فسيبقى ويدوم ذلك العهد معنىً، وسيكون لكم وسيلة للفوز بشباب دائم خالد في الجنة الخالدة.

فالحياة، ان كانت خالية من الايمان، او فَقَد الايمانُ تأثيره فيها لكثرة المعاصي، فانها مع متاعها ولذتها الظاهرية القصيرة جداً تذيق الآلام والاحزان والهموم اضعافَ اضعافِ تلك المتع والملذات، ذلك لأن الانسان - بما مُنح من عقل وفكر - ذو علاقة فطرية وثيقة بالماضي والمستقبل فضلاً عما هو عليه من زمان حاضر حتى انه يتمكن من ان يذوق لذائذ تلك الازمنة ويشعر بآلامها، خلافاً للحيوان الذي لا تعكر صفو لذته الحاضرة الاحزانُ الواردة من الماضي ولا المخاوف المتوقعة في المستقبل، حيث لم يمنح الفكر.

ومن هنا فالانسان الذي تردّى في الضلالة واطبقت عليه الغفلة تفسد متعتُه الحاضرة بما يردُه من احزان من الماضي، وما يرده من اضطرابٍ من القلق على المستقبل. فتتكدر حياتُه الحاضرة بالآلام والاوهام، سيما الملذات غير المشروعة، فهي في حكم العسل المسموم تماماً.

اي ان الانسان هو أدنى بمائة مرة من الحيوان من حيث التمتع بملذات الحياة. بل ان حياة ارباب الضلالة والغفلة، بل وجودهم وعالَمهم، ما هو الاّ يومهم الحاضر، حيث ان الازمنة الماضية كلها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة، بسبب ضلالتهم، فترِدهم من هناك حوالك الظلمات..!

أما الازمنة المقبلة فهي ايضاً معدومة بالنسبة اليهم، وذلك لعدم ايمانهم بالغيب. فتملأ الفراقات الابدية التي لا تنقطع حياتهم بظلمات قاتمة، ما داموا يملكون العقل جاحدين بالبعث والنشور.

ولكن اذا ما اصبح الايمانُ حياةً للحياة، وشعّ فيها من نوره، استنارت الازمنة الماضية واستضاءت الازمنة المقبلة، وتجدان البقاء وتمدان روح المؤمن وقلبه من زاوية الايمان، باذواق معنوية سامية وانوار وجودية باقية، بمثل ما يمدّهما الزمن الحاضر.

هذه الحقيقة موضحة توضيحاً وافياً في ((الرجاء السابع)) من رسالة ((الشيوخ)) فليراجع.

هكذا الحياة.. فان كنتم تريدون ان تستمتعوا بالحياة وتلتذوا بها فاحيوا حياتكم بالايمان وزيّنوها باداء الفرائض، وحافظوا عليها باجتناب المعاصي.

أما حقيقة الموت التي تُطلعنا على اهوالها، الوفياتُ التي نشاهدها كل يوم، في كل مكان، فسأبينها لكم في مثال، مثلما بينتها لشبان آخرين من امثالكم

تصوروا ههنا - مثلاً - اعواداً نُصبت امامكم للمشنقة، وبجانبها دائرة توزع جوائز سخية كبرى للمحظوظين.. ونحن الاشخاص العشرة هنا سنُدعى الى هناك طوعاً أو كرهاً. ولكن لأن زمان الاستدعاء مخفي عنّا، فنحنُ في كل دقيقة بانتظار مَن يقول لكلٍ منا: تعال.. تسلّم قرار اعدامك، واصعد المشنقة!. أو يقول: تعال خذ بطاقة تربحك ملايين الليرات الذهبية.!

وبينا نحن واقفون منتظرون، اذا بشخصين حضرا لدى الباب. احدهما اِمرأة جميلة لعوب شبه عارية تحمل في يدها قطعة من الحلوى، تقدّمها الينا تبدو أنها شهية، ولكنها مسمومة في حقيقتها.

أما الآخر فهو رجل وقور كيّس - ليس خباً ولا غرّاً - دخل على اثر تلك المرأة وقال: لقد أتيتكم بطلسم عجيب، وجئتكم بدرس بليغ، اذا قرأتم الدرس ولم تأكلوا من تلك الحلوى، تنجون من المشـنـقة، وتـتـسلـمون - بهذا الطلسـم - بطاقة تلك الجائزة الثمينة.. فها انتم اولاء ترون بأم اعينكم ان مَن يأكل تلك الحلوى، يتلوى من آلام البطن حتى يصعد المشنقة.

أما الفائزون ببطاقة الجائزة، فمع انهم محجوبون عنّا، ويبدون انهم يصعدون منصّة المشنقة الاّ ان اكثر من ملايين الشهود يخبرون بأنهم لم يُشنَقوا، وانما اتخذوا اعواد المشنقة سلماً للاجتياز بسهولة ويسر الى دائرة الجوائز.

فهيا انظروا من النوافذ، لتروا كيف ان كبار المسؤولين المشرفين على توزيع تلك الجوائز ينادون بأعلى صوتهم قائلين:

ان اصحاب ذلك الطلسم العجيب قد فازوا ببطاقة الجوائز.. اعلموا هذا يقيناً كما رأيتم بعين اليقين اولئك الذاهبين الى المشنقة، فلا يساورنكم الشك في هذا، فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.

وهكذا على غرار هذا المثال:

فان متع الشباب وملذاته المحظورة شرعاً كالعسل المسموم.. وغدا الموت لدى الذي فقد بطاقة الإيمان التي تربحه السعادة الأبدية كأنه مشنقة، فينتظر جلاد الأجل الذي يمكن ان يحضر كل لحظة - لخفاء وقته عنا - ليقطع الاعناق دون تمييز بين شاب وشيخ.. فيرديه الى حفرة القبر الذي هو باب لظلمات أبدية كما هو في ظاهره..

ولكن اذا ما أعرض الشاب عن تلك الملذات المحظورة، الشبيهة بالعسل المسموم وضرب عنها صفحاً، وبادر الى الحصول على ذلك الطلسم القرآني وهو الإيمان واداء الفرائض، فان مائة واربعة وعشرين الفاً من الانبياء عليهم السلام، وما لا يعد ولا يحصى من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين يخبرون ويبشّرون بالاتفاق مظهرين آثار ما يخبرون عنه بأن المؤمن سيفوز ببطاقة تكسبه كنوز السعادة الأبدية.

حاصل الكلام: ان الشباب سيذهب حتماً وسيزول لا محالة. فان كان قد قضي في سبيل الملذات ونشوة الطيش والغرور، فسيورث آلاف البلايا والآلام والمصائب الموجعة سواءً في الدنيا أو الآخرة.

وان كنتم ترومون أن تفهموا بأن أمثال هؤلاء الشباب سيؤول حالُهم في غالب الأمر الى المستشفيات، بسبب تصرفاتهم الطائشة واسرافاتهم وتعرضهم لأمراض نفسية.. أو الى السجون واماكن الاهانة والتحقير، بسبب نزواتهم وغرورهم.. أو الى الملاهي والخمارات بسبب ضيق صدورهم من الآلام والاضطرابات المعنوية والنفسية التي تنتابهم.. نعم.. اِن شئتم أن تتيقنوا من هذه النتائج فأسألوا المستشفيات والسجون والمقابر.. فستسمعون بلاشك من لسان حال المستشفيات الأنات والآهات والحسرات المنبعثة من امراض نجمت من نزوات الشباب واسرافهم في امرهم.. وستسمعون ايضاً من السجون صيحات الأسى واصوات الندم وزفرات الحسرات يطلقها اولئك الشبان الاشقياء الذين انساقوا وراء طيشهم، وغرورهم فتلقوا صفعة التأديب لخروجهم على الاوامر الشرعية، وستعلمون ايضاً ان اكثر ما يعذّب المرء في قبره - ذلك العالم البرزخي الذي لا تهدأ ابوابُه عن الانفتاح والانغلاق لكثرة الداخلين فيه - ما هو الاّ بما كسبت يداه من تصرفات سيئة في سني شبابه، كما هو ثابت بمشاهدات اهل كشف القبور، وشهادة جميع اهل الحقيقة والعلم وتصديقهم.

واسألوا اِن شئتم الشيوخ والمرضى الذين يمثلون غالبية البشرية، فستسمعون ان أكثريتهم المطلقة يقولون:

((وا أسفى على ما فات! لقد ضيعنا ربيع شبابنا في امور تافهة، بل في امور ضارة! فإياكم إياكم ان تعيدوا سيرتنا، وحذار حذار ان تفعلوا مثلنا!)).

ذلك لأن الذي يقاسي سنواتٍ من الغم والهم في الدنيا، والعذاب في البرزخ، ونار سَقَر في الآخرة، لأجل تمتع لا يدوم خمس أو عشر سنوات من عمر الشباب بملذات محظورة.. غيرجدير بالاشفاق، مع أنه في أشد الحالات استدراراً للشفقة والرثاء، لأن الذي يرضى بالضرر وينساق اليه طوعاً، لا يستحق الإشفاق عليه ولا النظر الى حاله بعين الرحمة، وفق القاعدة الحكيمة:((الراضي بالضرر لا يُنظر له)).

حفظنا الله واِياكم من فتنة هذا الزمان المغرية ونجانا من شرورها..

آمـين

[ حاشية المقام الثاني من الكلمة الثالثة عشرة ]

باسمه سبحانه

ان المسجونين هم في امسّ الحاجة الى ما في رسائل النور من سلوان حقيقي وعزاء خالص. ولا سيما أولئك الشبان الذين تلقوا صفعات التأديب ولطمات التأنيب بنزواتهم واهوائهم. فقضوا نضارة عمرهم في السجن، فحاجة هؤلاء الى النور كحاجتهم الى الخبز.

ان عروق الشباب تنبض لهوى المشاعر، وتستجيب لها اكثر مما تستجيب للعقل وترضخ له. وسَورات الهوى - كما هو معلوم - لا تبصر العقبى، فتفضل درهماً من لذة حاضرة عاجلة على طنٍ من لذة آجلة، فيُقدم الشاب بدافع الهوى على قتل انسان برئ للتلذذ بدقيقة واحدة من لذة الانتقام، ثم يقاسي من جرائها ثمانية آلاف ساعة من آلام السجن.. والشاب ينساق الى التمتع لساعة واحدة في اللهو والعبث - في قضية تخص الشرف - ثم يتجرع من ورائها آلام ألوف الأيام من سجن وخوف وتوجس من العدو المتربص به.. وهكذا تضيع منه سعادة العمر بين قلق واضطراب وخوف وآلام.

وعلى غرار هذا يقع الشباب المساكين في ورطات ومشاكل عويصة كثيرة حتى تحوّل ألطف أيام حياتهم واحلاها الى أمرّ الايام وأقساها، وفي حالة يرثى لها. ولا سيما بعد ان هبت عواصف هوجاء من الشمال تحمل فتناً مدمرة لهذا العصر؛ اذ تستبيح لهوى الشباب الذي لا يرى العقبى أعراضَ النساء والعذارى الفاتنات وتدفعهم الى الاختلاط الماجن البذئ، فضلاً عن إباحتها أموال الأغنياء لفقراء سفهاء.

ان فرائص البشرية كلها لترتعد أمام هذه الجرائم المنكرة التي تُرتكب بحقها.

فعلى الشباب المسلم في هذا العصر العصيب ان يشمّروا عن ساعد الجد لينقذوا الموقف، ويسلّوا السيوف الالماسية لحجج ((رسائل النور)) وبراهينها الدامغة - التي في رسالة ((الثمرة)) و((مرشد الشباب)) وامثالهما - ويدافعوا عن أنفسهم، ويصدّوا هذا الهـجـوم الكاسـح الـذي شُنّ عليهـم من جـهتـين.. والاّ فسيضيع مستــقبل الشـباب في العالم، وتذهب حياته السعيدة، ويفقد تنعّمه في الآخرة، فتنقلب كلها الى آلامٍ وعذاب؛ اذ سيكون نزيل المستشفيات، بما كَسبت يداه من اسراف وسفاهة.. ونزيل السجون، بطيشه وغيّه.. وسيبكي أيام شيخوخته بكاءً مراً ويزفر زفرات ملؤها الحسرات والآلام.

ولكن اذا ما صان نفسه بتربية القرآن، ووقاها بحقائق ((رسائل النور)) فسيكون شاباً رائداً حقاً، وانساناً كاملاً، ومسلماً صادقاً سعيداً، وسلطاناً على سائر المخلوقات.

نعم، ان الشاب اذا دفع ساعة واحدة من اربع وعشرين ساعة من يومه في السجن الى اقامة الفرائض، وتاب عن سيئاته ومعاصيه التي دفَعَتْه الى السجن، وتجنب الخطايا والذنوب مثلما يجنّبه السجن اِياها.. فانه سيعود بفوائد جمة الى حياته والى مستقبله والى بلاده والى أمته والى احبّائه واقاربه، فضلاً عن انه يكسب شباباً خالداً في النعيم المقيم بدلاً من هذا الذي لا يدوم خمس عشرة سنة.

هذه الحقيقة يبشرّ بها ويخبر عنها عن يقين جازم جميع الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم.

نعم! اذا ما شكر الشاب على نعمة الشباب - ذلك العهد الجميل الطيب - بالاستقامة على الصراط السوي، واداء العبادات، فان تلك النعمة المهداة تزداد ولا تنقص، وتبقى من دون زوال، وتصبح أكثر متعة وبهجة.. واِلاّ فانها تكون بلاء ومصيبة مؤلمة ومغمورة بالغم والحزن والمضايقات المزعجة حتى تذهب هباء فيكون عهد الشباب وبالاً على نفسه وأقاربه وعلى بلاده وأمته.

هذا وان كل ساعة من ساعات المسجون الذي حكم عليه ظلماً تكون كعبادة يومٍ كامل له، ان كان مؤدياً للفرائض، ويكون السجن بحقه موضع انزواء واعتزال من الناس كما كان الزهاد والعباد ينزوون في الكهوف والمغارات ويتفرغون للعبادة. أي يمكن ان يكون هو مثل اولئك الزهاد.

وستكون كل ساعة من ساعاته ان كان فقيراً ومريضاً وشيخاً متعلقاً قلبه بحقائق الايمان وقد أناب الى الله وادّى الفـرائض، في حـكم عبـادة عشـرين ساعة له، ويتحول السجن بحقه مدرسـة تربوية ارشادية، وموضع تحابب ومـكان تـعاطف، حيث يقضي أيامه مع زملائه في راحة فضلاً عن راحته وتوجه الانظار اليه بالرحمة، بل لعله يفضل بقاءه في السجن على حريته في الخارج التي تنثال عليه الذنوب والخطايا من كل جانب، ويأنس بما يتلقى من دروس التربية والتزكية فيه. وحينما يغادره لا يغادره قاتلاً ولا حريصاً على أخذ الثأر، وانما يخرج رجلاً صالحاً تائباً الى الله، قد غنم تجارب حياتية غزيرة. فيصبح عضواً نافعاً للبلاد والعباد، حتى حدا الامر بجماعة كانوا معنا في سجن ((دنيزلي)) الى القول، بعدما أخذوا دروساً ايمانية في سمو الاخلاق ولو لفترة وجيزة من رسائل النور:

((لو تلقى هؤلاء دروس الايمان من رسائل النور في خمسة اسابيع، فانه اجدى لاصلاحهم من القائهم في السجن خمس عشرة سنة)).

فما دام الموت لا يفنى من الوجود، والأجل مستور عنا بستار الغيب، ويمكنه ان يحلّ بنا في كل وقت.. وان القبر لا يُغلق بابه.. وان البشرية تغيب وراءه قافلة اِثر قافلة.. وان الموت نفسه بحق المؤمنين ما هو الاّ تذكرة تسريح واعفاء من الاعدام الأبدي - كما وضّح ذلك بالحقيقة القرآنية - وانه بحق الضالين السفهاء اعدام أبدي كما يشاهدونه أمامهم؛ اذ هو فراق أبدي عن جميع أحبتهم وأقاربهم بل الموجودات قاطبة.. فلابد ولا شك بان أسعد انسان هو مَن يشكر ربه صابراً محتسباً في سجنه مستغلاً وقته أفضل استغلال، ساعياً لخدمة القرآن والإيمان مسترشداً برسائل النور.

ايها الانسان المبتلى بالملذات والمتع!

لقد علمتُ يقيناً طوال خمس وسبعين سنة من العمر، وبالوف التجارب التي كسبتها في حياتي، ومثلها من الحوادث التي مرت عليّ أن الذوق الحقيقي، واللذة التي لا يشوبها ألم، والفرح الذي لا يكدّره حزن، والسعادة التامة في الحياة انما هي في الايمان، وفي نطاق حقائقه ليس الاّ. ومن دونه فان لذةً دنيوية واحدة تحمل آلاماً كثيرة كثيرة. واذ تقدم اليك الدنيا لذة بقدر ما في حبة عنب تصفعك بعشر صفعات مؤلمات، سالبةً لذة الحياة ومتاعها.

أيها المساكين المبتلون بمصيبة السجن!

ما دامت دنياكم حزينة باكية، وان حياتكم قــد تعــكرت بالآلام والمصـائب، فابذلوا ما في وسعكم كيلا تبكي آخرتكم، ولتفرح وتحلو وتسعد حياتكم الأبدية.

فاغتنموا يا اخوتي هذه الفرصة، اذ كما ان مرابطة ساعة واحدة أمام العدو ضمن ظروف شاقة يمكن ان تتحول الى سنة من العبادة، فان كل ساعة من ساعاتكم التي تقاسونها في السجن تتحول الى ساعات كثيرة هناك اذا ما أديتم الفرائض، وعندها تتحول المشقات والمصاعب الى رحمات وغفران.

u u u

عبدالرزاق 02-02-2011 01:39 AM

رد: الكلمات
 
باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.

أيها الاخوة الاعزاء الأوفياء!

لقد رأيت انوار سلوان ثلاثة، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وارزاقهم.

النقطة الأولى:

ان كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن ان يُكسِب المرء ثواب عبادة عشرة أيام، ويمكن ان يحوّل ساعاته الفانية - من حيث النتيجة - الى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن ان يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.

فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان باداء الفرائض والتوبة الى الله من الذنوب والمعاصي التي دفعته الى السجن، والتوجه اليه تعالى بالشكر صابراً محتسباً. علماً ان السجن نفسه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.

النقطة الثانية:

ان زوال الألم لذةٌ، كما ان زوال اللذة ألمٌ.

نعم! ان كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه حسرة وأسفاً عليها، حتى ينطلق لسانه بكلمات الحسرات: اواه.. آه.. بينما اذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فانه يشعر في روحه وقلبه فرحاً وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: الحمد لله والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركة ثوابها. فينشرح صدره ويرتاح.

أي أن ألماً موقتاً لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذة موقتة لساعة من الزمان تترك ألماً معنوياً في الروح، خلافاً لذلك.

فما دامت الحقيقة هذه، وساعات المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عداد المعدوم، وان أيام البلايا لم تأت بعدُ، فهي ايضاً في حكم المعدوم.. وانه لا ألم من غير شئ.. ولا يرد من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة اذن اظهار الجزع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّت، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علماً انها جميعاً في عداد المعدوم. ومن الحماقة أيضاً اظهار الشكوى من الله وترك النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاء الوقت بالحسرات والزفرات. أوَليس من يفعل هذا أشد بلاهة ممن يداوم على الأكل والشرب طوال اليوم خشية أن يجوع أو يعطش بعد أيام؟

نعم! ان الانسان اِن لم يشتت قوة صبره يميناً وشمالاً - الى الماضي والمستقبل - وسدّدها الى اليوم الذي هو فيه، فانها كافية لتحل له حبال المضايقات.

حتى انني أذكر ـ ولا أشكو – ان ما مرّ عليّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة(1) في غضون أيام قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أرها طوال حياتي، ولا سيما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض. وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معاً من الضيق واليأس اذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري ايّما انشراح وولت تلك المضايقات فرضيت بالسجن وآلامه والمرض وأوجاعه. اذ مَن كان مثلي على شفير القبر يعدّ ربحاً عظيماً له أن تتحول ساعة من ساعاته التي يمكن ان تمر بغفلة الى عشر ساعات من العبادة... فشكرت الله كثيراً.

النقطة الثالثة:

ان القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة واعطاءهم ارزاقهم التي يحتاجون اليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلي والعزاء، مع انه عمـل بسيـط الاّ أنه يحمل في طياته ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً. حيث أن تسليم ارزاقهم التي تُرسل اليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتكتب في سجل حسنات كل مَن قام بهذا العمل، سواءاً الذين أتوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولا سيما ان كان المسجون شيخاً كبيراً أو مريضاً أو غريباً عن بلده أو فقيراً معدماً، فان ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيراً.

وهذا الربح العظيم مشروط باداء الفرائض من الصلوات لتصبح تلك الخدمة لوجه الله.. مع شرط آخر هو ان تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون ان يحمّل شيئاً من المنة.

u u u

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً.

يا اخوتي في الدين ويا زملائي في السجن!.

لقد اُخطر لقلبي ان أبين لكم حقيقة مهمة، تنقذكم باذن الله من عذاب الدنيا والآخرة وهي كما أوضحها بمثال:

ان أحداً قد قتل شقيق شخص آخر أو أحد أقربائه. فهذا القتل الناجم من لذة غرور الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن. وفي الوقت نفسه يظل اقرباء المقتول أيضاً في قلق دائم وتحين الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه. فتضيع منهم لذة العمر ومتعة الحياة بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب.

ولا علاج لهذا الأمر ولا دواء له الاّ الصلح والمصالحة بينهما، وذلك الذي يأمر به القرآن الكريم، ويدعو اليه الحق والحقيقة، وفيه مصلحة الطرفين، وتقتضيه الانسانية، ويحث عليه الاسلام.

نعم، ان المصلحة والحقيقة في الصلح، والصلح خير؛ لأن الأجل واحد لا يتغير، فذلك المقتول على كل حال ما كان ليظل على قيد الحياة ما دام أجله قد جاء. اما ذلك القاتل فقد أصبح وسيلة لذلك القضاء الإلهي، فإن لم يحل بينهما الصلحُ فسيظلان يعانيان الخوف وعذاب الانتقام مدة مديدة؛ لذا يأمر الاسلام بعدم هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام. فان لم يكن ذلك القتل قد نجم من عداء أصيل ومن حقد دفين، وكان أحد المنافقين سبباً في اشعال نار الفتنة، فيلزم الصلح فوراً، لأنه لولا الصلح لعظمت تلك المصيبة الجزئية ودامت، بينما اذا ما تصالح الطرفان وتاب القاتل عن ذنبه، واستمر على الدعاء للمقتول، فان الطرفين يكسبان الكثير، حيث يدب الحب والتآلف بينهما، فيصفح هذا عن عدوه ويعفو عنه واجداً أمامه اخوة اتقياء أبراراً بدلاً من شقيق واحد راحل، ويستسلمان معاً لقضاء الله وقدره، ولا سيما الذين استمعوا الى دروس النور، فهم مدعوون لهجر كل ما يفسد بين اثنين، اذ الأخوة التي تربطهم ضمن نطاق النور، والمصلحة العامة، وراحة البال وسلامة الصدر التي يستوجبها الإيمان.. تقتضي كلها نبذ الخلافات واحلال الوفاق والوئام. ولقد حصل هذا فعلاً بين مسجونين يعادي بعضهم بعضاً في سجن ((دنيزلي)) فاصبحوا بفضل الله أخوة متحابين بعد ان تلقوا دروساً من رسائل النور، بل غدوا سبباً من أسباب براءتنا، حتى لم يجد الملحدون والسفهاء من الناس بداً أمام هذا التحابب الاخروي، فقالوا مضطرين: ما شاء الله.. بارك الله!! وهكذا انشرحت صدور السجناء جميعاً وتنفسوا الصعداء بفضل الله.اذ إني أرى هنا مدى الظلم الواقع على المسجونين، حيث يشدد الخناق على مائة منهم بجريرة شخص واحد، حتى انهم لا يخرجون معه الى فناء السجن في أوقات الراحة.. ألا ان المؤمن الغيور لا تسعه شهامته ان يؤذي المؤمن قط، فكيف يسبب له الأذى لمنفعته الجزئية الخاصة، فلابد ان يسارع الى التوبة والإنابة الى الله حالما يشعر بخطئه وتسبّبه في أذى المؤمن.

u u u



باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً

اخوتي المسجونين الاعزاء الجدد والقدامى!

لقد بت على قناعة تامة من ان العناية الإلهية هي التي ألقت بنا الى ههنا وذلك لأجلكم أنتم، أي ان مجيئنا الى هنا انما هو لبث السلوان والعزاء الذي تحمله رسائل النور اليكم.. وتخفيف مضايقات السجن عنكم بحقائق الإيمان.. وصونكم من كثير من بلايا الدنيا ولأوائها.. وانتشال حياتكم المليئة بالأحزان والهموم من العبثية وعدم الجدوى.. وانقاذ آخرتكم من ان تكون كدنياكم حزينة باكية.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فعليكم ان تكونوا اخوة متحابين كطلاب النور وكأولئك الذين كانوا معنا في سجن ((دنيزلي)).

فها أنتم اولاء ترون الحراس الذين يحرصون على القيام بخدماتكم يعانون الكثير من المشقات في التفتيش، بل حتى انهم يفتشون طعامكم لئلا تكون فيه آلة جارحة، ليحولوا دون تجاوز بعضكم على بعض، وكأنكم وحوش مفترسة ينقضُّ الواحد على الآخر ليقتله، فضلاً عن انكم لا تستمتعون بالفرص التي تتاح لكم للتفسح والراحة خوفاً من نشوب العراك فيما بينكم.

ألا فقولوا مع هؤلاء الأخوة حديثي العهد بالسجن الذين يحملون مثلكم بطولة فطرية وشهامة وغيرة.

قولوا أمام الهيئة ببطولة معنوية عظيمة في هذا الوقت:

((ليست الآلات الجارحة البسيطة، بل لو سلمتم الى أيدينا أسلحة نارية فلا نتعدى على أصدقائنا وأحبابنا هؤلاء الذين نكبوا معنا، حتى لو كان بيننا عداء أصيل سابق. فقد عفونا عنهم جميعاً، وسنبذل ما في وسعنا الاّ نجرح شعورهم ونكسر خاطرهم، هذا هو قرارنا الذي اتخذناه بارشاد القرآن الكريم وبأمر اخوة الإسلام وبمقتضى مصلحتنا جميعاً)).

وهكذا تحوّلون هذا السجن الى مدرسة طيبة مباركة.

[ ذيل المقام الثاني من الكلمة الثالثة عشرة ]

مسألة مهمة تخطرت في ليلة القدر

هذه حقيقة واسعة جداً وطويلة في الوقت نفسه، خطرت على القلب ليلة القدر سأحاول ان أشير اليها اشارة مختصرة جداً، كالآتي:

أولاً:

لقد قاست البشرية من ويلات هذه الحرب العالمية الأخيرة ايّ مقاساة، اذ رأت أشد أنواع الظلم وأقسى أنواع الاستبداد والتحكم، مع الدمار الظالم المريع في الارض كافة، فقد نكبت مئات الابرياء بجريرة شخص واحد، ووقع المغلوبون على أمرهم في بؤس وشقاء مريرين، وبات الغالبون في عذاب وجداني أليم لعجزهم عن اصلاح دمارهم الفظيع وخشيتهم من ان يعجزوا عن الحفاظ على سيادتهم. وظهر للناس بجلاء تام؛ ان الحياة الدنيا فانية لا ريب فيها، وان زخارف المدنية خادعة ومخدّرة لا تجدي شيئاً، وتلطخت البشرية بدماء الطعنات القوية التي نزلت بالذات الانسانية وبالاستعدادات الرفيعة في فطرتها.. وظهر للعيان تحطم الغفلة والضلالة والطبيعة الجامدة الصماء تحت ضربات سيف القرآن الالماسي.. وافتضحت الصورة الحقيقة للسياسة الدولية الشوهاء الغدارة والتي هي أوسع ستار واكثفه لإغفال الناس واضلالهم واشده خنقاً وخداعاً لروحهم.

فلاشك ان فطرة البشرية - بعد وضوح هذه الأمور - ستبحث عن معشوقها ((الحقيقي)) وهو الحياة الباقية الخالدة وتسعى اليها بكل قواها - وقد بدت اماراتها في شمال العالم وغربه وفي أمريكا - وستعلم جيداً ان الحياة الدنيا التي تتعشقها عشقاً ((مجازياً)) دميمة شوهاء، فانية زائلة.

ولا ريب انها ستبحث عن القرآن الكريم الذي له في كل عصر ثلاثمائة مليونٍ من العاملين له المتتلمذين عليه منذ ألف وثلاثمائة وستين سنة.. والذي يصدق كل حكم من احكامه ودعاويه ملايين من أرباب الحقيقة.. والذي يحـتفظ بمكانـته المقـدسة في قلوب ملايـين الحــفاظ فــي كــل دقيقـة.. والـذي يرشـــد البشرية بألسـنـتــهم، ويبشرها باسلوبه المعجز بالحياة الباقية والسعادة الدائمـة، مضمداً بها جراحــاتها الغائرة، بل يبشر بها بألوف آياته القوية الشديدة المكررة، بل قد يخبر عنها صراحة أو اشارة بعشرات الألوف من المرات، ناصباً عليها ما لايعد من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة والحجج الثابتة.

فان لم تفقد البشرية صوابها كلياً ولم تقم عليها قيامة - مادية أو معنوية - فستبحث حتماً عن القرآن الكريم المعجز البيان كما حدث في قارات العالم كله ودولها العظمى، وحدث فعلاً في السويد والنرويج وفنلندا، ومثلما يسعى لقبوله خطباء مشهورون من انكلترا وتقوم بالبحث عنه جمعية تتحرى الدين الحق وهي ذات شأن في أمريكا.. ولابد انهم بعد ان يدركوا حقائقه سيعتصمون به ويلتفون حوله بكل مهجهم وارواحهم. ذلك لأنه ليس من نظير للقرآن في معالجة هذه الحقيقة، ولن يكون، ولا يمكن ان يسد مسدّ هذه المعجزة الكبرى شئ قطعاً.

ثانياً:

ان رسائل النور قد أظهرت خدماتها كسيف ألماسي قاطع بيد هذه المعجزة الكبرى، حتى ألزمت الحجة أعداءها العنيدين وألجأتهم الى الاستسلام، وانها تقوم بوظيفتها بين يدي هذه الخزينة القرآنية من حيث كونها معجزةً لمعانيه المعجزة على نحو تستطيع ان تنور القلب والروح والمشاعر، مناولةً كلاً منها علاجاتها الناجعة، ولا غرو فهي الداعية الى هذا القرآن العظيم والمستفيضة منه وحده ولا ترجع الاّ اليه.

وانها اذ تقوم بمهمتها خير قيام، انتصرت في الوقت نفسه على الدعايات المغرضة الظالمة التي يشيعها أعداؤها، وقضت على أشد الزنادقة تعنتاً، ودكّت أقوى قلاع الضلالة التي تحتمي بها وهي (الطبيعة) برسالة (الطبيعة)، كما بددت الغفلة وأظهرت نور التوحيد في أوسع ميادين العلوم الحديثة وأشد الظلمات الخانقة للغفلة بالمسألة السادسة (للثمرة) وبالحجج الأولى والثانية والثالثة.. والثامنة من رسالة (عصا موسى).

ومن هنا فانه من الضروري لنا - وأكثر ضرورة للأمة - ان يفتح طلاب النور - في حدود القدرات المتاحة - في كل مكان مدارس نورية صغيرة بعدما سمحت الدولة - في الوقت الحاضر - بفتح مدارس خاصة لتدريس الدين(1).

صحيح ان كل قارئ للرسائل يستطيع ان يستفيد منها شيئاً لنفسه الاّ انه لا يستطيع ان يستوعب كل مسألة من مسائلها؛ ذلك لانها ايضاح لحقائق الإيمان. فهي دروس علمية، ومعرفة إلهية، وسكينة للقلب وعبادة لله في الوقت نفسه(1).

ان النتائج التي كان يمكن الحصول عليها في المدارس الدينية طوال خمس أو عشر سنوات يمكن الحصول عليها في مدارس النور في خمسة أو عشرة أسابيع بإذن الله، بل ضمنت تلك النتائج في العشرين سنة التي خلت والحمدلله.

ثم بات من المسلّم به فائدة هذه الرسائل الداعية الى القرآن والتي هي لمعات من أنواره الباهرة، لحياة الأمة ولأمن البلاد، وحتى لحياتها السياسية فضلاً عن حياتها الأخروية، فمن الضروري اذن للدولة الاّ تتعرض لها بسوء بل تسعى جادة الى نشرها وتشجع الناس على قراءتها.. ليكون عملها هذا كفّارة عما اقترفت من سيئآت فاحشة سابقة وسداً منيعاً في وجه ما سيقبل من ويلات ومصائب وفوضى وارهاب.

المسألة السادسة

من رسالة الثمرة



هذه المسألة اشارة مختصرة الى برهان واحد فقـط من بين ألوف البراهين الكلية حول (الايمان بالله) والذي تم ايضاحه مع حججه القاطعة في عدة مواضع من رسائل النور.

جاءني فريق من طلاب الثانوية في ((قسطموني))(1) قائلين:

((عرّفنا بخالقنا، فان مدرسينا لا يذكرون الله لنا!)).

فقلت لهم:

((ان كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوماً، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا الى تلك العلوم دون المدرسين)).

فمثلاً: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا ان وراءها صيدليا حكيماً، وكيميائياً ماهراً، كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء نباتاً وحيواناً، وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة. فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها وانتظامها وعظمتها، قياساً على تلك الصيدلية التي في السوق، وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.

ومثلاً: كما أن مصنعاً خارقاً عجيـباً ينسـج ألوفاً من أنـواع المنســوجات المتنوعة، والأقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك ان وراءه مهندساً ميكانيكياً ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الارضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا بلا شك صانعَه، ومالكَه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأونه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الآلهي، وعظمته قياساً على ذلك المصنع الانساني.

C ومثلاً: كما ان حانوتاً أو مخزناً للأعاشة والارزاق، ومحلاً عظيماً للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع من المواد الغذائية، وميّز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا ان له مالكاً ومدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للاعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة اربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من اصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها الى نوع خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الاربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الانواع من مختلف الأطعمة، فيأتي بها الى الخلق المساكين الذين نفد قوتُهم في الشتاء. تلك هي الكرة الأرضية، والسفينة السبحانية التي تضم آلاف الانواع من البضائع والاجهزة ومعلبات الغذاء. فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - وفق مقاييس علم الاعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبَه ومالكَه ومتصرفَه بدرجة عظمة هذا المخزن، قياساً على ذلك المخزن المصنوع من قبل الانسان، ويعرّفه لنا، ويحببه الينا.

C ومثلاً: لو أن جيشاً عظيماً يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والأمم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريباته وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزوّدهم وحده بالأرزاق المختلفة، والاسلحة المتـباينة، والألبــسة المتغــايرة، دون نسيان أي منها ولا التباس ولا حيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب، فكما ان هذا المعسكر العجيب يرينا بداهة ذلك القائد الخارق، بل يحببه الينا بكل تقدير واعجاب؛ كذلك معسكر الأرض؛ ففي كل ربيع يجنّد مجدداً جيشاً سبحانياً عظيماً مكوناً من اربعمائة ألف نوع من شعوب النبـاتات وأمم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وأرزاقه واسلحته وتدريبه ورخصه الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، بلا نسيان لأحد ولا اختلاط ولا تحير وفي منتهى الكمال وغاية الأنتظام.. فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الأرض يُري - لأولي الالباب والبصائر - حاكم الأرض حسب العلوم العسكرية وربّها ومدبرها، وقائدها الأقدس الاجلّ، ويعرّفه لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياساً الى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مليكه سبحانه بالتحميد والتقديس والتسبيح.

C ومثلاً: هب ان ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ ألا تُري - باعجاب وتقديرــ أن هناك مهندساً حاذقاً، وكهربائياً بارعاً لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟.. فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الأرض وهي اكبر من الكرة الأرضية نفسها بألوف المرات حسب علم الفلك وتسير أسرع من انطلاق القذيفة، من دون ان تخل بنظامها، او تتصادم مع بعضها مطلقاً ومن دون انطفاء، ولا نفاد وقود وفق ما تقرأونه في علم الفلك.. هذه المصابيح تشير باصابع من نور الى قدرة خالقها غير المحدودة . فشمسنا مثلاً وهي اكبر بمليون مرة من كرتنا الأرضية، وأقدم منها بمليون سنة، ما هي الا مصباح دائم، وموقد مستمر لدار ضيافة الرحمن. فلأجل ادامة اتقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقوداً بقدر بحار الأرض، وفحماً بقدر جبالها، وحطباً بقدر اضعاف اضعاف حجم الأرض، ولكن الذي يشعلها - ويشعل جميع النجوم الاخرى أمثالها - بلا وقود ولا فحم ولا زيت ودون انطفاء ويسيّرها بسرعة عظيمة معاً دون اصطدام، انما هي قدرة لا نهاية لها وسلطنة عظيمة لا حدود لها.. فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة، وقناديل متدلية يبين بوضوح - وفق مقاييس علم الكهرباء الذي قرأتموه أو ستقرأونه - سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوّره ومدبّره البديع وصانعه الجليل، بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحببه الى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم الى عبادته سبحانه.

C ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضـها البعض، فهـذا الكتاب العجــيـب يبين بلاشـــك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة. أي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعــريفاً يضــاهــي وضوح النـهــار، ويبين كمـالَه وقـدرتَه، ويثـيـر مـن الاعجـاب والتقدير لدى الناظرين اليه ما لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله،سبحان الله،ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والاعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه، وهي سطح الارض، ويُكتب في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع، ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معاً ومتداخلاً بعضها ببعض بلا اختلاط ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه كالشجرة، قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه كالبذرة، فهرس كتاب كامل. فكما ان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد ان وراءه قلماً سيالاً يسطر، فلكم اذن ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الاكبر المجسم وهو العالم، على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جل وعلا، قياساً الى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الاشياء او فن القراءة والكتابة، وتناوله بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة الى هذا الكون الكبير. بل تفهمون كيف يعرّف الخالقَ العظيم بـ ((الله اكبر)) وكيف يعلّم التقديس بـ ((سبحان الله)) وكيف يحبّب الله سبحانه الينا بثناء ((الحمدلله)).

وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياساً على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه باسمائه الحسنى، ويعلّمه ايانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.

فقلت لأولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: ] خَلَق السموات والأرض[ و] ربّ السموات والأرض[ انما هي لأجل الارشاد الى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه.

فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير الجزاء ورضي عنك.

قلت: ان الانسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الانواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الأنواع من اللذائذ، ومع أنه في منتهى العجز، فان له من الأعداء ما لا يحد سواء الماديين أو المعنويين، ومع أنه في غاية الفقر فان له رغبات باطنة وظاهرة لا تحصر، فهو مخلوق مسكين يتجّرع آلام صفعات الزوال والفراق باستمرار.. فرغم كل هذا، فانه يجد بانتسابه الى السلطان ذي الجلال بالايمان والعبودية، مستنداً قوياً، ومرتكزاً عظيماً يحتمي اليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدار استمداد يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة، فكما ينتسب كلٌ الى سيده ويفخر بشرف انتسابه اليه، ويعتز بمكانة منزلته لديه، كذلك فان انتساب الانسان بالايمان الى القدير الذي لا نهاية لقدرته، والى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته، بالطاعة والشكران، يبدّل الأجل والموت من الاعدام الأبدي الى تذكرة مرور ورخصة الى العالم الباقي!. فلكم ان تقدّروا كم يكون هذا الانسان متلذذاً بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتناً بالايمان الذي يجده في قلبه، وسعيداً بأنوار الاسلام، ومفتخراً بسيّده القدير الرحيم شاكراً له نعمة الايمان والاسلام.

ومثلما قلت ذلك لاخواني الطلبة، اقول كذلك للمسجونين:

ان من عرف الله واطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومن غفل عنه ونسيه شقي ولو كان في قصور مشيدة. فلقد صرخ مظلوم ذات يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الاعدام فرحاً جذلاً وقائلاً:

انني لا انتهى الى الفناء ولا اُعدم، بل اُسرح من سجن الدنيا طليقاً الى السعادة الابدية، ولكني اراكم انتم محكومين عليكم بالاعدام الابدي لما ترون الموت فناء وعدماً. فانا اذن قد اخذت ثأرى منكم. فسلّم روحه وهو قرير العين يردد: لا اله الاّ الله.

] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنآ اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا انّكَ اَنْتَ العَليمُ الحَكيمُ[

نكتة توحيدية في لفظ ((هو))

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً

اخوتي الاعزاء الأوفياء:

لقد شاهدت ـ مشاهدة آنية ـ خلال سياحة فكرية خيالية، لدى مطالعة صحيفة الهواء من حيث جهته المادية فقط، نكتةً توحيدية ظريفة تولدت من لفظ ((هو)) الموجود في ] لا إله اِلاّ هو[ وفي ] قل هو الله أحد[ ورأيت فيها ان سبيل الايمان سهل ويسير الى حد الوجوب بينما سبيل الشرك والضلالة فيه من المحالات والمعضلات الى حد الامتناع.

سأبين باشارة في منتهى الاختصار تلك النكتة الظريفة الواسعة الطويلة.

نعم! ان حفنة من تراب، يمكن ان تكون موضع استنبات مئات من النباتات المزهرة اِنْ وضعتْ فيها متعاقبةً. فاِن اُحيل هذا الامر الى الطبيعة والأسباب يلزم؛ اِما ان تكون في تلك الحفنة من التراب مئات من المصانع المصغرة المعنوية، بل بعدد الأزهار.. أو ان كل ذرة من ذرات تلك الحفنة من التراب تعلم بناء تلك الأزهار المتنوعة وتركيبها بخصائصها المتنوعة واجهزتها الحيوية، اي لها علم محيط وقدرة مطلقة بما يشبه علم الآله وقدرته!!.

وكذلك الهواء الذي هو عرش من عروش الأمر والارادة الإلهية، فلكل جزء منه، من نسيم وريح، بل حتى للهواء الموجود في جزء من نَفَس الانسان الضَئيل عندما ينطق كلمة ((هو)) وظائف لا تعد ولا تحصى.

فلو اُسندت هذه الوظائف الى الطبيعة والمصادفة والاسباب؛ فإما أنه أي الهواء يحمل بمقياس مصغر مـراكز بــث واستقــبـال لجميع ما فـي العالم من اصـوات ومكالمات في التلغراف والتلفون والراديو مع ما لا يحد من انواع الاصوات للكلام والمحادثات، وان يكون له القدرة على القيام بتلك الـوظـائف جميـعها في وقت واحد.. أو أن ذلك الجزء من الهواء الموجود في كلمة ((هو))، وكل جزء من اجزائه وكل ذرة من ذراته، لها شخصيات معنوية، وقابليات بعدد كل مَن يتكلم بالتلفونات وجميع مَن يبث من البرقيات المتنوعة وجميع مَن يذيع كلاماً من الراديوات، وان تعلم لغاتهم ولهجاتهم جميعاً، وتعلّمه في الوقت نفسه الى الذرات الاخرى، وتنشره وتبثه. حيث ان قسماً من ذلك الوضع مشهود أمامنا، وان اجزاء الهواء كلها تحمل تلك القابلية.. اذاً فليس هناك محال واحد في طريق الكفر من الماديين الطبيعيين بل محالات واضحة جلية ومعضلات واشكالات بعدد ذرات الهواء.

ولكن ان اُسند الأمر الى الصانع الجليل، فان الهواء يصبح بجميع ذراته جندياً مستعداً لتلقي الأوامر. فعنئذٍ تقوم ذراتُه باداء وظائفها الكلية المتنوعة والتي لا تحد باذن خالقها وبقوته وبانتسابها واستنادها اليه سبحانه، وبتجلي قدرة صانعها تجلياً آنياً ــ بسرعة البرق ــ وبسهولة قيام ذرة واحدة بوظيفة من وظائفها وبيُسر تلفظ كلمة "هو" وتموج الهواء فيها. اي يكون الهواء صحيفة واسعة للكتابات المنسقة البديعة التي لا تحصر لقلم القدرة الإلهية، وتكون ذراته بدايات ذلك القلم، وتصبح وظائف الذرات كذلك نقاط قلم القَدَر، لذا يكون الأمر سهلاً كسهولة حركة ذرة واحدة.

رأيت هذه الحقيقة بوضوح تام وبتفصيل كامل وبعين اليقين عندما كنت اشاهد عالم الهواء واطالع صحـيفـته فـي سيـاحتي الفـكرية وتأمـلي في ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ وعلمت بعلم اليقين ان في الهواء الموجود في لفظ ((هو)) برهاناً ساطعاً للوحدانية مثلما ان في معناه وفي اشارته تجليا للأحدية في غاية النورانية وحجة توحيدية في غاية القوة، حيث فيها قرينة الاشارة المطلقة المبهمة لضمير ((هو)) اي: الى مَن يعود؟ فعرفت عندئذٍ لماذا يكرر القرآن الكريم واهل الذكر هذه الكلمة عند مقام التوحيد.

نعم! لو أراد شخص ان يضع نقطة معينة ـ مثلاً ـ على ورقة بيضاء في مكان معين، فان الامر سهل، ولكن لو طُلب منه وضع نقاط عدة في مواضع عدة في آن واحد فالأمر يستشكل عليه ويختلط. كذلك يرزح كائن صغير تحت ثقل قيامه بعدة وظائف في وقت واحد. لذا فالمفروض أن يختلط النظام ويتبعثر عند خروج كلمات كثيرة في وقت واحد من الفم ودخولها الاذن معاً..

ولكني شاهدت بعين اليقين، وبدلالة لفظ ((هو)) هذا الذي اصبح مفتاحاً وبمثابة بوصلة، ان نقاطاً مختلفة تعد بالالوف وحروفاً وكلماتٍ توضع ـ أو يمكن ان توضع ـ على كل جزء من اجزاء الهواء الذي اسيح فيه فكراً بل يمكن ان توضع كلها على عاتق ذرة واحدة من دون ان يحدث اختلاط او تشابك أو ينفسخ النظام، علماً ان تلك الذرة تقوم بوظائف اخرى كثيرة جداً في الوقت نفسه، فلا يلتبس عليها شئ، وتحمل اثقالاً هائلة جداً من دون ان تبدي ضعفاً او تكاسلاً، فلا نراها قاصرة عن اداء وظائفها المتنوعة واحتفاظها بالنظام؛ اذ ترد الى تلك الذرات الوف الالوف من الكلمات المختلفة في انماط مختلفة واصوات مختلفة، وتخرج منها ايضاً في غاية النظام مثلما دخلت، دون اختلاط أو امتزاج ودون ان يفسد احداها الاخرى. فكأن تلك الذرات تملك آذاناً صاغية صغيرة على قدّها، وألسنة دقيقة تناسبها فتدخل تلك الكلمات تلك الآذان وتخرج من ألسنتها الصغيرة تلك.. فمع كل هذه الامور العجيبة فان كل ذرة ـ وكل جـزء من الهواء ـ تتـجــول بحـريـة تامـة ذاكرةً خالقها بلسان الحال وفي نشوة الجذب والوجد قائلة: ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ بلسان الحقيقة المذكورة آنفاً وشهادتها.

وحينما تحدث العواصف القوية وتدّوي اهازيج الرعد، ويتلمع الفضاء بسنا البرق، يتحول الهواء الى امواج ضخمة متلاطمة.. بيد ان الذرات لا تفقد نظامها ولا تتعثر في اداء وظائفها فلا يمنعها شغل عن شغل.. هكذا شاهدت هذه الحقيقة بعين اليقين.

اذن، فإما ان تكون كل ذرة ـ وكل جزء من الهواء ـ صاحبة علم مطلق وحكمة مطلقة وارادة مطلقة وقوة مطلقة وقدرة مطلقة وهيمنة كاملة على جميع الذرات.. كي تتمكن من القيام باداء هذه الوظائف المتنوعة على وجهها.. وما هذا الاّ محالات ومحالات بعدد الذرات وباطل بطلاناً مطلقاً. بل حتى لا يذكره اي شيطان كان..

لذا فان البداهة تقتضي، بل هو بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين: أن صحيفة الهواء هذه انما هي صحيفة متبدلة يكتب الخالقُ فيها بعلمه المطلق ما يشاء بقلم قُدرته وقَدَره الذي يحركه بحكمته المطلقة، وهي بمثابة لوحة محوٍ واثبات في عالم التغيّر والتّبدل للشؤون المسطّرة في اللوح المحفوظ.

فكما ان الهواء يدل على تجلي الوحدانية بهذه الامور العجيبة المذكورة آنفاً، وذلك لدى اداء وظيفة واحدة من وظائفها وهي نقل الاصوات، ويبين في الوقت نفسه بياناً واضحاً محالات الضلالة التي لا تحصر، كذلك فهو يقوم بوظائف في غاية الاهمية وفي غاية النظام ومن دون اختلاط أو تشابك أو التباس كنقل المواد اللطيفة مثل الكهرباء والجاذبية والدافعة والضوء.. وفي الوقت نفسه يدخل الى مداخل النباتات والحيوانات بالتنفس مؤدياً هناك مهماته الحياتية باتقان، وفي الوقت عينه يقوم بنقل حبوب اللقاح ـ أي وظيفة تلقيح النباتات ـ وهكذا امثال هذه الوظائف الاساسية لإدامة الحياة؛ مما يثبت يقيناً ان الهواء عرش عظيم يأتمر بالأمر الإلهي وارادته الجليلة. ويثبت ايضاً بعين اليقين ان لا احتمال قطعاً لتدخل المصادفة العشواء والاسباب السائبة التائهة والمواد العاجزة الجامدة الجاهلة في الكتابة البديعة لهذه الصحيفة الهوائية وفي اداء وظائفها الدقيقة. فاقتنعْتُ بهذا قناعة تامة بعين اليقين وعرفتُ ان كـل ذرة وكل جزء من الـهواء تقول بلســان حالها : ] قل هو الله أحد[ و ] لا إله الاّ هو[ .

ومثلما شاهدت هذه الامور العجيبة في الجهة المادية من الهواء بهذا المفتاح، اعني مفتاح ((هو)) فعنصر الهواء برمته اصبح ايضاً كلفظ ((هو)) مفتاحاً لعالم المثال وعالم المعنى؛ اذ قد علمتُ ان عالم المثال كآلة تصوير عظيمة جداً تلتقط صوراً لا تعد ولا تحصى للحوادث الجارية في الدنيا، تلتقطها في آن واحد بلا اختلاط ولا التباس حتى غدا هذا العالم يضم مشاهد عظيمة وواسعة اُخروية تسع الوف الوف الدُنى تعرض اوضاع حالات فانية لموجودات فانية وتظهر ثمار حياتها العابرة في مشاهد ولوحات خالدة تعرض امام اصحاب الجنة والسعادة الأبدية في معارض سرمدية مذكّرةً اياهم بحوادث الدنيا وذكرياتهم الجميلة الماضية فيها.

فالحجة القاطعة على وجود اللوح المحفوظ وعالم المثال ونموذجها المصغر هو ما في رأس الانسان من قوة حافظة وما يملك من قوة خيال، فمع انهما لا تشغلان حجم حبة من خردل الاّ انهما تقومان بوظائفهما على اتم وجه بلا اختلاط ولا التباس وفي انتظام كامل واتقان تام، حتى كأنهما يحتفظان بمكتبة ضخمة جداً من المعلومات والوثائق. مما يثبت لنا أن تينك القوتين نموذجان للوح المحفوظ وعالم المثال.

وهكذا لقد عُلم بعلم اليقين القاطع ان الهواء والماء ولا سيما سائل النطف، واللذان يفوقان الترابَ في الدلالة على الله ــ الذي اوردناه في مستهل البحث ـ صحيفتان واسعتان يكتب فيهما قلمُ القدر والحكمة كتابة حكيمة بليغة، ويجريان فيهما الارادة وقلم القدر والقدرة. وان مداخلة المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والاسباب التائهة الجامدة في تلك الكتابة الحكيمة محال في مائة محال وغير ممكن قطعاً.



(لم تُكتَّب بقية البحث في الوقت الحاضر)

الف الف تحية وسلام الى الجميع

عبدالرزاق 02-02-2011 01:39 AM

رد: الكلمات
 
باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.

أيها الاخوة الاعزاء الأوفياء!

لقد رأيت انوار سلوان ثلاثة، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وارزاقهم.

النقطة الأولى:

ان كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن ان يُكسِب المرء ثواب عبادة عشرة أيام، ويمكن ان يحوّل ساعاته الفانية - من حيث النتيجة - الى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن ان يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.

فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان باداء الفرائض والتوبة الى الله من الذنوب والمعاصي التي دفعته الى السجن، والتوجه اليه تعالى بالشكر صابراً محتسباً. علماً ان السجن نفسه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.

النقطة الثانية:

ان زوال الألم لذةٌ، كما ان زوال اللذة ألمٌ.

نعم! ان كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه حسرة وأسفاً عليها، حتى ينطلق لسانه بكلمات الحسرات: اواه.. آه.. بينما اذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فانه يشعر في روحه وقلبه فرحاً وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: الحمد لله والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركة ثوابها. فينشرح صدره ويرتاح.

أي أن ألماً موقتاً لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذة موقتة لساعة من الزمان تترك ألماً معنوياً في الروح، خلافاً لذلك.

فما دامت الحقيقة هذه، وساعات المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عداد المعدوم، وان أيام البلايا لم تأت بعدُ، فهي ايضاً في حكم المعدوم.. وانه لا ألم من غير شئ.. ولا يرد من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة اذن اظهار الجزع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّت، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علماً انها جميعاً في عداد المعدوم. ومن الحماقة أيضاً اظهار الشكوى من الله وترك النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاء الوقت بالحسرات والزفرات. أوَليس من يفعل هذا أشد بلاهة ممن يداوم على الأكل والشرب طوال اليوم خشية أن يجوع أو يعطش بعد أيام؟

نعم! ان الانسان اِن لم يشتت قوة صبره يميناً وشمالاً - الى الماضي والمستقبل - وسدّدها الى اليوم الذي هو فيه، فانها كافية لتحل له حبال المضايقات.

حتى انني أذكر ـ ولا أشكو – ان ما مرّ عليّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة(1) في غضون أيام قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أرها طوال حياتي، ولا سيما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض. وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معاً من الضيق واليأس اذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري ايّما انشراح وولت تلك المضايقات فرضيت بالسجن وآلامه والمرض وأوجاعه. اذ مَن كان مثلي على شفير القبر يعدّ ربحاً عظيماً له أن تتحول ساعة من ساعاته التي يمكن ان تمر بغفلة الى عشر ساعات من العبادة... فشكرت الله كثيراً.

النقطة الثالثة:

ان القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة واعطاءهم ارزاقهم التي يحتاجون اليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلي والعزاء، مع انه عمـل بسيـط الاّ أنه يحمل في طياته ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً. حيث أن تسليم ارزاقهم التي تُرسل اليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتكتب في سجل حسنات كل مَن قام بهذا العمل، سواءاً الذين أتوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولا سيما ان كان المسجون شيخاً كبيراً أو مريضاً أو غريباً عن بلده أو فقيراً معدماً، فان ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيراً.

وهذا الربح العظيم مشروط باداء الفرائض من الصلوات لتصبح تلك الخدمة لوجه الله.. مع شرط آخر هو ان تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون ان يحمّل شيئاً من المنة.

u u u

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً.

يا اخوتي في الدين ويا زملائي في السجن!.

لقد اُخطر لقلبي ان أبين لكم حقيقة مهمة، تنقذكم باذن الله من عذاب الدنيا والآخرة وهي كما أوضحها بمثال:

ان أحداً قد قتل شقيق شخص آخر أو أحد أقربائه. فهذا القتل الناجم من لذة غرور الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن. وفي الوقت نفسه يظل اقرباء المقتول أيضاً في قلق دائم وتحين الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه. فتضيع منهم لذة العمر ومتعة الحياة بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب.

ولا علاج لهذا الأمر ولا دواء له الاّ الصلح والمصالحة بينهما، وذلك الذي يأمر به القرآن الكريم، ويدعو اليه الحق والحقيقة، وفيه مصلحة الطرفين، وتقتضيه الانسانية، ويحث عليه الاسلام.

نعم، ان المصلحة والحقيقة في الصلح، والصلح خير؛ لأن الأجل واحد لا يتغير، فذلك المقتول على كل حال ما كان ليظل على قيد الحياة ما دام أجله قد جاء. اما ذلك القاتل فقد أصبح وسيلة لذلك القضاء الإلهي، فإن لم يحل بينهما الصلحُ فسيظلان يعانيان الخوف وعذاب الانتقام مدة مديدة؛ لذا يأمر الاسلام بعدم هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام. فان لم يكن ذلك القتل قد نجم من عداء أصيل ومن حقد دفين، وكان أحد المنافقين سبباً في اشعال نار الفتنة، فيلزم الصلح فوراً، لأنه لولا الصلح لعظمت تلك المصيبة الجزئية ودامت، بينما اذا ما تصالح الطرفان وتاب القاتل عن ذنبه، واستمر على الدعاء للمقتول، فان الطرفين يكسبان الكثير، حيث يدب الحب والتآلف بينهما، فيصفح هذا عن عدوه ويعفو عنه واجداً أمامه اخوة اتقياء أبراراً بدلاً من شقيق واحد راحل، ويستسلمان معاً لقضاء الله وقدره، ولا سيما الذين استمعوا الى دروس النور، فهم مدعوون لهجر كل ما يفسد بين اثنين، اذ الأخوة التي تربطهم ضمن نطاق النور، والمصلحة العامة، وراحة البال وسلامة الصدر التي يستوجبها الإيمان.. تقتضي كلها نبذ الخلافات واحلال الوفاق والوئام. ولقد حصل هذا فعلاً بين مسجونين يعادي بعضهم بعضاً في سجن ((دنيزلي)) فاصبحوا بفضل الله أخوة متحابين بعد ان تلقوا دروساً من رسائل النور، بل غدوا سبباً من أسباب براءتنا، حتى لم يجد الملحدون والسفهاء من الناس بداً أمام هذا التحابب الاخروي، فقالوا مضطرين: ما شاء الله.. بارك الله!! وهكذا انشرحت صدور السجناء جميعاً وتنفسوا الصعداء بفضل الله.اذ إني أرى هنا مدى الظلم الواقع على المسجونين، حيث يشدد الخناق على مائة منهم بجريرة شخص واحد، حتى انهم لا يخرجون معه الى فناء السجن في أوقات الراحة.. ألا ان المؤمن الغيور لا تسعه شهامته ان يؤذي المؤمن قط، فكيف يسبب له الأذى لمنفعته الجزئية الخاصة، فلابد ان يسارع الى التوبة والإنابة الى الله حالما يشعر بخطئه وتسبّبه في أذى المؤمن.

u u u



باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً

اخوتي المسجونين الاعزاء الجدد والقدامى!

لقد بت على قناعة تامة من ان العناية الإلهية هي التي ألقت بنا الى ههنا وذلك لأجلكم أنتم، أي ان مجيئنا الى هنا انما هو لبث السلوان والعزاء الذي تحمله رسائل النور اليكم.. وتخفيف مضايقات السجن عنكم بحقائق الإيمان.. وصونكم من كثير من بلايا الدنيا ولأوائها.. وانتشال حياتكم المليئة بالأحزان والهموم من العبثية وعدم الجدوى.. وانقاذ آخرتكم من ان تكون كدنياكم حزينة باكية.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فعليكم ان تكونوا اخوة متحابين كطلاب النور وكأولئك الذين كانوا معنا في سجن ((دنيزلي)).

فها أنتم اولاء ترون الحراس الذين يحرصون على القيام بخدماتكم يعانون الكثير من المشقات في التفتيش، بل حتى انهم يفتشون طعامكم لئلا تكون فيه آلة جارحة، ليحولوا دون تجاوز بعضكم على بعض، وكأنكم وحوش مفترسة ينقضُّ الواحد على الآخر ليقتله، فضلاً عن انكم لا تستمتعون بالفرص التي تتاح لكم للتفسح والراحة خوفاً من نشوب العراك فيما بينكم.

ألا فقولوا مع هؤلاء الأخوة حديثي العهد بالسجن الذين يحملون مثلكم بطولة فطرية وشهامة وغيرة.

قولوا أمام الهيئة ببطولة معنوية عظيمة في هذا الوقت:

((ليست الآلات الجارحة البسيطة، بل لو سلمتم الى أيدينا أسلحة نارية فلا نتعدى على أصدقائنا وأحبابنا هؤلاء الذين نكبوا معنا، حتى لو كان بيننا عداء أصيل سابق. فقد عفونا عنهم جميعاً، وسنبذل ما في وسعنا الاّ نجرح شعورهم ونكسر خاطرهم، هذا هو قرارنا الذي اتخذناه بارشاد القرآن الكريم وبأمر اخوة الإسلام وبمقتضى مصلحتنا جميعاً)).

وهكذا تحوّلون هذا السجن الى مدرسة طيبة مباركة.

[ ذيل المقام الثاني من الكلمة الثالثة عشرة ]

مسألة مهمة تخطرت في ليلة القدر

هذه حقيقة واسعة جداً وطويلة في الوقت نفسه، خطرت على القلب ليلة القدر سأحاول ان أشير اليها اشارة مختصرة جداً، كالآتي:

أولاً:

لقد قاست البشرية من ويلات هذه الحرب العالمية الأخيرة ايّ مقاساة، اذ رأت أشد أنواع الظلم وأقسى أنواع الاستبداد والتحكم، مع الدمار الظالم المريع في الارض كافة، فقد نكبت مئات الابرياء بجريرة شخص واحد، ووقع المغلوبون على أمرهم في بؤس وشقاء مريرين، وبات الغالبون في عذاب وجداني أليم لعجزهم عن اصلاح دمارهم الفظيع وخشيتهم من ان يعجزوا عن الحفاظ على سيادتهم. وظهر للناس بجلاء تام؛ ان الحياة الدنيا فانية لا ريب فيها، وان زخارف المدنية خادعة ومخدّرة لا تجدي شيئاً، وتلطخت البشرية بدماء الطعنات القوية التي نزلت بالذات الانسانية وبالاستعدادات الرفيعة في فطرتها.. وظهر للعيان تحطم الغفلة والضلالة والطبيعة الجامدة الصماء تحت ضربات سيف القرآن الالماسي.. وافتضحت الصورة الحقيقة للسياسة الدولية الشوهاء الغدارة والتي هي أوسع ستار واكثفه لإغفال الناس واضلالهم واشده خنقاً وخداعاً لروحهم.

فلاشك ان فطرة البشرية - بعد وضوح هذه الأمور - ستبحث عن معشوقها ((الحقيقي)) وهو الحياة الباقية الخالدة وتسعى اليها بكل قواها - وقد بدت اماراتها في شمال العالم وغربه وفي أمريكا - وستعلم جيداً ان الحياة الدنيا التي تتعشقها عشقاً ((مجازياً)) دميمة شوهاء، فانية زائلة.

ولا ريب انها ستبحث عن القرآن الكريم الذي له في كل عصر ثلاثمائة مليونٍ من العاملين له المتتلمذين عليه منذ ألف وثلاثمائة وستين سنة.. والذي يصدق كل حكم من احكامه ودعاويه ملايين من أرباب الحقيقة.. والذي يحـتفظ بمكانـته المقـدسة في قلوب ملايـين الحــفاظ فــي كــل دقيقـة.. والـذي يرشـــد البشرية بألسـنـتــهم، ويبشرها باسلوبه المعجز بالحياة الباقية والسعادة الدائمـة، مضمداً بها جراحــاتها الغائرة، بل يبشر بها بألوف آياته القوية الشديدة المكررة، بل قد يخبر عنها صراحة أو اشارة بعشرات الألوف من المرات، ناصباً عليها ما لايعد من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة والحجج الثابتة.

فان لم تفقد البشرية صوابها كلياً ولم تقم عليها قيامة - مادية أو معنوية - فستبحث حتماً عن القرآن الكريم المعجز البيان كما حدث في قارات العالم كله ودولها العظمى، وحدث فعلاً في السويد والنرويج وفنلندا، ومثلما يسعى لقبوله خطباء مشهورون من انكلترا وتقوم بالبحث عنه جمعية تتحرى الدين الحق وهي ذات شأن في أمريكا.. ولابد انهم بعد ان يدركوا حقائقه سيعتصمون به ويلتفون حوله بكل مهجهم وارواحهم. ذلك لأنه ليس من نظير للقرآن في معالجة هذه الحقيقة، ولن يكون، ولا يمكن ان يسد مسدّ هذه المعجزة الكبرى شئ قطعاً.

ثانياً:

ان رسائل النور قد أظهرت خدماتها كسيف ألماسي قاطع بيد هذه المعجزة الكبرى، حتى ألزمت الحجة أعداءها العنيدين وألجأتهم الى الاستسلام، وانها تقوم بوظيفتها بين يدي هذه الخزينة القرآنية من حيث كونها معجزةً لمعانيه المعجزة على نحو تستطيع ان تنور القلب والروح والمشاعر، مناولةً كلاً منها علاجاتها الناجعة، ولا غرو فهي الداعية الى هذا القرآن العظيم والمستفيضة منه وحده ولا ترجع الاّ اليه.

وانها اذ تقوم بمهمتها خير قيام، انتصرت في الوقت نفسه على الدعايات المغرضة الظالمة التي يشيعها أعداؤها، وقضت على أشد الزنادقة تعنتاً، ودكّت أقوى قلاع الضلالة التي تحتمي بها وهي (الطبيعة) برسالة (الطبيعة)، كما بددت الغفلة وأظهرت نور التوحيد في أوسع ميادين العلوم الحديثة وأشد الظلمات الخانقة للغفلة بالمسألة السادسة (للثمرة) وبالحجج الأولى والثانية والثالثة.. والثامنة من رسالة (عصا موسى).

ومن هنا فانه من الضروري لنا - وأكثر ضرورة للأمة - ان يفتح طلاب النور - في حدود القدرات المتاحة - في كل مكان مدارس نورية صغيرة بعدما سمحت الدولة - في الوقت الحاضر - بفتح مدارس خاصة لتدريس الدين(1).

صحيح ان كل قارئ للرسائل يستطيع ان يستفيد منها شيئاً لنفسه الاّ انه لا يستطيع ان يستوعب كل مسألة من مسائلها؛ ذلك لانها ايضاح لحقائق الإيمان. فهي دروس علمية، ومعرفة إلهية، وسكينة للقلب وعبادة لله في الوقت نفسه(1).

ان النتائج التي كان يمكن الحصول عليها في المدارس الدينية طوال خمس أو عشر سنوات يمكن الحصول عليها في مدارس النور في خمسة أو عشرة أسابيع بإذن الله، بل ضمنت تلك النتائج في العشرين سنة التي خلت والحمدلله.

ثم بات من المسلّم به فائدة هذه الرسائل الداعية الى القرآن والتي هي لمعات من أنواره الباهرة، لحياة الأمة ولأمن البلاد، وحتى لحياتها السياسية فضلاً عن حياتها الأخروية، فمن الضروري اذن للدولة الاّ تتعرض لها بسوء بل تسعى جادة الى نشرها وتشجع الناس على قراءتها.. ليكون عملها هذا كفّارة عما اقترفت من سيئآت فاحشة سابقة وسداً منيعاً في وجه ما سيقبل من ويلات ومصائب وفوضى وارهاب.

المسألة السادسة

من رسالة الثمرة



هذه المسألة اشارة مختصرة الى برهان واحد فقـط من بين ألوف البراهين الكلية حول (الايمان بالله) والذي تم ايضاحه مع حججه القاطعة في عدة مواضع من رسائل النور.

جاءني فريق من طلاب الثانوية في ((قسطموني))(1) قائلين:

((عرّفنا بخالقنا، فان مدرسينا لا يذكرون الله لنا!)).

فقلت لهم:

((ان كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوماً، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا الى تلك العلوم دون المدرسين)).

فمثلاً: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا ان وراءها صيدليا حكيماً، وكيميائياً ماهراً، كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء نباتاً وحيواناً، وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة. فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها وانتظامها وعظمتها، قياساً على تلك الصيدلية التي في السوق، وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.

ومثلاً: كما أن مصنعاً خارقاً عجيـباً ينسـج ألوفاً من أنـواع المنســوجات المتنوعة، والأقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك ان وراءه مهندساً ميكانيكياً ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الارضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا بلا شك صانعَه، ومالكَه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأونه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الآلهي، وعظمته قياساً على ذلك المصنع الانساني.

C ومثلاً: كما ان حانوتاً أو مخزناً للأعاشة والارزاق، ومحلاً عظيماً للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع من المواد الغذائية، وميّز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا ان له مالكاً ومدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للاعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة اربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من اصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها الى نوع خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الاربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الانواع من مختلف الأطعمة، فيأتي بها الى الخلق المساكين الذين نفد قوتُهم في الشتاء. تلك هي الكرة الأرضية، والسفينة السبحانية التي تضم آلاف الانواع من البضائع والاجهزة ومعلبات الغذاء. فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - وفق مقاييس علم الاعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبَه ومالكَه ومتصرفَه بدرجة عظمة هذا المخزن، قياساً على ذلك المخزن المصنوع من قبل الانسان، ويعرّفه لنا، ويحببه الينا.

C ومثلاً: لو أن جيشاً عظيماً يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والأمم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريباته وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزوّدهم وحده بالأرزاق المختلفة، والاسلحة المتـباينة، والألبــسة المتغــايرة، دون نسيان أي منها ولا التباس ولا حيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب، فكما ان هذا المعسكر العجيب يرينا بداهة ذلك القائد الخارق، بل يحببه الينا بكل تقدير واعجاب؛ كذلك معسكر الأرض؛ ففي كل ربيع يجنّد مجدداً جيشاً سبحانياً عظيماً مكوناً من اربعمائة ألف نوع من شعوب النبـاتات وأمم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وأرزاقه واسلحته وتدريبه ورخصه الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، بلا نسيان لأحد ولا اختلاط ولا تحير وفي منتهى الكمال وغاية الأنتظام.. فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الأرض يُري - لأولي الالباب والبصائر - حاكم الأرض حسب العلوم العسكرية وربّها ومدبرها، وقائدها الأقدس الاجلّ، ويعرّفه لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياساً الى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مليكه سبحانه بالتحميد والتقديس والتسبيح.

C ومثلاً: هب ان ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ ألا تُري - باعجاب وتقديرــ أن هناك مهندساً حاذقاً، وكهربائياً بارعاً لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟.. فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الأرض وهي اكبر من الكرة الأرضية نفسها بألوف المرات حسب علم الفلك وتسير أسرع من انطلاق القذيفة، من دون ان تخل بنظامها، او تتصادم مع بعضها مطلقاً ومن دون انطفاء، ولا نفاد وقود وفق ما تقرأونه في علم الفلك.. هذه المصابيح تشير باصابع من نور الى قدرة خالقها غير المحدودة . فشمسنا مثلاً وهي اكبر بمليون مرة من كرتنا الأرضية، وأقدم منها بمليون سنة، ما هي الا مصباح دائم، وموقد مستمر لدار ضيافة الرحمن. فلأجل ادامة اتقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقوداً بقدر بحار الأرض، وفحماً بقدر جبالها، وحطباً بقدر اضعاف اضعاف حجم الأرض، ولكن الذي يشعلها - ويشعل جميع النجوم الاخرى أمثالها - بلا وقود ولا فحم ولا زيت ودون انطفاء ويسيّرها بسرعة عظيمة معاً دون اصطدام، انما هي قدرة لا نهاية لها وسلطنة عظيمة لا حدود لها.. فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة، وقناديل متدلية يبين بوضوح - وفق مقاييس علم الكهرباء الذي قرأتموه أو ستقرأونه - سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوّره ومدبّره البديع وصانعه الجليل، بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحببه الى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم الى عبادته سبحانه.

C ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضـها البعض، فهـذا الكتاب العجــيـب يبين بلاشـــك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة. أي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعــريفاً يضــاهــي وضوح النـهــار، ويبين كمـالَه وقـدرتَه، ويثـيـر مـن الاعجـاب والتقدير لدى الناظرين اليه ما لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله،سبحان الله،ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والاعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه، وهي سطح الارض، ويُكتب في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع، ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معاً ومتداخلاً بعضها ببعض بلا اختلاط ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه كالشجرة، قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه كالبذرة، فهرس كتاب كامل. فكما ان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد ان وراءه قلماً سيالاً يسطر، فلكم اذن ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الاكبر المجسم وهو العالم، على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جل وعلا، قياساً الى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الاشياء او فن القراءة والكتابة، وتناوله بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة الى هذا الكون الكبير. بل تفهمون كيف يعرّف الخالقَ العظيم بـ ((الله اكبر)) وكيف يعلّم التقديس بـ ((سبحان الله)) وكيف يحبّب الله سبحانه الينا بثناء ((الحمدلله)).

وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياساً على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه باسمائه الحسنى، ويعلّمه ايانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.

فقلت لأولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: ] خَلَق السموات والأرض[ و] ربّ السموات والأرض[ انما هي لأجل الارشاد الى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه.

فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير الجزاء ورضي عنك.

قلت: ان الانسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الانواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الأنواع من اللذائذ، ومع أنه في منتهى العجز، فان له من الأعداء ما لا يحد سواء الماديين أو المعنويين، ومع أنه في غاية الفقر فان له رغبات باطنة وظاهرة لا تحصر، فهو مخلوق مسكين يتجّرع آلام صفعات الزوال والفراق باستمرار.. فرغم كل هذا، فانه يجد بانتسابه الى السلطان ذي الجلال بالايمان والعبودية، مستنداً قوياً، ومرتكزاً عظيماً يحتمي اليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدار استمداد يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة، فكما ينتسب كلٌ الى سيده ويفخر بشرف انتسابه اليه، ويعتز بمكانة منزلته لديه، كذلك فان انتساب الانسان بالايمان الى القدير الذي لا نهاية لقدرته، والى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته، بالطاعة والشكران، يبدّل الأجل والموت من الاعدام الأبدي الى تذكرة مرور ورخصة الى العالم الباقي!. فلكم ان تقدّروا كم يكون هذا الانسان متلذذاً بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتناً بالايمان الذي يجده في قلبه، وسعيداً بأنوار الاسلام، ومفتخراً بسيّده القدير الرحيم شاكراً له نعمة الايمان والاسلام.

ومثلما قلت ذلك لاخواني الطلبة، اقول كذلك للمسجونين:

ان من عرف الله واطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومن غفل عنه ونسيه شقي ولو كان في قصور مشيدة. فلقد صرخ مظلوم ذات يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الاعدام فرحاً جذلاً وقائلاً:

انني لا انتهى الى الفناء ولا اُعدم، بل اُسرح من سجن الدنيا طليقاً الى السعادة الابدية، ولكني اراكم انتم محكومين عليكم بالاعدام الابدي لما ترون الموت فناء وعدماً. فانا اذن قد اخذت ثأرى منكم. فسلّم روحه وهو قرير العين يردد: لا اله الاّ الله.

] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنآ اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا انّكَ اَنْتَ العَليمُ الحَكيمُ[

نكتة توحيدية في لفظ ((هو))

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً

اخوتي الاعزاء الأوفياء:

لقد شاهدت ـ مشاهدة آنية ـ خلال سياحة فكرية خيالية، لدى مطالعة صحيفة الهواء من حيث جهته المادية فقط، نكتةً توحيدية ظريفة تولدت من لفظ ((هو)) الموجود في ] لا إله اِلاّ هو[ وفي ] قل هو الله أحد[ ورأيت فيها ان سبيل الايمان سهل ويسير الى حد الوجوب بينما سبيل الشرك والضلالة فيه من المحالات والمعضلات الى حد الامتناع.

سأبين باشارة في منتهى الاختصار تلك النكتة الظريفة الواسعة الطويلة.

نعم! ان حفنة من تراب، يمكن ان تكون موضع استنبات مئات من النباتات المزهرة اِنْ وضعتْ فيها متعاقبةً. فاِن اُحيل هذا الامر الى الطبيعة والأسباب يلزم؛ اِما ان تكون في تلك الحفنة من التراب مئات من المصانع المصغرة المعنوية، بل بعدد الأزهار.. أو ان كل ذرة من ذرات تلك الحفنة من التراب تعلم بناء تلك الأزهار المتنوعة وتركيبها بخصائصها المتنوعة واجهزتها الحيوية، اي لها علم محيط وقدرة مطلقة بما يشبه علم الآله وقدرته!!.

وكذلك الهواء الذي هو عرش من عروش الأمر والارادة الإلهية، فلكل جزء منه، من نسيم وريح، بل حتى للهواء الموجود في جزء من نَفَس الانسان الضَئيل عندما ينطق كلمة ((هو)) وظائف لا تعد ولا تحصى.

فلو اُسندت هذه الوظائف الى الطبيعة والمصادفة والاسباب؛ فإما أنه أي الهواء يحمل بمقياس مصغر مـراكز بــث واستقــبـال لجميع ما فـي العالم من اصـوات ومكالمات في التلغراف والتلفون والراديو مع ما لا يحد من انواع الاصوات للكلام والمحادثات، وان يكون له القدرة على القيام بتلك الـوظـائف جميـعها في وقت واحد.. أو أن ذلك الجزء من الهواء الموجود في كلمة ((هو))، وكل جزء من اجزائه وكل ذرة من ذراته، لها شخصيات معنوية، وقابليات بعدد كل مَن يتكلم بالتلفونات وجميع مَن يبث من البرقيات المتنوعة وجميع مَن يذيع كلاماً من الراديوات، وان تعلم لغاتهم ولهجاتهم جميعاً، وتعلّمه في الوقت نفسه الى الذرات الاخرى، وتنشره وتبثه. حيث ان قسماً من ذلك الوضع مشهود أمامنا، وان اجزاء الهواء كلها تحمل تلك القابلية.. اذاً فليس هناك محال واحد في طريق الكفر من الماديين الطبيعيين بل محالات واضحة جلية ومعضلات واشكالات بعدد ذرات الهواء.

ولكن ان اُسند الأمر الى الصانع الجليل، فان الهواء يصبح بجميع ذراته جندياً مستعداً لتلقي الأوامر. فعنئذٍ تقوم ذراتُه باداء وظائفها الكلية المتنوعة والتي لا تحد باذن خالقها وبقوته وبانتسابها واستنادها اليه سبحانه، وبتجلي قدرة صانعها تجلياً آنياً ــ بسرعة البرق ــ وبسهولة قيام ذرة واحدة بوظيفة من وظائفها وبيُسر تلفظ كلمة "هو" وتموج الهواء فيها. اي يكون الهواء صحيفة واسعة للكتابات المنسقة البديعة التي لا تحصر لقلم القدرة الإلهية، وتكون ذراته بدايات ذلك القلم، وتصبح وظائف الذرات كذلك نقاط قلم القَدَر، لذا يكون الأمر سهلاً كسهولة حركة ذرة واحدة.

رأيت هذه الحقيقة بوضوح تام وبتفصيل كامل وبعين اليقين عندما كنت اشاهد عالم الهواء واطالع صحـيفـته فـي سيـاحتي الفـكرية وتأمـلي في ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ وعلمت بعلم اليقين ان في الهواء الموجود في لفظ ((هو)) برهاناً ساطعاً للوحدانية مثلما ان في معناه وفي اشارته تجليا للأحدية في غاية النورانية وحجة توحيدية في غاية القوة، حيث فيها قرينة الاشارة المطلقة المبهمة لضمير ((هو)) اي: الى مَن يعود؟ فعرفت عندئذٍ لماذا يكرر القرآن الكريم واهل الذكر هذه الكلمة عند مقام التوحيد.

نعم! لو أراد شخص ان يضع نقطة معينة ـ مثلاً ـ على ورقة بيضاء في مكان معين، فان الامر سهل، ولكن لو طُلب منه وضع نقاط عدة في مواضع عدة في آن واحد فالأمر يستشكل عليه ويختلط. كذلك يرزح كائن صغير تحت ثقل قيامه بعدة وظائف في وقت واحد. لذا فالمفروض أن يختلط النظام ويتبعثر عند خروج كلمات كثيرة في وقت واحد من الفم ودخولها الاذن معاً..

ولكني شاهدت بعين اليقين، وبدلالة لفظ ((هو)) هذا الذي اصبح مفتاحاً وبمثابة بوصلة، ان نقاطاً مختلفة تعد بالالوف وحروفاً وكلماتٍ توضع ـ أو يمكن ان توضع ـ على كل جزء من اجزاء الهواء الذي اسيح فيه فكراً بل يمكن ان توضع كلها على عاتق ذرة واحدة من دون ان يحدث اختلاط او تشابك أو ينفسخ النظام، علماً ان تلك الذرة تقوم بوظائف اخرى كثيرة جداً في الوقت نفسه، فلا يلتبس عليها شئ، وتحمل اثقالاً هائلة جداً من دون ان تبدي ضعفاً او تكاسلاً، فلا نراها قاصرة عن اداء وظائفها المتنوعة واحتفاظها بالنظام؛ اذ ترد الى تلك الذرات الوف الالوف من الكلمات المختلفة في انماط مختلفة واصوات مختلفة، وتخرج منها ايضاً في غاية النظام مثلما دخلت، دون اختلاط أو امتزاج ودون ان يفسد احداها الاخرى. فكأن تلك الذرات تملك آذاناً صاغية صغيرة على قدّها، وألسنة دقيقة تناسبها فتدخل تلك الكلمات تلك الآذان وتخرج من ألسنتها الصغيرة تلك.. فمع كل هذه الامور العجيبة فان كل ذرة ـ وكل جـزء من الهواء ـ تتـجــول بحـريـة تامـة ذاكرةً خالقها بلسان الحال وفي نشوة الجذب والوجد قائلة: ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ بلسان الحقيقة المذكورة آنفاً وشهادتها.

وحينما تحدث العواصف القوية وتدّوي اهازيج الرعد، ويتلمع الفضاء بسنا البرق، يتحول الهواء الى امواج ضخمة متلاطمة.. بيد ان الذرات لا تفقد نظامها ولا تتعثر في اداء وظائفها فلا يمنعها شغل عن شغل.. هكذا شاهدت هذه الحقيقة بعين اليقين.

اذن، فإما ان تكون كل ذرة ـ وكل جزء من الهواء ـ صاحبة علم مطلق وحكمة مطلقة وارادة مطلقة وقوة مطلقة وقدرة مطلقة وهيمنة كاملة على جميع الذرات.. كي تتمكن من القيام باداء هذه الوظائف المتنوعة على وجهها.. وما هذا الاّ محالات ومحالات بعدد الذرات وباطل بطلاناً مطلقاً. بل حتى لا يذكره اي شيطان كان..

لذا فان البداهة تقتضي، بل هو بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين: أن صحيفة الهواء هذه انما هي صحيفة متبدلة يكتب الخالقُ فيها بعلمه المطلق ما يشاء بقلم قُدرته وقَدَره الذي يحركه بحكمته المطلقة، وهي بمثابة لوحة محوٍ واثبات في عالم التغيّر والتّبدل للشؤون المسطّرة في اللوح المحفوظ.

فكما ان الهواء يدل على تجلي الوحدانية بهذه الامور العجيبة المذكورة آنفاً، وذلك لدى اداء وظيفة واحدة من وظائفها وهي نقل الاصوات، ويبين في الوقت نفسه بياناً واضحاً محالات الضلالة التي لا تحصر، كذلك فهو يقوم بوظائف في غاية الاهمية وفي غاية النظام ومن دون اختلاط أو تشابك أو التباس كنقل المواد اللطيفة مثل الكهرباء والجاذبية والدافعة والضوء.. وفي الوقت نفسه يدخل الى مداخل النباتات والحيوانات بالتنفس مؤدياً هناك مهماته الحياتية باتقان، وفي الوقت عينه يقوم بنقل حبوب اللقاح ـ أي وظيفة تلقيح النباتات ـ وهكذا امثال هذه الوظائف الاساسية لإدامة الحياة؛ مما يثبت يقيناً ان الهواء عرش عظيم يأتمر بالأمر الإلهي وارادته الجليلة. ويثبت ايضاً بعين اليقين ان لا احتمال قطعاً لتدخل المصادفة العشواء والاسباب السائبة التائهة والمواد العاجزة الجامدة الجاهلة في الكتابة البديعة لهذه الصحيفة الهوائية وفي اداء وظائفها الدقيقة. فاقتنعْتُ بهذا قناعة تامة بعين اليقين وعرفتُ ان كـل ذرة وكل جزء من الـهواء تقول بلســان حالها : ] قل هو الله أحد[ و ] لا إله الاّ هو[ .

ومثلما شاهدت هذه الامور العجيبة في الجهة المادية من الهواء بهذا المفتاح، اعني مفتاح ((هو)) فعنصر الهواء برمته اصبح ايضاً كلفظ ((هو)) مفتاحاً لعالم المثال وعالم المعنى؛ اذ قد علمتُ ان عالم المثال كآلة تصوير عظيمة جداً تلتقط صوراً لا تعد ولا تحصى للحوادث الجارية في الدنيا، تلتقطها في آن واحد بلا اختلاط ولا التباس حتى غدا هذا العالم يضم مشاهد عظيمة وواسعة اُخروية تسع الوف الوف الدُنى تعرض اوضاع حالات فانية لموجودات فانية وتظهر ثمار حياتها العابرة في مشاهد ولوحات خالدة تعرض امام اصحاب الجنة والسعادة الأبدية في معارض سرمدية مذكّرةً اياهم بحوادث الدنيا وذكرياتهم الجميلة الماضية فيها.

فالحجة القاطعة على وجود اللوح المحفوظ وعالم المثال ونموذجها المصغر هو ما في رأس الانسان من قوة حافظة وما يملك من قوة خيال، فمع انهما لا تشغلان حجم حبة من خردل الاّ انهما تقومان بوظائفهما على اتم وجه بلا اختلاط ولا التباس وفي انتظام كامل واتقان تام، حتى كأنهما يحتفظان بمكتبة ضخمة جداً من المعلومات والوثائق. مما يثبت لنا أن تينك القوتين نموذجان للوح المحفوظ وعالم المثال.

وهكذا لقد عُلم بعلم اليقين القاطع ان الهواء والماء ولا سيما سائل النطف، واللذان يفوقان الترابَ في الدلالة على الله ــ الذي اوردناه في مستهل البحث ـ صحيفتان واسعتان يكتب فيهما قلمُ القدر والحكمة كتابة حكيمة بليغة، ويجريان فيهما الارادة وقلم القدر والقدرة. وان مداخلة المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والاسباب التائهة الجامدة في تلك الكتابة الحكيمة محال في مائة محال وغير ممكن قطعاً.



(لم تُكتَّب بقية البحث في الوقت الحاضر)

الف الف تحية وسلام الى الجميع

عبدالرزاق 02-02-2011 01:41 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الرابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] الر كتابٌ اُحكمت آياتُه ثم فُصّلت من لدُن حكيمٍ خبير[ (هود: 1)

سنشير الى نظائر قسم من الحقائق السامية الرفيعة للقرآن الحكيم، ولمفسّره الحقيقي الحديث الشريف، وذلك لتكون بمثابة درجات سلّم للصعود الى تلك الحقائق، لكي تُسعف القلوب التي ينقصها التسليم والانقياد. وفي خاتمة الكلمة سيُبيّن درسٌ للعبرة وسرٌ من اسرار العناية الإلهية.

ونكتفي هنا بذكر نماذج لخمس مسائل فحسب من تلك الحقائق الجليلة، حيث ان النظائر التي تخص الحشر والقيامة قد ذكرت في (الكلمة العاشرة) ولا سيما في (الحقيقة التاسعة) منها ولا داعي للتكرار.

اولاها:

مثال: قوله تعالى: ] خَلقَ السموات والارضَ في ستة ايام[ (الاعراف: 54)

هذه الآية الكريمة تشير الى أن دنيا الانسان وعالم الحيوان يعيشان ستة ايام من الايام القرآنية التي هي زمن مديد ولربما هو كألف سنة أو كخمسين الف سنة. فلأجل الاطمئنان القلبي والاقتناع التام بهذه الحقيقة السامية نبين للانظار ما يخلقه الفاطر الجليل من عوالم سيالة وكائنات سيارة ودنىً عابرة، في كل يوم، في كل سنة، في كل عصر، الذي هو بحكم يوم واحد.

حقاً كأن الدنى ضيوف عابرة ايضاً كالناس. فيمتلئ العالم بأمر الفاطر الجليل كل موسم ويُخلى.

ثانيتها:

مثال: قوله تعالى ] ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ مبين[ (الانعام: 59)

] وكلَّ شيء أحصيناه في إمام مبين[ (يس: 12)

] لا يَعزُبُ عنه مثقالُ ذرةٍ في السموات ولا في الارض ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ إلاّ في كتاب مبين[ (سبأ: 3)

وامثالها من الآيات الكريمة التي تفيد:

ان الاشياء جميعها وباحوالها كلها، مكتوبة، قبل وجودها وبعد وجودها، وبعد ذهابها من الوجود.

نبين أمام الانظار ما يأتي ليصل القلب الى الاطمئنان:

ان البارئ المصور الجليل سبحانه يدرج فهارس وجود ما لا يحد من المخلوقات المنسقة وتواريخ حياتها ودساتير اعمالها، يدرجها درجاً معنوياً محافظاً عليها في بذور ونوى واصول تلك المخلوقات، على الرغم من تبديلها في كل موسم، على صحيفة الارض كافة، ولا سيما في الربيع. كما انه سبحانه يدرجها بقلم القدر نفسه درجاً معنوياً بعد زوال تلك المخلوقات في ثمراتها وفي بذيراتها الدقيقة، حتى انه سبحانه يكتب كل ما هو رطب ويابس من مخلوقات الربيع السابق في بذورها المحدودة الصلبة كتابة في غاية الاتقان ويحافظ عليها في منتهى الانتظام. حتى لكأن الربيع بمثابة زهرة واحدة وهي في منتهى التناسق والابداع، تضعها يد الجميل الجليل على هامة الارض ثم يقطفها منها.

ولما كانت الحقيقة هي هذه، أليس من العجب أن يضل الانسان اعجب ضلالة، وهي اطلاقه اسم الطبيعة على هذه الكتابة الفطرية، وهذه الصورة البديعة، وهذه الحكمة المنفعلة المسطرة على وجه الارض كافة والتي هي انعكاس لتجلٍ من تجليات ما سُطّر في اللوح المحفوظ الذي هو صحيفة قلم القدر الإلهي! أليس من العجب أن يعتقد الانسان بالطبيعة وانها مؤثرة ومصدر فاعل؟

اين الحقيقة الجلية مما يظنه اهل الغفلة؟. اين الثرى من الثريا؟

ثالثتها:

ان المخبر الصادق e قد صوّر ـ مثلاً ـ الملائكة الموكلين بحمل العرش، وكذا حمَلة الارض والسموات، أو ملائكة آخرين، بأن للملك اربعين ألف رأس، في كل رأس اربعون الف لسان، كل لسان يسبح باربعين ألف نوع من انواع التسبيحات.

هذه الحقيقة الرفيعة في امثال هذه الاحاديث الشريفة تعبّر عن انتظام العبادة وكليتها وشمولها لدى الملائكة، فلأجل الصعود الى هذه الحقيقة السامية نبين امام الشهود الآيات الكريمة التالية وندعو الى التدبّر فيها، وهي:

] تسبّح له السمواتُ السبع والارضُ ومَن فيهن[ (الاسراء: 44)

] إنّا سخّرنا الجبالَ معه يسبّحنَ بالعشيّ والإشراق[ (ص: 18)

] إنّا عَرَضنا الامانةَ على السموات والارض والجبال.. [ (الاحزاب: 72)

وامثالها من الآيات الجليلة التي تصرّح:

ان لأضخم الموجودات واكثرها سعة وشمولاً تسبيحاً خاصاً منسجماً مع عظمته وكليته، والأمر واضح ومشاهد؛ اذ السموات الشاسعة مسبّحة لله.. وكلماتها التسبيحية هي الشموس والاقمار والنجوم، كما أن الارض الطائرة في جو السماء مسبحةٌ حامدةٌ لله، والفاظها التحميدية هي الحيوانات والنباتات والاشجار.

بمعنى أن لكل شجرة ولكل نجم، تسبيحاته الجزئية الخاصة به، مثلما أن للارض برمتها تسبيحاتها الخاصة بها. فهي تسبيحات كلية تضم تسبيحات كل جزء وقطعة منها بل كل وادٍ وجبل وكل بحر وبر فيها. فكما ان للارض تسبيحاتها باجزائها وكليتها كذلك للسموات والابراج والافلاك تسبيحاتها الكلية.

فهذه الارض التي لها الوف الرؤوس، ومئات الالوف من الألسنة لكل رأس، لاشك ان لها ملكاً موكلاً بها يناسبها، يترجم ازاهير تسبيحات كل لسان وثمرات تحميداته التي تربو على مائة الف نمط من انماط التسبيح والتحميد، يترجمها ويبينها في عالم المثال، ويمثلها ويعلن عنها في عالم الارواح.

اذ لو دخلت اشياء متعددة في صورة جماعة أومجموعة، لتشكلت لها شخصية معنوية، واذا امتزجت تلك المجموعة واتحدت، تكون لها شخصية معنوية تمثلها، ونوع من روحها المعنوية، وملك موكل يؤدي وظيفتها التسبيحية.

فانظر مثلاً الى هذه الشجرة المنتصبة امام غرفتنا، وهي شجرة الدُلب ذات الاغصان الثلاثة، فهي تمثل كلمة عظيمة ينطق بها لسان هذا الجبل الموجود في فم (بارلا) ألا ترى كم من مئات ألسنة الاغصان لكل رأس من رؤوس الشجرة الثلاثة، وكم من مئات ثمرات الكلمات الموزونة المنتظمة في كل لسان؟ وكم من مئات حروف البذيرات المجنحة في كل ثمرة من الثمرات؟ ألا يسبّح كلٌ من تلك الرؤوس والألسنة لمالك الملك الذي له امر كن فيكون؟ الاّ يسبّح بكلام فصيح، وبثناء بليغ واضح، حتى انك تشاهد تسبيحاتها وتسمعها؟!

فالملك الموكل عليها ايضاً يمثل تلك التسبيحات في عالم المعنى بألسنةٍ متعددة.

بل الحكمة تقتضي ان يكون الأمر هكذا!

رابعتها:

قوله تعالى مثلاً

] انما أمرُه اذا أراد شيئاً ان يقولَ له كُن فيكون[ (يس: 82)

] وما أمرُ الساعة اِلاّ كلمحِ البصر[ (النحل: 77)

] ونحن اقربُ اليه من حبل الوريد[ (ق: 16)

] تعرُج الملائكةُ والروحُ اليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة[ (المعارج: 4)

وأمثال هذه الآيات الكريمة التي تعبّر عن الحقيقة السامية الآتية وهي:

ان الله سبحانه وتعالى، القدير على كل شئ، يخلق الاشياء بسهولة مطلقة في سرعة مطلقة دون اية معالجة أو مباشرة، حتى تبدو الاشياء كأنها توجد بمجرد الأمر.

ثم ان ذلك الصانع الجليل قريب جداً الى المصنوعات، بينما المصنوعات بعيدة عنه غاية البعد.

ثم انه سبحانه مع كبريائه المطلق، لايدع احقر الاشياء واكثرها جزئية وخسّة خارج اتقانه!

هذه الحقيقة القرآنية يشهد لها جريان الانتظام الاكمل في الموجودات وبسهولة مطلقة. كما ان التمثيل الآتي بيّن سرّ حكمتها:

فمثلاً (وَلله اْلمَثَلُ الاَعْلى) ان الوظائف التي قلّدها الأمر الرباني والتسخير الإلهي للشمس ـ التي تمثل مرآة كثيفة لإسم النور من الاسماء الحسنى ـ تقرّب هذه الحقيقة الى الفهم وذلك:

انه مع علو الشمس ورفعتها، قريبة جداً من المواد الشفافة واللامعة، بل انها اقرب الى ذوات تلك الاشياء من انفسها. وعلى الرغم من ان الشمس تجعل الاشياء تتأثر بها بجلواتها وبضوئها وبجهات اخرى شبيهة بالتصرف فيها، الاّ ان تلك المواد الشفافة بعيدة عنها بالوف السنين، فلا تستطيع ان تؤثر فيها قطعاً، بل لا يمكنها ادعاء القرب منها.

وكذا يفهم من رؤية انعكاس ضوء الشمس وما يشبه صورتها من كل ذرة شفافة حسب قابليتها ولونها، ان الشمس كأنها حاضرة في كل ذرة منها وناظرة اينما بلغت اشعتها.

وكذا فان نفوذ اشعة الشمس وشمولها واحاطتها تزداد بعظم نورانيتها. فعظمة النورانية هي التي تضم كل شئ داخل احاطتها الشاملة حتى لا يستطيع شئٌ مهما صغر أن يختبئ عنها او يهرب منها. أي ان عظمة كبريائها لا ترمي الى الخارج حتى الاشياء الصغيرة الجزئية، بل العكس هو الصحيح انها تضم جميعها ـ بسر النورانية ـ ضمن دائرة احاطتها.

فلو فرضنا الشمس ـ فرضاً محالاً ـ انها فاعلة مختارة فيما نالت من وظائف وجلوات، فاننا نستطيع ان نتصور ان افعالها تسري ـ بإذن إلهي ـ في منتهى السهولة ومنتهى السرعة ومنتهى السعة والشمول، ابتداءً من الذرات الى القطرات والى وجه البحر والى الكواكب السيارة. فتكون الذرة والكوكب السيار سيّان تجاه امرها. اذ الفيض الذي تبثه الى سطح البحر تعطيه بانتظام كامل ايضاً للذرة الواحدة حسب قابليتها.

فهذه الشمس التي هي فقاعة صغيرة جداً مضيئة لماعة على سطح بحر السماء، وهي مرآة صغيرة كثيفة تعكس تجلي اسم النور للقدير على كل شئ.. هذه الشمس تبين نماذج الاسس الثلاثة لهذه الحقيقة القرآنية. اذ لاشك أن ضوء الشمس وحرارتها كثيفة كثافة التراب بالنسبة لعلم وقدرة مَن هو نور النور ومنوِّر النور ومقدِّر النور.

فذلك الجميل الجليل اذن قريب الى كل شئ قرباً مطلقاً بعلمه وقدرته، وهو حاضر عنده وناظر اليه، بينما الاشياء بعيدة عنه بعداً مطلقاً.

وانه يتصرف في الاشياء بلا تكلف ولا معالجة وفي سهولة مطلقة بحيث يفهم انه يأمر ـ مجرد الأمر ـ والاشياء توجد بيسر وسرعة مطلقتين.

وانه ليس هناك شئ، مهما كان جزئياً أو كلياً، صغيراً أو كبيراً خارج دائرة قدرته، وبعيداً عن احاطة كبريائه جل جلاله.

هكذا نفهم، وهكذا نؤمن ايماناً يقيناً وبدرجة الشهود، بل ينبغي أن نؤمن هكذا.

خامستها:

ان امثال الآيات الكريمة التالية تبين عظمته سبحانه وتعالى وكبرياءه المطلقين: فأبتداءً من قوله تعالى: ] وما قدروا الله حقّ قَدرهِ والارضُ جميعاً قبـضتُه يومَ القيامة والسمواتُ مطويّاتٌ بيمينه[ (الزمر: 67) الـى قوله تعـالى ] واعلَموا أن الله يحُولُ بين المرء وقلبه[ (الانفال: 24) ومن قوله تعالى الله ] خالقُ كلّ شــيءٍ وهـو عـلى كل شـيء وكيـل[ (الزمر: 62) الى قـوله تعالى ] يعلمُ ما يُسرّون وما يُعلنون[ (البقرة: 77) ومن قوله تعالى ] خَلَقَ السموات والارض[ (الاعراف:54) الى قوله تعالى ] خَلَقَكُم وما تَعملون [ (الصافات: 96). ومن قوله تعالى ] ما شـاءَ الله لا قوة اِلاّ بالله[ (الكهف:39) الى قـوله تعـالى ] وما تشاؤون اِلاّ أن يشاء الله[ (الانسان: 30) هذه الآيات الجليلة تبـين احاطة حدود عظمة ربوبيته سبحانه وكبرياء الوهيته بكل شئ.. هذا السلطان الجليل، سلطان الازل والابد يهدد بشدة ويعنّف ويزجر ويتوعد هذا الانسان الذي هو في منتهى العجز ومنتهى الضعف ومنتهى الفقر، والذي لا يملك الاّ جزءاً ضئيلاً من ارادة اختيارية وكسباً فقط، فلا قدرة له على الايجاد قطعاً. والسؤال الوارد هو: ما اساس الحكمة التي تبنى عليها تلك الزواجر والتهديدات المرعبة والشكاوى القرآنية الصادرة من عظمته الجليلة تجاه هذا الانسان الضعيف، وكيف يتم الانسجام والتوفيق بينهما؟.

اقول: لأجل البلوغ الى الاطمئنان القلبي، انظر الى هذه الحقيقة العميقة جداً والرفيعة جداً في الوقت نفسه من زاوية المثالين الآتيين:

المثال الاول:

بستان عظيم جداً يحوى مالا يعد ولا يحصى من الاثمار اليانعة والازاهير الجميلة، عُيّن عدد كبير من العاملين والموظفين للقيام بخدمات تلك الحديقة الزاهرة. اِلاّ ان المكلّف بفتح المنفذ الذي يجري منه الماء للشرب وسقي البستان، تكاسل عن اداء مهمته ولم يفتح المنفذ، فلم يجر الماء. بمعنى انه أخل بكل ما في البستان أو سبّب في جفافه!

وعندها فان لجميع العاملين في البستان حق الشكوى من ذلك العامل المتقاعس عن العمل، فضلاً عن شكاوى ما ابدعه الرب الجليل والخالق الكريم وما هو تحت نظر شهوده العظيم، بل حتى للتراب والهواء والضياء حق الشكوى من ذلك العامل الكسلان، لما سبّب من بوار مهماتهم وعقم خدماتهم او اخلال بها في الأقل!

المثال الثاني:

سفينة عظيمة للسلطان. إن ترك فيها عاملٌ بسيط وظيفته الجزئية، فسيؤدي تركه هذا الى اخلال نتائج اعمال جميع العاملين في السفينة واهدارها. لأجل ذلك فان صاحب السفينة، وهو السلطان العظيم، سيهدد ذلك المقصّر تهديداً شديداً باسم جميع العاملين في السفينة. في حين لا يقدر ذلك المقصّر على القول: مَن انا حتى استحق كل هذا التهديد المروّع، وما عملي الاّ اهمال تافه جزئى!

ذلك لان عدماً واحداً يؤدي الى ما لا يتناهى من انواع العدم، بينما الوجود يثمر ثمرات حسب نوعه. لأن وجود الشئ يتوقف على وجود جميع الاسباب والشروط، بينما انعدام ذلك الشئ وانتفاؤه من حيث النتيجة انما هو بانتفاء شرط واحد فقط وبانعدام جزء منه.

ومن هنا غدا ((التخريب أسهل من التعمير)) دستوراً متعارفاً لدى الناس. ولما كانت اسس الكفر والضلال والطغيان والمعصية، انكاراً ورفضاً وتركاً للعمل وعدم قبول، فصورتها الظاهرية مهما بدت ايجابية وذات وجود، الاّ انها في حقيقتها انتفاء وعدم، لذا فهي جناية سارية.

فهذه الامور مثلما تخل بنتائج اعمال الموجودات كافة، فانها تسدل ستاراً أمام التجليات الجمالية للاسماء الحسنى وتحجبها عن الانظار.

وهكذا فالموجودات لها حق الشكوى بلا حدود، وان سلطانها الجليل يهدّد باسمها هذا الانسان العاصي ويزجره اشد الزجر. وهذا هو عين الحكمة، لأن ذلك العاصي يستحق بلا ريب ذلك التهديد الرهيب كما يستحق أنواعاً من الوعيد المرعب.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:42 AM

رد: الكلمات
 
خاتمة

بسم الله الرحمن الرحيم

] وما الحياةُ الدنيا الاّ متاعُ الغُرور[ (آل عمران: 185)

(درس للعبرة وصفعة قوية على رأس الغفلة)

يا نفسي!.. ايتها السادرة في الغفلة!

يا من ترين هذه الحياة حلوة لذيذة فتطلبين الدنيا وتنسين الآخرة.. هل تدرين بمَ تشبهين؟ انك لتشبهين النعامة.. تلك التي ترى الصياد فلا تستطيع الطيران، بل تقحم رأسها في الرمال تاركة جسمها الضخم في الخارج ظناً منها ان الصياد لا يراها.إلا أن الصياد يرى، ولكنها هي وحدها التي اطبقت جفنيها تحت الرمال فلم تعد ترى!

فيا نفسي!

انظري الى هذا المثال وتأملي فيه، كيف ان حصر النظر كله في الدنيا يحوّل اللذة الحلوة الى ألم مرير!.

هب أنه في هذه القرية (بارلا) رجلان اثنان: أحدهما قد رحل تسعة وتسعون بالمائة من أحبته الى استانبول وهم يعيشون هناك عيشة طيبة جميلة، ولم يبق منهم هنا سوى شخص واحد فقط وهو أيضاً في طريقه الى الالتحاق بهم، لذا فان هذا الرجل مشتاق الى استانبول أشد الاشتياق بل يفكر بها، ويرغب في ان يلتقي الأحباب دائماً. فلو قيل له في أي وقت من الاوقات: ((هيا اذهب الى هناك)) فانه سيذهب فرحاً باسماً..

أما الرجل الثاني فقد رحل من احبته تسعة وتسعون بالمائة، ويظن ان بعضهم فني، ومنهم مَن انزوى في أماكن لا ترى. فهلكوا وتفرقوا حسب ظنه. فهذا الرجل المسكين ذو داء عضال يبحث عن أنيس وعن سلوان حتى عند سائح واحد، بدلاً من اولئك جميعاً، ويريد ان يغطي به على ألم الفراق الشديد.

فيا نفسي!

ان أحبتك كلهم، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم (حبيب الله) e ، هم الآن في الطرف الآخر من القبر. فلم يبق هنا الاّ واحد أو اثنان وهم ايضاً متأهبون للرحيل.

فلا تديرنّ رأسك جفلة من الموت، خائفة من القبر، بل حدّقي في القبر وانظري الى حفرته بشهامة واستمعي الى ما يطلب. وابتسمي بوجه الموت برجولة، وانظري ماذا يريد؟ واياك ان تغفلي فتكوني أشبه بالرجل الثاني!.

يا نفسي!

لا تقولي ابداً بأن الزمان قد تغيّر، وان العصر قد تبدّل، وان الناس قد انغمسوا في الدنيا وافتتنوا بحياتها، فهم سكارى بهموم العيش.. ذلك لأن الموت لا يتغير، وان الفراق لا ينقلب الى بقاء فلا يتغير ايضاً، وان العجز الانساني والفقر البشري هما ايضاً لا يتغيران بل يزدادان، وان رحلة البشرية لا تنقطع، بل تحث السير وتمضي. ثم لا تقولي كذلك: ((أنا مثل كل الناس)). ذلك لأن ما من أحدٍ من الناس يصاحبك الاّ الى عتبة باب القبر .. لا غير.

ولو ذهبت تنشدين السلوان فيما يقال عن مشاركة الآخرين معك في المصيبة ومعيتهم لك، فان هذا ايضاً لا حقيقة له ولا أساس مطلقاً في الطرف الآخر من القبر!.

ولا تظني نفسك سارحة مفلوتة الزمام، ذلك لأنك اذا ما نظرت الى دار ضيافة الدنيا هذه نظر الحكمة والروية.. فلن تجدي شيئاً بلا نظام ولا غاية، فكيف تبقين اذن وحدك بلا نظام ولا غاية؟! فحتى الحوادث الكونية والوقائع الشبيهة بالزلازل ليست ألعوبة بيد الصدفة.

فمثلاً: في الوقت الذي تشاهدين فيه بأن الأرض قد ألبست حللاً مزركشة بعضها فوق بعض مكتنفة بعضها البعض الآخر من انواع النباتات والحيوانات في منتهى النظام وفي غاية النقش والجمال، وترينها مجهّزة كلها من قمة الرأس الى أخمص القدم بالحكم، ومزينة بالغايات. وفي الوقت الذي تدور بما يشبه جذبة حب وشوق مولوية(1) بكمال الدقة والنظام ضمن غايات سامية.. ففي الوقت الذي تشهدين هذا، وتعلمين ذلك فكيف يسوغ اذن أن تكون الزلزلة الشبيهة بهزّ عطف كرة الارض(1) مظهرة بها عدم رضاها عن ثقل الضيق المعنوي الناشئ من اعمال البشر، ولا سيما أهل الايمان منهم، كيف يمكن أن تكون تلك الحادثة المليئة بالموت، بلا قصد ولا غاية كما نشره ملحد ظناً منه أنها مجرد مصادفة، مرتكباً بذلك خطأ فاحشاً ومقترفاً ظلماً قبيحاً؟ اذ صيّر جميع ما فقده المصابون من أموال وارواح هباء منثوراً قاذفاً بهم في يأس أليم. والحال أن مثل هذه الحوادث تدّخر دائماً أموال أهل الايمان، محولة اِياها بأمر الحكيم الرحيم، الى صَدَقة لهم. وهي كفّارة لذنوب ناشئة من كفران النعم.

فلسوف يأتي ذلك اليوم الذي تجد الارض المسخرة وجهها دميمة قبيحة بما لطخ زينتها شركُ اعمال البشر ولوّثها كفرانه، فتمسح عندئذٍ وجهها بزلزلة عظيمة بأمر الخالق، وتطهّره مفرغةً أهل الشرك بأمر الله في جهنم، وداعيةً أهل الشكر: ((هيا تفضلوا الى الجنة)).

ذيل

الكلمة الرابعة عشرة



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] اذا زُلْزلت الأرضُ زلزالَها ^ وأخرجَت الأرضُ أثقالها ^ وقال الانسانُ ما لَها^ يومئذٍ تُـحدّثُ أخبارهَا ^ بأن ربَّك أوحى لها…[ الى اخر السورة

هذه السورة الجليلة تبين بياناً قاطعاً؛ ان الأرض في حركاتها وزلزالها وحتى في اهتزازاتها أحياناً، انما هي تحت أمر الله ووحيه.

)لقد وردت الى القلب أجوبة ـ بمعاونة تنبيه معنوي ـ عن بضعة أسئلة تدور حول الزلزال الذي حدث حالياً، ورغم اني عزمت على كتابة تلك الأجوبة كتابة مفصلة عدة مرات، فلم يؤذن لي ، لذا ستكتب مختصرة ومجملة).

C السؤال الأول:

لقد أذاقت هذه الزلزلة العظيمة الناس مصيبةً معنوية أدهى من مصيبتها المادية الفجيعة، تلك هي الخوف والهلع واليأس والقنوط التي استولت على النفوس، حيث انها استمرت ودامت حتى سلبت راحة اغلب الناس ليلاً. وعمّ القلق والاضطراب أغلب مناطق البلاد.. تُرى ما منشأ هذا العذاب الأليم وما سببه؟

بمعاونة تنبيه معنوي كذلك كان الجواب هو الآتي:

ان مما يُقترف في أرجاء هذه البلاد ـ التي كانت مركزاً طيباً للاسلام ـ من مجون وعربدة جهاراً نهاراً، وفي شهر مبارك جليل كشهر رمضان، واثناء اقامة صلوات التراويح، واسماع الناس اغانٍ مثيرة باصوات نساء، واحياناً من الراديو وغيرها.. قد ولّد إذاقة عذاب الخوف والهلع هذا.

C السؤال الثاني:

لماذا لا ينزل هذا العذاب الرباني والتأديب الإلهي ببلاد الكفر والالحاد وينزل بهؤلاء المساكين المسلمين الضعفاء؟.

الجواب: مثلما تحال الجرائم الكبيرة الى محاكم جزاء كبرى، وتُعهد اليها عقوبتها بالتأخير، بينما تحسم الجنايات الصغيرة والجَنح في مراكز الأقضية والنواحي، كذلك فان القسم الأعظم من عقوبات أهل الكفر وجرائم كفرهم وإلحادهم يؤجل الى المحكمة الكبرى في الحشر الأعظم، بينما يعاقب أهل الايمان على قسم من خطيئاتهم في هذه الدنيا، وذلك بمقتضى حكمة ربانية مهمة(1).

C السؤال الثالث:

لماذا تعم هذه المصيبة البلاد كلها، علماً انها مصيبة ناجمة من اخطاء يرتكبها بعض الناس؟

الجواب: ان أغلب الناس يكونون مشتركين مع اولئك القلة الظلمة، إما مشاركة فعلية، أو التحاقاً بصفوفهم أو التزاماً باوامرهم، أي يكونون معهم معنىً، مما يُكسب المصيبة صفة العمومية، اذ تعم المصيبة بمعاصي الأكثرية.

C السؤال الرابع:

ما دامت هذه الزلزلة قد نشأت من اقتراف الخطايا والمفاسد، ووقعت كفّارة للذنوب، فلماذا تصيب الأبرياء اذن، ويحترقون بلظاها وهم لم يقربوا الخطايا والذنوب، وكيف تسمح العدالة الربانية بهذا؟

وكذلك بمعاونة تنبيه معنوي كان الجواب هو الآتي:

ان هذه المسألة متعلقة بسر القدر الإلهي، لذا نحيلها الى ((رسالة القدر)) ونكتفي بالآتي:

قال تعالى ] واتقوا فتنةً لا تُصيبنَّ الذين ظَلَموا منكم خاصّة[ (الانفال:25) وسرّ هذه الآية ما يأتي:

ان هذه الدنيا دار امتحان واختبار، ودار مجاهدة وتكليف، والاختبار والتكليف يقتضيان ان تظل الحقائق مستورة ومخفية، كي تحصل المنافسة والمسابقة، وليسمو الصديقون بالمجاهدة الى أعلى عليين مع أبي بكر الصديق، وليتردى الكذابون الى أسفل سافلين مع مسيلمة الكذاب.

فلو سلم الابرياء من المصيبة ولم يمسّهم سوء ولا أذى، لأصبح الايمان بديهياً، أي لاستسلم الكفار والمؤمنون معاً على حد سواء، ولأنتفى التكليف وانسدّ بابه، ولم تبق حاجة الى الرقي والسمو في مراتب الايمان.

C فما دامت المصيبة تصيب كلاً من الظالمين والمظـلومين معاً، وفق الحكمة الإلهية، فما نصيب اولئك المظلومين من العدالة الإلهية ورحمتها الواسعة؟.

الجواب: ان هناك تجلياً للرحمة في ثنايا ذلك الغضب والبلاء، لأن اموال اولئك الابرياء الفانية ستخلد لهم في الآخرة، وتدّخر صدقة لهم، أما حياتهم الفانية فتتحول الى حياة باقية بما تكسب نوعاً من الشهادة، أي ان تلك المصيبة والبلاء بالنسبة لأولئك الأبرياء نوعٌ من رحمة إلهية ضمن عذاب أليم موقت، حيث تمنح لهم بمشقة وعذاب مؤقتين، وقليلين نسبياً، غنيمة دائمة وعظيمة.

C السؤال الخامس:

ان الله سبحانه وتعالى، وهو العادل الرحيم، والقدير الحكيم، لا يجازي الذنوب الخاصة بعقوبات خاصة، وانما يسلط عنصراً جسيماً كالأرض، للتأديب والعقاب. فهل هذا يوافق شمول قدرته وجمال رحمته سبحانه؟.

الجواب: لقد اعطى القدير الجليل كلَّ عنصرٍ من العناصر وظائف كثيرة، ويُنشئ على كلٍ من تلك الوظائف نتائج كثيرة. فلو ظهرت نتيجة واحدة قبيحة ـ أي شر ومصيبة وبلاء ـ من عنصر من العناصر في وظيفة من وظائفه الكثيرة، فان سائر النتائج المترتبة على ذلك العنصر، تجعل هذه النتيجة الوخيمة في حكم الحسن والجميل، لأنها جميلة وحسنة اذ لو مُنع ذلك العنصر الغاضب على الانسان من تلك الوظيفة للحيلولة دون مجئ تلك النتيجة الوحيدة البشعة للوجود لتُركت اذن خيرات كثيرة بعدد النتائج الخيرة المترتبة على سائر وظائف ذلك العنصر. أي تحصل شرور كثيرة بعدد تلك النتائج الخيرة، حيث ان عدم القيام بخير ضروري، انما هو شر كما هو معلوم. كل ذلك للحيولة دون مجئ شر واحد! وما هذا الاّ منافاةٌ للحكمة. وهو قبح واضح، ومجافاة للحقيقة، وقصور مشين. بينما الحكمة والقدرة والحقيقة منزّهة عن كل نقص وقصور.

ولما كان قسم من المفاسد هو عصياناً شاملاً وتعدّياً فاضحاً على حقوق كثير من المخلوقات واهانة لها واستخفاف بها حتى يستدعي غـضب العناصر ولا سيــما الارض، فيثير غيظها، فلاشك أن الايعاز الى عنصر عظيم بأن يؤدب اولئك العصاة، اظهاراً لبشاعة عصيانهم وجسامة جنايتهم، انما هو عين الحكمة والعدالة، وعين الرحمة للمظلومين في الوقت نفسه.

C السؤال السادس:

يشيع الغافلون في الأوساط، ان الزلزلة ما هي الاّ نتيجة انقلابات المعادن واضطراباتها في جوف الأرض، فينظرون اليها نظر حادثة نجمت من غير قصد، ونتيجة مصادفة وأمور طبيعية، ولا يرون الاسباب المعنوية لهذه الحادثة ولا نتائجها، كي يفيقوا من غفلتهم وينتبهوا من رقدتهم. فهل من حقيقة لما يستندون اليه؟

الجواب: لا حقيقة له غير الضلال، لاننا نشاهد ان كل نوع من الآف أنواع الأحياء التي تزيد على خمسين مليوناً على الكرة الأرضية، يلبس أقمصته المزركشة المنسقة ويبدّلها كل سنة، بل لا يبقى جناح واحد وهو عضو واحد من مئات اعضاء الذباب الذي لا يعد ولا يحصى، لا يبقى هذا العضو هملاً ولا سدىً بل ينال نور القصد والارادة والحكمة. مما يدل على ان الافعال والأحوال الجليلة للكرة الأرضية الضخمة ـ التي هي مهد ما لا يحد من ذوي المشاعر وحضارتهم ومرجعهم ومأواهم ـ لا تبقى خارج الارادة والأختيار والقصد الإلهي، بل لا يبقى اي شئ خارجها، جزئياً كان ام كلياً.

ولكن القدير المطلق قد جعل الاسباب الظاهرة ستائر أمام تصرفاته بمقتضى حكمته المطلقة، اذ حالما تتوجه ارادته الى احداث الزلزلة، يأمر ـ أحياناً ـ معدناً من المعادن بالاضطراب والحركة، فيوقده ويشعله.

هب ان الزلزال نشأ فرضاً من حدوث انقلابات المعادن واضطراباتها، فلا يحدث أيضاً الاّ بأمر إلهي ووفق حكمته لا غير.

اذ كيف أنه من البلاهة والجنون، وضياع جسيم لحق المقتول، الاّ يؤخذ القاتل بنظر الاعتبار ويُحصر النظر في البارود المشتعل في طلقة بندقيته،كذلك فان الحماقة الاشنع منها الانسياق الى الطبيعة ونسيان الأمر الإلهي باشعال القنبلة المدخرة في جوف الارض بحكمته وارادته، تلك المأمورة المسخرة والسفينة والطائرة للقدير الجليل، فيأمرها سبحانه بالانفلاق إيقاظاً للغافلين وتنبيهاً للطغاة.



[ تتمة السؤال السادس وحاشيته ]

ان اهل الضلال والالحاد، يبدون تمرداً غريباً، وحماقة عجيبة الى درجة تجعل الانسان نادماً على انسانيته، وذلك في سبيل الحفاظ على مسلكهم المعوق لصحوة الايمان. فمثلاً:

ان العصيان الظالم المظلم، الذي اقترفه البشر في الآونة الاخيرة، والذي عم العالم وشمله، حتى اغضب العناصر الكلية. بل تجلت ربوبية خالق الارض والسموات بصفة رب العالمين وحاكم الاكوان ـ لا بصفة ربوبية جزئية خاصة ـ في العالم اجمع، وفي دائرة كلية واسعة، فصفع رب العالمين البشرية ببلايا وآفات عامة مرعبة كالحرب العالمية والزلازل والسيول العارمة والرياح الهوج والصواعق المحرقة والطوفانات المدمرة. كل ذلك ايقاظاً لهذا الانسان السادر في غفلته، وسوقاً له ليتخلى عن غروره وطغيانه الرهيب. ولتعريفه بربه الجليل الذي يعرض عنه. فاظهر سبحانه حكمته وقدرته وعدالته وقيوميته وإرادته وحاكميته اظهاراً جلياً. ولكن على الرغم من هذا فان شياطين حمقى ممن هم في صور اناسي، يتمردون في وجه تلك الاشارات الربانية الكلية والتربية الإلهية العامة للبشرية، تمرداً ببلاهة مشينة، اذ يقولون: انها عوامل طبيعية، انها انفجار مواد واخلاط معادن، انها مصادفات ليس الا، فقد تصادمت حرارة الشمس والكهرباء فاحدثت توقفاً في المكائن في امريكا لمدة خمس ساعات واحمرّ الجو في (قسطموني) حتى كأنه يلتهب.! الى آخر هذه الهذيانات التي لا معنى لها.

فالجهل المريع الناشئ من الضلال، والتمرد المقيت المتولد من الزندقة، يحولان دون ادراكهم ماهية الاسباب، التي هي حُجب وستائر (امام القدرة الإلهية) ليس الاّ.

اذ ترى احدهم ـ من جهله ـ يبرز اسباباً ظاهرية، ويقول: هذه الشجرة الضخمة للصنوبر ـ مثلاً ـ قد انشأتها هذه البذرة. منكراً معجزة صانعها الجليل. علماً انه لو احيلت الى الاسباب لما كفت مائة من المصانع لتكوين تلك الشجرة.

فابراز اسباب ظاهرية ـ مثل هذه ـ انما هو تهوين من شأن عظمة فعل الربوبية الجليلة المفعمة بالحكمة والاختيار.

وترى آخر يطلق اسماً علمياً على حقيقة مهمة يقصر العقل عن ادراك مداها وعمقها. فكأن تلك الحقيقة قد عرفت وعُلمت بمجرد وضع اسم عليها. وغدت مألوفة معتادة، لا حكمة فيها ولا معنى!

فتأمل في هذه البلاهة والحماقة التي لا منتهى لهما! اذ الحقيقة التي لا تسع مائة صحيفة لبيان حكمتها وتعريفها، كأن وضع هذا العنوان عليها جعلها معروفة مألوفة! وقولهم: هذا الشئ من هذا. وهذه الحادثة من مادة الشمس التي اصطدمت بالكهرباء.. جعل ذلك الشئ معروفاً وتلك الحادثة مفهومة!!

بل يظهر احدهم جهلاً اشد من جهل ابي جهل، اذ يسند حادثة ربوبية مقصودة خاصة، يرجعها الى احد قوانين الفطرة، وكأن القانون هو الفاعل! فيقطع بهذا الاسناد نسبة تلك الحادثة الى الارادة الإلهية الكلية واختياره المطلق وحاكميته النافذة والتي تمثلها سننه الجارية في الوجود.. ثم تراه يحيل تلك الحادثة الى المصادفة والطبيعة! فيكون كالابله العنيد الذي يحيل الانتصار الذي يحرزه جندي او فرقة، في الحرب، على نظام الجندية وقانون العسكرية، ويقطعه عن قائد الجيش، وسلطان الدولة، والافعال الجارية المقصودة.

ولننظر الى حماقتهم الفاضحة بهذا المثال:

اذا ما صنع صناع ماهر مائة اوقية من مختلف الاطعمة، ومائة ذراع من مختلف الاقمشة، من قطعة صغيرة من خشب لا يتجاوز حجمها قلامة اظفر. وقال احدهم ان هذه الاعمال الخارقة قامت بها تلك القطعة الخشبية التافهة! ألا يرتكب حماقة عجيبة؟ فهذا شبيه بمن يبرز بذرة صلدة وينكر خوارق صنع الصانع الحكيم في خلق الشجرة، بل يحط من قيمة تلك الامور المعجزة باحالتها الى مصادفة عشواء او عوامل طبيعية!

والامر كذلك في هذا...

C السؤال السابع:

كيف يفهم بان هذه الحادثة الأرضية متوجهة بالذات الى مسلمي هذه البلاد، أي انها تستهدفهم؟ ولماذا تقع بكثرة في جهات "أزمير" و"ارزنجان".

الجواب: ان هناك امارات كثيرة على ان هذه الحادثة استهدفت أهل الإيمان، اذ وقوعها في قارس الشتاء وفي ظلمة الليل، وفي شدة البرد، وخاصة في هذه البلاد التي لا تحترم شهر رمضان، واستمرارها الناشئ من عدم اتعاظ الناس منها، ولإيقاظ الغافلين من رقدتهم بخفة.. وامثالها من الأمارات تدل على ان هذه الحادثة استهدفت اهل الايمان، وانها تتوجه اليهم وتزلزلهم بالذات لتدفعهم الى اقامة الصلاة والدعاء والتضرع اليه سبحانه.

اما شدة هزّتها في أرزنجان المنكوبة، فلها وجهان:

الأول: انها عجّلت بهم تكفيراً عن خطاياهم الطفيفة.

الثاني: يحتمل انها ضربت صفعتها أولاً في تلك الأماكن،حيث أسس أهل الزندقة مركزاً قوياً لنشاطاتهم منتهزين الفرصة من قلة عدد حماة الاسلام الأقوياء وحفظة الايمان الاصلاء، أو لكونهم مغلوبين على أمرهم.

لايعلم الغيب الاّ الله.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

عبدالرزاق 02-02-2011 01:44 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الخامسة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] ولقد زيّنا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعلناها رُجوماً للشياطين[ (الملك: 5)

يا من تعلّم في المدارس الحديثة مسائل فاقدة للروح في علم الفلك، فضاق ذهنه، وانحدر عقله الى عينه حتى استعصى عليه استيعاب السر العظيم لهذه الآية الجليلة. اعلم ان للصعود الى سماء هذه الآية الكريمة سُلّما ذا سبع درجات ومراتب، هيا نصعد اليها معاً.

C المرتبة الاولى:

ان الحقيقة والحكمة تقتضيان ان يكون للسماء أهلون يناسبونها ـ كما هو الحال في الارض ـ ويسمى في الشريعة اولئك الاجناس المختلفة الملائكة والروحانيات.

نعم! الحقيقة تقتضي هكذا، اذ ان ملء الارض، مع صغرها وحقارتها بالنسبة الى السماء، بذوي حياة وادراك، واعمارها حيناً بعد حين بذوي ادارك آخرين بعد اخلائها من السابقين يشير، بل يصرّح، بامتلاء السموات ذات البروج المشيدة، تلك القصور المزينة، بذوي ادراك وشعور. فهؤلاء كالجن والانس، مشاهدو قصر هذا العالم، مطالعو كتاب الكون، ادلاّء الى عظمة الربوبية ومنادون اليها؛ لأن تزيين العالم وتجميله بما لا يعد ولا يحصى من التزيينات والمحاسن والنقوش البديعة، يقتضي بداهة، جلب انظار متفكرين مستحسنين ومقدّرين معجبين، اذ لا يُظَهر الحسن الاّ لعاشق، كما لايعطى الطعام الا لجائع، مع ان الانس والجن لا يستطيعان القيام الاّ بواحد من مليون من هذه الوظائف غير المحدودة فضلاً عن الاشراف المهيب والعبودية الواسعة. بمعنى ان هذه الوظائف المتنوعة غير المتناهية وهذه العبادة التي لا نهاية لها تحتاج الى ما لا يعد من انواع الملائكة واجناس الروحانيات. وكذا، بناء على اشارة بعض الروايات والآثار، وبمقتضى حكمة انتظام العالم يصح القول:

ان قسماً من الاجسام السيارة ابتداءً من الكواكب السيارة وانتهاء بالقطرات الدقيقة، مراكب لقسم من الملائكة، فهم يركبون تلك الاجسام ـ بإذن إلهي ـ ويتجولون في عالم الشهادة ويتفرجون عليه.

ويصح القول ايضاً: ان قسماً من الاجسام الحيوانية ابتداءً من طيور الجنة الموصوفة بـ (طير خضر) ـ كما ورد في الحديث الشريف(1) ـ وانتهاء بالذباب والبعوض في الارض، طيارات لجنس من الارواح، تدخل تلك الارواح في اجوافها باسم الله ((الحق)) وتشاهد عالم الجسمانيات، وتطل من نوافذ حواس تلك المخلوقات مشاهدة معجزات الفطرة الجسمانية.

فالخالق الكريم الذي يخلق باستمرار من التراب الكثيف والماء العكر مخلوقات ذوات ادراك منورة، وحياة نورانية لطيفة، لا ريب أن له مخلوقات ذوات ادراك وشعور يخلقها من بحر النور بل من بحر الظلمات، مما هو أليق للروح والحياة وأنسب لهما.بل هي موجودة بكثرة هائلة.

فان شئت فراجع رسالة (نقطة من نور معرفة الله جل جلاله) و (الكلمة التاسعة والعشرين) فيما يخص اثبات وجود الملائكة والروحانيات. فقد اثبتنا وجودهم اثباتاً جازماً قاطعاً.

C المرتبة الثانية:

ان الارض والسموات ذات علاقة بعضها ببعض، كعلاقة مملكتين لدولة واحدة، فبينهما ارتباط وثيق ومعاملات مهمة، فما هو ضروري للارض من الضياء والحرارة والبركة والرحمة وما شابهها تأتي كلها من السماء الى الارض، اي تُرسل من هناك.

كذلك فباجماع جميع الاديان السماوية المستندة الى الوحي الإلهي، وبالتواتر الحاصل من شهود جميع اهل الكشف، ان الملائكة والروحانيات يأتون من السماء الى الارض. فبالحدس القطعي ـ اقرب الى الاستشعار والاحساس ـ ان لسكنة الارض طريقاً يصعدون بها الى السماء. اذ كما يرنـو عـقـل كـل فـرد وخيـاله ونظره الى السماء في كل حين، كذلك ارواح الانبياء والاولياء الذين خفّوا بوضع اثقالهم، وارواح الاموات الذين خلعوا أجسادهم يصعدون باذن إلهي الى السماء. وحيث ان الذين خفّوا ولطفوا يذهبون الى هناك، فلابد ان الذين يلبسون جسداً مثالياً، واللطيفين الخفيفين لطافة الروح وخفتها من سكنة الارض والهواء يمكنهم الذهاب الى السماء.

C المرتبة الثالثة:

ان سكون السماء وسكوتها وانتظامها واطرادها ووسعتها ونورانيتها يدل على ان أهلها ليسوا كأهل الارض، بل كل اهل السماء مطيعون يفعلون ما يؤمَرون، فليس هناك ما يوجب المزاحمة والاختلافات لأن المملكة واسعة فسيحة جداً، وهم مفطورون على الصفاء والنقاء، معصومون لا ذنب لهم، ومقامهم ثابت بخلاف الارض التي فيها اجتماع الاضداد واختلاط الاشرار بالابرار مما ولّد الاختلافات المؤدية الى الاضطرابات والقلاقل والمشاجرات. وانفتح بذلك باب الامتحان والمسابقة وظهرت مراتب الرقي ودركات التدني.

وحكمة هذه الحقيقة هي:

ان الانسان هو الثمرة النهائية لشجرة الخلقة، ومن المعلوم ان الثمرة هي أبعد اجزاء الشجرة واجمعها وألطفها، لذا فالانسان هو ثمرة العالم واجمع وابدع مصنوعات القدرة الربانية واكثرها عجزاً وضعفاً ولطفاً.

ومن هنا فان مهد هذا الانسان ومسكنه وهو الارض كفء للسماء معنىً وصنعةً. ومع صغر الارض وحقارتها بالنسبة الى السماء فهي قلب الكون ومركزه.. ومشهر جميع معجزات الصنعة الربانية.. ومظهر جميع تجليات الاسماء الحسنى وبؤرتها.. ومعكس الفعاليات الربانية المطلقة ومحشرها وسوق عرض المخلوقات الإلهية بجود مطلق، ولاسيما عرضها لكثرة كاثرة من النباتات والحيوانات.. وهي نموذج مصغر لما يعرض في عوالم الاخرة من مصنوعات.. و مصنع يعمل بسرعة فائقة لانتاج المنسوجات الابدية والمناظر السرمدية المتبدلة بسرعة.. وهي مزرعة ضيقة مؤقتة لإستنبات بذور البساتين الدائمة الخالدة.

ومن هذه العظمة المعنوية للارض(1) واهميتها من حيث الصنعة، جعلها القرآن الكريم كفؤاً للسموات وعدلاً لها، مع انها بالنسبة للسموات كالثمرة الصغيرة بشجرتها الضخمة، فيجعلها في كفة والسموات في كفة اخرى، فيكرر الآية الكريمة ] رب السموات والارض[ .

ثم ان تحول الارض السريع، وتغيّرها الدائم ـ بناء على هذه الحكم المذكورة ـ يقتضي ان تطرأ على اهليها ايضاً تحولات مماثلة لها.

وكذا ان الارض مع محدوديتها، نالت من تجليات القدرة الإلهية المطلقة، وذلك بعدم تحديد قوى اهليها ذوي الشأن وهما الجن والانس؛ بحدّ فطري او قدٍّ خلقي كما هو في سائر ذوي الحياة. لذا غدت الارض معرضاً لرقي لا نهاية له ولتدنٍ لاغاية له. فابتداءً من الانبياء والاولياء وانتهاء بالنماردة الطغاة والشياطين ميدان واسع جداً للامتحان والاختبار.

ولما كان الأمر هكذا فان الشياطين المتفرعنة ستقذف السماء واهلها بشراراتها غير المحدودة.

C المرتبة الرابعة:

ان لرب العالمين وخالقها ومدبّر امرها ذي الجلال والاكرام، اسماء حسنى كثيرة، متغايرة احكامها، متفاوتة عناوينها. فالاسم والعنوان والصفة التي تقتضي ارسال الملائكة للقتال في صف الصحابة الكرام مع الرسول e لدى محاربة الكفار، هو الاسم نفسه والعنوان نفسه والصفة نفسها التي تقتضي ان تكون هناك محاربة بين الملائكة والشياطين، وان تكون هناك مبارزة بين السماويين الاخيار والارضيين الاشرار.

ان القدير الجليل المالك لأرواح الكفار وانفاسهم ونفوسهم في قبضة قدرته لا يفنيهم بأمر منه، ولا بصيحة، بل يفتح ميدان امتحان ومبارزة، بعنوان الربوبية العامة، وباسمائه الحسنى ((الحكيم ، المدبّر)).

فمثلاً (ولا مشاحة في الامثال): نرى أن السلطان له عناوين مختلفة واسماء متنوعة حسب دوائر حكومته، فالدائرة العدلية تعرفه باسم ((الحاكم العادل)) والدائرة العسكرية تعرفه باسم ((القائد العام)) بينما دائرة المشيخة تذكره باسم ((الخليفة)) والدائرة الرسمية تعرفه باسم ((السلطان)) والاهلون المطيعون للسلطان يذكرونه باسم ((السلطان الرحيم)) بينما العصاة يقولون انه ((الحاكم القهار)). وقس على هذا، فان ذلك السلطان الجليل المالك لناصية الاهلين كافة، لا يعدم بامرٍ منه شخصاً عاجزاً عاصياً ذليلاً، بل يسوقه الى المحكمة باسم الحاكم العادل، ثم ان ذلك السلطان الجليل لا يلتفت التفاتة تكريم الى احدٍ من موظفيه الجديرين بها حسب علمه به ولا يكرمه بهاتفه الخاص. بل يفتح ميدان مسابقة، ويهئ له استقبالاً رسمياً، يأمر وزيره ويدعو الاهلين الى مشاهدة المسابقة، ثم يكافئ ذلك الموظف بعنوان هيئة الدولة وادارة الحكومة. فيعلن مكافأته في ذلك الميدان نظير استقامته، اي يكرمه ويتفضل عليه امام جموع غفيرة من اشخاص سامين، بعد امتحان مهيب، لإثبات جدارته امامهم.

وهكذا (وَلله اْلمَثَلُ الاَعْلى) فلله سبحانه وتعالى اسماء حسنى كثيرة، وله شؤون وعناوين كثيرة جداً، وله تجليات جلالية وظواهر جمالية. فالاسم والعنوان والشأن الذي يقتضي وجود النور والظلام، والصيف والشتاء، والجنة والنار، يقتضي شمول قانون المبارزة نوعاً ما وتعميمه ايضاً كقانون التناسل وقانون المسابقة وقانون التعاون كامثاله من القوانين العامة الشاملة اي يقتضي شمول قانون المبارزة ابتداءً من المبارزة بين الالهامات والوساوس الدائرة حول القلب وانتهاء الى المبارزة الحاصلة بين الملائكة والشياطين في آفاق السموات.

C المرتبة الخامسة:

لما كان هناك ذهاب من الارض الى السماء والعودة منها، فالنزول من السماء والصعود اليها وارد ايضاً، بل اللوازم والضروريات الارضية تُرسل من هناك.

وحيث ان الارواح الطيبة تنطلق الى السماء من الارض، فلابد أن تتشبث الارواح الخبيثة وتحاول تقليد الطيبين منها في الذهاب الى السموات، وذلك للطافتها وخفتها، ولابد الاّ يقبلها اهل السماء، بل يطردونها لما في طبعها من شؤم وشر.

ثم لابد من وجود علامة على هذه المعاملة المهمة وهذه المبارزة المعنوية في عالم الشهادة، لأن عظمة الربوبية تقتضي ان تضع اشارة على التصرفات الغيبية الإلهية المهمة وعلامة عليها ليبصرها ذوو الادراك والشعور ولاسيما الانسان الحامل لاجلّ وظيفة وهي المشاهدة والشهادة والدعوة والاشراف. فكما انه سبحانه قد جعل المطر اشارة الى معجزات الربيع، وجعل الاسباب الظاهرة علامة على خوارق صنعته، جاعلاً اهل عالم الشهادة شاهدين عليها، فلا ريب أنه يجلب انظار جميع اهل السماء واهل الارض الى ذلك المشهد العظيم العجيب. فيظهر تلك السماء العظيمة كالقلعة الحصينة التي زينت بروجها بحراس مصطفين حولها، أو كالمدنية العامرة التي تشوق اهل الفكر الى التأمل فيها.

فما دام اعلان هذه المبارزة الرفيعة ضرورية تقتضيها الحكمة، فلابد من وجود اشارة عليها. بينما لا تشاهد اية حادثة كانت ضمن الحادثات الجوية والسماوية تلائم هذا الاعلان وتناسبه. فان ما ذكرناه اذن هو أنسب علامة عليها، لان الحادثات النجمية، من رمي الشهب الشبيه برمي المجانيق، واطلاق طلقات التنوير من القلاع العالية وبروجها الحصينة، مما يفهم بداهةً مدى مناسبتها وملاءمتها برجم الشياطين بالشهب، مع انه لا تعرف لهذه الحادثة ـ رجم الشياطين ـ غير هذه الحكمة، ولا تعرف لها غاية تناسبها غير التي ذكرناها، فضلاً عن أن رجم الشياطين حادثة مشهورة منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام ومشهودة لدى اهل الحقيقة، خلاف الحادثات الاخرى.

C المرتبة السادسة:

لما كان الانس والجن يحملان استعداداً لا نهاية له للشر والجحود، فهما قادران على تمرد وطغيان لا نهاية لهما، لذا يزجر القرآن الكريم ببلاغته المعجزة، وباساليب باهرة سامية ويضرب الامثال الرفيعة القيمة ويذكر مسائل دقيقة، يزجر بها الانس والجن من الطغيان والعصيان زجراً عنيفاً يهزّ الكون كله.

فمثلاً قوله تعالى:

] يا معْشَرَ الجنّ والإنس ان استطعتُم أن تنفُذُوا من أقطار السمواتِ والارض فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان ^ فبأى آلاء ربكما تكذّبان ^ يُرسَل عليكُما شواظٌ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران [ (الرحمن: 33ـ 35).

تأمل النذير العظيم والتهديد المريع والزجر العنيف في هذه الآية، وكيف تكسر تمرد الجن والانس ببلاغة معجزة، معلنة عجزهما، مبينة مدى ما فيهما من ضعف امام عظمة سلطانه وسعة ربوبيته جلّ وعلا. فكأن الآية الكريمة، وكذا الآية الاخرى ] وجعلناها رجوماً للشياطين[ (الملك:5) تخاطبان هكذا:

ايها الانس والجان، ايها المغرورون المتمردون، المتوحلون بعجزهم وضعفهم! ايها المعاندون الجامحون المتمرغون في فقرهم وضعفهم انكم إن لم تطيعوا أوامري، فهيا اخرجوا من حدود ملكي وسلطاني إن استطعتم! فكيف تتجرأون اذن على عصيان أوامر سلطان عظيم؛ النجوم والاقمار والشموس في قبضته، تأتمر بأوامره، كأنها جنود متأهبون.. فأنتم بطغيانكم هذا إنما تبارزون حاكماً عظيماً جليلاً له جنود مطيعون مهيبون يستطيعون ان يرجموا بقذائف كالجبال، حتى شياطينكم لو تحملت.. وانتم بكفرانكم هذا إنما تتمردون في مملكة مالك عظيم جليل، له جنود عظام يستطيعون ان يقصفوا اعداءً كفرة ـ ولو كانوا في ضخامة الارض والجبال ـ بقذائف ملتهبة وشظايا من لهيب كامثال الأرض والجبال، فيمزقونكم ويشتتونكم!. فكيف بمخلوقات ضعيفة امثالكم؟.. وانتم تخالفون قانوناً صارماً يرتبط به من له القدرة ـ باذن الله ـ ان يمطر عليكم قذائف وراجمات امثال النجوم.

نعم ان في القرآن الكريم تحشيدات ذات اهمية بالغة، فهي ليست ناتجة من قوة الاعداء، بل من اسباب اخرى كاظهار عظمة الالوهية وفضح العدو وشناعته.

ثم احياناً تحشّد الآية الكريمة اعظم الاسباب واقواها لأصغر شئ واضعفه، وتقرن بينهما دون تجاوزٍ للضعيف، وذلك اظهاراً لكمال الانتظام وغاية العدل ونهاية العلم وقوة الحكمة. فقوله تعالى ] وان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير[ (التحريم:4).

يبين مدى الاحترام اللائق الذي حظي به النبي الكريم e ، ومدى الرحمة الواسعة التي تشمل حقوق الزوجات.

فهذه الحشود انما تفيد افادة رحيمة في اظهار عظمة النبي e وعلو مكانته عند الله وبيان اهمية شكوى زوجتين ضعيفتين ومدى الرعاية لحقوقهما.

C المرتبة السابعة:

تتباين النجوم فيما بينها تبايناً كبيراً، كما هو الحال في الملائكة والاسماك، فمنها في غاية الصغر ومنها في غاية الكبر، حتى اُطلق على كل ما يلمع في وجه السماء بالنجم.

وهكذا فنوع من انواع اجناس النجوم هو لتزيين وجه السماء اللطيف، وكأن الفاطر الجليل والصانع الجميل قد خلقها كالثمار النيرة لتلك الشجرة، اوكالاسماك المسبّحة لله لذلك البحر الواسع. وكالالوف من المنازل لملائكته، وخلق ايضاً نوعاً صغيراً من النجوم اداةً لرجم الشياطين.

فالشهب التي تُرسل لرجم الشياطين تحمل ثلاثة معانٍ:

المعنى الاول:

انه رمز وعلامة على جريان قانون المبارزة في اوسع دائرة من دوائر الوجود.

المعنى الثاني:

ان في السموات حراساً يقظين واهلين مطيعين، فهذه الشهب اشارة واعلان عن امتعاض جنود الله من اختلاط الارضيين الشريرين بهم واستراق السمع اليهم.

المعنى الثالث:

ان هذه الشهب وكأنها مجانيق وقذائف تنوير هي لإرهاب جواسيس الشياطين الذين يسترقون السمع والذين يمثلون المساوئ الارضيةأسوأ تمثيل، وطردهم من ابواب السماء وذلك لئلا يلوثوا السماء الطاهرة التي هي سكنى الطاهرين، وليحولوا بينهم وبين القيام بالتجسس لحساب النفوس الخبيثة.

ايها الفلكي المعتمد على عقله القاصر، الذي لا يتجاوز نوره نور اليراعة! ويا من يغمض عينه عن نور شمس القرآن المبين!

تأمل في هذه الحقائق التي تشير اليها هذه المراتب السبع، تأملها دفعة واحدة، أبصر، دع عنك بصيص عقلك، وشاهد معنى الآية الكريمة في نور اعجازها الواضح وضوح النهار، وخذ نجم حقيقة واحدة من سماء تلك الآية الكريمة واقذف بها الشيطان القابع في ذهنك وارجمه بها! ونحن كذلك نفعل هذا. ولنقل معاً:

] رب اعوذ بك من همزات الشياطين[ .

.. فللّه الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[ (1)]

عبدالرزاق 02-02-2011 01:45 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السادسة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] انما اَمُرهُ اِذَا ارادَ شيئاً اَن يقولَ لهُ كُنْ فيكون ^ فسُبْحان الذي بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ واليهِ تُرجعون[ (يس: 82 ـ 83)



كتبت هذه الكلمة لتمنح نفسي العمياء بصيرة، ولتبدد الظلمات من حولها، ولتكون مبعثاً لاطمئنانها، وذلك باراءتها اربع أشعات من نور هذه الآية الكريمة.

C الشعاع الاول:

يا نفسي الجاهلة تقولين: أن أحدية ذات الله سبحانه وتعالى، مع كلية أفعاله.. ووحدة ذاته مع عمومية ربوبيته دون معين.. وفرديته مع شمول تصرفاته دون شريك.. وحضوره في كل مكان مع تنزّهه عن المكان.. ورفعته المطلقة مع قربه الى كل شئ.. ووحدانيته مع ان كل شئ في قبضته بالذات.. جميعها من الحقائق القرآنية.. وتقولين: ان القرآن حكيم، والحكيم لا يحمّل العقل ما لايقبله. بيد أن العقل يرى منافاة ظاهرة في هذه الامور. لذا اطلب ايضاحاً يسوق العقل الى التسليم.

الجواب: مادام الأمر هكذا، وتطلبين ذلك لبلوغ الاطمئنان، فاننا نقول مستندين الى فيض القرآن الكريم:

ان اسم ((النور)) وهو من الاسماء الحسنى قد حلّ كثيراً من مشكلاتنا، ويحلّ باذن الله هذه المسألة ايضاً.

نقول كما قال الامام الرباني احمد الفاروقي السرهندي، منتقين طريق التمثيل الواضح للعقل والمنور للقلب:

نه شبم نه شب برستم من غلام شمسم از شمس مى كويم خبر(1)

لما كان التمثيل اسطع مرآة عاكسة لإعجاز القرآن، فنحن ايضاً سننظر الى هذا السر من خلال التمثيل وذلك:

ان شخصاً واحداً يكسب صفة كلية بوساطة مرايا مختلفة، فبينما هو جزئي حقيقي يصبح بمثابة كلي مالك لشؤون شاملة عامة، فمثلاً:

الشمس، وهي جزئي مشخّص، ولكن بوساطة الاشياء الشفافة تصبح بحكم الكلي حتى انها تملأ سطح الارض بصورها وانعكاساتها، بل تكون لها من الجلوات بعدد القطرات والذرات الساطعة.

وحرارة الشمس وضياؤها، وما فيه من الوان سبعة، يحيط كل منها بالاشياء التي تقابلها ويشملها ويعمّها وفي الوقت نفسه فان كل شئ شفاف يخبئ في بؤبؤ عينه ـ مع صورة الشمس ـ الحرارة والضياء والالوان السبعة ايضاً، جاعلاً من قلبه الطاهر عرشاً لها.

بمعنى ان الشمس مثلما تحيط بصفة واحديتها بجميع الاشياء التي تقابلها، فهي من حيث أحديتها توجد بنوعٍ من تجلي ذاتها في كل شئ مع (خاصيتها) واوصافها الكثيرة.

وما دمنا قد انتقلنا من التمثيل الى التمثّل، فسنشير الى ثلاثة انواع من التمثيل ليكون محور مسألتنا هذه.

اولها: الصور المنعكسة للاشياء المادية الكثيفة، هي غيرٌ وليست عيناً، وهي موات وليست مالكةً لأية خاصية غير هويتها الصورية الظاهرية.

فمثلاً: اذا دخلتَ ـ يا سعيد ـ الى مخزن المرايا، فيكون سعيدٌ واحد ألف سعيد، ولكن الذي يملك الحياة من هذه الالوف، هو أنت فقط لا غير، والبقية أموات ليست لهم خواص الحياة.

ثانيها: الصور المنعكسة للنورانيات المادية؛ هذه الصور المنعكسة ليست عيناً، وليست غيراً في الوقت نفسه، اذ لا تستوعب ماهية النوراني المادية، ولكنها مالكة لأكثر خواص ذلك النوراني، فتعتبر ذات حياة مثله.

فمثلاً: عندما تنشر الشمس اشعتها على الكرة الارضية تظهر صورتها في كل مرآة، فكل صورة منعكسة منها تحمل ما يماثل خصائص الشمس، من ضوء والوان سبعة. فلو افترضت الشمس ذات شعور، واصبحت حرارتها عين قدرتها، وضياؤها عين علمها، والوانها السبعة صفاتها السبع، لكانت توجد تلك الشمس الوحيدة الفريدة في كل مرآة، في اللحظة نفسها، ولاتخذت من كل منها عرشاً لها يخصها، ومن كل منها نوعاً من هاتف، فلا يمنع شئ شيئاً. ولأمكنها ان تقابل كلاً منا بالمرآة التي في ايدينا، ومع اننا بعيدون عنها، فانها اقرب الينا من انفسنا.

ثالثها: الصور المنعكسة للارواح النورانية؛ هذه الصور حية، وهي عينٌ في الوقت نفسه، ولكن لأن ظهورها يكون وفق قابليات المرايا، فالمرآة لا تسع ماهية الروح بالذات. فمثلاً: في الوقت الذي كان سيدنا جبريل عليه السلام يحضر في مجلس النبوة على صورة الصحابي دحية الكلبي، كان يسجد في الحضور الإلهي باجنحته المهيبة امام العرش الاعظم، وهو في اللحظة نفسها موجود في اماكن لا تعدّ ولا تحصى، اذ كان يبلّغ الاوامر الآلهية. فما كان فعلٌ يمنع فعلاً.

ومن هذا السر نفهم كيف يسمع الرسول e ، صلوات امته كلها، في الانحاء كافة، في الوقت نفسه، اذ ماهيته نور وهويته نورانية.. ونفهم كذلك كيف انه e يقابل الاصفياء يوم القيامة في وقت واحد، فلا يمنع الواحدُ الآخر.. بل حتى الاولياء الذين اكتسبوا مزيداً من النورانية والذين يطلق عليهم اسم "الابدال" هذا القسم يقال انهم يشاهَدون في اللحظة نفسها، في اماكن متعددة. ويروى عنهم أن الشخص نفسه ينجز اعمالاً متباينة كثيرة جداً. اذ كما يصبح الزجاج والماء وامثالهما من المواد مرايا للاجسام المادية، كذلك يصبح الهواء والاثير وموجودات من عالم المثال، بمثابة مرايا للروحانيات ووسائط سير وتجوال لها في سرعة البرق والخيال. فتتجول تلك الروحانيات وتسيح في تلك المنازل اللطيفة والمرايا النظيفة بسرعة الخيال، فتدخل في الوف الاماكن في آن واحد.

فمخلوقات عاجزة ومسخّرة كالشمس، ومصنوعات شبه نورانية مقيدة بالمادة كالروحاني ان كان يمكن ان يوجد في موضع واحد وفي عدة مواضع في الوقت نفسه، بسر النورانية، اذ بينما هو جزئي مقيد يكسب حكماً كلياً مطلقاً، يفعل باختيار جزئي اعمالاً كثيرة في آن واحد.. فكيف اذن بمن هو مجرد عن المادة ومقدس عنها، ومن هو منزّه عن التحديد بالقيد وظلمة الكثافة ومبرأ عنها.. بل ما هذه الانوار والنورانيات كلها الاّ ظلال كثيفة لأنوار اسمائه الحسنى، بل ما جميع الوجود والحياة كلها، وعالم الارواح وعالم المثال الاّ مرايا شبه شفافة لإظهار جمال ذلك القدوس الجليل الذي صفاته محيطة بكل شئ وشؤونه شاملة كل شئ.. تُرى اي شئ يستطيع ان يتستر عن توجه احديته التي هي ضمن تجلي صفاته المحيطة وتجلي افعاله بارادته الكلية وقدرته المطلقة وعلمه المحيط.. واي شئ يصعب عليه واي شئ يستطيع أن يتخفى عنه.. واي فرد يمكنه ان يظل بعيداً عنه.. واية شخصية يمكنها ان تقترب منه دون ان تكتسب الكلية؟

نعم! ان الشمس بوساطة نورها الطليق غير المقيد، وبوساطة صورتها المنعكسة غير المادية، اقرب اليك من بؤبؤ عينك، ومع هذا فانت بعيد عنها بعداً مطلقاً، لأنك مقيد، فيلزم التجرد من كثير من القيود، وقطع كثير من المراتب الكلية وتجاوزها كي تتقرب اليها، وهذا يستلزم ان تكبر كبر الكرة الارضية وتعلو علو القمر، ومن بعد ذلك يمكن ان تتقرب من المرتبة الاصلية للشمس ـ الى حدٍ ما ـ وتتقابل معها دون حجاب.

فكما ان الامر هكذا في الشمس، كذلك في الجليل ذي الجمال، والجميل ذي الكمال (ولله المثل الاعلى) فهو أقرب اليك من كل شئ، وانت بعيد عنه سبحانه بعداً لا حد له. فان كانت لك قوة في القلب، وعلوٌ في العقل، فحاول ان تطبق النقاط الواردة في التمثيل على الحقيقة.

C الشعاع الثاني:

قوله تعالى: ] إنما امُره اذا اراد شيئاً أن يقول له كُن فيكون[ (يس:82) وقوله تعالى:

] ان كانت الاّ صيحة واحدة فاذا هم جميعٌ لدينا محـضرون[ (يس:53)

يا نفسي الغافلة! تقولين ان هذه الآيات الكريمة وامثالها تفيد ان الاشياء خلقت بمجرد أمر إلهي، وظهرت للوجود دفعة واحدة، بينما الآيات الكريمة الآتية: ] صُنعَ الله الذي أتقنَ كلَّ شيء[ (النمل:88) و ] أحسنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه[ (السجدة:7) وامثالها من الآيات تبين ان الاشياء وجدت تدريجياً، بقدرة عظيمة، وعلم محيط، واتقان في الصُنع ضمن حكمة بالغة. فاين وجه التوفيق بينهما؟

الجواب: نقول مستندين الى فيض القرآن:

اولاً: لا منافاة بين الآيات. اذ قسم من الموجودات يخلق كما في الآيات الاولى، كالايجاد في البدء، وقسم آخر يكون كما في الآيات التالية كإعادة المثل.

ثانياً: ان ما يشاهد في الموجودات من منتهى النظام وغاية الاتقان ومنتهى الحسن في الصنعة وكمال الخلقة، ضمن سهولة وسرعة وكثرة وسعة، يشهد بوجود حقائق هذين القسمين من الآيات شهادة مطلقة. لذا لا داعي لأن يكون مدار البحث تحقق هذه الامور في الخارج. وانما يصح ان يقال: ما سر حكمة هذين القسمين من الايجاد والخلق؟

لذا نشير الى هذه الحكمة بقياس تمثيلي؛ فنقول مثلاً:

ان صانعاً ماهراً ـ كالخياط مثلاً ـ يصرف مبالغ ويبذل جهداً ويزاول مهارة وفناً، لكي يوجد شيئاً جميلاً يخص صنعته، فيعمل منه انموذجاً (موديلاً) لمصنوعاته، اذ يمكنه ان يعمل امثال تلك الصنعة بلا مصاريف ولا تكاليف وفي سرعة تامة، بل قد يكون الامر احياناً سهلاً ويسيراً الى درجة وكأنه يأمر والعمل يُنجَز، وذلك لأنه قد كسب انتظاماً واطراداً دقيقاً كالساعة وكأن العمل يتم بمجرد الأمر له.

(ولله المثل الاعلى) فان الصانع الحكيم والمصور العليم، قد ابدع قصر العالم مع جميع ما فيه، ثم اودع في كل شئ فيه، جزئياً كان أم كلياً، جزءاً كان أم كلاً، مقداراً معيناً، بنظام قدري شبيه بنموذج ذلك الشئ.

فان تأملت في اعماله سبحانه، وهو المصور الازلي، تراه يجعل من كل عصر انموذجاً (موديلا) يُلبسه عالماً بكراً جديداً لطيفاً مزيناً بمعجزات قدرته، ويجعل من كل سنة مقياساً ينسج ـ بخوارق رحمته ـ كائنات بكر على قدّه، ويجعل من كل يوم سطراً يكتب فيه موجودات بكر جديدة مزينة بدقائق حكمته. ثم ان ذلك القدير المطلق كما جعل كل عصر وكل سنة وكل يوم انموذجاً، فانه قد جعل سطح الارض ايضاً، بل كل جبل وصحراء، وكل حديقة وبستان وكل شجر وزهر أنموذجاً وينشئ كائنات جديدة غضة متجددة مترادفة على الارض، فيخلق دنيا جديدة، ويأتي بعالم منسق جديد بعد أن سحب ما سبق من عالم.

وهكذا يُظهر في كل موسم معجزات بكر لقدرته المطلقة ويبرز هدايا مجددة لرحمته في كل حديقة وبستان، فيكتب كتاب حكمة جديدة بكر، وينصب مطبخ رحمته متجدداً ويُلبس الوجود حلّة بديعة جديدة، ويخلع على كل شجر في كل ربيع وشاح السندس ويزيّنه بمرصعات جديدة بكر كالنجوم المتلألئة، ويملأ ايديها بهدايا الرحمة..

فالذي يقوم بهذه الاعمال في منتهى الاتقان وكمال الانتظام والذي يبدّل هذه العوالم السيارة المنشورة على حبل الزمان، يعقب بعضها بعضاً، وهي في منتهى الحكمة والعناية وفي منتهى القدرة والاتقان، لاريب انه قدير مطلق وحكيم مطلق وبصير مطلق وعليم مطلق، لا يمكن بحال من الاحوال أن تبدو منه المصادفة قطعاً، فذلكم الخالق الجليل يقول: ] إنما أمره اذا أراد شيئاً ان يقولَ له كُن فيكون) (يس:82) (وما امرُ الساعةِ الاّ كلمحِ البصر أو هو أقرب[ (النحل:77) فيعلن قدرته المطلقة ويبين ان الحشر والقيامة بالنسبة لتلك القدرة هي في منتهى السهولة واليسر، وان الاشياء كلها مسخّرة لأوامره ومنقادة اليها كمال الانقياد، وانه يخلق الاشياء دون معالجة ولا مزاولة ولا مباشرة، ولأجل الإفادة عن السهولة المطلقة في ايجاد الاشياء عبّر القرآن المبين انه سبحانه وتعالى يفعل ما يريد بمجرد الأمر.

والخلاصة: ان قسماً من الآيات الكريمة يعلن منتهى الاتقان وغاية الحكمة في خلق الاشياء ولا سيما في بداية الخلق. وقسماً آخر يبين السهولة المطلقة والسرعة المطلقة ومنتهى الانقياد وعدم الكلفة في ايجاد الاشياء ولا سيما في تكرار ايجادها واعادتها.

C الشعاع الثالث:

يا نفسي الموسوسة! يا من تجاوزت حدكِ ! انك تقولين: ان قوله تعالى ] ما مِن دابةٍ الاّ هو آخذٌ بناصيتها[ وكذا قوله تعالى ] بيده ملكوتُ كلّ شيء[ (يس:83) وكذا قوله تعالى ] ونحنُ اقربُ اليه من حبل الوريد[ .. هذه الآيات الجليلة تبين منتهى القرب الإلهي بينما آيات اخرى مثل قوله تعالى: ] واليه ترجعون[ ] تعرُج الملائكةُ والروحُ اليه في يوم كان مقدارُه خمسين الف سنة[ (المعارج:4) وكذا قول الرسول الكريم e في الحديث الشريف ((...سبعين الف حجاب)) وكذا حقيقة المعراج.. كل هذه تبين منتهى بعدنا عنه سبحانه.

فأريد ايضاحاً لتقريب هذا السر الغامض الى الاذهان!

الجواب: ولهذا استمع!

اولاً: لقد ذكرنا في ختام الشعاع الأول؛ ان الشمس بنورها غير المقيد، ومن حيث صورتها المنعكسة غير المادية، اقرب اليك من بؤبؤ عينك ـ التي هي مرآة لنافذة روحك ـ الاّ انك بعيد عنها غاية البعد، لانك مقيد ومحبوس في المادة. ولا يمكنك ان تمس الاّ قسماً من صورها المنعكسة وظلالها ولا تقابل الاّ نوعاً من جلواتها الجزئية، ولا تتقرب الاّ لألوانها التي هي في حكم صفاتها، ولطائفة من اشعتها التي هي بمثابة طائفة من اسمائها.

ولو اردت ان تتقرب الى المرتبة الاصلية للشمس، واردت ان تقابلها بذاتها، لزم عليك التجرد عن كثير جداً من القيود والمضي من مراتب كلية كثيرة جداً، وكأنك تكبر معنىً ـ من حيث التجرد ـ بقدر الكرة الارضية وتنبسط روحاً كالهواء، وترتفع عالياً كالقمر، وتقابل الشمس كالبدر. ومن بعد ذلك يمكنك ان تدّعي نوعاً من القرب دون حجاب.

(ولله المثل الاعلى) فالجليل ذو الكمال والجلال، ذلك الواجب الوجود، الموجد لكل موجود، النور السرمد، سلطان الازل والابد، اقرب اليك من نفسك، وانت بعيد عنه بعداً مطلقاً.

فان كانت لديك قوة الاستنباط، فطبّق ما في التمثيل من الدقائق على الحقائق.

ثانياً: ان اسم القائد ـ مثلا ـ من بين اسماء السلطان الكثيرة ـ يظهر في دوائر متداخلة في دولته، فابتداءً من الدائرة الكلية للقائد العام العسكري ودائرة المشير والفريق حتى يبلغ دائرة الملازم والعريف. اي أن تجلي ظهوره يكون في دوائر واسعة ودوائر ضيقة وبشكل كلي وجزئي.

فالجندي، أثناء خدمته العسكرية، يتخذ من مقام العريف مرجعاً له، لما فيه من ظهور جزئي جداً للقيادة. ويتصل بقائده الاعلى بهذا التجلي الجزئي لإسمه، ويرتبط به بعلاقة، ولكن لو اراد هذا الجندي ان يتصل بالقائد الاعلى باسمه الأصلي، وان يقابله بذلك العنوان ينبغي له الصعود وقطع المراتب كلها من مرتبة العريف الى المرتبة الكلية للقائد العام.

اي ان السلطان قريب من ذلك الجندي باسمه وحكمه وقانونه وعلمه وهاتفه وتدبيره، وان كان ذلك السلطان نورانياً ومن الاولياء الأبدال، فانه يكون قريباً اليه بحضوره بالذات، اذ لا يمنع شيء من ذلك ولا يحول دونه شئ. ومع أن ذلك الجندي بعيد عن السلطان، غاية البعد وهناك الالوف من المراتب التي تحول بينه وبين السلطان وهناك الالوف من الحجب تفصله عنه، ولكن السلطان يشفق احياناً على أحد الجنود فيأخذه الى حضور ديوانه ـ خلاف المعتاد ـ ويسبغ عليه من افضاله وألطافه.

(ولله المثل الاعلى) فالمالك لأمر ] كن فيكون[ المسخّر للشموس والنجوم كالجنود المنقادة، فهو سبحانه وتعالى اقرب الى كل شئ من اي شئ كان، مع ان كل شئ بعيد عنه بعداً لا حدود له.

واذا اريد الدخول الى ديوان قربه وحضوره المقدس بلا حجاب، فانه يستلزم المرور من بين سبعين الف حجاب من الحجب النورانية والمظلمة، اي المادية والكونية والاسمائية والصفاتية، ثم الصعود الى كل اسم من الاسماء الذي له الوف من درجات التجليات الخصوصية والكلية والمرور الى طبقات صفاته الجليلة والرفيعة ثم العروج الى عرشه الاعظم الذي حظي بالاسم الاعظم. فان لم يكن هناك جذب ولطف إلهي يلزم الوفاً من سنيّ العمل والسلوك.

مثال: اذا أردت أن تتقرب اليه سبحانه باسم ((الخالق)) فعليك الارتباط وتكوين علاقة اولاً من حيث انه خالقك الخاص، ثم من حيث انه خالق جميع الناس، ثم بعنوان انه خالق جميع الكائنات الحية، ثم باسم خالق الموجودات كلها. لذا فان لم تتدرج هكذا تبقى في الظل ولاتجد الاّ جلوة جزئية.

تنبيه: ان السلطان المذكور في المثال السابق قد وضع في مراتب اسم القيادة وسائط كالمشير والفريق، وذلك لعجزه عن القيام بالاعمال بنفسه. أما الذي بيده ملكوت كل شيء، وذلك القدير، فهو مستغن عن الوسائط، بل ليست الوسائط الاّ اموراً ظاهرية بحتة. تمثل ستار العزة والعظمة ودلائل تشير الى سلطان الربوبية من خلال عبودية وعجز وافتقار وانبهار امام العظمة الإلهية، وليست تلك الوسائط مُعينة له سبحانه ولا يمكنها ان تكون شريكة في سلطنة الربوبية قطعاً لأنها ليست الاّ وسائل للمشاهدة والتفرج.

C الشعاع الرابع:

يا نفسي الكسولة!.

ان حقيقة الصلاة التي هي كمعراج المؤمن شبيهة بقبول دخول جندي بسيط الى ديوان السلطان الاعظم بمحض لطفه ـ كما ذكر في المثال السابق ـ فقبولك ايضاً الى المثول امام جلاله سبحانه انما هو بمحض لطف الجليل ذي الجمال والمعبود ذي الجلال. فانت عندما تقول: الله اكبر. تمضي معنىً وتقطع خيالاً أو نيّةً الدنيا والآخرة، حتى تتجرد عن القيود المادية فتصعد مكتسباً مرتبة عبودية كلية او ظلاً من ظلال المرتبة الكلية أو بصورة من صورها وتتشرف بنوع من الحضور القلبي والمثول بين يديه تعالى فتنال حظوة عظمى بخطاب ] اياك نعبد[ كل حسب درجته.

حقاً ان كلمة ((الله اكبر.. الله اكبر)) وتكرارها في حركات الصلاة وافعالها هي اشارة لقطع المراتب والعروج الى مراتب الرقي المعنوي، والصعود من الدوائر الجزئية الى الدوائر الكلية، فهي عنوان لمجمل كمالات كبرياء الله سبحانه، والتي هي خارج نطاق معرفتنا، وكأن كل كلمة من ((الله اكبر)) اشارة الى قطع مرتبة من مراتب المعراج.

وهكذا فان البلوغ الى ظلٍ أو شعاعٍ من حقيقة الصلاة هذه، معنىً أو نيةً أو تصوراً أو خيالاً لهو نعمة عظمى وسعادة كبرى.

ولأجل هذا يُردد ذكر ((الله اكبر)) في الحج بكثرة هائلة. لأن الحج؛ عبادة في مرتبة كلية لكل حاج بالاصالة.

فالجندي البسيط يذهب الى الحضور الملكي في يوم خاص ـ كالعيد ـ مثلما يذهب الفريق فينال لطف مليكه وكرمه. كذلك الحاج ـ مهما كان من العوام ـ فهو متوجه الى ربه الجليل بعـنـوان رب العـالمـين، كالـولي الـذي قطـع المـراتب، فهـو مشرّف بعبودية كلية، فلابد أن المراتب الكلية للربوبية التي تفـتـح بمفـتـاح الحـج، وآفاق عظمة الالوهية التي تشاهد بمنظار الحج، ودوائر العبودية التي تتوسـع في قلـب الحاج وخياله، كلما قام وادّى مناسك الحج، ومراتب الكبرياء والعظمة واُفق التجليات التي تمنـح حــرارة الشـــوق، والاعجاب والانبــهـار، امــام عظمة الالوهية وهيبة الربوبية، لا يسكّن الاّ بــ ((الله اكبر.. الله اكبر))! وبه يمكن ان يعلن عن المراتب المنكشفة المشهودة أو المتصورة.

وهذه المعاني انما تتجلى بعد الحج في صلاة العيد، بدرجات علوية وكلية ومتفاوتة، وكذا في صلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف والخسوف وصلاة الجماعة.

ومن هذا تظهر اهمية الشعائر الاسلامية حتى لو كانت من قبيل السنن النبوية.

سبحان من جعل خزائنه بين الكاف والنون.

] فَسبحانَ الذي بيده مَلكوتُ كُلِّ شيءٍ والَيْهِ تُرْجَعُون[

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا[

] ربنا لا تُزغ قلوبَنا بعدَ إذ هَدَيتَنا وهبْ لنا مِن لدُنك رحمةً إنكَ انتَ الوهّاب[

وصلّ وسلم على رسولك الأكرم، مظهر اسمك الاعظم،

وعلى آله واصحابه واخوانه واتباعه

آمين يا ارحم الراحمين.

ذيل صغير

ان القدير العليم والصانع الحكيم، يُظهر قدرته وحكمته، وعدم تدخل المصادفة في اي فعل من افعاله قطعاً، بالنظام والتناسق الذي تظهره عاداتُه التي هي على صورة القوانين الكونية.. وكذا يُظهر سبحانه بشواذ القوانين الكونية، وبخوارق عاداته، وبالتغيرات الظاهرية، وباختلاف التشخصات، وبتبدل زمان النزول والظهور.. يُظهر مشيئته وارادته، وانه الفاعل المختار، وان اختياره لا يرضخ لأي قيد كان، ممزقاً بهذا ستار الرتابة والاطراد، فيُعِلم: ان كل شيء، في كل آن، في كل شأن من شؤونه، في كل ما يخصه ويعود اليه، محتاج اليه سبحانه، منقاد لربوبيته.. وبهذا يشتت الغفلة، ويصرف الانظار، انظار الجن والانس عن الاسباب الى مسبب الاسباب.

وعلى هذا الاساس تتوجه بيانات القرآن الكريم.

فمثلاً: يحدث في اغلب الاماكن، أن قسماً من الاشجار المثمرة، تثمر سنة، اي تُعطى اليها من خزينة الرحمة، وهي بدورها تسلّمها الينا. ولكن السنة الاخرى تستلم الثمرة الاّ انها لا تعطيها، رغم وجود الاسباب الظاهرية للاثمار.

ومثلاً: ان اوقات نزول المطر ـ بخلاف الامور اللازمة الاخرى ـ متحولة ومتغيرة الى درجة دخلت ضمن المغيّـبات الخمسة إذ إن أهم موقع في الوجود هو للحياة والرحمة، والمطر منشأ الحياة والرحمة الخالصة، لذا فان ذلك الماء الباعث على الحياة، والرحمة المهداة، لا يدخل ضمن القاعدة المطردة التي تحجب عن الله وتورث الغفلة، بل تكون في قبضة ذي الجلال مباشرة من دون حجاب وضمن تصرف المنعم المحيي الرحمن الرحيم. وذلك لكي تبقى ابواب الدعاء والشكر مفتوحة دائماً.

ومثلاً: ان اعطاء الرزق، وتشخيص سيماء الانسان وملامحه وصورته، انما هو احسان إلهي يوهبه له من حيث لا يحتسب، مما يبين بجلاء طلاقة المشيئة الإلهية والاختيار الرباني.

وقس على هذا تصريف الرياح وتسخير السحاب وامثالها من الشؤون الإلهية.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:48 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] انّا جَعَلْنا ما عَلى الارض زِينَةً لها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسنُ عَمَلاً ^ وإنَّا لَجاعلونَ ما عَلَيْها صَعيداً جُرُزاً[ (الكهف:7ـ8)

] وما الحياةُ الدنيا الاّ لعبٌ ولَهْوٌ[ (الانعام:32)

[ هذه الكلمة عبارة عن مقامين عاليين وذيل ساطع ]

ان الخالق الرحيم والرزاق الكريم والصانع الحكيم قد جعل هذه الدنيا على صورة عيد بهيج واحتفال مهيب ومهرجان عظيم لعالم الارواح والروحانيات، وزيّنها بالآثار البديعة لاسمائه الحسنى، وخلع على كل روح صغيراً كان أم كبيراً، عالياً كان ام سافلاً، جسداً على قدّه وقدره، وجهّزه بالحواس والمشاعر وكل ما يوافقه للاستفادة من الالاء المختلفة والنعم المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى، والمبثوثة في ذلك العيد البهيج، والمعروضة في ذلك المهرجان العظيم. ومنح سبحانه لكل روح من تلك الارواح وجوداً جسمانياً (مادياً) وارسلها الى ذلك العيد والمهرجان مرة واحدة، ثم قسّم ذلك العيد الواسع جداً زماناً ومكاناً الى عصور وسنوات ومواسم، بل حتى الى ايام واجزاء ايام، جاعلاً من كل عصر، من كل سنة، من كل موسم، من كل يوم، من كل جزء من يوم، مهرجاناً سامياً وعيداً رفيعاً واستعراضاً عاماً لطائفة من مخلوقاته ذوات ارواح ومن مصنوعاته النباتية، ولا سيما سطح الارض، ولا سيما في الربيع والصيف، جاعلاً اعياداً متعاقبة، الواحد تلو الآخر، لطوائف مصنوعاته الصغيرة جداً، حتى غدا ذلك العيد عيداً رائعاً جذاباً لفت انظار الروحانيات الموجودة في الطبقات العليا والملائكة واهل السموات الى مشاهدته، وجلب انظار اهل الفكر الى مطالعته بمتعة الى حد يعجز العقل عن استكناه متعتها.. ولكن هذه الضيافة الإلهية والعيد الرباني، وما فيهما من تجليات اسم ((الرحمن والمحيي)) يكتنفها الفراق والموت، حيث يبرز اسم الله ((القهار والمميت)) وربما هذا لا يوافق - كما يبدو - شمول رحمته تعالى المذكور في قوله ] ورحمتي وسعت كل شيء[ (الاعراف:156).

ولكن في الحقيقة هناك جهات عدة يظهر فيها الانسجام والموافقة الكاملة مع الرحمة الإلهية، نذكر منها جهة واحدة فقط وهي:

انه بعد انتهاء الاستعراض الرباني لكل طائفة من الطوائف، وبعد استحصال النتائج المقصودة من ذلك العرض، يتفضل الفاطر الرحيم والصانع الكريم على كل طائفة من الطوائف فيمنحهم رغبة في الراحة واشتياقاً اليها وميلاً الى الانتقال الى عالمٍ آخر، ويُسئمهم من الدنيا باشكال من النفور والسأم رحمةً بهم.

وحينما يُرخّصون من تكاليف الحياة ويُسّرحون من وظائفها، ينبّه سبحانه في أرواحهم رغبة قوية وحنيناً الى موطنهم الأصلي. وكما يمنح سبحانه مرتبة الشهادة لجندي بسيط يُقتل في سبيل اداء الخدمة ويهلك في مهمة الجهاد، وكما يمنح الشاة الأضحية وجوداً مادياً في الآخرة ويكافؤها بجعلها مطية كالبراق لصاحبها مارة به على الصراط المستقيم، فليس بعيداً من ذلك الرحمن الكريم ان يمنح لذوي الارواح والحيوانات ثواباً روحانياً يلائمهم وأجراً معنوياً يوافق استعدادهم، من خزينة رحمته الواسعة، بعد ما قاسوا المشقات وهلكوا أثناء اداء وظائفهم الفطرية الربانية الخاصة بهم، وعانوا ما عانوا في طاعتهم للاوامر السبحانية. وذلك لئلا يتألموا ألماً شديداً لدى تركهم الدنيا، بل يكونون راضين مرضيين.. ولا يعلم الغيب الاّ الله.

بيد أن الانسان الذي هو أشرف ذوي الارواح واكثرهم استفادة من هذا العيد - من حيث الكمية والنوعية - يوهب له برحمة من الله ولطف منه حالةً من الشوق الروحي تنفّره عن الدنيا التي ابتلي بها، كي يعبر الى الآخرة بأمان. فالانسان الذي لم تغرق انسانيته في الضلالة يستفيد من تلك الحالة الروحية فيرحل عن الدنيا وقلبه مطمئن بالايمان.

نبين هنا خمسةً من الوجوه التي تورث تلك الحالة الروحية على سبيل المثال:

الوجه الأول: انه سبحانه وتعالى يُظـهر للانســان - بحلـول الشيـخوخة - ختم الفناء والزوال على الاشياء الدنيوية الفتانة، ويفهّمه معانيها المريرة، مما يجعله ينفر من الدنيا ويسرع للتحري عن مطلوب باق خالد بدلاً من هذا الفاني الزائل.

الوجه الثاني: انه تعالى يُشعر الانسان شوقاً ورغبة في الذهاب الى حيث رحل تسعٌ وتسعون بالمائة من أحبته الذين يرتبط معهم والذين استقروا في عالم آخر، فتدفع تلك المحبة الجادة الانسان ليستقبل الموت والأجل بسرور وفرح.

الوجه الثالث: انه تعالى يدفع الانسان ليستشعر ضعفه وعجزه غير المتناهيين، سواءً بمدى ثقل الحياة أو تكاليف العيش أو أمور اخرى، فيولد لديه رغبة جادة في الخلود الى الراحة وشوقاً خالصاً للمضي الى ديار اخرى.

الوجه الرابع: انه تعالى يبيّن للانسان المؤمن - بنور الايمان - ان الموت ليس اعداماً بل تبديل مكان، وان القبر ليس فوهة بئر عميق بل باب لعوالم نورانية، وان الدنيا مع جميع مباهجها في حكم سجن ضيق بالنسبة لسعة الآخرة وجمالها. فلا شك ان الخروج من سجن الدنيا والنجاة من ضيقها الى بستان الجنان الاخروية، والانتقال من منغصات الحياة المادية المزعجة الى عالم الراحة والطمأنينة وطيران الارواح، والانسلاخ من ضجيج المخلوقات وصخبها الى الحضرة الربانية الهادئة المطمئنة الراضية، سياحة بل سعادة مطلوبة بألف فداء وفداء.

الوجه الخامس: انه تعالى يفهّم المنصت للقرآن الكريم ما فيه من علم الحقيقة، ويعلّمه بنور الحقيقة ماهية الدنيا، حتى يغدو عشقها والركون اليها تافهاً لا معنى له.. اي يقول له ويثبت:

ان الدنيا كتاب رباني صمداني مفتوح للانظار، حروفه وكلماته لا تمثل نفسها، بل تدل على ذات بارئها وعلى صفاته الجليلة واسمائه الحسنى، ولهذا، افهم معانيها وخذ بها، ودَع عنك نقوشها وامض الى شانك..

واعلم انها مزرعة للآخرة، فازرع واجنِ ثمراتها واحتفظ بها، واهمل قذاراتها الفانية..

واعلم انها مجاميع مرايا متعاقبة، فتعرّف الى مَن يتجلى فيها، وعاين انواره، وادرك معاني اسمائه المتجلية فيها واحبب مسمّاها، واقطع علاقتك عن تلك القطع الزجاجية القابلة للكسر والزوال.. واعلم انها موضع تجارة سيار، فقم بالبيع والشراء المطلوب منك، دون ان تلهث وراء القوافل التي اهملتك وجاوزتك، فتتعب..

واعلم انها متنزّه مؤقت فاسرح ببصرك فيها للعبرة، ودقق في الوجه الجميل المتستر، المتوجه الى الجميل الباقي، واعرض عن الوجه القبيح الدميم المتوجه الى هوى النفس، ولا تبك كالطفل الغرير عند انسدال الستائر التي تريك تلك المناظر الجميلة..

واعلم انها دار ضيافة، وانت فيها ضيف مكرم، فكل واشرب باذن صاحب الضيافة والكرم، وقدّم له الشكر، ولا تتحرك الاّ وفق اوامره وحدوده، وارحل عنها دون ان تلتفت الى ورائك.. واياك أن تتدخل بفضول بامور لا تعود اليك ولا تفيدك بشئ، فلا تغرق نفسك بشؤونها العابرة التي تفارقك.

وهكذا بمثل هذه الحقائق الظاهرة يخفف سبحانه وتعالى عن الانسان كثيراً من آلام فراق الدنيا، بل قد يحببه الى النابهين اليقظين، بما يظهر سبحانه عليه من اسرارحقيقة الدنيا، وانه اثرٍ من آثار رحمته الواسعة في كل شئ، وفي كل شأن. واذ يشير القرآن الكريم الى هذه الوجوه الخمسة، فان آيات كريمة تشير الى وجوه خاصة اخرى كذلك.

فيا لتعاسة من ليس له حظ من هذه الوجوه الخمسة.

المقام الثاني



من الكلمة السابعة عشرة (1)

((انما الشكوى بلاء))

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.

انما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، واثام في اثام وعناء.

اذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر. فالازهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

P P P

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في هباء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وانت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

P P P

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.

ايها المغرور اعلم!

ان السعادة في هذه الدنيا، في تركها.

اما في الترجمة، فقد اقتصرنا على المعنى وحده.ــ المترجم.

ان كنت بالله مؤمناً..فهو حسبك، فلو ادبرتَ عن الدنيا أقبلتْ عليك.

P P P

وان كنت معجباً بنفسك، فذلك الهلاك المبين.

ومهما عملت فالاشياء تعاديك.

فلابد من الترك اذن في كلتا الحالتين.

P P P

وتركها يعني: انها مُلك الله، يُنظر اليها بإذنه وبإسمه،

وان كنت تبغي تجارة رابحة، فهي

في استبدال عمر باقٍ لا يزول بعمرك الفاني الزائل.

P P P

وان كنت تريد رغبات نفسك، فهي زائلة، تافهة، واهية.

وان كنت تتطلع الى الآفاق، فختم الفناء عليها.

P P P

فالمتاع في هذا السوق مزيف. لا يستحق الشراء اذن.

لذا دعه، فالاصيل منه قد اعدّ خلفه..

((غرباء الحيرة))

[ على قمة شجرة التوت الاسود المباركة، ذكر سعيد القديم بلسان سعيد الجديد هذه الحقائق ].

مخاطبي ليس ((ضياء باشا(1))) بل المفتونون باوروبا.

والمتكلم ليس نفسي، بل قلبي تلميذ القرآن.

P P P

ان ((الكلمات)) السابقة حقائق. اياك ان تحار، احذر ان تجاوز حدّها

لا تُزغ، ولا تصغِ الى فكر الاجانب، انه ضلال، يسوقك الى الندم.

P P P

ألا ترى الأوسعَ فكراً والأحدَّ نظراً يقول دوماً في حيرته:

آه! وا أسفى! ممن اشكو، ولمن! فقد ذهلت!

P P P

وأنا أقول ولا اتردد فالقرآن ينطقني:

اشكو منه اليه، ولا اتحير مثلك!

P P P

استغيث من الحق بالحق، لا أتجاوز حدّي.

ادعو من الارض الى السماء، ولا اهرب مثلك!

P P P

في القرآن الكريم: الدعوة كلها؛ من النور والى النور، لا انكث مثلك.

في القران الكريم: الحكمة الصائبة. اثبتها، ولا اعير للفلسفة المخالفة أي اهتمام!

في القرآن الكريم: جواهر الحقائق.

افديها بروحي.. لا ابيعها مثلك!

P P P

أجيل طرفي من الخلق الى الحق، لا اضل مثلك!

اطير فوق الطريق الشائك، لا اطؤها مثلك!

يصعد شكري الى عنان السماء، لا اعصي مثلك!

P P P

ارى الموت صديقاً، لا اخافه مثلك!

ادخل القبر باسماً، لا ارتعد مثلك!

P P P

فمَ تنّين، فِراشَ الوحشة، عتبةَ العدم.. لا اراه مثلك!

بل موضع تلاقي الاحباب.. لا اضجر منه، لا ابغضه مثلك!

P P P

لا اتضايق منه، ولا أهابه.

فهو باب الرحمة، باب النور، باب الحق

اقرعه باسم الله، ولا التفت، ولا تأخذني الدهشة.

سأرقُد قرير العين، حامداً ربي، لا اقاسي ضيقاً، ولا اظل في وحشة.

سأقوم على صدى أذان اسرافيل في فجر الحشر، قائلاً.. ((الله اكبر)).

لا ارهب من المحشر الاكبر!

لا اتخلف من المسجد الاعظم!

P P P

من لطف الله ونور القران الكريم وفيض الإيمان.. لا أيأس اصلاً.

بل اسعى واجري طائراً الى ظل عرش الرحمن.

ولا احار مثلك.. ان شاء الله.

P P P



هذه المناجاة تخطرت في القلب هكذا بالبيان الفارسي

[ كتبت هذه المناجاة كما خطر على القلب، باللغة الفارسية، وقد نشرت ضمن رسالة ((حباب من عمان القرآن الحكيم)).]

يا رب! به شش جهت نظر مىكردم درد خودرا درمان نمىديدم

يا رب! لقد سرحت نظري في الجهات الست، علّني أجد دواءً لدائي، وانا مستند الى اقتداري واختياري غافلاً لا متوكلاً، ولكن وا اسفى لم استطع أن أجد دواءً لدائي.. وقيل لي معنىً: ألا يكفيك الداءُ دواءً.

در راست مي ديدم كه: دى روز مزار بدر من است

نعم! لقد نظرت ـ بغفلة ـ الى الزمان الماضي في يميني، لأجد فيه السلوان، ولكني رأيت ان الأمس قبرُ أبي، وتراءت لي الأيام الخوالي مقبرة كبيرة لأجدادي. فأورثتني هذه الجهة وحشة بدل السلوان(1).

(1) ولكن الايمان يُري تلك المقبرة الكبرى مجلساً منوراً ومجمعاً مؤنساً للأحباب.

ودر جب ديدم كه: فردا قبر من است

ثم نظرت الى المستقبل في اليسار، فلم أستطع أن أجد فيه دواءً. بل تراءى لي الغد في صورة قبري، وتراءى لي المستقبل قبراً لأمثالي ومقبرة للجيل المقبل، فاورثتني هذه الجهة الوحشة بدل السلوان(2).

(2) ولكن الايمان وما يورثه من الاطمئنان يُري تلك المقبرة العظمى دعوة رحمانية الى قصور السعادة اللطيفة.

و امروز: تابوت جسم بر اضطراب من است

وحيث لا جدوى من اليسار، نظرت الى اليوم الحاضر، فرأيت وكأن هذا اليوم تابوت يحمل جنازة جسمي الذي ينتفض انتفاضة المذبوح بين الموت والحياة.(3)

(3) ولكن الايمان يُري ذلك التابوت دار تجارة ودار ضيافة باهرة.

بر سر عمر جنازهء من ايستاده است

فلم أعثر على الدواء في هذه الجهة، ورفعت رأسي ونظرت الى قمة شجرة عمري، ورأيت أن جنازتي هي الثمرة الوحيدة لتلك الشجرة، وهي ترقبني من هناك(4)

(4) ولكن الايمان يُري ان تلك الثمرة ليست جنازة، بل هي انطلاقٌ لروحي المرشّحة للأبد من وكرها القديم لتسرح في النجوم.

در قدم: آب خاك خلقت من وخاكستر عظام من است

فيئستُ من تلك الجهة أيضاً، ،طأطأت رأسي، فرأيت ان رميم عظامي قد اختلط مع تراب مبدأ خلقتي وهو يُداس تحت الأقدام. فزادت - هذه الجهة - داءً لدائي ولم تسعفني بشئ(5).

(5) اما الايمان فقد أظهر ذلك التراب باباً للرحمة،وستاراً دون صالة الجنة.

جون در بس مىنكرم، بينم: اين دنياى بى بنياد هيج در هيج است

فصرفت نظري عن تلك الجهة مولّياً وجهي الى الوراء، ورأيت: ان دنياً فانية تتدحرج في وديان العبث وظلمات العدم. فنفثتْ هذه الجهة سمّ الوحشة والخوف في دائي بدلاً من ان تمنحني العزاء(6).

(6) اما الايمان فقد أظهر ان تلك الدنيا المتدحرجة في الظلمات ما هي الا مكاتيب صمدانية وصحائف نقوش سبحانية أنهت مهامها، وأفادت معانيها، وتركت نتائجها في الوجود بدلاً عنها.

ودر بيش: اندازهء نظر مىكنم، در قبر كشاده است و راه ابد بدورودراز به ديداراست

ولما لم أجد خيراً ايضاً في هذه الجهة رنوت بنظري الى الأمام، ورأيت ان باب القبر مفتوح في بداية طريقي، وتتراءى وراءه من بعيد طريقٌ ممتدة الى الأبد(7).

(7) أما الايمان فقد جعل باب القبر ذاك باباً الى عالم النور، وتلك الطريق طريقاً الى السعادة الخالدة، فأصبح الايمان، بحقٍ مرهماً شافياً لدائي.

مرا جز جزء اختيارى جيزى نيست در دست

وهكذا لم أعثر في هذه الجهات الست على أي سلوانٍ وعزاءٍ بل وجدت استيحاشاً وهلعاً، ولم يكن لي تجاهها مستند سوى جزء اختياري(8).

(8) اما الايمان فانه يسلّمني بدلاً من ذلك الجزء الاختياري وثيقة لأستند بها الى قدرة عظيمة مطلقة، بل الايمان هو الوثيقة نفسها.

كه او جزء هم عاجز، هم كوتاه، وهم كم عيار است

وان ذلك الجزء الاختياري الذي هو سلاح الانسان، عاجز، قاصر، ناقص، لا يمكنه الخلق وليس له الاّ الكسب(9).

(9) الاّ ان الايمان يجعل ذلك الجزء الاختياري كافياً لكل شئ اذ يستعمله في سبيل الله، كالجندي الذي إنسلك في جيش الدولة فينجز ألوف أضعاف قوته من الأعمال.

نه در ماضى مجال حلول، نه در مستقبل مدار نفوذاست

لأن ذلك الجزء الاختياري ليس له القدرة للحلول في الماضي، ولا النفوذ في المستقبل. لذا لا نفع له لآمالي وآلامي الماضية والمستقبلة(10)

(10) ولكن الايمان يأخذ زمام ذلك الجزء الاختياري من الجسم الحيواني ويسلّمه الى القلب والروح، لذا يستطيع ان يحلّ في الماضي وينفذ في المستقبل. حيث دائرة حياة القلب والروح واسعة جداً.

ميدان أو إين زمان حال، ويك آن سيّال است

ان ميدان جولان ذلك الجزء الاختياري هو الوقت الحاضر القصير وهو آن سيّال ليس الاّ.

با إين همه فقرها وضعفها، قلم قدرت تو آشكاره

نوشته است، ((در فطرت ما)): ميل ابد وامل سرمد

علاوة على جميع حاجاتي هذه، وضعفي وفقري وعجزي، وانا تحت هجمات الاستيحاش والمخاوف الواردة من هذه الجهات، فقد اُدرجتْ في ماهيتي آمال ممتدة الى الأبد، وفي فطرتي رغبات سطرت بوضوح بقلم القدرة.

بلكه هرجه هست، هست

بل كل ما في الدنيا، نماذجُه في فطرتي، فأنا على علاقة بجميع تلك الرغبات والآمال، بل أسعى لها، واُدفع الى السعي لها.

دائرهء إحتياج مانند دائرهء نظر بزركى داراست

ان دائرة الحاجة واسعة سعة دائرة النظر.

خيال كدام رسد احتياج نيزرسد، در دست هرجه نيست در إحتياج هست

حتى ان الخيال أينما ذهب، تذهب دائرة الحاجة الى هناك. فالحاجة اذاً هناك أيضاً، بل كل ما ليس في متناول اليد فهو ضمن الحاجة، وما ليس في اليد لا حدّ له.

دائرهء اقتدار همجو دائرهء دست كوتاه كوتاه است

بينما دائرة القدرة ضيقة وقاصرة بقدر ما تصل اليه يدي القاصرة

بس فقر و حاجات ما به قدر جهان است

بمعنى ان فقري وحاجاتي بقدر الدنيا كلها.

سر مايهء ما همجو: ((جزء لايتجزأ)) است

أما رأس مالي فهو شئ جزئي ضئيل.

اين جزء كدام واين كائنات حاجات كدام است؟

أين الحاجات التي بقدر هذا العالم، ولا تستحصل الاّ بالمليارات من هذا الجزء الاختياري الذي لايساوي شيئاً؟.

انه لا يمكن شراء تلك الحاجات بهذا الثمن الزهيد جداً. ولا يمكن ان تستحصل تلك بهذا!.

فلابد اذن من البحث عن وسيلة أخرى.

بس در راه تو أزين جزء نيز بازمىكذشتن جارهء من است

وتلك الوسيلة هي التبرؤ من ذلك الجزء الاختياري وتفويض أمره الى الارادة الإلهية، وتبرؤ المرء من قوة نفسه وحوله والالتجاء الى حول الله وقوته. وبذلك يكون الاعتصام بحبل التوكل.

فيا رب! لما كانت وسيلة النجاة هي هذه. فانني أتخلى عن ذلك الجزء الاختياري واتبرأ من أنانيتي، في سبيلك.

تا عنايت تو دستكير من شود، رحمت بى نهايت توبناه من است

لتأخذ عنايتك بيدي، رحمةً بعجزي وضعفي، ولتكون رحمتك مستندي، رأفة بفقري واحتياجي.. ولتفتح لي بابها.

آن كس كه بحر بى نهايت رحمت يافت، تكيه

نكند برين جزء اختيارى كه يك قطره سراب است

نعم، كل مَن وجد بحر الرحمة الذي لا ساحل له، لا يعتمد على جزئه الاختياري وهو كقطرة سراب، ولا يفوض اليه أمره، من دون تلك الرحمة.

أيواه! اين زندكانى همجو خواب است

وين عمر بى بنياد همجو باد است

يا اسفى، لقد خُدعنا، فظننا هذه الحياة الدنيا مستقرة دائمة. وأضعنا بهذا الظن كل شئ.

نعم، ان هذه الحياة غفوة قد مضت كرؤيا عابرة!

وهذا العمر الذي لا قرار له يذهب ذهاب الريح.

انسان به زوال دنيا به فنا است، آمال بى بقا آلام به بقا است

ان الانسان المغرور، المعتد بنفسه، ويحسبها أبدياً، محكوم عليه بالزوال. انه يذهب سريعاً.

اما الدنيا التي هي مأواه، فستهوي في ظلمات العدم، فتذهب الآمال أدراج الرياح وتبقى الآلام محفورة في الأرواح.

بيا أي نفس نا فرجام! وجود فانى خودرا فدا كن

خالق خودرا كه اين هستى وديعه هست

فتعالى يا نفسي المشتاقة الى الحياة، والطالبة العمر الطويل، والعاشقة للدنيا، والمبتلاة بآلام لا حدّ لها وآمال لا نهاية لها، يا نفسي الشقية انتبهي وعودي الى رشدك، ألا ترين ان اليراعة التي تعتمد على ضوئها تظل بين ظلمات الليل البهيم، بينما النحل التي لا تعتد بنفسها، تجد ضياء النهار، وتشاهد جميع صديقاتها من الأزهار مذهّبة بضوء الشمس.. كذلك أنتِ، ان اعتمدت على وجودك وعلى نفسك وعلى أنانيتك، فستكونين كاليراعة. ولكن ان ضحيت بوجودك في سبيل خالقك الكريم الذي وهبه لك سوف تكونين كالنحل. وتجدين نور وجود لا حدّ له. فضحي بنفسك، اذ هذا الوجود وديعة عندك وامانة لديك.

وملك او أوداه فنا كن تا بقا يابد، ازان

سرى كه: ((نفى النفى)) إثبات است

ثم ان الوجود ملكُه سبحانه وهو الذي وهبه لك، لذا إفديه من دون منّة ولا إحجام، وإفنيه كي يجد البقاء، لأن نفي النفي إثبات.

أي: ان كان العدم معدوماً فهو موجود، وان انعدم المعدم يكون موجوداً.

خداى بر كرم خود ملك خودرا مىخرد أزتو

بهاي بى كران داده براى تو نكهدارد

ان الله يشتري منك ملكه، ويعطيك ثمنه عظيماً، وهو الجنة. وانه يحفظ لك ذلك الملك ويرفع قيمته وثمنه وسيعيده اليك بأبقى صورة واكملها. فيا نفسي! انفذي هذه التجارة فوراً، انها تجارة رابحة في خمسة أرباح، أي تكسبين خمسة أرباح معاً في صفقة واحدة، وتنجين من خمسة خسائر معاً.

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَلَمّا أفلَ قالَ لاَ أحِبُّ الآفلين[

[ لقد أبكاني نعي:] لا أحب الآفلين[ من خليل الله ابراهيم عليه السلام الذي ينعي به زوال الكائنات، فصبّت عينُ قلبي قطراتٍ باكيات من شؤون الله، كل قطرة تحمل من الحزن والكمد ما يثير الاشجان ويدفع الى البكاء والنحيب. تلك القطرات هي هذه الابيات التي وردت الى القلب بالفارسية.. وهي نمط من تفسير لكلام خليل الرحمن ونبيه الحكيم كما تضمنته الآية الكريمة: :] لا أحب الآفلين[ ].

نمى ز يباست ((افولده)) كم شدن محبوب

محبوب، يغرق في أفق المغيب! ليس بمحبوب جميل، فالمحكوم عليه بالزوال لن يكون جميلاً حقاً ولا يحبه القلب، اذ القلب الذي خلق أصلاً ليعشق خالداً، ويعكس أنوار الصمد، لا يود الزوال ولا ينبغي له.

نمى ارزد ((غروبده)) غيب شدن مطلوب

مطلوب، محكوم عليه بالأفول! ليس أهلاً أن يرتبط به القلب، ولا يشد معه الفكر؛ لأنه عاجز عن أن يكون مرجعاً للاعمال وموئلاً للآمال. فالنفس لا تذهب عليه حسرات، أتراك يعشقه القلب أو ينشده ويعبده؟.

نمى خواهم ((فناده)) محو شدن مقصود

مقصود، يُمحى في الفناء ويزول! لا أريده. أنا لا أريد فانيا، لاني الفاني المسكين، فماذا يُغني الفانون عني؟

نمى خوانم ((زوالده)) دفن شدن معبود

معبود، يدفن في الزوال! لا أدعوه، ولا أسأله، ولا التجئ اليه، اذ من كان عاجزاً لا يستطيع حتماً من ان يجد دواءً لأدوائي الجسيمة ولا يقدر على ضماد جراحاتي الابدية، فكيف يكون معبوداً من لا يقدر على انقاذ نفسه من قبضة الزوال؟

عقل فرياد مى دارد، نداءِ : ] لا أحب الآفلين[ مى زند روح

أمام هذه الكائنـات المضطربة المنسابة الى الزوال، يصـرخ ((العقـل)) المفتــون بالمظاهر يائساً من الاعماق، كلما رأى زوال معشوقاته.. وتئن ((الروح)) الساعية الى محبوب خالد أنين :] لا أحب الآفلين[ .

لا.. لا أريد الفراق.. لا.. لا اطيق الفراق.

نمي خواهم نمى خوانم نمى تابم فراقي

نمى ارزد ((مراقه)) إين زوال در بس تلاقي

وصال يعقبه الزوال مؤلم، هذه اللقاءات المكدرة بالزوال غير جديرة باللهفة، بل لا يستحق شوقاً وصال يعقبه فراق؛ لان زوال اللذة مثلما هو ألم فان تصور زوال اللذة كذلك ألم مثله، فدواوين جميع شعراء الغزل والنسيب - وهم عشاق مجازيون - وجميع قصائدهم انما هي صراخات تنطلق من آلام تنجم من تصور الزوال هذا، حتى اذا ما استعصرتَ روح ديوان أيٍ منهم فلا تراها الاّ وتقطر صراخاً أليماً ناشئاً من تصور الزوال.

أزان دردى كزين :] لا أحب الآفلين[ مى زند قلبم

فتلك اللقاءات المشوبة بالزوال، وتلك المحبوبات المجازية المورثة للألم، تعصر قلبي حتى يجهش بالبكاء قائلاً: :] لا أحب الآفلين[ على غرار سيدنا ابراهيم عليه السلام.

فان كنت طالباً للبقاء حقاً، وأنت ما زلت في الدنيا الفانية فاعلم:

درين فاني بقا خوازى بقا خيزد ((فنادن)).

ان البقاء ينبثق من الفناء، فجُد بفناء النفس الامارة لتحظى بالبقاء!

فنا شد، هم فدا كن ، هم عدم بين ، كه از دنيا ((بقايه)) راه ((فنادن))

تجرّد من كل خلق ذميم هو مبعث عبادة الدنيا. افنِهِ من نفسك، جُد بماتملكه في سبيل المحبوب الحق. أبصر عقبى الموجودات الماضية نحو العدم فالسبيل في الدنيا الى البقاء انما تمر من درب الفناء.

فكر فيزار مى دارد، أنين :] لا أحب الآفلين[ مى زند وجدان

ويظل "فكر" الانسان السارح في الاسباب المادية في حيرة وقلق أمام مشهد زوال الدنيا، فيستغيث في قنوط.

بينما ((الوجدان)) الذي ينشد وجوداً حقيقياً يتبع خطى سيدنا ابراهيم عليه السلام في أنينه: :] لا أحب الآفلين[ ويقطع أسبابه مع المحبوبات المجازية ويحل حباله مع الموجودات الزائلة،معتصماً بالمحبوب السرمدي..بالمحبوب الحقيقي.

بدان اي نفس نادانم ! كه : درهر فرد أز فاني دو راه هست با باقي ، دو سرّ جان جانانى

فيا نفسي الغافلة الجاهلة! يا سعيد اعلم! انك تستطيع وجدان سبيلين الى البقاء من كل شئ فانٍ في هذه الدنيا الفانية، حتى يمكنك أن تشاهد فيهما لمعتين وسرّين من أنوار جمال المحبوب الدائم، فيما اذا قدرت على تجاوز الصورة الفانية وخرقت حدود نفسك.

كه در نعمتها إنعام هست وبس آثارها أسما بكير مغزى، رميزن در فنا آن قشر بى معنا

نعم!! ان الإنعام يشاهَد طي النعمة، ولطف الرحمن يُستشعر في ثنايا النعمة. فان نفذت من خلال النعمة الى رؤية الإنعام فقد وجدت المنعم.

ثم ان كل أثر من آثار الأحد الصمد انما هو رسالته المكتوبة. كل منه يبين أسماء صانعه الحسنى. فان استطعت العبور من النقش الظاهر الى المعنى الباطن فقد وجدت طريقاً الى الاسماء الحسنى من خلال المسميات.

فما دام في وسعك - يا نفسي - الوصول الى مغزى هذه الموجودات الفانيات ولبّها، فاستمسكي بالمعنى، ودعي قشورها يجرفها سيل الفناء، مزقي الاستار دون حسرة عليها.

بلى اثارها كونيد: ز اسما لفظ بر معنا نجوان معنا، وميزن در هوا آن لفظ بى سودا

نعم! ليس في الموجودات من شئ الا هو لفظ مجسم يفصح عن معاني جليلة، بل يستقرىء أغلب اسماء صانعه البديع.

فما دامت هذه المخلوقات ألفاظ القدرة الإلهية وكلماتها المجسدة، فاقرأيها - يا نفسي - وتأملي في معانيها واحفظيها في أعماق القلب، وارمي بألفاظها التافهة أدراج الرياح دون أسف عليها.. ودون انشغال بها.

عقل فرياد مى دارد، غياث :] لا أحب الآفلين[ ميزن اي نفسم

والعقل المبتلى بمظاهر الدنيا ولا يملك الا معارف آفاقية خارجية، تجره سلسلة أفكاره الى حيث العدم والى غير شئ. فتراه يضطرب من حيرته ويرتعد من هول الموقف فيصرخ يائساً جزعاً، باحثاً عن مخرج من هذا المأزق ليبلغه طريقاً سوياً يوصله الى الحقيقة.

فما دامت الروح قد كفت يدها عن الآفلين الزائلين، والقلب قد ترك المحبوبات المجازية، والوجدان قد أعرض عن الفانيات.. فاستغيثي يا نفسي المسكينة بغياث ابراهيم عليه السلام:] لا أحب الآفلين[ وانقذي نفسك.

جه خوش كويد أو شيدا ((جامي)) عشق خوى:

وانظري! ما أجمل قول ((جامي))(1) ذلك الشاعر العاشق الولهان حتى لكأن فطرته قد عجنت بالحب الإلهي حينما أراد ان يولي الانظار شطر التوحيد ويصرفها عن التشتت في الكثرة... اذ قال:

يكى خواه، يكى خوان، يكى جوى، يكى بين، يكى دان، يكى كوى(2)

أقصد الواحد، فسواه ليس جديراً بالقصد.

أدع الواحد، فما عداه لا يستجيب دعاء

اطلب الواحد، فغيره ليس أهلاً للطلب

شاهد الواحد، فالآخرون لا يشاهَدون دائماً، بل يغيبون وراء ستار الزوال.

اعرف الواحد، فما لا يوصل الى معرفته لا طائل من ورائه.

اذكر الواحد، فما لا يدل عليه من أقوال وأذكار هراء لا يغني المرء شيئاً.

نعم! صدقت أي جامي:

كه ((لا اله الاّ هو)) برابر ميزند عالم

هو المطلوب، هو المحبوب، هو المقصود، هو المعبود.

فالعالم كله، أشبه بحلقة ذكر، وتهليل كبرى يردد بألسنته المتنوعة ونغماته المختلفة: (لا إله الا هو) ويشهد الكل على التوحيد، فيداوي به الجرح البالغ الغور الذي يفجره: :] لا أحب الآفلين[ وكأنه يقول: هيا الى المحبوب الدائم الباقي.. انفضوا أيديكم من كل محبوباتكم المجازية الزائلة.

((لوحتان))

[ كنت قبل خمسة وعشرين عاماً(1) على تل يوشع المطل على البسفور باستانبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب اعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدونني الى حالتي الاولى، فقلت لهم: دعوني وشأني الى الغد، كي استخير ربي. وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان الى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، الاّ انهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة. وقد ألحقتا بختام ((الكلمة الثالثة والعشرين)).ولمناسبة المقام أدرجتا هنا ].



اللوحة الأولـى

[ وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة ]

لا تدعُني الى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.

اذ لما صارت الغفلة حجاباً، وسترت نور الحق..

رأيت الموجودات كلها، فانية مضرة

ان قلتَ: الوجود! فقد لبسته، ولكن كم عانيت من البلاء في العدم .

وان قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيت العذاب.

اذ صار العقل عقاباً، والبقاء بلاءً

والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.

والعمل عين الرياء، والأمل عين الألم.

والوصال عين الزوال، والدواء عين الداء.

والأنوار ظلمات، والأحبابُ أيتاماً.

والاصوات نعيات، والأحياء أموات.

وانقلبت العلوم أوهاماً، وفي الحِكَم ألف سقم.

وتحولت اللذائذ آلاماً، وفي الوجود ألفِ عدم.

وان قلتَ: الحبيب! فقد وجدته، آه! كم في الفراق من ألم.

اللوحة الثانية

[ وهي لوحة تشير الى حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية ]

لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عياناً.

واذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..

واذا العقل مفتاح الكنز، والفناء باب البقاء.

وانطفأت لمعة الكمال، واشرقت شمس الجمال..

فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.

والعمر هو العمل نفسه، والأبد عين العمر.

والظلامُ غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة..

وشاهدت الأشياء مؤنسة، والأصوات ذكراً..

فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.

ولقد وجدت الفقر كنز الغنى وابصرت القوة في العجز.

إن وجدت الله فالاشياء كلها لك.

نعم ان كنت عبداً لمالك الملك، فملكه لك..

وان كنت عبداً لنفسك معجباً بها، فابصر بلاءً وعبئاً بلا عدٍّ، وذقها عذاباً بلا حد.

وان كنت عبداً لله حقاً مؤمناً به، فابصر صفاءً بلا حدٍ، وذق ثواباً بلا عد، ونِل سعادة بلا حدٍ.

مناجاة

[ لقد قرأت قصيدة الاسماء الحسنى للشيخ الكيلاني (قُدس سره) بعد عصر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، وذلك قبل خمس وعشرين سنة، فوددت ان اكتب مناجاة بالاسماء الحسنى، فكُتب هذا القدر في حينه، إذ انني اردت كتابة نظيرة لمناجاة استاذي الجليل السامي، ولكن هيهات، فاني لا املك موهبة في النظم. لذا عجزت، وظلت المناجاة مبتورة.

وقد ألحقت هذه المناجاة برسالة ((النوافذ)) وهي المكتوب الثالث والثلاثون ولكن لمناسبة المقام اُخذت الى هنا ].

هو الباقي

حكيمُ القضايا نحـن في قَبْض حُكمه هو الحَكَمُ العـدلُ له الارضُ والســـماءُ

عليمُ الخـفايـا والغيوبُ فـي مُلكـه هو القادرُ القـيـومُ له الـعـــرش والـثراء

لطيفُ المزايا والنقـــوش في صُنعــه هو الفـاطرُ الـودودُ له الحـُــسن والبهاءُ

جليـلُ المرايا والشـؤون في خلقـــه هو الملكُ القـدوسُ له العز والكبريــــاء

بديـع البرايا نحـن من نقش صـُنعـه هو الـدائـمُ الباقي لـــه المـلك والـبـقاءُ

كريمُ العطايا نحن مِن ركبِ ضيفه هو الـرزاقُ الكـافي له الحـمـد والثنـــاء

جميل الهدايا نحن من نسـج علـمـه هو الخالـقُ الـوافـي له الجــودُ والـعـطاء

سميـعُ الشكايـا والدعــاءِ لخـَلــْقِه هو الراحمُ الشـافي له الشـكر والثنــــاء

غـفور الخـطايــا والذنـوبِ لعبده هو الغفّـار الرحـيمُ له الـعـفوُ والـرضـاء

ويا نفسي! استغيثي وابكي مثل قلبي وقولي:

انا فانٍ مَن كان فانيا لا اريد

انا عاجز من كان عاجزاً لا اريد

سلّمت روحي للرحمن، سواه لا اريد

بل اريد .. حبيباً باقياً اريد

انا ذرة.. شمساً سرمداً اريد

انا لا شئ، ومن غير شئ، الموجودات كلَّها اريد.



ثمرة تأمل

في مراعي بارلا، واشجار الصنوبر والقَطِران، والعرعر والحَور الأسود.

[ وهي قطعة من المكتوب الحادي عشر. اخذت هنا لمناسبة المقام ].

بينما كنت على قمة جبل في (بارلا) ايام منفاي، أسرح النظر في اشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمل في هيبة أوضاعها وروعة اشكالها وصورها. اذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع الى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. واذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عبراً أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ (أحمد الجزري)(1).

هر كس بتماشا كه حسناته زهر جاى تشبيه نكاران بجمالا ته دنازن

أي لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، انهم بجمالك يتغنجون ويدللون.

وتعبيراً عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:

يا رب! هر حى بتماشاكه صنع تو زهر جاى بتازى

يارب! ان كل حي، يتطلع من كل مكان، فينظرون معاً الى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك.

زنشيب از فرازى مانند دلالان بنداء بآوازى

فهم كالدعاة الادلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى الى جمالك.

دم دم ز جمال نقش تو در رقص بازى

فترقص تلك الاشجار، الادلاّء الدعاة، جذلة من بهجة جمال نقوشك في الوجود.

ز كمال صنع تو خوش خوش بكازى

فتصدر أنغاماً شديَّة واصداءً ندية من نشوة رؤيتهم لكمال صنعتك..

ز شيرينى آواز خود هى هى دنازى

فكأن حلاوة أصدائها، تزيد نشوتها وتهزّها طرباً، فتتغنج بحركات الدلال.

أز وى رقص آمد جذبه خوازى

ولأجل هذا هبّت هذه الاشجار للرقص الجميل، راغبة في الانتشاء والانجذاب.

أزين آثار رحمت يافت هر حى درس تسبيح نمازى

يستلهم كل حي صلاته الخاصة وتسبيحاته المخصوصة من اثار هذه الرحمة الإلهية.

ايستاده هر يكى بر سنك بالا سرفرازى

وبعد التزود بالدرس البليغ، تنتصب كل شجرة قائمة فوق صخرة شماء، فاتحة أيديها متطلعة الى العرش.

دراز كرده است دستهارا بدركاه إلهى همجو شهبازى

لقد تسربلت كل شجرة بسربال العبودية، ومدّت مئات أيديها ضارعة امام عتبة الحضرة الإلهية، كأنها (شهباز قلندر)(1)

به جنبيد است زلفهارا به شوق انكيز شهنازى

وتهز أغصانها الرقيقة كأنها الضفائر الفاتنة لـ (شهناز الجميلة)(2) مثيرة في المشاهد أشواقاً لطيفة وأذواقاً سامية.

به بالا ميزنند أز برده هاى ((هاى هوى)) عشق بازى (1)

لكأن هذا الجمال يهزّ طبقات العشق، بل يمسّ أعمق الأوتار وأشدها حساسية.

ميدهد (هوشه) كيرينهاى درينهاى زوالى أز حب مجازى

امام هذا المنظر المعبّر يرد الفكر هذا المعنى:

يذكّره بأنين حزين، وبكاء مرير، ينبعثان من أعمق الأعماق. المكلوم بألم الزوال الذي يصيب الأحبة المجازية.

بر سر محمودها نغمهاى حزن انكيز أيازى

انه يُسمع انغام الفراق والالم الشجية على رؤوس اشهاد العاشقين المفارقين عن أحبتهم، كما فارق السلطان محمود محبوبه.

مردهارا نغمهاى أزلِى أز حزن انكيز نوازى

وكأن هذه الاشجار بنغماتها الرقيقة الحزينة، تؤدي مهمة إسماع اصداء الخلود لأولئك الأموات الذين انقطعوا عن محاورات الدنيا واصدائها.

((روحه)) مى آيد أزو زمزمهء ناز ونيازى

اما الروح فقد تعلمت من هذه المشاهد:

ان الأشياء تتوجه الى تجليات اسماء الصانع الجليل بالتسبيح والتهليل فهي أصوات وأصداء تضرعاتها وتوسلاتها.

قلب مي خواند أزين آياتها: سر توحيد ز علو نظم اعجازى

اما القلب فانه يقرأ من النظم الرفيع لهذا الاعجاز، سر التوحيد في هذه الاشجار كأنها آيات مجسمات.

أي ان في خلق كل منها من خوارق النظام وابداع الصنعة واعجاز الحكمة، ما لو اتحدت أسباب الكون كلها، وأصبحت فاعلة مختارة، لعجزت عن تقليدها.

نفس ميخواهد درين ولوله ها! زلزله ها: ذوق باقى در فناى دنيابازى

اما النفس؛ فكلما شاهدت هذا الوضع للاشجار، رأت كأن الوجود يتدحرج في دوّامات الزوال والفراق. فتحرّت عن ذوقٍ باقٍ، فتلقت هذا المعنى: ((انك ستجدين البقاء بترك عبادة الدنيا)).

عقل مي بيند ازين زمزمه ها دمدمه ها: نظم خلقت نقش حكمت كنز رازى

اما العقل فقد وجد انتظام الخلقة، ونقش الحكمة وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللطيفة المنبعثة من الاشجار والحيوانات معاً، ومن انداء الشجيرات والنسائم. وسيفهم ان كل شئ يسبّح للصانع الجليل بجهات شتى.

آرزو ميدارد هوا ازين همهمه ها هوهوها مرك خود در ترك اذواق مجازى

اما هوى النفس، فانه يلتذ ويستمتع من حفيف الاشجار وهبوب النسيم ذوقاً لطيفاً ينسيها الأذواق المجازية كلها، حتى انه يريد ان يموت ويفنى في ذلك الذوق الحقيقي، واللذة الحقيقية بتركه الأذواق المجازية، التي هي جوهر حياته.

خيال بيند ازين اشجار: ملائك را جسد آمد سماوى باهزاران نى

اما الخيال فانه يرى كأن الملائكة الموكلين بهذه الاشجار قد دخلوا جذوعها ولبسوا أغصانها المالكة لقصيبات الناي بانواع كثيرة. وكأن السلطان السرمدي قد ألبسهم هذه الأجساد في استعراض مهيب مع آلاف انغام الناي، كي تُظهِر تلك الاشجار أوضاع الشكر والامتنان له بشعور تام، لا أجساداً ميتة فاقدة للشعور.

ازين نيها شنيدت هوش ستايشهاى ذات حى

فتلك النايات مؤثرة الانغام صافيتها، اذ تخرج أصواتاً لطيفة كأنها منبعثة من موسيقى سماوية علوية، فلا يسمع الفكر منها شكاوى آلام الفراق والزوال، كما يسمعها كل العشاق وفي مقدمتهم (مولانا جلال الدين الرومي) بل يسمع أنواع الشكر للمنعم الرحمن، وأنواع الحمد تقدم الى الحي القيوم.

ورقهارا زبان دارند همه ((هو هو)) ذكردارند به در معناي: حى حى

وإذ صارت الاشجار أجساداً. فقد صارت الأوراق كذلك ألسنة. كل منها تردد بآلاف الالسنة ذكر الله بـ ((هو.. هو..)) بمجرد مسّ الهواء لها. وتعلن بتحيات حياته الى صانعه الحي القيوم

جو ((لاَ اله الا هو)) برابر مى زند هرشى

لاَن جميع الأشياء تقول: ((لا اِله الا هو)) وتعمل ضمن حلقة ذكر الكائنات العظمى.

دمادم جويدند ((يا حق)) سراسر كويدند: ((يا حي)) برابر ميزنند: ((الله))

فتسأل كل حين من خزينة الرحمة الإلهية، بلسان الاستعداد والفطرة، وتطلب حقوق حياتها، بترديدها: ((يا حق)).

وتذكر جميعاً اسم ((يا حي)) بلسان نيلها لمظاهر الحياة.

فيا حي يا قيوم بحق اسم حى قيوم

حياتى ده به إين قلب بريشان را استقامت ده به إين عقل مشوش را...

آمين

رسالة تستنطق النجوم

كنت يوماً على ذروة قمة من قمم جبل ((جام)) نظرت الى وجه السماء في سكون الليل، واذا بالفقرات الآتية تخطر ببالي، فكأنني استمعت خيالاً الى ما تنطق به النجوم بلسان الحال.. كتبتها كما خطرت دون تنسيق على قواعد النظم والشعر لعدم معرفتي بها.

وقد اُخذت الى هنا من المكتوب الرابع، ومن ختام الموقف الاول من الكلمة الثانية والثلاثين.

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره ختم الحكمة النيّر على الوجود.

P P P

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

P P P

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

P P P

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة(1).

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

P P P

فنحن لأهل السموات مساجدٌ سيارة ومساكنٌ دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

P P P

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

P P P

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيّرة، ولا يسمع اقوالنا البيّنة.. فنحن آيات ناطقة بالحق.

P P P

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:48 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] انّا جَعَلْنا ما عَلى الارض زِينَةً لها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسنُ عَمَلاً ^ وإنَّا لَجاعلونَ ما عَلَيْها صَعيداً جُرُزاً[ (الكهف:7ـ8)

] وما الحياةُ الدنيا الاّ لعبٌ ولَهْوٌ[ (الانعام:32)

[ هذه الكلمة عبارة عن مقامين عاليين وذيل ساطع ]

ان الخالق الرحيم والرزاق الكريم والصانع الحكيم قد جعل هذه الدنيا على صورة عيد بهيج واحتفال مهيب ومهرجان عظيم لعالم الارواح والروحانيات، وزيّنها بالآثار البديعة لاسمائه الحسنى، وخلع على كل روح صغيراً كان أم كبيراً، عالياً كان ام سافلاً، جسداً على قدّه وقدره، وجهّزه بالحواس والمشاعر وكل ما يوافقه للاستفادة من الالاء المختلفة والنعم المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى، والمبثوثة في ذلك العيد البهيج، والمعروضة في ذلك المهرجان العظيم. ومنح سبحانه لكل روح من تلك الارواح وجوداً جسمانياً (مادياً) وارسلها الى ذلك العيد والمهرجان مرة واحدة، ثم قسّم ذلك العيد الواسع جداً زماناً ومكاناً الى عصور وسنوات ومواسم، بل حتى الى ايام واجزاء ايام، جاعلاً من كل عصر، من كل سنة، من كل موسم، من كل يوم، من كل جزء من يوم، مهرجاناً سامياً وعيداً رفيعاً واستعراضاً عاماً لطائفة من مخلوقاته ذوات ارواح ومن مصنوعاته النباتية، ولا سيما سطح الارض، ولا سيما في الربيع والصيف، جاعلاً اعياداً متعاقبة، الواحد تلو الآخر، لطوائف مصنوعاته الصغيرة جداً، حتى غدا ذلك العيد عيداً رائعاً جذاباً لفت انظار الروحانيات الموجودة في الطبقات العليا والملائكة واهل السموات الى مشاهدته، وجلب انظار اهل الفكر الى مطالعته بمتعة الى حد يعجز العقل عن استكناه متعتها.. ولكن هذه الضيافة الإلهية والعيد الرباني، وما فيهما من تجليات اسم ((الرحمن والمحيي)) يكتنفها الفراق والموت، حيث يبرز اسم الله ((القهار والمميت)) وربما هذا لا يوافق - كما يبدو - شمول رحمته تعالى المذكور في قوله ] ورحمتي وسعت كل شيء[ (الاعراف:156).

ولكن في الحقيقة هناك جهات عدة يظهر فيها الانسجام والموافقة الكاملة مع الرحمة الإلهية، نذكر منها جهة واحدة فقط وهي:

انه بعد انتهاء الاستعراض الرباني لكل طائفة من الطوائف، وبعد استحصال النتائج المقصودة من ذلك العرض، يتفضل الفاطر الرحيم والصانع الكريم على كل طائفة من الطوائف فيمنحهم رغبة في الراحة واشتياقاً اليها وميلاً الى الانتقال الى عالمٍ آخر، ويُسئمهم من الدنيا باشكال من النفور والسأم رحمةً بهم.

وحينما يُرخّصون من تكاليف الحياة ويُسّرحون من وظائفها، ينبّه سبحانه في أرواحهم رغبة قوية وحنيناً الى موطنهم الأصلي. وكما يمنح سبحانه مرتبة الشهادة لجندي بسيط يُقتل في سبيل اداء الخدمة ويهلك في مهمة الجهاد، وكما يمنح الشاة الأضحية وجوداً مادياً في الآخرة ويكافؤها بجعلها مطية كالبراق لصاحبها مارة به على الصراط المستقيم، فليس بعيداً من ذلك الرحمن الكريم ان يمنح لذوي الارواح والحيوانات ثواباً روحانياً يلائمهم وأجراً معنوياً يوافق استعدادهم، من خزينة رحمته الواسعة، بعد ما قاسوا المشقات وهلكوا أثناء اداء وظائفهم الفطرية الربانية الخاصة بهم، وعانوا ما عانوا في طاعتهم للاوامر السبحانية. وذلك لئلا يتألموا ألماً شديداً لدى تركهم الدنيا، بل يكونون راضين مرضيين.. ولا يعلم الغيب الاّ الله.

بيد أن الانسان الذي هو أشرف ذوي الارواح واكثرهم استفادة من هذا العيد - من حيث الكمية والنوعية - يوهب له برحمة من الله ولطف منه حالةً من الشوق الروحي تنفّره عن الدنيا التي ابتلي بها، كي يعبر الى الآخرة بأمان. فالانسان الذي لم تغرق انسانيته في الضلالة يستفيد من تلك الحالة الروحية فيرحل عن الدنيا وقلبه مطمئن بالايمان.

نبين هنا خمسةً من الوجوه التي تورث تلك الحالة الروحية على سبيل المثال:

الوجه الأول: انه سبحانه وتعالى يُظـهر للانســان - بحلـول الشيـخوخة - ختم الفناء والزوال على الاشياء الدنيوية الفتانة، ويفهّمه معانيها المريرة، مما يجعله ينفر من الدنيا ويسرع للتحري عن مطلوب باق خالد بدلاً من هذا الفاني الزائل.

الوجه الثاني: انه تعالى يُشعر الانسان شوقاً ورغبة في الذهاب الى حيث رحل تسعٌ وتسعون بالمائة من أحبته الذين يرتبط معهم والذين استقروا في عالم آخر، فتدفع تلك المحبة الجادة الانسان ليستقبل الموت والأجل بسرور وفرح.

الوجه الثالث: انه تعالى يدفع الانسان ليستشعر ضعفه وعجزه غير المتناهيين، سواءً بمدى ثقل الحياة أو تكاليف العيش أو أمور اخرى، فيولد لديه رغبة جادة في الخلود الى الراحة وشوقاً خالصاً للمضي الى ديار اخرى.

الوجه الرابع: انه تعالى يبيّن للانسان المؤمن - بنور الايمان - ان الموت ليس اعداماً بل تبديل مكان، وان القبر ليس فوهة بئر عميق بل باب لعوالم نورانية، وان الدنيا مع جميع مباهجها في حكم سجن ضيق بالنسبة لسعة الآخرة وجمالها. فلا شك ان الخروج من سجن الدنيا والنجاة من ضيقها الى بستان الجنان الاخروية، والانتقال من منغصات الحياة المادية المزعجة الى عالم الراحة والطمأنينة وطيران الارواح، والانسلاخ من ضجيج المخلوقات وصخبها الى الحضرة الربانية الهادئة المطمئنة الراضية، سياحة بل سعادة مطلوبة بألف فداء وفداء.

الوجه الخامس: انه تعالى يفهّم المنصت للقرآن الكريم ما فيه من علم الحقيقة، ويعلّمه بنور الحقيقة ماهية الدنيا، حتى يغدو عشقها والركون اليها تافهاً لا معنى له.. اي يقول له ويثبت:

ان الدنيا كتاب رباني صمداني مفتوح للانظار، حروفه وكلماته لا تمثل نفسها، بل تدل على ذات بارئها وعلى صفاته الجليلة واسمائه الحسنى، ولهذا، افهم معانيها وخذ بها، ودَع عنك نقوشها وامض الى شانك..

واعلم انها مزرعة للآخرة، فازرع واجنِ ثمراتها واحتفظ بها، واهمل قذاراتها الفانية..

واعلم انها مجاميع مرايا متعاقبة، فتعرّف الى مَن يتجلى فيها، وعاين انواره، وادرك معاني اسمائه المتجلية فيها واحبب مسمّاها، واقطع علاقتك عن تلك القطع الزجاجية القابلة للكسر والزوال.. واعلم انها موضع تجارة سيار، فقم بالبيع والشراء المطلوب منك، دون ان تلهث وراء القوافل التي اهملتك وجاوزتك، فتتعب..

واعلم انها متنزّه مؤقت فاسرح ببصرك فيها للعبرة، ودقق في الوجه الجميل المتستر، المتوجه الى الجميل الباقي، واعرض عن الوجه القبيح الدميم المتوجه الى هوى النفس، ولا تبك كالطفل الغرير عند انسدال الستائر التي تريك تلك المناظر الجميلة..

واعلم انها دار ضيافة، وانت فيها ضيف مكرم، فكل واشرب باذن صاحب الضيافة والكرم، وقدّم له الشكر، ولا تتحرك الاّ وفق اوامره وحدوده، وارحل عنها دون ان تلتفت الى ورائك.. واياك أن تتدخل بفضول بامور لا تعود اليك ولا تفيدك بشئ، فلا تغرق نفسك بشؤونها العابرة التي تفارقك.

وهكذا بمثل هذه الحقائق الظاهرة يخفف سبحانه وتعالى عن الانسان كثيراً من آلام فراق الدنيا، بل قد يحببه الى النابهين اليقظين، بما يظهر سبحانه عليه من اسرارحقيقة الدنيا، وانه اثرٍ من آثار رحمته الواسعة في كل شئ، وفي كل شأن. واذ يشير القرآن الكريم الى هذه الوجوه الخمسة، فان آيات كريمة تشير الى وجوه خاصة اخرى كذلك.

فيا لتعاسة من ليس له حظ من هذه الوجوه الخمسة.

المقام الثاني



من الكلمة السابعة عشرة (1)

((انما الشكوى بلاء))

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.

انما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، واثام في اثام وعناء.

اذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر. فالازهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

P P P

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في هباء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وانت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

P P P

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.

ايها المغرور اعلم!

ان السعادة في هذه الدنيا، في تركها.

اما في الترجمة، فقد اقتصرنا على المعنى وحده.ــ المترجم.

ان كنت بالله مؤمناً..فهو حسبك، فلو ادبرتَ عن الدنيا أقبلتْ عليك.

P P P

وان كنت معجباً بنفسك، فذلك الهلاك المبين.

ومهما عملت فالاشياء تعاديك.

فلابد من الترك اذن في كلتا الحالتين.

P P P

وتركها يعني: انها مُلك الله، يُنظر اليها بإذنه وبإسمه،

وان كنت تبغي تجارة رابحة، فهي

في استبدال عمر باقٍ لا يزول بعمرك الفاني الزائل.

P P P

وان كنت تريد رغبات نفسك، فهي زائلة، تافهة، واهية.

وان كنت تتطلع الى الآفاق، فختم الفناء عليها.

P P P

فالمتاع في هذا السوق مزيف. لا يستحق الشراء اذن.

لذا دعه، فالاصيل منه قد اعدّ خلفه..

((غرباء الحيرة))

[ على قمة شجرة التوت الاسود المباركة، ذكر سعيد القديم بلسان سعيد الجديد هذه الحقائق ].

مخاطبي ليس ((ضياء باشا(1))) بل المفتونون باوروبا.

والمتكلم ليس نفسي، بل قلبي تلميذ القرآن.

P P P

ان ((الكلمات)) السابقة حقائق. اياك ان تحار، احذر ان تجاوز حدّها

لا تُزغ، ولا تصغِ الى فكر الاجانب، انه ضلال، يسوقك الى الندم.

P P P

ألا ترى الأوسعَ فكراً والأحدَّ نظراً يقول دوماً في حيرته:

آه! وا أسفى! ممن اشكو، ولمن! فقد ذهلت!

P P P

وأنا أقول ولا اتردد فالقرآن ينطقني:

اشكو منه اليه، ولا اتحير مثلك!

P P P

استغيث من الحق بالحق، لا أتجاوز حدّي.

ادعو من الارض الى السماء، ولا اهرب مثلك!

P P P

في القرآن الكريم: الدعوة كلها؛ من النور والى النور، لا انكث مثلك.

في القران الكريم: الحكمة الصائبة. اثبتها، ولا اعير للفلسفة المخالفة أي اهتمام!

في القرآن الكريم: جواهر الحقائق.

افديها بروحي.. لا ابيعها مثلك!

P P P

أجيل طرفي من الخلق الى الحق، لا اضل مثلك!

اطير فوق الطريق الشائك، لا اطؤها مثلك!

يصعد شكري الى عنان السماء، لا اعصي مثلك!

P P P

ارى الموت صديقاً، لا اخافه مثلك!

ادخل القبر باسماً، لا ارتعد مثلك!

P P P

فمَ تنّين، فِراشَ الوحشة، عتبةَ العدم.. لا اراه مثلك!

بل موضع تلاقي الاحباب.. لا اضجر منه، لا ابغضه مثلك!

P P P

لا اتضايق منه، ولا أهابه.

فهو باب الرحمة، باب النور، باب الحق

اقرعه باسم الله، ولا التفت، ولا تأخذني الدهشة.

سأرقُد قرير العين، حامداً ربي، لا اقاسي ضيقاً، ولا اظل في وحشة.

سأقوم على صدى أذان اسرافيل في فجر الحشر، قائلاً.. ((الله اكبر)).

لا ارهب من المحشر الاكبر!

لا اتخلف من المسجد الاعظم!

P P P

من لطف الله ونور القران الكريم وفيض الإيمان.. لا أيأس اصلاً.

بل اسعى واجري طائراً الى ظل عرش الرحمن.

ولا احار مثلك.. ان شاء الله.

P P P



هذه المناجاة تخطرت في القلب هكذا بالبيان الفارسي

[ كتبت هذه المناجاة كما خطر على القلب، باللغة الفارسية، وقد نشرت ضمن رسالة ((حباب من عمان القرآن الحكيم)).]

يا رب! به شش جهت نظر مىكردم درد خودرا درمان نمىديدم

يا رب! لقد سرحت نظري في الجهات الست، علّني أجد دواءً لدائي، وانا مستند الى اقتداري واختياري غافلاً لا متوكلاً، ولكن وا اسفى لم استطع أن أجد دواءً لدائي.. وقيل لي معنىً: ألا يكفيك الداءُ دواءً.

در راست مي ديدم كه: دى روز مزار بدر من است

نعم! لقد نظرت ـ بغفلة ـ الى الزمان الماضي في يميني، لأجد فيه السلوان، ولكني رأيت ان الأمس قبرُ أبي، وتراءت لي الأيام الخوالي مقبرة كبيرة لأجدادي. فأورثتني هذه الجهة وحشة بدل السلوان(1).

(1) ولكن الايمان يُري تلك المقبرة الكبرى مجلساً منوراً ومجمعاً مؤنساً للأحباب.

ودر جب ديدم كه: فردا قبر من است

ثم نظرت الى المستقبل في اليسار، فلم أستطع أن أجد فيه دواءً. بل تراءى لي الغد في صورة قبري، وتراءى لي المستقبل قبراً لأمثالي ومقبرة للجيل المقبل، فاورثتني هذه الجهة الوحشة بدل السلوان(2).

(2) ولكن الايمان وما يورثه من الاطمئنان يُري تلك المقبرة العظمى دعوة رحمانية الى قصور السعادة اللطيفة.

و امروز: تابوت جسم بر اضطراب من است

وحيث لا جدوى من اليسار، نظرت الى اليوم الحاضر، فرأيت وكأن هذا اليوم تابوت يحمل جنازة جسمي الذي ينتفض انتفاضة المذبوح بين الموت والحياة.(3)

(3) ولكن الايمان يُري ذلك التابوت دار تجارة ودار ضيافة باهرة.

بر سر عمر جنازهء من ايستاده است

فلم أعثر على الدواء في هذه الجهة، ورفعت رأسي ونظرت الى قمة شجرة عمري، ورأيت أن جنازتي هي الثمرة الوحيدة لتلك الشجرة، وهي ترقبني من هناك(4)

(4) ولكن الايمان يُري ان تلك الثمرة ليست جنازة، بل هي انطلاقٌ لروحي المرشّحة للأبد من وكرها القديم لتسرح في النجوم.

در قدم: آب خاك خلقت من وخاكستر عظام من است

فيئستُ من تلك الجهة أيضاً، ،طأطأت رأسي، فرأيت ان رميم عظامي قد اختلط مع تراب مبدأ خلقتي وهو يُداس تحت الأقدام. فزادت - هذه الجهة - داءً لدائي ولم تسعفني بشئ(5).

(5) اما الايمان فقد أظهر ذلك التراب باباً للرحمة،وستاراً دون صالة الجنة.

جون در بس مىنكرم، بينم: اين دنياى بى بنياد هيج در هيج است

فصرفت نظري عن تلك الجهة مولّياً وجهي الى الوراء، ورأيت: ان دنياً فانية تتدحرج في وديان العبث وظلمات العدم. فنفثتْ هذه الجهة سمّ الوحشة والخوف في دائي بدلاً من ان تمنحني العزاء(6).

(6) اما الايمان فقد أظهر ان تلك الدنيا المتدحرجة في الظلمات ما هي الا مكاتيب صمدانية وصحائف نقوش سبحانية أنهت مهامها، وأفادت معانيها، وتركت نتائجها في الوجود بدلاً عنها.

ودر بيش: اندازهء نظر مىكنم، در قبر كشاده است و راه ابد بدورودراز به ديداراست

ولما لم أجد خيراً ايضاً في هذه الجهة رنوت بنظري الى الأمام، ورأيت ان باب القبر مفتوح في بداية طريقي، وتتراءى وراءه من بعيد طريقٌ ممتدة الى الأبد(7).

(7) أما الايمان فقد جعل باب القبر ذاك باباً الى عالم النور، وتلك الطريق طريقاً الى السعادة الخالدة، فأصبح الايمان، بحقٍ مرهماً شافياً لدائي.

مرا جز جزء اختيارى جيزى نيست در دست

وهكذا لم أعثر في هذه الجهات الست على أي سلوانٍ وعزاءٍ بل وجدت استيحاشاً وهلعاً، ولم يكن لي تجاهها مستند سوى جزء اختياري(8).

(8) اما الايمان فانه يسلّمني بدلاً من ذلك الجزء الاختياري وثيقة لأستند بها الى قدرة عظيمة مطلقة، بل الايمان هو الوثيقة نفسها.

كه او جزء هم عاجز، هم كوتاه، وهم كم عيار است

وان ذلك الجزء الاختياري الذي هو سلاح الانسان، عاجز، قاصر، ناقص، لا يمكنه الخلق وليس له الاّ الكسب(9).

(9) الاّ ان الايمان يجعل ذلك الجزء الاختياري كافياً لكل شئ اذ يستعمله في سبيل الله، كالجندي الذي إنسلك في جيش الدولة فينجز ألوف أضعاف قوته من الأعمال.

نه در ماضى مجال حلول، نه در مستقبل مدار نفوذاست

لأن ذلك الجزء الاختياري ليس له القدرة للحلول في الماضي، ولا النفوذ في المستقبل. لذا لا نفع له لآمالي وآلامي الماضية والمستقبلة(10)

(10) ولكن الايمان يأخذ زمام ذلك الجزء الاختياري من الجسم الحيواني ويسلّمه الى القلب والروح، لذا يستطيع ان يحلّ في الماضي وينفذ في المستقبل. حيث دائرة حياة القلب والروح واسعة جداً.

ميدان أو إين زمان حال، ويك آن سيّال است

ان ميدان جولان ذلك الجزء الاختياري هو الوقت الحاضر القصير وهو آن سيّال ليس الاّ.

با إين همه فقرها وضعفها، قلم قدرت تو آشكاره

نوشته است، ((در فطرت ما)): ميل ابد وامل سرمد

علاوة على جميع حاجاتي هذه، وضعفي وفقري وعجزي، وانا تحت هجمات الاستيحاش والمخاوف الواردة من هذه الجهات، فقد اُدرجتْ في ماهيتي آمال ممتدة الى الأبد، وفي فطرتي رغبات سطرت بوضوح بقلم القدرة.

بلكه هرجه هست، هست

بل كل ما في الدنيا، نماذجُه في فطرتي، فأنا على علاقة بجميع تلك الرغبات والآمال، بل أسعى لها، واُدفع الى السعي لها.

دائرهء إحتياج مانند دائرهء نظر بزركى داراست

ان دائرة الحاجة واسعة سعة دائرة النظر.

خيال كدام رسد احتياج نيزرسد، در دست هرجه نيست در إحتياج هست

حتى ان الخيال أينما ذهب، تذهب دائرة الحاجة الى هناك. فالحاجة اذاً هناك أيضاً، بل كل ما ليس في متناول اليد فهو ضمن الحاجة، وما ليس في اليد لا حدّ له.

دائرهء اقتدار همجو دائرهء دست كوتاه كوتاه است

بينما دائرة القدرة ضيقة وقاصرة بقدر ما تصل اليه يدي القاصرة

بس فقر و حاجات ما به قدر جهان است

بمعنى ان فقري وحاجاتي بقدر الدنيا كلها.

سر مايهء ما همجو: ((جزء لايتجزأ)) است

أما رأس مالي فهو شئ جزئي ضئيل.

اين جزء كدام واين كائنات حاجات كدام است؟

أين الحاجات التي بقدر هذا العالم، ولا تستحصل الاّ بالمليارات من هذا الجزء الاختياري الذي لايساوي شيئاً؟.

انه لا يمكن شراء تلك الحاجات بهذا الثمن الزهيد جداً. ولا يمكن ان تستحصل تلك بهذا!.

فلابد اذن من البحث عن وسيلة أخرى.

بس در راه تو أزين جزء نيز بازمىكذشتن جارهء من است

وتلك الوسيلة هي التبرؤ من ذلك الجزء الاختياري وتفويض أمره الى الارادة الإلهية، وتبرؤ المرء من قوة نفسه وحوله والالتجاء الى حول الله وقوته. وبذلك يكون الاعتصام بحبل التوكل.

فيا رب! لما كانت وسيلة النجاة هي هذه. فانني أتخلى عن ذلك الجزء الاختياري واتبرأ من أنانيتي، في سبيلك.

تا عنايت تو دستكير من شود، رحمت بى نهايت توبناه من است

لتأخذ عنايتك بيدي، رحمةً بعجزي وضعفي، ولتكون رحمتك مستندي، رأفة بفقري واحتياجي.. ولتفتح لي بابها.

آن كس كه بحر بى نهايت رحمت يافت، تكيه

نكند برين جزء اختيارى كه يك قطره سراب است

نعم، كل مَن وجد بحر الرحمة الذي لا ساحل له، لا يعتمد على جزئه الاختياري وهو كقطرة سراب، ولا يفوض اليه أمره، من دون تلك الرحمة.

أيواه! اين زندكانى همجو خواب است

وين عمر بى بنياد همجو باد است

يا اسفى، لقد خُدعنا، فظننا هذه الحياة الدنيا مستقرة دائمة. وأضعنا بهذا الظن كل شئ.

نعم، ان هذه الحياة غفوة قد مضت كرؤيا عابرة!

وهذا العمر الذي لا قرار له يذهب ذهاب الريح.

انسان به زوال دنيا به فنا است، آمال بى بقا آلام به بقا است

ان الانسان المغرور، المعتد بنفسه، ويحسبها أبدياً، محكوم عليه بالزوال. انه يذهب سريعاً.

اما الدنيا التي هي مأواه، فستهوي في ظلمات العدم، فتذهب الآمال أدراج الرياح وتبقى الآلام محفورة في الأرواح.

بيا أي نفس نا فرجام! وجود فانى خودرا فدا كن

خالق خودرا كه اين هستى وديعه هست

فتعالى يا نفسي المشتاقة الى الحياة، والطالبة العمر الطويل، والعاشقة للدنيا، والمبتلاة بآلام لا حدّ لها وآمال لا نهاية لها، يا نفسي الشقية انتبهي وعودي الى رشدك، ألا ترين ان اليراعة التي تعتمد على ضوئها تظل بين ظلمات الليل البهيم، بينما النحل التي لا تعتد بنفسها، تجد ضياء النهار، وتشاهد جميع صديقاتها من الأزهار مذهّبة بضوء الشمس.. كذلك أنتِ، ان اعتمدت على وجودك وعلى نفسك وعلى أنانيتك، فستكونين كاليراعة. ولكن ان ضحيت بوجودك في سبيل خالقك الكريم الذي وهبه لك سوف تكونين كالنحل. وتجدين نور وجود لا حدّ له. فضحي بنفسك، اذ هذا الوجود وديعة عندك وامانة لديك.

وملك او أوداه فنا كن تا بقا يابد، ازان

سرى كه: ((نفى النفى)) إثبات است

ثم ان الوجود ملكُه سبحانه وهو الذي وهبه لك، لذا إفديه من دون منّة ولا إحجام، وإفنيه كي يجد البقاء، لأن نفي النفي إثبات.

أي: ان كان العدم معدوماً فهو موجود، وان انعدم المعدم يكون موجوداً.

خداى بر كرم خود ملك خودرا مىخرد أزتو

بهاي بى كران داده براى تو نكهدارد

ان الله يشتري منك ملكه، ويعطيك ثمنه عظيماً، وهو الجنة. وانه يحفظ لك ذلك الملك ويرفع قيمته وثمنه وسيعيده اليك بأبقى صورة واكملها. فيا نفسي! انفذي هذه التجارة فوراً، انها تجارة رابحة في خمسة أرباح، أي تكسبين خمسة أرباح معاً في صفقة واحدة، وتنجين من خمسة خسائر معاً.

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَلَمّا أفلَ قالَ لاَ أحِبُّ الآفلين[

[ لقد أبكاني نعي:] لا أحب الآفلين[ من خليل الله ابراهيم عليه السلام الذي ينعي به زوال الكائنات، فصبّت عينُ قلبي قطراتٍ باكيات من شؤون الله، كل قطرة تحمل من الحزن والكمد ما يثير الاشجان ويدفع الى البكاء والنحيب. تلك القطرات هي هذه الابيات التي وردت الى القلب بالفارسية.. وهي نمط من تفسير لكلام خليل الرحمن ونبيه الحكيم كما تضمنته الآية الكريمة: :] لا أحب الآفلين[ ].

نمى ز يباست ((افولده)) كم شدن محبوب

محبوب، يغرق في أفق المغيب! ليس بمحبوب جميل، فالمحكوم عليه بالزوال لن يكون جميلاً حقاً ولا يحبه القلب، اذ القلب الذي خلق أصلاً ليعشق خالداً، ويعكس أنوار الصمد، لا يود الزوال ولا ينبغي له.

نمى ارزد ((غروبده)) غيب شدن مطلوب

مطلوب، محكوم عليه بالأفول! ليس أهلاً أن يرتبط به القلب، ولا يشد معه الفكر؛ لأنه عاجز عن أن يكون مرجعاً للاعمال وموئلاً للآمال. فالنفس لا تذهب عليه حسرات، أتراك يعشقه القلب أو ينشده ويعبده؟.

نمى خواهم ((فناده)) محو شدن مقصود

مقصود، يُمحى في الفناء ويزول! لا أريده. أنا لا أريد فانيا، لاني الفاني المسكين، فماذا يُغني الفانون عني؟

نمى خوانم ((زوالده)) دفن شدن معبود

معبود، يدفن في الزوال! لا أدعوه، ولا أسأله، ولا التجئ اليه، اذ من كان عاجزاً لا يستطيع حتماً من ان يجد دواءً لأدوائي الجسيمة ولا يقدر على ضماد جراحاتي الابدية، فكيف يكون معبوداً من لا يقدر على انقاذ نفسه من قبضة الزوال؟

عقل فرياد مى دارد، نداءِ : ] لا أحب الآفلين[ مى زند روح

أمام هذه الكائنـات المضطربة المنسابة الى الزوال، يصـرخ ((العقـل)) المفتــون بالمظاهر يائساً من الاعماق، كلما رأى زوال معشوقاته.. وتئن ((الروح)) الساعية الى محبوب خالد أنين :] لا أحب الآفلين[ .

لا.. لا أريد الفراق.. لا.. لا اطيق الفراق.

نمي خواهم نمى خوانم نمى تابم فراقي

نمى ارزد ((مراقه)) إين زوال در بس تلاقي

وصال يعقبه الزوال مؤلم، هذه اللقاءات المكدرة بالزوال غير جديرة باللهفة، بل لا يستحق شوقاً وصال يعقبه فراق؛ لان زوال اللذة مثلما هو ألم فان تصور زوال اللذة كذلك ألم مثله، فدواوين جميع شعراء الغزل والنسيب - وهم عشاق مجازيون - وجميع قصائدهم انما هي صراخات تنطلق من آلام تنجم من تصور الزوال هذا، حتى اذا ما استعصرتَ روح ديوان أيٍ منهم فلا تراها الاّ وتقطر صراخاً أليماً ناشئاً من تصور الزوال.

أزان دردى كزين :] لا أحب الآفلين[ مى زند قلبم

فتلك اللقاءات المشوبة بالزوال، وتلك المحبوبات المجازية المورثة للألم، تعصر قلبي حتى يجهش بالبكاء قائلاً: :] لا أحب الآفلين[ على غرار سيدنا ابراهيم عليه السلام.

فان كنت طالباً للبقاء حقاً، وأنت ما زلت في الدنيا الفانية فاعلم:

درين فاني بقا خوازى بقا خيزد ((فنادن)).

ان البقاء ينبثق من الفناء، فجُد بفناء النفس الامارة لتحظى بالبقاء!

فنا شد، هم فدا كن ، هم عدم بين ، كه از دنيا ((بقايه)) راه ((فنادن))

تجرّد من كل خلق ذميم هو مبعث عبادة الدنيا. افنِهِ من نفسك، جُد بماتملكه في سبيل المحبوب الحق. أبصر عقبى الموجودات الماضية نحو العدم فالسبيل في الدنيا الى البقاء انما تمر من درب الفناء.

فكر فيزار مى دارد، أنين :] لا أحب الآفلين[ مى زند وجدان

ويظل "فكر" الانسان السارح في الاسباب المادية في حيرة وقلق أمام مشهد زوال الدنيا، فيستغيث في قنوط.

بينما ((الوجدان)) الذي ينشد وجوداً حقيقياً يتبع خطى سيدنا ابراهيم عليه السلام في أنينه: :] لا أحب الآفلين[ ويقطع أسبابه مع المحبوبات المجازية ويحل حباله مع الموجودات الزائلة،معتصماً بالمحبوب السرمدي..بالمحبوب الحقيقي.

بدان اي نفس نادانم ! كه : درهر فرد أز فاني دو راه هست با باقي ، دو سرّ جان جانانى

فيا نفسي الغافلة الجاهلة! يا سعيد اعلم! انك تستطيع وجدان سبيلين الى البقاء من كل شئ فانٍ في هذه الدنيا الفانية، حتى يمكنك أن تشاهد فيهما لمعتين وسرّين من أنوار جمال المحبوب الدائم، فيما اذا قدرت على تجاوز الصورة الفانية وخرقت حدود نفسك.

كه در نعمتها إنعام هست وبس آثارها أسما بكير مغزى، رميزن در فنا آن قشر بى معنا

نعم!! ان الإنعام يشاهَد طي النعمة، ولطف الرحمن يُستشعر في ثنايا النعمة. فان نفذت من خلال النعمة الى رؤية الإنعام فقد وجدت المنعم.

ثم ان كل أثر من آثار الأحد الصمد انما هو رسالته المكتوبة. كل منه يبين أسماء صانعه الحسنى. فان استطعت العبور من النقش الظاهر الى المعنى الباطن فقد وجدت طريقاً الى الاسماء الحسنى من خلال المسميات.

فما دام في وسعك - يا نفسي - الوصول الى مغزى هذه الموجودات الفانيات ولبّها، فاستمسكي بالمعنى، ودعي قشورها يجرفها سيل الفناء، مزقي الاستار دون حسرة عليها.

بلى اثارها كونيد: ز اسما لفظ بر معنا نجوان معنا، وميزن در هوا آن لفظ بى سودا

نعم! ليس في الموجودات من شئ الا هو لفظ مجسم يفصح عن معاني جليلة، بل يستقرىء أغلب اسماء صانعه البديع.

فما دامت هذه المخلوقات ألفاظ القدرة الإلهية وكلماتها المجسدة، فاقرأيها - يا نفسي - وتأملي في معانيها واحفظيها في أعماق القلب، وارمي بألفاظها التافهة أدراج الرياح دون أسف عليها.. ودون انشغال بها.

عقل فرياد مى دارد، غياث :] لا أحب الآفلين[ ميزن اي نفسم

والعقل المبتلى بمظاهر الدنيا ولا يملك الا معارف آفاقية خارجية، تجره سلسلة أفكاره الى حيث العدم والى غير شئ. فتراه يضطرب من حيرته ويرتعد من هول الموقف فيصرخ يائساً جزعاً، باحثاً عن مخرج من هذا المأزق ليبلغه طريقاً سوياً يوصله الى الحقيقة.

فما دامت الروح قد كفت يدها عن الآفلين الزائلين، والقلب قد ترك المحبوبات المجازية، والوجدان قد أعرض عن الفانيات.. فاستغيثي يا نفسي المسكينة بغياث ابراهيم عليه السلام:] لا أحب الآفلين[ وانقذي نفسك.

جه خوش كويد أو شيدا ((جامي)) عشق خوى:

وانظري! ما أجمل قول ((جامي))(1) ذلك الشاعر العاشق الولهان حتى لكأن فطرته قد عجنت بالحب الإلهي حينما أراد ان يولي الانظار شطر التوحيد ويصرفها عن التشتت في الكثرة... اذ قال:

يكى خواه، يكى خوان، يكى جوى، يكى بين، يكى دان، يكى كوى(2)

أقصد الواحد، فسواه ليس جديراً بالقصد.

أدع الواحد، فما عداه لا يستجيب دعاء

اطلب الواحد، فغيره ليس أهلاً للطلب

شاهد الواحد، فالآخرون لا يشاهَدون دائماً، بل يغيبون وراء ستار الزوال.

اعرف الواحد، فما لا يوصل الى معرفته لا طائل من ورائه.

اذكر الواحد، فما لا يدل عليه من أقوال وأذكار هراء لا يغني المرء شيئاً.

نعم! صدقت أي جامي:

كه ((لا اله الاّ هو)) برابر ميزند عالم

هو المطلوب، هو المحبوب، هو المقصود، هو المعبود.

فالعالم كله، أشبه بحلقة ذكر، وتهليل كبرى يردد بألسنته المتنوعة ونغماته المختلفة: (لا إله الا هو) ويشهد الكل على التوحيد، فيداوي به الجرح البالغ الغور الذي يفجره: :] لا أحب الآفلين[ وكأنه يقول: هيا الى المحبوب الدائم الباقي.. انفضوا أيديكم من كل محبوباتكم المجازية الزائلة.

((لوحتان))

[ كنت قبل خمسة وعشرين عاماً(1) على تل يوشع المطل على البسفور باستانبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب اعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدونني الى حالتي الاولى، فقلت لهم: دعوني وشأني الى الغد، كي استخير ربي. وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان الى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، الاّ انهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة. وقد ألحقتا بختام ((الكلمة الثالثة والعشرين)).ولمناسبة المقام أدرجتا هنا ].



اللوحة الأولـى

[ وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة ]

لا تدعُني الى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.

اذ لما صارت الغفلة حجاباً، وسترت نور الحق..

رأيت الموجودات كلها، فانية مضرة

ان قلتَ: الوجود! فقد لبسته، ولكن كم عانيت من البلاء في العدم .

وان قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيت العذاب.

اذ صار العقل عقاباً، والبقاء بلاءً

والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.

والعمل عين الرياء، والأمل عين الألم.

والوصال عين الزوال، والدواء عين الداء.

والأنوار ظلمات، والأحبابُ أيتاماً.

والاصوات نعيات، والأحياء أموات.

وانقلبت العلوم أوهاماً، وفي الحِكَم ألف سقم.

وتحولت اللذائذ آلاماً، وفي الوجود ألفِ عدم.

وان قلتَ: الحبيب! فقد وجدته، آه! كم في الفراق من ألم.

اللوحة الثانية

[ وهي لوحة تشير الى حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية ]

لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عياناً.

واذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..

واذا العقل مفتاح الكنز، والفناء باب البقاء.

وانطفأت لمعة الكمال، واشرقت شمس الجمال..

فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.

والعمر هو العمل نفسه، والأبد عين العمر.

والظلامُ غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة..

وشاهدت الأشياء مؤنسة، والأصوات ذكراً..

فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.

ولقد وجدت الفقر كنز الغنى وابصرت القوة في العجز.

إن وجدت الله فالاشياء كلها لك.

نعم ان كنت عبداً لمالك الملك، فملكه لك..

وان كنت عبداً لنفسك معجباً بها، فابصر بلاءً وعبئاً بلا عدٍّ، وذقها عذاباً بلا حد.

وان كنت عبداً لله حقاً مؤمناً به، فابصر صفاءً بلا حدٍ، وذق ثواباً بلا عد، ونِل سعادة بلا حدٍ.

مناجاة

[ لقد قرأت قصيدة الاسماء الحسنى للشيخ الكيلاني (قُدس سره) بعد عصر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، وذلك قبل خمس وعشرين سنة، فوددت ان اكتب مناجاة بالاسماء الحسنى، فكُتب هذا القدر في حينه، إذ انني اردت كتابة نظيرة لمناجاة استاذي الجليل السامي، ولكن هيهات، فاني لا املك موهبة في النظم. لذا عجزت، وظلت المناجاة مبتورة.

وقد ألحقت هذه المناجاة برسالة ((النوافذ)) وهي المكتوب الثالث والثلاثون ولكن لمناسبة المقام اُخذت الى هنا ].

هو الباقي

حكيمُ القضايا نحـن في قَبْض حُكمه هو الحَكَمُ العـدلُ له الارضُ والســـماءُ

عليمُ الخـفايـا والغيوبُ فـي مُلكـه هو القادرُ القـيـومُ له الـعـــرش والـثراء

لطيفُ المزايا والنقـــوش في صُنعــه هو الفـاطرُ الـودودُ له الحـُــسن والبهاءُ

جليـلُ المرايا والشـؤون في خلقـــه هو الملكُ القـدوسُ له العز والكبريــــاء

بديـع البرايا نحـن من نقش صـُنعـه هو الـدائـمُ الباقي لـــه المـلك والـبـقاءُ

كريمُ العطايا نحن مِن ركبِ ضيفه هو الـرزاقُ الكـافي له الحـمـد والثنـــاء

جميل الهدايا نحن من نسـج علـمـه هو الخالـقُ الـوافـي له الجــودُ والـعـطاء

سميـعُ الشكايـا والدعــاءِ لخـَلــْقِه هو الراحمُ الشـافي له الشـكر والثنــــاء

غـفور الخـطايــا والذنـوبِ لعبده هو الغفّـار الرحـيمُ له الـعـفوُ والـرضـاء

ويا نفسي! استغيثي وابكي مثل قلبي وقولي:

انا فانٍ مَن كان فانيا لا اريد

انا عاجز من كان عاجزاً لا اريد

سلّمت روحي للرحمن، سواه لا اريد

بل اريد .. حبيباً باقياً اريد

انا ذرة.. شمساً سرمداً اريد

انا لا شئ، ومن غير شئ، الموجودات كلَّها اريد.



ثمرة تأمل

في مراعي بارلا، واشجار الصنوبر والقَطِران، والعرعر والحَور الأسود.

[ وهي قطعة من المكتوب الحادي عشر. اخذت هنا لمناسبة المقام ].

بينما كنت على قمة جبل في (بارلا) ايام منفاي، أسرح النظر في اشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمل في هيبة أوضاعها وروعة اشكالها وصورها. اذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع الى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. واذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عبراً أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ (أحمد الجزري)(1).

هر كس بتماشا كه حسناته زهر جاى تشبيه نكاران بجمالا ته دنازن

أي لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، انهم بجمالك يتغنجون ويدللون.

وتعبيراً عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:

يا رب! هر حى بتماشاكه صنع تو زهر جاى بتازى

يارب! ان كل حي، يتطلع من كل مكان، فينظرون معاً الى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك.

زنشيب از فرازى مانند دلالان بنداء بآوازى

فهم كالدعاة الادلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى الى جمالك.

دم دم ز جمال نقش تو در رقص بازى

فترقص تلك الاشجار، الادلاّء الدعاة، جذلة من بهجة جمال نقوشك في الوجود.

ز كمال صنع تو خوش خوش بكازى

فتصدر أنغاماً شديَّة واصداءً ندية من نشوة رؤيتهم لكمال صنعتك..

ز شيرينى آواز خود هى هى دنازى

فكأن حلاوة أصدائها، تزيد نشوتها وتهزّها طرباً، فتتغنج بحركات الدلال.

أز وى رقص آمد جذبه خوازى

ولأجل هذا هبّت هذه الاشجار للرقص الجميل، راغبة في الانتشاء والانجذاب.

أزين آثار رحمت يافت هر حى درس تسبيح نمازى

يستلهم كل حي صلاته الخاصة وتسبيحاته المخصوصة من اثار هذه الرحمة الإلهية.

ايستاده هر يكى بر سنك بالا سرفرازى

وبعد التزود بالدرس البليغ، تنتصب كل شجرة قائمة فوق صخرة شماء، فاتحة أيديها متطلعة الى العرش.

دراز كرده است دستهارا بدركاه إلهى همجو شهبازى

لقد تسربلت كل شجرة بسربال العبودية، ومدّت مئات أيديها ضارعة امام عتبة الحضرة الإلهية، كأنها (شهباز قلندر)(1)

به جنبيد است زلفهارا به شوق انكيز شهنازى

وتهز أغصانها الرقيقة كأنها الضفائر الفاتنة لـ (شهناز الجميلة)(2) مثيرة في المشاهد أشواقاً لطيفة وأذواقاً سامية.

به بالا ميزنند أز برده هاى ((هاى هوى)) عشق بازى (1)

لكأن هذا الجمال يهزّ طبقات العشق، بل يمسّ أعمق الأوتار وأشدها حساسية.

ميدهد (هوشه) كيرينهاى درينهاى زوالى أز حب مجازى

امام هذا المنظر المعبّر يرد الفكر هذا المعنى:

يذكّره بأنين حزين، وبكاء مرير، ينبعثان من أعمق الأعماق. المكلوم بألم الزوال الذي يصيب الأحبة المجازية.

بر سر محمودها نغمهاى حزن انكيز أيازى

انه يُسمع انغام الفراق والالم الشجية على رؤوس اشهاد العاشقين المفارقين عن أحبتهم، كما فارق السلطان محمود محبوبه.

مردهارا نغمهاى أزلِى أز حزن انكيز نوازى

وكأن هذه الاشجار بنغماتها الرقيقة الحزينة، تؤدي مهمة إسماع اصداء الخلود لأولئك الأموات الذين انقطعوا عن محاورات الدنيا واصدائها.

((روحه)) مى آيد أزو زمزمهء ناز ونيازى

اما الروح فقد تعلمت من هذه المشاهد:

ان الأشياء تتوجه الى تجليات اسماء الصانع الجليل بالتسبيح والتهليل فهي أصوات وأصداء تضرعاتها وتوسلاتها.

قلب مي خواند أزين آياتها: سر توحيد ز علو نظم اعجازى

اما القلب فانه يقرأ من النظم الرفيع لهذا الاعجاز، سر التوحيد في هذه الاشجار كأنها آيات مجسمات.

أي ان في خلق كل منها من خوارق النظام وابداع الصنعة واعجاز الحكمة، ما لو اتحدت أسباب الكون كلها، وأصبحت فاعلة مختارة، لعجزت عن تقليدها.

نفس ميخواهد درين ولوله ها! زلزله ها: ذوق باقى در فناى دنيابازى

اما النفس؛ فكلما شاهدت هذا الوضع للاشجار، رأت كأن الوجود يتدحرج في دوّامات الزوال والفراق. فتحرّت عن ذوقٍ باقٍ، فتلقت هذا المعنى: ((انك ستجدين البقاء بترك عبادة الدنيا)).

عقل مي بيند ازين زمزمه ها دمدمه ها: نظم خلقت نقش حكمت كنز رازى

اما العقل فقد وجد انتظام الخلقة، ونقش الحكمة وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللطيفة المنبعثة من الاشجار والحيوانات معاً، ومن انداء الشجيرات والنسائم. وسيفهم ان كل شئ يسبّح للصانع الجليل بجهات شتى.

آرزو ميدارد هوا ازين همهمه ها هوهوها مرك خود در ترك اذواق مجازى

اما هوى النفس، فانه يلتذ ويستمتع من حفيف الاشجار وهبوب النسيم ذوقاً لطيفاً ينسيها الأذواق المجازية كلها، حتى انه يريد ان يموت ويفنى في ذلك الذوق الحقيقي، واللذة الحقيقية بتركه الأذواق المجازية، التي هي جوهر حياته.

خيال بيند ازين اشجار: ملائك را جسد آمد سماوى باهزاران نى

اما الخيال فانه يرى كأن الملائكة الموكلين بهذه الاشجار قد دخلوا جذوعها ولبسوا أغصانها المالكة لقصيبات الناي بانواع كثيرة. وكأن السلطان السرمدي قد ألبسهم هذه الأجساد في استعراض مهيب مع آلاف انغام الناي، كي تُظهِر تلك الاشجار أوضاع الشكر والامتنان له بشعور تام، لا أجساداً ميتة فاقدة للشعور.

ازين نيها شنيدت هوش ستايشهاى ذات حى

فتلك النايات مؤثرة الانغام صافيتها، اذ تخرج أصواتاً لطيفة كأنها منبعثة من موسيقى سماوية علوية، فلا يسمع الفكر منها شكاوى آلام الفراق والزوال، كما يسمعها كل العشاق وفي مقدمتهم (مولانا جلال الدين الرومي) بل يسمع أنواع الشكر للمنعم الرحمن، وأنواع الحمد تقدم الى الحي القيوم.

ورقهارا زبان دارند همه ((هو هو)) ذكردارند به در معناي: حى حى

وإذ صارت الاشجار أجساداً. فقد صارت الأوراق كذلك ألسنة. كل منها تردد بآلاف الالسنة ذكر الله بـ ((هو.. هو..)) بمجرد مسّ الهواء لها. وتعلن بتحيات حياته الى صانعه الحي القيوم

جو ((لاَ اله الا هو)) برابر مى زند هرشى

لاَن جميع الأشياء تقول: ((لا اِله الا هو)) وتعمل ضمن حلقة ذكر الكائنات العظمى.

دمادم جويدند ((يا حق)) سراسر كويدند: ((يا حي)) برابر ميزنند: ((الله))

فتسأل كل حين من خزينة الرحمة الإلهية، بلسان الاستعداد والفطرة، وتطلب حقوق حياتها، بترديدها: ((يا حق)).

وتذكر جميعاً اسم ((يا حي)) بلسان نيلها لمظاهر الحياة.

فيا حي يا قيوم بحق اسم حى قيوم

حياتى ده به إين قلب بريشان را استقامت ده به إين عقل مشوش را...

آمين

رسالة تستنطق النجوم

كنت يوماً على ذروة قمة من قمم جبل ((جام)) نظرت الى وجه السماء في سكون الليل، واذا بالفقرات الآتية تخطر ببالي، فكأنني استمعت خيالاً الى ما تنطق به النجوم بلسان الحال.. كتبتها كما خطرت دون تنسيق على قواعد النظم والشعر لعدم معرفتي بها.

وقد اُخذت الى هنا من المكتوب الرابع، ومن ختام الموقف الاول من الكلمة الثانية والثلاثين.

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره ختم الحكمة النيّر على الوجود.

P P P

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

P P P

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

P P P

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة(1).

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

P P P

فنحن لأهل السموات مساجدٌ سيارة ومساكنٌ دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

P P P

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

P P P

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيّرة، ولا يسمع اقوالنا البيّنة.. فنحن آيات ناطقة بالحق.

P P P

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:49 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثامنة عشرة



[ لهذه الكلمة مقامان . ولم يكتب بعدُ المقام الثاني. والمقام الاول عبارة عن ثلاث نقاط ].

C النقطة الاولى:

بسم الله الرحمن الرحيم

] لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبّون ان يُحمَدوا بما لم يفعَلوا، فلا تحسبنّهم بمفازةٍ من العذاب ولهم عذابٌ أليمٌ [ (آل عمران: 188)



لطمةُ تأديب لنفسي الامارة بالسوء!

يا نفسي المغرمة بالفخر، المعجبة بالشهرة، الهائمة وراء المدح والثناء!

يا نفسي الغويّة!

ان كانت بذيرة التين التي هي منشأ ألوف الثمرات، والساق النحيفة الصلبة التي تعلقت بها مئات العناقيد.. ان كانت هذه الثمرات والعناقيد من عمل تلك البذيرة والساق ومن مهارتهـما لزم كل من يستفيد من تلـك النتائج ان يبدي المدح ويظهر الثناء لهما! اقول: ان كانت هذه الدعوى حقاً، فلربما يكون لكِِ - يا نفسي - حقٌ ايضاً في الفخر والغرور لما حُمّلتِ من النعم.

بينما انتِ لا تستحقين الاّ الذم، لانك لستِ كتلك البذيرة ولا كتلك الساق، وذلك لما تحملين من جزء اختياري. فتنتقصين بفخركِ وغروركِ من قيمة تلك النعم وتبخسين حقها، وتبطلينها بكفرانك النعم، وتغتصبينها بالتملك.

فليس لكِ الفخر، بل الشكر. ولا تليق بكِ الشهرة، بل التواضع والحياء. وما عليكِ الا الاستغفار، وملازمة الندم، لا المدح، فليس كمالك في الانانيةِ، بل في الاستهداء.

نعم! يا نفسي! انتِ في جسمي تشبهين الطبيعة في العالم، فانتما (النفس والطبيعة) قد خُلقتما قابلين للخير، مرجعيَن للشر. اي انتما لستما الفاعل ولا المصدر، بل المنفعل ومحل الفعل، الاّ ان لكما تأثيراً واحداً فقط وهو تسببكما في الشر، عند عدم قبولكما الخير الوارد من الخير المطلق قبولاً حسناً.

ثم انكما قد خُلقتما ستارين، كي تُسند اليكما المفاسد والقبائح الظاهرية التي لا يُشاهد جمالُها، لتكونا وسيلتين لتنزيه الذات الإلهية الجليلة. ولكنكما قد لبستما صورة تخالف وظيفتكما الفطرية، اذ تقلبان الخير الى شر لإفتقاركما الى القابليات، فكأنكما تشاركان خالقكما في الفعل!

فالذي يعبد النفس ويعبد الطبيعة اذاً في منتهى الحماقة ومنتهى الظلم.

فيا نفسي!

لا تقولي: انني مظهر الجمال، فالذي ينال الجمال يكون جميلاً.. كلا، انكِ لم تتمثلي الجمال تمثلاً تاماً، فلا تكونين مظهراً له بل ممراً اليه.

ولا تقولي ايضاً:

انني قد اُنتُخبتُ من دون الناس كلهم، وهذه الثمرات انما تظهر بوساطتي، بمعنى ان لي فضلاً ومزيّة! كلا.. وحاشَ لله.. بل قد اُعطيتِ تلك الثمرات لانكِ أحوج الناس اليها، واكثرهم إفلاساً واكثرهم تألماً(1).

C النقطة الثانية:

نوضح سراً من أسرار الآية الكريمة:] أحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ[ (السجدة:8)

نعم، إنَّ كل شئ في الوجود، بل حتى ما يبدو أنه أقبح شئ، فيه جهة حُسنٍ حقيقية، فما من شئ في الكون، وما من حادث يقع فيه إلاّ وهو جميل بذاته، أو جميل بغيره، أي جميل بنتائجه التي يفضي اليها..

فهناك من الحوادث التي يبدو في ظاهر أمرها قبيحاً مضطرباً ومشوشاً، الاّ أنَّ تحت ذلك الستار الظاهري أنواعاً من جمال رائق، وأنماطاً من نظم دقيقة.

فتحت حجاب الطين والغبار والعواصف والأمطار الغزيرة في الربيع تختبئ ابتسامات الأزهار الزاهية بروعتها، وتحتجب رشاقة النباتات الهيفاء الساحرة الجميلة..

وفي ثنايا العواصف الخريفية المدمرة المكتسحة للأشجار والنباتات، والهازة للأوراق الخضراء من فوق الأفنان، حاملةً نذر البين، وعازفةً لحن الشجن والموت والأندثار، هناك بشارة الانطلاق من أسر العمل لملايين الحشرات الرقيقة الضعيفة التي تتفتح للحياة في أوان تفتح الأزهار، فتحافظ عليها من قَرّ الشتاء وضغوط طقسه، فضلاً عن أن أنواء الشتاء القاسية الحزينة تهئ الأرض استعداداً لمقدم الربيع بمواكبه الجميلة الرائعة.

نعم! إن هناك تفتحاً لأزهار معنوية كثيرة تختبئ تحت ستار عصف العواصف إذا عصفت وزلزلة الأرض إذا تزلزلت، وانتشار الأمراض والأوبئة إذا انتشرت.

فبذور القابليات، ونوى الاستعدادات الكامنة - التي لم تستنبت بعدُ - تتسنبل وتتجمل نتيجة حوادث تبدو قبيحة في ظاهر شأنها، حتى كأن التقلبات العامة، والتحولات الكلية في الوجود إن هي الاّ امطارٌ معنوية تنزل على تلك البذور لتستنبتها.

بَيْدَ ان الأنسان المفتون بالمظاهر والمتشبث بها والذي لا ينظر الى الامور والأحداث الاّ من خلال أنانيته ومصلحته بالذات، تراه تتوجه أنظارُه الى ظاهر الامور، وتنحصر فيها، فيحكم عليها بالقبح!..

وحيث أنه يزن كل شئ بحسب نتائجه المتوجهة اليه فحسب تراه يحكم عليه بالشر! علماً أن الغاية من الأشياء إنْ كانت المتوجهة منها الى الانسان واحدةً، فالمتوجهة منها الى أسماء صانعها الجليل تعدُّ بالالوف. فمثلاً:

الاشجار والاعشاب ذات الاشواك التي تدمي يد الانسان الممتدة اليها يتضايق منها الانسان ويراها شيئاً ضاراً لا جدوى منه، بينما هي لتلك الاشجار والأعشاب في منتهى الأهمية حيث تحرسها وتحفظها مِمّنْ يريد مسَّها بسوء.

ومثلاً: انقضاض العقاب على العصافير والطيور الضعيفة يبدو منافياً للرحمة، والحال ان انكشاف قابليات تلك الطيور الضعيفة وتحفيزها للظهور لا يتحقق الاّ اذا أحسَّت بالخطر المحدق بها، وشعرت بقدرة الطيور الجارحة على التسلّط عليها..

ومثلاً: ان هطول الثلوج الذي يغمر الأشياء في فصل الشتاء ربما يثير بعض الضيق لدى الأنسان، لأنه يحرمه من لذة الدفء ومناظر الخضرة، بينما تختفي في قلب هذا الجليد غايات دافئة جداً ونتائج حلوة يعجز الانسان عن وصفها.

ثم ان الانسان من حيث نظره القاصر يحكم على كل شئ بوجهه المتوجه الى نفسه، لذا يظن أن كثيراً من الامور التي هي ضمن دائرة الآداب المحضة أنها مجافية لها، خارجة عنها... فالحديث عن عضو تناسل الانسان - مثلاً - مخجل فيما يتبادله من أحاديث مع الآخرين. فهذا الخجل منحصر في وجهه المتوجه للانسان، الاّ أن أوجهه الأخرى، أي من حيث الخلقة ومن حيث الاتقان ومن حيث الغايات التي وجد لأجلها، موضع أعجاب وتدبر.. فكلُّ من هذه الأوجه التي فطر عليها إنما هي وجهٌ جميل من أوجه الحكمة، واذا هي - بهذا المنظار - محض أدب لا يخدش الحديث عنها الذوق والحياء..

حتى أن القرآن الكريم - الذي هو منبع الأدب الخالص - يضم بين سوره تعابير تشير إشارات في غاية اللطف والجمال الى هذه الوجوه الحكيمة والستائر اللطيفة، فما نراه قبحاً في بعض المخلوقات، والآلام والأحزان التي تخلفها بعض الأحداث والوقائع اليومية لا تخلو أعماقُها قطعاً من أوجه جميلة، وأهداف خيرة، وغايات سامية، وحكم خبيئة، تتوجه بكل ذلك الى خالقها الكريم كما قدّر وهدى وأراد. فالكثير من الامور التي تبدو - في الظاهر - مشوشة مضطربة ومختلطة، إن انعمتَ النظر الى مداخلها طالعتك - من خلالها - كتابات ربانية مقدسة رائعة، وفي غاية الجمال والانتظام والخير والحكمة.

C النقطة الثالثة:

قال تعالى ] قل إن كنتم تُحبّون الله فاتّبعوني يُحْببكُم الله[ (آل عمران:31)

ما دام حسن الصنعة موجوداً في الكون، وهو أمر قطعي كما يشاهد، يلزم اذاً ثبوت الرسالة الأحمدية عليه الصلاة والسلام بقطعية يقينية بدرجة الشهود؛ لأن حسن الصنعة وجمال الصورة في هذه المصنوعات، يدلان على أن في صانعها إرادة تحسين وطلب تزيين في غاية القوة، وان ارادة التحسين وطلب التزيين يدلان على أن في صانعها محبة علوية ورغبة قدسية لإظهار كمالات صنعته التي في مصنوعاته، وان تلك المحبة والرغبة تقتضيان قطعاً تمركزهما في اكمل وأنور المصنوعات وأبدعها، الا وهو الانسان. ذلك لأن الانسان هو الثمرة المجهّزة بالشعور والادراك لشجرة الخلق، وان الثمرة هي اجمع جزء وأبعده من جميع اجزاء تلك الشجرة، وله نظر عام وشعور كلي.

فالفرد الذي له نظر عام، وشعور كلي هو الذي يصلح ان يكون المخاطب للصانع الجميل والماثل في حضوره، ذلك لأنه يصرف كل نظره العام وعموم شعوره الكلي الى التعبد لصانعه والى استحسان صنعته وتقديرها والى شكر آلائه ونعمه.. فبالبداهة يكون ذلك الفرد الفريد هو المخاطب المقرب والحبيب المحبوب.

والآن تشاهَد لوحتان ودائرتان:

احداهما: دائرة ربوبية في منتهى الانتظام وغاية الروعة والهيبة ولوحة صنعة بارعة الجمال وفي غاية الاتقان.

والاخرى: دائرة عبودية منوّرة مزهّرة للغاية، ولوحة تفكر واستحسان وشكر وايمان في غاية الجامعية والسعة والشمول، بحيث ان دائرة العبودية هذه تتحرك بجميع جهاتها باسم الدائرة الاولى وتعمل بجميع قوتها لحسابها.

وهكذا يفهم بداهة أن رئيس هذه الدائرة الذي يخدم مقاصد الصانع المتعلقة بمصنوعاته تكون علاقته مع الصانع قوية متينة، ويكون لديه محبوباً مرضياً عنده.

فهل يقبل عقلٌ الاّ يبالي ولا يهتم صانع هذه المصنوعات المزينة بانواع المحاسن ومنعم هذه النعم، المراعي لدقائق الاذواق حتى في أفواه الخلق، هل يعقل الاّ يبالي بمثل هذا المصنوع الأجمل الاكمل، المتوجه اليه بالتعبد، والاّ يهتم بمثل هذا المخلوق الذي هزّ العرش والفرش بتهليلات استحسانه وتكبيرات تقديراته لمحاسن صنعة ذلك الصانع، فاهتزّ البر والبحر انتشاءً من نغمات حمده وشكره وتكبيراته لنعم ذلك الفاطر الجليل؟ وهل يمكن الاّ يتوجه اليه؟ وهل يمكن الاّ يوحي اليه بكلامه؟ وهل يمكن الاّ يجعله رسولاً؟ والاّ يريد ان يسري خُلُقه الحسن وحالاته الجميلة الى الخلق اجمعين؟

كلا! بل لا يمكن ألاّ يمنحه كلامه والاّ يجعله رسولاً للناس كافة .

] ان الدين عند الله الاسلام[ (آل عمران: 19)

] محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم[ (الفتح:29)

* * *

أنّات بكاء لقلب آسٍ، فجر أيام اسر مليئة بالفراق والاغتراب

نسيم التجلي يهبّ وقت الاسحار، فأنتبهى يا عيني في السحر، واسألي المولى العناية، فالسحر متابة المذنبين، فهب يا قلبي تائباً في الفجر مستغفراً لدى باب مولاك.

سحر حشريست ، درو هشيار در تسبيح همه شى..

بخواب غفلت سرسم نفسم حتى كى؟..

عمر عصريست سفر با قبرمى بايد زهر حى..

بيرخيز نمازى جونيازى كو بكن آوازى جون نى..

بكو: يارب بشيمانم خجيلم شرمسارم از كناه بى شمارم بريشانم ذليلم اشك بارم از حيات بىقرارم غريبم بى كسم ضعيفم ناتوانمم عليلم عاجزم اختيارم بى اختيارم الأمان كويم عفو جويم مدد خواهم ز دركاهت إلهي.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:50 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة التاسعة عشرة

تخص الرسالة الأحمدية

وما مدحتُ محمداً بمقالتي ولكن مدحتُ مقالتي بمحمد عليه الصلاة والسلام.

نعم! ان هذه الكلمة جميلة، ولكن الشمائل المحمدية التي تفوق الحسن هي التي جمّلتها.

تتضمن هذه الكلمة ((اللمعة الرابعة عشرة)) أربع عشرة رشحة(1):

C الرشحة الأولى:

إن ما يُعرّف لنا ربَّنا هو ثلاثة معرّفين أدلاّء عظام:

أوله: كتاب الكون، الذي سمعنا شيئاً من شهادته في ثلاث عشرة لمعة (من لمعات المثنوي العربي النوري).

ثانيه: هو الآية الكبرى لهذا الكتاب العظيم، وهو خاتم ديوان النبوة e .

ثالثه: القرآن الحكيم.

فعلينا الآن أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق، وهو خاتم الانبياء وسيد المرسلين e وننصت اليه خاشعين.

إعلم! ان ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة. فإن قلت: ما هو؟ وما ماهيته؟

قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأرض مسجده، ومكةُ محرابه، والمدينة منبره.. وهو امام جميع المؤمنين يأتمون به صافّين خَلْفَه.. وخطيب جميع البشر يبيّن لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيس جميع الأنبياء يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم.. وسيد جميع الأولياء يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرة حلقة ذكر تركّبَت من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأنبياء باساساتهم السماوية، واغصانها الخضرة الطرية وثمراتها اللطيفة النيّرة هي الأولياء بمعارفهم الالهامية. فما من دعوى يدّعيها الاّ ويشهدُ له جميعُ الأنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوىً من دعاويه خواتمُ جميع الكاملين، اذ بينما تراه قال: (لا إله الا الله) وادّعى التوحيد فاذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفّين النورانيين – أي شموس البشر ونجومه القاعدين في دائرة الذكر – عينَ تلك الكلمة، فيكررونها ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالاجماع: ((صَدَقت وبالحق نطقت)). فأنّى لوهمٍ أن يَمدَّ يده لردِّ دعوىً تأيّدتْ بشهادات مَنْ لا يُحَد من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.

C الرشحة الثانية:

إعلم! إن هذا البُرهان النوراني الذي دلَّ على التوحيد وأرشد البشر اليه، كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحَيه نبوةً وولايةً من الاجماع والتواتر.. كذلك تصدّقُه مئاتُ إشارات الكتب السماوية من بشارات التوراة والانجيل والزبور وُزُبرِ الأولين(1).. وكذلك تصدِّقُه رموز ألوف الارهاصات الكثيرة المشهودة، وكذا تصدِّقُه دلالات معجزاته من أمثال: شق القمر، ونبعان الماء من الأصابع كالكوثر ومجئ الشجر بدعوته، ونزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلّم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر، الى ألفٍ من معجزاته كما بيّنها الرواة والمحدثون المحققون.. وكذا تصدِّقه الشريعة الجامعة لسعادات الدارين.

واعلم! أنه كما تصدِّقه هذه الدلائل الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدقّه الدلائل الأنفسية؛ اذ اجتماع اعالي جميع الاخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضل جميع السجايا الغالية والخصائل النزيهة.. وكذا قوة إيمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سيره، وكمال جدّيته وكمال متانته، وكذا قوة أمنيته في حركاته بشهادة قوة إطمئنانه.. تصدِّقه كالشمس الساطعة في دعوى تمسّكه بالحق وسلوكه الحقيقة.

C الرشحة الثالثة:

إعلم! إن للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول. فإن شئت فتعال لنذهب الى خير القرون وعصر السعادة النبوية لنحظى بزيارته الكريمةe ولو بالخيال - وهو على رأس وظيفته يعمل. فافتح عينيك وانظر! فإنّ أولَ ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارق، له حسنُ صورة فائقة، في حُسن سيرة رائقة. فها هو آخذٌ بيده كتاباً معجِزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً، يبلّغ خطبةً أزليةً ويتلوها على جميع بَني آدم، بل على جميع الجن والانس، بل على جميع الموجودات.

فيا للعجب! ما يقول؟.. نعم! إنه يقول عن أمرٍ جسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم، إذ يشرح ويحل اللغز العجيب في سرِّ خِلْقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سرِّ حكمة الكائنات، ويوضِّح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقول وأوقعتها في الحيرة، إذ هي الأسئلة التي يَسأل عنها كلُّ موجود. وهي: مَنْ أنتَ؟ ومِن أين؟ والى أين؟.

C الرشحة الرابعة:

انظر! الى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نوّاراً، ومن الحق نوراً مضيئاً، حتى صيَّر ليلَ البشر نهاراً وشتاءه ربيعاً؛ فكأن الكائنات تبدَّل شكلُها فصار العالَم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً.. فإذا ما نظرت الى الكائنات خارجَ نور إرشاده؛ ترى في الكائنات مأتماً عمومياً، وترى موجوداتها كالأجانب الغرباء والأعداء، لا يعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه، وترى جامداتها جنائز دهّاشة، وترى حيواناتها واناسيّها أيتاماً باكين بضربات الزوال والفراق.

فهذه هي ماهية الكائنات عند مَنْ لم يدخل في دائرة نوره. فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، الى الكائنات. كيف تراها؟.. فانظر! قد تبدّل شكلُ العالم، فتحوّل بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر ومجلسَ الجذبة والشكر، وتحوّل الأعداءُ الأجانب من الموجودات أحباباً وإخواناً، وتحوّل كلٌ من جامداتها الميتة الصامتة حيّاً مؤنساً مأموراً مسخَّراً ناطقاً بلسان حاله آيات خالقه، وتحوّل ذوو الحياة منها - الأيتام الباكون الشاكون - ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لتسريحهم عن وظائفهم.

C الرشحة الخامسة:

لقد تحوّلت بذلك النور حركاتُ الكائنات وتنوعاتُها وتغيراتُها من العبثية والتفاهة وملعبة المصادفة الى مكاتيب ربانية، وصحائف آياتٍ تكوينية، ومرايا اسماء إلهية . حتى ترقّى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.

وانظر الى الانسان كيف ترقَّى من حضيض الحيوانية الذي هوى اليه بعجزه وفقره وبعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل، ترقّى الى أوج الخلافة بتنور ذلك العقل والعجز والفقر. فانظر كيف صارت أسبابُ سقوطه - من عجز وفقر وعقل - أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني.

فعلى هذا، لو لم يوجد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والأنسان، وكلُ شئ الى درجة العدم؛ لاقيمة ولا أهمية لها. فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة من مثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكن الكائنات، اذ لا معنى لها بالنسبة إلينا.

C الرشحة السادسة:

فان قلت: مَنْ هذا الشخص الذي نراه قد صار شمساً للكون، كاشفاً بدينه عن كمالات الكائنات؟ وما يقول؟.

قيل لك: انظر واستمع الى ما يقول: ها هو يُخبر عن سعادة أبدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعو الناس اليها. وهو دلالُ محاسن سلطنة الربوبية ونَظَّارُها، وكشّافُ مخفيّات كنوز الأسماء الألهية ومعرِّفُها.

فانظر اليه من جهة وظيفته (رسالته)؛ تَرهُ برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة.

ثم انظر اليه من جهة شخصيته (عبوديته)؛ تَرَهُ مثالَ المحبة الرحمانية وتمثالَ الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الأنسانية، وأنورَ أزهرِ ثمرات شجرة الخلقة.

ثم انظر! كيف أحاط نورُهُ ودينُه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب ما يقرُب من نصف الأرض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته، بحيث تُفدي لها ارواحَها. فهل يمكن للنفس والشيطان أن يناقشا بلا مغالطة في مدّعيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي أساس كل مدّعياته، وهو: ((لا إله إلا الله)) بجميع مراتبها؟…

C الرشحة السابعة:

فإن شئت أن تعرف ان ما يحرّكه، إنما هو قوة قدسية، فانظر الى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذا الشخص جميعَ أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة؟ وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيّرهم معلمي العالم الأنساني وأساتيذ الامم المتمدنة.

فانظر! ليست سلطنتُه على الظاهر فقط؛ بل ها هو يفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الأرواح والنفوس، حتى صار محبوبَ القلوب ومعلّمَ العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح.

C الرشحة الثامنة:

من المعلوم أن رفعَ عادةٍ صغيرة - كالتدخين مثلاً - من طائفة صغيرة بالكلية، قد يَعْسَرُ على حاكم عظيم، بهمّةٍ عظيمة، مع انا نرى هذا النبي الكريم e قد رفع بالكلّية، عاداتٍ كثيرة، من أقوام عظيمة، متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسيّاتهم، رفعها بقوةٍ جزئية، وهمّة قليلة في ظاهر الحال، وفي زمان قصير، وغَرَسَ بدَلَها برسوخ تامٍ في سجيتهم عادات عالية، وخصائلَ غالية. فيتراءى لنا من خوارق اجراآته الأساسية ألوفَ ما رأينا، فمَن لم يَر هذا العصر السعيد نُدخل في عينه هذه الجزيرة ونتحداه. فليجربْ نفسه فيها. فليأخذوا مائةً من فلاسفتهم وليذهبوا اليها وليعملوا مائة سنة هل يتيسر لهم أن يفعلوا جزءاً من مائة جزء مما فعله e في سنة بالنسبة الى ذلك الزمان؟!



C الرشحة التاسعة:

إعلم! إن كنت عارفاً بسجية البشر أنه لا يتيسّر لعاقل أن يدّعي - في دعوىً فيها مناظرة - كذباً يخجل بظهوره، وأن يقوله بلا حرج وبلا تردد وبلا إضطراب يشير الى حيلته، وبلا تصنع وتهيج يوميان الى كذبه، أمام أنظار خصومه النقّادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بمكانة حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدّعيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أنه يحتاج لحماية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، مقابل خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوىً عظيمة؟

وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترض، وبلا تردّد وبلا تحرج وبلا تخوف وبلا إضطراب وبصفوة صميمية، وبجدّية خالصة، وبطرز يثير اعصاب خصومه، بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزتهم، باسلوب شديد علويّ. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص، في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلا! ] إن هو إلاّ وحْيٌ يُوحى[ .

نعم! إن الحق أغنى من أن يَدلس، ونظر الحقيقة أعلى من أن يُدلس عليه! نعم! إن مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرَه النفّاذ منزّهٌ من أن يلتبس عليه الخيالُ بالحقيقة..

C الرشحة العاشرة:

انظر واستمعْ الى ما يقول! ها هو يبحث عن حقائق مدهشة عظيمة، ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، جالبة للعقول الى الدقة والنظر؛ إذ من المعلوم أن شوق كشف حقائق الأشياء قد ساق الكثيرين من أهل حب الاستطلاع واللهفة والاهتمام الى فداء الأرواح. ألا ترى أنه لو قيل لك: إن افديت نصفَ عمرك، أو نصفَ مالك؛ لنزل من القمر أو المشتري شخصٌ يُخبرك بغرائب أحوالهما، ويخبرك بحقيقة مستقبل أيامك؟ أظنك ترضى بالفداء. فيا للعجب؟ ترضى لدفع ما تتلهف اليه بنصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هـذا النـبي الـكريم e ويصـدِّقه إجماعٌ اهل الشهود وتواتر أهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والمحققين! بينما هو يبحث عن شؤون سلطانٍ، ليس القمر في مملكته إلاّ كذباب يطير حول فراش، وهذا يحوم حول سراج من بين ألوف من القناديل التي أسرجها في منزل من بين ألوف منازله الذي أعدّه لضيوفه.. وكذا يخبر عن عالمٍ هو محل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، بحيث لو انفلقت الارضُ وتطايرت جبالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار غرائب ذلك الانقلاب. فإن شئت فاستمع من لسانه أمثال السور الجليلة:

] اِذا الشَّمْسُ كُوِّرتْ [ و ] اِذا السّمآء انْفَطَرَتْ[ و] اِذا زُلْزِلَت الأرضُ زِلْزَالَها[ و] الْقارعة[ .

وكذا يخبر بصدق عن مستقبل، ليس مستقبل الدنيا بالنسبة اليه إلا كقطرة سراب بلا طائل بالنسبة الى بحر بلا ساحل. وكذا يبشّر عن شهود بسعادة، ليست سعادة الدنيا بالنسبة اليها الاّ كبرقٍ زائلٍ بالنسبة الى شمس سرمدية.

C الرشحة الحادية عشرة:

ان تحت حجاب هذه الكائنات - ذات العجائب والأسرار - تنتظرنا أمورٌ أعجب. ولابدَّ للإخبار عن تلك العجائب والخوارق من شخصٍ عجيبٍ خارقٍ يُستَشفّ من أحواله أنه يشاهِد ثم يَشهد، ويَبصُر ثم يُخبر.

نعم! نشاهد من شؤونه واطواره أنه يشاهد ثم يشهَد فيُنذر ويبشر. وكذا يُخبر عن مرضيات رب العالمين - الذي غمرنا بنعمه الظاهرة والباطنة - ومطالبه منا وهكذا...

فيا حسرة على الغافلين! ويا خسارة على الضالين! ويا عجبا من بلاهة اكثر الناس! كيف تعامَوا عن هذا الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة؟ لا يهتمون بكلام هذا النبي الكريم e مع أن من شأن مِثله أن تُفدى له الأرواحُ ويُسرع اليه بترك الدنيا وما فيها؟

C الرشحة الثانية عشرة:

اعلم أن هذا النبي الكريم e المشهود لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية، كما أنه برهانٌ ناطق صادق على الوحدانية، ودليل حقٍ بدرجة حقانية التوحيد، كذلك هو برهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الأبدية؛ بل كما أنه بدعوته وبهدايته سببُ حصول السعادة الأبدية ووسيلة وصولها، كذلك بدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة الأبدية ووسيلة ايجادها ..

فإن شئت فانظر اليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وسعتها صيّرت هذه الجزيرة بل الارض مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر انه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجة كأنه هو امامٌ في محراب عصره واصطفَّ خلفَه، مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم(عليه السلام) الى هذا العصر الى آخر الدنيا في صفوف الاعصار مؤتميّن به ومؤمِّنين على دعائه. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة.. فها هو يدعو لحاجةٍ شديدة عظيمة عامة بحيث تشترك معه في دعائه الأرضُ بل السماء بل كل الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: نعم يا ربنا تقبّل دعاءه؛ فنحن ايضاً بل مع جميع ما تجلّى علينا من أسمائك نطلب حصولَ ما يطلب هو.. ثم انظر الى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرع؛ بافتقار عظيم، في اشتياق شديد، وبحزن عميق، في محبوبية حزينة؛ بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركها في دعائه. ثم انظر لأي مقصد وغاية يتضرع؟ ها هو يدعو لمقصد لولا حصول ذاك المقصد لسقط الانسانُ، بل العالم، بل كل المخلوقات الى أسفل سافلين لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقّى الموجودات الى مقامات كمالاتها.. ثم انظر كيف يتضرع باستمداد مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرش والسموات، ويهيّج وَجْدها، حتى كأن العرشَ والسموات يقول: آمين اللّهم آمين.. ثم انظر ممن يطلب مسؤلَه؛ نعم! يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمَع أخفى دعاء من أخفى حيوان في أخفى حاجة؛ إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياةٍ في أدنى غايةٍ، اذ يوصله اليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويكرم ويرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم. لا يبقى ريب في أن هذه التربية والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم.

C الرشحة الثالثة عشرة:

فيا للعجب!.. ما يطلب هذا الذي قام على الأرض، وجَمَع خلفه جميع افاضل بني آدم ورفع يديه متوجهاً الى العرش الاعظم يدعو دعاءً يؤمّن عليه الثقلان. ويُعلَم من شؤونه أنه شرفُ نوع الانسان، وفريدُ الكون والزمان، وفخرُ هذه الكائنات في كل آن، ويستشفع بجميع الاسماء القدسية الإلهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعو وتطلب تلك الأسماء عينَ ما يطلب هو. فاستمع! ها هو يطلب البقاء واللقاء والجنة والرضا. فلو لم يوجد مالا يعد من الأسباب الموجبة لإعطاء السعادة الأبدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات - المتوقف كونها رحمة وعناية وحكمة وعدالة على وجود الآخرة - وكذا جميع الأسماء القدسية أسباباً مقتضية لها، لكفى دعاء هذا الشخص النوراني لأن يبني ربُه له ولأبناء جنسه الجنة، كما يُنشئ لنا في كل ربيع جناناً مزينة بمعجزات مصنوعاته. فكما صارت رسالته سبباً لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سبباً لفتح دار الآخرة للمكافآت والمجازاة.

فهل يمكن أن يقبل هذا الانتظام الفائق، في هذه الرحمة الواسعة، في هذه الصنعة الحسنة بلا قصور، في هذا الجمال بلا قبح - بدرجة أنطق أمثال الغزالي بـ (ليس في الامكان أبدع مما كان) أن تتغير هذه الحقائق الى قبح خشين، وظلم موحش، وتشوش عظيم. أي بعدم مجئ الآخرة؟ إذ سماع أدنى صوت من أدنى خلق في أدنى حاجة وقبولها بأهمية تامة، مع عدم سماع أرفع صوت ودعاء في أشد حاجة، وعدم قبول أحسن مسؤول، في أجمل أمل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح وقصور لا يساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلاّ.. لا يقبل مثل هذا الجمال المشهود بلا قصور مثل هذا القبح المحض.

فيا رفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك ما رأيت؟ فإن أردت الإحاطة فلا يمكن، بل لو بقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما احطنا ولا مللنا من النظر بجزء واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب اجراآته..

فلنرجع القهقرى، ولننظر عصراً عصراً، كيف اخضرت تلك العصور واستفاضت من فيض هذا العصر؟ نعم، ترى كل عصر تمر عليه قد انفتحت أزاهيرُه بشمس عصر السعادة، وأثمر كلُ عصر من امثال أبي حنيفة والشافعي وأبي يزيد البسطامي وجنيد والشيخ عبد القادر الكيلاني.. والامام الغزالي والشاه النقشبندي والامام الرباني ونظـائـرهم ألوف ثمـراتٍ منـوراتٍ من فيض هـداية ذلك الشخص النـورانـي. فلنؤخر تفـصيلات مشـهـوداتـنا في رجوعـنـا الـى وقـت آخـر، ونصـلّي ونسلّم

على ذلك الذات النوراني الهادي، ذي المعجزات بصلوات وسلام تشير الى قسم من معجزاته:

على من اُنزل عليه القرآن الحكيم من الرحمن الرحيم من العرش العظيم.

على سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد أنفاس أمته.

على مَن بشّر برسالته التوراة والانجيل والزبور والزبر. وبشّر بنبوّته الارهاصات وهواتف الجن وكواهن البشر وانشقّ باشارته القمر..

سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد حسنات أمته.

على من جاءت لدعوته الشجرُ، ونزل سرعةً بدعائه المطر، واظلّته الغمامة من الحر، وشبع من صاعٍ من طعامه مآتٌ من البشر، ونبع الماء من بين أصابعه ثلاث مرات كالكوثر، وانطق الله له الـضب والظبي والذئب والجذع والذراع والجمل والجبل والحجر والمدر والشجر.. صاحب المعراج وما زاغ البصر..

سيدنا وشفيعنا محمد ألف ألف صلاة وسلام بعدد كل الحروف المتشكلة في الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول الى آخر الزمان

واغفر لنا وأرحمنا يا الهنا بكل صلاة منها.. آمين.

[ إعلم: إن دلائل النبوة الأحمدية لا تعدّ ولا تحدّ، ولقد صنّف في بيانها أعاظم المحققين. وأنا مع عجزي وقصوري قد بينّت شعاعاتٍ من تلك الشمس في رسالة تركية مسّماة بـ ((شعاعات من معرفة النبي e )) وفي (( المكتوب التاسع عشر)). وكذا بينت اجمالاً وجوه إعجاز معجرته الكبرى – أي القرآن – وقد اشرتُ بفهمي القاصر الى أربعين وجهاً من وجوه أعجاز القرآن في رسالة (( اللوامع))، وقد بينت من تلك الوجوه واحداً وهو البلاغة الفائقة النظمية في مقدار أربعين صحيفة من تفسيري العربي المسمى بـ (( اشارات الاعجـاز)). فإن شـئـت فارجع الى هذه الكتب الثلاثة..].

C الرشحة الرابعة عشرة:

اعلم! ان القرآن الكريم الذي هو بحر المعجزات والمعجزة الكبرى يثبت النبوة الأحمدية والوحدانية الإلهية إثباتاً، ويقيم حججاً ويسوق براهين ويبرز أدلة تغني عن كل برهان آخر.

فنحن هنا سنشير الى تعريفه، ثم نشير الى لمعاتٍ من اعجازه تلك التي اثارت تساؤلاً لدى البعض.

فالقرآن الحكيم الذي يعرّف ربّنا لنا:

هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّر كتاب العالم.. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والارض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المـُضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينة المخاطبات الازلية السبحانية والالتفاتات الابدية الرحمانية… وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الاسلامي.. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي.. وكذا هو قولٌ شارحٌ وتفسير واضحٌ وبرهان قاطعٌ وترجمان ساطعٌ لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالم الانساني.. وكالماء وكالــضياء للأنسانية الكبرى التي هي الاسلامية... وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي الى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للأنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك هو كتاب حكمة، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر، وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الانسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل. حتى انه ابرز لمشرب كل واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلكِ كل واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل.

~ فانظر الـى بيان لمعة الاعـجاز في تكرارات القرآن التي يتوهمها القاصرون نقصاً في البلاغة.

اعلم! أن القرآن لأنه كتاب ذكر، وكتاب دعاء، وكتاب دعوة، يكون تكراره أحسن وأبلغ بل ألزم، وليس كما ظنّه القاصرون، إذ الذكر يُكرَّر، والدعاء يُردَّد. والدعوة تؤكَّد. إذ في تكرير الذكر تنويرٌ وفي ترديد الدعاء تقريرٌ وفي تكرار الدعوة تأكيدٌ.

واعلم انه لا يمكن لكلِ أحدٍ في كل وقتٍ قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحدٍ في كل وقت. فلهذا أدْرَجَ الحكيمُ الرحيم اكثر المقاصد القرآنية في اكثر سوره؛ لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كلُ سورة قرآناً صغيراً، فسهّل السبيلَ لكل أحدٍ، دون أن يَحْرُمَ أحداً، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى عليه السلام.

اعلم! أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفةٌ في الأوقات؛ كذلك الحاجات المعنوية الأنسـانية ايضاً مختلفة الأوقـات. فالى قسـمٍ في كل آن كـ (هو الله) للروح - كحاجة الجسم الى الهواء - والى قسم في كل ساعة كـ (بسم الله) وهكذا فقس.

فتكرار الآيات والكلمات اذن للدلالة على تكرّر الاحتياج، وللاشارة الى شدة الاحتياج اليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج الى تلك الأغذية المعنوية.

اعلم! أن القرآن مؤسسٌ لهذا الدين العظيم المتين، وأساسات لهذا العالم الاسلامي، ومقلِّبٌ لاجتماعيات البشر ومحوّلها ومبدّلها. وجواب لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة للبشرية بألسنة الأقوال والأحوال.. ولابدَّ للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد.

اعلم! أن القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب الى الايمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول الى معرفتها. فلابدَّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.

اعلم! ان لكل آيةٍ ظهراً وبطناً وحدّاً ومَطـلعاً، ولكــل قصــةٍ وجوهاً وأحـكاماً وفوائد ومقاصد، فتُذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي اُخرى لآخر وهكذا. فعلى هذا لا تكرار إلاّ في الصورة.

اما إجمال القرآن الكريم بعض المسائل الكونية وإبهامه في بعض آخر فهو لمعة اعجاز ساطع وليس كما توهمه أهلُ الألحاد من قصور ومدار نقد.

~ فإن قلت:

لأي شئ لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة؟ فَيَدع بعض المسائل مجملاً ويذكر أخرى ذكراً ينسجم مع شعور العوام وافكارهم فلا يمسّها بأذى ولا يرهقها بل يذكرها سلساً بسيطاً في الظاهر؟

نقول جواباً:

لأن الفلسفة عَدِلتْ عن طريق الحقيقة وضلَّت عنها، وقد فهمتَ حتماً من الدروس والكلمات السابقة أن القرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطراداً، للاستدلال على ذات الله وصفاته واسمائه الحسنى، أي يُفهم معاني هذا الكتاب، كتاب الكون العظيم كي يعرِّف خالقه.

أي أن القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها. فضلاً عن أنه يخاطب الجمهور.

وعلى هذا، فمادام القرآن يستخدم الموجودات دليلاً وبرهاناً، فمن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظهرَ من النتيجة أمام نظر الجمهور.

ثم إن القرآن مادام مرشداً فمن شأن بلاغة الإرشاد مماشاة نظر العوام، ومراعاة حسّ العامةِ ومؤانسة فكر الجمهور، لئلا يتوحش نظرُهم بلا طائل ولا يتشوش فكرُهم بلا فائدة، ولا يتشرّد حسُّهم بلا مصلحة، فأبلغُ الخطاب معهم والارشاد أن يكون ظاهراً بسيطاً سهلاً لا يعجزهم، وجيزاً لا يُملّهم، مجملاً فيما لا يلزم تفصيله لهم، ويضرب بالأمثال لتقريب مادقَّ من الأمور الى فهمهم.

فلأن القرآن مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغةُ الارشاد أن لا يذكر ما يوقع الاكثرية في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري، وأن لا يغيّر بلا لزوم ما هو متعارف محسوس عندهم، وان يهمل أو يجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.

فمثلاً: يبحث عن الشمس لا للشمس، ولا عن ماهيتها، بل لِمن نورَّها وجعلها سراجاً، وعن وظيفتها بصيرورتها محوراً لانتظام الصنعة ومركزاً لنظام الخلقة، وما الانتظام والنظام إلاّ مرايا معرفة الصانع الجليل. فيعرّفنا القرانُ باراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالات فاطرها الحكيم وصانعها العليم، فيقول: ] والشمسُ تجري[ ويفهِّم بها وينبه الى تصرفات القدرة الإلهية العظيمة في اختلاف الليل والنهار وتناوب الصيف والشتاء. وفي لفت النظر اليها تنبيه السامع الى عظمة قدرة الصانع وانفراده في ربوبيته. فمهما كانت حقيقة جريان الشمس وبأي صورة كانت لا تؤثر تلك الحقيقة في مقصد القرآن في اراءة الانتظام المشهود والمنسوج معاً.

ويقول أيضاً:

] وَجَعَلَ الشمسَ سراجاً[ (نوح:16) ففي تعبير السراج تصوير العالم بصورة قصر، وتصوير الأشياء الموجودة فيه في صورة لوازم ذلك القصر، ومزيّناته، ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، واحساسٌ أنه قد أحضَرتها لضيوفه وخدّامه يدُ كريمٍ رحيم. وما الشمسُ إلاّ مأمور مسخَّر وسراج منوَّر. ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، وافهامُ إحسانه في سعة رحمته، واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته.

فالآن استمع ماذا يقول الفلسفي الثرثار في الشمس. يقول: ((هي كتلة عظيمة من المائع الناري تدور حول نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه الاجرام العظيمة المختلفة في الجسامة.. ضخامتها كذا.. ماهيتها كذا..)).

فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة غيرَ الحيرة المدهشة والدهشة الموحشة، فلم تُفِدْك كمالاً علمياً ولا ذوقاً روحياً ولا غاية إنسانية ولا فائدة دينية.

فقس على هذا لتقدّر قيمة المسائل الفلسفية التي ظاهرُها مزخرفة وباطنُها جهالة فارغة. فلا يغرّنك تشعشع ظاهرها وتُعرِض عن بيان القرآن المعجز.

اللّهم اجعل القرآن شفاءً لنا ولكاتبه وأمثاله من كل داء، ومؤنساً لنا ولهم في حياتنا وبعد موتنا، وفي الدنيا قريناً، وفي القـبر مؤنســاً، وفي القـيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وفي الجنة رفيقاً، والى الخيرات كلها دليلاً وإماماً، بفـضلك وجودك وكرمك ورحمتك يا اكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين آمين.

اللّهم صلِ وسلم على مَن أنزل عليه الفرقان الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين ..

آمين . آمين.

تنبيه:

لقد ذكرنا في المثنوي العربي النوري خمسة عشر نوعاً من انواع اعجاز القرآن البالغ اربعين نوعاً وذلك في ست قطرات للرشحة الرابعة عشرة، ولا سيما النكت الدقيقة الست للقطرة الرابعة.

لذا اجملنا هنا مكتفين بما ذكرناه هناك، فمن شاء فليراجعه.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:52 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة العشرون

((وهي مقامان))



المقام الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واذ قُلنا للملائكة اسجدُوا لادمَ فسجدوا إلاّ ابليس [ (البقرة:34)

] إن الله يأمُركم ان تذبحُوا بقرةً[ (البقرة:67)

] ثم قَسَتْ قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً[ (البقرة:74)

كنت اتلو هذه الآيات الكريمة يوماً، فورد إلهامٌ من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات ابليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:

قال: انكم تقولون: ان القرآن معجز، وفي ذروة البلاغة، وانه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سرداً تأريخياً والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي الى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرة ضمن هالة من الاوصاف، حتى تسمّت السورة باسم "البقرة"؟

ثم ان القرآن يرشد ارباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه ((أفلا يعقلون)) اي يحيل الأمر الى العقل، في حين أن حادثة سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل اليه سبيلاً، الاّ بالتسليم أو الاذعان بعد الايمان القوي الراسخ.

ثم اين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفة للاحجار والصخور واضفاء اهمية بالغة عليها؟

وصورة النكت الملهمة هي الآتية:

C النكتة الاولى:

ان في القرآن الحكيم حوادث جزئية، ولكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وانما ُتذكر تلك الحوادث لانها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.

فالآية الكريمة ] وعلّم آدمَ الاسماء كُلَّها[ تبين ان تعليم الاسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، اظهاراً لإستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية الا انها طرف لدستور كلي هو:

ان تعليم الانسان - المالك لإستعداد جامع - علوماً كثيرة لا تحد، وفنوناً كثيرة لا تحصى حتى تستغرق انواع الكائنات، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة.. ان هذا التعليم هو الذي أهّل الانسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل ايضاً على السموات والارض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.

واذ يذكر القرآن خلافة الانسان على الارض خلافة معنوية، يبين كذلك ان في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له - وهي حادثة جزئية غيبية - طرفاً لدستور مشهود كلي واسع جداً، وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أن القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبّر الشيطان وامتناعه عن السجود، انما يفهّم ان اغلب الانواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكلين عليها، مسخرة كلها ومهيأة لإفادة جميع حواس الانسان افادة تامة، وهي منقادة له.. وان الذي يفسد استعداد الانسان الفطري ويسوقه الى السيئات والى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها اعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الانسان الى الكمالات.

واذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فانه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.

C النكتة الثانية:

من المعلوم ان اراضي مصر جرداء قاحلة، اذ هي جزء من الصحراء الكبرى، الاّ انها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فان وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً ، جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى اهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل اضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما اضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الامر أن منح اهل مصر – في ذلك الوقت – قدسية على البقر والثور الى حدّ العبادة، وقد ترعرع بنو اسرائيل في هذه المنطقة وبين احضان هذه البيئة والاجواء فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يُفهم من حادثة ((العجل)) المعروفة.

وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الامة، وتنامى في استعداداتهم.

فالقرآن الكريم انما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.

فافهم قياساً على هذا:

ان الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تأريخية، انما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى ان كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستوراً كلياً عظيماً، كما بيّنا في كتابنا ((اللوامع)) راجعه ان شئت.

C النكتة الثالثة:

قوله تعالى: ] ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ^ وانّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهار ^ وان منها لما يشّقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون[ (البقرة:74 - 76)

عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموسوس:

ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للاحجار الاعتيادية وبيانها كأنها مسألة عظيمة، مع انها معلومة لدى الناس؟ وما وجه العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة اليها؟

فاُلهم قلبي الالهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:

نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر الاّ لإعجاز القرآن وايجازه ولطف ارشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.

ان الايجاز الذي هو اساس مهم من اسس الاعجاز، وكذا لطف الارشاد وحسن الافهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وان لا تبين لاولئك البسطاء في تفكيرهم الاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها..

زد على ذلك ينبغي ان تبين لهم التدابير الإلهية تحت الارض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والألفة، بصورة مجملة.

فبناء على هذا:

يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات: يا بنى اسرائيل ويا بنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم واصبحت أصلب من الحجر واقسى منها! ألا ترون ان اصلب الصخور واصمها، التي تشكل طبقة عظيمة من الاحجار الصلدة تحت التراب، مطيعة للاوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة الى الاجراءات الربانية انقياداً كاملاً. فكما تجري الاوامر الإلهية في تكوين الاشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصماء الصلدة تحت الارض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى ان جداول الماء وعروقها تحت الارض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون ان تجد عائقاً أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود(1).



ثم ان الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بامر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الارض دون ان يقف امامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار اغصان الاشجار والنباتات في الهواء.

فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة الى حقيقة واسعة جداً، ويرشد اليها مخاطباً القلوب القاسية مرمزاً اليها على النحو الآتي:

يا بني اسرائيل ويا بنى آدم! ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم! انها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصلدة الهائلة، ولا تعصيه امراً، بل تؤدي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الارض. بل تقوم تلك الصـخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للاحياء الذين يدبون على تراب الارض. حتى انها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل، فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقة هواء النسيم، نعم! انها في سجدة دائمة امام عظمة قدرته جل جلاله.

فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة امامنا فوق الارض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي ايضاً بعينها تجري تحت الارض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً واغرب منها انتظاماً.

تأملوا جيداً! ان اصلب الصخور واضخمها واصمّها تلين ليونة الشمع تجاه الاوامر التكوينية، ولا تبدي اية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية اي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول تراباً في طريقهن..

وكذا قوله تعالى ] وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ فانه يبيّن طرفاً من حقيقة عظيمة جداً هي:

ان الجبال التي على سطح الارض، والتي تجمدت بعد ان كانت في حالة مائعة وسائلة. واصبحت كتلاً ضخمة من الصخور الصلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات ارضية، مثلما تناثر واصبح دكاً ذلك

الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جل جلاله.

فتلك الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر اجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج الى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها اهلُ الارض في كثير من الامور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن امورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى، فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.

فلا ريب ان ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الاماكن الواطئة في تواضع جم، وتسببها لمنافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثاً ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء ايضاً، بل هو تدبير رب قدير حكيم يحدثه بانتظام وحكمة وإن بدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.

والدليل على هذا الفوائد والمنافع التي تجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحلل التي تخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالازاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.

وهكذا رأيتم كيف أن هذه الآيات الثلاث لها اهميتها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.

والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي اعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفاً وجزءاً من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جداً، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه الى ثلاث حوادث اخرى لتكون مدار عبرة لأولى الالباب ويزجرهم زجراً لا يقاوم.

فمثلاً: يشير في الفقرة الثانية ] وإنّ منها لما يشّـقّق فيخرجُ منه الماءُ[ الى الصخرة التي انشقت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عشرة عيناً، وفي الوقت نفسه يورد الى الذهن هذا المعنى ويقول:

يا بنى اسرائيل! ان الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموع كالسيل من خشيتها أو من سرورها فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلها، ولا تدمع اعينكم بل تجمد وتغلظ قلوبكم وتقسو.

ويذكّر في الفقرة الثالثة: ] وانّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طورسيناء، اثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلي الإلهي الاعظم الى الجبل وجعله دكاً حتى تفتت وتناثر في الارجاء من خشيته سبحانه. ويرشد في الوقت نفسه الى معنى كهذا:

يا قوم موسى (عليه السلام) كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون انه قد أخذ الميثاق منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمكم تشقق الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبكم؟.

ويذكّر في الفقرة الاولى ] وإنّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهارُ[ مشيراً الى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الاحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الاوامر التكوينية ومدى كونها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوب المتيقظة هذا المعنى:

انه لا يمكن قطعاً ان تكون هذه الجبال الضخمة منابع حقيقية لمثل هذه الانهار العظيمة لأنه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءة بالماء، اي لو اصبحت احواضاً مخروطية لتلك الانهار، فانها لا تكفي لصرفيات تلك الانهار الا لبضعة شهور وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلاً عن ان الامطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون ايضاً واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.

بمعنى ان تفجّر هذه الانهار ليس امراً اعتيادياً طبيعياً، أو من قبيل المصادفة، بل ان الفاطر الجليل يسيّلها من خزينة الغيب وحدها، ويجريها منها جرياناً خارقاً. واشارة الى هذا افادت رواية الحديث الشريف بهذا المعنى: ان كلاً من تلك الانهار الثلاثة تقطر عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا اصبحت مباركة. وفي رواية ان منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة(1) وحقيقة هذه الرواية هي:

ان الاسباب المادية لا تكفي لتفجر هذه الانهار وتدفقها بهذه الكثرة، فلابد ان تكون منابعها في عالم غيب، وانها ترد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم. وهكذا يعلّم القرآن الكريم درساً بليغاً وينبّه الى هذا المعنى:

يا بني اسرائيل ويا بني آدم! انكم بقساوة قلوبكم تعصون اوامر رب جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونكم عن نور معرفة ذلك النور المصور الذي حوّل ارض مصر الى جنة وارفة الظلال واجرى النيل العظيم المبارك وامثاله من الانهار من افواه احجار صلدة بسيطة مظهراً معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الانهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وافاضاتها. فيضـع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها الى دماغ الارض، ويسيّلها في قلوب الجن والانس وفي عقولهم.

ثم انه سبحانه وتعالى يجعل صخوراً جامدة لا تملك شعوراً قط(1) تنال معجزات قدرته حتى انها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى ابصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟

فانظر! كيف لبست هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقق النظر في بلاغة الارشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية امام ذلك الارشاد البليغ.

فان كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة الى نهايتها، فشاهد لمعة اعجاز اسلوب الارشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللّهم فهّمنا اسرار القرآن كما تحب وترضى ووفقنا لخدمته..

آمين

برحمتك يا ارحم الراحمين.

اللّهم صل وسلم على من اُنزل عليه القرآن الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقام الثاني

من الكلمة العشرين

لمعة اعجاز قرآني تتلألأ على وجه معجزات الانبياء

((أنعم النظر في الجوابين المذكورين في الختام))

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ مبين[ (الانعام:59)

لقد كتبتُ قبل أربع عشرة سنة(1) بحثاً يخص سراً من أسرار هذه الآية الكريمة في تفسيري الذي كتبته باللغة العربية الموسوم بـ ((اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) والآن استجابة لطلب أخوين كريمين عزيزين عندي اكتب ايضاحاً باللغة التركية لذلك البحث، مستعيناً بتوفيق العلي القدير ومستلهماً من فيض القرآن الكريم، فأقول:

ان ((كتاب مبين)) - على قول - هو القرآن الكريم. فهذه الآية الكريمة تبيّن أنه: ما من رطب ولا يابس إلاّ وهو في القرآن الكريم.

أتراه كذلك؟

-نعم! ان في القرآن كل شئ. ولكن لا يستطيع كل واحد أن يرى فيه كلَّ شئ. لأن صور الاشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم، فأحياناً توجد بذور الشئ أو نواه، واحياناً مجمل الشئ أو خلاصته، واحياناً دساتيره، واحياناً توجد عليه علامات. ويرد كل من هذه الدرجات؛ اما صراحة أو اشارة أو رمزاً أو ابهاماً أو تنبيهاً. فيعبّر القرآن الكريم عن اغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة.

فمثلاً: ان الطائرة والكهرباء والقطار واللاسلكي وامثالها من منجزات العلم والصناعة - التكنلوجيا الحديثة - والتي تعدّ حصيلة التقدم الانساني ورقيه في مضمار الصناعة والعلم، أصبحت هذه الاختراعات موضع اهتمام الانسان، وتبوأت مكانة خاصة في حياته المادية.

لذا فالقرآن الكريم الذي يخاطب البشرية قاطبة لم يهمل هذا الجانب من حياة البشر، بل قد أشار الى تلك الخوارق العلمية من جهتين:

الجهة الاولى: اشار اليها عند اشارته الى معجزات الانبياء عليهم السلام.

الجهة الثانية: اشار اليها عند سرده بعض الحوادث التاريخية.

فعلى سبيل المثال: فقد اشار الى القطار في الآيات الكريمة الآتية:

] قُتلَ اصحابُ الاخدود ^ النارِ ذاتِ الوَقُودِ ^ اذ هُم عليها قُعودٌ^ وهُم على ما يفعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ^ وما نَقَموا منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيزِ الحميد[ .(1) (البروج: 4ـ 8)

وايضاً:

] في الفُلك المشحون ^ وخَلقنا لهم مِن مثلِهِ ما يَركبون[ (يس:41 - 42)

والآية الكريمة الآتية ترمز الى الكهرباء علاوة على اشارتها الى كثير من الأنوار والاسرار:

] الله نورُ السمواتِ والارض مثلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجُة كأنها كوكبٌ درّيٌّ يوقَدُ مِن شجرةٍ مُباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيٍة ولا غربيةٍ يكادُ زيتُها يُـضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدى الله لنوره مَن يشاءُ [ (2) (النور:35)

ولما كان الكثيرون من الفضلاء قد انصرفوا الى هذا القسم، وبذلوا جهوداً كثيرة في توضيحه علماً ان القيام ببحثه يتطلب دقة متناهية ويستدعي بسطاً للموضوع اكثر من هذا وايضاحاً وافياً. فضلاً عن وجود أمثلة وفيرة عليه، لذا لا نفتح هذا الباب، ونكتفي بالآيات المذكورة.

اما القسم الاول الذي يشير الى تلك الاختراعات الشبيهة بالخوارق ضمن اشارات القرآن الى معجزات الانبياء.. سنذكر نماذج منه.



المقدمة:

يبيّن القرآن الكريم ان الانبياء عليهم السلام قد بُعثوا الى مجتمعات انسانية ليكونوا لهم ائمة الهدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي. ويبين في الوقت نفسه ان الله قد وضع بيد كلٍ منهم معجزة مادية، ونَصَبهم روّاداً للبشرية واساتذة لها في تقدمها المادي ايضاً. أي انه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعاً كاملاً في الامور المادية والمعنوية؛ اذ كما يحض القرآنُ الكريم الانسانَ على الاستزادة من نور الخصال الحميدة التي يتحلى بها الانبياء عليهم السلام، وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية، فانه عند بحثه عن معجزاتهم المادية ايضاً يومئ الى إثارة شوق الانسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في ايديهم، ويشير الى حضّه على بلوغ نظائرها، بل يصح القول: ان يد المعجزة هي التي أهدت الى البشرية الكمال المادي وخوارقه لاول مرة، مثلما أهدت اليها الكمال المعنوي. فدونك سفينة نوح عليه السلام وهي احدى معجزاته، وساعة يوسف عليه السلام، وهي احدى معجزاته. فقد قدمتهما يدُ المعجزة لاول مرة هدية ثمينة الى البشرية. وهناك اشارة لطيفة الى هذه الحقيقة، وهي اتخاذ أغلب الصناع نبياً من الانبياء رائداً لصنعتهم وقطباً لمهنتهم. فالملاحون - مثلاً - اتخذوا سيدنا نوحاً عليه السلام رائدهم والساعاتيون اتخذوا سيدنا يوسف عليه السلام امامهم، والخياطون اتخذوا سيدنا ادريس عليه السلام مرشدهم..

ولما كان العلماء المحققون من أهل البلاغة قد اتفقوا جميعاً ان لكل آية كريمة وجوهاً عدة للارشاد، وجهات كثيرة للهداية، فلا يمكن اذاً ان تكون أسطع الآيات وهي آيات المعجزات، سرداً تاريخياً، بل لابد انها تتضمن ايضاً معاني بليغة جمة للارشاد والهداية.

نعم، ان القرآن الكريم بايراده معجزات الانبياء انما يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن ان يصل اليه الانسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها الى أبعد نهاياتها، وغاية ما يمكن ان تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعيّن أبعد الاهداف النهائية لها ويحددها، ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها اليها. اذ كما ان الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل ايضاً حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله.

وسنبين بضعة نماذج مثالاً، من ذلك النبع الفياض الواسع:

C فمثلاً: ] ولسليمنَ الريح غدوّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ[ (سبأ:12).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام.

وهي تسخير الريح له، أي أنه قد قطع في الهواء ما يقطع في شهرين في يوم واحد.

فالآية تشير الى ان الطريق مفتوح امام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء.

فيا ايها الانسان! حاول ان تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنزلة ما دام الطريق ممهداً أمامك.

فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة:

((ان عبداً من عبادي ترك هوى نفسه، فحمّلتُه فوق متون الهواء. وانت ايها الانسان! ان نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك ايضاً ان تمتطي صهوة الهواء)).

C ومثلاً: ] فقلنا اضربْ بعصاكَ الحجَر فانفجرتْ منه اثنتا عشرةَ عيناً..[ (البقرة:60)

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشير الى انه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الارض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من ارض صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا.

فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى:

يمكنكم ان تجدوا الماء الذي هو ألطف فيض من فيوضات الرحمة الإلهية، بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه.

فالله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية:

((ما دمتُ اسلّم بيد عبد يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها ان يفجّر الماء أينما شاء. فانت ايها الانسان ان اعتمدت على قوانين رحمتي، يمكنك أيضاً ان تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيا اسعَ لتجد تلك الآلة)).

فانت ترى كيف ان هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الانسان من استخراج الماء في اغلب الاماكن، والتي هي احدى وسائل رقي البشرية. بل ان الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الاولى أبعد النقاط النهائية، واقصى ما يمكن ان تبلغ اليه الطائرة الحاضرة.

C ومثلاً: ] وابرئ الاكمهَ والأبرصَ واُحيي الموتى بإذن الله..[ (آل عمران:49).

فالقرآن الكريم اذ يحث البشرية صراحة على اتباع الاخلاق النبوية السامية التي يتحلى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزاً الى النظر الى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.

فهذه الآية الكريمة تشير الى:

((انه يمكن ان يُعثر على دواء يشفي أشد الامراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس ايها الانسان، ولا تقنط ايها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسه بلون من الوان الحياة الموقتة)).

فالله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَركَ الدنيا لأجلي، وعافها في سبيلي، هديتين: احداهما دواء للاسقام المعنوية، والاخرى علاج للامراض المادية. فالقلوب الميتة تُبعث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الاموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرأون به. وانت ايها الانسان! بوسعك ان تجد في صيدلية حكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فانك لا محالة واجده وظافر به.

وهكذا ترى كيف ترسم هذه الآية الكريمة أقصى المدى وأبعد الأهداف التي يصبو اليها الطب البشري من تقدم.

فالآية تشير الى ذلك الهدف وتحث الانسان على الوصول اليه.

C ومثلاً: ] وألنّا لَهُ الحديدَ[ (سبأ:10)

] وآتيناهُ الحكمةَ وفصلَ الخطاب[ (ص:20)

هاتان الآيتان تخصان معجزة سيدنا داود عليه السلام. والآية الكريمة ] وأسَلنا له عَينَ القِطرِ[ (سبأ:12) تخص معجزة سيدنا سليمان عليه السلام. فهذه الآيات تشير الى:

ان تليين الحديد نعمة إلهية عظمى، اذ يبين الله به فضل نبيٍ عظيم. فتليين الحديد وجعله كالعجين، واذابة النحاس وايجاد المعادن وكشفها هو اصل جميع الصناعات البشرية، واساسها. وهو أم التقدم الحضاري من هذا الجانب ومعدنه.

فهذه الآية تشير الى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله اسلاكاً رفيعة واسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفة للارض عظيم. فما دام سبحانه قد كرم مَن هو رسولٌ وخليفة معاً، فوهب للسانه الحكمة وفصل الخطاب، وسلّم الى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الاقتداء بما وهب للسانه حضاً صريحاً، فلابد ان هناك اشارة ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.

فسبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيت عبداً من عبادي اطاع اوامري وخضع لما كلفته به، آتيت لسانه فصل الخطاب، وملأتُ قلبه حكمةً ليفصل كل شئ على بينة ووضوح.

ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديد كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء اركان خلافته وادامة دولته وحكمه. فما دام هذا الامر ممكناً وواقعاً فعلاً، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية فانتم يابني آدم إن اطعتم اوامري التكوينية تُوهَب لكم ايضاً تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن ان تقتربوا منهما وتبلغوهما.

وهكذا فان بلوغ البشرية أقصى امانيها في الصناعة، وكسبها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، انما هو بتليين الحديد وباذابة النحاس - القطرـ فهذه الآيات

الكريمة تستقطب انظار البشرية عامة الى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين اليها، فتنبه اولئك الذين لا يقدرونها حق قدرها.

C ومثلاً: ] قالَ الذي عندهُ علمٌ ِمن الكتابِ أنا اتيكَ به قبلَ أن يرتدّ اليكَ طرفُكَ فلما رآهُ مستقراً عندهُ..[ (النمل:40).

فهذه الآية تشير الى ان احضار الاشياء من مسافات بعيدة - عيناً أو صورة - ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحد وزرائه الذي اوتي علماً غزيراً في ((علم التحضير)): انا اتيك بعرش بلقيس.

ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلك والنبوة معاً، واكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على احوال رعاياه، ومشاهدة اوضاعهم، وسماع مظالمهم. فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصونه من الشطط في امور الرعية. وهي وسيلة قوية لبسط راية العدالة على ارجاء المملكة.

فمن يعتمد على الله سبحانه اذاً ويطمئن اليه، ويسأله بلسان استعداداته وقابلياته التي فُطر عليها، وسار في حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية، يمكن ان تتحول له الدنيا الواسعة كأنها مدينة منتظمة امامه كما حدث لسليمان عليه السلام الذي طلب بلسان النبوة المعصومة إحضار عرش بلقيس فأحضر في طرفة عين وصار ماثلاً امامه - بعينه أو بصورته - في بلاد الشام بعد ان كان في اليمن. ولاشك ان اصوات رجال الحاشية الذين كانوا حول العرش قد سُمعتْ مع مشاهدة صورهم.

فهذه الآية تشير اشارة رائعة الى احضار الصور والاصوات من مسافات بعيدة. فالآية تخاطب:

«ايها الحكام! ويا من تسلمتم امر البلاد! ان كنتم تريدون ان تسود العدالة انحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان - عليه السلام - واسعَوا مثله الى مشاهدة ما يجري في الارض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع ارجائها. فالحاكم العادل الذي يتطلع الى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والســلطان الــذي يرعـى شؤون ابناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل الى مبتـغــاه إلا اذا اسـتـطـــاع الاطـلاع - مـتى شاء - على اقطار مملكته. وعندئذٍ تعم العـدالة حـقاً، وينقذ نفـسه من المـحـاســبة والتبـعات المعنوية.

فالله سبحانه يخاطب بالمعنى الرمزي لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيتُ عبداً من عبادي حُكمَ مملكة واسعة شاسعة الارجاء، ومنحته الاطلاع المباشر على احوال الارض واحداثها ليتمكن من تطبيق العدالة تطبيقاً كاملاً، ولما كنتُ قد وهبت لكل انسان قابلية فطرية ليكون خليفة في الأرض، فلا ريب أنى قد زوّدتُه - بمقتضى حكمتي - ما يناسب تلك القابلية الفطرية من مواهب واستعدادات يتمكن بها من ان يشاهد الارض بأطرافها ويدرك منها ما يدرك. وعلى الرغم من أن الانسان قد لا يبلغ هذه المرتبة بشخصه الا انه يتمكن من بلوغها بنوعه. وان لم يستطع بلوغها مادياً، فانه يبلغها معنوياً - كما يحصل للاولياء الصالحين - فباستطاعتكم اذاً الاستفادة من هذه النعمة الموهوبة لكم. فسارعوا الى العمل الجاد واسعوا سعياً حثيثاً كي تحوّلوا الارض الى ما يشبه حديقة صغيرة غنّاء، تجولون فيها وترون جهاتها كلها وتسمعون احداثها واخبارها من كل ناحية منها غير ناسين وظيفة عبوديتكم. تدبروا الآية الكريمة:

] هوَ الذي جعلَ لكمُ الارضَ ذلولاً فامشوا في مناكِبها وكُلوا مِن رزقه واليه النشور[ (الملك:15).

وهكذا نرى كيف تومئ الآية الكريمة المتصدرة لهذا المثال الى اثارة همة الانسان، وبعث اهتماماته لاكتشاف وسيلة يستطيع بها احضار الصور والاصوات من أبعد الاماكن واقصاها ضمن ادق الصناعات البشرية.

C ومثلاً: ] وآخرين مقرّنين في الأصفاد[ (ص:38).

] ومنِ الشياطين مَن يغُوصونَ لهُ ويعملونَ عملاً دونَ ذلكَ وكنّا لهُم حافظين[ (الانبياء:82).

هذه الآيات الكريمة تفيد تسخير سيدنا سليمان عليه السلام الجن والشياطين والارواح الخبيثة، ومنعه شرورهم واستخدامهم في أمور نافعة. فالآيات تقول:

ان الجن الذين يلون الانسان في الأّهمية في سكنى الأرض من ذوي الشعور، يمكن ان يصبحوا خداماً للانسان، ويمكن ايجاد علاقة ولقاء معهم، بل يمكن للشياطين ان يضعوا عداءَهم مع الانسان ويخدموه مضطرين كما سخّرهم الله سبحانه وتعالى لعبدٍ من عباده المنقادين لأوامره.

بمعنى ان الله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآيات: ((أيها الانسان! اني اسخّر الجن والشياطين واشرارهم لعبدٍ قد أطاعني واجعلهم منقادين اليه مسخرين له، فانت ان سخّرت نفسك لأمري واطعتني، قد تُسخّر لك موجودات كثيرة بل حتى الجن والشياطين)) .

فالآية الكريمة تخط أقصى الحدود النهائية، وتعيّن أفضل السبل القويمة للانتفاع، بل تفتح السبيل أيضاً الى تحضير الارواح ومحادثة الجن الذي ترشح من امتزاج فنون الانسان وعلومه، وتظاهر مما تنطوي عليه من قوى ومشاعر فوق العادة، المادية منها والمعنوية. ولكن ليس كما عليه الامر في الوقت الحاضر حيث أصبح المشتغلون بهذه الأمور موضع استهزاء بل ألعوبة بيد الجن الذين ينتحلون أحياناً اسماء الأموات. وغدوا مسخّرين للشياطين والارواح الخبيثة، وانما يكون ذلك بتسخير أولئك باسرار القرآن الكريم مع النجاة من شرورهم.

C ثم ان الآية الكريمة:

] فارسلنا اليها روحَنا فتمثلَ لها بشراً سَويّاً[ (مريم:17).

هذه الآية وامثالها التي تشير الى تمثل الارواح، وكذا الآيات المشيرة الى جلب سيدنا سليمان - عليه السلام - للعفاريت وتسخيرهم له . هذه الآيات الكريمة مع اشارتها الى تمثل الروحانيات فهي تشير الى تحضير الأرواح ايضاً. غير ان تحضير الارواح الطيبة - المشار اليه في الآيات - ليس هو بالشكل الذي يقوم به المعاصرون من إحضار الارواح الى مواضع لهوهم واماكن ملاعبهم والذي هو هزل رخيص واستخفاف لا يليق بتلك الارواح الموقرة الجادة، التي تعمر عالماً كله جدّ لا هزل فيه، بل يمكن تحضيرالارواح بمثل ما قام به اولياء صالحون لأمر جاد ولقصد نبيل هادف - من امثال محي الدين بن عربي - الذين كانوا يقابلون تلك الارواح الطيبة متى شاؤا، فاصبحوا هم منجذبين اليها ومنجلبين لها ومرتبطين معها ومن ثم الذهاب الى مواضعها والتقرب الى عالمها والاستفادة من روحانياتها، فهذا هو الذي تشير اليه الآيات الكريمة وتُشعر في اشارتها حضاً وتشويقاً للانسان وتخطّ اقصى الحدود النهائية لمثل هذه العلوم والمهارات الخفية، وتعرض أجمل صوره وأفضلها.

C ومثلاً:] إنّا سخّرنا الجبالَ معه يسبّحنَ بالعشيّ والإشراق[ (ص:18).

] يا جبالُ أوّبي مَعَه والطيرَ وألنّا له الحديد[ (سبأ:10).

] عُلِّمنا منطقَ الطير..[ (النمل:16).

هذه الآيات الكريمة التي تذكر معجزات سيدنا داود عليه السلام تدل على أن الله سبحانه قد منح تسبيحاته واذكاره من القوة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبال في وجدٍ وشوق، وكأنها حاكٍ عظيم تردد تسبيحاتٍ واذكاراً. أو كأنها انسان ضخم يسبّح في حلقة ذكر حول رئيس الحلقة.

اتُراك هذه حقيقة؟ وهل يمكن ان يحدث هذا فعلاً؟!

نعم! انها لحقيقة قاطعة، أليس كل جبل ذي كهوف يمكن ان يتكلم مع كل انسان بلسانه، ويردد كالببغاء ما يذكره؟ فان قلت (الحمد لله) أمام جبل،فهو يقول ايضاً: (الحمد لله) وذلك برجع الصدى.. فما دام الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه القابلية للجبال، فيمكن اذاً أن تنكشف هذه القابلية وتنبسط اكثر من هذا. وحيث ان الله سبحانه قد خص سيدنا داود عليه السلام بخلافة الأرض فضلاً عن رسالته، فقد كشف بذرة تلك القابلية لديه ونماها وبسطها بسطاً معجزاً عنده، بما يلائم شؤون الرسالة الواسعة والحاكمية العظيمة، حتى غدت الجبال الشم الرواسي منقادة اليه كأي جندي مطيع لأمره، وكأي صانع أمين لديه، وكأي مريد خاشع لذكره. فأصبحت تلك الجبال تسبح بحمد الخالق العظيم جلّ جلاله بلسانه عليه السلام وبأمره. فما كان سيدنا داود يذكر ويسبّح إلاّ والجبال تردد ما يذكره.

نعم، ان القائد في الجيش يستطيع ان يجعل جنوده المنتشرين على الجبال يرددون: (الله اكبر) بما لديه من وسائل الاتصال والمخابرات، حتى كأن تلك الجبال هي التي تتكلم وتهلل وتكبر! فلئن كان قائداً من الانس يستطيع أن يستنطق (مجازياً) الجبال بلسان ساكنيها، فكيف بقائد مهيب لله سبحانه وتعالى؟ الا يستطيع أن يجعل تلك الجبال تنطق نطقاً (حقيقياً) وتسبح تسبيحاً حقيقياً؟. هذا فضلاً عن اننا قد بينا في (الكلمات) السابقة ان لكل جبل شخصية معنوية خاصة به، وله تسبيح خاص ملائم له، وله عبادة مخصوصة لائقة به. فمثلما يسبّح كل جبل برجع الصدى باصوات البشر، فان له تسبيحات للخالق الجليل بألسنته الخاصة.

C وكذلك: ] والطيرَ محشورةً[ (ص:19).

] و عُلّمنا منطقَ الطير[ (النمل:16) هذه الآيات تبين ان الله سبحانه قد علّم سيدنا داود وسليمان عليهما السلام منطق انواع الطيور، ولغة قابلياتها واستعداداتها، أي: أيّ الاعمال تناسبها؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟

نعم! هذه الحقيقة هي الحقيقة الجليلة، إذ ما دام سطح الارض مائدة رحمانية اقيمت تكريماً للانسان، فيمكن اذاً ان تكون معظم الحيوانات والطيور التي تنتفع من هذه المائدة مسخّرة للانسان، ضمن تصرفه وتحت خدمته. فالانسان الذي استخدم النحل ودودة القز - تلكم الخَدَمة الصغار - وانتفع مما لديهم من إلهام إلهي، والذي استعمل الحمام الزاجل في بعض شؤونه وأعماله، واستنطق الببغاء وأمثاله من الطيور، فضمَّ الى الحضارة الانسانية محاسن جديدة، هذا الانسان يمكنه ان يستفيد اذاً كثيراً اذا ما عَلِم لسان الاستعداد الفطري للطيور، وقابليات الحيوانات الاخرى، حيث هي انواع وطوائف كثيرة جداً، كما استفاد من الحيوانات الأليفة. فمثلاً: اذا عَلِم الانسان لسان استعداد العصافير (من نوع الزرازير) التي تتغذى على الجراد ولا تدعها تنمو، واذا ما نسّق اعمالها فانه يمكن ان يسخّرها لمكافحة آفة الجراد. فيكون عندئذٍ قد انتفع منها واستخدمها مجاناً في امور مهمة.

فمثل هذه الانواع من استغلال قابليات الطيور والانتفاع منها، واستنطاق الجمادات من هاتف وحاكٍ، تخط له الآية الكريمة المذكورة المدى الاقصى والغاية القصوى.

فيقول الله سبحانه بالمعنى الرمزي لهذه الآيات الكريمة:

يا بني الانسان! لقد سخرتُ لعبد من بني جنسكم، عبد خالص مخلص، سخرتُ له مخلوقات عظيمة في ملكي وانطقتها له، وجعلتها خداماً امناء وجنوداً مطيعين له، كي تعصم نبوته، وتصان عدالته في ملكه ودولته. وقد أتيتُ كلاً منكم استعداداً ومواهب ليصبح خليفة الارض، واودعتُ فيكم أمانة عظمى، أبتِ السموات والارض والجبال ان يحملنها، فعليكم اذاً ان تنقادوا وتخضعوا لأوامر مَن بيده مقاليد هذه المخلوقات وزمامها، لتنقاد اليكم مخلوقاته المبثوثة في ملكه. فالطريق ممهد أمامكم ان استطعتم ان تقبضوا زمام تلك المخلوقات باسم الخالق العظيم، واذا سموتم الى مرتبة تليق باستعداداتكم ومواهبكم..

فما دامت الحقيقة هكذا فاسعَ ايها الانسان ان لا تنشغل بلهو لا معنى له، وبلعب لا طائل من ورائه، كالانشغال بالحاكي والحمام والببغاء.. بل اسعَ في طلب لهوٍ من ألطف اللهو وازكاه، وتسلَّ بتسلية هي من ألذ أنواع التسلية.. فاجعل الجبال كالحاكي لأذكارك، كما هي لسيدنا داود عليه السلام، وشنّف سمعك بنغمات ذكر وتسبيح الاشجار والنباتات التي تخرج أصواتاً رقيقة عذبة بمجرد مس النسيم لها وكأنها اوتار آلات صوتية.. فبهذا الذكر العلوي تُظهر الجبال لك الوفاً من الألسنة الذاكرة المسبحة، وتبرز أمامك في ماهية عجيبة من أعاجيب المخلوقات. وعندئذٍ تتزيا معظم الطيور وتلبس - كأنها هدهد سليمان - لباسَ الصديق الحميم والانيس الودود، فتصبح خداماً مطيعين لك. فتسليك أيما تسلية، وتلهيك لهواً بريئاً لا شائبة فيه، فضلاً عن ان هذا الذكر السامي يسوقك الى انبساط قابليات ومواهب كانت مغمورة في ماهيتك، فتحول بينك وبين السقوط من ماهية الانسان السامية ومقامه الرفيع، فلا تجذبك بعدُ اضراب اللهو التي لا مغزى لها الى حضيض الهاوية.

C ومثلاً: ] قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على ابراهيم[ (الانبياء:69).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة سيدنا ابراهيم عليه السلام، وفيها ثلاث اشارات لطيفة:

أولاها: النار - كسائر الاسباب - ليس أمرها بيدها، فلا تعمل كيفما تشاء حسب هواها وبلا بصيرة، بل تقوم بمهمتها وفق أمر يُفرض عليها. فلم تحرق سيدنا ابراهيم لانها أُمرت بعدم الحرق.

ثانيتها: ان للنار درجة تحرق ببرودتها، أي تؤثر كالاحتراق. فالله سبحانه يخاطب البرودة بلفظة:((سلاماً))(1) بأن لا تحرقي انتِ كذلك ابراهيم، كما لم تحرقه الحرارة. أي أن النار في تلك الدرجة تؤثر ببرودتها كأنها تحرق، فهي نار وهي برد.

نعم ان النار - كما في علم الطبيعيات - لها درجات متفاوتة، منها درجة على صورة نار بيضاء لا تنشر حرارتها بل تكسب مما حولها من الحرارة، فتجمد بهذه البرودة ما حولها من السوائل، وكأنها تحـرق ببرودتــها. وهكـذا الزمهــرير لـون من الوان النار تحرق ببرودتها، فوجوده اذن ضروري في جهنم التي تضم جميع درجات النار وجميع أنواعها.

ثالثتها: مثلما الايمان الذي هو (مادة معنوية) يمنع مفعول نار جهنم، وينجي المؤمنين منها. وكما ان الاسلام درع واقٍ وحصن حصين من النار، كذلك هناك (مادة مادية) تمنع تأثير نار الدنيا، وهي درع أمامها، لان الله سبحانه يجري اجراءاته في هذه الدنيا - التي هي دار الحكمة - تحت ستار الاسباب وذلك بمقتضى اسمه (الحكيم)، لذا لم تحرق النار جسم سيدنا ابراهيم عليه السلام مثلما لم تحرق ثيابه وملابسه ايضاً. فهذه الآية ترمز الى:

((يا ملة ابراهيم! اقتدوا بابراهيم! كي يكون لباسكم لباس التقوى وهو لباس ابراهيم، وليكون حصناً مانعاً ودرعاً واقياً في الدنيا والآخرة تجاه عدوكم الاكبر، النار. فلقد خبأ سبحانه لكم مواداً في الارض تحفظكم من شر النار، كما يقيكم لباس التقوى والايمان الذي ألبستموه أرواحكم، شر نار جهنم.. فهلموا واكتشفوا هذه المواد المانعة من الحرارة واستخرجوها من باطن الارض والبسوها)).

وهكذا وجد الانسان حصيلة بحوثه واكتشافاته مادة لا تحرقها النار، بل تقاومها فيمكنه ان يصنع منها لباساً وثياباً.

فقارن هذه الآية الكريمة، وقس مدى سموها وعلوها على اكتشاف الانسان للمادة المضادة للنار، واعلم كيف انها تدل على حلة قشيبة نسجت في مصنع (حنيفاً مسلماً) لا تتمزق ولا تخلق وتبقى محتفظة بجمالها وبهائها الى الابد.

C ومثلاً: ] وعلّم آدمَ الاسماءَ كلها[ (البقرة:31).

تبين هذه الآية ان المعجزة الكبرى لآدم عليه السلام - في دعوى خلافته الكبرى - هي تعليم الاسماء.

فمثلما ترمز معجزات سائر الانبياء الى خارقة بشرية خاصة لكل منهم، فان معجزة ابي الانبياء وفاتح ديوان النبوة آدم عليه السلام تشير اشارة قريبة من الصراحة الى منتهى الكمال البشري، وذروة رقيه، والى أقصى أهدافه، فكأن الله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

((يا بني آدم!.. ان تفوّق أبيكم آدم في دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمتُه الاسماء كلها، وأنتم بنوه ووارثو استعداداته ومواهبه فعليكم أن تتعلموا الاسماء كلها لتثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات لتسنم الامانة العظمى، فلقد مُهّد الطريق أمامكم لبلوغ اسمى المراتب العالية في الكون، وسُخرت لكم الارض، هذه المخلوقة الضخمة، فهيا انطلقوا وتقدموا، فالطريق مفتوح أمامكم.. واستمسكوا بكل اسم من اسمائي الحسنى، واعتصموا به، لتسموا وترتفعوا. واحذروا! فلقد أغوى الشيطان أباكم مرة واحدة، فهبط من الجنة - تلك المنزلة العالية - الى الارض موقتاً. فاياكم ان تتبعوا الشيطان في رقيكم وتقدمكم، فيكون ذريعة ترديكم من سموات الحكمة الإلهية الى ضلالة المادية الطبيعية.. ارفعوا رؤوسكم عالياً، وانعموا النظر والفكر في اسمائي الحسنى، واجعلوا علومكم ورقيكم سلماً ومراقي الى تلك السموات، لتبلغوا حقائق علومكم وكمالكم، وتصلوا الى منابعها الاصلية، تلك هي أسمائي الحسنى.

وانظروا بمنظار تلك الاسماء ببصيرة قلوبكم الى ربكم)).

بيان نكتة مهمة وايـضاح سر أهم

ان كل ما ناله الانسان - من حيث جامعية ما أودع الله فيه من استعدادات - من الكمال العلمي والتقدم الفني، ووصوله الى خوراق الصناعات والاكتشافات، تعبّر عنه الآية الكريمة بتعليم الاسماء: ] وعلم آدم الاسماء كلها[ . وهذا التعبير ينطوي على رمزٍ رفيع ودقيق، وهو:

ان لكل كمال، ولكل علم، ولكل تقدم، ولكل فن - أياً كان - حقيقة سامية عالية. وتلك الحقيقة تستند الى اسم من الاسماء الحسنى، وباستنادها الى ذلك الاسم - الذي له حُجُب مختلفة، وتجليات متنوعة، ودوائر ظهور متباينة - يجد ذلك الفن وذلك الكمال وتلك الصنعة، كلٌ منها كمالَه، ويصبح حقيقةً فعلاً، وإلا فهو ظل ناقص مبتور باهت مشوش.

فالهندسة - مثلاً - علم من العلوم، وحقيقتُها وغاية منتهاها هي الوصول الى اسم (العدل والمقدِّر) من الاسماء الحسنى، وبلوغ مشاهدة التجليات الحكيمة لذلك الاسم بكل عظمتها وهيبتها في مرآة علم (الهندسة).

والطب - مثلاً - علم ومهارة ومهنة في الوقت نفسه، فمنتهاه وحقيقته يستند ايضاً الى اسم من الاسماء الحسنى وهو (الشافي). فيصل الطب الى كماله ويصبح حقيقة فعلاً بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم (الشافي) في الادوية المبثوثة على سطح الارض الذي يمثل صيدلية عظمى.

والعلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات - كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان .. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية..

فاليك الامثلة الثلاثة كما مرت.. قس عليها بقية العلوم والفنون والكمالات..

وهكذا يضرب القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة يد التشويق على ظهر البشرية مشيراً الى اسمى النقاط وأبعد الحدود واقصى المراتب التي قصرت كثيراً عن الوصول اليها في تقدمها الحاضر، وكأنه يقول لها: هيا تقدمي.

نكتفي بهذا الجوهر النفيس من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، ونغلق هذا الباب.

ومثلاً: ان خاتم ديوان النبوة، وسيد المرسلين، الذي تعدّ جميع معجزات الرسل معجزة واحدة لتصديق دعوى رسالته، والذي هو فخر العالمين، وهو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الاسماء الحسنى كلها التي علمها الله سبحانه آدم عليه السلام تعليماً مجملاً.. ذلكم الرسول الحبيب محمد e الذي رفع اصبعه عالياً بجلال الله فشق القمر وخفض الاصبع المبارك نفسه بجمال الله ففجر ماء كالكوثر.. وأمثالها من المعجزات الباهرات التي تزيد على الألف.. هذا الرسول الكريم أظهر القرآن الكريم معجزة كبرى تتحدى الجن والانس: ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً[ (الاسراء:88) فهذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات تجلب انظار الانس والجن الى ابرز وجوه الاعجاز في هذه المعجزة الخالدة واسطعها، فتلفتها الى ما في بيانه -الحقَ والحقيقةَ- من جزالة، والى ما في تعابيره من بلاغة فائقة، والى ما في معانيه من جامعية وشمول، والى ما في اساليبه المتنوعة من سمـو ورفعة وعــذوبة.. فتحدّى القرآن المعجز، وما زال كذلك يتحدى الانس والجن قاطبة، مثيراً الشوق في اوليائه، محركاًَ ساكن عناد اعدائه، دافعاً الجميع الى تقليده، بشوق عظيم وترغيب شديد، للاتيان بنظيره، بل انه سبحانه يضع هذه المعجزة الكبرى أمام انظار الانام في موقع رفيع لكأن الغاية الوحيدة من مجئ الانسان الى هذه الدنيا ليست سوى اتخاذه تلك المعجزة العظمى دستور حياته، وغاية مناه.

نخلص مما تقدم: ان كل معجزة من معجزات الانبياء عليهم السلام تشير الى خارقة من خوارق الصناعات البشرية. أما معجزة سيدنا آدم عليه السلام فهي تشير الى فهرس خوارق العلوم والفنون والكمالات، وتشوق اليها جميعاً مع اشارتها الى اسس الصنعة اشارة مجملة مختصرة.

أما المعجزة الكبرى للرسول الاعظم e وهي القرآن الكريم ذو البيان المعجر، فلأن حقيقة تعليم الاسماء تتجلى فيه بوضوح تام، وبتفصيل أتم، فانه يبين الاهداف الصائبة للعلوم الحقة وللفنون الحقيقية، ويُظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر اليها ويوجهه نحوها، مثيراً فيه رغبة شديدة فيها، حتى انه يبين بأسلوب التشويق أن« أيها الانسان! المقصد الاسمى من خلق هذا الكون هو قيامك أنت بعبودية كلية تجاه تظاهر الربوبية، وان الغاية القصوى من خلقك انت هي بلوغ تلك العبودية بالعلوم والكمالات».

فيعبر بتعابير متنوعة رائعة معجزة مشيراً بها الى:

ان البشرية في أواخر ايامها على الارض ستنساب الى العلوم، وتنصب الى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلم زمام الحكم والقوة.

ولما كان القرآن الكريم يسوق جزالة البيان وبلاغة الكلام مقدماً ويكررهما كثيراً، فكأنه يرمز الى ان البلاغة والجزالة في الكلام - وهما من اسطع العلوم والفنون - سيلبسان ازهى حللهما واروع صورهما في آخر الزمان، حتى يغدو الناس يستلهمون أمضى سلاحهم من جزالة البيان وسحره، ويستلمون أرهب قوتهم من بلاغة الاداء، وذلك عند بيان أفكارهم ومعتقداتهم لإقناع الاخرين بها، أو عند تنفيذ آرائهم وقراراتهم..

نحصل مما سبق: أن أكثر الآيات الكريمة انما هي مفتاح لخزينة كمال فائق، ولكنز علمي عظيم. فان شئت ان تبلغ سماوات القرآن الكريم ونجوم الايات فاجعل (الكلمات العشرين السابقة) عشرين درجاً لسلم الوصول اليها(1)، وشاهدْ بها مدى سطوع شمس القرآن العظيم، وتأملْ كيف ينشر القرآن نوره باهراً على حقيقة الالوهية وحقائق الموجودات، والمخلوقات، وكيف ينشر الضياء الساطع على كل الموجودات.

النتيجة: ما دامت الآيات التي تخص معجزات الانبياء عليهم السلام لها نوع من الاشارة الى خوارق التقدم العلمي والصناعي الحاضر، ولها طراز من التعبير كأنه يخط أبعد الحدود النهائية لها.. وحيث أنه ثابت قطعاً أن لكل آية دلالات على معانٍ شتى بل هذا متفق عليه لدى العلماء.. ولما كان هناك أوامر مطلقة لإتباع الانبياء عليهم السلام والاقتداء بهم، لذا يصح القول:

انه مع دلالة الآيات المذكورة سابقاً على معانيها الصريحة هناك دلالات مشوّقة باسلوب الاشارة الى أهم العلوم البشرية وصناعاتها.

جوابان مهمان عن سؤالين مهمين

C أحدهما:اذا قلت: لما كان القرآن الكريم قد نزل لأجل الانسان، فَلِمَ لا يصرّح بما هو المهم في نظره من خوارق المدنية الحاضرة؟ وانما يكتفي برمز مستتر، وايماء خفي، واشارة خفيفة، وتنبيه ضعيف فحسب؟

فالجواب: ان خوارق المدنية البشرية لا تستحق أكثر من هذا القدر، اذ إن الوظيفة الاساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها ووظائف دائرة العبودية وأحوالها.

لذا فان حق تلك الخوارق البشرية وحصتها من تلك الدائرتين مجرد رمز ضعيف واشارة خفية ليس إلاّ.. فانها لو ادّعت حقوقها من دائرة الربوبية، فعندها لا تحصل إلاّ على حق ضئيل جداً.

فمثلاً: اذا طالبت الطائرة البشرية(1) القرآن الكريم قائلة:

((أعطني حقاً للكلام، وموقعاً بين آياتك)). فان طائرات دائرة الربوبية تلك الكواكب السيّارة والارض والقمر، ستقول بلسان القرآن الكريم:

- ((انكِ تستطيعين أن تأخذي مكانكِ هنا بمقدار جرمك لا أكثر)).

واذا أرادت الغواصة البشرية موقعاً لنفسها بين الآيات الكريمة فستتصدى لها غواصات تلك الدائرة؛ التي هي الارض السابحة في محيط الهواء، والنجوم العائمة في بحر الأثير قائلة:

- ((ان مكانك بيننا ضئيل جداً يكاد لا يُرى!)).

واذا ارادت الكهرباء ان تدخل حرم الآيات بمصابيحها اللامعة أمثال النجوم، فان مصابيح تلك الدائرة التي هي الشموس والشهب والانجم المزيّنة لوجه السماء، سترد عليها قائلة:

-((انك تستطيعين أن تدخلي معنا في مباحث القرآن وبيانه بمقدار ما تمتلكين من ضوء!!)).

ولو طالبت الخوارق الحضارية - بلسان صناعاتها الدقيقة - حقوقها وارادت لها مقاماً بين الآيات.. عندها ستصرخ ذبابة واحدة بوجهها قائلة:

- اسكتوا.. فليس لكم حق. ولو بمقدار أحد جناحيّ هذين! ولئن اجتمع كل ما فيكم من المصنوعات والأختراعات - التي اكتشف إكتساباً بارادة الانسان الجزئية - مع جميع الآلات الدقيقة لديكم، لن تكون أعجب بمقدار ما في جسمي الصغير جداً من لطائف الاجهزة ودقائق الصنعة. وان هذه الآية الكريمة تبهتكم جميعاً:

] إنَّ الذينَ تَدعون مِن دونِ الله لن يَخلُقوا ذباباً ولو اجتَمعوا له، وإن يسلُبْهم الذبابُ شيئاً لا يستنقنذوهُ منه، ضعُفَ الطالبُ والمطلوبُ[ (الحج:73)

واذا ذهبت تلك الخوارق الى دائرة العبودية وطلبت منها حقها فستتلقى منها مثل هذا الجواب:

-ان علاقتكم معنا واهية وقليلة جداً، فلا يمكنكم الدخول إلى دائرتنا بسهولة، لأن منهجنا هو:

ان الدنيا دار ضيافة، وان الانسان ضيف يلبث فيها قليلاً، وله وظائف جمة، وهو مكلف بتحضير وتجهيز ما يحتاجه لحياته الأبدية الخالدة في هذا العمر القصير، لذلك يجب عليه ان يقدّم ما هو الأهم والألزم.

إلاّ أنه تبدو عليكم - على اعتبار الأغلبية - ملامح نسجت بحب هذه الدنيا الفانية تحت أستار الغفلة واللهو وكأنها دار للبقاء ومستقر للخلود. لذا فان حظكم من دائرة العبودية المؤسّسة على هدى الحق والتفكر في آثار الآخرة، قليل جداً.

ولكن.. ان كان فيكم - أو من ورائكم - من الصناع المهرة والمخترعين الملهمين - وهم قلة - وكانوا يقومون بأعمالهم مخلصين لأجل منافع عباد الله - وهي عبادة ثمينة - ويبذلون جهدهم للمصلحة العامة وراحتهم لرقي الحياة الاجتماعية وكمالها، فان هذه الرموز والارشادات القرآنية كافية بلا ريب لأولئك الذوات المرهفي الاحساس، ووافية لتقدير مهاراتهم وتشويقهم الى السعي والاجتهاد.

C السؤال الثاني:

واذا قلت: لم تبق لديّ الآن بعد هذا التحقيق شبهة، فقد ثبت عندي بيقين وصدّقت؛ أن القرآن الكريم فيه جميع ما يلزم السعادة الدنيوية والأخروية كل حسب قيمته وأهميته، فهناك رموز واشارات الى خوارق المدنية الحاضرة بل الى أبعد منها من الحقائق الأخرى مع ما فيه من حقائق جليلة ولكن لِمَ لم يذكر القرآن الكريم تلك الخوراق بصراحة تامة كي تجبر الكفرة العنيدين على التصديق والايمان وتطمئن قلوبنا فتستريح؟.

الجواب:

ان الدين امتحان، وان التكاليف الإلهية تجربة واختبار من أجل أن تتسابق الارواح العالية والارواح السافلة، ويتميز بعضها عن بعض في حلبة السباق.

فمثلما يختبر المعدن بالنار ليتميز الالماس من الفحم والذهب من التراب؛ كذلك التكاليف الإلهية في دار الامتحان هذه. فهي ابتلاء وتجربة وسَوق للمسابقة حتى تتميز الجواهر النفيسة لمعدن قابليات البشر واستعداداته من المعادن الخسيسة.

فما دام القرآن قد نزل - في دار الابتلاء هذه - بصورة اختبار للانسان ليتم تكامله في ميدان المسابقة، فلابد انه سيشير - اشارة فحسب - الى هذه الأمور الدنيوية الغيبية التي ستتوضح في المستقبل للجميع، فاتحاً للعقل باباً بمقدار اقامة حجته. وإلاّ فلو ذكرها القرآن الكريم صراحة، لاختلتْ حكمة التكليف اذ تصبح بديهية مثل كتابة (لا إله إلاّ الله) واضحاً بالنجوم على وجه السماء، والذي يجعل الناس - أرادوا أم لم يريدوا - عندئذ مرغمين على التصديق، فما كانت ثمة مسابقة ولا اختبار ولا تمييز فحينئذٍ تتساوى الارواح السافلة التي هي كالفحم مع التي هي كالالماس(1).



والخلاصة:

ان القرآن العظيم، حكيمٌ يعطي لكل شئ قدره من المقام، ويرى القرآن من ثمرات الغيب التقدمَ الحضاري البشري قبل ألف وثلاثمائة سنة المستترة في ظلمات المستقبل، أفضل واوضح مما نراها نحن وسنراها. فالقرآن اذاً كلام مَن ينظر الى كل الأزمنة بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد..

فتلك لمعة من الأعجاز القرآني، تلمع في وجه معجزات الأنبياء.

اللهمَّ فَـهِّمنا أسرارَ القرآنِ وَوفِّقْنا لِخدْمتِهِ في كلِّ آنٍ وزمانٍ.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا[

اللّهم صلّ وسلّم وبارك وكرِّم على سيدنا ومولانا محمدٍ، عبدِك ونبيك ورسولِك النبي الأمّي وعلى آلهِ واصحابه وأزواجه وذرياته وعلى النبيين والمرسلين والملائكة المقربين والاولياء والصالحين، أفـضل صلاةٍ وأزكى سلامٍ وأنمى بركاتٍ، بعدد سُوَر القرآن وآياته وحروفه وكلماته ومعانيه واشاراته ورموزه ودلالاته، واغفر لنا وارحمنا والطف بنا يا إلهنا، يا خالقنا، بكل صلاة منها برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله رب العالمين

آمين

عبدالرزاق 02-02-2011 01:52 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة العشرون

((وهي مقامان))



المقام الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واذ قُلنا للملائكة اسجدُوا لادمَ فسجدوا إلاّ ابليس [ (البقرة:34)

] إن الله يأمُركم ان تذبحُوا بقرةً[ (البقرة:67)

] ثم قَسَتْ قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً[ (البقرة:74)

كنت اتلو هذه الآيات الكريمة يوماً، فورد إلهامٌ من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات ابليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:

قال: انكم تقولون: ان القرآن معجز، وفي ذروة البلاغة، وانه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سرداً تأريخياً والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي الى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرة ضمن هالة من الاوصاف، حتى تسمّت السورة باسم "البقرة"؟

ثم ان القرآن يرشد ارباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه ((أفلا يعقلون)) اي يحيل الأمر الى العقل، في حين أن حادثة سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل اليه سبيلاً، الاّ بالتسليم أو الاذعان بعد الايمان القوي الراسخ.

ثم اين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفة للاحجار والصخور واضفاء اهمية بالغة عليها؟

وصورة النكت الملهمة هي الآتية:

C النكتة الاولى:

ان في القرآن الحكيم حوادث جزئية، ولكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وانما ُتذكر تلك الحوادث لانها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.

فالآية الكريمة ] وعلّم آدمَ الاسماء كُلَّها[ تبين ان تعليم الاسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، اظهاراً لإستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية الا انها طرف لدستور كلي هو:

ان تعليم الانسان - المالك لإستعداد جامع - علوماً كثيرة لا تحد، وفنوناً كثيرة لا تحصى حتى تستغرق انواع الكائنات، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة.. ان هذا التعليم هو الذي أهّل الانسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل ايضاً على السموات والارض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.

واذ يذكر القرآن خلافة الانسان على الارض خلافة معنوية، يبين كذلك ان في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له - وهي حادثة جزئية غيبية - طرفاً لدستور مشهود كلي واسع جداً، وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أن القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبّر الشيطان وامتناعه عن السجود، انما يفهّم ان اغلب الانواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكلين عليها، مسخرة كلها ومهيأة لإفادة جميع حواس الانسان افادة تامة، وهي منقادة له.. وان الذي يفسد استعداد الانسان الفطري ويسوقه الى السيئات والى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها اعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الانسان الى الكمالات.

واذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فانه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.

C النكتة الثانية:

من المعلوم ان اراضي مصر جرداء قاحلة، اذ هي جزء من الصحراء الكبرى، الاّ انها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فان وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً ، جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى اهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل اضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما اضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الامر أن منح اهل مصر – في ذلك الوقت – قدسية على البقر والثور الى حدّ العبادة، وقد ترعرع بنو اسرائيل في هذه المنطقة وبين احضان هذه البيئة والاجواء فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يُفهم من حادثة ((العجل)) المعروفة.

وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الامة، وتنامى في استعداداتهم.

فالقرآن الكريم انما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.

فافهم قياساً على هذا:

ان الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تأريخية، انما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى ان كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستوراً كلياً عظيماً، كما بيّنا في كتابنا ((اللوامع)) راجعه ان شئت.

C النكتة الثالثة:

قوله تعالى: ] ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ^ وانّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهار ^ وان منها لما يشّقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون[ (البقرة:74 - 76)

عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموسوس:

ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للاحجار الاعتيادية وبيانها كأنها مسألة عظيمة، مع انها معلومة لدى الناس؟ وما وجه العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة اليها؟

فاُلهم قلبي الالهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:

نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر الاّ لإعجاز القرآن وايجازه ولطف ارشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.

ان الايجاز الذي هو اساس مهم من اسس الاعجاز، وكذا لطف الارشاد وحسن الافهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وان لا تبين لاولئك البسطاء في تفكيرهم الاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها..

زد على ذلك ينبغي ان تبين لهم التدابير الإلهية تحت الارض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والألفة، بصورة مجملة.

فبناء على هذا:

يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات: يا بنى اسرائيل ويا بنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم واصبحت أصلب من الحجر واقسى منها! ألا ترون ان اصلب الصخور واصمها، التي تشكل طبقة عظيمة من الاحجار الصلدة تحت التراب، مطيعة للاوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة الى الاجراءات الربانية انقياداً كاملاً. فكما تجري الاوامر الإلهية في تكوين الاشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصماء الصلدة تحت الارض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى ان جداول الماء وعروقها تحت الارض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون ان تجد عائقاً أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود(1).



ثم ان الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بامر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الارض دون ان يقف امامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار اغصان الاشجار والنباتات في الهواء.

فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة الى حقيقة واسعة جداً، ويرشد اليها مخاطباً القلوب القاسية مرمزاً اليها على النحو الآتي:

يا بني اسرائيل ويا بنى آدم! ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم! انها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصلدة الهائلة، ولا تعصيه امراً، بل تؤدي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الارض. بل تقوم تلك الصـخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للاحياء الذين يدبون على تراب الارض. حتى انها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل، فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقة هواء النسيم، نعم! انها في سجدة دائمة امام عظمة قدرته جل جلاله.

فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة امامنا فوق الارض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي ايضاً بعينها تجري تحت الارض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً واغرب منها انتظاماً.

تأملوا جيداً! ان اصلب الصخور واضخمها واصمّها تلين ليونة الشمع تجاه الاوامر التكوينية، ولا تبدي اية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية اي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول تراباً في طريقهن..

وكذا قوله تعالى ] وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ فانه يبيّن طرفاً من حقيقة عظيمة جداً هي:

ان الجبال التي على سطح الارض، والتي تجمدت بعد ان كانت في حالة مائعة وسائلة. واصبحت كتلاً ضخمة من الصخور الصلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات ارضية، مثلما تناثر واصبح دكاً ذلك

الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جل جلاله.

فتلك الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر اجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج الى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها اهلُ الارض في كثير من الامور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن امورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى، فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.

فلا ريب ان ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الاماكن الواطئة في تواضع جم، وتسببها لمنافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثاً ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء ايضاً، بل هو تدبير رب قدير حكيم يحدثه بانتظام وحكمة وإن بدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.

والدليل على هذا الفوائد والمنافع التي تجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحلل التي تخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالازاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.

وهكذا رأيتم كيف أن هذه الآيات الثلاث لها اهميتها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.

والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي اعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفاً وجزءاً من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جداً، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه الى ثلاث حوادث اخرى لتكون مدار عبرة لأولى الالباب ويزجرهم زجراً لا يقاوم.

فمثلاً: يشير في الفقرة الثانية ] وإنّ منها لما يشّـقّق فيخرجُ منه الماءُ[ الى الصخرة التي انشقت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عشرة عيناً، وفي الوقت نفسه يورد الى الذهن هذا المعنى ويقول:

يا بنى اسرائيل! ان الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموع كالسيل من خشيتها أو من سرورها فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلها، ولا تدمع اعينكم بل تجمد وتغلظ قلوبكم وتقسو.

ويذكّر في الفقرة الثالثة: ] وانّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طورسيناء، اثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلي الإلهي الاعظم الى الجبل وجعله دكاً حتى تفتت وتناثر في الارجاء من خشيته سبحانه. ويرشد في الوقت نفسه الى معنى كهذا:

يا قوم موسى (عليه السلام) كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون انه قد أخذ الميثاق منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمكم تشقق الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبكم؟.

ويذكّر في الفقرة الاولى ] وإنّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهارُ[ مشيراً الى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الاحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الاوامر التكوينية ومدى كونها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوب المتيقظة هذا المعنى:

انه لا يمكن قطعاً ان تكون هذه الجبال الضخمة منابع حقيقية لمثل هذه الانهار العظيمة لأنه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءة بالماء، اي لو اصبحت احواضاً مخروطية لتلك الانهار، فانها لا تكفي لصرفيات تلك الانهار الا لبضعة شهور وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلاً عن ان الامطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون ايضاً واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.

بمعنى ان تفجّر هذه الانهار ليس امراً اعتيادياً طبيعياً، أو من قبيل المصادفة، بل ان الفاطر الجليل يسيّلها من خزينة الغيب وحدها، ويجريها منها جرياناً خارقاً. واشارة الى هذا افادت رواية الحديث الشريف بهذا المعنى: ان كلاً من تلك الانهار الثلاثة تقطر عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا اصبحت مباركة. وفي رواية ان منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة(1) وحقيقة هذه الرواية هي:

ان الاسباب المادية لا تكفي لتفجر هذه الانهار وتدفقها بهذه الكثرة، فلابد ان تكون منابعها في عالم غيب، وانها ترد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم. وهكذا يعلّم القرآن الكريم درساً بليغاً وينبّه الى هذا المعنى:

يا بني اسرائيل ويا بني آدم! انكم بقساوة قلوبكم تعصون اوامر رب جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونكم عن نور معرفة ذلك النور المصور الذي حوّل ارض مصر الى جنة وارفة الظلال واجرى النيل العظيم المبارك وامثاله من الانهار من افواه احجار صلدة بسيطة مظهراً معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الانهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وافاضاتها. فيضـع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها الى دماغ الارض، ويسيّلها في قلوب الجن والانس وفي عقولهم.

ثم انه سبحانه وتعالى يجعل صخوراً جامدة لا تملك شعوراً قط(1) تنال معجزات قدرته حتى انها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى ابصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟

فانظر! كيف لبست هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقق النظر في بلاغة الارشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية امام ذلك الارشاد البليغ.

فان كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة الى نهايتها، فشاهد لمعة اعجاز اسلوب الارشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللّهم فهّمنا اسرار القرآن كما تحب وترضى ووفقنا لخدمته..

آمين

برحمتك يا ارحم الراحمين.

اللّهم صل وسلم على من اُنزل عليه القرآن الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقام الثاني

من الكلمة العشرين

لمعة اعجاز قرآني تتلألأ على وجه معجزات الانبياء

((أنعم النظر في الجوابين المذكورين في الختام))

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ مبين[ (الانعام:59)

لقد كتبتُ قبل أربع عشرة سنة(1) بحثاً يخص سراً من أسرار هذه الآية الكريمة في تفسيري الذي كتبته باللغة العربية الموسوم بـ ((اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) والآن استجابة لطلب أخوين كريمين عزيزين عندي اكتب ايضاحاً باللغة التركية لذلك البحث، مستعيناً بتوفيق العلي القدير ومستلهماً من فيض القرآن الكريم، فأقول:

ان ((كتاب مبين)) - على قول - هو القرآن الكريم. فهذه الآية الكريمة تبيّن أنه: ما من رطب ولا يابس إلاّ وهو في القرآن الكريم.

أتراه كذلك؟

-نعم! ان في القرآن كل شئ. ولكن لا يستطيع كل واحد أن يرى فيه كلَّ شئ. لأن صور الاشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم، فأحياناً توجد بذور الشئ أو نواه، واحياناً مجمل الشئ أو خلاصته، واحياناً دساتيره، واحياناً توجد عليه علامات. ويرد كل من هذه الدرجات؛ اما صراحة أو اشارة أو رمزاً أو ابهاماً أو تنبيهاً. فيعبّر القرآن الكريم عن اغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة.

فمثلاً: ان الطائرة والكهرباء والقطار واللاسلكي وامثالها من منجزات العلم والصناعة - التكنلوجيا الحديثة - والتي تعدّ حصيلة التقدم الانساني ورقيه في مضمار الصناعة والعلم، أصبحت هذه الاختراعات موضع اهتمام الانسان، وتبوأت مكانة خاصة في حياته المادية.

لذا فالقرآن الكريم الذي يخاطب البشرية قاطبة لم يهمل هذا الجانب من حياة البشر، بل قد أشار الى تلك الخوارق العلمية من جهتين:

الجهة الاولى: اشار اليها عند اشارته الى معجزات الانبياء عليهم السلام.

الجهة الثانية: اشار اليها عند سرده بعض الحوادث التاريخية.

فعلى سبيل المثال: فقد اشار الى القطار في الآيات الكريمة الآتية:

] قُتلَ اصحابُ الاخدود ^ النارِ ذاتِ الوَقُودِ ^ اذ هُم عليها قُعودٌ^ وهُم على ما يفعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ^ وما نَقَموا منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيزِ الحميد[ .(1) (البروج: 4ـ 8)

وايضاً:

] في الفُلك المشحون ^ وخَلقنا لهم مِن مثلِهِ ما يَركبون[ (يس:41 - 42)

والآية الكريمة الآتية ترمز الى الكهرباء علاوة على اشارتها الى كثير من الأنوار والاسرار:

] الله نورُ السمواتِ والارض مثلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجُة كأنها كوكبٌ درّيٌّ يوقَدُ مِن شجرةٍ مُباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيٍة ولا غربيةٍ يكادُ زيتُها يُـضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدى الله لنوره مَن يشاءُ [ (2) (النور:35)

ولما كان الكثيرون من الفضلاء قد انصرفوا الى هذا القسم، وبذلوا جهوداً كثيرة في توضيحه علماً ان القيام ببحثه يتطلب دقة متناهية ويستدعي بسطاً للموضوع اكثر من هذا وايضاحاً وافياً. فضلاً عن وجود أمثلة وفيرة عليه، لذا لا نفتح هذا الباب، ونكتفي بالآيات المذكورة.

اما القسم الاول الذي يشير الى تلك الاختراعات الشبيهة بالخوارق ضمن اشارات القرآن الى معجزات الانبياء.. سنذكر نماذج منه.



المقدمة:

يبيّن القرآن الكريم ان الانبياء عليهم السلام قد بُعثوا الى مجتمعات انسانية ليكونوا لهم ائمة الهدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي. ويبين في الوقت نفسه ان الله قد وضع بيد كلٍ منهم معجزة مادية، ونَصَبهم روّاداً للبشرية واساتذة لها في تقدمها المادي ايضاً. أي انه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعاً كاملاً في الامور المادية والمعنوية؛ اذ كما يحض القرآنُ الكريم الانسانَ على الاستزادة من نور الخصال الحميدة التي يتحلى بها الانبياء عليهم السلام، وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية، فانه عند بحثه عن معجزاتهم المادية ايضاً يومئ الى إثارة شوق الانسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في ايديهم، ويشير الى حضّه على بلوغ نظائرها، بل يصح القول: ان يد المعجزة هي التي أهدت الى البشرية الكمال المادي وخوارقه لاول مرة، مثلما أهدت اليها الكمال المعنوي. فدونك سفينة نوح عليه السلام وهي احدى معجزاته، وساعة يوسف عليه السلام، وهي احدى معجزاته. فقد قدمتهما يدُ المعجزة لاول مرة هدية ثمينة الى البشرية. وهناك اشارة لطيفة الى هذه الحقيقة، وهي اتخاذ أغلب الصناع نبياً من الانبياء رائداً لصنعتهم وقطباً لمهنتهم. فالملاحون - مثلاً - اتخذوا سيدنا نوحاً عليه السلام رائدهم والساعاتيون اتخذوا سيدنا يوسف عليه السلام امامهم، والخياطون اتخذوا سيدنا ادريس عليه السلام مرشدهم..

ولما كان العلماء المحققون من أهل البلاغة قد اتفقوا جميعاً ان لكل آية كريمة وجوهاً عدة للارشاد، وجهات كثيرة للهداية، فلا يمكن اذاً ان تكون أسطع الآيات وهي آيات المعجزات، سرداً تاريخياً، بل لابد انها تتضمن ايضاً معاني بليغة جمة للارشاد والهداية.

نعم، ان القرآن الكريم بايراده معجزات الانبياء انما يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن ان يصل اليه الانسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها الى أبعد نهاياتها، وغاية ما يمكن ان تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعيّن أبعد الاهداف النهائية لها ويحددها، ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها اليها. اذ كما ان الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل ايضاً حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله.

وسنبين بضعة نماذج مثالاً، من ذلك النبع الفياض الواسع:

C فمثلاً: ] ولسليمنَ الريح غدوّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ[ (سبأ:12).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام.

وهي تسخير الريح له، أي أنه قد قطع في الهواء ما يقطع في شهرين في يوم واحد.

فالآية تشير الى ان الطريق مفتوح امام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء.

فيا ايها الانسان! حاول ان تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنزلة ما دام الطريق ممهداً أمامك.

فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة:

((ان عبداً من عبادي ترك هوى نفسه، فحمّلتُه فوق متون الهواء. وانت ايها الانسان! ان نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك ايضاً ان تمتطي صهوة الهواء)).

C ومثلاً: ] فقلنا اضربْ بعصاكَ الحجَر فانفجرتْ منه اثنتا عشرةَ عيناً..[ (البقرة:60)

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشير الى انه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الارض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من ارض صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا.

فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى:

يمكنكم ان تجدوا الماء الذي هو ألطف فيض من فيوضات الرحمة الإلهية، بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه.

فالله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية:

((ما دمتُ اسلّم بيد عبد يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها ان يفجّر الماء أينما شاء. فانت ايها الانسان ان اعتمدت على قوانين رحمتي، يمكنك أيضاً ان تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيا اسعَ لتجد تلك الآلة)).

فانت ترى كيف ان هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الانسان من استخراج الماء في اغلب الاماكن، والتي هي احدى وسائل رقي البشرية. بل ان الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الاولى أبعد النقاط النهائية، واقصى ما يمكن ان تبلغ اليه الطائرة الحاضرة.

C ومثلاً: ] وابرئ الاكمهَ والأبرصَ واُحيي الموتى بإذن الله..[ (آل عمران:49).

فالقرآن الكريم اذ يحث البشرية صراحة على اتباع الاخلاق النبوية السامية التي يتحلى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزاً الى النظر الى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.

فهذه الآية الكريمة تشير الى:

((انه يمكن ان يُعثر على دواء يشفي أشد الامراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس ايها الانسان، ولا تقنط ايها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسه بلون من الوان الحياة الموقتة)).

فالله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَركَ الدنيا لأجلي، وعافها في سبيلي، هديتين: احداهما دواء للاسقام المعنوية، والاخرى علاج للامراض المادية. فالقلوب الميتة تُبعث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الاموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرأون به. وانت ايها الانسان! بوسعك ان تجد في صيدلية حكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فانك لا محالة واجده وظافر به.

وهكذا ترى كيف ترسم هذه الآية الكريمة أقصى المدى وأبعد الأهداف التي يصبو اليها الطب البشري من تقدم.

فالآية تشير الى ذلك الهدف وتحث الانسان على الوصول اليه.

C ومثلاً: ] وألنّا لَهُ الحديدَ[ (سبأ:10)

] وآتيناهُ الحكمةَ وفصلَ الخطاب[ (ص:20)

هاتان الآيتان تخصان معجزة سيدنا داود عليه السلام. والآية الكريمة ] وأسَلنا له عَينَ القِطرِ[ (سبأ:12) تخص معجزة سيدنا سليمان عليه السلام. فهذه الآيات تشير الى:

ان تليين الحديد نعمة إلهية عظمى، اذ يبين الله به فضل نبيٍ عظيم. فتليين الحديد وجعله كالعجين، واذابة النحاس وايجاد المعادن وكشفها هو اصل جميع الصناعات البشرية، واساسها. وهو أم التقدم الحضاري من هذا الجانب ومعدنه.

فهذه الآية تشير الى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله اسلاكاً رفيعة واسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفة للارض عظيم. فما دام سبحانه قد كرم مَن هو رسولٌ وخليفة معاً، فوهب للسانه الحكمة وفصل الخطاب، وسلّم الى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الاقتداء بما وهب للسانه حضاً صريحاً، فلابد ان هناك اشارة ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.

فسبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيت عبداً من عبادي اطاع اوامري وخضع لما كلفته به، آتيت لسانه فصل الخطاب، وملأتُ قلبه حكمةً ليفصل كل شئ على بينة ووضوح.

ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديد كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء اركان خلافته وادامة دولته وحكمه. فما دام هذا الامر ممكناً وواقعاً فعلاً، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية فانتم يابني آدم إن اطعتم اوامري التكوينية تُوهَب لكم ايضاً تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن ان تقتربوا منهما وتبلغوهما.

وهكذا فان بلوغ البشرية أقصى امانيها في الصناعة، وكسبها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، انما هو بتليين الحديد وباذابة النحاس - القطرـ فهذه الآيات

الكريمة تستقطب انظار البشرية عامة الى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين اليها، فتنبه اولئك الذين لا يقدرونها حق قدرها.

C ومثلاً: ] قالَ الذي عندهُ علمٌ ِمن الكتابِ أنا اتيكَ به قبلَ أن يرتدّ اليكَ طرفُكَ فلما رآهُ مستقراً عندهُ..[ (النمل:40).

فهذه الآية تشير الى ان احضار الاشياء من مسافات بعيدة - عيناً أو صورة - ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحد وزرائه الذي اوتي علماً غزيراً في ((علم التحضير)): انا اتيك بعرش بلقيس.

ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلك والنبوة معاً، واكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على احوال رعاياه، ومشاهدة اوضاعهم، وسماع مظالمهم. فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصونه من الشطط في امور الرعية. وهي وسيلة قوية لبسط راية العدالة على ارجاء المملكة.

فمن يعتمد على الله سبحانه اذاً ويطمئن اليه، ويسأله بلسان استعداداته وقابلياته التي فُطر عليها، وسار في حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية، يمكن ان تتحول له الدنيا الواسعة كأنها مدينة منتظمة امامه كما حدث لسليمان عليه السلام الذي طلب بلسان النبوة المعصومة إحضار عرش بلقيس فأحضر في طرفة عين وصار ماثلاً امامه - بعينه أو بصورته - في بلاد الشام بعد ان كان في اليمن. ولاشك ان اصوات رجال الحاشية الذين كانوا حول العرش قد سُمعتْ مع مشاهدة صورهم.

فهذه الآية تشير اشارة رائعة الى احضار الصور والاصوات من مسافات بعيدة. فالآية تخاطب:

«ايها الحكام! ويا من تسلمتم امر البلاد! ان كنتم تريدون ان تسود العدالة انحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان - عليه السلام - واسعَوا مثله الى مشاهدة ما يجري في الارض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع ارجائها. فالحاكم العادل الذي يتطلع الى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والســلطان الــذي يرعـى شؤون ابناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل الى مبتـغــاه إلا اذا اسـتـطـــاع الاطـلاع - مـتى شاء - على اقطار مملكته. وعندئذٍ تعم العـدالة حـقاً، وينقذ نفـسه من المـحـاســبة والتبـعات المعنوية.

فالله سبحانه يخاطب بالمعنى الرمزي لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيتُ عبداً من عبادي حُكمَ مملكة واسعة شاسعة الارجاء، ومنحته الاطلاع المباشر على احوال الارض واحداثها ليتمكن من تطبيق العدالة تطبيقاً كاملاً، ولما كنتُ قد وهبت لكل انسان قابلية فطرية ليكون خليفة في الأرض، فلا ريب أنى قد زوّدتُه - بمقتضى حكمتي - ما يناسب تلك القابلية الفطرية من مواهب واستعدادات يتمكن بها من ان يشاهد الارض بأطرافها ويدرك منها ما يدرك. وعلى الرغم من أن الانسان قد لا يبلغ هذه المرتبة بشخصه الا انه يتمكن من بلوغها بنوعه. وان لم يستطع بلوغها مادياً، فانه يبلغها معنوياً - كما يحصل للاولياء الصالحين - فباستطاعتكم اذاً الاستفادة من هذه النعمة الموهوبة لكم. فسارعوا الى العمل الجاد واسعوا سعياً حثيثاً كي تحوّلوا الارض الى ما يشبه حديقة صغيرة غنّاء، تجولون فيها وترون جهاتها كلها وتسمعون احداثها واخبارها من كل ناحية منها غير ناسين وظيفة عبوديتكم. تدبروا الآية الكريمة:

] هوَ الذي جعلَ لكمُ الارضَ ذلولاً فامشوا في مناكِبها وكُلوا مِن رزقه واليه النشور[ (الملك:15).

وهكذا نرى كيف تومئ الآية الكريمة المتصدرة لهذا المثال الى اثارة همة الانسان، وبعث اهتماماته لاكتشاف وسيلة يستطيع بها احضار الصور والاصوات من أبعد الاماكن واقصاها ضمن ادق الصناعات البشرية.

C ومثلاً: ] وآخرين مقرّنين في الأصفاد[ (ص:38).

] ومنِ الشياطين مَن يغُوصونَ لهُ ويعملونَ عملاً دونَ ذلكَ وكنّا لهُم حافظين[ (الانبياء:82).

هذه الآيات الكريمة تفيد تسخير سيدنا سليمان عليه السلام الجن والشياطين والارواح الخبيثة، ومنعه شرورهم واستخدامهم في أمور نافعة. فالآيات تقول:

ان الجن الذين يلون الانسان في الأّهمية في سكنى الأرض من ذوي الشعور، يمكن ان يصبحوا خداماً للانسان، ويمكن ايجاد علاقة ولقاء معهم، بل يمكن للشياطين ان يضعوا عداءَهم مع الانسان ويخدموه مضطرين كما سخّرهم الله سبحانه وتعالى لعبدٍ من عباده المنقادين لأوامره.

بمعنى ان الله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآيات: ((أيها الانسان! اني اسخّر الجن والشياطين واشرارهم لعبدٍ قد أطاعني واجعلهم منقادين اليه مسخرين له، فانت ان سخّرت نفسك لأمري واطعتني، قد تُسخّر لك موجودات كثيرة بل حتى الجن والشياطين)) .

فالآية الكريمة تخط أقصى الحدود النهائية، وتعيّن أفضل السبل القويمة للانتفاع، بل تفتح السبيل أيضاً الى تحضير الارواح ومحادثة الجن الذي ترشح من امتزاج فنون الانسان وعلومه، وتظاهر مما تنطوي عليه من قوى ومشاعر فوق العادة، المادية منها والمعنوية. ولكن ليس كما عليه الامر في الوقت الحاضر حيث أصبح المشتغلون بهذه الأمور موضع استهزاء بل ألعوبة بيد الجن الذين ينتحلون أحياناً اسماء الأموات. وغدوا مسخّرين للشياطين والارواح الخبيثة، وانما يكون ذلك بتسخير أولئك باسرار القرآن الكريم مع النجاة من شرورهم.

C ثم ان الآية الكريمة:

] فارسلنا اليها روحَنا فتمثلَ لها بشراً سَويّاً[ (مريم:17).

هذه الآية وامثالها التي تشير الى تمثل الارواح، وكذا الآيات المشيرة الى جلب سيدنا سليمان - عليه السلام - للعفاريت وتسخيرهم له . هذه الآيات الكريمة مع اشارتها الى تمثل الروحانيات فهي تشير الى تحضير الأرواح ايضاً. غير ان تحضير الارواح الطيبة - المشار اليه في الآيات - ليس هو بالشكل الذي يقوم به المعاصرون من إحضار الارواح الى مواضع لهوهم واماكن ملاعبهم والذي هو هزل رخيص واستخفاف لا يليق بتلك الارواح الموقرة الجادة، التي تعمر عالماً كله جدّ لا هزل فيه، بل يمكن تحضيرالارواح بمثل ما قام به اولياء صالحون لأمر جاد ولقصد نبيل هادف - من امثال محي الدين بن عربي - الذين كانوا يقابلون تلك الارواح الطيبة متى شاؤا، فاصبحوا هم منجذبين اليها ومنجلبين لها ومرتبطين معها ومن ثم الذهاب الى مواضعها والتقرب الى عالمها والاستفادة من روحانياتها، فهذا هو الذي تشير اليه الآيات الكريمة وتُشعر في اشارتها حضاً وتشويقاً للانسان وتخطّ اقصى الحدود النهائية لمثل هذه العلوم والمهارات الخفية، وتعرض أجمل صوره وأفضلها.

C ومثلاً:] إنّا سخّرنا الجبالَ معه يسبّحنَ بالعشيّ والإشراق[ (ص:18).

] يا جبالُ أوّبي مَعَه والطيرَ وألنّا له الحديد[ (سبأ:10).

] عُلِّمنا منطقَ الطير..[ (النمل:16).

هذه الآيات الكريمة التي تذكر معجزات سيدنا داود عليه السلام تدل على أن الله سبحانه قد منح تسبيحاته واذكاره من القوة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبال في وجدٍ وشوق، وكأنها حاكٍ عظيم تردد تسبيحاتٍ واذكاراً. أو كأنها انسان ضخم يسبّح في حلقة ذكر حول رئيس الحلقة.

اتُراك هذه حقيقة؟ وهل يمكن ان يحدث هذا فعلاً؟!

نعم! انها لحقيقة قاطعة، أليس كل جبل ذي كهوف يمكن ان يتكلم مع كل انسان بلسانه، ويردد كالببغاء ما يذكره؟ فان قلت (الحمد لله) أمام جبل،فهو يقول ايضاً: (الحمد لله) وذلك برجع الصدى.. فما دام الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه القابلية للجبال، فيمكن اذاً أن تنكشف هذه القابلية وتنبسط اكثر من هذا. وحيث ان الله سبحانه قد خص سيدنا داود عليه السلام بخلافة الأرض فضلاً عن رسالته، فقد كشف بذرة تلك القابلية لديه ونماها وبسطها بسطاً معجزاً عنده، بما يلائم شؤون الرسالة الواسعة والحاكمية العظيمة، حتى غدت الجبال الشم الرواسي منقادة اليه كأي جندي مطيع لأمره، وكأي صانع أمين لديه، وكأي مريد خاشع لذكره. فأصبحت تلك الجبال تسبح بحمد الخالق العظيم جلّ جلاله بلسانه عليه السلام وبأمره. فما كان سيدنا داود يذكر ويسبّح إلاّ والجبال تردد ما يذكره.

نعم، ان القائد في الجيش يستطيع ان يجعل جنوده المنتشرين على الجبال يرددون: (الله اكبر) بما لديه من وسائل الاتصال والمخابرات، حتى كأن تلك الجبال هي التي تتكلم وتهلل وتكبر! فلئن كان قائداً من الانس يستطيع أن يستنطق (مجازياً) الجبال بلسان ساكنيها، فكيف بقائد مهيب لله سبحانه وتعالى؟ الا يستطيع أن يجعل تلك الجبال تنطق نطقاً (حقيقياً) وتسبح تسبيحاً حقيقياً؟. هذا فضلاً عن اننا قد بينا في (الكلمات) السابقة ان لكل جبل شخصية معنوية خاصة به، وله تسبيح خاص ملائم له، وله عبادة مخصوصة لائقة به. فمثلما يسبّح كل جبل برجع الصدى باصوات البشر، فان له تسبيحات للخالق الجليل بألسنته الخاصة.

C وكذلك: ] والطيرَ محشورةً[ (ص:19).

] و عُلّمنا منطقَ الطير[ (النمل:16) هذه الآيات تبين ان الله سبحانه قد علّم سيدنا داود وسليمان عليهما السلام منطق انواع الطيور، ولغة قابلياتها واستعداداتها، أي: أيّ الاعمال تناسبها؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟

نعم! هذه الحقيقة هي الحقيقة الجليلة، إذ ما دام سطح الارض مائدة رحمانية اقيمت تكريماً للانسان، فيمكن اذاً ان تكون معظم الحيوانات والطيور التي تنتفع من هذه المائدة مسخّرة للانسان، ضمن تصرفه وتحت خدمته. فالانسان الذي استخدم النحل ودودة القز - تلكم الخَدَمة الصغار - وانتفع مما لديهم من إلهام إلهي، والذي استعمل الحمام الزاجل في بعض شؤونه وأعماله، واستنطق الببغاء وأمثاله من الطيور، فضمَّ الى الحضارة الانسانية محاسن جديدة، هذا الانسان يمكنه ان يستفيد اذاً كثيراً اذا ما عَلِم لسان الاستعداد الفطري للطيور، وقابليات الحيوانات الاخرى، حيث هي انواع وطوائف كثيرة جداً، كما استفاد من الحيوانات الأليفة. فمثلاً: اذا عَلِم الانسان لسان استعداد العصافير (من نوع الزرازير) التي تتغذى على الجراد ولا تدعها تنمو، واذا ما نسّق اعمالها فانه يمكن ان يسخّرها لمكافحة آفة الجراد. فيكون عندئذٍ قد انتفع منها واستخدمها مجاناً في امور مهمة.

فمثل هذه الانواع من استغلال قابليات الطيور والانتفاع منها، واستنطاق الجمادات من هاتف وحاكٍ، تخط له الآية الكريمة المذكورة المدى الاقصى والغاية القصوى.

فيقول الله سبحانه بالمعنى الرمزي لهذه الآيات الكريمة:

يا بني الانسان! لقد سخرتُ لعبد من بني جنسكم، عبد خالص مخلص، سخرتُ له مخلوقات عظيمة في ملكي وانطقتها له، وجعلتها خداماً امناء وجنوداً مطيعين له، كي تعصم نبوته، وتصان عدالته في ملكه ودولته. وقد أتيتُ كلاً منكم استعداداً ومواهب ليصبح خليفة الارض، واودعتُ فيكم أمانة عظمى، أبتِ السموات والارض والجبال ان يحملنها، فعليكم اذاً ان تنقادوا وتخضعوا لأوامر مَن بيده مقاليد هذه المخلوقات وزمامها، لتنقاد اليكم مخلوقاته المبثوثة في ملكه. فالطريق ممهد أمامكم ان استطعتم ان تقبضوا زمام تلك المخلوقات باسم الخالق العظيم، واذا سموتم الى مرتبة تليق باستعداداتكم ومواهبكم..

فما دامت الحقيقة هكذا فاسعَ ايها الانسان ان لا تنشغل بلهو لا معنى له، وبلعب لا طائل من ورائه، كالانشغال بالحاكي والحمام والببغاء.. بل اسعَ في طلب لهوٍ من ألطف اللهو وازكاه، وتسلَّ بتسلية هي من ألذ أنواع التسلية.. فاجعل الجبال كالحاكي لأذكارك، كما هي لسيدنا داود عليه السلام، وشنّف سمعك بنغمات ذكر وتسبيح الاشجار والنباتات التي تخرج أصواتاً رقيقة عذبة بمجرد مس النسيم لها وكأنها اوتار آلات صوتية.. فبهذا الذكر العلوي تُظهر الجبال لك الوفاً من الألسنة الذاكرة المسبحة، وتبرز أمامك في ماهية عجيبة من أعاجيب المخلوقات. وعندئذٍ تتزيا معظم الطيور وتلبس - كأنها هدهد سليمان - لباسَ الصديق الحميم والانيس الودود، فتصبح خداماً مطيعين لك. فتسليك أيما تسلية، وتلهيك لهواً بريئاً لا شائبة فيه، فضلاً عن ان هذا الذكر السامي يسوقك الى انبساط قابليات ومواهب كانت مغمورة في ماهيتك، فتحول بينك وبين السقوط من ماهية الانسان السامية ومقامه الرفيع، فلا تجذبك بعدُ اضراب اللهو التي لا مغزى لها الى حضيض الهاوية.

C ومثلاً: ] قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على ابراهيم[ (الانبياء:69).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة سيدنا ابراهيم عليه السلام، وفيها ثلاث اشارات لطيفة:

أولاها: النار - كسائر الاسباب - ليس أمرها بيدها، فلا تعمل كيفما تشاء حسب هواها وبلا بصيرة، بل تقوم بمهمتها وفق أمر يُفرض عليها. فلم تحرق سيدنا ابراهيم لانها أُمرت بعدم الحرق.

ثانيتها: ان للنار درجة تحرق ببرودتها، أي تؤثر كالاحتراق. فالله سبحانه يخاطب البرودة بلفظة:((سلاماً))(1) بأن لا تحرقي انتِ كذلك ابراهيم، كما لم تحرقه الحرارة. أي أن النار في تلك الدرجة تؤثر ببرودتها كأنها تحرق، فهي نار وهي برد.

نعم ان النار - كما في علم الطبيعيات - لها درجات متفاوتة، منها درجة على صورة نار بيضاء لا تنشر حرارتها بل تكسب مما حولها من الحرارة، فتجمد بهذه البرودة ما حولها من السوائل، وكأنها تحـرق ببرودتــها. وهكـذا الزمهــرير لـون من الوان النار تحرق ببرودتها، فوجوده اذن ضروري في جهنم التي تضم جميع درجات النار وجميع أنواعها.

ثالثتها: مثلما الايمان الذي هو (مادة معنوية) يمنع مفعول نار جهنم، وينجي المؤمنين منها. وكما ان الاسلام درع واقٍ وحصن حصين من النار، كذلك هناك (مادة مادية) تمنع تأثير نار الدنيا، وهي درع أمامها، لان الله سبحانه يجري اجراءاته في هذه الدنيا - التي هي دار الحكمة - تحت ستار الاسباب وذلك بمقتضى اسمه (الحكيم)، لذا لم تحرق النار جسم سيدنا ابراهيم عليه السلام مثلما لم تحرق ثيابه وملابسه ايضاً. فهذه الآية ترمز الى:

((يا ملة ابراهيم! اقتدوا بابراهيم! كي يكون لباسكم لباس التقوى وهو لباس ابراهيم، وليكون حصناً مانعاً ودرعاً واقياً في الدنيا والآخرة تجاه عدوكم الاكبر، النار. فلقد خبأ سبحانه لكم مواداً في الارض تحفظكم من شر النار، كما يقيكم لباس التقوى والايمان الذي ألبستموه أرواحكم، شر نار جهنم.. فهلموا واكتشفوا هذه المواد المانعة من الحرارة واستخرجوها من باطن الارض والبسوها)).

وهكذا وجد الانسان حصيلة بحوثه واكتشافاته مادة لا تحرقها النار، بل تقاومها فيمكنه ان يصنع منها لباساً وثياباً.

فقارن هذه الآية الكريمة، وقس مدى سموها وعلوها على اكتشاف الانسان للمادة المضادة للنار، واعلم كيف انها تدل على حلة قشيبة نسجت في مصنع (حنيفاً مسلماً) لا تتمزق ولا تخلق وتبقى محتفظة بجمالها وبهائها الى الابد.

C ومثلاً: ] وعلّم آدمَ الاسماءَ كلها[ (البقرة:31).

تبين هذه الآية ان المعجزة الكبرى لآدم عليه السلام - في دعوى خلافته الكبرى - هي تعليم الاسماء.

فمثلما ترمز معجزات سائر الانبياء الى خارقة بشرية خاصة لكل منهم، فان معجزة ابي الانبياء وفاتح ديوان النبوة آدم عليه السلام تشير اشارة قريبة من الصراحة الى منتهى الكمال البشري، وذروة رقيه، والى أقصى أهدافه، فكأن الله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

((يا بني آدم!.. ان تفوّق أبيكم آدم في دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمتُه الاسماء كلها، وأنتم بنوه ووارثو استعداداته ومواهبه فعليكم أن تتعلموا الاسماء كلها لتثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات لتسنم الامانة العظمى، فلقد مُهّد الطريق أمامكم لبلوغ اسمى المراتب العالية في الكون، وسُخرت لكم الارض، هذه المخلوقة الضخمة، فهيا انطلقوا وتقدموا، فالطريق مفتوح أمامكم.. واستمسكوا بكل اسم من اسمائي الحسنى، واعتصموا به، لتسموا وترتفعوا. واحذروا! فلقد أغوى الشيطان أباكم مرة واحدة، فهبط من الجنة - تلك المنزلة العالية - الى الارض موقتاً. فاياكم ان تتبعوا الشيطان في رقيكم وتقدمكم، فيكون ذريعة ترديكم من سموات الحكمة الإلهية الى ضلالة المادية الطبيعية.. ارفعوا رؤوسكم عالياً، وانعموا النظر والفكر في اسمائي الحسنى، واجعلوا علومكم ورقيكم سلماً ومراقي الى تلك السموات، لتبلغوا حقائق علومكم وكمالكم، وتصلوا الى منابعها الاصلية، تلك هي أسمائي الحسنى.

وانظروا بمنظار تلك الاسماء ببصيرة قلوبكم الى ربكم)).

بيان نكتة مهمة وايـضاح سر أهم

ان كل ما ناله الانسان - من حيث جامعية ما أودع الله فيه من استعدادات - من الكمال العلمي والتقدم الفني، ووصوله الى خوراق الصناعات والاكتشافات، تعبّر عنه الآية الكريمة بتعليم الاسماء: ] وعلم آدم الاسماء كلها[ . وهذا التعبير ينطوي على رمزٍ رفيع ودقيق، وهو:

ان لكل كمال، ولكل علم، ولكل تقدم، ولكل فن - أياً كان - حقيقة سامية عالية. وتلك الحقيقة تستند الى اسم من الاسماء الحسنى، وباستنادها الى ذلك الاسم - الذي له حُجُب مختلفة، وتجليات متنوعة، ودوائر ظهور متباينة - يجد ذلك الفن وذلك الكمال وتلك الصنعة، كلٌ منها كمالَه، ويصبح حقيقةً فعلاً، وإلا فهو ظل ناقص مبتور باهت مشوش.

فالهندسة - مثلاً - علم من العلوم، وحقيقتُها وغاية منتهاها هي الوصول الى اسم (العدل والمقدِّر) من الاسماء الحسنى، وبلوغ مشاهدة التجليات الحكيمة لذلك الاسم بكل عظمتها وهيبتها في مرآة علم (الهندسة).

والطب - مثلاً - علم ومهارة ومهنة في الوقت نفسه، فمنتهاه وحقيقته يستند ايضاً الى اسم من الاسماء الحسنى وهو (الشافي). فيصل الطب الى كماله ويصبح حقيقة فعلاً بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم (الشافي) في الادوية المبثوثة على سطح الارض الذي يمثل صيدلية عظمى.

والعلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات - كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان .. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية..

فاليك الامثلة الثلاثة كما مرت.. قس عليها بقية العلوم والفنون والكمالات..

وهكذا يضرب القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة يد التشويق على ظهر البشرية مشيراً الى اسمى النقاط وأبعد الحدود واقصى المراتب التي قصرت كثيراً عن الوصول اليها في تقدمها الحاضر، وكأنه يقول لها: هيا تقدمي.

نكتفي بهذا الجوهر النفيس من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، ونغلق هذا الباب.

ومثلاً: ان خاتم ديوان النبوة، وسيد المرسلين، الذي تعدّ جميع معجزات الرسل معجزة واحدة لتصديق دعوى رسالته، والذي هو فخر العالمين، وهو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الاسماء الحسنى كلها التي علمها الله سبحانه آدم عليه السلام تعليماً مجملاً.. ذلكم الرسول الحبيب محمد e الذي رفع اصبعه عالياً بجلال الله فشق القمر وخفض الاصبع المبارك نفسه بجمال الله ففجر ماء كالكوثر.. وأمثالها من المعجزات الباهرات التي تزيد على الألف.. هذا الرسول الكريم أظهر القرآن الكريم معجزة كبرى تتحدى الجن والانس: ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً[ (الاسراء:88) فهذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات تجلب انظار الانس والجن الى ابرز وجوه الاعجاز في هذه المعجزة الخالدة واسطعها، فتلفتها الى ما في بيانه -الحقَ والحقيقةَ- من جزالة، والى ما في تعابيره من بلاغة فائقة، والى ما في معانيه من جامعية وشمول، والى ما في اساليبه المتنوعة من سمـو ورفعة وعــذوبة.. فتحدّى القرآن المعجز، وما زال كذلك يتحدى الانس والجن قاطبة، مثيراً الشوق في اوليائه، محركاًَ ساكن عناد اعدائه، دافعاً الجميع الى تقليده، بشوق عظيم وترغيب شديد، للاتيان بنظيره، بل انه سبحانه يضع هذه المعجزة الكبرى أمام انظار الانام في موقع رفيع لكأن الغاية الوحيدة من مجئ الانسان الى هذه الدنيا ليست سوى اتخاذه تلك المعجزة العظمى دستور حياته، وغاية مناه.

نخلص مما تقدم: ان كل معجزة من معجزات الانبياء عليهم السلام تشير الى خارقة من خوارق الصناعات البشرية. أما معجزة سيدنا آدم عليه السلام فهي تشير الى فهرس خوارق العلوم والفنون والكمالات، وتشوق اليها جميعاً مع اشارتها الى اسس الصنعة اشارة مجملة مختصرة.

أما المعجزة الكبرى للرسول الاعظم e وهي القرآن الكريم ذو البيان المعجر، فلأن حقيقة تعليم الاسماء تتجلى فيه بوضوح تام، وبتفصيل أتم، فانه يبين الاهداف الصائبة للعلوم الحقة وللفنون الحقيقية، ويُظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر اليها ويوجهه نحوها، مثيراً فيه رغبة شديدة فيها، حتى انه يبين بأسلوب التشويق أن« أيها الانسان! المقصد الاسمى من خلق هذا الكون هو قيامك أنت بعبودية كلية تجاه تظاهر الربوبية، وان الغاية القصوى من خلقك انت هي بلوغ تلك العبودية بالعلوم والكمالات».

فيعبر بتعابير متنوعة رائعة معجزة مشيراً بها الى:

ان البشرية في أواخر ايامها على الارض ستنساب الى العلوم، وتنصب الى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلم زمام الحكم والقوة.

ولما كان القرآن الكريم يسوق جزالة البيان وبلاغة الكلام مقدماً ويكررهما كثيراً، فكأنه يرمز الى ان البلاغة والجزالة في الكلام - وهما من اسطع العلوم والفنون - سيلبسان ازهى حللهما واروع صورهما في آخر الزمان، حتى يغدو الناس يستلهمون أمضى سلاحهم من جزالة البيان وسحره، ويستلمون أرهب قوتهم من بلاغة الاداء، وذلك عند بيان أفكارهم ومعتقداتهم لإقناع الاخرين بها، أو عند تنفيذ آرائهم وقراراتهم..

نحصل مما سبق: أن أكثر الآيات الكريمة انما هي مفتاح لخزينة كمال فائق، ولكنز علمي عظيم. فان شئت ان تبلغ سماوات القرآن الكريم ونجوم الايات فاجعل (الكلمات العشرين السابقة) عشرين درجاً لسلم الوصول اليها(1)، وشاهدْ بها مدى سطوع شمس القرآن العظيم، وتأملْ كيف ينشر القرآن نوره باهراً على حقيقة الالوهية وحقائق الموجودات، والمخلوقات، وكيف ينشر الضياء الساطع على كل الموجودات.

النتيجة: ما دامت الآيات التي تخص معجزات الانبياء عليهم السلام لها نوع من الاشارة الى خوارق التقدم العلمي والصناعي الحاضر، ولها طراز من التعبير كأنه يخط أبعد الحدود النهائية لها.. وحيث أنه ثابت قطعاً أن لكل آية دلالات على معانٍ شتى بل هذا متفق عليه لدى العلماء.. ولما كان هناك أوامر مطلقة لإتباع الانبياء عليهم السلام والاقتداء بهم، لذا يصح القول:

انه مع دلالة الآيات المذكورة سابقاً على معانيها الصريحة هناك دلالات مشوّقة باسلوب الاشارة الى أهم العلوم البشرية وصناعاتها.

جوابان مهمان عن سؤالين مهمين

C أحدهما:اذا قلت: لما كان القرآن الكريم قد نزل لأجل الانسان، فَلِمَ لا يصرّح بما هو المهم في نظره من خوارق المدنية الحاضرة؟ وانما يكتفي برمز مستتر، وايماء خفي، واشارة خفيفة، وتنبيه ضعيف فحسب؟

فالجواب: ان خوارق المدنية البشرية لا تستحق أكثر من هذا القدر، اذ إن الوظيفة الاساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها ووظائف دائرة العبودية وأحوالها.

لذا فان حق تلك الخوارق البشرية وحصتها من تلك الدائرتين مجرد رمز ضعيف واشارة خفية ليس إلاّ.. فانها لو ادّعت حقوقها من دائرة الربوبية، فعندها لا تحصل إلاّ على حق ضئيل جداً.

فمثلاً: اذا طالبت الطائرة البشرية(1) القرآن الكريم قائلة:

((أعطني حقاً للكلام، وموقعاً بين آياتك)). فان طائرات دائرة الربوبية تلك الكواكب السيّارة والارض والقمر، ستقول بلسان القرآن الكريم:

- ((انكِ تستطيعين أن تأخذي مكانكِ هنا بمقدار جرمك لا أكثر)).

واذا أرادت الغواصة البشرية موقعاً لنفسها بين الآيات الكريمة فستتصدى لها غواصات تلك الدائرة؛ التي هي الارض السابحة في محيط الهواء، والنجوم العائمة في بحر الأثير قائلة:

- ((ان مكانك بيننا ضئيل جداً يكاد لا يُرى!)).

واذا ارادت الكهرباء ان تدخل حرم الآيات بمصابيحها اللامعة أمثال النجوم، فان مصابيح تلك الدائرة التي هي الشموس والشهب والانجم المزيّنة لوجه السماء، سترد عليها قائلة:

-((انك تستطيعين أن تدخلي معنا في مباحث القرآن وبيانه بمقدار ما تمتلكين من ضوء!!)).

ولو طالبت الخوارق الحضارية - بلسان صناعاتها الدقيقة - حقوقها وارادت لها مقاماً بين الآيات.. عندها ستصرخ ذبابة واحدة بوجهها قائلة:

- اسكتوا.. فليس لكم حق. ولو بمقدار أحد جناحيّ هذين! ولئن اجتمع كل ما فيكم من المصنوعات والأختراعات - التي اكتشف إكتساباً بارادة الانسان الجزئية - مع جميع الآلات الدقيقة لديكم، لن تكون أعجب بمقدار ما في جسمي الصغير جداً من لطائف الاجهزة ودقائق الصنعة. وان هذه الآية الكريمة تبهتكم جميعاً:

] إنَّ الذينَ تَدعون مِن دونِ الله لن يَخلُقوا ذباباً ولو اجتَمعوا له، وإن يسلُبْهم الذبابُ شيئاً لا يستنقنذوهُ منه، ضعُفَ الطالبُ والمطلوبُ[ (الحج:73)

واذا ذهبت تلك الخوارق الى دائرة العبودية وطلبت منها حقها فستتلقى منها مثل هذا الجواب:

-ان علاقتكم معنا واهية وقليلة جداً، فلا يمكنكم الدخول إلى دائرتنا بسهولة، لأن منهجنا هو:

ان الدنيا دار ضيافة، وان الانسان ضيف يلبث فيها قليلاً، وله وظائف جمة، وهو مكلف بتحضير وتجهيز ما يحتاجه لحياته الأبدية الخالدة في هذا العمر القصير، لذلك يجب عليه ان يقدّم ما هو الأهم والألزم.

إلاّ أنه تبدو عليكم - على اعتبار الأغلبية - ملامح نسجت بحب هذه الدنيا الفانية تحت أستار الغفلة واللهو وكأنها دار للبقاء ومستقر للخلود. لذا فان حظكم من دائرة العبودية المؤسّسة على هدى الحق والتفكر في آثار الآخرة، قليل جداً.

ولكن.. ان كان فيكم - أو من ورائكم - من الصناع المهرة والمخترعين الملهمين - وهم قلة - وكانوا يقومون بأعمالهم مخلصين لأجل منافع عباد الله - وهي عبادة ثمينة - ويبذلون جهدهم للمصلحة العامة وراحتهم لرقي الحياة الاجتماعية وكمالها، فان هذه الرموز والارشادات القرآنية كافية بلا ريب لأولئك الذوات المرهفي الاحساس، ووافية لتقدير مهاراتهم وتشويقهم الى السعي والاجتهاد.

C السؤال الثاني:

واذا قلت: لم تبق لديّ الآن بعد هذا التحقيق شبهة، فقد ثبت عندي بيقين وصدّقت؛ أن القرآن الكريم فيه جميع ما يلزم السعادة الدنيوية والأخروية كل حسب قيمته وأهميته، فهناك رموز واشارات الى خوارق المدنية الحاضرة بل الى أبعد منها من الحقائق الأخرى مع ما فيه من حقائق جليلة ولكن لِمَ لم يذكر القرآن الكريم تلك الخوراق بصراحة تامة كي تجبر الكفرة العنيدين على التصديق والايمان وتطمئن قلوبنا فتستريح؟.

الجواب:

ان الدين امتحان، وان التكاليف الإلهية تجربة واختبار من أجل أن تتسابق الارواح العالية والارواح السافلة، ويتميز بعضها عن بعض في حلبة السباق.

فمثلما يختبر المعدن بالنار ليتميز الالماس من الفحم والذهب من التراب؛ كذلك التكاليف الإلهية في دار الامتحان هذه. فهي ابتلاء وتجربة وسَوق للمسابقة حتى تتميز الجواهر النفيسة لمعدن قابليات البشر واستعداداته من المعادن الخسيسة.

فما دام القرآن قد نزل - في دار الابتلاء هذه - بصورة اختبار للانسان ليتم تكامله في ميدان المسابقة، فلابد انه سيشير - اشارة فحسب - الى هذه الأمور الدنيوية الغيبية التي ستتوضح في المستقبل للجميع، فاتحاً للعقل باباً بمقدار اقامة حجته. وإلاّ فلو ذكرها القرآن الكريم صراحة، لاختلتْ حكمة التكليف اذ تصبح بديهية مثل كتابة (لا إله إلاّ الله) واضحاً بالنجوم على وجه السماء، والذي يجعل الناس - أرادوا أم لم يريدوا - عندئذ مرغمين على التصديق، فما كانت ثمة مسابقة ولا اختبار ولا تمييز فحينئذٍ تتساوى الارواح السافلة التي هي كالفحم مع التي هي كالالماس(1).



والخلاصة:

ان القرآن العظيم، حكيمٌ يعطي لكل شئ قدره من المقام، ويرى القرآن من ثمرات الغيب التقدمَ الحضاري البشري قبل ألف وثلاثمائة سنة المستترة في ظلمات المستقبل، أفضل واوضح مما نراها نحن وسنراها. فالقرآن اذاً كلام مَن ينظر الى كل الأزمنة بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد..

فتلك لمعة من الأعجاز القرآني، تلمع في وجه معجزات الأنبياء.

اللهمَّ فَـهِّمنا أسرارَ القرآنِ وَوفِّقْنا لِخدْمتِهِ في كلِّ آنٍ وزمانٍ.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا[

اللّهم صلّ وسلّم وبارك وكرِّم على سيدنا ومولانا محمدٍ، عبدِك ونبيك ورسولِك النبي الأمّي وعلى آلهِ واصحابه وأزواجه وذرياته وعلى النبيين والمرسلين والملائكة المقربين والاولياء والصالحين، أفـضل صلاةٍ وأزكى سلامٍ وأنمى بركاتٍ، بعدد سُوَر القرآن وآياته وحروفه وكلماته ومعانيه واشاراته ورموزه ودلالاته، واغفر لنا وارحمنا والطف بنا يا إلهنا، يا خالقنا، بكل صلاة منها برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله رب العالمين

آمين

عبدالرزاق 02-02-2011 01:53 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الحادية والعشرون



عبارة عن مقامين

المقام الاول

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً[ (النساء: 103)

قال لي احدهم يوماً وهو كبير سناً وجسماً ورتبة: ان اداء الصلاة حسنٌ وجميل، ولكن تكرارها كل يوم، وفي خمسة اوقات كثير جداً فكثرتها هذه تجعلها مملّة!..

وبعد مرور فترة طويلة على هذا القول، اصغيت الى نفسي فاذا هي ايضاً تردد الكلام نفسه!!. فتأملت فيها مليّاً، واذا بها قد أخذت بطريق الكسل الدرسَ نفسه من الشيطان، فعلمتُ عندئذ ان ذلك الرجل كأنه قد نطقَ بتلك الكلمات بلسان جميع النفوس الامّارة بالسوء، أو اُنطق هكذا.. فقلت: ما دامت نفسي التي بين جنبيّ امارةٌ بالسوء فلابد أن ابدأ بها أولاً لأن من عجز عن اصلاح نفسه فهو عن غيرها اعجز.. فخاطبتها:

يا نفسي!.. اسمعيها مني ((خمسة تنبيهات)) مقابل ما تفوهتِ به، وانتِ منغمسة في الجهل المركب، سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل..

C التنبيه الاول:

يا نفسي الشقية!.. هل ان عمركِ ابدي؟وهل عندك عهد قطعي بالبقاء الى السنة المقبلة بل الى الغد؟ فالذي جعلكِ تملّين وتسأمين من تكرار الصلاة هو توهمكِ الابدية والخلود، فتظهرين الدلال وكأنك بترفك مخلّدة في هذه الدنيا.

فان كنت تفهمين ان عمركِ قصير، وانه يمضي هباء دون فائدة، فلا ريب أن صرف جزء من اربعة وعشرين منه في اداء خدمة جميلة ووظيفة مريحة لطيفة، وهي رحمة لك ووسيلة لحياة سعيدة خالدة، لا يكون مدعاة الى الملل والسأم، بل وسيلة مثيرة لشوق خالص ولذوقٍ رائع رفيع.

C التنبيه الثاني:

يا نفسي الشرهة!.. انكِ يومياً تاكلين الخبز، وتشربين الماء، وتتنفسين الهواء، أما يورث هذا التكرار مللاً وضجراً؟.. كلا.. دون شك.. لان تكرار الحاجة لا يجلب الملل بل يجدّد اللذة، لهذا؛ فالصلاة التي تجلب الغذاء لقلبي، وماء الحياة لروحي، ونسيم الهواء للّطيفة الربانية الكامنة في جسمي، لابد انها لا تجعلك تملّين ولا تسأمين ابداً.

نعم! ان القلب المتعرض لأحزانٍ وآلام لا حدّ لها، المفتون بآمال ولذائذ لا نهاية لها، لا يمكنه ان يكسب قوةً ولا غذاء الاّ بطرقِ باب الرحيم الكريم، القادر على كل شئ بكل تضرع وتوسل.

وان الروح المتعلقة باغلب الموجودات الآتية والراحلة سريعاً في هذه الدنيا الفانية، لا تشرب ماء الحياة الاّ بالتوجه بالصلاة الى ينبوع رحمة المعبود الباقي والمحبوب السرمدي.

وان السر الانساني الشاعر الرقيق اللطيف، وهو اللطيفة الربانية النورانية، والمخلوق للخلود، والمشتاق له فطرةً والمرآة العاكسة لتجليات الذات الجليلة.. لابد انه محتاج أشد الحاجة الى التنفس، في زحمة وقساوة وضغوط هذه الاحوال الدنيوية الساحقة الخانقة العابرة المظلمة، وليس له ذلك الاّ بالاستنشاق من نافذة الصلاة.

C التنبيه الثالث:

يا نفسي الجزعة!.. انك تضطربين اليوم من تذكر عناء العبادات التي قمت بها في الأيام الماضية، ومن صعوبات الصلاة وزحمة المصائب السابقة، ثم تتفكرين في واجبات العبادات في الايام المقبلة وخدمات اداء الصلوات، وآلام المصائب، فتظهرين الجزع، وقلة الصبر ونفاده. هل هذا أمرٌ يصدر ممَّن له مسكة من عقل؟.

ان مثلكِ في عدم الصبر هذا مثلُ ذلك القائد الاحمق الذي وجَّه قوةً عظيمة من جيشه الى الجناح الأيمن للعدو، في الوقت الذي إلتحقَ ذلك الجناح من صفوف العدو الى صفّه، فاصبح له ظهيراً. ووجّه قوته الباقية الى الجناح الايسر للعدو، في الوقت الذي لم يكن هناك أحدٌ من الجنود. فأدرك العدو نقطة ضعفه فسدد هجومَه الى القلب فدمّره هو وجيشَه تدميراً كاملاً.

نعم انك تشبهين هذا القائد الطائش، لأن صعوبات الايام الماضية وأتعابها قد ولّت، فذهبت آلامُها وظلت لذّتها وانقلبت مشقتها ثواباً، لذا لا تولّد مللاً بل شوقاً جديداً وذوقاً نديّاً وسعياً جاداً دائماً للمضي والاقدام. أما الايام المقبلة، فلأنها لم تأتِ بعدُ، فان صرف التفكير فيها من الآن نوعٌ من الحماقة والبله، اذ يشبه ذلك، البكاء والصراخ من الآن، لما قد يحتمل ان يكون من العطش والجوع في المستقبل!.

فما دام الامر هكذا، فان كان لك شئ من العقل، ففكري من حيث العبادة في هذا اليوم بالذات. قولي: سأصرف ساعة منه في واجبٍ مهم لذيذ جميل، وفي خدمةٍ سامية رفيعة ذات أجر عظيم وكلفة ضئيلة.. وعندها تشعرين أن فتورك المؤلم قد تحوّل الى همة حلوة، ونشاط لذيذ.

فيا نفسي الفارغة من الصبر.. انك مكلفة بثلاثة أنواع من الصبر.

الأول: الصبر على الطاعة.

الثاني: الصبر عن المعصية.

الثالث: الصبر عند البلاء.

فان كنتِ فطنة فخذي الحقيقة الجلية في مثال القائد - في هذا التنبيه - عبرةً ودليلاً، وقولي بكل همة ورجولة: يا صبور. ثم خذي على عاتقك الانواع الثلاثة من الصبر. واستندي الى قوة الصبر المودعة فيك وتجمّلي بها، فانها تكفي للمشقات كلها، وللمصائب جميعها ما لم تبعثريها خطأ في أمور جانبية..

C التنبيه الرابع:

يا نفسي الطائشة!.. يا تُرى هل ان اداء هذه العبودية دون نتيجة وجدوى؟! وهل ان أجرتها قليلة ضئيلة حتى تجعلك تسأمين منها؟. مع ان أحدنا يعمل الى المساء ويكدّ دون فتور إن رغّبه احدٌ في مالٍ أو أرهبه.

ان الصلاة التي هي قوتٌ لقلبك العاجز الفقير وسكينةٌ له في هذا المضيف الموقت وهو الدنيا. وهي غذاءٌ وضياء لمنزلك الذي لابد انك صائرة اليه، وهو القبر. وهي عهدٌ وبراءةٌ في محكمتك التي لا شك انك تحشرين اليها. وهي التي ستكون نوراً وبُراقاً على الصراط المستقيم الذي لابد انك سائرة عليه.. فصلاة هذه نتائجها هل هي بلا نتيجة وجدوى؟ أم انها زهيدة الاجرة؟..

واذا وَعَدَكِ أحدٌ بهدية مقدارها مائة ليرة، فسوف يستخدمك مائة يوم وانت تسعَين وتعملين معتمدة على وعده دون ملل وفتور، رغم انه قد يخلف الوعد. فكيف بمن وعدك، وهو لا يخلف الوعد قطعاً؟ فخُلف الوعد عنده محال! وعدك اجرةً وثمناً هي الجنة، وهدية عظيمة هي السعادة الخالدة، لتؤدي له واجباً ووظيفة لطيفة مريحة وفي فترة قصيرة جداً. ألا تفكرين في أنك ان لم تؤدي تلك الوظيفة والخدمة الضئيلة، أو قمتِ بها دون رغبة أو بشكلٍ متقطع، فانك اذن تستخفين بهديته، وتتهمينه في وعده! الا تستحقين اذن تأديباً شديداً وتعذيباً اليماً؟. الا يثير همتك لتؤدي تلك الوظيفة التي هي في غاية اليسر واللطف خوف السجن الابدي وهو جهنم، علماً انك تقومين باعمال مرهقة وصعبة دون فتور خوفاً من سجن الدنيا، واين هذا من سجن جهنم الابدي؟!

C التنبيه الخامس:

يا نفسي المغرمة بالدنيا!.. هل ان فتورك في العبادة وتقصيرك في الصلاة ناشئان من كثرة مشاغلك الدنيوية؟ ام انك لا تجدين الفرصة لغلبة هموم العيش؟!

فيا عجباً هل أنتِ مخلوقة للدنيا فحسب، حتى تبذلي كل وقتك لها؟. تأملي!! انك لا تبلغين اصغرَ عصفور من حيث القدرة على تدارك لوازم الحياة الدنيا رغم انك أرقى من جميع الحيوانات فطرةً. لِمَ لا تفهمين من هذا أن وظيفتكِ الاصلية ليس الانهماك بالحياة الدنيا والاهتمام بها كالحيوانات، وانما السعيُ والدأبُ لحياة خالدة كالانسان الحقيقي. مع هذا فان اغلب ما تذكرينه من المشاغل الدنيوية، هي مشاغل ما لا يعنيك من الامور، وهي التي تتدخلين فيها بفضول، فتهدرين وقتك الثمين جداً فيما لا قيمة له ولا ضرورة ولا فائدة منه.. كتعلّم عدد الدجاج في امريكا!! أو نوع الحلقات حول زحل. وكأنك تكسبين بهذا شيئاً من الفَلك والاحصاء!! فتَدَعين الضروري والأهم والألزم من الامور كأنك ستعمّرين آلاف السنين؟.

فان قلت: ان الذي يصرفني ويفترني عن الصلاة والعبادة ليس مثل هذه الامور التافهة، وانما هي امور ضرورية لمطالب العيش. اذن فاسمعي مني هذا المثل:

ان كانت الاجرة اليومية لشخصٍ مائة قرش وقال له أحدهم تعال واحفر لعشر دقائق هذا المكان فانك ستجد حجراً كريماً كالزمرد قيمتُه مائة ليرة، كم يكون عذراً تافهاً بل جنوناً إن رفض ذلك بقوله: لا.. لا أعمل.. لأن اجرتي اليومية ستنقص!..

وكذلك حالك، فان تركت الصلاة المفروضة، فان جميع ثمار سعيك وعملك في هذا البستان ستنحصر في نفقةٍ دنيوية تافهة دون ان تجنى فائدتها وبركتها. بينما لو صرفت وقت راحتك بين فترات العمل في اداء الصلاة، التي هي وسيلةٌ لراحة الروح، ولتنفس القلب، يضاف عندئذٍ الى نفقتك الاخروية وزاد آخرتك مع نفقتك الدنيوية المباركة، ما تجدينه من منبع عظيم لكنزَين معنويين دائمين وهما:

الكنز الأول: ستأخذ(1) حظك ونصيبك من (تسبيحات) كل ما هيأته بنيّة خالصة، من ازهار وثمار ونباتات في بستانك.

الكنز الثاني: ان كل مَن يأكل من محاصيل بستانك - سواء أكان حيواناً أم انساناً شارياً أو سارقاً - يكون بحكم (صدقةٍ جارية) لك، فيما اذا نظرت الى نفسك كأنك وكيلٌ وموظف لتوزيع مال الله سبحانه وتعالى على مخلوقاته. اي تتصرف باسم الرزاق الحقيقي وضمن مرضاته.

والآن تأمل في الذي ترك الصلاة، كم هو خاسرٌ خسراناً عظيماً؟. وكم هو فاقد من تلك الثروة الهائلة؟. وكيف انه سيبقى محروماً ومفلساً من ذينك الكنزين الدائمين اللذين يمدان الانسان بقوة معنوية للعمل ويشوّقانه للسعي والنشاط؟.. حتى اذا بلغ ارذل عمره، فانه سوف يملّ ويضجر مخاطباً نفسه: وما عليّ؟! لِمَ أتعب نفسي؟ لأجل مَن أعمل؟ فانني راحل من هذه الدنيا غداً!.. فيلقي نفسه في احضان الكسل.

بينما الرجل الاول يقول: سأسعى سعياً حثيثاً في العمل الحلال بجانب عبادتي المتزايدة كيما أرسل الى قبري ضياءاً أكثر وادّخر لآخرتي ذخيرة أزيد.

والخلاصة: اعلمي ايتها النفس!. ان الامس قد فاتكِ. أما الغد فلم يأت بعد، وليس لديك عهد أنك ستملكينه، لهذا فاحسبي عمرك الحقيقي هو هذا اليوم. وأقل القليل ان تلقي ساعة منه في صندوق الادّخار الاُخروي، وهو المسجد أو السجادة لتضمني المستقبل الحقيقي الخالد.

واعلمي كذلك أن كل يوم جديد هو بابٌ ينفتح لعالم جديد - لك ولغيرك - فان لم تؤدي فيه الصلاة فان عالم ذلك اليوم يرحل الى عالم الغيب مُظلماً شاكياً محزوناً، وسيشهد عليك..

وان لكلٍ منا عالمه الخاص من ذلك العالم، وان نوعيته تتبع عملنا وقلبنا، مَثلُه في ذلك مثلُ المرآة، تظهر فيها الصورة تبعاً للونها ونوعيتها، فان كانت مسودّة فستظهر الصورة مسودّة.. وان كانت صقيلة فستظهر الصورة واضحة، وإلا فستظهر مشوهة تضخم أتفه شئ واصغره.. كذلك أنت، فبقلبك وبعقلك وبعملك يمكنك ان تغيري صورَ عالمكِ، وباختيارك وطوع ارادتك يمكنك ان تجعلي ذلك العالم يشهد لك أو عليك.

وهكذا ان ادّيت الصلاة وتوجهت بصلاتك الى خالق ذلك العالم ذي الجلال، فسيتنور ذلك العالم المتوجه اليك حالاً، وكأنك قد فتحت بنيّة الصلاة مفتاح النور فاضاءه مصباح صلاتك، وبدّد الظلمات فيه.. وعندها تتحول وتتبدل جميع الاضطرابات والاحزان التي حولك في الدنيا فتراها نظاماً حكيماً، وكتابة ذات معنى بقلم القدرة الربانية، فينساب نورٌ من انوار ] الله نور السموات والارض[ الى قلبك، فيتنور عالم يومك ذاك، وسيشهد بنورانيته لك عند الله..

فيا أخي! حذار ان تقول: أين صلاتي من حقيقة تلك الصلاة؟. اذ كما تحمل نواةُ التمرفي طياتها صفات النخلة الباسقة، الفرق فقط في التفاصيل والاجمال. كذلك صلاة العوام - من هم امثالي وامثالك - فيها حظٌ من ذلك النور وسرٌ من اسرار تلك الحقيقة، كما هي في صلاة ولي من أولياء الله الصالحين ولو لم يتعلق بذلك شعوره. أما تنورها فهي بدرجات متفاوتة، كتفاوت المراتب الكثيرة التي بين نواة التمر الى النخلة. ورغم أن الصلاة فيها مراتب اكثر فان جميع تلك المراتب فيها أساس من تلك الحقيقة النورانية.

اللّهم صل وسلم على من قال : (الصلاة عماد الدين)(1) وعلى آله وصحبه اجمعين.

المقام الثاني

من الكلمة الحادية والعشرين

[ يتضمن خمسة مراهم لخمسة جروح قلبية ]

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] وقل ربِّ اعوذُ بكَ من هَمَزات الشياطين ^ واَعوذُ بكَ ربِّ اَن يَحـضُرون[ (المؤمنون: 97 - 98)

ايها الاخ المبتلى بداء الوسوسة! ليت شعري هل تعلم بماذا تشبه وسوستك؟. إنها أشبه بالمصيبة؛ تبدأ صغيرة ثم تكبر شيئاً فشيئاً على مدى اهتمامك بها، وبقدر اهمالك اياها تزول وتفنى، فهي تعظم اذا استعظمتَها وتصغر اذا استصغرتَها. واذا ما خفتَ منها داستك ودوّختك بالعلل، وان لم تَخَفْ هانَتْ وخَنَستْ وتوارت. وان لم تعرف حقيقتها استمرت واستقرت، بينما اذا عرفت حقيقتها وسَبَرتَ غورها تلاشت واضمحلت. فما دام الأمر هكذا فسأشرح لك خمسة وجوه، من وجوهها التي تحدث كثيراً. عسى ان يكون بيانها - بعون الله - شفاء لصدورنا نحن كلينا. ذلك لأن الجهل مجلبةٌ للوساوس، بينما العلم على نقيضه دافع لشرها. فلو جهلتها أقبلت ودنتْ واذا ما عرفتها ولّت وادبرت.

C الوجه الاول - الجرح الأول:

ان الشيطان يلقى اولاً بشبهته في القلب، ثم يراقب صداها في الاعماق، فاذا انكرها القلب انقلب من الشبهة الى الشتم والسبّ، فيصوّر أمام الخيال ما يشبه الشتم من قبيح الخواطر السيئة والهواجس المنافية للآداب، مما يجعل ذلك القلب المسكين يئن تحت وطأة اليأس ويصرخ: واحسرتاه!. وامصيبتاه!.. فيظن الموسوس ان قلبه آثم، وانه قد اقترف السيئات حيال ربه الكريم، ويشعر باضطراب وانفعال وقلق، فينفلت من عقال السكينة والطمأنينة، ويحاول الانغماس في اغوار الغفلة.

أما ضماد هذا الجرح فهو:

ايها المبتلى المسكين! لا تخف ولا تضطرب! لأن ما مرّ أمام مرآة ذهنك ليس شتماً ولا سبّاً، وانما هو مجـرد صورٍ وخــيالاتٍ تمــر مــروراً أمــام مرآة ذهـنك وحيث ان تخيل الكفر ليس كفراً، فان تخيل الشتم ايضاً ليس شتماً، اذ من المعلوم في البديهية المنطقية: ان التخيل ليس بحكم بينما الشتم حُكمٌ. فضلاً عن هذا فان تلك الكلمات غير اللائقة لم تكن قد صدرت من ذات قلبك، حيث أن قلبك يتحسر منها ويتألم. ولعلها آتية من لمـّة شيطانية قريبة من القلب. لذا فان ضرر الوسوسة انما هو في توهم الضرر، اي ان ضرره على القلب هو ما نتوهمه نحن من اضرارها. لأن المرء يتوهم تخيلاً - لا اساس له - كأنه حقيقة، ثم ينسب اليه من اعمال الشيطان ما هو برئ منه، فيظن ان همزات الشيطان هي من خواطر قلبه هو، ويتصور اضرارها فيقع فيها. وهذا هو ما يريده الشيطان منه بالذات.

C الوجه الثاني:

عندما تنطلق المعاني من القلب تنفذ في الخيال مجردةً من الصور، وتكتسي الاشكال والصور هناك. والخيال هو الذي ينسج دائماً ولأسباب معينة، نوعاً من الصور، ويعرض ما يهتم به من الصور على الطريق، فأيما معنىً يرد فالخيال إما يُلبسه ذلك النسيج أو يعلقه عليه أو يلطخه به، أو يستره به فإن كانت المعاني منزّهة ونقية، والصور والانسجة ملوثة دنيئة فلا إلباس ولا إكساء، وانما مجرد مسّ فقط، فمن هنا يلتبس على الموسوس أمر التماس فيظنه تلبساً وتلبيساً، فيقول في نفسه: ((يا ويلتاه! لقد تردى قلبي في المهاوي، وستجعلني هذه الدناءة والخساسة النفسية من المطرودين من رحمة الله)) فيستغل الشيطان هذا الوتر الحساس منه استغلالاً فظيعاً.

ومرهم هذا الجرح العميق هو:

كما لا يؤثر في صلاتك ولا يفسدها ما في جوفك من نجاسة، بل يكفي لها طهارة حسية وبدنية، كذلك لا تضر مجاورة الصور الملوثة بالمعاني المنزّهة والمقدسة. مثال ذلك:

قد تكون متدبراً في آية من آيات الله، واذا بأمر مهيّج من مرضٍ يفاجئك، أو من تدافع الأخبثين، يلحّ على خيالك بشدة، فلاشك أن خيالك سينساق الى حيث الدواء، أو قضاء الحاجة ناسجاً ما يقتضيه من صور دنيئة. فتمر المعاني الواردة في تدبرك من بين الصور الخيالية السافلة. دعها تمر، فليس ثمة ضرر ولا لوثة ولا خطورة. انما الخطورة فقط هي في تركيز الفكر فيها، وتوهم الضرر منها.

C الوجه الثالث:

هناك بعض علاقات خفية تسود بين الاشياء، وربما توجد خيوط من الصلة حتى بين ما لا نتوقعه من الاشياء، هذه الخيوط إما انها قائمة بذاتها، اي انها حقيقية، أو أنها من نتاجات خيالك الذي صنع هذه الخيوط - حسب ما ينشغل به من عمل - وهذا هو السر في توارد خيالات سيئة احياناً عند النظر في ما يخص اموراً مقدسة، اذ ((التناقض الذي يكون سبباً للابتعاد في الخارج يكون مدعاة للقرب والتجاور في الصور والخيال)) كما هو معلوم في علم البيان. أي ان ما يجمع بين صورتي الشيئين المتناقضين ليس إلاّ الخيال. ويطلق على هذه الخواطر الناتجة بهذه الوسيلة: تداعى الافكار. مثال ذلك:

بينما انت تناجي ربك في الصلاة بخشوع وتضرع وحضور قلب مستقبلاً الكعبة المعظمة، اذا بتداعي الافكار هذا يسوقك الى امور مشينة مخجلة لا تعنيك بشئ. فاذا كنت يا اخي مبتلى بتداعي الافكار، فاياك اياك ان تقلق أو تجزع، بل عُد الى حالتك الفطرية حالما تنتبه لها. ولا تشغل بالك قائلاً: لقد قصّرت كثيراً.. ثم تبدأ بالتحري عن السبب.. بل مر عليها مرّ الكرام لئلا تقوى تلك العلاقات الواهية العابرة بتركيزك عليها، اذ كلما اظهرت الأسى والاسف وزاد اهتمامك بها انقلب ذلك التخطر الى عادة تتأصل تدريجياً حتى تتحول الى مرض خيالي. ولكن لا.. لا تخش ابداً، انه ليس بمرض قلبي، لأن هذه الهواجس النفسية والتخطر الخيالي هي في اغلب الحالات تتكون رغماً عن ارادة الانسان وهي غالباً ما تكون لدى مرهفي الحس والأمزجة الحادة. والشيطان يتغلغل عميقاً مع هذه الوساوس.

أما علاج هذا الداء فهو:

اعلم انه لا مسؤولية في تداعي الافكار، لأنها لا ارادية غالباً، اذ لا اختلاط ولا تماس فيها، وانما هي مجرد مجاورة ولا شئ بعد ذلك، لذا فلا تسري طبيعة الافكار بعضها ببعض. ومن ثم فلا يضر بعضها بعضاً. اذ كما ان مجاورة ملائكة الالهام للشيطان حول القلب لا بأس فيها، ومجاورة الابرار للفجار وقرابتهم ووجودهم في مسكن واحد لا ضرر فيه، كذلك اذا تداخلت خواطر سيئة غير مقصودة بين أفكار طاهرة نزيهة لا تضرّ في شـئ إلاّ اذا كانــت مقصــودة، أو أن تشــغل بهـا نفـسك كثيراً، متوهماً ضررها بك. وقد يكون القلب احيـاناً مرهقاً فينشــغــل الفــكر بــشئ ما كيفما اتفق دون جدوى، فينتهز الشيطان هذه الفرصة ويقدّم الاخيلة الخبيثة وينثرها هنا وهناك.

C الوجه الرابع:

هو نوع من الوسوسة الناشئة من التشدد المفرط لدى التحري عن الأكمل الاتم من الاعمال. فكلما زاد المرء في التشدد هذا - باسم التقوى والورع - ازداد الأمر سوءاً وتعقيداً، حتى ليوشك أن يقع في الحرام في الوقت الذي يبتغي الوجه الأولى والأكمل في الاعمال الصالحة. وقد يترك ((واجباً)) بسبب من تحرّيه عن ((سنّة)) حيث يسأل نفسه دائماً عن مدى صحة عمله وقبوله، فتراه يعيده ويكرره، قائلاً: ((ترى هل صحّ عملي؟)) حتى يطول به الأمر فييأس، ويستغل الشيطان وضعه هذا فيرميه بسهامه ويجرحه من الاعماق.

ولهذا الجرح دواءان اثنان:

الدواء الاول: اعلم ان أمثال هذه الوساوس لا تليق الاّ بالمعتزلة الذين يقولون: ((ان افعال المكلفين من حيث الجزاء الاخروي حسنة أو قبيحة في ذات نفسها، ثم يأتي الشرع فيقرر ان هذا حسن وهذا قبيح. اي ان الحسن والقبح أمران ذاتيان موجودان في طبيعة الاشياء - حسب الجزاء الاخروي - أما الاوامر والنواهي فهي تابعة لذلك ولأقرارها)). ولذلك فان طبيعة هذا المذهب تؤدي بالانسان الى أن يستفسر دائماً عن اعماله: ((ترى هل تم عملي على الوجه الاكمل المُرضي كما هو في ذاته أم لا؟)).. اما اصحاب الحق وهم أهل السنة والجماعة فيقولون: ((ان الله سبحانه وتعالى يأمر بشئ فيكون حسناً وينهى عن شئ فيكون قبيحاً)) فبالأمر والنهي يتحقق الحُسن والقبح. اي أن الحسن والقبح يتقرران من وجهة نظر المكلّف، ويتعلقان بحسب خواتيمهما في الآخرة دون النظر اليها في الدنيا، مثال ذلك:

لو توضأت أو صليت، وكان هناك شئ ما خفي عليك يفسد صلاتك أو وضوءك، ولم تطلع عليه. فصلاتك ووضوءك في هذه الحالة صحيحان وحسنان في آن واحد. وعند المعتزلة: انهما قبيحان وفاسدان حقيقةً ولكنهما مقبولان منك لجهلك، اذ الجهل عذر.

وهكذا ايها الأخ المبتلى، فأخذاً بمذهب أهل السنة والجماعة يكون عملك صحيحاً لا غبار عليه، نظراً لموافقته ظاهر الشرع. واياك ان توسوس في صحة عملك، ولكن اياك ان تغتر به ايضاً، لانك لا تعلم علم اليقين، أهو مقبول عند الله أم لا؟.

الدواء الثاني: اعلم ان الاسلام دين الله الحق، دين يسر لا حرج فيه، وان المذاهب الأربعة كلها على الحق. فان ادرك المرء تقصيره تلافاه بالاستغفار الذي هو أثقل ميزاناً من الغرور الناشئ من اعجابه بالاعمال الصالحة. لذا فان يرى مثل هذا الموسوس نفسه مقصراً في عمله ويستغفر ربه خيرٌ له ألف مرة من أن يغتر اعجاباً بعمله. فما دام الأمر هكذا، فاطرح الوساوس واصرخ في وجه الشيطان: ان هذا الحال حرجٌ، وان الاطلاع على حقيقة الاحوال أمرٌ صعب جداً، بل ينافي اليُسر في الدين، ويخالف قاعدة ((لا حرج في الدين)) و((الدين يُسر)). ولابد أن عملي هذا يوافق مذهباً من المذاهب الاسلامية الحقة، وهذا يكفيني. حيث يكون وسيلة لأن ألقي بنفسي بين يدي خالقي ومولاي ساجداً متضرعاً أطلب المغفرة، واعترف بتقصيري في العمل، وهو السميع المجيب.

C الوجه الخامس:

وهو الوساوس التي تتقمص اشكال الشبهات في قضايا الايمان:

فكثيراً ما يلتبس على الموسوس المحتار خلجات الخيال، فيظن انها من بنات عقله، اي يتوهم ان الشبهات التي تنتاب خياله كأنها مقبولة لدى عقله، اي أنها من شبهات عقله، فيظن ان اعتقاده قد مسّه الخلل.. وقد يظن الموسوس احياناً اخرى ان الشبهة التي يتوهمها انما هي شك يضرّ بايمانه.. وقد يظن تارة اخرى ان ما يتصوره من رؤى الشبهات كأن عقله قد صدّقه.. وربما يحسب ان كل تفكير في قضايا الكفر كفراً، اي أنه يحسب ان كل تحرٍ وتمحيص، وكل متابعة فكرية ومحاكمة عقليه محايدة لمعرفة اسباب الضلالة انه خلاف الايمان. فأمام هذه التلقينات الشيطانية الماكرة يرتعش ويرتجف، ويقول : ((ويلاه! لقد ضاع قلبي وفسد اعتقادي واختل)). وبما أنه لا يستطيع ان يصلح تلك الاحوال بارادته الجزئية وهي غير ارادية على الأغلب، يتردى الى هاوية اليأس القاتل.

أما علاج هذا الجرح فهو:

ان توهم الكفر ليس كفراً كما ان تخيل الكفر ليس كفراً وان تصور الضلالة ليس ضلالة مثلما أن التفكير في الضلالة ليس ضلالة، ذلك لأن التخيل والتوهم والتصور والتفكر.. كل اولئك متباين ومتغاير كلياً عن التصديق العقلي والاذعان القلبي. اذ التخيل والتوهم والتصور والتفكر امور حرة طليقة الى حدٍ ما، لذلك فهي لا تحفل بالجزء الاختياري المنبثق من ارادة الانسان، ولا ترضخ كثيراً تحت التبعات الدينية. بينما التصديق والاذعان ليسا كذلك، فهما خاضعان لميزان، ولأن كلاً من التخيل والتوهم والتصور والتفكر ليس بتصديق وإذعان فلا يعدّ شبهةً ولا تردداً. لكن اذا تكررت هذه الحالة - دون مبرر - وبلغت حالة من الاستقرار في النفس فقد يتمخض عنها لون من الشبهات الحقيقية، ثم قد ينزلق الموسوس، بالتزامه الطرف المخالف باسم المحاكمات العقلية الحيادية أو باسم الانصاف، الى حالة يلتزم المخالف دون اختيار منه، وعندها يتنصل من الالتزامات الواجبة عليه تجاه الحق، فيهلك؛ اذ تتقرر في ذهنه حالة اشبه ما يكون بالمفوّض والمخوّل من قبل الطرف المخالف اي الخصم أو الشيطان.

ولعل أهم نوع من هذه الوسوسة الخطيرة هو:

ان الموسوس يلتبس عليه ((الامكان الذاتي)) و ((الامكان الذهني)) أي أنه يتوهم بذهنه ويشك بعقله ما يراه ممكناً في ذاته، علماً بأن هنالك قاعدة كلامية في ((علم المنطق)) تنص على: ((ان الامكان الذاتي لا ينافي اليقين العلمي، ومن ثم فلا تعارض ولا تضاد بينه وبين الضرورات الذهنية وبديهياتها)) ولتوضيح ذلك نسوق هذا المثال:

من الممكن ان يغور البحر الاسود الآن، فهذا شئ محتمل الوقوع بالامكان الذاتي، الاّ اننا نحكم يقيناً بوجود البحر المذكور في موقعه الحالي، ولا نشك في ذلك قطعاً. فهذا الاحتمال الامكاني والامكان الذاتي لا يولدان شبهة ولا شكاً، بل لا يخلان بيقيننا أبداً.

ومثال آخر: من الممكن الاّ تغيب الشمس اليوم، ومن الممكن الاّ تشرق غدا، الاّ أن هذا الامكان والاحتمال لا يخل بيقيننا بأي حال من الاحوال، ولا يطرأ اصغر شبهة عليه. وهكذا على غرار هذين المثالين فالاوهام التي ترد من الامكان الذاتي على غروب الحياة الدنيا وشروق الآخرة التي هي من حقائق الغيب الايمانية لا تولد خللاً في يقيننا الايماني قطعاً. ولهذا فالقاعدة المشهورة في اصول الدين واصول الفقه: ((لا عبرة للاحتمال غير الناشئ عن الدليل)).

C واذا قلت: ((تُرى ما الحكمة من ابتلاء المؤمنين بهذه الوساوس المزعجة للنفس المؤلمة للقلب؟)).

الجواب: اننا اذا ما نحّينا الافراط والغلبة جانباً فان الوسوسة تكون حافزة للتيقظ، وداعية للتحري، ووسيلة للجدية، وطاردة لعدم المبالاة، ودافعة للتهاون.. ولأجل هذا كله جعل العليم الحكيم الوسوسة نوعاً من سوط تشويق واعطاه بيد الشيطان كي يحث به الانسان في دار الامتحان وميدان السباق الى تلك الحِكَم. واذا ما افرط في الأذى، فررنا الى العليم الحكيم وحده مستصرخين: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

عبدالرزاق 02-02-2011 01:55 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثانية والعشرون

[ هذه الكلمة عبارة عن مقامين ]

المقام الاول

بسم الله الرحمن الرحيم

] وَيـَضْرِبُ الله الاَمْثَالَ لِلْنّاسِ لَعَلَهُمْ يَتَذَكَّروُنَ[ (ابراهيم: 25)

] وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نـَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَهُمْ يَتَفَكَّرونَ[ (الحشر:21)

استحم شخصان ذات يوم في حوض كبير، فغشيهما ما لا طاقة لهما به ففقدا وَعيَهما. وما ان أفاقا حتى وجَدا أنهما قد جئ بهما الى عالمٍ غير عالَمهما، الى عالم عجيب، وعجيب فيه كل شئ. فهو من فرط انتظامه الدقيق كأنه مملكة منسّقة الاطراف، ومن روعة جماله بمثابة مدينةٍ عامرة، ومن شدة تناسق اركانه بحكم قصر بديع. وبدأا ينظران بلهفةٍ فيما حولهما وقد امتلأا حَيرة واعجاباً بما رأيا أمامهما من عالم عظيم حقاً، اذ لو نُظر الى جانبٍ منه لشوهدت مملكةٌ منتظمة، واذا ما نُظر اليه من جانب آخر لتراءت مدينةٌ كاملة الجوانب، بينما اذا نُظر اليه من جانب آخر فاذا هو بقصر عظيم شاهق يضم عالَماً مهيباً.. وطفقا يتجولان معاً في أرجاء هذا العالم العجيب فوقع نظرهما على مخلوقات يتكلمون بكلام معين لا يفقهانه، الاّ أنهما أدركا من إشاراتهم وتلويحاتهم أنهم يؤدون أعمالاً عظيمة وينهضون بواجبات جليلة.

قال أحدهما للآخر:

- لاشك ان لهذا العالم العجيب مدبّراً يدبّر شؤونَه، ولهذه المملكة البديعة مالكاً يرعاها، ولهذه المدينة الرائعة سيداً يتولى أمورها، ولهذا القصر المنيف صانعاً بديعاً قد أبدعه، فأرى لزاماً علينا أن نسعى لمعرفته، اِذ يبـدو أنه هـو الذي قــد أتـى بنا الى هاهنا، وليس أحد غيره. فلو لم نعرفه فمن ذا غيرهُ يُسعفنا ويُغيثنا ويقضي حوائجنا ونحن في هذا العالم الغريب؟ فهل ترى بصيصَ أملٍ نرجوه من هؤلاء العاجزين الضعفاء ونحن لا نفقه لسانهم ولا هم يصغون الى كلامنا؟. ثم ان الذي جعل هذا العالم العظيم على صورة مملكة منسقة وعلى هيئة مدينة رائعة وعلى شكل قصر بديع، وجعله كنزاً لخوارق الأشياء، وجمّله بأفضل زينة وأروع حُسن، ورصّع نواحيه كلها بمعجزات معبّرة حكيمة.. أقول أن صانعاً له كل هذه العظمة والهيبة وقد أتى بنا - وبمَن حولنا - الى هاهنا، لاشك أن له شأناً في هذا. فوَجَب قبل كل شئ أن نعرفه معرفة جيدة وأن نعلم منه ما يريد منا وماذا يطلب؟.

قال له صاحبه:

- دع عنك هذا الكلام. فانا لا أصدّق أن واحداً احداً يدير هذا العالم الغريب!

فأجابه:

- مهلاً يا صاحبي! هلاّ أعرتني سمعَك! فنحن لو أهملنا معرفته فلا نكسب شيئاً قط، واِن كان في اهمالنا ضررٌ فضرره جدُّ بليغ. بينما اذا سعَينا الى معرفته فليس في سعينا هذا مشقة ولا نلقى من ورائه خسارة، بل منافع جليلة وعظيمة. فلا يليق بنا اذن ان نبقى مُعرِضين هكذا عن معرفته.

ولكن صاحبه الغافل قال:

- أنا لست معك في كلامك هذا. فأنا أجد راحتي ونشوتي في عدم صرف الفكر الى مثل هذه الأمور، وفي عدم معرفة ما تدّعيه عن هذا الصانع البديع. فلا أرى داعياً ان أجهد نفسي فيما لا يسعه عقلي. بل أرى هذه الأفعال جميعها ليست الاّ مصادفات وأموراً متداخلة متشابكة تجري وتعمل بنفسها؟ فما لي وهذه الأمور؟..

فردّ عليه العاقل:

- أخشى أن يلقي بنا عنادُك هذا وبالآخرين الى مصائب وبلايا. ألم تُهدَم مدنٌ عامرةٌ من جـراء سفاهة شقيِّ وأفعالِ فاسق؟

ومرة اخرى اِنبرى له الغافل قائلاً:

- لنحسم الموضوع نهائياً فإما أن تثبت لي اثباتاً قاطعاً لا يقبل الشك بأن لهذه المملكة الضخمة مالكاً واحداً وصانعاً واحداً احداً، أو تَدَعني وشأني.



أجابه صديقه:

- ما دمتَ يا صاحبي تصرّ على عنادك الى حد الجنون والهذيان مما يسوقنا والمملكة بكاملها الى الدمار! فسأضع بين يديك أثني عشر برهاناً أثبت بها أن لهذا العالم الرائع روعةَ القصر، ولهذه المملكة المنتظمة اِنتظام المدينة، صانعاً بديعاً واحداً احداً هو الذي يدبّر الأمور كلَّها. فلا ترى من فطورٍ في شئ، ولا ترى من نقصٍ في أمر. فذلك الصانع الذي لا نراه يبصُرنا ويبصر كلّ شئ، ويسمع كلام كل شئ، فكلُّ أفعاله معجزات وآيات وخوارق وروائع. وما هذه المخلوقات التي لا نفهم ألسنتهم اِلاّ مأمورون وموظفون في مملكته.

C البرهان الاول

تعال معي يا صاحبي لنتأمل ما حولنا من أشياء وأمور. ألا ترى ان يداً خفية تعمل من وراء الأمور جميعها؟ أوَ لا ترى ان ما لا قوة له أصلاً ولا يقوى على حمل نفسه(1) يحمل آلاف الأرطال من الحمل الثقيل؟ أوَ لا تشاهد أن ما لا اِدراك له ولا شعور يقوم بأعمالٍ في غاية الحكمة؟(2)… فهذه الأشياء اذن لا تعمل مستقلة بنفسها، بل لابد ان مولى عليماً، وصانعاً قديراً يديرها من وراء الحجب. اذ لو كانت مستقلةً بذاتها، وأمرُها بيدها، للزم أن يكون كلُّ شئ هنا صاحبَ معجزة خارقة. وما هذه الا سفسطة لا معنى لها!

C البرهان الثاني

تعال معي يا صاحبي لنُمعِن النظر في هذه الاشياء التي تزيّن الميادين والساحات، ففي كل زينة منها أمور تخبرنا عن ذلك المالك وتدلنا عليه. كأنها سكّتُه وختمهُ. كما تدلنا طغـراء السـلـطـان وختـمـه على وجـوده، وتنبـئنا سـكّته التي علـى مســكوكاته عن عظمته وهيبته. فان شئت فانظر الى هذا الجسـم الصغير جداً الذي لا يكاد الانسان يعرف له وزناً(3)، قد صنع منه المولى اطوالاً من نسيج ملون بالوان زاهية ومزركش بزخارف باهرة، ويُخرج منه ما هو ألذّ من الحلويات والمعجنات المعسلة، فلو لبس آلافٌ من أمثالنا تلك المنسوجات وأكل من تلك المأكولات لما نفدت.

ثم أنظر، انه يأخذ بيده الغيبية هذا الحديد والتراب والماء والفحم والنحاس والفضة والذهب ويصنع منها جميعاً قطعة لحم(1).

فيا أيها الغافل.. هذه الأشياء والافعال انما تخصّ بمن زمام هذه المملكة بيده، ومَن لا يعزُب عنه شئ، وكل شئ منقاد لإرادته.

C البرهان الثالث

تعال لننظر الى مصنوعاته العجيبة المتحركة(2). فقد صُنع كلّ منها كأنه نسخةٌ مصغرةٌ من هذا القصر العظيم، اذ يوجد فيه ما في القصر كله. فهل يمكن ان يُدرج أحدٌ هذا القصر مصغّراً في ماكنةٍ دقيقة غير صانعه البديع؟ أو هل يمكن أن ترى عبثاً أو مصادفة في عالَمٍ ضُمَّ داخل ماكنة صغيرة؟

أي أن كل ما تشاهده من مكائن انما هي بمثابة آية تدل على ذلك الصانع البديع، بل كل ماكنة دليلٌ عليه، واعلان يفصح عن عظمته، ويقول بلسان الحال:

((نحن من اِبداع مَن أبدع هذا العالَم بسهولة مطلقة كما أوجدَنا بسهولة مطلقة)).

C البرهان الرابع

أيها الأخ العنيد! تعال اُرِكَ شيئاً اكثر اثارة للاعجاب! انظر، فها قد تبدّلت الأمور في هذه المملكة، وتغيّرت جميع الاشياء، وها نحن أولاء نرى باعيننا هذا التبدل والتغير، فلا ثبات لشئ مما نراه بل الكل يتغيرويتجدد.

أنظر الى هذه الأجسام الجامدة المشاهَدة التي لا نرى فيها شعوراً، كأن كلاً منها قد اتخذ صورةَ حاكمٍ مطلق والآخرون محكومون تحت سيطرته، وكأن كلاً منها يسيطر على الأشياء كلها. انظر الى هذه الماكنة التي بقربنا(3). كأنها تأمر فيهرع اليها من بعيد ما تحتاجه من لوازم لزينتها وعملها، وانظر الى ذلك الجسم الذي لا شعور له(1)، كأنه يسخـِّر باشارةٍ خفيّة منه أضخَم جسمٍ وأكبره في شؤونه الخاصة ويجعله طوع اشارته.. وقس الأمور الأخرى على هذين المثالين.

فان لم تفوَّض امر إدارة المملكة الى ذلك المالك الذي لا نراه، فعليك اذن أن تحيل الى كل مصنوعٍ ما للبديع من إتقان وكمالات، حتى لو كان حجراً أو تراباً أو حيواناً أو اِنساناً أو أي مخلوق من المخلوقات.

فاذا ما استبعد عقلُك ان بديعاً واحداًً احداً هو المالك لهذه المملكة وهو الذي يديرها، فما عليك الاّ قبول ملايين الملايين من الصانعين المبدعين، بل بعدد الموجودات! كل منها نِدُّ للآخر ومثيله وبديلُه ومتدخل في شؤونه! مع أن النظام المتقن البديع يقتضي عدم التدخل، فلو كان هناك تدخل مهما كان طفيفاً ومن أي شئ كان، وفي أي أمر من امور هذه المملكة الهائلة، لظهر أثره واضحاً، اذ تختلط الأمور وتتشابك اِن كان هناك سيدان في قرية أو محافظان في مدينة أو سلطانان في مملكة. فكيف بحكامٍ لا يعدّون ولا يحصون في مملكة منسقة بديعة؟!

C البرهان الخامس

أيها الصديق المرتاب! تعال لندقق في نقوش هذا القصر العظيم، ولنمعن النظر في تزيينات هذه المدينة العامرة، ولنشاهد النظام البديع لهذه المملكة الواسعة، ولنتأمل الصنعة المتقنة لهذا العالم. فها نحن نرى انه إن لم تكن هذه النقوش كتابةَ قلمِ المالك البديع الذي لا حدّ لمعجزاته وإبداعه، واُسندت كتابتُها ونقشُها الى الأسباب التي لا شعورَ لها، والى المصادفة العمياء، والى الطبيعة الصماء، للزم اذن ان يكون في كل من أحجار هذه المملكة وعشبها مصّورٌ معجِزٌ وكاتبٌ بـديعٌ يستـطيع أن يكتـب ألـوف الكـتـب في حـرف واحـد، ويمكنه أن يُدرِج مـلايـين الاعمـال المتقـنة البديعة في نقشٍ واحد!! لأنك ترى أن هذا النقش الذي أمامك في هذه اللبنة(2) يضم نقوش جميع القصر، وينطوي على جميع قوانين المدينة وانظمتها، ويتضمن خطط أعمالها. أي ان ايجاد هذه النقوش الرائعة معجزةٌ عظيمةٌ كايجاد المملكة نفسها، فكل صنعة بديعة ليست إلاّ لوحةُ اعلانٍ تُفصح عن أوصاف ذلك الصانع البديع، وكل نقش جميل هو ختمٌ واضحٌ من أختامه الدالة عليه.

فكما انه لا يمكن لحرفٍ الاّ أن يدل على كاتبه، ولا يمكن لنقشٍ الاّ أن ينبئ عن نقاشه، فكيف يمكن اذن الاّ يدل حرفٌ كُتب فيه كتاب عظيم على كاتبه، ونقشٌ نُقشَت ألوف النقوش على نقّاشه؟ ألا تكون دلالتُه أظهرَ وأوضحَ من دلالته على نفسه؟

C البرهان السادس

تعال يا صديقي لنذهب الى نزهة نتجول في هذه الفلاة الواسعة(1) المفروشة امامنا.. ها هو ذا جبلٌ أشمُّ، تعال لنصعد عليه حتى نتمكن من مشاهدة جميع الأطراف بسهولة، ولنحمل معنا نظارات مكبّرة تقرب لنا ما هو بعيد عن أنظارنا. فهذه المملكة فيها من الأمور العجيبة والحوادث الغريبة ما لا يخطر على بال أحد. أنظر الى تلك الجبال والسهول المنبسطة والمدن العامرة، انه أمر عجيب حقاً إذ يتبدل جميعُها دفعة واحدة، بل ان ملايين الملايين من الأفعال المتشابكة تتبدل تبدلاً بكل نظام وبكل تناسق، فكأن ملايين الاطوال من منسوجات ملونةرائعة تنسج امامنا في آن واحد.. حقاً ان هذه التحولات عجيبة جداً. فاين تلك الأزاهير التي ابتسمت لنا والتي اَنِسنا بها؟.. لقد غابت عنا، وحلّت محلها أنواعٌ مخالفة لها صورةً، مماثلة ماهية. وكأن هذه السهول المنبسطة وهذه الجبال المنصوبة صحائف كتاب يُكتب في كل منها كتبٌ مختلفة في غاية الاتقان دون سهو أو خطأ ثم تُمسح تلك الكتب ويُكتب غيرُها.. فهل ترى يا صديقي ان تبدّل هذه الأحوال وتحوّل هذه الأوضاع الذي يتم بكل نظام وميزان يحدث من تلقاء نفسه؟. أليس ذلك محالاً من أشد المحالات؟

فلا يمكن إحالة هذه الاشياء التي أمامنا وهي في غاية الاتقان والصنعة الى نفسها قط، فذلك محال في محال. بل هي أدلة واضحة على صانعها البديع أوضحَ من دلالتها على نفسها، اذ تبيّن أن صانعَها البديع لا يعجزه شئ، ولا يؤوده شئ، فكتابةُ ألف كتاب أمرٌ يسير لديه ككتابة حرف واحد. ثم تأمل يا أخي في الأرجاء كافة ترى ان الصانع الاعظم قد وضع بحكمةٍ تامة كلّ شئ في موضعه اللائق به. وأسبغ على كل شئ نِعَمه وكرمه بلطفه وفضله العميم. وكما يفتح أبواب نعمه وآلائه العميمة أمامَ كل شئ، يسعف رغبات كل شئ ويرسل اليه ما يطمئنه.

وفي الوقت نفسه ينصب موائد فاخرة عامرة بالسخاء والعطاء بل ينعم على مخلوقات هذه المملكة كافة من حيوان ونبات نِعَماً لا حدّ لها، بل يرسل الى كل فرد باسمه ورسمه نعمتَه التي تلائمه دون خطأ أو نسيان. فهل هناك محال أعظم من أن تظن ان في هذه الأمور شيئاً من المصادفة مهما كان ضئيلاً؟ أو فيه شيئاً من العبث وعدم الجدوى؟ أو أن احداً غير الصانع البديع قد تدخل في أمور المملكة؟ أو أن يُتصوَّر أن لا يدين له كل شئ في ملكه؟.. فهل تقدر يا صديقي أن تجد مبرراً لأنكار ما تراه؟..

C البرهان السابع

لنَدَع الجزئيات يا صاحبي، ولنتأمل في هذا العالم العجيب، ولنشاهد أوضاع اجزائه المتقابلة بعضها مع البعض الآخر.. ففي هذا العالم البديع من النظام الشامل والانتظام الكامل كأن كل شئ فاعل مختار حي يشرف على نظام المملكة كلها، ويتحرك منسجماً مع ذلك النظام العام. حتى ترى الأشياء المتباعدة جداً يسعى الواحد منها نحو الآخر للتعاون والتآزر.

أنظر! ان قافلة مهيبة تنطلق من الغيب(1) مُقبلةً علينا. فهي قافلة تحمل صحون ارزاق الاحياء.. ثم أنظر الى ذلك المصباح الوضئ(2) المعلق في قبة المملكة فهي تنير الجميع وتُنضج المأكولات المعلقة بخيط دقيق(3) والمعروضة أمامه بيدٍ غيبية. الا تلتفت معي الى هذه الحيوانات النحيفة الضعيفة العاجزة كيف يسيل الى أفواهها

غذاءٌ لطيف خالص يتدفق من مضخات(4) متدلية فوق رؤوسها، وحسبها ان تلصق أفواهها بها!

نخلص من هذا: انه ما من شئ في هذا العالم الاّ وكأنه يتطلع الى الآخر فيغيثه، أو يرى الآخر فيشد من ازره ويعاونه.. فيكمل الواحد عمل الآخر ويكون ظهيره وسنده، ويتوجه الجميع جنباً الى جنب في طريق الحياة.. وقس على ذلك فهذه الظواهر جميعها تدلنا دلالة قاطعة وبيقين جازم إلى انه ما من شئ في هذا القصر العجيب الاّ وهو مسخر لمالكه القدير ولصانعه البديع ويعمل باسمه وفي سبيله، بل كل شئ بمثابة جندي مطيع متأهب لتلقي الأوامر. فكل شئ يؤدي ما كلّف به من واجب بقوة مالكه وحوله، فيتحرك بأمره، وينتظم بحكمته، ويتعاون بكرمه وفضله، ويغيث الآخرين برحمته. فان كنتَ تستطيع يا أخي ابداء شئ من الاعتراض والشك أمام هذا البرهان فهاته.

C البرهان الثامن

تعال يا صاحبي المتعاقل ويا مثيل نفسي الأمّارة بالسوء التي تعدّ نفسها رشيدة وتُحسن الظن بنفسها.. أراك يا صاحبي ترغب عن معرفة صاحب هذا القصر البديع، مع أن كل شئ يدل عليه، وكل شئ يشير اليه، وكل شئ يشهد بوجوده. فكيف تجرأ على تكذيب هذه الشهادات كلها؟. اذن عليك أن تنكر وجود القصر نفسه، بل عليك أن تعلن انه لا قصر ولا مملكة ولا شئ في الوجود. بل تنكر نفسَك وتعدّها معدومةً لا وجود لها.!.. أو عليك ان تعود الى رُشدك وتصغي اليّ جيداً، فها أنا أضع بين يديك هذا المنظر:

تأمل في هذه العناصر والمعادن(1) التي تعم هذه المملكة والتي توجد في كل أرجاء هذا القصر. ومعلوم انه ما من شئ ينتج في هذه المملكة الاّ من تلك المواد. فَمن كان مالكاً لتلك المواد والعناصر فهو اذن مالك لكل ما يُصنع وينتج فيها. اذ مَن كان مالكاً للمزرعة فهو مالك المحاصيل، ومَن كان مالكاً للبحر فهو مالك لما فيه.

ثم أنظر يا صاحبي الى هذه المنسوجات والاقمشة الملونة المزدانة بالأزهار. انها تُصنع من مادة واحدة. فالذي هيأ تلك المادة وغَزَلها لابد أنه واحد، لأن تلك الصنعة لا تقبل الاشتراك، فالمنسوجات المتقنة تخصّه هو. ثم التفت الى هذا: ان اجناس هذه المنسوجات موجودة في كل جزء من أجزاء هذا العالم العجيب وقد انتشرت انتشاراً واسع النطاق حتى انها تُنسَج معاً وبتداخل في آن واحد وبنمط واحد في كل مكان. أي أنه فعلُ فاعلٍ واحد، فالجميع يتحرك بأمرٍ واحد. والاّ فمحال أن يكون هناك انسجامٌ تام وتوافق واضح في العمل وفي آن واحد وبنمط واحد وبنوعية واحدة وهيأة واحدة في جميع الانحاء، لذا فان كل ما هو متقن الصنع يدل دلالة واضحة على ذلك الفاعل الذي لا نراه، بل كأنه يعلن عنه صراحةً، بل كأن كل نسيج مغرز بالزهور، وكل ماكنة بديعة، وكل مأكول لذيذ، انما هو علامة الصانع المعجز وخاتمه وآيته وطغراؤه فكل منه يقول بلسان الحال: ((مَن كنتُ انا مصنوعُه، فموضعي الذي أنا فيه مُلكُه)). وكل نقش يقول: ((مَن قام بنسجي ونقشي فالطَول الذي أنا فيه هو منسوجُه)). وكل لقمة لذيذة تقول: ((مَن يصنعني ويُنضجني فالقِدر الذي أطبخُ فيه مُلكُه)). وكل ماكنة تقول: ((مَن قام بصنعي فكل ما في العالم من امثالي مصنوعه وهو مالكه. اي من كان مالكاً للمملكة والقصر كله فهو الذي يمكـنه ان يملّكنا)). وذلك بمثـل مَن اراد أن يدّعي تملّك أزرار البزة العسكرية ووضع شعار الدولة عليها لابد أن يكون مالكاً لمصانعها كلها حتى يكون مالكاً حقيقياً، والا فليس له إلاّ الادعاء الكاذب، بل يعاقب على عمله ويؤاخذ على كلامه.

الخلاصة: كما ان عناصر هذه المملكة موادٌ منتشرةٌ في جميع ارجائها فمالكُها اذن واحدٌ يملك ما في المملكة كلها، كذلك المصنوعات المنتشرة في أرجاء المملكة لأنها متشابهةٌ تُظهِر علامة واحدة وناموساً واحداً، فجميعها اذن تدل على ذلك الواحد المهيمن على كل شئ.

فيا صديقي! ان علامة الوحدة ظاهرة في هذا العالم، وآية التوحيد واضحة بيّنة، ذلك لأن قسماً من الأشياء رغم انه واحد فهو موجود في العالم كله، وقسمٌ آخر رغم تعدد اشكاله فانه يُظهِر وحدةً نوعيةً مع أقرانه لتشابهه وانتشاره في الأرجاء، وحيث أن الوحدة تدل على الواحد كما هو معلوم لذا يلزم أن يكون صانع هذه الاشياء ومالــكهـا واحداً أحداً. زد على هـذا فانـك ترى انها تُقدَّم إلينـا هـدايــا ثمـينـة من وراء ستار الغيب، فتتدلى منه خيوط وحبال(1) تحمل ما هو اثمن من الماس والزمرد من الآلاء والاحسان.

اذن فقدّر بنفسك مدى بلاهة مَن لا يعرف الذي يدير هذه الامور العجيبة ويقدّم هذه الهدايا البديعة؟ قدّر مدى تعاسة مَن لا يؤدي شكره عليها! إذ إن جهله به يُرغمه على التفوّه بما هو من قبيل الهذيان، فيقول - مثلاً ــ: ان تلك اللآلئ المرصعات تَصنعُ نفسها بنفسها!. أي يُلزمه جهلُه ان يمنح معنى السلطان لكل حبلٍ من تلك الحبال! والحال اننا نرى ان يداً غيبية هي التي تمتد الى تلك الحبال فتصنعها وتقلدها الهدايا. أي أن كل ما في هذا القصر يدل على صانعه المبدع دلالة أوضح من دلالته على نفسه. فان لم تعرفه - يا صاحبي - حق المعرفة فستهوي اِذن في درك أحط من الحيوانات، لأنك تضطر الى انكار جميع هذه الاشياء.

C البرهان التاسع

أيها الصديق الذي يطلق أحكامه جزافاً، انك لا تعرف مالك هذا القصر ولا تَرغب في معرفته، فتستبعد ان يكون له مالك وتنساق الى إنكار احواله لعجز عقلك عن أن يستوعب هذه المعجزات الباهرة والروائع البديعة، مع ان الاستبعاد الحقيقي، والمشكلات العويصة والصعوبات الجمة في منطق العقل انما هو في عدم معرفة المالك والذي يفضي بك الى انكار وجود هذه المواد المبذولة لك، باثمانها الزهيدة ووفرتها العظيمة. بينما اذا عرفناه يكون قبول ما في هذا القصر، وما في هذا العالم سهلاً ومستساغاً ومعقولاً جداً، كأنه شئ واحد، اذ لو لم نعرفه ولولاه، لكان كل شئ عندئذٍ صعباً وعسيراً بل لا ترى شيئاً مما هو متوفر ومبذول امامك. فان شئت فانظر فحسب الى علب الـمُربيات(1) المتدلية من هذه الخيوط. فلو لم تكن من انتاج مطبخ تلك القدرة المعجزة، لما كان باستطاعتك الحصول عليها ولو باثمان باهظة.

نعم ان الاستبعاد والمشكلات والصعوبة والهلاك والمحال انما هو في عدم معرفته، لأن ايجاد ثمرة - مثلاً - يكون صعباً ومشكلاً كالشــجرة نفـسها فيما اذا ربط كل ثمرة بمراكز متعددة وقوانين مختلفة، بينما يكون الأمر سهلاً مستساغاً اذا ما كان ايجاد الثمرة بقانون واحد ومن مركز واحد فيكون ايجاد آلاف الاثمار كايجاد ثمرة واحدة. مَثلُه في هذا كمثل تجهيز الجيش بالعتاد، فان كان من مصدر واحد وبقانون واحد ومن معمل واحد، فالأمر سهلٌ ومستساغ عقلاً. بينما اذا جُهّز كلُّ جندي بقانون خاص ومن مصدر خاص ومن معمل يخصه، فالأمر صعب ومشكل جداً، بل سيحتاج ذلك الجندي حينئذٍ الى مصانع عتاد ومراكز تجهيزات وقوانين كثيرة بعدد أفراد جيش كامل.

فعلى غرار هذين المثالين، فان ايجاد هذه الاشياء في هذا القصر العظيم والمدينة الرائعة، وفي هذه المملكة الراقية والعالم المهيب اذا ما اُسند الى واحدٍ أحد فان الأمر سهل ومستساغ حيث يكون ما نراه من وفرة الاشياء وكثرتها واضحاً، بينما ان لم يسند الأمر اليه يكون ايجاد اي شئ كان عسيراً جداً، بل لا يمكن ايجاده اصلاً حتى لو اعطيت الدنيا كلها ثمناً له.

C البرهان العاشر

أيها الصديق ويا من يتقرب شيئاً فشيئاً الى الانصاف.. فها نحن هنا منذ خمسة عشر يوماً(1)، فان لم نعرف انظمة هذه البلاد وقوانينها ولم نعرف مليكها فالعقاب يحق علينا، اذ لا مجال لنا بعدُ للاعتذار. فلقد أمهلونا طوال هذه الأيام، ولم يتعرضوا لنا بشئ. الاّ اننا لا شك لسنا طلقاء سائبين، فنحن في مملكة رائعة بديعة فيها من الدقّة والرقة والعبرة في المصنوعات المتقنة ما ينم عن عظمة مليكها، فلابد أن جزاءه شديد ايضاً. وتستطيع أن تفهم عظمة المالك وقدرته من هذا:

انه ينظمّ هذا العالم الضخم بسهولة تنظيم قصر منيف، ويدير أمور هذا العالم العجيب بيسر ادارة بيتٍ صغير، ويملأ هذه المدينة العامرة بانتظام كامل دون نقص ويخلّيها من سكانها بحكمة تامة بمثل سهولة ملء صحن وافراغه. وينصب الموائد الفخمة المتنوعة(2) ويعد الاطعمة اللذيذة بكمال كرمه بيد غيبية ويفرشها من أقصى العالم الى أقصاه ثم يرفعها بسهولة وضع سُفرة الطعام ورفعها. فان كنت فطناً فستفهم ان هذه العظمة والهيبة لابد أنها تنـطوي على كـرم لا حـد له وسخاء لا حدود له.

ثم أنظر كما ان هذه الاشياء شاهدةُ صدقٍ على عظمة المالك القدير وعلى هيمنته، وعلى انه سلطان واحد أحد، كذلك القوافل المتعاقبة والتحولات المترادفة دليل على دوام ذلك السلطان وبقائه، لأن الأشياء الزائلة انما تزول معها أسبابُها أيضاً. فالأشياء والاسباب تزولان معاً، بينما التي تعقبها تأتي جديدة ولها آثارٌ كسابقتها، فهي اذن ليست من فعل تلك الأسباب، بل ممن لا يطرأ عليه الزوال! فكما ان بقاءَ اللمعان والتألّق - بعد زوال حَباب النهر الجاري - في التي تعقبها من الحباب، يفهمنا ان هذا التألق ليس من الحباب الزائلة بل من مصدر نور دائم، كذلك تبدل الأفعال بالسرعة المذهلة، وتلوّن التي تعقبها وانصباغها بصفاتها يدلنا على أن تلك الأفعال انما هي تجلياتُ مَن هو دائم لا يزول وقائمٌ لا يحول. والاشياء جميعاً نقوشُه ومراياه وصنعتُه ليس الاّ.

C البرهان الحادي عشر

تعال أيها الصديق لأبين لك برهاناً يملك من القوة ما للبراهين العشرة السابقة. دعنا نتأهب لسفرة بحرية، سنركب سفينة(1) لنذهب الى جزيرة بعيدة عنا. أتعلم لماذا نذهب اليها؟. ان فيها مفاتيح ألغاز هذا العالَم ومغاليق اسراره وأعاجيبه. ألا ترى أنظار الجميع محدقة بها، ينتظرون منها بلاغاًً ويتلقون منها الاوامر.. فها نحن نبدأ بالرحلة.. وها قد وصلنا اليها ووطئت أقدامُنا أرضَ الجزيرة.. نحن الآن امام حشد عظيم من الناس وقد أجتمـع اشراف المملكة جميعـُهم هنا.. أمعن النظر يا صديقي الى رئيس الاجتماع المهيب.. هلاّ نتقرب اليه قليلاً فنعرفه عن كثب.. فها هو ذا متقلّد أوسمةً راقية تزيد على الألف(2) ويتحدث بكلام ملؤه الطيب والثقة والاطمئنان. وحيث اني كنت قد تعلمت شيئاً مما يقـول خلال خمسة عشر يوماً السابقة فسوف أعلّمك إياه.. انه يتحدث عن سلطان هذه المملكة ذى المعجزات ويقول: انه هو الذي أرسله اليكم. أنظر انه يُظهر خوارق عجيبة ومعجزات باهرة بحيث لا يدع شبهة في انه مُرسَلٌ خصيصاً من لدن السلطان العظيم. اِصغِ جيداً الى حديثه وكلامه، فجميع المخلوقات آذانٌ صاغية له، بل المملكة برمّتها تصغى اليه، حيث الجميع يسعون الى سماع كلامه الطيب ويتلهفون لرؤية محياه الزاهر. أوَ تظن ان الانسان وحده يصغي اليه فحسب؟ بل الحيوانات ايضاً، بل حتى الجبال والجمادات تصغى لأوامره وتهتز من خشيتها وشوقها اليه. انظر الى الاشجار كيف تنقاد الى أوامره وتذهب الى ما اشار اليه من مواضع، انه يفجّر الماء اينما يريد، بل حتى من بين أصابعه، فيرتوي الناس من ذلك الماء الزلال. انظر الى ذلك المصباح المتدلي من سقف المملكة(1) انه ينشق الى شقين اثنين بمجرد اشارة منه. فكأن هذه المملكة وبما فيها تعرفه جيداً وتعلم يقيناً انه موظف مرسل بمهمة من لدن السلطان، ومبلّغ امين لأوامره الجليلة. فتراهم ينقادون له انقياد الجندي المطيع. فما من راشد عاقل ممن حوله الاّ ويقول انه رسول كريم، ويصدقونه ويذعنون لكلامه، ليس هذا فحسب بل يصدّقه ما في المملكة من الجبال والمصباح العظيم(2). والجميع يقولون بلسان الحال وبخضوع: نعم.. نعم ان كل ما ينطق به صدق وعدل وصواب...

فيا ايها الصديق الغافل! هل ترى انه يمكن ان يكون هناك أدنى احتمال لكذبٍ أو خداع في كلام هذا الكريم؟ حاش لله أن يكون من ذلك شئ من كلامه ابداً. وهو الذي اكرمه السلطان بألفٍ من الانواط والشارات، وهي علامات تصديقه له، وجميعُ اشراف المملكة يصدّقونه، وكلامُه كله ثقة واطمئنان، فهو يبحث في أوصاف السلطان المعجِز وعن أوامره البليغة. فان كنت تجد في نفسك شيئاً من احتمال الكذب، فيلزم عليك أن تكذّب كل الجماعات المصدّقة به، بل تنكر وجود القصر والمصابيح وتنكر وجود كل شئ وتكذّب حقيقتهم، والاّ فهات ما عندك ان كان لديك شئ، فالدلائل تتحدى.

C البرهان الثاني عشر

أيها الأخ لعلك استرشدت بما قلنا شيئاً فشيئاً. فسأبين لك الآن برهاناً أعظم من جميع البراهين السابقة.

انظر الى هذه الأوامر السلطانية النازلة من الأفق الأعلى، الجميع يوقرونها وينظرون اليها باجلال واعجاب، وقد وقف ذلك الشخص الكريم المجلل بالاوسمة بجانب تلك الأوامر النورانية(1) ويفسّر للحشود المجتمعة معاني تلك الأوامر. انظر الى اسلوب الأوامر انه يشع ويسطع حتى يسوق الجميع الى الاعجاب والتعظيم. إذ يبحث في مسائل جادّة تهمّ الجميع بحيث لا يدع احداً الاّ ويصغي اليه. انه يفصّل تفصيلاً كاملاً شؤون السلطان وافعاله وأوامره وأوصافه. فكما ان على تلك الأوامر السلطانية طغراء السلطان نفسه فعلى كل سطر من سطورها ايضاً شارته بل اذا أمعنت النظر فعلى كل جملة بل كل حرف فيها خاتمه الخاص فضلاً عن معانيها ومراميها وأوامرها ونواهيها.

الخلاصة: ان تلك الأوامر السلطانية تدل على ذلك السلطان العظيم كدلالة الضوء على النهار.

* * *

فيا أيها الصديق: أظنك قد عُدت الى صوابك وأفَقْت من نوم الغفلة، فانّ ما ذكرناه لك وبسطناه من براهين لكافٍ ووافٍ. فان بدا لك شئٌ فاذكره.

فما كان من ذلك المعاند الاّ أن قال:

لا أقول إلاّ: ((الحمد لله، لقد آمنت وصدقت، بل آمنت ايماناً واضحاً أبلج كالشمس وكالنهار، ورضيت بان لهذه المملكة ربّاً ذا كمال، ولهذا العالَم مولى ذا جلال، ولهذا القصر صانعاً ذا جمال. ليـرضَ الله عنك يا صديقي الحمـيم فقد أنقذتني من أسار العناد والتعصب الممقوت الذي بلغ بي حَّد الجنون والبلاهة، ولا أكتمك يا أخـي، فان ما سقـتَه من براهـين، كلُّ واحـد منها كـان بـرهـانـاً كافياً ليوصلني الى هذه النتيجة، الاّ انني كنت أصغي اليك لأن كل برهان منها قد فتح آفاقاً أرحب ونوافذ أسطع الى معرفة الله والى محبته الخالصة)).

* * *

وهكذا تمت الحكاية التي كانت تشير الى الحقيقة العظمى للتوحيد والايمان بالله.

وسنبين في المقام الثاني بفضل الرحمن وفيض القرآن الكريم ونور الايمان - مقابل ما جاء من اثنى عشر برهاناً في الحكاية التمثيلية إثنتي عشرة لمعة من لمعات شمس التوحيد الحقيقي بعد ان نمهّد لها بمقدمة.

نسأل الله التوفيق والهداية.

المقام الثاني

من الكلمة الثانية والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

] الله خَالِقُ كُلِ شَيءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شيْءٍ وَكيلٌ ^ لهُ مَقاليدُ السَمواتِ والارض[ (الزمر: 62ــ 63)

] فَسُبحان الذى بيدهِ مَلَكُوتُ كلِّ شيْءٍ واِليه تُرجعُونَ[ (يس:83)

] وَاِنْ مِنْ شيْءٍ الاّ عندَنا خَزَائِنُهُ ومَا نُنَزِّلُهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[ (الحجر: 21)

] مَا مِنْ دَابَةٍ الاّ هُوَ آخِذٌ بنَاصِيَتِها اِنّ رَبّى على صِرَاطٍ مُسْتَقيم[ (هود:56)



المقدمة

لقد بيّنا اجمالاً في رسالة ((قطرة من بحر التوحيد)) قطبَ اركان الايمان وهو (الايمان بالله). واثبتنا ان كل موجود من الموجودات يدل علـى وجوب وجود الله سبحانه ويشهد على وحدانيته بخمسة وخمسين لساناً. وذكرنا كذلك في رسالة (نقطة من نور معرفة الله جل جلاله) أربعة براهين كليّة على وجوب وجوده سبحانه ووحدانيته، كل برهان منها بقوة ألف برهان. كما ذكرنا مئات من البراهين القاطعة التي تبيّن وجوبَ وجوده سبحانه ووحدانيته فيما يقرب من اثنتي عشرة رسالة باللغة العربية، لذا نكتفي بما سبق ولا ندخل في تفاصيل دقيقة، الاّ أننا نسعى في هذه (الكلمة الثانية والعشرين) لإظهار (اثنتي عشرة) لمعة من شمس (الايمان بالله) تلك التي ذكرتُها اجمالاً في رسائل النور.

C اللمعة الاولى

التوحيد توحيدان، لنوضح ذلك بمثال:

اذا وردت الى سوقٍ او الى مدينة بضائع مختلفة وأموال متنوعة لشخص عظيم، فهذه الأموال تُعرف مُلكيتها بشكلين اثنين:

الاول: شكل إجمالي عامي (أي لدى العامة من الناس) وهو : (( ان مثل هذه الأموال الطائلة ليس بمقدور أحدٍِ غيره ان يمتلكها)) ولكن ضمن نظرة الشخص العامي هذه يمكن أن يحدث اغتصاب، فيدّعي الكثيرون امتلاك قِطَعها.

الثاني: أن تُقرأ الكتابة الموجودة على كل رزمة من رزم البضاعة، وتُعرف الطغراءُ الموجودة على كل طَول، ويُعلم الختمُ الموجود على كل مَعْلمَ. أي كلّ شئ في هذه الحالة يدل ضمناً على ذلك المالك.

فكما ان البضاعة يُعرف مالكُها بشكلين، كذلك التوحيد فانه على نوعين:

الاول: التوحيد الظاهري العامي: وهو ((أنّ الله واحد لا شريك له ولا مثيل، وهذا الكون كلّه ملكه)).

الثاني: التوحيد الحقيقي: وهو الايمان بيقين أقرب ما يكون الى الشهود، بوحدانيته سبحانه، وبصدور كلّ شئ من يد قدرته، وبأنه لا شريكَ له في ألوهيته، ولا معينَ له في ربوبيته، ولا ندَّ له في مُلكه، إيماناً يَهب لصاحبه الاطمئنان الدائم وسكينة القلب، لرؤيته آية قدرته وختمَ ربوبيته ونقشَ قلمه، على كل شئ. فينفتح شباكٌ نافذٌ من كل شئ الى نوره سبحانه.

وسنذكر في هذه ((الكلمة)) شعاعاتٍ تبيّن ذلك التوحيد الحقيقي الخالص السامي.

تنبيه ضمن اللمعة الاولى:

ايها الغافل الغارق في عبادة الأسباب!

إعلم أن الاسباب ليست الاّ ستائر امام تصرف القدرة الإلهية، لأن العزة والعظمة تقتضيان الحجاب، اما الفاعل الحقيقي فهو القدرة الصمدانية، لأن التوحيد والجلال يتطلبان هذا، ويقتضيان الاستقلال.

وأعلم أن مأموري السلطان الأزلي وموظفيه ليسوا هم المنفّذين الحقيقيين لأمور سلطنة الربوبية، بل هم دالّون على تلك العظمة والسلطان، والداعون اليها، ومشاهدوها المعجَبون، فما وُجدوا الاّ لإظهار عزّة القدرة الربانية وهيبتها وعظمتها، وذلك لئلا تظهر مباشرةُ يد القدرة في امور جزئية خسيسة لا يدرك نظر اكثر الغافلين حُسنَها ولا يعـرف حكمــتهــا فيشــتكي بغــير حــق ويعتــرض بغــيــر عــلــم. وهم ليسوا كموظفي السلطان البشري الذي لم يعيّنهم ولم يُشركهم في سلطنته الاّ نتيجة عجزه وحاجته.

فالاسباب اذن انما وُضعَت لتبقى عزةُ القدرة مصونةً من جهة نظر العقل الظاهري؛ اذ ان لكل شئ جهتين – كوجهي المرآة – احداهما جهة (المُلك) الشبيهة بالوجه المطلي الملوّن للمرآة الذي يكون موضع الألوان والحالات المختلفة، والاخرى جهة (الملكوت) الشبيهة بالوجه الصقيل للمرآة. ففي الوجه الظاهر - أي جهة المُلك - هناك حالات منافية ظاهراً لعزة القدرة الصمدانية وكمالِها، فوُضعَت الأسبابُ كي تكون مرجعاً لتلك الحالات ووسائلَ لها. أما جهةُ الملكوت والحقيقة فكلُّ شئٍ فيها شفافٌ وجميلٌ وملائمٌ لمباشرةِ يدِ القدرة لها بذاتها، وليس منافياً لعزّتها، لذا فالاسباب ظاهرية بحتة، وليس لها التأثير الحقيقي في الملكوتية او في حقيقة الأمر.

وهناك حكمة اخرى للأسباب الظاهرية وهي:

عدم توجيه الشكاوي الجائرة والاعتراضات الباطلة الى العادل المطلق جلّ وعلا. أي وُضعت الأسبابُ لتكونَ هدفاً لتلك الاعتراضات وتلك الشكاوي، لأن التقصيرَ صادرٌ منها ناشئ من افتقار قابليتها.

ولقد روي لبيان هذا السر مثالٌ لطيف ومحاورة معنوية هي:

ان عزرائيل عليه السلام قال لرب العزة:

((ان عبادك سوف يشتكون مني ويسخطون عليّ عند أدائي لوظيفة قبض الأرواح)).

فقال الله سبحانه وتعالى له بلسان الحكمة:

((ساضع بينَك وبين عبادي ستائرَ المصائب والأمراض لتتوجه شكاواهم الى تلك الأسباب)).

وهكذا، تأمل! كما أن الأمراضَ ستائرُ يرجع اليها ما يُتوهّم من مساوئ في الأجَل، وكما أن الجمال الموجود في قبض الأرواح - وهو الحقيقة - يعود الى وظيفة عزرائيل عليه السلام، فان عزرائيل عليه السلام هو الآخر ستار، فهو ستار لأداء تلك الوظيفة وحجاب للقدرة الإلهية، اذ أصبح مرجِعاً لحالات تبدو ظاهراً انها غير ذات رحمة ولا تليق بكمال القدرة الربانية.

نعم، ان العزّة والعظمة تستدعيان وضع الأسباب الظاهرية امام نظر العقل، الاّ ان التوحيد والجلال يردّان أيدي الاسباب عن التأثير الحقيقي.

C اللمعة الثانية

تأمل في بستان هذه الكائنات، وانظر الى جنان هذه الارض، وأنعم النظر في الوجه الجميل لهذه السماء المتلألئة بالنجوم. تَرَ أن للصانع الجليل جل جلاله ختماً خاصاً بمن هو صانع كل شئ على كل مصنوع من مصنوعاته، وعلامة خاصة بمن هو خالقُ كل شئ على كل مخلوق من مخلوقاته، وآية لا تقلَّد خاصة بسلطان الأزل والأبد على كل منشورٍ من كتابات قلم قدرته على صحائف الليل والنهار وصفحات الصيف والربيع.

سنذكر من تلك الاختام والعلامات بضعاً منها نموذجاً ليس الاّ، انظر مما لا يحصى من علاماته الى هذه العلامة التي وضعها على (الحياة):

(انه يخلق من شئ واحد كلَّ شئ، ويخلق من كلِّ شئ شيئاً واحداً). فمن ماء النطفة بل من ماء الشرب، يخلق ما لا يعد من أجهزة الحيوان واعضائه، فهذا العمل لاشك انه خاص بقدير مطلق القدرة.

ثم ان تحويل الأطعمة المتنوعة - سواء الحيوانية أو النباتية - الى جسم خاص بنظام كامل دقيق، ونسج جلد خاص للكائن وأجهزة معينة من تلك المواد المتعددة لا شك أنه عمل قدير على كل شئ وعليم مطلق العلم.

نعم، ان خالق الموت والحياة يدير الحياة في هذه الدنيا، إدارة حكيمة بقانون أمري معجِز، بحيث لا يمكن أن يطبّق ذلك القانون وينفّذه الاّ مَن يصرّف جميع الكون في قبضته.

وهكذا إن لم تنطفىء جذوة عقلك ولم تفقد بصيرة قلبك فستفهم أنّ جعل الشئ الواحدِ كل شئ بسهولة مطلقة وانتظام كامل، وجعل كلَّ شئٍ شيئاً واحداً بميزانٍ دقيق وانتظام رائع وبمهارة وابداع، ليس الاّ علامة واضحة وآية بيّنة لخالق كل شئ وصانعه.

فلو رأيت - مثلاً - أن أحداً يملـك أعمالاً خارقة: ينســج من وزنِ درهــمٍ من القطن مائة طَولٍ من الصوف الخالص وأطوالاً من الحـــرير وانــواعاً من الأقمشة، ورأيت أنه يُخرجِ علاوة على ذلك، من ذلك القطن حلويات لذيذة وأطعمة متنوعة كثيرة، ثم رأيت أنه يأخذ في قبضته الحديد والحجر والعسل والدهن والماء والتراب فيصنع منها الذهب الخالص، فستحكم حتماً أنه يملك مهارة معجِزة تخصّه وقدرة مهيمنة على التصرف في الموجودات، بحيث أن جميع عناصر الأرض مسخّرة بأمره، وجميع ما يتولد من التراب منفّذ لحكمه. فان تعجَبْ من هذا فان تجلي القدرة الإلهية وحكمتها في ((الحياة)) لهو أعجب من هذا المثال بألف مرّة.. فاليك علامة واحدة من علامات عديدة موضوعة على الحياة.

C اللمعة الثالثة

أنظر الى (ذوي الحياة) المتجولة في خضم هذه الكائنات السيالة، وبين هذه الموجودات السيارة، تَرَ ان على كل كائن حيّ، أختاماً كثيرة، وضعها الحيُّ القيوم. أنظر الى ختم واحدٍ منها:

ان ذلك الكائن الحيّ - وليكن هذا الانسان - كأنه مثال مصغَّر للكون، وثمرة لشجرة الخِلقة، ونواةٌ لهذا العالَم، حيث أنه جامعٌ لمعظم نماذج أنواع العوالم، وكأن ذلك الكائن الحيّ قطرةٌ محلوبة من الكون كلّه، مستخلصةٌ بموازين علمية حساسة، لذا يلزم لخلقِ هذا الكائن الحيّ، وتربيته ورعايته ان يكون الكون قاطبة في قبضة الخالق وتحت تصرفه. فان لم يكن عقلك غارقاً في الأوهام، فستفهم ان جعلَ النحلة التي تمثل كلمةً من كلمات القدرة الربانية بمثابة فهرس مصغّر لكثير من الأشياء.. وكتابة أغلب مسائل كتاب الكون في كيان الانسان الذي يمثّل صحيفةً من قدرته سبحانه.. وادراج منهاج شجرة التين الضخمة في بُذيراتها التي تمثل نقطةً في كتاب القدرة.. وإراءة آثار الأسماء الحسنى المحيطة المتجلية على صفحات هذا الكون العظيم في قلب الانسان الذي يمثل حرفاً واحداً من ذلك الكتاب.. ودرج ما تضمّه مكتبة ضخمة من مفصل حياة الانسان في ذاكرته المتناهية في الصغر.. كل ذلك دون شك، ختمٌ يخصّ بمن هو خالق كل شئ ورب العالمين.

فلئن أظهر ختمٌ واحد - من بين أختامٍ ربانية كثيرة - على (ذوي الحياة) نورَه باهراً حتى استقرأ آياته قراءة واضحة، فكيف اذا استطعتَ ان تنظر الى جميع (ذوي الحياة) وتشاهد تلك الأختام معاً، و ان تراها دفعةً واحدة، أما تقول: (سبحان من اختفى بشدة ظهوره)؟

C اللمعة الرابعة

أنظر الى هذه الموجودات الملونة الزاهية المبثوثة على وجه الارض، والى هذه المصنوعات المتنوعة السابحة في بحر السماوات، تأمل فيها جيداً.. تَرَ: ان على كل موجود منها طغراء لا تقلد للمنور الأزلي (جلّ وعلا). فكما تشاهَد على (الحياة) آياتُه وشاراته، وعلى (ذوي الحياة) أختامُه - وقد رأينا بعضاً منها - تشاهد آيات وشارات ايضاً على (الإحياء)، اي منح الحياة. سننظر الى حقيقتها بمثال، اذ المثال يقرب المعاني العميقة للأفهام.

انه يشاهد على كل من السيارات السابحة في الفضاء، وقطرات الماء، وقطع الزجاج الصغيرة، وبلورات الثلج البراقة... طغراءٌ لصورة الشمس وختم لانعكاسها، وأثرٌُ نوراني خاص بها، فان لم تقبل ان تلك الشُميسات المشرقة على الأشياء غير المحدودة، هي انعكاسات نور الشمس وتجليها، فستضطر ان تقبل بوجود شمس بالأصالة في كل قطرة، وفي كل قطعة زجاجٍ معرّضة للضوء، وفي كل ذرة شفافة تقابل الضوء، مما يلزم ترديك في منتهى البلاهة ومنتهى الجنون!

وهكذا، فللّه سبحانه وهو نور السموات والارض تجليات نورانية، من حيث ((الإحياء)) وافاضة الحياة، فهو آية جلية وطغراء واضحة يضعها سبحانه على كل ذي حياة، بحيث لو افترض اجتماع جميع الأسباب واصبح كلُّ سبب فاعلاً مختارا فلن تستطيع منحَ حياةٍ لموجود. أي انها تعجز عجزاً مطلقاً عن أن تقلّد شيئاً الختم الرباني في الإحياء. ذلك لأن كل ذي حياة هـو بحدّ ذاتـه معجزةٌ من معجزات القدرة الإلهية، اذ هو على صورة نقطة مركزية (كالبؤرة) لتجليات الاسماء الحسنى، التي كل منها بمثابة شعاع من نوره ســبحانه. فلـو لم يُسنَد ما يــشاهَد علـى الكائن الحيّ من صنعةٍ بديعة في الصورة، وحكمةٍ بالغة في النظام وتجلٍّ باهر لسر الأحدية، الى الأحد الصمد جلّ جلالُه، للزم قبول قدرةٍ فاطرة مطلـقة غير متـناهية مـستـترة في كل ذي حياة، ووجود علمٍ محيط واســع فيـه، مـع ارادة مطــلقة قـادرة عـلى ادارة الـكون، بل يجب قبول وجود بقية الصفات التي تخص الخالق سبــحانه في ذلك الكائن، حتى لو كان الـكائن الحــي ذبـابـة أو زهـرة! أي اعـطـاء صـفـات الألوهـــيـة الى كل ذرة من ذرات اي كائن! أي قبـول افتراضـات محالة من أمثــال هذه الافـتـراضـات التي تـوجب السقــــوط الــى أدنــى بلاهات الضـلالة وحمــاقـات الخرافة! ذلك لأنه سبحانه وتعالى قد أعطى لذرات كل شئ - لا سيما اذا كانت من امثال البذرة والنواة - وضعاً معيناً، كأن تلك الذرة تنظر الى ذلك الكائن الحي كله - رغم أنها جزء منه - وتتخذ موقفاً معيناً وفق نظامه، بل تتخذ هيئة خاصة بما يفيد دوام ذلك النوع، وانتشاره ونصب رايته في كل مكان، وكأنها تتطلع الى جميع أنواع ذلك الكائن في الارض - فتزود البذرة مثلاً بما يشبه جُنيحات لأجل الطيران والانتشار - ويتخذ ذلك الكائن الحيّ موقفاً يتعلق بجميع موجودات الأرض التي يحتاجها لأدامة حياته وتربيته ورزقه ومعاملاته. فان لم تكن تلك الذرة مأمورة من لدن قدير مطلق القدرة، وقُطِعت نسبتها من ذلك القدير المطلق، لزم ان يُعطى لها بصرٌ تبصر به جميع الأشياء، وشعورٌ يحيط بكل شئ!!.

حاصل الكلام: كما انه لو لم تُسنَد صُور الشميسات المشرقة وانعكاسات الألوان المختلفة في القطرات وقطع الزجاج الى ضوء الشمس، ينبغي عندئذٍ قبول شموس لا تحصى بدلاً من شمس واحدة. مما يقتضي التسليم بخرافة محالة، كذلك لو لم يُسند خلق كل شئ الى القدير المطلق، للزم قبول آلهة غير متناهية بل بعدد ذرات الكون بدلاً من الله الواحد الأحد سبحانه. أي قبول محال بدرجة مائة محال، أي ينبغي السقوط الى هذيان الجنون.

نخلص من هذا: ان هناك في كل ذرة ثلاثة شبابيك نافذة مفتّحة الى نور وحدانية الله جلّ جلاله والى وجوب وجوده سبحانه وتعالى:

` النافذة الاولى:

ان كل ذرة كالجندي، الذي له علاقة مع كل دائرة من الدوائر العسكرية أي مع رهطه وسرّيته وفوجه ولوائه وفرقته وجيشه، وله حسب تلك العلاقة وظيفة هناك، وله حسب تلك الوظيفة حركة خاصة ضمن نطاق نظامها. فالذرة الجامدة الصغيرة جداً، التي هي في بؤبؤ عينك لها علاقة معينة ووظيفة خاصة، في عينك ورأسك وجسمك، وفي القوى المولدة والجاذبة والدافعة والمصّورة وفي الأوردة والشرايين والأعصاب، بل لها علاقة حتى مع نوع الانسان.

فوجود هذه العلاقات والوظائف للذرة، يدلّ بداهة - لذوي البصائر - على ان الذرة انّما هي أثرٌ من صنعِ القدير المطلق، وهي مأمورة موظّفة تحت تصرفه سبحانه وتعالى.

` النافذة الثانية:

ان كل ذرة من ذرات الهواء تستطيع ان تزور أية زهرة أو ثمرة كانت، وتتمكن من الدخول والعمل فيها، فلو لم تكن الذرة مأمورة مسخّرة من لدن القدير المطلق البصير بكل شئ، للزم ان تكون تلك الذرة التائهة عالمةً بجميع أجهزة الأثمار والأزهار وبكيفيات بنائها، ومدركةً صنعتها الدقيقة المتباينة ومحيطة بنسج وتفصيل ما قدّ عليها من صور وأشكال، ومتقنةً صناعة نسيجها اتقاناً تاماً!!

وهكذا تشع هذه الذرة شعاعاً من شعاعات نور التوحيد كالشمس واضحة.. وقس الضوء على الهواء، والماء على التراب حيث أن منشأ الاشياء من هذه المواد الاربعة وقس ما في العلوم الحاضرة من مولد الماء ومولد الحموضة (الاوكسجين والهيدروجين) والآزوت والكاربون على تلك العناصر المذكورة.

` النافذة الثالثة:

يمكن ان تكون كتلة من التراب المركب من ذرات دقيقة منشأً ومصدراً لنموّ أي نبات من النباتات المزهرة والمثمرة الموجودة في الأرض كافة، فيما لو وُضعت فيها بُذيراتُها الدقيقة، تلك البذيرات المتشابهة - كالنُطف - والمركبة من كربون وآزوت واوكسجين وهيدروجين، فهي متماثلة ماهيةً، رغم انها مختلفة نوعيةً، حيث أودع فيها بقلم القَدَر، برنامجُ أصلها الذي هو معنوي بحت. فاذا ما وضعنا بالتعاقب تلك البذور في سندانة، فستنمو كل بذرة بلا ريب بشكل يُبرز أجهزتَها الخارقة وأشكالها الخاصة وتراكيبها المعينة. فلو لم تكن كل ذرة من ذرات التراب مأمورة وموظفة ومتأهبة للعمل تحت أمرة عليم بأوضاع كل شئ وأحواله، وقديرٍ على إعطاء كل شئ وجوداً يليق به ويديمه، اي لو لم يكن كل شئ مسخراً أمام قدرته سبحانه، للزم ان تكون في كل ذرة من ذرات التراب، مصانع ومكائن ومطابع معنوية، بعدد النباتات، كي تصبح منشأً لتلك النباتات ذات الأجهزة المتباينة والأشكال المختلفة!.. أو يجب إسناد علم يحيط بجميع الموجودات الى كل ذرة، وقدرة تقدر على القيام بعمل جميع الأجهزة والأشكال فيها، كي تكون مصدراً لجميعها!!

أي انه اذا ما انقطع الانتساب الى الله سبحانه وتعالى، ينبغي قبول وجود آلهة بعدد ذرات التراب!! وهذه خرافة مستحيلة في ألـف محال ومحـال. بينما الأمر يكون مستساغاً عقلاً وسهلاً ومقبولاً عندما تصبح كل ذرة مأمورة، اذ كما ان جندياً إعتيادياً لدى سلطان عظيم يستطيع - باسم السلطان واستناداً الى قوته - أن يقوم بتهجير مدينة عامرة من أهلها، أو يصل بين بحرين واسعين، أو يأسر قائداً عظيماً، كذلك تستطيع بعوضة صغيرة أن تطرح نمروداً عظيماً على الأرض، وتستطيع نملة بسيطة ان تدمّر صرح فرعون، وتستطيع بذرة تين صغيرة جداً ان تحمل شجرة التين الضخمة على ظهرها، كل ذلك بأمر سلطان الأزل والأبد وبفضل ذلك الانتساب.

وكما رأينا هذه النوافذ الثلاث المفتحة على نور التوحيد في كل ذرة ففيها ايضاً شاهدان صادقان آخران على وجود الصانع سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته.

أولهما: هو حمل الذرة على كاهلها وظائف عظيمة جداً ومتنوعة جداً، مع عجزها المطلق.

والآخر: هو توافق حركاتها بانتظام تام وتناسقها مع النظام العام، حتى تبدو وكأن فيها شعوراً عاماً كلياً مع انها جماد.

أي أن كل ذرة تشهد بلسان عجزها على وجود القدير المطلق، وتشهد باظهارها الانسجام التام مع نظام الكون العام على وحدانية الخالق سبحانه وتعالى.

وكما ان في كل ذرة شاهدين على ان الله واجب الوجود وواحد، كذلك في كل (حي) له آيتان على أنه (أحد صمدٌ).

نعم! ففي كل حيّ هناك آيتان:

احداهما: آيةُ الأحدية.

والأخرى: آيةُ الصمدية.

لأن كل (حيّ) يُظهر تجليّات الأسماء الحسنى، المشاهَدة في أغلب الكائنات، يُظهرها دفعةً واحدة في مرآته، وكأنه نقطةٌ مركزية - كالبؤرة - تبيّن تجلي اسم الله الأعظم، الحي القيوم، أي أنه يحمل آية الأحدية باظهاره نوعاً من ظل أحدية الذات تحت ستار اسم المحيي.

ولما كان الكائن الحيّ بمثابة مثال مصغر للكائنات، وبمثابة ثمرة لشجرة الخليقة، فان إحضار حاجـاته المـتراميـة في الكـائنـات الى دائــرة حياته الصغيرة جداً، بسهولة كاملة، وبدفعة واحدة، يُبرز للعيان آية الصمدية ويبينها، أي ان هذا الوضع يبيّن ان لهذا الكائن الحيّ ربّاً - نِعمَ الرب - بحيث أن توجّهاً منه اليه يُغنيه عن كل شئ، ونظرةً منه اليه تكفيه عن جميع الأشياء، ولن يحلّ جميعُ الأشياء محل توجهٍ واحدٍ منه سبحانه.

((نعم يكفي لكل شئ شئ عن كل شئ، ولا يكفي عنه كل شئ ولو لشئ واحد)).

وكذا يبيّن ذلك الوضع أن ربّه ذاك - جلّ شأنه - كما انه ليس محتاجاً الى شئ أيّاً كان، فان خزائنه لا ينقص منها شئ أيضاً، ولا يصعب على قدرته شئ.. فاليك مثالاً من آيةٍ تُظهر ظل الصمدية.

أي، ان كل ذي حياة يرتّل بلسان الحياة: ((قل هو الله أحدٌ. الله الصمد))..

هذا وان هناك عدة نوافذ مهمة اخرى عدا ما ذكرناه قد اُختصرت هنا فيما فُصلت في أماكن أخرى.

فما دامت كل ذرة من ذرات هذا الكون تفتح ثلاث نوافذ، وكُوّتين، والحياة نفسُها تفتح بابين دفعة واحدة الى وحدانية الله سبحانه، فلابدّ انك تستطيع الآن قياس مدى ما تنشره طبقات الموجودات - من الذرات الى الشمس - من أنوار معرفة الله ذي الجلال.. فافهم من هذا سعة درجات الرقي المعنوي في معرفة الله سبحانه ومراتب الاطمئنان والسكينة القلبية، وقس عليها.

C اللمعة الخامسة

من المعلوم أنه يكفي لاخراج كتابٍ ما، قلمٌ واحدٌ اِن كان مخطوطاً. وتلزم أقلامٌ عديدة بعدد حروفه إن كان مطبوعاً، أي حروفاً معدنية عديدة. ولو كُتب معظمُ ما في الكتاب في بعض حروفه بخط دقيق جداً - ككتابة سورة يس مصغرة في لفظ يس - فيلزم عندئذٍ ان تكون جميع الحروف المعدنية مصغّرة جداً لطبع ذلك الحرف الواحد.

فكما ان الأمر هكذا في الكتاب المستنسخ أو المطبوع كذلك كتاب الكون هذا، اذا قلتَ انه كتابة قلمِ قدرة الصمد، ومكتوبُ الواحد الأحد، فقد سلكتَ اذن طريقاً سهلة بدرجة الوجوب، ومعقــولةً بــدرجـة الضــرورة، ولكــن اذا ما أســندته الى الطبيعة والى الأسباب، فقد سلكت طريقاً صعبة بدرجة الامتناع، وذات اشكالات عويصة بدرجة المحال، وذات خرافات لاشك فيها، اذ يلزم ان تنشئ الطبيعةُ في كل جزء تراب، وفي كل قطرة ماء، وفي كل كتلة هواء ملايين الملايين من مطابع معدنية، وما لا يحد من مصانع معنوية، كي يُظهر كلُّ جزءٍ من تلك الأجزاء وينشىء ما لا يعد ولا يحصى من النباتات المزهرة والمثمرة.. أو تضطر الى قبول وجود علمٍ محيط بكل شئٍ، وقوةٍ مقتدرة على كل شئ في كل منها، كي يكون مصدراً حقيقياً لهذه المصنوعات؛ لأن كل جزءٍ من أجزاء التراب والماء والهواء يمكن ان يكون منشأ لأغلب النباتات. والحال ان تركيب كل نباتٍ منتظمٌ، وموزون، ومتمايز، ومختلف نوعاً، فكلٌ منه اذاً بحاجة الى معمل معنوي خاص به وحده والى مطبعة تخصّه هو فقط. فالطبيعة اذن اذا خرجت عن كونها وحدةَ قياسٍ للموجودات الى مصدرٍ لوجودها، فما عليها الاّ احضار مكائن جميع الأشياء في كل شئ!!.

وهكذا فان أساس فكرة عبادة الطبيعة هذه خرافة بئست الخرافة!. حتى الخرافيون أنفسهم يخجلون منها. فتأمل في أهل الضلالة الذين يعدّون انفسهم عقلاء كيف تمسكوا بفكرة غير معقولة بالمرة.. ثم اعتبر!!.

الخلاصة:

ان كل حرف في أي كتاب كان، يظهر نفسه بمقدار حرف، ويدل على وجوده بصورة معينة، الاّ انه يعرّف كاتبه بعشر كلمات، ويدل علىه بجوانب عديدة، فيقول مثلاً: ((ان كاتبي خطه جميل، وان قلمه أحمر، وانه كذا وكذا..)).

ومثل ذلك كل حرف من كتاب العالم الكبير هذا، يدل على ذاته بقدر جرمه (مادته) ويُظهِر نفسه بمقدار صورته، الاّ انه يعرّف اسماء البارىء المصوّر سبحانه بمقدار قصيدة، ويظهر تلك الأسماء الحسنى ويشير اليها بعدد أنواعه شاهداً على مسمّاه، لذا ينبغي ألا يزلّ الى انكار الخالق ذي الجلال حتى ذلك السوفسطائي الأحمق الذي ينكر نفسه وينكر الكون.

C اللمعة السادسة

ان الخالق ذا الجلال كما وضع على جبين كل (فرد) من مخلوقاته وعلى جبهة كل (جزء) من مصنوعاته، آية أحديته (وقد رأيت قسماً منها في اللمعات السابقة)، فانه سبحانه قد وضع على كل (نوع) كثيراً من آية الأحدية بشكل ساطع لامع، وعلى كل (كلّ) عديداً من أختام الواحدية، بل وضع على مجموع العالم أنواعاً من طغراء الوحدة. واذا تأملنا ختماً واحداً، من تلك الاختام والعلامات العديدة الموضوعة على صحيفة سطح الأرض في موسم الربيع تبين لنا ما يأتي:

ان البارئ المصوّر سبحانه وتعالى قد حشر ونشر اكثر من ثلاثمائة ألف نوعٍ من النباتات والحيوانات على وجه الأرض في فصل الربيع والصيف بتمييز وتشخيص بالغين، وبانتظام وتفريق كاملين - رغم اختلاط الأنواع اختلاطاً كاملاً - فأظهر لنا اية واسعة ساطعة للتوحيد، واضحة وضوح الربيع. أي ان ايجاد ثلاثمائة ألف نموذج من نماذج الحشر بانتظام كامل عند إحياء الأرض الميتة في موسم الربيع، وكتابةَ الأفراد المتداخلة لثلاثمائة ألف نوع مختلف على صحيفة الأرض كتابةً دون خطأ ولا سهو ولا نقص، وفي منتهى التوازن والانتظام، وفي منتهى الاكتمال، لاشك أنه آية خاصة بمن هو قدير على كل شئ بيده ملكوت كل شئ، وبيده مقاليد كل شئ، وهو الحكيم العليم.

هذه الآية من الوضوح بحيث يدركها كل من له ذرة من شعور.

ولقد بيّن القرآن الكريم هذه الآية الساطعة في قوله تعالى:

] فانظُر الى آثارِ رَحْمَتِ الله كيفَ يُحيِي الأرضَ بَعْدَ مَوتها انّ ذلك لَمحيي الموتى وهو على كل شيءٍ قدير[ (الروم:50).

نعم، ان قدرة الفاطر الحكيم التي أظهرت ثلاثمائة ألف نوع من نماذج الحشر في إحياء الأرض خلال بضعة أيام، لابَّد ان يكون حشرُ الانسان - لديها - سهلاً ويسيراً. إذ هل يصح أن يقال - مثلاً - لمن له خوارق بحيث يزيل جبلاً عظيماً باشارة منـه، أيستطـيع ان يزيـل هـذه الصخـرة العظـيمة التـي سدّت طـريقنا مـن هذا الوادي؟. ومثـِلَه كـذلــك لا يجـرأ ذو عقـل أن يـقول بصـيغة الاسـتبعاد للقـدير الحكـيم والكريم الرحيم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والذي يملأهما ويفرغهما حيناً بعد حين: ((كيف يستطيع أن يزيل طبقة التراب هذه التي علينا والتي سدت طريقنا المفروشة الى مستضافه الخالد؟)).

فهذا مثالُ آيةٍ واحدة للتوحيد تَظهر على سطح الأرض في فصل الربيع والصيف! فتأمل اذن كيف يظهر ختمُ الواحدية بجلاء على تصريف الأمور في الربيع الهائل على سطح الارض وهو في منتهى الحكمة والبصر، ذلك لأن هذه الاجراءات المشاهَدة، هي في انتظام مطلق، وخلقة تامة، وصنعة كاملة بديعة، مع انها تجري في سعة مطلقة، ومع هذه السعة فهي تتم في سرعة مطلقة، ومع هذه السرعة فهي ترد في سخاء مطلق. ألا يوضح هذا أنه ختمٌ جلّي بحيث لا يمكن ان يمتلكه الاّ مَن يملك علماً غير متناهٍ وقدرة غير محدودة.

نعم، اننا نشاهد على سطح الأرض كافة، ان هناك خلقاً وتصرفاً وفعاليةً تجري في سعة مطلقة، ومع السعة تُنجَز في سرعة مطلقة، ومع السرعة والسعة يُشاهد سخاءٌ مطلق في تكثير الأفراد، ومع السخاء والسعة والسرعة تتضح سهولةٌ مطلقة في الأمر مع انتظامٍ مطلق وابداع في الصنعة وامتياز تام، رغم الاختلاط الشديد والامتزاج الكامل. ويُشاهد كذلك آثارٌ ثمينة جداً، ومصنوعاتٌ نفيسة جداً رغم الوفرة غير المحدودة، مع انسجام كامل في نطاق واسع جداً، ودقة الصنعة وبدائعها وروعتها وهي في منتهى السهولة واليسر. فايجاد كل هذا في آن واحد، وفي كل مكان، وبالطراز نفسه، وفي كل فرد، مع اظهار الصنعة الخارقة والفعالية المعجزة، لاشك مطلقاً انه برهان ساطع وختم يخص مَن لا يحدّه مكان، مثلما أنه في كل مكان، حاضر وناظر رقيب حسيب، ومَن لا يخفى عليه شئ مثلما انه لا يعجزه شئ. فخلق الذرات والنجوم سواء امام قدرته.

لقد أحصيتُ ذات يوم عناقيد ساق نحيفة لعنب متسلق - بغلظ اصبعين - تلك العناقيد التي هي معجزات الرحيم ذي الجمال في بستان كرمه. فكانت مائة وخمسة وخمسين عنقوداً. واحصيتُ حبّات عنقود واحد منها فكانت مائة وعشرين حبة. فتأملت وقلت: لو كانت هذه الساق الهزيلة خزانة ماء معسّل، وكانت تعطي ماءً باستمرار لما كانت تكفي أمام لفح الحرارة ما ترضعه لمئاتِ الحبات المملوءة من شراب سكر الرحمة. والحال أنها قد لا تنال الاّ رطوبة ضئيلة جداً، فيلزم ان يكون القائم بهذا العمل قادراً على كل شئ. فـ ((سبحان من تَحيَّرُ في صنعه العقول)).

C اللمعة السابعة

كما انك تتمكن من رؤية اختام الأحد الصمد سبحانه، المختومة بها صحيفة الأرض، وذلك بنظرة إمعان قليلة، فارفع رأسك وافتح عينيك، وألق نظرةً على كتاب الكون الكبير تَرَ أنه يقرأ على الكون كله، ختمَ الوحدة بوضوح تام، بقدر عظمته وسعته ذلك لأن هذه الموجودات كأجزاء معمل منتظم، وأركان قصر معظم، وأنحاء مدينة عامرة، كُّل جزءٍ ظهير للآخر، كل جزء يمدّ يد العون للآخر، ويجدّ في اسعاف حاجاته. والاجزاء جميعاً تسعى يداً بيد بانتظام تام في خدمة ذوي الحياة، متكاتفة متساندة متوجهة الى غاية معينة في طاعة مدبّر حكيمٍ واحدٍ.

نعم، ان دستور ((التعاون)) الجاري الظاهر ابتداءً من جري الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار وترادف الشتاء والصيف.. الى إمداد النباتات للحيوانات الجائعة، والى سعي الحيوانات لمساعدة الانسان الضعيف المكرم، بل الى وصول المواد الغذائية على جناح السرعة لاغاثة الأطفال النحاف، وامداد الفواكه اللطيفة. بل الى خِدمة ذرات الطعام لحاجة حجيرات الجسم... كل هذه الحركات الجارية وفق دستور ((التعاون)) تُري لمن لم يفقد بصيرته كلّياً انها تجري بقوةِ مربٍّ واحد كريم مطلق الكرم، وبأمر مدبّر واحد حكيم مطلق الحكمة.

فهذا التساند، وهذا التعاون، وهذا التجاوب، وهذا التعانق، وهذا التسخير، وهذا الانتظام، الجاري في هذا الكون، يشهد شهادة قاطعة، أن مدبراً واحداً هو الذي يديره، ومربياً احداً يسوق الجميع في الكون. زد عليه، فان الحكمة العامة الظاهرة بداهة في خلق الاشياء البديعة وما تتضمنه من عناية تامة وما في هذه العناية من رحمة واسعة وما على هذه الرحمة من ارزاق منثورة تفي بحاجة كل ذي حياة وتعيّشه وفق حاجاته... كل ذلك ختم عظيم للتوحيد له من الظهور والوضوح ما يفهمه كل مَن لم تنطفىء جذوة عقله، ويراه كل من لم يُعمَ بصرُه؟.

نعم، ان حُلّة ((الحكمة)) التي يتراءى منها القصد والشعور والارادة قد أسبغت على الكون كله وجُلّلت كل جوانبه. وخُلعَتْ على حلة الحكمة هذه حلّةُ (العناية) التي تشف عن اللّطف والتزيين والتحسين والاحسان، وعلى هذه الحلة القشيبة للعناية ألقيت حلّةُ (الرحمة) التي يتألق منها بريق التودد والتعرف والانعام والاكرام وهي تغمر الكون كله وتضمه. وصفَّت على هذه الحلّة المنوّرة للرحمة العامة (الارزاقٌُ العامة)، ومُدّت موائدها التي تعرض الترحم والاحسان والاكرام والرأفة الكاملة وحسن التربية ولطف الربوبية.

نعم، ان هذه الموجودات؛ ابتداءً من الذرات الى الشموس، سواءً أكانت أفراداً أم أنواعاً وسواءً أكانت صغيرة أم كبيرة، قد اُلبست ثوباً رائعاً جداً، نُسج هذا الثوب من قماش (الحكمة) المزيّن بنقوش الثمرات والنتائج والغايات والفوائد والمصالح.. وأكسيت بحلّةِ (العناية) المطرزة بأزاهير اللطف والاحسان قدّت وفصلت حسب قامة كل شئ ومقاس كل موجود.. وعلى حلّة العناية هذه قُلّدت شارات (الرحمة) الساطعة ببريق التودد والتكرم والتحنن، والمتلألئة بلمعات الانعام والافضال… وعلى تلك الشارات المرصعة المنورة نُصبت مائدةُ (الرزق) العام على امتداد سطح الأرض بما يكفي جميع طوائف ذوي الحياة وبما يفي سد جميع حاجاتهم.

وهكذا، فهذا العمل يشير اشارة واضحة وضوح الشمس، الى حكيم مطلق الحكمة، وكريم مطلق الكرم، ورحيم مطلق الرحمة، ورزاق مطلق الرزق.

أحقاً ان كل شئ بحاجة الى الرزق؟

نعم، كما اننا نرى ان كل فرد بحاجة الى رزق يديم حياته، كذلك جميع موجودات العالم - ولا سيما الأحياء - الكلّي منها والجزئي، أو الكلّ والجزء، لها في كيانها، وفي بقائها، وفي حياتها وادامتها، مطاليب كثيرة، وضروريات عديدة، مادةً ومعنىً، ومع انها مفتقرةٌ ومحتاجة الى اشياء كثيرة مما لا يمكن أن تصل يدُها الى أدناها، بل لا تكفي قوّةُ ذلك الشئ وقدرتُه للحصول على أصغر مطاليبه، نشاهد ان جميع تلك المطاليب والارزاق المادية والمعنوية تُسلَّم الى يديه من حيث لا يحتسب وبانتظام كامل وفي الوقت المناسب تسليماً موافقاً لحياته متّسماً بالحكمة الكاملة.

ألا يدل هذا الافتقار، وهذه الحاجة في المخلوقات وهذا النمط من الإمداد والإعانة الغيبية، على رب حكيمٍ ذي جلال ومدبّر رحيم ذي جمال؟.

C اللمعة الثامنة

مثلما ان زراعة بذورٍ في حقلٍ ما، تدل على ان ذلك الحقل هو تحت تصرف مالك البذرة، وان تلك البذرة هي كـذلك تحــت تصــرفه، فان كلية العنـاصر في مزرعة الارض وفي كل جزء منها مع انها واحدة وبسيطة، وانتشار المخلوقات من نباتات وحيوانات في معظم الاماكن - وهي تمثل ثمرات الرحمة الإلهية ومعجزات قدرته وكلمات حكمته - مع انها متماثلة ومتشابهة ومتوطنة في كل طرف.. ان هذه الكلية والانتشار يدلان دلالة جَلية على انهما تحت تصرف ربّ واحد أحد، حتى كأن كلّ زهرة، وكل ثمرة، وكل حيوان، آية ذلكم الرب الكريم وختمه وطغراؤه، فاينما يحل - أيُّ منها - يقول بلسان حاله:

((مَنْ كنتُ آيتَه، فهذه الأرض مصنوعته، ومَنْ كنتُ ختمه فهذا المكان مكتوبُه، ومَنْ كنتُ علامتَه فهذا الموطن منسوجُهُ..)).

فالربوبية اذن على أدنى مخلوق، انما هي من شأن مَن يُمسك في قبضة تصرّفه جميعَ العناصر، ورعايةُ أدنى حيوان انما هي من شأن مَن لا يعجزه تربية جميع الحيوانات والنباتات والمخلوقات ضمن قبضة ربوبيته!.

هذه الحقيقة واضحة لمن لم يعم بصره!

نعم، ان كل فرد يقول بلسان مماثلته ومشابهته مع سائر الأفراد: ((مَنْ كان مالكاً لجميع نوعي يمكنه ان يكون مالكي، والاّ فلا)). وان كل نوع يقول بلسان انتشاره مع سائر الأنواع، وكذا الارض تقول بلسان ارتباطها بسائر السيارات بشمس واحدة وتساندها مع السموات: ((مَنْ كان مالكاً للكون كله يمكنه ان يكون مالكي، وإلاّ فلا)).

فلو قيل لتفاحةٍ ذات شعور: (أنتِ مصنوعتي أنا) فسترد عليه تلك التفاحة بلسان الحال قائلة:

صه.. لو استطعت ان تكون قادراً على تركيب ما على سطح الأرض من تفاح، بل لو اصبحت متصرفاً فيما على الأرض من نباتات مثمرة من جنسنا، بل متصرفاً في هدايا الرحمن التي يجود بها من خزينة الرحمة. فادَّعِ آنذاك الربوبية علَّي!!.

فتلطم تلك التفاحة بهذا الجواب فمَ ذلك الأحمق لطمة قوية..!.

C اللمعة التاسعة

لقد أشرنا الى آيات وأختام موضوعة على (الجزء والجزئي)، وعلى (الكل والكلّي)، وعلى (العالم الكلّي)، وعلى (الحياة) وعلى (ذوي الحياة) وعلى (الإحياء)، ونشير هنا الى آية واحدةٍ مما لا يحصى من الآيات في (الأنواع).

ان تكاليف أثمار عديدة لشجرة مثمرة تتسهل، ومصاريفها تتذلل، حتى تتساوى مع تكاليف ومصاريف ثمرة واحدة تربّت بايدي الكثرة، ذلك لأن الشجرة الواحدة المثمرة تُدار من مركز واحد، وبتربية واحدة، وبقانون واحد، أي ان الكثرة وتعدد المراكز يستدعيان ان تكون لكل ثمرة مصاريف وتكاليف وأجهزة - كميةً - بقدر ما تحتاجه شجرة كاملة. والفرق في النوعية ليس إلاّ. مثله في هذا مثل عمل عتاد لجندي، وتوفير تجهيزاته العسكرية، اذ يحتاج معامل بقدر المعامل التي يحتاجها الجيش بأكمله، فالعمل إذن اذا انتقل من يد الوحدة الى يد الكثرة فان التكاليف تزداد من حيث الكمية بعدد الأفراد. وهكذا فان ما يشاهد من أثر اليسر والسهولة الظاهرة في النوع انما هو ناشىء من السهولة الفائقة في الوحدة والتوحيد.

الخلاصة:

كما ان التشابه والتوافق في الأعضاء الاساس لأنواع جنسٍ واحد وافراد نوعٍ واحد، يثبتان ان تلك الأنواع والأفراد انما هي مخلوقات خالق واحد، كذلك السهولة المطلقة المشهودة، وانعدام التكاليف، تستلزمان بدرجة الوجوب ان يكون الجميع آثار صانع واحد، لأن وحدة القلم ووحدة السكة والختم تقتضيان هذا، والاّ لساقت الصعوبة التي هي في درجة الامتناع. ذلك الجنس الى الانعدام، وذلك النوع الى العدم.

نحصل من هذا: انه اذا اُسند الخلق الى الحق سبحانه وتعالى فان جميع الأشياء حُكْمها في سهولة الخلق كخلق شئ واحد، وان اُسند الى الاسباب فان كل شئ يكون حُكمه في الخلق صعباً كصعوبة خلق جميع الأشياء. ولما كان الأمر هكذا، فالوفرة الفائقة المشاهدة في العالم، والخصب الظاهر امام العين يظهران كالشمس آية الوحدة. فان لم تكن هذه الفواكه الوفيرة التي نتناولها مُلكاً لواحدٍ أحد، لما أمكننا ان نأكل رمانةً واحدة ولو أعطينا ما في الدنيا كلها ثمناً لصنعها.

C اللمعة العاشرة

كما ان الحياة التي تُظهر تجلي الجمال الرباني هي برهان الأحدية، بل هي نوع من تجلي الوحدة، فالموت الذي يُظهر تجلي الجلال الإلهي هو الآخر برهان الواحدية.

فمثلاً: ان الفقاعات والزبد والحباب المواجهة للشمس، والتي تنساب متألقة على سطح نهرٍ عظيم، والمواد الشفافة المتلمعة على سطح الأرض، شواهدٌ على وجود تلك الشمس، وذلك باراءتها صورة الشمس وعكسها لضوئها. فدوامُ تجلي الشمس ببهاء مع غروب تلك القطرات وزوال لمعان المواد، واستمرار ذلك التجلي دون نقص على القطرات والمواد الشفافة المقبلة مجدداً، لهي شهادة قاطعة على ان تلك الشُميسات المثالية، وتلك الأضواء المنعكسة، وتلك الأنوار المشاهدة التي تنطفئ وتضئ وتتغير وتتبدل متجدّدةً، انما هي تجليات شمسٍ باقية، دائمةٍ، عالية، واحدةٍ لا زوال لها. فتلك القطرات اللماعة اذن بظهورها وبمجيئها تدل على وجود الشمس وعلى دوامها ووحدتها.

وعلى غرار هذا المثال (ولله المثل الأعلى) نجد أن:

هذه الموجودات السيالة اذ تشهد بوجودها وحياتها على وجوب وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى أحديته فانها تشهد بزوالها وموتها أيضاً على وجود الخالق سبحانه وعلى أزليته وسرمديته وأحديته.

نعم، ان تجدد المصنوعات الجميلة وتبدّل المخلوقات اللطيفة، ضمن الغروب والشروق وباختلاف الليل والنهار، وبتحول الشتاء والصيف، وتبدل العصور والدهور، كما انها تشهد على وجود ذي جمال سرمدي رفيع الدرجات دائم التجلي، وعلى بقائه سبحانه ووحدته، فان موت تلك المصنوعات وزوالها - باسبابها الظاهرة - يبيّن تفاهة تلك الاسباب وعجزها، وكونها ستاراً وحجاباً ليس إلاّ.. فيثُبت لنا هذا الوضع - اثباتاً قاطعاً - ان هذه الخِلقة والصَنعة، وهذه النقوش والتجليات انما هي مصنوعاتٌ ومخلوقاتٌ متجددةٌ للخالق جل جلاله الذي جميع أسمائه حُسنى مقدّسة، بل هي نقوشه المتحولة، ومراياه المتحركة وآياته المتعاقبة، وأختامه المتبدلة بحكمة.

الخلاصة: ان كتاب الكون الكبير هذا اذ تعلّمنا آياته التكوينية الدالة على وجوده سبحانه وعلى وحدانيته، يشهد كذلك على جميع صفات الكمال والجمال والجلال للذات الجليلة. ويثبت أيضاً كمال ذاته الجليلة المبرأة من كل نقص، والمنزّهة عن كل قصور. ذلك لأن ظهور الكمال في أثرٍ ما، يدل على كمال الفعل الذي هو مصدره، كما هو بديهي، وكمال الفعل هذا يدلّ على كمال الأسم، وكمال الأسم يدل على كمال الصفات، وكمال الصفات يدل على كمال الشأن الذاتي، وكمال الشأن الذاتي يدل على كمال الذات - ذات الشؤون - حَدساً وضرورة وبداهة.

فمثلاً: ان النقوش المتقنة والتزيينات البديعة لقصر كامل رائع، تدل على ما وراءها من كمال الأفعال التامة لبنّاء ماهر خبير.. وان كمال تلك الأفعال واتقانها ينطق بتكامل الأسماء لرتب وعناوين ذلك البنّاء الفاعل.. وتكامل الأسماء والعناوين يُفصح عن تكامل صفاتٍِ لا تحصى لذلك الصانع من جهة صنعته وتكامل تلك الصفات وابداع الصنعة يشهدان على تكامل قابليات ذلك الصانع وإستعداداته الذاتية المسماة بالشؤون. وتكامل تلك الشؤون والقابليات الذاتية تدل على تكامل ماهية ذات الصانع.

وهكذا الأمر في الصنعة المبدعة المبرّأة من النقص والفطور في الآثار المشهودة في العالم، وفي هذه الموجودات المنتظمة في الكون، التي لفتت اليها الأنظار الآية الكريمة: ] هَل تَرى مِن فُطُور[ (الملك:3)، فهي تدل بالمشاهدة على كمال الأفعال لمؤثرٍ ذي قدرة مطلقة، وكمال الأفعال ذاك يدل بالبداهة على كمال أسماء الفاعل ذي الجلال، وذلك الكمال يدل ويشهد بالضرورة على كمالِ صفاتِ مسمّى ذي جمال لتلك الأسماء، وكمال الصفات ذاك يدل ويشهد يقيناً على كمال موصوف ذي كمال، وكمال الشؤون ذاك يدل بحق اليقين على كمال ذاتٍ مقدسة ذات شؤون، دلالةً واضحة بحيث ان ما في الكون من أنواع الكمالات المشاهدة ليس الاّ ظلاً ضعيفاً منطفئاً - ولله المثل الأعلى - بالنسبة لآيات كماله ورموز جلاله واشارات جماله سبحانه وتعالى.

C اللمعة الحادية عشرة الساطعة كالشموس

لقد عُرّف في (الكلمة التاسعة عشرة) بان اعظم آية في كتاب الكون الكبير، واعظم اسمٍ في ذلك القرآن الكبير، وبذرة شجرة الكون، وأنور ثمارها، وشمس قصر هذا العالم، والبدر المنوّر لعالم الاسلام، والدال على سلطان ربوبية الله، والكشّاف الحكيم للغز الكائنات، هو سيدنا محمد الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي ضم الأنبياء جميعاً تحت جناح الرسالة، وحمى العالم الاسلامي تحت جناح الاسلام، فحلّق بهما في طبقات الحقيقة متقدماً موكبَ جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأولياء والصديقين، وجميع الأصفياء والمحققين مبيّناً الوحدانية واضحة جلية بكل ما أوتي من قوة، فاتحاً طريقاً سوياً الى عرش الأحدية، دالاً على طريق الايمان بالله، مثبتاً الوحدانية الحقة.. فأنّى لوهمٍ أو شبهةٍ أن يكون لهما الجرأة ليسدا أو يحجبا ذلك الطريق السوي؟

ولما كنّا قد بيّنا إجمالاً في (الكلمة التاسعة عشرة) و (المكتوب التاسع عشر) ذلك البرهان القاطع – الذي هو الماء الباعث للحياة ـ بأربع عشرة رشحة، وتسع عشرة اشارة، مع بيان أنواع معجزاته e ، لذا نكتفي بهذه الاشارة هنا، ونختمها بالصلاة والسلام على ذلك البرهان القاطع للوحدانية، صلاةً وسلاماً تشيران الى تلك الأسس التي تزكّيه وتشهد على صدقه:

اللّهم صلّ على مَن دلّ على وجوب وجودك ووحدانيتك، وشَهِد على جلالك وجمالك وكمالك.. الشاهدُ الصادق المصدَّق والبرهان الناطق المحقق.. سيد الأنبياء والمرسلين، الحاملُ سرَّ اجماعهم وتصديقهم ومعجزاتهم.. وإمامُ الأولياء والصديقين الحاوي سرّ اتفاقهم وتحقيقهم وكراماتهم، ذو المعجزات الباهرة والخوارق الظاهرة والدلائل القاطعة المحققة المصدّقة له.. ذو الخصال الغالية في ذاته، والأخلاق العالية في وظيفته، والسجايا السامية في شريعته المكملة المنزّهة عن الخلاف، مهبط الوحي الرباني باجماع المنزِل والمنزَل والمنزّل عليه.. سيّار عالم الغيب والملكوت.. مشاهد الأرواح ومصاحب الملائكة.. انموذج كمال الكائنات شخصاً ونوعاً وجنساً.. أنور ثمرات شجرة الخلقة، سراج الحق برهان الحقيقة، تمثال الرحمة، مثال المحبة، كشاف طلسم الكائنات، دلاّل سلطنة الربوبية، المرمِز بعلوية شخصيته المعنوية الى أنه نصبَ عين فاطر العالم في خلق الكائنات.. ذو الشريعة التي هي بوسعة دساتيرها وقوتها تشير الى أنها نظام ناظم الكون ووضع خالق الكائنات.

نعم، ان ناظم الكائنات بهذا النظام الأتم الأكمل هو ناظم هذا الدين بهذا النظام الأحسن الأجمل، سيّدنا نحن معاشر بني آدم ومهدينا الى الايمان نحن معاشر المؤمنين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه افـضل الصلوات واتمّ التسليمات ما دامت الأرض والسماوات فان ذلك الشاهد الصادق المصدّق يشهد على رؤوس الاشهاد منادياً، ومعلماً لأجيال البشر خلف الأعصار والأقطار، نداءً علوياً بجميع قوته وبغاية جدّيته وبنهاية وثوقه وبقوة اطمئنانه وبكمال إيمانه:

((أشهد ان لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له)).

C اللمعة الثانية عشرة الساطعة كالشموس

ان هذه اللمعة الثانية عشرة من هذه الكلمة الثانية والعشرين لهي بحر الحقائق ويا له من بحر عظيم بحيث ان الكلمات الاثنتين والعشرين السابقة لا تكون الاّ مجرد اثنتين وعشرين قطرة منه. وهي منبع الأنوار ويا له من منبع عظيم بحيث ان تلك الكلمات الاثنتين والعشرين ليست سوى اثنتين وعشرين لمعة من تلك الشمس.

نعم ان كل كلمة من تلك الكلمات ((الاثنتين والعشرين)) السابقة ما هي الاّ لمعة واحدة لنجمِ آيةٍ واحدة تسطع في سماء القرآن الكريم. وما هي الاّ قطرة واحدة من نهر آية تجري في بحر الفرقان الكريم، وما هي الاّ لؤلؤة واحدة من صندوق جواهر آيةٍ واحدة من كتاب الله الذي هو الكنز الأعظم، لذا ما كانت الرشحة الرابعة عشرة من الكلمة التاسعة عشرة الاّ نبذة من تعريف ذلك الكلام الإلهي العظيم، كلام الله الذي نزل من الاسم الأعظم.. من العرش الاعظم.. من التجلّي الأعظم للربوبية العظمى، في سعة مطلقة، وسموّ مطلق، يربط الأزل بالأبد، والفرش بالعرش، والذي يقول بكل قوته ويردد بكل قطعية آياته: ((لا إله إلاّ هو)) مشهداً عليه الكون قاطبة.

حقاً ان العالم كله ينطق معاً ((لا إله الاّ هو)).

فاذا نظرتَ الى ذلك القرآن الكريم ببصيرة قلب سليم، ترى ان جهاته الست ساطعة نيّرة، وشفافة رائقة، بحيث لا يمكن لظلمةٍ ولا لضلالة ولا لشبهة ولا لحيلة أيّاً كانت ان ترى لها شقاً وفرجة للدخول في رحابه المقدس قط، حيث ان عليه: شارة الاعجاز، تحته: البرهان والدليل، خلفه (نقطة استناده): الوحي الرباني المحض، أمامه: سعادة الدارين، يمينه: تصديق العقل باستنطاقه، شماله: تثبيت تسليم الوجدان باستشهاده. داخله: هداية رحمانية خالصة بالبداهة، فوقه: أنوار إيمانية خالصة بالمشاهدة. ثماره: الأصفياء والمحققون والأولياء والصديقون المتحلّون بكمالات الانسانية بعين اليقين.

فاذا ألصقت أذنك الى صدر لسان الغيب مصغياً فانك ستسمع من أعمق الأعماق صدىً سماوياً في غاية الأيناس والامتاع، وفي منتهى الجدية والسموّ المجهّز بالبرهان، يردّد: (لا اِله الاّ هو) ويكررها بقطعية جازمة ويفيض عليك من العلم اليقين بدرجة عين اليقين بما يقوله من حق اليقين.

زبدة الكلام: ان الرسول الكريم e ، والفرقان الحكيم الذي كل منهما نور باهر، أظهرا حقيقة واحدة؛ هي حقيقة التوحيد.

فأحدهما: لسان عالم الشهادة، أشار الى تلك الحقيقة بأصابع الاسلام والرسالة وبيّنها بجلاء، بكل ما أوتي من قوة من خلال ألف من معجزاته وبتصديق جميع الأنبياء والأصفياء.

والآخر: هو بمثابة لسان عالم الغيب أظهر الحقيقة نفسها وأشار اليها بأصابع الحق والهداية، وعرضها بكل جدّ واصالة، من خلال أربعين وجهاً من وجوه الاعجاز، وتصديق من قبل جميع الآيات التكوينية للكون.. ألا تكون تلك الحقيقة أبهر من الشمس وأسطع منها، وأوضح من النهار وأظهر منه؟!!.

أيها الانسان الحقير المتمرّد السادر في الضلالة(1) كيف تتمكن ان تضارع هذه الشموس بما في رأسك من بصيص خافت هزيل؟ وكيف يمكنك الاستغناء عن تلك الشموس، وتسعى الى اطفائها بنفخ الأفواه؟ تباً لعقلك الجاحد، كيف تجحد ما قاله لسان الغيب ولسان الشهادة من كلام باسم رب العالمين ومالك الكون وتنكر ما دعا اليه من دعوة.

أيها الشقي الأعجز من الذباب والأحقر منه، مَن أنت حتى تورط نفسك في تكذيب مالك الكون ذي الجلال والاكرام؟

الخاتمة

أيها الصديق يا ذا العقل المنوّر والقلب المتيقظ! ان كنت قد فهمت هذه (الكلمة الثانية والعشرين) من بدايتها، فخذ بيدك الاثنتي عشرة لمعة دفعة واحدة، واظفر بها سراجاً للحقيقة، بقوة آلافٍ من المصابيح، واعتصم بالآيات القرآنية الممتدة من العرش الأعظم، وامتطِ براق التوفيق واعرج في سماوات الحقائق واصعد الى عرش معرفة الله سبحانه وقل:

أشهد ان لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك

وأعلن في المسجد الكبير للعالم على رؤوس موجودات الكون الوحدانية قائلاً:

لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربَّنا لا تُؤاخذنا إن نَسينا او اخطأنا ربَّنا ولا تحمِل علينا إصراً كما حَمَلته على الذين من قَبلنا رَبَّنا ولا تُحمّلنا ما لا طاقةَ لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين[

] ربَّنا لا تُزغْ قلوبَنا بعد إذ هَدَيْتَنا وَهَبْ لنا مِن لَدُنكَ رحمةً إنك انتَ الوهّاب[

] ربّنا انك جامعُ الناس ليومٍ لا ريب فيه ان الله لا يُخلف الميعاد[

اللّهم صل على من أرسلتَه رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه اجمعين

وارحمنا وارحم أمته برحمتك يا أرحم الراحمين

آمين

] وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[

عبدالرزاق 02-02-2011 01:58 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثالثة والعشرون

وهي مبحثان

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ

] لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْويمٍ ^ ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ ^ إلاّ الذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غيرُ مَمْنونٍ[ (التين: 4- 6)

المبحث الأول

نبين خمس محاسن من بين آلاف محاسن الايمان وذلك في خمسِ نقاط

C النقطة الاولى:

إن الانسانَ يسمو بنور الايمان الى اعلى عليين فيكتسب بذلك قيمةً تجعلُه لائقاً بالجنة، بينما يتردّى بظلمةِ الكفر إلى اسفل سافلين فيكون في وضعٍ يؤهّلُه لنار جهنم، ذلك لأنّ الايمانَ يربطُ الانسانَ بصانعهِ الجليل، ويربطه بوثاق شديد ونسبةٍ اليه، فالايمانُ انما هو إنتسابٌ؛ لذا يكتسب الانسانُ بالايمان قيمة سامية من حيث تجلِّي الصنعةِ الإلهية فيه، وظهورِ آيات نقوشِ الأسماء الربانية على صفحةِ وجوده. أما الكفرُ فيقطع تلك النسبةَ وذلك الانتسابَ، وتغشى ظلمته الصنعةَ الربانية وتطمِس على معالمها، فَتنقُص قيمةَ الانسانِ حيث تنحصر في مادّته فحسب؛ وقيمةُ المادة لا يُعتدّ بها فهي في حكم المعدوم، لكونها فانية، زائلة، وحياتُها حياةٌ حيوانيةٌ مؤقتة.

وها نحن أولاء نبيّنُ هذا السرَّ بمثال توضيحي:

أن قيمةَ المادة تختلف عن قيمة الصنعة ومدى الاجادة فيما يصنعه الانسانُ، فنرى أحياناً القيمتين متساويتين، وقد تكون المادةُ اكثرَ قيمةً من الصنعة نفسِها، وقد يحدث ان تحتوي مادة حديد على قيمة فنيةٍ وجمالية عاليةٍ جداً، ويحدث أن تحوز صنعةٌ نادرة نفيسة جداً قيمةَ ملايين الليرات رغم كونها من مادة بسيطة جداً. فاذا عُرضَت مثل هذه التحفة النادرة في سوق الصنّاعين والحرفيين الـمُجيدين وعرفوا صانعها الباهر الماهر الشهير فانها تحوز سعر مَليون ليرة، أما إذا اُخذت التحفةُ نفسُها الى سوق الحدادين - مثلاً - فقد لا يتقدم لشرائها أحدٌ، وربما لا ينفق أحدٌ في شرائها شيئاً.

وهكذا الانسانُ، فهو الصنعة الخارقة للخالق الصانع سبحانه، وهو أرقى معجزةٍ من معجزات قدرته وألطفُها، حيث خلقه الباري مظهراً لجميع تجليات أسمائه الحسنى، وجعله مداراً لجميع نقوشه البديعة جلّت عظمته، وصيرّه مثالاً مصغراً ونموذجاً للكائنات بأسرها.

فإذا استقر نورُ الايمان في هذا الانسان لبيّن - ذلك النور - جميع ما على الانسان من نقوش حكيمة، بل يستقرئها الآخرين؛ فيقرأها المؤمن بتفكر، ويشعُر بها في نفسه شعوراً كاملاً، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملّونَها، أي كأنه يقول: ((ها أنا ذا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقُه. انظروا كيف تتجلى فيّ رحمتُه، وكرمُه)). وبما شابهها من المعاني الواسعة تتجلّى الصنعة الربانية في الانسان.

اذن الايمان - الذي هو عبارة عن الانتساب الى الصانع سبحانه - يقوم باظهار جميع آثار الصنعة الكامنة في الانسان، فتتعين بذلك قيمةُ الانسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية، ولمعان تلك المرآة الصمدانية. فيتحول هذا الانسان - الذي لا أهمية له - الى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلاً للخطاب الإلهي، وينال شرفاً يؤهله للضيافة الربانية في الجنة.

أما إذا تسلّل الكفر - الذي هو عبارةٌ عن قطع الانتساب الى الله - في الانسان، فعندئذٍ تسقط جميع معاني نقوش الاسماء الحسنى الإلهية الحكيمة في الظلام وتمحى نهائياً، ويتعذر مطالعتها وقراءتها؛ ذلك لانه لا يمكن ان تُفهَم الجهات المعنوية المتوجهة فيه الى الصانع الجليل، بنسيان الصانع سبحانه، بل تنقلب على عقبيها، وتندرس اكثر آيات الصنعة النفيسة الحكيمة واغلب النقوش المعنوية العالية، أما ما يتبقى منـها مـمـا يتـــراءى للعـين فـــسوف يُعزى الى الاسبــاب التـافهــة، الى الطبـيـعة، والمصادفة، فتسقط نهائياً وتزول، حـيث تتحول كل جــوهرةٍ مــن تـلك الجــواهر المتلألئة الى زجاجةٍ سوداء مظلمة، وتقتصر أهميتها آنذاك على المادة الحيوانية وحدها. وكما قلنا ان غاية المادة وثمرتها هي قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها، ومن ثم يتفسخ في النهاية ويزول.. وهكذا يهدم الكفر الماهية الانسانية ويحيلها من جوهرة نفيسة الى فحمة خسيسة.

C النقطة الثانية:

كما ان الايمان نور يضئُ الانسانَ وينوِّرُه ويُظهر بارزاً جميعَ المكاتيب الصمدانية المكتوبة عليه ويستقرِئُها، كذلك فهو يُنير الكائنات أيضاً، وينقذ القرون الخالية والآتية من الظلمات الدامسة.

وسنوضح هذا السرّ بمثال؛ استناداً الى أحد اسرار هذه الآية الكريمة:

] الله وليُّ الذين آمَنوا يُخرجُهُم مِن الظُلماتِ الى النّور[ (البقرة: 257)

لقد رأيتُ في واقعةٍ خيالية أن هناك طودين شامخين متقابلين، نُصبَ على قمتيهما جسرٌ عظيم مدهش، وتحته وادٍ عميقٌ سحيق. وأنا واقف على ذلك الجسر، والدنيا يخيّم عليها ظلامٌ كثيف من كل جانب، فلا يكاد يرى منها شئ. فنظرت الى يميني فوجدت مقبرةً ضخمة تحت جنح ظلمات لا نهاية لها، اي هكذا تخيلت، ثم نظرت الى طرفي الأيسر فكأني وجدت أمواجَ ظلماتٍ عاتية تتدافع فيها الدواهي المذهلة والفواجع العظيمة وكأنها تتأهب للانقضاض، ونظرتُ الى أسفل الجسر فتراءت لعيني هوةٌ عميقةٌ لا قرار لها، وقد كنتُ لا أملك سوى مصباحٍ يدوي خافتِ النور أمامَ كل هذا الهدير العـظـيم من الظـلمات. فاستـخدمته، فبـدا لـي وضـعٌ رهيب، اذ رأيت اُسوداً وضواري ووحوشاً وأشباحاً في كل مكان حتى في نهايات وأطراف الجسر، فتمنيتُ أن لم أكن أملكُ هذا المصباحَ الذي كشف لي كلَّ هذه المخلوقات المخيفة؛ إذ إنني أينما وجَّهتُ نـورَ المصباح شهــدتُ المخــاطر المدهـشة نفـسَها، فتحسرتُ في ذات نفسي وتأوّهتُ قائلاً: ((إن هذا المصباحَ مصيبةٌ وبلاءٌ عليّ)). فاستشاط غيظي فالقيت المصباح الى الأرض وتحطَّمَ، وكأن بتحطُّمه قد أصبتُ زرّاً لمصباح كهربائي هائل، فإذا به يُنور الكائـناتِ جمـيعاً فانـقـشــعتْ تلك الظــلماتُ، وانكشفت وزالت نهائياً، وامتلأ كلُّ مكانٍ وكلُّ جــهةٍ بـذلك النور. وبَدَتْ حقيقةُ كلّ شئ ناصعةً واضحة. فوجدتُ أن ذلك الجسر المعلّقَ الرهيبَ ما هو إلاّ شارعٌ يـمرّ من سهلٍ مـنـبـسط. وتبـيّـنتُ أن تلــك المقـبــرةَ الهــائــلةَ التــي رأيتُها على جهة اليمين ليست الاّ مجالسَ ذكرٍ وتهليلٍ وندوة كريمة لطيفة وخِدمة جليلة، وعبادة سامية تحت إمرة رجالٍ نورانيين في جنائن خُضرٍ جميلة تشعُّ بهجةً ونوراً وتبعث في القلب سعادةً وسروراً. أما تلك الأودية السحيقةُ والدواهي المدهشةُ والحوادثُ الغامضةُ التي رأيتُها عن يساري، فلم تكن الاّ جبالاً مشجرّةً خضراء تسرُّ الناظرين، ووراءَها مضيفٌ عظيمٌ ومروجٌ رائعةٌ ومتنزَّهٌ رائع.. نعم، هكذا رأيتُها بخيالي، أما تلك المخلوقاتُ المخيفة والوحوشُ الضارية التي شاهدتُها فلم تكن الاّ حيوانات أليفة أنيسة؛ كالجمل والثور والضأن والماعز، وعندها تلوتُ الآيةَ الكريمة:

] الله وِليُّ الذينَ آمَنوا يُخرِجُهُمْ مِنَ الظُلُماتِ الى النّورِ[

وبدأتُ أردّد: الحمدلله على نور الايمان.

ثَمَّ أفقتُ من تلك الواقعةِ.

وهكذا، فذاكما الجبلان هما: بدايةُ الحياةِ ومُنتهاها، أي هما عالمُ الأرض وعالمُ البرزخ.. وذلك الجسرُ هو طريقُ الحياة.. والطرفُ الايمنُ هو الماضي من الزمن، والطرفُ الأيسرُ هو المستقبلُ منه . أما المصباحُ اليدوي فهو أنانيةُ الانسان المعتدةُ بنفسها والمتباهيةُ بما لديها من علم، والتي لا تصغي الى الوحي السماوي.. أما تلك الغيلانُ والوحوشُ الكاسرة فهي حوادثُ العالم العجيبة وموجوداته.

فالانسانُ الذي يعتمد على أنانيته وغروره ويقع في شِراكِ ظلماتِ الغفلةِ ويُبتلى بأغلال الضلالة القاتلة، فإنه يشبه حالتي الأُولى في تلك الواقعة الخيالية، حيث يرى الزمنَ الماضي - بنور ذلك المصباح الناقص الذي هو معرفةُ ناقصةُ منحرفة للضلالة كمقبرةٍ عظيمة في ظلمات العدم، ويصوِّرُ الزمن من المستقبلِ موحشاً تَعبثُ فيه الدواهي والخطوب محيلاً إياه الى الصدفةِ العمياء. كما يصوِّرُ جميعَ الحوادث والموجودات - التي كل منها موظفةٌ مسخرةٌ من لدن ربّ رحيم حكيم - كأنها وحوشٌ كاسرةٌٌ وفواتك ضارية. فيحقّ عليه حُكمُ الآية الكريمة:

] والذينَ كَفَروا أوليَاؤهُم الطّاغوتُ يُخرجُونَهُم من النّورِ الى الظُلُمات[ (البقرة: 257)

اما إذا أغاثت الانسانَ الهدايةُ الإلهيةُ، ووجد الايمانُ الى قلبه سبيلاً، وانكسرت فرعونيةُ النفسِ وتحطّمتْ، وأصغى الى كتاب الله، فيكونُ أشبهَ بحالتي الثانيةِ في تلك الواقعةِ الخيالية، فتصطبغُ الكائناتُ بالنهار وتمتلىءُ بالنور الإلهي، وينطق العالمُ برمَّته : ] الله نورُ السمواتِ والأرض[ (النور:35)

فليس الزمنُ الغابرُ اذ ذاك مقبرةً عظمى كما يُتوهم، بل كل عصرٍ من عصوره كما تشهدُه بصيرةُ القلب، زاخرٌ بوظائفَ عبوديةٍ تحت قيادة نبيّ مُرسَلِ، أو طائفةٍ من الأولياء الصالحين، يديرُ تلك الوظيفة السامية وينشرها ويرُسِّخُ اركانَها في الرعية على أتمِّ وجهٍ وأكمل صورة. ومن بعد انتهاء هذه الجماعات الغفيرة من ذوي الأرواح الصافية من اداء وظائفها الحياتية وواجباتها الفطرية تحلّق مُرتَقيةً الى المقامات العالية مُردّدةً: (الله اكبرُ) مخترقةً حجابَ المستقبل. وعندما يلتفتُ الى يساره يتراءى له من بعيد - بمنظار نور الايمان - أن هناك وراءَ انقلاباتٍ برزخيةٍ واُخروية - وهي بضخامة الجبال الشواهق - قصور سعادة الجنان، قد مُدَّت فيها مضايفُ الرحمن مَداً لا أولَ لها ولا آخر. فيتيقن بأَن كلَّ حادثةٍ من حوادث الكون - كالأعاصير والزلازل والطاعون وامثالها - انما هي مُسخرّات موظفاتٌ مأموراتٌ، فيرى أن عواصفَ الربيع والمطر وأمثالَها من الحوادث التي تبدو حزينةً سمجةً، ما هي في الحقيقة والمعنى الا مدارُ الحِكَمِ اللطيفة، حتى إنه يرى الموتَ مقدمةً لحياةٍ أبديةٍ، ويرى القبرَ بابَ سعادةٍ خالدة.. وقسْ على هذا المنوال سائَر الجهاتِ بتطبيق الحقيقةِ على المثال.

C النقطة الثالثة:

كما أن الايمانَ نورٌ وهو قوةٌ ايضاً. فالانسانُ الذي يظفر بالايمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائناتِ ويتخلصَ من ضيق الحوادثِ، مستنداً الى قوةِ ايمانهفَيبحرُ متفرجاً على سفينة الحياة في خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام قائلاً: تَوكَّلتُ على الله، ويسلّم أعباءه الثقيلةَ أمانةً الى يدِ القُدرةِ للقدير المطلق، ويقطعُ بذلك سبيلَ الدنيا مطمئنّ البال في سهولةٍ وراحةٍ حتى يصل الى البرزخ ويستريح، ومن ثم يستطيع ان يرتفعَ طائراً الى الجنة للدخول الى السعادة الأبدية.

أما اِذا ترك الانسانُ التوكل فلا يستطيع التحليقَ والطيرانَ الى الجنة فحسب بل ستجذبه تلك الأثقالُ الى أسفلَ سافلين.

فالايمان اذن يقتضي التوحيدَ، والتوحيدُ يقودُ الى التسليم، والتسليم يُحقق التوكلَ، والتوكلُ يسهّل الطريقَ الى سعادة الدارَين. ولا تظنن أن التوكل هو رفضُ الأسباب وردّها كلياً، وإنما هو عبارةٌ عن العلمِ بأن الأسبابَ هي حُجُب بيَدِ القدرة الإلهية، ينبغي رعايتها ومداراتها، أما التشبثُ بها أو الأخذ بها فهو نوعٌ من الدعاء الفعلي. فطلبُ المسَبَّباتِ اذن وترقّب النتائج لا يكون الاّ مِن الحقِّ سبحانه وتعالى، واَنّ المنةَ والحمدَ والثناءَ لا ترجعُ الاّ اِليه وحدَه.

ان مَثلَ المتوكلِ على الله وغيرَ المتوكل كَمثَلِ رجلَين قاما بحمل اعباءٍ ثقيلةٍ حُمّلت على رأسهما وعاتقهما، فقطعا التذاكر وصعدا سفينةً عظيمةً، فوضعَ احدهُما ما على كاهِله حالما دخل السفينة وجلسَ عليه يرقُبُه أما الآخرُ فلم يفعل مثلَه لحماقته وغروره، فقيل له:

((ضع عنك حملكَ الثقيل لترتاح من عنائك؟)). فقال:
- ((كلا، اني لست فاعلاً ذاك مخافة الضياع، فانا على قوةٍ لا أعبأُ بحملي، وسأحتفظ بما أملُكه فوقَ رأسي وعلى ظهري)). فقيل له ثانية:

- ولكن أيها الأخ إنّ هذه السفينةَ السلطانية الأمينةَ التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى وأصلبُ عوداً منا جميعاً. وبامكانها الحفاظُ علينا وعلى أمتعتنا اكثرَ مِن أنفسنا، فربما يُغمى عليك فتهوي بنفسِك وأمتعتك في البحر، فضلاً عن انك تفقُد قوتَك رويداً رويداً، فكاهلُك الهزيل هذا وهامتُك الخرقاء هذه لن يَسَعهما بعدُ حملُ هذه الأعباء التي تتزايد رَهَقاً، واذا رآك ربّان السفينة على هذه الحالة فيسظنــُّك مصاباً بَمسٍ من الجنون وفاقداً للوعي، فيطرُدُك ويقذِفُ بكَ خارجاً، أو يأمرُ بإلقاء القبضِ عليك ويُودِعك السجن قائلاً: ان هذا خائنٌ يتهم سفينَتَنا ويستهزئُ بنا، وستُصبح أضحوكةً للناس، لأنك باظهارك التكبّر الذي يُخفي ضعفاً - كما يراه أهلُ البصائر - وبغرورِك الذي يحمل عَجزاً، وبتصنّعك الذي يُبطن رياءً وذلة، قد جعلتَ من نفسك اُضحوكةً ومهزلةً. ألا ترى ان الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك..! وبعد ما سمع كلَّ هذا الكلام عاد ذلك المسكينُ الى صوابه فوضع حِملَه على أرضِ السفينة وجلسَ عليه وقال:

الحمد لله... ليرضَ الله عنك كل الرضا فلقد أنقذتَني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية.

فيا أيها الانسان البعيدُ عن التوكل! ارجع الى صوابك وعُد الى رُشدك كهذا الرجل وتوكّل على الله لتتخلص من الحاجة والتسوّل من الكائنات، ولتنجوَ من الإرتعاد والهلع أمام الحادثات، ولتنقذَ نفسَك من الرياء والاستهزاء ومن الشقاء الابدي ومن أغلال مضايقات الدنيا.

C النقطة الرابعة:

إن الايمانَ يجعل الانسانَ انساناً حقاً، بل يجعله سلطاناً؛ لذا كانت وظيفتُه الأساس: (الايمانُ بالله تعالى والدعاء اليه). بينما الكفرُ يجعل الانسانَ حيواناً مفترساً في غاية العجز.

وسنورد هنا دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً من بين آلاف الدلائل على هذه المسألة، وهو: التفاوتُ والفروقُ بين مجئ الحيوان والانسان الى دار الدنيا.

نعم، ان التفاوتَ بين مجئ الحيوان والانسان الى هذه الدنيا يدل على أن اكتمالَ الانسانيةِ وارتقاءها الى الانسانية الحقة إنما هو بالايمان وحدَه، وذلك لأن الحيوانَ حينما يأتي الى الدنيا يأتي اليها كأنه قد إكتملَ في عالمٍ آخرٍ، فيرُسَلُ اليها متكاملاً حسب إستعداده. فيتعلم في ظرف ساعتين أو يومين أو شهرين جميع شرائط حياته وعلاقاته بالكائنات الأخرى وقوانينَ حياته، فتحصلُ لديه مَلَكةٌ؛ فيتعلّم العصفورُ أو النحلةُ - مثلاً - القدرةَ الحياتية والسلوكَ العملي عن طريق الإلهامِ الرباني وهدايتِه سبحانه. ويحصلُ في عشرين يوماً على ما لا يتعلمه الانسانُ الاّ في عشرين سنة. اذن الوظيفةُ الاساس للحيوان ليست التكمّل والإكمتال بالتعلّم، ولا الترقي بكسب العلم والمعرفة، ولا الاستعانة والدعاء باظهار العجز. وانما وظيفتُه الأصلية: العمل حسب استعداده، اي العبودية الفعلية.

أما الانسانُ فعلى العكس من ذلك تماماً، فهو عندما يَقِدم الى الدنيا يقدِمُها وهو محتاجٌ الى تعلّم كل شئ وادراكه؛ اذ هو جاهلٌ بقوانين الحياة كافة جهلاً مطبقاً، حتى إنه قد لا يستوعب شرائطَ حياته خلال عشرين سنة. بل قد يبقى محتاجاً الى التعلم والتفهم مدى عمره. فضلاً عن أنه يُبعث الى الحياة وهو في غاية الضَعف والعَجز حتى إنه لا يتمكن من القيام منتصباً الاّ بعد سنتين من عمره، ولا يكاد يميّز النفَع من الضرّ الا بعد خمس عشرة سنة، ولا يمكنه أن يحقّق لنفسه منافع حياته ومصالحها ولا دفـع الضرر عنها إلاّ بالتعـاون والانخـراط فـي الحيـاة الاجتماعية البشرية.

يتضح من هذا ان وظيفة الانسان الفطرية انما هي التكمل "بالتعلم" أي الترقي عن طريق كسب العلم والمعرفة، والعبودية (بالدعاء). أي أن يدرك في نفسه ويستفسر: (برحمةِ مَنْ وشَفقته اُدارى بهذه الرعاية الحكيمة؟! وبمَكْرَمةِ مَنْ وسخائِه اُربّى هذه التربية المفعمةَ بالشفقة والرحمة؟ وبألطافِ مَنْ بوجُودِه اُغذّى بهذه الصورة الرازقة الرقيقة؟!). فيرى أن وظيفته حقاً هو الدعاءُ والتضرعُ والتوسلُ والرجاءُ بلسان الفقر والعجز الى قاضي الحاجات ليقضي له طلباته وحاجاته التي لا تصل يدُه الى واحدةٍ من الألفِ منها. وهذا يعني ان وظيفته الأساس هي التحليق والارتفاع بجناحَي (العجز والفقر) الى مقام العبودية السامي.

اذن فلقد جئ بهذا الانسان الى هذا العالم لأجل أن يتكامل بالمعرفة والدعاء؛ لأن كل شئ فيه موجَّه الى العلم ومتعلقٌ بالمعرفة حسبَ الماهية والاستعداد. فأساسُ كلِّ العلوم الحقيقية ومعدنها ونورُها وروحها هو (معرفة الله تعالى) كما ان اُسَّ هذا الاساس هو (الايمانُ بالله جل وعلا).

وحيث ان الانسان متعرضٌ لما لا يحصى من أنواع البلايا والمصائب ومهاجمة الاعداء لما يحمل من عجزٍ مطلقٍ. وله مطالبُ كثيرةٌ وحاجاتٌ عديدة مع أنه في فقرٍ مدقع لا نهاية له؛ لذا تكون وظيفتُه الفطريةُ الأساس (الدعاءَ) بعد الايمان، وهو أساسُ العبادة ومخّها. فكما يلجأ الطفلُ العاجز عن تحقيق مرامه أو تنفيذ رغبته بما لا تصل اليه يدُه، الى البكاء والعويل أو يطلب مأمولَه، أي يدعو بلسان عجزه إما قولاً أو فعلاً فيوفَّق الى مقصوده ذاك، كذلك الانسانُ الذي هو ألطفُ أنواع الأحياء وأعجزُها وأفقرُها وهو بمنزلة صبيٍّ ضعيفٍ لطيفٍ، فلابدّ له من أن يأوى الى كنفِ الرحمن الرحيم والانطراحَ بين يديه إما باكياً معبراً عن ضعفه وعجزه، أو داعياً بفقره واحتياجـه، حتـى تُلبّى حاجتُه وتُنفَّذ رغبتُهُ. وعندئذٍ يكون قد أدّى شكرَ تلك الإغاثات والتلبيات والتسخيرات. والاّ فاذا قال بغرورٍ كالطفل الأحمق. ((أنا أتمكن أن اُسخّرَ جميع هذه الأشياء واستحوذَ عليها بافكاري وتدبيري)) وهي التي تفوق ألوف المرات قوتَه وطاقَته! فليس ذلك الاّ كفرانٌ بنَعم الله تعالى، ومعصيةٌ كبيرة تنافي الفطرة الانسانية وتناقضها، وسببٌ لجعل نفسه مستحقّاً لعذابٍ أليمٍ.

C النقطة الخامسة:

كما أن الايمانَ يقتضي (الدعاء) ويتّخذه وسيلةً قاطعةً ووساطةً بين المؤمن وربّه، وكما اَن الفطرةَ الانسانية تتلهف اليه بشدةٍ وشوق، فان الله سبحانه وتعالى ايضاً يدعو الانسانَ الى الأمر نفسه بقوله:

] قُلْ مَا يَعْبَؤا بكُم ربّي لَولا دُعَاؤكُم[ (الفرقان: 77)

وبقوله تعالى: ] اُدْعوني أستَجِبْ لكُم[ (غافر: 60)

ولعلك تقول: ((إننا كثيراً ما ندعو الله فلا يُستجابُ لنا رغم ان الآية عامةٌ تُصرّح بأنّ كل دعاءٍ مستجابٌ)).

الجواب:

ان إستجابةَ الدعاء شئ، وقبولَه شئ آخر. فكلُّ دعاءٍ مستجابٌ، الاّ أن قبولَه وتنفيذَ المطلوب نفسه منوطٌ بحكمة الله سبحانه.

فمثلاً: يستصرخ طفلٌ عليل الطبيبَ قائلاً:

((أيها الطبيب انظر اليّ واكشف عني)).

فيقول الطبيب: ((أمرُك يا صغيري)). فيقول الطفل:

((اعطني هذا الدواء)). فالطبيب حينذاك إمّا انه يُعطيه الدواء نفسَه، أو يعطيه دواءً أكثر نفعاً وأفضل له، أو يمنع عنه العلاجَ نهائياً. وذلك حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ.

وكذلك الحق تبارك وتعالى (وله المثل الاعلى) فلأنه حكيمٌ مطلقٌ ورقيبٌ حسيب في كل آن، فهو سبحانه يستجيب دعاءَ العبد، وباستجابته يُزيل وحشَته القاتمةَ وغربته الرهيبة، مُبدلاً إياها أملاً واُنساً وإطمئناناً. وهو سبحانه إما أنه يَقبل مَطلبَ العبد ويستجيب لدعائه نفسه مباشرة، أو يمنحه أفضل منه، أو يردّه، وذلك حسب اقتضاء الحكمة الربانية، لا حسبَ أهواء العبد المتحكمة وأمانيّه الفاسدة.

وكذا، فالدعاء هو ضربٌ من العبودية، وثمار العبادة وفوائدُها أخرويةٌ. أما المقاصدُ الدنيوية فهي ((أوقاتُ)) ذلك النوع من الدعاء والعبادة، وليست غاياتها.

فمثلاً: صلاةُ الاستسقاء نوعٌ من العبادة، وانقطاع المطر هو وقتُ تلك العبادة. فليست تلك العبادةُ وذلك الدعاء لأجل نزولِ المطر. فلو اُدّيَتْ تلك العبادةُ لأجل هذه النية وحدَها اذن لكانت غير حريّة بالقبول، حيث لم تكن خالصةً لوجه الله تعالى..

وكذا وقتُ غروبِ الشمس هو اعلانٌ عن صلاة المغرب، ووقتُ كسوف الشمس وخسوف القمر هو وقتُ صلاةِ الكسوف والخسوف. أي أن الله سبحانه يدعو عبادَه الى نوعٍ من العبادة لمناسبة انكساف آية النهار وانخساف آية الليل اللتين تومئان وتُعلنان عظمتَهُ سبحانه. والاّ فليست هذه العبادة لإنجلاء الشمس والقمر الذي هو معلومٌ عند الفلكي..

فكما ان الأمر في هذا هكذا فكذلك وقتُ انحباس المطر هو وقتُ صلاةِ الاستسقاء، وتهافتُ البلايا وتسلطُ الشرور والأشياء المضرة هو وقتُ بعض الادعية الخاصة، حيث يدرك الانسانُ حينئذٍ عجزَه وفقرَه فيلوذ بالدعاء والتضرع الى باب القدير المطلق. واذا لم يدفع الله سبحانه تلك البلايا والمصائب والشرور مع الدعاء الملحّ، فلا يقالُ: إن الدعاءَ لم يُستجبْ، بل يقال: إن وقت الدعاء لم ينقضِ بعدُ. وإذا ما رفع سبحانه بفضله وكرمه تلك البلايا وكشف الغمة فقد انتهى وقتُ الدعاء اذن وانقضى. وبهذا فالدعاء سرٌ من أسرار العبودية.

والعبودية لابد أن تكون خالصةً لوجه الله، بأن يأوي الانسانُ الى ربَّه بالدعاء مُظهراً عجزَه، مع عدم التدخل في اجراءات ربوبيته، أو الاعتراضِ عليها، وتسليمُ الأمر والتدبير كلّه اليه وحدَه، مع الاعتماد على حكمته من دون إتهامٍ لرحمته ولا القنوطِ منها.

نعم! لقد ثبت بالآيات البيّنات أن الموجودات في وضعِ تسبيح لله تعالى؛ كلٌ بتسبيحٍ خاصٍ، في عبادة خاصة، في سجود خاص، فتتمخض عن هذه الأوضاع العبادية التي لا تعدّ ولا تحصى سبلُ الدعاء المؤدية إلى كنف ربٍّ عظيم.

اما عن طريق لسان الاستعداد والقابلية؛ كدعاء جميع النباتات والحيوانات قاطبة، حيث يبتغي كلُّ واحدٍ منهما من الفيّاض المطلق صورةً معينةً له فيها معانٍ لأسمائه الحسنى، أو عن طريق لسان الحاجة الفطرية كأدعية جميع أنواع الاحياء للحصول على حاجاتها الضـرورية التــي هــي خــارجة عن قدرتهــا، فيطــلب كـلُّ حيٍ من الجواد المطلق؛ بلســان حــاجته الفطرية عناصرَ اســتمــرار وجوده التي هي بمثابة رزقها.

أو عن طريق لسان الاضطرار، كدعاء المضطرّ الذي يتضرع تضرعاً كاملاً الى مولاه المغيب، بل لا يتوجّه الاّ الى ربه الرحيم الذي يلّبي حاجته ويقبل التجاءه.

فهذه الانواع الثلاثة من الدعاء مقبولةٌ إن لم يطرأ عليها ما يجعلها غير مقبولة.

النوع الرابع من الدعاء، هو دعاؤنا المعروف، فهو أيضاً نوعان:

احدهما: دعاءٌ فعلي وحالي.

وثانيهما: دعاء قلبي وقولي.

فمثلاً: الأخذُ بالأسباب هو دعاء فعلي، علماً أن اجتماع الأسباب ليس المرادُ منه ايجاد المسَّبب. وانما هو لإتخاذ وضعٍ ملائمٍ ومُرضٍ لله سبحانه لِطَلَب المسَّبب منه بلسان الحال. حتى إن الحراثةَ بمنزلةِ طَرْقِ بابِ خزينةِ الرحمةِ الإلهية. ونظراً لكون هذا النوع من الدعاء الفعلي موجّهٌ نحو اسم (الجواد) المطلق والى عنوانه فهو مقبولٌ لا يُردُّ في أكثر الأحيان.

أما القسم الثاني: فهو الدعاءُ باللسان والقلب. أي طلبُ الحصولِ على المطالب غير القابلة للتحقيق والحاجات التي لا تصلُ اليها اليدُ. فأهمُّ جهةٍ لهذا الدعاء وألطفُ غاياته وألذُّ ثمراته هو أن الداعي يدرك ان هناك مَن يسمع خواطر قلبه، وتصل يدُه الى كل شئ، ومَن هو القادرُ على تلبية جميع رغباته وآمالِه، ومَن يرحم عجزه ويُواسي فقرَه.

فيا أيها الانسان العاجز الفقير! اياك ان تتخلّى عن مفتاح خزينةِ رحمة واسعة ومصدر قوة متينة، ألا وهو الدعاءُ. فتشبَّث به لترتقيَ الى اعلى عليي الانسانية، واجعل دعاءَ الكائنات جزءاً من دعائك. ومن نفسك عبداً كلياً ووكيلاً عاماً بقولك ] إياكَ نَسْتَعينُ[ وكن أحسنَ تقويمٍ لهذا الكون.

















المبحث الثاني

(وهو عبارة عن خمسِ نكات تدورحول سعادة الانسان وشقاوته)

ان الانسانَ نظراً لكونه مخلوقاً في أحسنِ تقويمٍ وموهوباً بأتمّ استعدادٍ جامع، فانه يتمكن من أن يدخل في ميدان الامتحان هذا الذي اُبتلي به ضمن مقاماتٍ ومراتبَ ودرجاتٍ ودركات مصفوفة ابتداءً من سجين ((أسفل سافلين)) الى رياض ((أعلى عليين)) فيسمو أو يتردى، ويرقى أو يهوي ضمن درجاتٍ من الثرى الى العرش الأعلى، من الذرة الى المجرّة، اذ قد فُسِحَ المجالُ أمامَه للسلوك في نجدين لا نهاية لهما للصعود والهبوط. وهكذا اُرسل هذا الانسانُ معجزةَ قدرةٍ، ونتيجةَ خلقةٍ، وأعجوبةَ صنعةٍ.

وسنبين هنا اسرار هذا الترقي والعروج الرائع، أو التدنّي والسقوط المرعب في ((خمسِ نكات)).

C النكتة الأولى

ان الانسانَ محتاجٌ الى اكثر انواع الكائنات وهو ذو علاقة صميمية معها. فلقد انتشرت حاجاتُه في كل طرف من العالم، وامتدت رغباتُه وآمالُه الى حيث الأبد، فمثلـما يطلب أقحـوانةً، يطلب أيضاً ربيعاً زاهياً فسيحاً، ومثلما يرغب في مَرجٍ مبهج يرغب أيضاً في الجنة الأبدية، ومثلما يتلهّف لرؤية محبوبٍ له يشتاق ايضاً ويتوق الى رؤية الجميل ذي الجلال في الجنة، ومثلما أنه محتاجٌ الى فتح باب غرفة لرؤية صديق حميم قابعٍ فيها، فهو محتاجٌ أيضاً الى زيارة عالمِ البرزخ الذي يقبعُ فيه تسـع وتسعون بالمائة من أحبابه وأقرانه. كما هـو محتاج الى اللواذ بباب القدير المطـلـق الـذي سيغـلق بابَ الكـون الأوسـع ويفتـح بابَ الآخـرة الزاخـرة والمحــشـورة بالعجـائب، والذي سيرفع الدنيا ليضـع مكانَها الآخرةَ انقاذاً لهذا الانسان المسكينِ من ألمِ الفراق الأبدي.

لذا فلا معبود لهذا الانسان وهذا وضعُه، الاّ مَن بيده مقاليدُ الأمور كلها، ومَن عنده خزائنُ كل شئ. وهو الرقيبُ على كل شئ، وحاضرٌ في كل مكان، ومنزّهٌ من كل مكان، ومبرّأٌ من العجز، ومقدَّسٌ من القصور، ومتـعـالٍ عن النقـص، وهو القادر ذو الجلال، وهو الرحيم ذو الجمال، وهـو الحكيـــم ذو الكــمــال. ذلك لأنه لايستطيع أحدٌ تلبـية حاجات انــسانٍ بآمــالٍ ومطــامــحَ غــير محــدودة الاّ مَن له قـُـدرة لا نهاية لها وعلم محيط شامل لا حدود له إذ لا يستحق العبادة الاّ هو.

فيا أيها الانسان! اذا آمنتَ بالله وحدَه وأصبحتَ عبداً له وحدَه، فُزتَ بموقعٍ مرموقٍ فوق جميع المخلوقات. أما اذا استنكفتَ من العبودية وتجاهلتَها فسوف تكون عبداً ذليلاً أمام المخلوقات العاجزة، واذا ما تباهيتَ بقدرتك وأنانيتك، وتخلّيتَ عن الدعاء والتوكل، وتكبرّتَ وزِغتَ عن طريق الحق والصواب، فستكون أضعفَ من النملة والنحلة من جهة الخير والايجاد، بل أضعف من الذبابة والعنكبوت. وستكون أثقلَ من الجبل وأضرّ من الطاعون من جهة الشر والتخريب.

نعم، ايها الانسانُ! اِنّ فيك جهتين:

الاولى: جهةُ الايجاد والوجودِ والخير والايجابية والفعل.

والاخرى: جهةُ التخريب والعدم والشر والسلبية والانفعال.

فعلى اعتبار الجهة الاولى (جهة الايجاد) فانك أقلُّ شأناً من النحلة والعصفور وأضعفُ من الذبابة والعنكبوت. أما على اعتبار الجهة الثانية (جهة التخريب) فباستطاعتك ان تتجاوز الأرضَ والجبال والسموات، وبوسعِكَ ان تحمل على عاتقك ما أشفقن منه فتكسبَ دائرةً أوسعَ ومجالاً أفسح؛ لأنك عندما تقوم بالخير والايجاد فانك تعمل على سعةِ طاقتك وبقدر جهدك وبمدى قوتك، أما اذا قمتَ بالإساءةِ والتخريب، فإن اساءتكَ تتجاوز وتستشري، وان تخريبَك يعم وينتشر.

فمثلاً: الكفرُ إساءةٌ وتخريبٌ وتكذيبٌ، ولكن هذه السيئةَ الواحدة تُفضي الى تحقير جميع الكائنات وازدرائها واستهجانها، وتتضمن أيضاً تزييف جميع الاسماء الإلهية الحسنى وإنكارها. وتتمخّض كذلك عن إهانة الانسانية وترذيلها؛ ذلك لأن لهذه الموجودات مقاماً عالياً رفيعاً، ووظيفةً ذات مغزى، حيث انها مكاتيب ربانية، ومرايا سبحانية، وموظفات مأمورات إلهية. فالكفر فضـلاً عن إسقاطهِ تلك الموجودات من مرتبة التوظيف ومنزلة التسخير ومهمة العبودية، فانه كذلك يُرديها الى درك العَبَث والمصادفة ولا يرى لها قيمةً ووزناً بما يعتريها من زوالٍ وفراق يبدّلان ويفسّخان بتخريبهما وأضرارهما الموجودات الى مواد فــانيـة تافهة عـقيــمة لا أهمية لها ولا جدوى منها. وهو في الوقت نفسه يُنكر الأسماء الإلهية ويتجاهلها، تلك الاسماء التي تتراءى نقــوشُها وتجــليـــاتُها وجـمالاتُها في مــرايا جميــع الكائــنات، حتى إن ما يُطلق عليه: (الانسانية) التي هي قصيدة حكيمةٌٍ منظومةٌ تعلن اعلاناً لطيفاً جميع تجليات الأسماء الإلهية القدسية، وهي معجزةُ قدرةٍ باهرة جامعةٍ كالنواة لأجهزة شجرةٍ دائمةٍ باقية. هذه (الانسانية) يقذفُها الكفرُ من صورتها الحيّة التي تفوّقت بها على الارض والجبال والسماوات بما أخذتْ على عاتقها من الأمانة الكبري وفُضّلت على الملائكة وترجّحت عليها حتى أصبحت صاحبةَ مرتبةِ خلافة الأرض - يقذفها من هذه القمة السامية العالية الى دَركات هي أذلُّ وأدنى من أي مخلوقٍ ذليل فانٍ عاجزٍ ضعيف فقير، بل يُرديها الى دركة أتفهِ الصور القبيحة الزائلة سريعاً.

وخلاصة القول: ان النفس الأمارة بإمكانها اقتراف جنايةٍ لا نهاية لها في جهة الشر والتخريب، أما في الخير والايجاد فان طاقتها محدودة وجزئية؛ اذ الانسان يستطيع هدمَ بيتٍ في يوم واحد الاّ أنه لا يستطيع أن يشيّده في مائة يوم. أما إذا تخلى الانسانُ عن الانانية، وطلب الخير والوجود من التوفيق الإلهي وأرجَعَ الامرَ اليه، وابتعد عن الشر والتخريب، وترك اتباعَ هوى النفس. فاكتمل عبداً لله تعالى تائباً مستغفراً، ذاكراً له سبحانه. فسيكون مَظهراً للآية الكريمة: ] يُبدّلُ الله سَيّئاتِهم حَسَنات[ (الفرقان: 70) فتنقلب القابلية العظمى عندَه للشر الى قابلية عظمى للخير. ويكتسب قيمة (أحسن تقويم) فيحلق عالياً الى أعلى عليين.

أيها الانسان الغافل! انظر الى فضل الحق تبارك وتعالى وكرمِه، ففي الوقت الذي تقتضي العدالةُ أن يكتب السيئةَ مائة سيئةٍ ويكتب الحسنةَ حسنةً واحدة او لا يكتبها حيث أن خيرها ومصلحتها يعودان على الانسان فهو جلّت قدرته يكتب السيئة سيئةً واحدةً والحسنةَ يزنها بَعشر أمثالها أو بسبعين أو بسبعمائة أو بسبعة آلاف أمثالها.

فأفهم من هذه النكتة ان الدخول في جهنم هو جزاء عمل وهو عين العدالة، وأما دخول الجنة فهو فضل إلهي محض ومَكرمةٌ خالصة، ومرحمة بحتة.

C النكتة الثانية

في الانسان وجهان:

الاول: جهة الانانية المقصورة على الحياة الدنيا.

والآخر: جهةُ العبودية الممتدة الى الحياة الأبدية.

فهو على اعتبار الوجه الاول مخلوقٌ مسكينٌ. إذ رأسماله من الارادة الجزئية جزءٌ ضيئل كالشعرة، وله من الاقتدار كسبٌ ضعيف، وله من الحياة شعلةٌ لا تلبث أن تنطفئ، وله من العمر فترةٌ عابرة خاطفة، وله من الوجود جسمٌ يبلى بسرعة. ومع هذا فالانسان فردٌ لطيف رقيق ضعيف من بين الأفراد غير المحدودة والأنواع غير المعدودة المتراصة في طبقات الكائنات.

أما على اعتبار الوجه الثاني وخاصة من حيث العجز والضعف المتوجهين الى العبودية، فهو يتمتع بفسحة واسعة، وأهمية عظيمة جداً؛ لأن الفاطرَ الحكيم قد أودع في ماهيته المعنوية عجزاً عظيماً لا نهاية له، وفقراً جسيماً لا حد له، وذلك ليكون مرآةً واسعة جامعة جداً للتجليات غير المحدودة (للقدير الرحيم) الذي لا نهاية لقدرته ورحمته و (للغني الكريم) الذي لا منتهى لغناه وكرمه.

نعم، ان الانسان يشبه البذرة، فلقد وُهبت للبذرة اجهزةٌ معنوية من لدن (القُدرة) واُدرجت فيها خطةٌ دقيقة ومهمة جداً من لدن (القَدَر) لتتمكن من العمل داخل التربة، ومن النمو والترعرعِ والانتقالِ من ذلك العالم المظلم الضيق الى عالم الهواء الطليق والدنيا الفسيحة، وأخيراً التوسل والتضرع لخالقها بلسان الاستعداد والقابليات لكي تصير شجرةً، والوصولِ الى الكمال اللائق بها. فاذا قامت هذه البذرةُ بجلب المواد المضرة بها، وصرفِ أجهزتها المعنوية التي وُهبت لها الى تلك المواد التي لا تعنيها بشئ وذلك لسوء مزاجها وفساد ذوقها، فلاشك ان العاقبةَ تكون وخيمةً جداً؛ اذ لا تلبث أن تتعفن دون فائدة، وتبلى في ذلك المكان الضيق. أما اذا اخضَعتْ أجهزتَها المعنوية لتتمثل أمر ] فالق الحبِّ والنَّوى[ (الانعام:95) التكويني واحسنتْ استعمالَها، فانها ستنبثق من عالمها الضيق لتكتملَ شجرةً مثمرةً باسقة، ولتأخذ حقيقتُها الجزئية، وروحُها المعنوية الصغيرة صورتَها الحقيقية الكلية الكبيرة.

فكما ان البذرة هكذا فالانسانُ كذلك. فقد اُودعتْ في ماهيته اجهزةٌ مهمةٌ من لدن القدرة الإلهية، ومُنحَ برامجَ دقيقة وثمينة من لدن القَدَر الإلهي. فاذا أخطأ هذا الانسانُ التقديرَ والاختيار، وصَرَف اجهزتَه المعنوية تحت ثرى الحياة الدنيا وفي عالم الارض الضيق المحدود، الى هوى النفس، فسوف يتعفّنُ ويتفسّخ كتلك البذرة المتعفنة، لأجل لذةٍ جزئيةٍ ضمن عمرٍ قصيرٍ وفي مكانٍ محصور وفي وضع متأزم مؤلم، وستتحمل روحُه المسكينة تبعات المسؤولية المعنوية فيرحلُ من الدنيا خائباً خاسراً.

أما اذا ربّى الانسانُ بذرةَ استعداده وسقاها بماءِ الأسلام، وغذّاها بضياءِ الايمان تحت تراب العبودية موجهاً أجهزتَها المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية. فلابد أنها ستنشقّ عن أوراقٍ وبراعم واغصانٍ تمتدّ فروعُها وتتفتّح أزاهيرُها في عالم البرزخ وتولّد في عالم الآخرة وفي الجنة نِعَماً وكمالاتٍ لا حد لها. فيصبح الانسان بذرةً قيّمةً حاوية على أجهزة جامعة لحقيقة دائمة ولشجرة باقية، ويغدو آلةً نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرةً مباركة منورة لشجرة الكون.

نعم ان السموَّ والرقي الحقيقي انما هو بتوجيه القلب، والسرِ، والروح، والعقل، وحتى الخيال وسائر القوى الممنوحة للانسان، الى الحياة الأبدية الباقية، وأشتغال كلٍّ منها بما يخصّها ويناسبها من وظائف العبودية. أما ما يتوهمه أهلُ الضلالة من الانغماس في تفاهات الحياة والتلذّذِ بملذاتها الهابطة والإنكباب على جزئيات لذاتها الفانية دون الالتفات الى جمال الكليات ولذائذها الباقية الخالدة مسخّرين القلب والعقل وسائر اللطائف الانسانية تحت إمرةِ النفس الأمارة بالسوء وتسييرها جميعاً لخدمتها، فان هذا لا يعني رقياً قط، بل هو سقوطٌ وهبوط وانحطاط.

ولقد رأيت هذه الحقيقة في واقعة خيالية سأوضحها بهذا المثال:

دخلتُ في مدينة عظيمة، وجدت فيها قصوراً فخمة ودُوراً ضخمة، كانت تُقام أمام القصور والدور حفلات ومهرجانات وأفراح تجلب الانظار كأنها مسارحُ وملاهٍ، فلها جاذبية وبهرجة. ثم امعنت النظر فاذا صاحبُ قصر واقفٌ أمام الباب وهو يداعب كلبه ويلاعبه. والنساء يرقصن مع الشباب الغرباء، وكانت الفتيات اليافعات ينظّمن العابَ الأطفال. وبوّاب القصر قد اتخذ طورَ المشرف يقودُ هذا الحشد. فأدركت ان هذا القصر خالٍ من أهله وأنه قد عُطلّت فيه الوظائف والواجبات. فهؤلاء السارحون من ذويه السادرون في غيّهم قد سقطت أخلاقُهم وماتت ضمائرهم وفرغت عقولُهم وقلوبُهم فأصبحوا كالبهــائم يهـيمون علـى وجوههم ويلعبون أمام القصر. ثم مشــيتُ قــلــيلاً فـفاجأني قصرٌ آخر. رأيت كلباً نائماً امام بابه. ومعه بوّاب شهمٌ وقور هادئ، وليس امام القصر ما يثير الانتباه، فتعجبت من هذا الهدوء والســكـيــنــة واستغـربت! واستفـــسرتُ عن الســـبــب، فــدخلت القصرَ فوجدته عامراً بأهله، فهناك الوظائف المتباينة والواجبات المهمة الدقيقة ينجزها أهلُ القصر، كلٌّ في طابقه المخصص له في جوّ من البهاء والهناء والصفاء بحيث يبعث في الفؤاد الفرحة والبهجة والسعادة. ففي الطابق الأول هناك رجالٌ يقومون بإدارة القصر وتدبير شؤونه، وفي طابقٍ أعلى هناك البناتُ والاولاد يتعلمون ويتدارسون. وفي الطابق الثالث السيداتُ يقمن بأعمال الخياطة والتطريز ونسج الزخارف الملونة والنقوش الجميلة على انواع الملابس، أما الطابق الأخير فهناك صاحبُ القصر يتصل هاتفياً بالملكِ لتأمين الراحةِ والسلامةِ والحياة الحرّة العزيزة المرضية لأهل القصر، كلٌّ يمارس اعماله حسب اختصاصه وينجز وظائفه اللائقة بمكانته الملائمة بكماله ومنزلته. ونظراً لكوني محجوباً عنهم فلم يمنعني أحدٌ من التجوّل في انحاء القصر؛ لذا استطلعت الأمور بحرّية تامة. ثم غادرتُ القصر وتجولت في المدينة فرأيتُ انها منقسمةٌ الى هذين النوعين من القصور والبنايات، فسألت عن سبب ذلك ايضاً فقيل لي: "ان النوع الاول من القصور الخاليةِ من أهلها والمبهرجِ خارجُها والمزينةِ سطوحُها وافنيتُها ما هي الاّ مأوى ائمة الكفر والضلالة. أما النوع الثاني من القصور فهي مساكن أكابر المؤمنين من ذوي الغيرة والشهامة والنخوة". ثم رأيت أن قصراً في زاوية من زوايا المدينة مكتوبٌ عليه اسم (سعيد) فتعجبت، وعندما أمعنت النظر أبصرت كأن صورتي قد تراءت لي، فصرختُ من دهشتي واسترجعت عقلي وافقتُ من خيالي.

واريد أن أفسر بتوفيق الله هذه الواقعة الخيالية:

فتلك المدينة هي الحياة الاجتماعية البشرية ومدنية الحضارة الانسانية، وكل قصر من تلك القصور عبارة عن انسان، أما أهلُ القصر فهم جوارحُ الانسان كالعين والاذن، ولطائفُه كالقلب والسر والروح، ونوازعُه كالهوى والقوة الشهوانية والغضبية. وكلُّ لطيفةٍ من تلك اللطائف معدّةٌ لأداءِ وظيفةِ عبوديةٍ معينة ولها لذائذُها وآلامُها، أما النفس والهوى والقوة الشهوانية والغضبية فهي بحكم البوّاب وبمثابة الكلب الحارس. فإخضاع تلك اللطائف السامية اذن لأوامر النفس والهوى وطمس وظائفها الاصلية لا شك يعتبر سقوطاً وانحطاطاً وليس ترقياً وصعوداً.. وقس أنت سائر الجهات عليها.

C النكتة الثالثة

ان الانسان من جهة الفعل والعمل وعلى اساس السعي المادي حيوانٌ ضعيفٌ ومخلوق عاجز، دائرة تصرفاته وتملكه في هذه الجهة محدودةٌ وضيقةٌ، فهي على مدّ يده القصيرة، حتى ان الحيوانات الأليفة التي أعطي زمامُها بيد الانسان قد تسرّبتْ اليها من ضعف الانسان وعجزِه وكَسَله حصة كبيرة. فاذا ما قيس مثلاً الغنم والبقر الأهلي بالغنم والبقر الوحشي لظَهر فرقٌ هائلٌ وبونٌ شاسعٌ.

الاّ ان الانسان من جهة الانفعال والقبول والدعاء والسؤال ضيفٌ عزيزٌ كريمٌ في دار ضيافة الدنيا، قد استضافه المولى الكريمُ ضيافةً كريمةً حتى فتح له خزائن رحمته الواسعة وسخرّ له خَدَمه ومصنوعاته البديعة غير المحدودة، وهيأ لتنزهه واستجمامه ومنافعه دائرةً عظيمة واسعة جداً، نصفُ قطرها مدُّ البصر بل مدُّ انبساط الخيال.

فإذا استند الانسان الى أنانيته وغروره واتخذ الحياة الدنيا غاية آماله، وكان جهدُه وكدُّه لأجل الحصول على لذاتٍ عاجلةٍ في سعيه وراء معيشته. فسوف يغرق في دائرة ضيقة ويذهب سعيه ادراجَ الرياح، وستشهد عليه يوم الحشر جميعُ الاجهزة والجوارح واللطائف التي اُودعت فيه شاكيةً ضده، ساخطةً ثائرة عليه. أما إذا أدرك انه ضيفٌ عزيز، وتحرك ضمن دائرة مرضاة مَنْ نَزَل عليه ضيفاً وهو الكريمُ ذو الجلال، وصرَفَ رأسمال عمره ضمن الدائرة المشروعة فسوف يكون نشاطه وعمله ضمن دائرة فسيحة رحبة جداً تمتد الى الحياة الأبدية الخالدة، وسيعيش سالماً آمناً مطمئناً، ويتنفس تنفس الصعداء ويستروح، وبإمكانِهِ الصعودُ والرقي الى أعلى عليين. وستشهد له في الآخرة ما منحه الله من الاجهزة والجوارح واللطائف.

نعم، ان الاجهزة التي زُرعت في الانسان ليست لهذه الحياة الدنيا التافهة، وانما اُنعم عليه بها لحياةٍ باقية دائمة، لها شأنها وأيُّ شأن. ذلك لأننا إذا قارنّا بين الانسان والحيوان نرى ان الانسان أغنى من الحيوان بكثير من حيث الأجهزة والآلات، بمائة مرة، ولكنه من حيث لذّتِه وتمتّعه بالحياة الدنيا أفقرُ منه بمائة درجة، لأن الانسان يجد في كل لذةٍ يلتذّ بها ويتذوقها آثارَ آلاف من الآلامِ والمنغّصات. فهناك آلامُ الماضي، وغصصُ الزمن الخالي، ومخاوفُ المستقبل، وأوهامُ الزمان الآتي، وهناك الآلامُ الناتجة من زوال اللذات. كلُّ ذلك يُفسد عليه مزاجَه وأذواقَه ويكدِّر عليه صفوَه ونشوتَه، حيث تترك كلُّ لذةٍ أثراً للألم. بينما الحيوانُ ليس كذلك، فهو يتلذّذُ دون ألمٍ، ويتذوق الاشياء صافيةً دون تكدِّرٍ وتعكر، فلا تعذّبه آلامُ الماضي ولا ترهبهُ مخاوفُ المستقبل، فيعيش مرتاحاً ويغفو هانئاً شاكراً خالقَه،حامداً له.

اذن فالانسان الذي خُلق في (أحسن تقويم) إذا حَصَر فكرَه في الحياة الدنيا وحدَها فسيهبط ويتَّضع ويصبح أقل شأناً بمائة درجة من حيوان كالعصفور وان كان أسمى وأتم من الحيوان من حيث رأسماله بمائة درجة. ولقد وضّحتُ هذه الحقيقة بمَثَلٍ أوردتُه في موضع آخر وسأعيدُه هنا بالمناسبة:

ان رجلاً منح خادَمه عشرَ ليراتٍ ذهبية وأمره أن يفصّل لنفسه بدلةً من أجود أنواع الأقمشة. وأعطى لخادمه الآخر ألفَ ليرة ذهبية الاّ انه أرفق بالمبلغ قائمة صغيرة فيها ما يطلبُه منه، ووضع المبلغَ والقائمةَ في جيب الخادم. وبعثهما الى السوق. اشترى الخادم الأول بدلةً أنيقة كاملة من أفخر الأقمشة البديعة بعشر ليرات. أما الخادمُ الثاني فقد قلّد الخادم الأول وحذا حذوه، ومن حماقته وسخافة عقله لم يراجع القائمة الموجودة لديه، فدفع لصاحب محلٍ كلَّ ما عنده ألفَ ليرة. وطلب منه بدلةً رجاليةً كاملة، ولكن البائع غيرَ المُنصف اختار له بدلةً من أردأ الأنواع، وعندما قفل هذا الخادمُ الشقيُ راجعاً الى سيّده، ووقف بين يديه، عنَّفه سيدُه أشدَّ التعنيف وأنّبه أقسى التأنيب وعذَّبه عذاباً أليماً.

فالذي يملك أدنى شعورٍ وأقلَّ فطنةٍ يدرك مباشرةً بأن الخادم الثاني الذي مُنح ألف ليرة لم يُرسَل الى السوق لشراء بدلة، وانما للأتّجار في تجارة مهمة جداً.

فكذلك الانسان الذي وُهب له هذه الاجهزةُ المعنوية واللطائف الانسانية التي إذا ما قيست كلُّ واحدةٍ منها بما في الحيوان لظهرتْ انها أكثرُ انبساطاً واكثرُ مدى بمائة مرّة. فمثلاً: أين عينُ الانسان التي تميّز جميعَ مراتب الحسن والجمال؟ وأين حاستُه الذوقية التي تميّز بين مختلف المطعومات بلذائذها الخاصة؟ وأين عقلُه الذي ينفذ الى قرارة الحقائق والى أدق تفاصيلها؟ وأين قلبُه المشتاق المتلهّف الى جميع انواع الكمال؟ أين كل هذه الأجهزة وأمثالها مما في الآلات الحيوانية البسيطة التي قد لا تنكشف الاّ لحد مرتبتين اوثلاث!! فيما عدا الاعمال الخاصة المناطة بجهاز خاص في حيوان معين، والذي يؤدي عمله بشكل قد يفضل ما عند الانسان الذي ليس من مهمته مثل هذه الاعمال والوظائف.

والسرُّ في وَفْرَةِ الأجهزة التي مُنحت للانسان وغِناها هو: ان حواسَّ الانسان ومشاعره قد اكتسبت قوةً ونماءً وانكشافاً وانبساطاً اكثر؛ لما يملك من الفكر والعقل، فقد تبايَن كثيراً مدى استقطاب حواسه،نظراً لتباين وكثرة احتياجاته. لذا تنوعت أحاسيُسه وتعددت مشاعرُه.. ولأنه يملك فطرةً جامعةً فقد أصبح محوراً لآمالٍ ورغباتٍ عدة ومداراً للتوجّه الى مقاصدَ شتّى.. ونظراً لكثرة وظائفه الفطرية فقد انفرجت اجهزتُه وتوسّعت.. وبسبب فطرته البديعة المهيأة لشتى انواع العبادة فقد مُنح استعداداً جامعاً لبذور الكمال؛ لذا لا يمكن ان تُمنح له هذه الأجهزة الوفيرة الى هذه الدرجة الكثيفة لتحصيل هذه الحياة الدنيوية المؤقتة الفانية فحسب، بل لابد أن الغايةَ القصوى لهذا الانسان هي أن يفي بوظائفه المتطلعة الى مقاصدَ لا نهاية لها، وأن يعلن عجزَه وفقره بجنب الله تعالى بعبوديته، وان يرى بنظره الواسع تسبيحات الموجودات، فيشهد على ذلك ويطّلع على ماتمدّه الرحمة الإلهية من إنعام وآلاء فيشكر الله عليها، وأن يعاين معجزات القدرة الربانية في هذه المصنوعات فيتفكر فيها ويتأمل وينظر اليها نظر العبرة والاعجاب.

فيا عابدَ الدنيا وعاشقَ الحياة الفانية الغافلَ عن سر (أحسَنِ تقويم)! استمع الى هذه الواقعة الخيالية التي تتمثل فيها حقيقةُ حياةِ الدنيا. تلك الواقعة التمثيلية التي رآها (سعيد القديم) فحوّلته الى (سعيد الجديد) وهي:

رأيتُ نفسي كأني أسافر في طريقٍ طويل، أي اُرسَل الى مكانٍ بعيد، وكان سيدي قد خصّص لي مقدارَ ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كلَّ يومٍ شيئاً، حتى دخلتُ الى فندقٍ فيه ملهى فطفقتُ أبذّر ما أملك - وهي عشرُ ليرات - في ليلةٍ واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والاعجاب. فاصبحتُ وأنا صفر اليدين لم أتجّر بشئ، ولم آخذ شيئاً مما سأحتاج اليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى الآلام والخطايا التي ترسبتْ من لذات غير مشروعة، وسوى الجروح والغصّات والآهات التي ترشحت من تلك السفاهات والسفالات.. وبينما أنا في هذه الحالة الكئيبة الحزينة البائسة اذ تمثّل أمامي رجلٌ. فقال:

(أنفقَت جميع رأسمالك سدىً، وصرتَ مستحقاً للعقاب، وستذهب الى البلد الذي تريدُه خاويَ اليدين. فان كنتَ فطناً وذا بصيرة فبابُ التوبة مفتوحٌ لم يغلق بعدُ. فبإمكــانــك ان تدّخر نصـــف ما تحــصـل علــيه، مما بقي لك من الـلــيرات الخمس عشرة لتشتري بعضاً مما تحتاج اليه في ذلك المكان..) فاستشرتُ نفسي فاذا هي غير راضية بذلك، فقال الرجل:

- ((فادّخر اذن ثُلُثَه)). ولكن وجدتُ نفسي غير راضية بهذا ايضاً. فقال:

- ((فادّخر ربُعَهَ)). فرأيتُ نفسي لا تريد أن تَدَع العادةَ التي اُبتلَيت بها. فأدار الرجلُ رأسه وأدبر في حدّةٍ وغيظٍ ومضى في طريقه. ثم رأيتُ كأن الأمور قد تغيّرت. فرأيت نفسي في قطار ينطلق منحدراً بسرعة فائقة في داخل نفق تحت الارض، فاضطربت من دهشتي، ولكن لا مناص لي حيث لا يمكنني الذهابُ يميناً ولا شمالاً. ومن الغريب أنه كانت تبدو على طرفَي القطار أزهارٌ جميلة جذابة وثمارٌ لذيذة متنوعة فمددتُ يدي - كالاغبياء - نحوَها اُحاول قطفَ أزهارها واحصل على ثمراتها، الاّ انها كانت بعيدةَ المنال، الأشواكُ فيها انغرزتْ في يدي بمجرد ملامستها فأدْمَتها وجرحَتها والقطارُ كان ماضياً بسرعة فائقة فآذيتُ نفسي من دون فائدة تعود عليّ. فقال أحد موظفي القطار: ((اعطني خمسة قروش لأنتقيَ لك الكميةَ المناسبة التي تريدُها من تلك الأزهار والأثمار، فانك تخسر بجروحك هذه اضعافَ اضعافِ ما تحصل عليه بخمسة قروش فضلاً عن ان هناك عقاباً على صنيعك هذا، حيث أنك تقطفها من غير إذن.)) فاشتدّ عليّ الكربُ في تلك الحالة فنظرت اتطلّع من النافذة الى الامام لأتعرّف نهايةَ النفق، فرأيت أن هناك نوافذَ كثيرةً وثغوراً عدة قد أحلّت محلَّ نهاية النفق وأن مسافري القطار يُقذَفون خارجاً من القطار الى تلك الثغور والحفر، ورأيت أن ثغراً يقابلني أنا بالذات اُقيمَ على طرفيه حجرٌ اشبهُ ما يكونُ بشواهدِ القبر، فنظرت اليها بكل دقة وامعان فرأيتُ أنه قد كُتب عليهما بحروفٍ كبيرة اسم ((سعيد)) فصرختُ من فرقي وحيرتي: يا ويلاه!! وآنذاك سمعتُ صوت ذلك الرجل الذي أطال عليّ النصح في باب الملهى وهو يقول:

((هل استرجعتَ عقلك يا بني وأفقتَ من سكرتك؟)) فقلت:

((نعم ولكن بعد فوات الاوان، بعد أن خارتْ قواي ولم يبقَ لي حولٌ ولا قوة)).

فقال:

- ((تُب وتوكّل)) فقلت:

- ((قد فعلت)).

ثم أفقتُ وقد أختفى سعيدٌ القديم ورأيتُ نفسي سعيداً جديداً.

ونرجو من الله أن يجعل هذه الواقعة الخيالية خيراً. وسأفسر قسماً منها وعليك تفسير الباقي وهو:

ان ذلك السفر هو السفرُ الذي يمرُّ من عالَم الأرواح، ومن أطوار عالم الرَّحم، ومن الشباب، ومن الشيخوخة، ومن القبر، ومن البرزخ، الى الحشر والى الصراط والى أبد الآباد.

وتلك الليرات الذهبية البالغة ستين هي العمر البالغ ستين عاماً. وحينما رأيت تلك الواقعة الخيالية كنت في الخامسة والأربعين من العمر حسب ظني، ولم يكن لي سندٌ ولا حجةٌ من أن أعيش الى الستين من العمر، إلاّ أنه أرشدني أحدُ تلاميذ القرآن المخلصين أن اُنفق نصفَ ما بقي من العمر الغالب - وهو خمسة عشر عاماً - في سبيل الآخرة.

وذلك الفندق هو مدينةُ استانبول بالنسبة اليّ.

وذلك القطار هو الزمن، وكلُّ عامٍ بمنزلة عربة منه.. وذلك النفقُ هو الحياة الدنيا.. وتلك الأزهارُ والثمار الشائكة هي اللذات غير المشروعة واللهو المحظور حيث أن الألمَ الناشئ من تصوّر زوالها يُدمي القلبَ ويَجرح النفسَ فيقاسي الانسان من توقّع فراقِها مرارةَ العذاب. وان معنى ما قاله الخادم في القطار: ((اعطني خمسة قروش اعطك من أحسن ما تحتاجه)) هو: ان اللذات والأذواقَ التي يحصل عليها الانسانُ عن طريق السعي الحلال ضمن الدائرة المشروعة كافيةٌ لسعادته وهنائه وراحته فلا يدع مجالاً للدخول في الحرام.. ويمكنك ان تفسّر ما بقي.

C النكتة الرابعة

ان الانسان في هذا الكون أشبَه ما يكون بالطفل الضعيف المحبوب يحمل في ضعفِه قوةً كبيرةً وفي عجزه قدرةً عظيمة؛ لأنه بقوة ذلك الضعفِ وقدرةِ ذلك العجز سُخِّرت له هــذه الموجــوداتُ وانقــادت. فإذا ما أدرك الانســانُ ضعفَه ودعــا ربَّه قولاً وحالاً وطـوراً، وأدرك عجزَه فاستــنجد واســتغاث ربَّه، وادّى الشــكرَ والثناءَ على ذلك التسخير، فسيوفّق الى مطلوبه وستخضع له مقــاصدُه وتتحــقـق مآربُه وتأتي اليه طائعةً منقادةً مع أنه يعجز عن أن ينال بقدرته الذاتية الجزئية المحدودة بل ولا يتسنّى له عُشر معشار ذلك. الاّ انه يحيل خطأً أحياناً ما ناله بدعاء لسان الحال الى قدرته الذاتية. وعلى سبيل المثال: ان القوة الكامنة في ضعف فرخ الدجاج تجعل أمَّه تدفع عنه الأسدَ بما تملك من قوة. وان القوة الكامنة في ضعف شبل الأسد تسخِّر أمَّه المفترسة الضارية لنفسه، بحيث يبقى الأسدُ يتضوَّرُ من الجوع بينما يشبع هو مع صِغَره وضَعفه. وانه لجدير بالملاحظة؛ القوةُ الهائلةُ في الضعف، بل حريٌّ بالمشاهدة والاعجاب: تجلي الرحمة في ذلك الضعف.

وكما ان الطفل المحبوبَ الرقيقَ يحصل بضعفه على شفقة الآخرين، وببكائه على مطالبه، فيَخضع له الأقوياءُ والسلاطين فينال ما لا يمكنه أن ينال واحداً من الألف منه بقوته الضئيلة. فضعفُه وعجزُه اذن هما اللذان يحرّكان ويثيران الشفقة والحماية بحقه حتى إنه يذلّل بسبابته الصغيرة الكبارَ وينقاد اليه الملوكُ والأمراءُ. فلو أنكر ذلك الطفلُ تلك الشفقةَ واتّهم تلك الحمايةَ وقال بحماقة وغرور: ((أنا الذي سخرتُ كل هؤلاء الأقوياء بقوتي وارادتي))! فلاشك انه يستحق أن يقابَلَ باللطمة والصفعة. وكذلك الانسانُ اذا أنكر رحمةَ خالقه وأتهم حكمتَه وقال مثل ما قال قارون جاحداً النعمة. ] إنّما اُوتيتُهُ على عِلمٍ عندي[ (القصص: 78) فلاشك انه يعرِّض نفسَه للعذاب. فهذه المنزلة والسلطنة التي يتمتع بها الانسانُ اذن وهذه الترقيات البشرية والآفاق الحضارية ليست ناشئة من تفّوقه وقوةِ جدالِه وهيمنةِ غلبتِه ولا هو بجالب لها، بل مُنحت للانسان لضَعفه ومُدّت له يدُ المعاونة لعجزه، واُحسنتُ اليه لفقره، واُكرم بها لإحتياجه. وأن سبب تلك السلطنةِ ليس بما يملك من قوةٍ ولا بما يقدِرُ عليه من علمٍ بل هو الشفقةُ الربانيةُ ورأفتُها والرحمةُ الإلهية وحكمتُها التي سَخَّرت له الأشياءَ وسلَّمتْها اليه. نعم ان الانسان المغلوبَ أمام عقرب بلا عيون وحية بلا ارجل ليست قدرتُه هي التي ألبَستْه الحريرَ من دودة صغيرة واطعمته العسلَ من حشرة سامة، وانما ذلك ثمرةُ ضعفه الناتجة من التسخير الرباني والإكرام الرحماني.

فيا أيها الانسان! ما دامت الحقيقة هكذا فدع عنك الغرورَ والأنانية، وأعلن أمامَ عتبة باب الألوهية عجزَك وضعفَك، اعلنهما بلسان الإستمداد، وأفصِح عن فقرك وحاجتك بلسان التضرع والدعاء، وأظهِر بانك عبدٌ لله خالص قائلاً:

((حَسْبُنا الله ونِعَم الوكيلُ)) فارتفعْ وارتقِ في مدارج العلا.

ولا تقل: ((أنا لست بشئ وما أهميتي حتى يُسخرَّ لي هذا الكون من لدن الحكيم العليم عن قصد وعناية وحتى يطلب مني الشكر الكلي)).

ذلك وان كنتَ بحسب نفسِك وصورتِك الظاهرية في حكم المعدم، إلاّ انك بحسب وظيفتك ومنزلتك مُشاهدٌ فَطِنٌ، ومتفرجٌ ذكي على الكائنات العظيمة. وانك اللسانُ الناطق البليغ ينطق باسم هذه الموجودات الحكيمة.. وانك القارئ الداهي والمطالعُ النبيه لكتاب العالم هذا.. وانك المشرف المتفكر في هذه المخلوقات المسبّحة.. وانك بحكم الاستاذ الخبير والمعمار الكريم لهذه المصنوعات العابدة الساجدة.

نعم ايها الانسان! انك من جهة جسمِك النباتي ونفسِك الحيوانية جزءٌ صغير وجزئيٌ حقيرٌ ومخلوقٌ فقير وحيوانٌ ضعيف تخوض في الأمواج الهادرة لهذه الموجودات المتزاحمة المدهشة. إلاّ أنك من حيث انسانيتك المتكاملة بالتربية الاسلامية المنوَّرة بنور الايمان المتضمن لضياء المحبة الإلهية سلطانٌ في هذه العبدية.. وانك كليٌ في جزئيتك.. وانك عالمٌ واسع في صغرك.. ولك المقامُ السامي مع حقارتك فانت المشرفُ ذو البصيرة النيرّة على هذه الدائرة الفسيحة المنظورة، حتى يمكنك القول: ((ان ربيَ الرحيمَ قد جعلَ لي الدنيا مأوىً ومسكناً، وجعل لي الشمس والقمر سراجاً ونوراً، وجعل لي الربيعَ باقةَ وردٍ زاهية، وجعلَ لي الصيفَ مائدةَ نعمةٍ، وجعل لي الحيوانَ خادماً ذليلاً، وأخيراً جعل لي النباتَ زينةً واثاثاً وبهجة لداري ومسكني)).

وخلاصة القول:

انك اذا ألقيتَ السمعَ الى النفس والشيطان فستسقط الى أسفل سافلين واذا أصغيتَ الى الحق والقرآن فسترتقي الى أعلى عليين وكنتَ ((أحسن تقويم)) في هذا الكون.

C النكتة الخامسة:

ان الانسان اُرسل الى الدنيا ضيفاً وموظفاً ووُهبتْ له مواهبٌ واستعدادات مهمة جداً، وعلى هذا اسُندت اليه وظائفٌ جليلة. ولكي يقوم الانسانُ باعماله وليكدّ ويسعى لتلك الغايات والوظائف العظيمة فقد رُغِّب ورُهَّب لإنجاز عمله.

سنجمل هنا الوظائف الانسانية وأساسات العبودية التي أوضحناها في موضع آخر، وذلك لفهم وادراك سر ((أحسن تقويم)) فنقول:

ان الانسان بعد مجيئه الى هذا العالم له عبوديةٌ من ناحيتين:

الناحية الاولى: عبوديةٌ وتفكرٌ بصورة غيابية.

الناحية الثانية: عبوديةٌ ومناجاةٌ بصورة مخاطبة حاضرة.

الناحية الاولى هي:

تصديقُه بالطاعة لسلطان الربوبية الظاهر في الكون والنظرُ الى كماله سبحانه ومحاسنه باعجاب وتعظيم.

ثم استنباط العبرة والدروس من بدائع نقوش اسمائه الحسنى القدسية وإعلانها ونشرها واشاعتها.

ثم وزنُ جواهر الاسماء الربانية ودررها - كلُّ واحدٍ منها خزينة معنوية خفية - بميزان الإدراك والتبصّر وتقييمها بانوار التقدير والعظمة والرحمة النابعة من القلب.

ثم التفكر بإعجاب عند مطالعة أوراق الأرض والسماء وصحائف الموجودات التي هي بمثابة كتابات قلم القدرة.

ثم النظرُ باستحسان بالغ الى زينة الموجودات والصنائع الجميلة اللطيفة التي فيها والتحببُ لمعرفة الفاطر ذي الجمال والتلهّفُ الى الصعود الى مقام حضورٍ عند الصانع ذى الكمال ونيل التفاته الرباني.

الناحية الثانية هي:

مقامُ الحضور والخطاب الذي ينفذ من الأثر الى المؤثر، فيرى أن صانعاً جليلاً يريد تعريف نفسه اليه بمعجزات صنعته. فيقابله هو بالايمان والمعرفة.

ثم يرى أن ربّاً رحيماً يريد أن يحبب نفسه اليه بالأثمار الحلوة اللذيذة لرحمته، فيقابله هو بجعل نفسه محبوباً عنده بالمحبة الخالصة والتعبد الخالص لوجهه.

ثم يرى: أن مُنعماً كريماً يغرقه في لذائذ نِعَمِه المادية والمعنوية، فيقابله هو بفعله وحاله وقوله بكل حواسه وأجهزته - ان استطاع - بالشكر والحمد والثناء عليه.

ثم يرى: أن جليلاً جميلاً يُظهر في مرآة هذه الموجودات كبرياءَه وعظمتَه وكمالَه ويُبرز جلالَه وجمالَه فيها بحيث يجلب اليها الأنظار فيقابل هو ذلك كله: بترديد ((الله اكبر.. سبحان الله..)) ويسجد سجودَ مَن لا يمل بكل حيرة واعجاب وبمحبة ذائبة في الفناء.

ثم يرى: ان غنياً مطلقاً يعرض خزائنه وثروتَه الهائلة التي لا تنضب في سخاء مطلق، فيقابله هو بالسؤال والطلب بكمال الافتقار في تعظيم وثناء.

ثم يرى: ان ذلك الفاطرَ الجليل قد جعل الأرض معرضاً عجيباً لعرض جميع الصنائع الغريبة النادرة فيقابل هو ذلك بقوله (ما شاء الله) مستحسناً لها، وبقوله (بارك الله) مقدراً لها، وبقوله (سبحان الله) معجباً بها، وبقوله (الله اكبر) تعظيماً لخالقها.

ثم يرى: أن واحداً يختم على الموجودات كلها ختمَ التوحيد وسكّتَه التي لا تقلد وطغراءَه الخاصة به، وينقش عليها آيات التوحيد، وينصبُ رايةَ التوحيد في آفاق العالم معلناً ربوبيتَه، فيقابله هو بالتصديق والايمان والتوحيد والاذعان والشهادة والعبودية.

فالانسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح انساناً حقاً ويُظهر نفسه أنه في (أحسن تقويم) فيصير بيُمن الايمان وبركته لائقاً للأمانة الكبرى وخليفة أميناً على الأرض.

فيا أيها الانسان الغافلُ المخلوقُ في (أحسَن تقويم) والذي ينحدر أسفلَ سافلين لسوء اختياره ونزقه وطيشه. اسمعني جيداً وانظر الى اللوحتين المكتوبتين في المقام الثاني من (الكلمة السابعة عشرة) حتى ترى أنت ايضاً كيف كنتُ أرى الدنيا مثلَك حلوةً خضرة عندما كنتُ في غفلة الشباب وسُكره. ولكن لما أفقتُ من سكر الشباب وصحوتُ منه بصبحِ المشيب رأيت أن وجهَ الدنيا غير المتوجه الى الآخرة والذي كنتُ اعدُّه جميلاً رأيته وجهاً قبيحاً. وان وجه الدنيا المتوجه الى الآخرة حسن جميل.

فاللوحة الأولى:

تصوّر دنيا أهل الغفلة. فقد رأيتها من دون أن اسكر فيها شبيهة بدنيا اهل الضلالة الذين اَطبقت عليهم حجب الغفلة.



اللوحة الثانية:

تشير الى حقيقة أهل الهداية وذوى القلوب المطمئنة.

فلم ابدل شيئاً من تلكما اللوحتين بل تركتهما كما كانتا من قبل، وهما وان كانتا تشبهان الشعر الاّ انهما ليسا بشعر.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربّ اشرح لي صدري ^ ويسر لي امري ^

واحلل عقدةً من لساني ^ يفقهوا قولي[

اللّهم صلِّ على الذات المحمدية اللطيفة الأحدية شمسِ سماء الأسرار، ومَظهرِ الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطبِ فلكِ الجمال.

اللّهم بسرّه لديك، وبسيره إليكِ، آمِنْ خوفي، واَقِل عَثرتي، واَذهِب حُزني وحرصي، وكُن لي، وخذني إليك مني، وارزقني الفناءَ عني، ولا تجعلني مفتوناً بنفسي محجوباً بحسي، واكشف لي عن كل سرّ مكتوم.

ياحي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم.

وارحمني وارحم رفقائي وارحم اهلَ الايمان والقرآن.

آمين آمين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

] وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[

عبدالرزاق 02-02-2011 01:58 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الثالثة والعشرون

وهي مبحثان

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ

] لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْويمٍ ^ ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ ^ إلاّ الذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غيرُ مَمْنونٍ[ (التين: 4- 6)

المبحث الأول

نبين خمس محاسن من بين آلاف محاسن الايمان وذلك في خمسِ نقاط

C النقطة الاولى:

إن الانسانَ يسمو بنور الايمان الى اعلى عليين فيكتسب بذلك قيمةً تجعلُه لائقاً بالجنة، بينما يتردّى بظلمةِ الكفر إلى اسفل سافلين فيكون في وضعٍ يؤهّلُه لنار جهنم، ذلك لأنّ الايمانَ يربطُ الانسانَ بصانعهِ الجليل، ويربطه بوثاق شديد ونسبةٍ اليه، فالايمانُ انما هو إنتسابٌ؛ لذا يكتسب الانسانُ بالايمان قيمة سامية من حيث تجلِّي الصنعةِ الإلهية فيه، وظهورِ آيات نقوشِ الأسماء الربانية على صفحةِ وجوده. أما الكفرُ فيقطع تلك النسبةَ وذلك الانتسابَ، وتغشى ظلمته الصنعةَ الربانية وتطمِس على معالمها، فَتنقُص قيمةَ الانسانِ حيث تنحصر في مادّته فحسب؛ وقيمةُ المادة لا يُعتدّ بها فهي في حكم المعدوم، لكونها فانية، زائلة، وحياتُها حياةٌ حيوانيةٌ مؤقتة.

وها نحن أولاء نبيّنُ هذا السرَّ بمثال توضيحي:

أن قيمةَ المادة تختلف عن قيمة الصنعة ومدى الاجادة فيما يصنعه الانسانُ، فنرى أحياناً القيمتين متساويتين، وقد تكون المادةُ اكثرَ قيمةً من الصنعة نفسِها، وقد يحدث ان تحتوي مادة حديد على قيمة فنيةٍ وجمالية عاليةٍ جداً، ويحدث أن تحوز صنعةٌ نادرة نفيسة جداً قيمةَ ملايين الليرات رغم كونها من مادة بسيطة جداً. فاذا عُرضَت مثل هذه التحفة النادرة في سوق الصنّاعين والحرفيين الـمُجيدين وعرفوا صانعها الباهر الماهر الشهير فانها تحوز سعر مَليون ليرة، أما إذا اُخذت التحفةُ نفسُها الى سوق الحدادين - مثلاً - فقد لا يتقدم لشرائها أحدٌ، وربما لا ينفق أحدٌ في شرائها شيئاً.

وهكذا الانسانُ، فهو الصنعة الخارقة للخالق الصانع سبحانه، وهو أرقى معجزةٍ من معجزات قدرته وألطفُها، حيث خلقه الباري مظهراً لجميع تجليات أسمائه الحسنى، وجعله مداراً لجميع نقوشه البديعة جلّت عظمته، وصيرّه مثالاً مصغراً ونموذجاً للكائنات بأسرها.

فإذا استقر نورُ الايمان في هذا الانسان لبيّن - ذلك النور - جميع ما على الانسان من نقوش حكيمة، بل يستقرئها الآخرين؛ فيقرأها المؤمن بتفكر، ويشعُر بها في نفسه شعوراً كاملاً، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملّونَها، أي كأنه يقول: ((ها أنا ذا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقُه. انظروا كيف تتجلى فيّ رحمتُه، وكرمُه)). وبما شابهها من المعاني الواسعة تتجلّى الصنعة الربانية في الانسان.

اذن الايمان - الذي هو عبارة عن الانتساب الى الصانع سبحانه - يقوم باظهار جميع آثار الصنعة الكامنة في الانسان، فتتعين بذلك قيمةُ الانسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية، ولمعان تلك المرآة الصمدانية. فيتحول هذا الانسان - الذي لا أهمية له - الى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلاً للخطاب الإلهي، وينال شرفاً يؤهله للضيافة الربانية في الجنة.

أما إذا تسلّل الكفر - الذي هو عبارةٌ عن قطع الانتساب الى الله - في الانسان، فعندئذٍ تسقط جميع معاني نقوش الاسماء الحسنى الإلهية الحكيمة في الظلام وتمحى نهائياً، ويتعذر مطالعتها وقراءتها؛ ذلك لانه لا يمكن ان تُفهَم الجهات المعنوية المتوجهة فيه الى الصانع الجليل، بنسيان الصانع سبحانه، بل تنقلب على عقبيها، وتندرس اكثر آيات الصنعة النفيسة الحكيمة واغلب النقوش المعنوية العالية، أما ما يتبقى منـها مـمـا يتـــراءى للعـين فـــسوف يُعزى الى الاسبــاب التـافهــة، الى الطبـيـعة، والمصادفة، فتسقط نهائياً وتزول، حـيث تتحول كل جــوهرةٍ مــن تـلك الجــواهر المتلألئة الى زجاجةٍ سوداء مظلمة، وتقتصر أهميتها آنذاك على المادة الحيوانية وحدها. وكما قلنا ان غاية المادة وثمرتها هي قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها، ومن ثم يتفسخ في النهاية ويزول.. وهكذا يهدم الكفر الماهية الانسانية ويحيلها من جوهرة نفيسة الى فحمة خسيسة.

C النقطة الثانية:

كما ان الايمان نور يضئُ الانسانَ وينوِّرُه ويُظهر بارزاً جميعَ المكاتيب الصمدانية المكتوبة عليه ويستقرِئُها، كذلك فهو يُنير الكائنات أيضاً، وينقذ القرون الخالية والآتية من الظلمات الدامسة.

وسنوضح هذا السرّ بمثال؛ استناداً الى أحد اسرار هذه الآية الكريمة:

] الله وليُّ الذين آمَنوا يُخرجُهُم مِن الظُلماتِ الى النّور[ (البقرة: 257)

لقد رأيتُ في واقعةٍ خيالية أن هناك طودين شامخين متقابلين، نُصبَ على قمتيهما جسرٌ عظيم مدهش، وتحته وادٍ عميقٌ سحيق. وأنا واقف على ذلك الجسر، والدنيا يخيّم عليها ظلامٌ كثيف من كل جانب، فلا يكاد يرى منها شئ. فنظرت الى يميني فوجدت مقبرةً ضخمة تحت جنح ظلمات لا نهاية لها، اي هكذا تخيلت، ثم نظرت الى طرفي الأيسر فكأني وجدت أمواجَ ظلماتٍ عاتية تتدافع فيها الدواهي المذهلة والفواجع العظيمة وكأنها تتأهب للانقضاض، ونظرتُ الى أسفل الجسر فتراءت لعيني هوةٌ عميقةٌ لا قرار لها، وقد كنتُ لا أملك سوى مصباحٍ يدوي خافتِ النور أمامَ كل هذا الهدير العـظـيم من الظـلمات. فاستـخدمته، فبـدا لـي وضـعٌ رهيب، اذ رأيت اُسوداً وضواري ووحوشاً وأشباحاً في كل مكان حتى في نهايات وأطراف الجسر، فتمنيتُ أن لم أكن أملكُ هذا المصباحَ الذي كشف لي كلَّ هذه المخلوقات المخيفة؛ إذ إنني أينما وجَّهتُ نـورَ المصباح شهــدتُ المخــاطر المدهـشة نفـسَها، فتحسرتُ في ذات نفسي وتأوّهتُ قائلاً: ((إن هذا المصباحَ مصيبةٌ وبلاءٌ عليّ)). فاستشاط غيظي فالقيت المصباح الى الأرض وتحطَّمَ، وكأن بتحطُّمه قد أصبتُ زرّاً لمصباح كهربائي هائل، فإذا به يُنور الكائـناتِ جمـيعاً فانـقـشــعتْ تلك الظــلماتُ، وانكشفت وزالت نهائياً، وامتلأ كلُّ مكانٍ وكلُّ جــهةٍ بـذلك النور. وبَدَتْ حقيقةُ كلّ شئ ناصعةً واضحة. فوجدتُ أن ذلك الجسر المعلّقَ الرهيبَ ما هو إلاّ شارعٌ يـمرّ من سهلٍ مـنـبـسط. وتبـيّـنتُ أن تلــك المقـبــرةَ الهــائــلةَ التــي رأيتُها على جهة اليمين ليست الاّ مجالسَ ذكرٍ وتهليلٍ وندوة كريمة لطيفة وخِدمة جليلة، وعبادة سامية تحت إمرة رجالٍ نورانيين في جنائن خُضرٍ جميلة تشعُّ بهجةً ونوراً وتبعث في القلب سعادةً وسروراً. أما تلك الأودية السحيقةُ والدواهي المدهشةُ والحوادثُ الغامضةُ التي رأيتُها عن يساري، فلم تكن الاّ جبالاً مشجرّةً خضراء تسرُّ الناظرين، ووراءَها مضيفٌ عظيمٌ ومروجٌ رائعةٌ ومتنزَّهٌ رائع.. نعم، هكذا رأيتُها بخيالي، أما تلك المخلوقاتُ المخيفة والوحوشُ الضارية التي شاهدتُها فلم تكن الاّ حيوانات أليفة أنيسة؛ كالجمل والثور والضأن والماعز، وعندها تلوتُ الآيةَ الكريمة:

] الله وِليُّ الذينَ آمَنوا يُخرِجُهُمْ مِنَ الظُلُماتِ الى النّورِ[

وبدأتُ أردّد: الحمدلله على نور الايمان.

ثَمَّ أفقتُ من تلك الواقعةِ.

وهكذا، فذاكما الجبلان هما: بدايةُ الحياةِ ومُنتهاها، أي هما عالمُ الأرض وعالمُ البرزخ.. وذلك الجسرُ هو طريقُ الحياة.. والطرفُ الايمنُ هو الماضي من الزمن، والطرفُ الأيسرُ هو المستقبلُ منه . أما المصباحُ اليدوي فهو أنانيةُ الانسان المعتدةُ بنفسها والمتباهيةُ بما لديها من علم، والتي لا تصغي الى الوحي السماوي.. أما تلك الغيلانُ والوحوشُ الكاسرة فهي حوادثُ العالم العجيبة وموجوداته.

فالانسانُ الذي يعتمد على أنانيته وغروره ويقع في شِراكِ ظلماتِ الغفلةِ ويُبتلى بأغلال الضلالة القاتلة، فإنه يشبه حالتي الأُولى في تلك الواقعة الخيالية، حيث يرى الزمنَ الماضي - بنور ذلك المصباح الناقص الذي هو معرفةُ ناقصةُ منحرفة للضلالة كمقبرةٍ عظيمة في ظلمات العدم، ويصوِّرُ الزمن من المستقبلِ موحشاً تَعبثُ فيه الدواهي والخطوب محيلاً إياه الى الصدفةِ العمياء. كما يصوِّرُ جميعَ الحوادث والموجودات - التي كل منها موظفةٌ مسخرةٌ من لدن ربّ رحيم حكيم - كأنها وحوشٌ كاسرةٌٌ وفواتك ضارية. فيحقّ عليه حُكمُ الآية الكريمة:

] والذينَ كَفَروا أوليَاؤهُم الطّاغوتُ يُخرجُونَهُم من النّورِ الى الظُلُمات[ (البقرة: 257)

اما إذا أغاثت الانسانَ الهدايةُ الإلهيةُ، ووجد الايمانُ الى قلبه سبيلاً، وانكسرت فرعونيةُ النفسِ وتحطّمتْ، وأصغى الى كتاب الله، فيكونُ أشبهَ بحالتي الثانيةِ في تلك الواقعةِ الخيالية، فتصطبغُ الكائناتُ بالنهار وتمتلىءُ بالنور الإلهي، وينطق العالمُ برمَّته : ] الله نورُ السمواتِ والأرض[ (النور:35)

فليس الزمنُ الغابرُ اذ ذاك مقبرةً عظمى كما يُتوهم، بل كل عصرٍ من عصوره كما تشهدُه بصيرةُ القلب، زاخرٌ بوظائفَ عبوديةٍ تحت قيادة نبيّ مُرسَلِ، أو طائفةٍ من الأولياء الصالحين، يديرُ تلك الوظيفة السامية وينشرها ويرُسِّخُ اركانَها في الرعية على أتمِّ وجهٍ وأكمل صورة. ومن بعد انتهاء هذه الجماعات الغفيرة من ذوي الأرواح الصافية من اداء وظائفها الحياتية وواجباتها الفطرية تحلّق مُرتَقيةً الى المقامات العالية مُردّدةً: (الله اكبرُ) مخترقةً حجابَ المستقبل. وعندما يلتفتُ الى يساره يتراءى له من بعيد - بمنظار نور الايمان - أن هناك وراءَ انقلاباتٍ برزخيةٍ واُخروية - وهي بضخامة الجبال الشواهق - قصور سعادة الجنان، قد مُدَّت فيها مضايفُ الرحمن مَداً لا أولَ لها ولا آخر. فيتيقن بأَن كلَّ حادثةٍ من حوادث الكون - كالأعاصير والزلازل والطاعون وامثالها - انما هي مُسخرّات موظفاتٌ مأموراتٌ، فيرى أن عواصفَ الربيع والمطر وأمثالَها من الحوادث التي تبدو حزينةً سمجةً، ما هي في الحقيقة والمعنى الا مدارُ الحِكَمِ اللطيفة، حتى إنه يرى الموتَ مقدمةً لحياةٍ أبديةٍ، ويرى القبرَ بابَ سعادةٍ خالدة.. وقسْ على هذا المنوال سائَر الجهاتِ بتطبيق الحقيقةِ على المثال.

C النقطة الثالثة:

كما أن الايمانَ نورٌ وهو قوةٌ ايضاً. فالانسانُ الذي يظفر بالايمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائناتِ ويتخلصَ من ضيق الحوادثِ، مستنداً الى قوةِ ايمانهفَيبحرُ متفرجاً على سفينة الحياة في خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام قائلاً: تَوكَّلتُ على الله، ويسلّم أعباءه الثقيلةَ أمانةً الى يدِ القُدرةِ للقدير المطلق، ويقطعُ بذلك سبيلَ الدنيا مطمئنّ البال في سهولةٍ وراحةٍ حتى يصل الى البرزخ ويستريح، ومن ثم يستطيع ان يرتفعَ طائراً الى الجنة للدخول الى السعادة الأبدية.

أما اِذا ترك الانسانُ التوكل فلا يستطيع التحليقَ والطيرانَ الى الجنة فحسب بل ستجذبه تلك الأثقالُ الى أسفلَ سافلين.

فالايمان اذن يقتضي التوحيدَ، والتوحيدُ يقودُ الى التسليم، والتسليم يُحقق التوكلَ، والتوكلُ يسهّل الطريقَ الى سعادة الدارَين. ولا تظنن أن التوكل هو رفضُ الأسباب وردّها كلياً، وإنما هو عبارةٌ عن العلمِ بأن الأسبابَ هي حُجُب بيَدِ القدرة الإلهية، ينبغي رعايتها ومداراتها، أما التشبثُ بها أو الأخذ بها فهو نوعٌ من الدعاء الفعلي. فطلبُ المسَبَّباتِ اذن وترقّب النتائج لا يكون الاّ مِن الحقِّ سبحانه وتعالى، واَنّ المنةَ والحمدَ والثناءَ لا ترجعُ الاّ اِليه وحدَه.

ان مَثلَ المتوكلِ على الله وغيرَ المتوكل كَمثَلِ رجلَين قاما بحمل اعباءٍ ثقيلةٍ حُمّلت على رأسهما وعاتقهما، فقطعا التذاكر وصعدا سفينةً عظيمةً، فوضعَ احدهُما ما على كاهِله حالما دخل السفينة وجلسَ عليه يرقُبُه أما الآخرُ فلم يفعل مثلَه لحماقته وغروره، فقيل له:

((ضع عنك حملكَ الثقيل لترتاح من عنائك؟)). فقال:
- ((كلا، اني لست فاعلاً ذاك مخافة الضياع، فانا على قوةٍ لا أعبأُ بحملي، وسأحتفظ بما أملُكه فوقَ رأسي وعلى ظهري)). فقيل له ثانية:

- ولكن أيها الأخ إنّ هذه السفينةَ السلطانية الأمينةَ التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى وأصلبُ عوداً منا جميعاً. وبامكانها الحفاظُ علينا وعلى أمتعتنا اكثرَ مِن أنفسنا، فربما يُغمى عليك فتهوي بنفسِك وأمتعتك في البحر، فضلاً عن انك تفقُد قوتَك رويداً رويداً، فكاهلُك الهزيل هذا وهامتُك الخرقاء هذه لن يَسَعهما بعدُ حملُ هذه الأعباء التي تتزايد رَهَقاً، واذا رآك ربّان السفينة على هذه الحالة فيسظنــُّك مصاباً بَمسٍ من الجنون وفاقداً للوعي، فيطرُدُك ويقذِفُ بكَ خارجاً، أو يأمرُ بإلقاء القبضِ عليك ويُودِعك السجن قائلاً: ان هذا خائنٌ يتهم سفينَتَنا ويستهزئُ بنا، وستُصبح أضحوكةً للناس، لأنك باظهارك التكبّر الذي يُخفي ضعفاً - كما يراه أهلُ البصائر - وبغرورِك الذي يحمل عَجزاً، وبتصنّعك الذي يُبطن رياءً وذلة، قد جعلتَ من نفسك اُضحوكةً ومهزلةً. ألا ترى ان الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك..! وبعد ما سمع كلَّ هذا الكلام عاد ذلك المسكينُ الى صوابه فوضع حِملَه على أرضِ السفينة وجلسَ عليه وقال:

الحمد لله... ليرضَ الله عنك كل الرضا فلقد أنقذتَني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية.

فيا أيها الانسان البعيدُ عن التوكل! ارجع الى صوابك وعُد الى رُشدك كهذا الرجل وتوكّل على الله لتتخلص من الحاجة والتسوّل من الكائنات، ولتنجوَ من الإرتعاد والهلع أمام الحادثات، ولتنقذَ نفسَك من الرياء والاستهزاء ومن الشقاء الابدي ومن أغلال مضايقات الدنيا.

C النقطة الرابعة:

إن الايمانَ يجعل الانسانَ انساناً حقاً، بل يجعله سلطاناً؛ لذا كانت وظيفتُه الأساس: (الايمانُ بالله تعالى والدعاء اليه). بينما الكفرُ يجعل الانسانَ حيواناً مفترساً في غاية العجز.

وسنورد هنا دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً من بين آلاف الدلائل على هذه المسألة، وهو: التفاوتُ والفروقُ بين مجئ الحيوان والانسان الى دار الدنيا.

نعم، ان التفاوتَ بين مجئ الحيوان والانسان الى هذه الدنيا يدل على أن اكتمالَ الانسانيةِ وارتقاءها الى الانسانية الحقة إنما هو بالايمان وحدَه، وذلك لأن الحيوانَ حينما يأتي الى الدنيا يأتي اليها كأنه قد إكتملَ في عالمٍ آخرٍ، فيرُسَلُ اليها متكاملاً حسب إستعداده. فيتعلم في ظرف ساعتين أو يومين أو شهرين جميع شرائط حياته وعلاقاته بالكائنات الأخرى وقوانينَ حياته، فتحصلُ لديه مَلَكةٌ؛ فيتعلّم العصفورُ أو النحلةُ - مثلاً - القدرةَ الحياتية والسلوكَ العملي عن طريق الإلهامِ الرباني وهدايتِه سبحانه. ويحصلُ في عشرين يوماً على ما لا يتعلمه الانسانُ الاّ في عشرين سنة. اذن الوظيفةُ الاساس للحيوان ليست التكمّل والإكمتال بالتعلّم، ولا الترقي بكسب العلم والمعرفة، ولا الاستعانة والدعاء باظهار العجز. وانما وظيفتُه الأصلية: العمل حسب استعداده، اي العبودية الفعلية.

أما الانسانُ فعلى العكس من ذلك تماماً، فهو عندما يَقِدم الى الدنيا يقدِمُها وهو محتاجٌ الى تعلّم كل شئ وادراكه؛ اذ هو جاهلٌ بقوانين الحياة كافة جهلاً مطبقاً، حتى إنه قد لا يستوعب شرائطَ حياته خلال عشرين سنة. بل قد يبقى محتاجاً الى التعلم والتفهم مدى عمره. فضلاً عن أنه يُبعث الى الحياة وهو في غاية الضَعف والعَجز حتى إنه لا يتمكن من القيام منتصباً الاّ بعد سنتين من عمره، ولا يكاد يميّز النفَع من الضرّ الا بعد خمس عشرة سنة، ولا يمكنه أن يحقّق لنفسه منافع حياته ومصالحها ولا دفـع الضرر عنها إلاّ بالتعـاون والانخـراط فـي الحيـاة الاجتماعية البشرية.

يتضح من هذا ان وظيفة الانسان الفطرية انما هي التكمل "بالتعلم" أي الترقي عن طريق كسب العلم والمعرفة، والعبودية (بالدعاء). أي أن يدرك في نفسه ويستفسر: (برحمةِ مَنْ وشَفقته اُدارى بهذه الرعاية الحكيمة؟! وبمَكْرَمةِ مَنْ وسخائِه اُربّى هذه التربية المفعمةَ بالشفقة والرحمة؟ وبألطافِ مَنْ بوجُودِه اُغذّى بهذه الصورة الرازقة الرقيقة؟!). فيرى أن وظيفته حقاً هو الدعاءُ والتضرعُ والتوسلُ والرجاءُ بلسان الفقر والعجز الى قاضي الحاجات ليقضي له طلباته وحاجاته التي لا تصل يدُه الى واحدةٍ من الألفِ منها. وهذا يعني ان وظيفته الأساس هي التحليق والارتفاع بجناحَي (العجز والفقر) الى مقام العبودية السامي.

اذن فلقد جئ بهذا الانسان الى هذا العالم لأجل أن يتكامل بالمعرفة والدعاء؛ لأن كل شئ فيه موجَّه الى العلم ومتعلقٌ بالمعرفة حسبَ الماهية والاستعداد. فأساسُ كلِّ العلوم الحقيقية ومعدنها ونورُها وروحها هو (معرفة الله تعالى) كما ان اُسَّ هذا الاساس هو (الايمانُ بالله جل وعلا).

وحيث ان الانسان متعرضٌ لما لا يحصى من أنواع البلايا والمصائب ومهاجمة الاعداء لما يحمل من عجزٍ مطلقٍ. وله مطالبُ كثيرةٌ وحاجاتٌ عديدة مع أنه في فقرٍ مدقع لا نهاية له؛ لذا تكون وظيفتُه الفطريةُ الأساس (الدعاءَ) بعد الايمان، وهو أساسُ العبادة ومخّها. فكما يلجأ الطفلُ العاجز عن تحقيق مرامه أو تنفيذ رغبته بما لا تصل اليه يدُه، الى البكاء والعويل أو يطلب مأمولَه، أي يدعو بلسان عجزه إما قولاً أو فعلاً فيوفَّق الى مقصوده ذاك، كذلك الانسانُ الذي هو ألطفُ أنواع الأحياء وأعجزُها وأفقرُها وهو بمنزلة صبيٍّ ضعيفٍ لطيفٍ، فلابدّ له من أن يأوى الى كنفِ الرحمن الرحيم والانطراحَ بين يديه إما باكياً معبراً عن ضعفه وعجزه، أو داعياً بفقره واحتياجـه، حتـى تُلبّى حاجتُه وتُنفَّذ رغبتُهُ. وعندئذٍ يكون قد أدّى شكرَ تلك الإغاثات والتلبيات والتسخيرات. والاّ فاذا قال بغرورٍ كالطفل الأحمق. ((أنا أتمكن أن اُسخّرَ جميع هذه الأشياء واستحوذَ عليها بافكاري وتدبيري)) وهي التي تفوق ألوف المرات قوتَه وطاقَته! فليس ذلك الاّ كفرانٌ بنَعم الله تعالى، ومعصيةٌ كبيرة تنافي الفطرة الانسانية وتناقضها، وسببٌ لجعل نفسه مستحقّاً لعذابٍ أليمٍ.

C النقطة الخامسة:

كما أن الايمانَ يقتضي (الدعاء) ويتّخذه وسيلةً قاطعةً ووساطةً بين المؤمن وربّه، وكما اَن الفطرةَ الانسانية تتلهف اليه بشدةٍ وشوق، فان الله سبحانه وتعالى ايضاً يدعو الانسانَ الى الأمر نفسه بقوله:

] قُلْ مَا يَعْبَؤا بكُم ربّي لَولا دُعَاؤكُم[ (الفرقان: 77)

وبقوله تعالى: ] اُدْعوني أستَجِبْ لكُم[ (غافر: 60)

ولعلك تقول: ((إننا كثيراً ما ندعو الله فلا يُستجابُ لنا رغم ان الآية عامةٌ تُصرّح بأنّ كل دعاءٍ مستجابٌ)).

الجواب:

ان إستجابةَ الدعاء شئ، وقبولَه شئ آخر. فكلُّ دعاءٍ مستجابٌ، الاّ أن قبولَه وتنفيذَ المطلوب نفسه منوطٌ بحكمة الله سبحانه.

فمثلاً: يستصرخ طفلٌ عليل الطبيبَ قائلاً:

((أيها الطبيب انظر اليّ واكشف عني)).

فيقول الطبيب: ((أمرُك يا صغيري)). فيقول الطفل:

((اعطني هذا الدواء)). فالطبيب حينذاك إمّا انه يُعطيه الدواء نفسَه، أو يعطيه دواءً أكثر نفعاً وأفضل له، أو يمنع عنه العلاجَ نهائياً. وذلك حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ.

وكذلك الحق تبارك وتعالى (وله المثل الاعلى) فلأنه حكيمٌ مطلقٌ ورقيبٌ حسيب في كل آن، فهو سبحانه يستجيب دعاءَ العبد، وباستجابته يُزيل وحشَته القاتمةَ وغربته الرهيبة، مُبدلاً إياها أملاً واُنساً وإطمئناناً. وهو سبحانه إما أنه يَقبل مَطلبَ العبد ويستجيب لدعائه نفسه مباشرة، أو يمنحه أفضل منه، أو يردّه، وذلك حسب اقتضاء الحكمة الربانية، لا حسبَ أهواء العبد المتحكمة وأمانيّه الفاسدة.

وكذا، فالدعاء هو ضربٌ من العبودية، وثمار العبادة وفوائدُها أخرويةٌ. أما المقاصدُ الدنيوية فهي ((أوقاتُ)) ذلك النوع من الدعاء والعبادة، وليست غاياتها.

فمثلاً: صلاةُ الاستسقاء نوعٌ من العبادة، وانقطاع المطر هو وقتُ تلك العبادة. فليست تلك العبادةُ وذلك الدعاء لأجل نزولِ المطر. فلو اُدّيَتْ تلك العبادةُ لأجل هذه النية وحدَها اذن لكانت غير حريّة بالقبول، حيث لم تكن خالصةً لوجه الله تعالى..

وكذا وقتُ غروبِ الشمس هو اعلانٌ عن صلاة المغرب، ووقتُ كسوف الشمس وخسوف القمر هو وقتُ صلاةِ الكسوف والخسوف. أي أن الله سبحانه يدعو عبادَه الى نوعٍ من العبادة لمناسبة انكساف آية النهار وانخساف آية الليل اللتين تومئان وتُعلنان عظمتَهُ سبحانه. والاّ فليست هذه العبادة لإنجلاء الشمس والقمر الذي هو معلومٌ عند الفلكي..

فكما ان الأمر في هذا هكذا فكذلك وقتُ انحباس المطر هو وقتُ صلاةِ الاستسقاء، وتهافتُ البلايا وتسلطُ الشرور والأشياء المضرة هو وقتُ بعض الادعية الخاصة، حيث يدرك الانسانُ حينئذٍ عجزَه وفقرَه فيلوذ بالدعاء والتضرع الى باب القدير المطلق. واذا لم يدفع الله سبحانه تلك البلايا والمصائب والشرور مع الدعاء الملحّ، فلا يقالُ: إن الدعاءَ لم يُستجبْ، بل يقال: إن وقت الدعاء لم ينقضِ بعدُ. وإذا ما رفع سبحانه بفضله وكرمه تلك البلايا وكشف الغمة فقد انتهى وقتُ الدعاء اذن وانقضى. وبهذا فالدعاء سرٌ من أسرار العبودية.

والعبودية لابد أن تكون خالصةً لوجه الله، بأن يأوي الانسانُ الى ربَّه بالدعاء مُظهراً عجزَه، مع عدم التدخل في اجراءات ربوبيته، أو الاعتراضِ عليها، وتسليمُ الأمر والتدبير كلّه اليه وحدَه، مع الاعتماد على حكمته من دون إتهامٍ لرحمته ولا القنوطِ منها.

نعم! لقد ثبت بالآيات البيّنات أن الموجودات في وضعِ تسبيح لله تعالى؛ كلٌ بتسبيحٍ خاصٍ، في عبادة خاصة، في سجود خاص، فتتمخض عن هذه الأوضاع العبادية التي لا تعدّ ولا تحصى سبلُ الدعاء المؤدية إلى كنف ربٍّ عظيم.

اما عن طريق لسان الاستعداد والقابلية؛ كدعاء جميع النباتات والحيوانات قاطبة، حيث يبتغي كلُّ واحدٍ منهما من الفيّاض المطلق صورةً معينةً له فيها معانٍ لأسمائه الحسنى، أو عن طريق لسان الحاجة الفطرية كأدعية جميع أنواع الاحياء للحصول على حاجاتها الضـرورية التــي هــي خــارجة عن قدرتهــا، فيطــلب كـلُّ حيٍ من الجواد المطلق؛ بلســان حــاجته الفطرية عناصرَ اســتمــرار وجوده التي هي بمثابة رزقها.

أو عن طريق لسان الاضطرار، كدعاء المضطرّ الذي يتضرع تضرعاً كاملاً الى مولاه المغيب، بل لا يتوجّه الاّ الى ربه الرحيم الذي يلّبي حاجته ويقبل التجاءه.

فهذه الانواع الثلاثة من الدعاء مقبولةٌ إن لم يطرأ عليها ما يجعلها غير مقبولة.

النوع الرابع من الدعاء، هو دعاؤنا المعروف، فهو أيضاً نوعان:

احدهما: دعاءٌ فعلي وحالي.

وثانيهما: دعاء قلبي وقولي.

فمثلاً: الأخذُ بالأسباب هو دعاء فعلي، علماً أن اجتماع الأسباب ليس المرادُ منه ايجاد المسَّبب. وانما هو لإتخاذ وضعٍ ملائمٍ ومُرضٍ لله سبحانه لِطَلَب المسَّبب منه بلسان الحال. حتى إن الحراثةَ بمنزلةِ طَرْقِ بابِ خزينةِ الرحمةِ الإلهية. ونظراً لكون هذا النوع من الدعاء الفعلي موجّهٌ نحو اسم (الجواد) المطلق والى عنوانه فهو مقبولٌ لا يُردُّ في أكثر الأحيان.

أما القسم الثاني: فهو الدعاءُ باللسان والقلب. أي طلبُ الحصولِ على المطالب غير القابلة للتحقيق والحاجات التي لا تصلُ اليها اليدُ. فأهمُّ جهةٍ لهذا الدعاء وألطفُ غاياته وألذُّ ثمراته هو أن الداعي يدرك ان هناك مَن يسمع خواطر قلبه، وتصل يدُه الى كل شئ، ومَن هو القادرُ على تلبية جميع رغباته وآمالِه، ومَن يرحم عجزه ويُواسي فقرَه.

فيا أيها الانسان العاجز الفقير! اياك ان تتخلّى عن مفتاح خزينةِ رحمة واسعة ومصدر قوة متينة، ألا وهو الدعاءُ. فتشبَّث به لترتقيَ الى اعلى عليي الانسانية، واجعل دعاءَ الكائنات جزءاً من دعائك. ومن نفسك عبداً كلياً ووكيلاً عاماً بقولك ] إياكَ نَسْتَعينُ[ وكن أحسنَ تقويمٍ لهذا الكون.

















المبحث الثاني

(وهو عبارة عن خمسِ نكات تدورحول سعادة الانسان وشقاوته)

ان الانسانَ نظراً لكونه مخلوقاً في أحسنِ تقويمٍ وموهوباً بأتمّ استعدادٍ جامع، فانه يتمكن من أن يدخل في ميدان الامتحان هذا الذي اُبتلي به ضمن مقاماتٍ ومراتبَ ودرجاتٍ ودركات مصفوفة ابتداءً من سجين ((أسفل سافلين)) الى رياض ((أعلى عليين)) فيسمو أو يتردى، ويرقى أو يهوي ضمن درجاتٍ من الثرى الى العرش الأعلى، من الذرة الى المجرّة، اذ قد فُسِحَ المجالُ أمامَه للسلوك في نجدين لا نهاية لهما للصعود والهبوط. وهكذا اُرسل هذا الانسانُ معجزةَ قدرةٍ، ونتيجةَ خلقةٍ، وأعجوبةَ صنعةٍ.

وسنبين هنا اسرار هذا الترقي والعروج الرائع، أو التدنّي والسقوط المرعب في ((خمسِ نكات)).

C النكتة الأولى

ان الانسانَ محتاجٌ الى اكثر انواع الكائنات وهو ذو علاقة صميمية معها. فلقد انتشرت حاجاتُه في كل طرف من العالم، وامتدت رغباتُه وآمالُه الى حيث الأبد، فمثلـما يطلب أقحـوانةً، يطلب أيضاً ربيعاً زاهياً فسيحاً، ومثلما يرغب في مَرجٍ مبهج يرغب أيضاً في الجنة الأبدية، ومثلما يتلهّف لرؤية محبوبٍ له يشتاق ايضاً ويتوق الى رؤية الجميل ذي الجلال في الجنة، ومثلما أنه محتاجٌ الى فتح باب غرفة لرؤية صديق حميم قابعٍ فيها، فهو محتاجٌ أيضاً الى زيارة عالمِ البرزخ الذي يقبعُ فيه تسـع وتسعون بالمائة من أحبابه وأقرانه. كما هـو محتاج الى اللواذ بباب القدير المطـلـق الـذي سيغـلق بابَ الكـون الأوسـع ويفتـح بابَ الآخـرة الزاخـرة والمحــشـورة بالعجـائب، والذي سيرفع الدنيا ليضـع مكانَها الآخرةَ انقاذاً لهذا الانسان المسكينِ من ألمِ الفراق الأبدي.

لذا فلا معبود لهذا الانسان وهذا وضعُه، الاّ مَن بيده مقاليدُ الأمور كلها، ومَن عنده خزائنُ كل شئ. وهو الرقيبُ على كل شئ، وحاضرٌ في كل مكان، ومنزّهٌ من كل مكان، ومبرّأٌ من العجز، ومقدَّسٌ من القصور، ومتـعـالٍ عن النقـص، وهو القادر ذو الجلال، وهو الرحيم ذو الجمال، وهـو الحكيـــم ذو الكــمــال. ذلك لأنه لايستطيع أحدٌ تلبـية حاجات انــسانٍ بآمــالٍ ومطــامــحَ غــير محــدودة الاّ مَن له قـُـدرة لا نهاية لها وعلم محيط شامل لا حدود له إذ لا يستحق العبادة الاّ هو.

فيا أيها الانسان! اذا آمنتَ بالله وحدَه وأصبحتَ عبداً له وحدَه، فُزتَ بموقعٍ مرموقٍ فوق جميع المخلوقات. أما اذا استنكفتَ من العبودية وتجاهلتَها فسوف تكون عبداً ذليلاً أمام المخلوقات العاجزة، واذا ما تباهيتَ بقدرتك وأنانيتك، وتخلّيتَ عن الدعاء والتوكل، وتكبرّتَ وزِغتَ عن طريق الحق والصواب، فستكون أضعفَ من النملة والنحلة من جهة الخير والايجاد، بل أضعف من الذبابة والعنكبوت. وستكون أثقلَ من الجبل وأضرّ من الطاعون من جهة الشر والتخريب.

نعم، ايها الانسانُ! اِنّ فيك جهتين:

الاولى: جهةُ الايجاد والوجودِ والخير والايجابية والفعل.

والاخرى: جهةُ التخريب والعدم والشر والسلبية والانفعال.

فعلى اعتبار الجهة الاولى (جهة الايجاد) فانك أقلُّ شأناً من النحلة والعصفور وأضعفُ من الذبابة والعنكبوت. أما على اعتبار الجهة الثانية (جهة التخريب) فباستطاعتك ان تتجاوز الأرضَ والجبال والسموات، وبوسعِكَ ان تحمل على عاتقك ما أشفقن منه فتكسبَ دائرةً أوسعَ ومجالاً أفسح؛ لأنك عندما تقوم بالخير والايجاد فانك تعمل على سعةِ طاقتك وبقدر جهدك وبمدى قوتك، أما اذا قمتَ بالإساءةِ والتخريب، فإن اساءتكَ تتجاوز وتستشري، وان تخريبَك يعم وينتشر.

فمثلاً: الكفرُ إساءةٌ وتخريبٌ وتكذيبٌ، ولكن هذه السيئةَ الواحدة تُفضي الى تحقير جميع الكائنات وازدرائها واستهجانها، وتتضمن أيضاً تزييف جميع الاسماء الإلهية الحسنى وإنكارها. وتتمخّض كذلك عن إهانة الانسانية وترذيلها؛ ذلك لأن لهذه الموجودات مقاماً عالياً رفيعاً، ووظيفةً ذات مغزى، حيث انها مكاتيب ربانية، ومرايا سبحانية، وموظفات مأمورات إلهية. فالكفر فضـلاً عن إسقاطهِ تلك الموجودات من مرتبة التوظيف ومنزلة التسخير ومهمة العبودية، فانه كذلك يُرديها الى درك العَبَث والمصادفة ولا يرى لها قيمةً ووزناً بما يعتريها من زوالٍ وفراق يبدّلان ويفسّخان بتخريبهما وأضرارهما الموجودات الى مواد فــانيـة تافهة عـقيــمة لا أهمية لها ولا جدوى منها. وهو في الوقت نفسه يُنكر الأسماء الإلهية ويتجاهلها، تلك الاسماء التي تتراءى نقــوشُها وتجــليـــاتُها وجـمالاتُها في مــرايا جميــع الكائــنات، حتى إن ما يُطلق عليه: (الانسانية) التي هي قصيدة حكيمةٌٍ منظومةٌ تعلن اعلاناً لطيفاً جميع تجليات الأسماء الإلهية القدسية، وهي معجزةُ قدرةٍ باهرة جامعةٍ كالنواة لأجهزة شجرةٍ دائمةٍ باقية. هذه (الانسانية) يقذفُها الكفرُ من صورتها الحيّة التي تفوّقت بها على الارض والجبال والسماوات بما أخذتْ على عاتقها من الأمانة الكبري وفُضّلت على الملائكة وترجّحت عليها حتى أصبحت صاحبةَ مرتبةِ خلافة الأرض - يقذفها من هذه القمة السامية العالية الى دَركات هي أذلُّ وأدنى من أي مخلوقٍ ذليل فانٍ عاجزٍ ضعيف فقير، بل يُرديها الى دركة أتفهِ الصور القبيحة الزائلة سريعاً.

وخلاصة القول: ان النفس الأمارة بإمكانها اقتراف جنايةٍ لا نهاية لها في جهة الشر والتخريب، أما في الخير والايجاد فان طاقتها محدودة وجزئية؛ اذ الانسان يستطيع هدمَ بيتٍ في يوم واحد الاّ أنه لا يستطيع أن يشيّده في مائة يوم. أما إذا تخلى الانسانُ عن الانانية، وطلب الخير والوجود من التوفيق الإلهي وأرجَعَ الامرَ اليه، وابتعد عن الشر والتخريب، وترك اتباعَ هوى النفس. فاكتمل عبداً لله تعالى تائباً مستغفراً، ذاكراً له سبحانه. فسيكون مَظهراً للآية الكريمة: ] يُبدّلُ الله سَيّئاتِهم حَسَنات[ (الفرقان: 70) فتنقلب القابلية العظمى عندَه للشر الى قابلية عظمى للخير. ويكتسب قيمة (أحسن تقويم) فيحلق عالياً الى أعلى عليين.

أيها الانسان الغافل! انظر الى فضل الحق تبارك وتعالى وكرمِه، ففي الوقت الذي تقتضي العدالةُ أن يكتب السيئةَ مائة سيئةٍ ويكتب الحسنةَ حسنةً واحدة او لا يكتبها حيث أن خيرها ومصلحتها يعودان على الانسان فهو جلّت قدرته يكتب السيئة سيئةً واحدةً والحسنةَ يزنها بَعشر أمثالها أو بسبعين أو بسبعمائة أو بسبعة آلاف أمثالها.

فأفهم من هذه النكتة ان الدخول في جهنم هو جزاء عمل وهو عين العدالة، وأما دخول الجنة فهو فضل إلهي محض ومَكرمةٌ خالصة، ومرحمة بحتة.

C النكتة الثانية

في الانسان وجهان:

الاول: جهة الانانية المقصورة على الحياة الدنيا.

والآخر: جهةُ العبودية الممتدة الى الحياة الأبدية.

فهو على اعتبار الوجه الاول مخلوقٌ مسكينٌ. إذ رأسماله من الارادة الجزئية جزءٌ ضيئل كالشعرة، وله من الاقتدار كسبٌ ضعيف، وله من الحياة شعلةٌ لا تلبث أن تنطفئ، وله من العمر فترةٌ عابرة خاطفة، وله من الوجود جسمٌ يبلى بسرعة. ومع هذا فالانسان فردٌ لطيف رقيق ضعيف من بين الأفراد غير المحدودة والأنواع غير المعدودة المتراصة في طبقات الكائنات.

أما على اعتبار الوجه الثاني وخاصة من حيث العجز والضعف المتوجهين الى العبودية، فهو يتمتع بفسحة واسعة، وأهمية عظيمة جداً؛ لأن الفاطرَ الحكيم قد أودع في ماهيته المعنوية عجزاً عظيماً لا نهاية له، وفقراً جسيماً لا حد له، وذلك ليكون مرآةً واسعة جامعة جداً للتجليات غير المحدودة (للقدير الرحيم) الذي لا نهاية لقدرته ورحمته و (للغني الكريم) الذي لا منتهى لغناه وكرمه.

نعم، ان الانسان يشبه البذرة، فلقد وُهبت للبذرة اجهزةٌ معنوية من لدن (القُدرة) واُدرجت فيها خطةٌ دقيقة ومهمة جداً من لدن (القَدَر) لتتمكن من العمل داخل التربة، ومن النمو والترعرعِ والانتقالِ من ذلك العالم المظلم الضيق الى عالم الهواء الطليق والدنيا الفسيحة، وأخيراً التوسل والتضرع لخالقها بلسان الاستعداد والقابليات لكي تصير شجرةً، والوصولِ الى الكمال اللائق بها. فاذا قامت هذه البذرةُ بجلب المواد المضرة بها، وصرفِ أجهزتها المعنوية التي وُهبت لها الى تلك المواد التي لا تعنيها بشئ وذلك لسوء مزاجها وفساد ذوقها، فلاشك ان العاقبةَ تكون وخيمةً جداً؛ اذ لا تلبث أن تتعفن دون فائدة، وتبلى في ذلك المكان الضيق. أما اذا اخضَعتْ أجهزتَها المعنوية لتتمثل أمر ] فالق الحبِّ والنَّوى[ (الانعام:95) التكويني واحسنتْ استعمالَها، فانها ستنبثق من عالمها الضيق لتكتملَ شجرةً مثمرةً باسقة، ولتأخذ حقيقتُها الجزئية، وروحُها المعنوية الصغيرة صورتَها الحقيقية الكلية الكبيرة.

فكما ان البذرة هكذا فالانسانُ كذلك. فقد اُودعتْ في ماهيته اجهزةٌ مهمةٌ من لدن القدرة الإلهية، ومُنحَ برامجَ دقيقة وثمينة من لدن القَدَر الإلهي. فاذا أخطأ هذا الانسانُ التقديرَ والاختيار، وصَرَف اجهزتَه المعنوية تحت ثرى الحياة الدنيا وفي عالم الارض الضيق المحدود، الى هوى النفس، فسوف يتعفّنُ ويتفسّخ كتلك البذرة المتعفنة، لأجل لذةٍ جزئيةٍ ضمن عمرٍ قصيرٍ وفي مكانٍ محصور وفي وضع متأزم مؤلم، وستتحمل روحُه المسكينة تبعات المسؤولية المعنوية فيرحلُ من الدنيا خائباً خاسراً.

أما اذا ربّى الانسانُ بذرةَ استعداده وسقاها بماءِ الأسلام، وغذّاها بضياءِ الايمان تحت تراب العبودية موجهاً أجهزتَها المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية. فلابد أنها ستنشقّ عن أوراقٍ وبراعم واغصانٍ تمتدّ فروعُها وتتفتّح أزاهيرُها في عالم البرزخ وتولّد في عالم الآخرة وفي الجنة نِعَماً وكمالاتٍ لا حد لها. فيصبح الانسان بذرةً قيّمةً حاوية على أجهزة جامعة لحقيقة دائمة ولشجرة باقية، ويغدو آلةً نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرةً مباركة منورة لشجرة الكون.

نعم ان السموَّ والرقي الحقيقي انما هو بتوجيه القلب، والسرِ، والروح، والعقل، وحتى الخيال وسائر القوى الممنوحة للانسان، الى الحياة الأبدية الباقية، وأشتغال كلٍّ منها بما يخصّها ويناسبها من وظائف العبودية. أما ما يتوهمه أهلُ الضلالة من الانغماس في تفاهات الحياة والتلذّذِ بملذاتها الهابطة والإنكباب على جزئيات لذاتها الفانية دون الالتفات الى جمال الكليات ولذائذها الباقية الخالدة مسخّرين القلب والعقل وسائر اللطائف الانسانية تحت إمرةِ النفس الأمارة بالسوء وتسييرها جميعاً لخدمتها، فان هذا لا يعني رقياً قط، بل هو سقوطٌ وهبوط وانحطاط.

ولقد رأيت هذه الحقيقة في واقعة خيالية سأوضحها بهذا المثال:

دخلتُ في مدينة عظيمة، وجدت فيها قصوراً فخمة ودُوراً ضخمة، كانت تُقام أمام القصور والدور حفلات ومهرجانات وأفراح تجلب الانظار كأنها مسارحُ وملاهٍ، فلها جاذبية وبهرجة. ثم امعنت النظر فاذا صاحبُ قصر واقفٌ أمام الباب وهو يداعب كلبه ويلاعبه. والنساء يرقصن مع الشباب الغرباء، وكانت الفتيات اليافعات ينظّمن العابَ الأطفال. وبوّاب القصر قد اتخذ طورَ المشرف يقودُ هذا الحشد. فأدركت ان هذا القصر خالٍ من أهله وأنه قد عُطلّت فيه الوظائف والواجبات. فهؤلاء السارحون من ذويه السادرون في غيّهم قد سقطت أخلاقُهم وماتت ضمائرهم وفرغت عقولُهم وقلوبُهم فأصبحوا كالبهــائم يهـيمون علـى وجوههم ويلعبون أمام القصر. ثم مشــيتُ قــلــيلاً فـفاجأني قصرٌ آخر. رأيت كلباً نائماً امام بابه. ومعه بوّاب شهمٌ وقور هادئ، وليس امام القصر ما يثير الانتباه، فتعجبت من هذا الهدوء والســكـيــنــة واستغـربت! واستفـــسرتُ عن الســـبــب، فــدخلت القصرَ فوجدته عامراً بأهله، فهناك الوظائف المتباينة والواجبات المهمة الدقيقة ينجزها أهلُ القصر، كلٌّ في طابقه المخصص له في جوّ من البهاء والهناء والصفاء بحيث يبعث في الفؤاد الفرحة والبهجة والسعادة. ففي الطابق الأول هناك رجالٌ يقومون بإدارة القصر وتدبير شؤونه، وفي طابقٍ أعلى هناك البناتُ والاولاد يتعلمون ويتدارسون. وفي الطابق الثالث السيداتُ يقمن بأعمال الخياطة والتطريز ونسج الزخارف الملونة والنقوش الجميلة على انواع الملابس، أما الطابق الأخير فهناك صاحبُ القصر يتصل هاتفياً بالملكِ لتأمين الراحةِ والسلامةِ والحياة الحرّة العزيزة المرضية لأهل القصر، كلٌّ يمارس اعماله حسب اختصاصه وينجز وظائفه اللائقة بمكانته الملائمة بكماله ومنزلته. ونظراً لكوني محجوباً عنهم فلم يمنعني أحدٌ من التجوّل في انحاء القصر؛ لذا استطلعت الأمور بحرّية تامة. ثم غادرتُ القصر وتجولت في المدينة فرأيتُ انها منقسمةٌ الى هذين النوعين من القصور والبنايات، فسألت عن سبب ذلك ايضاً فقيل لي: "ان النوع الاول من القصور الخاليةِ من أهلها والمبهرجِ خارجُها والمزينةِ سطوحُها وافنيتُها ما هي الاّ مأوى ائمة الكفر والضلالة. أما النوع الثاني من القصور فهي مساكن أكابر المؤمنين من ذوي الغيرة والشهامة والنخوة". ثم رأيت أن قصراً في زاوية من زوايا المدينة مكتوبٌ عليه اسم (سعيد) فتعجبت، وعندما أمعنت النظر أبصرت كأن صورتي قد تراءت لي، فصرختُ من دهشتي واسترجعت عقلي وافقتُ من خيالي.

واريد أن أفسر بتوفيق الله هذه الواقعة الخيالية:

فتلك المدينة هي الحياة الاجتماعية البشرية ومدنية الحضارة الانسانية، وكل قصر من تلك القصور عبارة عن انسان، أما أهلُ القصر فهم جوارحُ الانسان كالعين والاذن، ولطائفُه كالقلب والسر والروح، ونوازعُه كالهوى والقوة الشهوانية والغضبية. وكلُّ لطيفةٍ من تلك اللطائف معدّةٌ لأداءِ وظيفةِ عبوديةٍ معينة ولها لذائذُها وآلامُها، أما النفس والهوى والقوة الشهوانية والغضبية فهي بحكم البوّاب وبمثابة الكلب الحارس. فإخضاع تلك اللطائف السامية اذن لأوامر النفس والهوى وطمس وظائفها الاصلية لا شك يعتبر سقوطاً وانحطاطاً وليس ترقياً وصعوداً.. وقس أنت سائر الجهات عليها.

C النكتة الثالثة

ان الانسان من جهة الفعل والعمل وعلى اساس السعي المادي حيوانٌ ضعيفٌ ومخلوق عاجز، دائرة تصرفاته وتملكه في هذه الجهة محدودةٌ وضيقةٌ، فهي على مدّ يده القصيرة، حتى ان الحيوانات الأليفة التي أعطي زمامُها بيد الانسان قد تسرّبتْ اليها من ضعف الانسان وعجزِه وكَسَله حصة كبيرة. فاذا ما قيس مثلاً الغنم والبقر الأهلي بالغنم والبقر الوحشي لظَهر فرقٌ هائلٌ وبونٌ شاسعٌ.

الاّ ان الانسان من جهة الانفعال والقبول والدعاء والسؤال ضيفٌ عزيزٌ كريمٌ في دار ضيافة الدنيا، قد استضافه المولى الكريمُ ضيافةً كريمةً حتى فتح له خزائن رحمته الواسعة وسخرّ له خَدَمه ومصنوعاته البديعة غير المحدودة، وهيأ لتنزهه واستجمامه ومنافعه دائرةً عظيمة واسعة جداً، نصفُ قطرها مدُّ البصر بل مدُّ انبساط الخيال.

فإذا استند الانسان الى أنانيته وغروره واتخذ الحياة الدنيا غاية آماله، وكان جهدُه وكدُّه لأجل الحصول على لذاتٍ عاجلةٍ في سعيه وراء معيشته. فسوف يغرق في دائرة ضيقة ويذهب سعيه ادراجَ الرياح، وستشهد عليه يوم الحشر جميعُ الاجهزة والجوارح واللطائف التي اُودعت فيه شاكيةً ضده، ساخطةً ثائرة عليه. أما إذا أدرك انه ضيفٌ عزيز، وتحرك ضمن دائرة مرضاة مَنْ نَزَل عليه ضيفاً وهو الكريمُ ذو الجلال، وصرَفَ رأسمال عمره ضمن الدائرة المشروعة فسوف يكون نشاطه وعمله ضمن دائرة فسيحة رحبة جداً تمتد الى الحياة الأبدية الخالدة، وسيعيش سالماً آمناً مطمئناً، ويتنفس تنفس الصعداء ويستروح، وبإمكانِهِ الصعودُ والرقي الى أعلى عليين. وستشهد له في الآخرة ما منحه الله من الاجهزة والجوارح واللطائف.

نعم، ان الاجهزة التي زُرعت في الانسان ليست لهذه الحياة الدنيا التافهة، وانما اُنعم عليه بها لحياةٍ باقية دائمة، لها شأنها وأيُّ شأن. ذلك لأننا إذا قارنّا بين الانسان والحيوان نرى ان الانسان أغنى من الحيوان بكثير من حيث الأجهزة والآلات، بمائة مرة، ولكنه من حيث لذّتِه وتمتّعه بالحياة الدنيا أفقرُ منه بمائة درجة، لأن الانسان يجد في كل لذةٍ يلتذّ بها ويتذوقها آثارَ آلاف من الآلامِ والمنغّصات. فهناك آلامُ الماضي، وغصصُ الزمن الخالي، ومخاوفُ المستقبل، وأوهامُ الزمان الآتي، وهناك الآلامُ الناتجة من زوال اللذات. كلُّ ذلك يُفسد عليه مزاجَه وأذواقَه ويكدِّر عليه صفوَه ونشوتَه، حيث تترك كلُّ لذةٍ أثراً للألم. بينما الحيوانُ ليس كذلك، فهو يتلذّذُ دون ألمٍ، ويتذوق الاشياء صافيةً دون تكدِّرٍ وتعكر، فلا تعذّبه آلامُ الماضي ولا ترهبهُ مخاوفُ المستقبل، فيعيش مرتاحاً ويغفو هانئاً شاكراً خالقَه،حامداً له.

اذن فالانسان الذي خُلق في (أحسن تقويم) إذا حَصَر فكرَه في الحياة الدنيا وحدَها فسيهبط ويتَّضع ويصبح أقل شأناً بمائة درجة من حيوان كالعصفور وان كان أسمى وأتم من الحيوان من حيث رأسماله بمائة درجة. ولقد وضّحتُ هذه الحقيقة بمَثَلٍ أوردتُه في موضع آخر وسأعيدُه هنا بالمناسبة:

ان رجلاً منح خادَمه عشرَ ليراتٍ ذهبية وأمره أن يفصّل لنفسه بدلةً من أجود أنواع الأقمشة. وأعطى لخادمه الآخر ألفَ ليرة ذهبية الاّ انه أرفق بالمبلغ قائمة صغيرة فيها ما يطلبُه منه، ووضع المبلغَ والقائمةَ في جيب الخادم. وبعثهما الى السوق. اشترى الخادم الأول بدلةً أنيقة كاملة من أفخر الأقمشة البديعة بعشر ليرات. أما الخادمُ الثاني فقد قلّد الخادم الأول وحذا حذوه، ومن حماقته وسخافة عقله لم يراجع القائمة الموجودة لديه، فدفع لصاحب محلٍ كلَّ ما عنده ألفَ ليرة. وطلب منه بدلةً رجاليةً كاملة، ولكن البائع غيرَ المُنصف اختار له بدلةً من أردأ الأنواع، وعندما قفل هذا الخادمُ الشقيُ راجعاً الى سيّده، ووقف بين يديه، عنَّفه سيدُه أشدَّ التعنيف وأنّبه أقسى التأنيب وعذَّبه عذاباً أليماً.

فالذي يملك أدنى شعورٍ وأقلَّ فطنةٍ يدرك مباشرةً بأن الخادم الثاني الذي مُنح ألف ليرة لم يُرسَل الى السوق لشراء بدلة، وانما للأتّجار في تجارة مهمة جداً.

فكذلك الانسان الذي وُهب له هذه الاجهزةُ المعنوية واللطائف الانسانية التي إذا ما قيست كلُّ واحدةٍ منها بما في الحيوان لظهرتْ انها أكثرُ انبساطاً واكثرُ مدى بمائة مرّة. فمثلاً: أين عينُ الانسان التي تميّز جميعَ مراتب الحسن والجمال؟ وأين حاستُه الذوقية التي تميّز بين مختلف المطعومات بلذائذها الخاصة؟ وأين عقلُه الذي ينفذ الى قرارة الحقائق والى أدق تفاصيلها؟ وأين قلبُه المشتاق المتلهّف الى جميع انواع الكمال؟ أين كل هذه الأجهزة وأمثالها مما في الآلات الحيوانية البسيطة التي قد لا تنكشف الاّ لحد مرتبتين اوثلاث!! فيما عدا الاعمال الخاصة المناطة بجهاز خاص في حيوان معين، والذي يؤدي عمله بشكل قد يفضل ما عند الانسان الذي ليس من مهمته مثل هذه الاعمال والوظائف.

والسرُّ في وَفْرَةِ الأجهزة التي مُنحت للانسان وغِناها هو: ان حواسَّ الانسان ومشاعره قد اكتسبت قوةً ونماءً وانكشافاً وانبساطاً اكثر؛ لما يملك من الفكر والعقل، فقد تبايَن كثيراً مدى استقطاب حواسه،نظراً لتباين وكثرة احتياجاته. لذا تنوعت أحاسيُسه وتعددت مشاعرُه.. ولأنه يملك فطرةً جامعةً فقد أصبح محوراً لآمالٍ ورغباتٍ عدة ومداراً للتوجّه الى مقاصدَ شتّى.. ونظراً لكثرة وظائفه الفطرية فقد انفرجت اجهزتُه وتوسّعت.. وبسبب فطرته البديعة المهيأة لشتى انواع العبادة فقد مُنح استعداداً جامعاً لبذور الكمال؛ لذا لا يمكن ان تُمنح له هذه الأجهزة الوفيرة الى هذه الدرجة الكثيفة لتحصيل هذه الحياة الدنيوية المؤقتة الفانية فحسب، بل لابد أن الغايةَ القصوى لهذا الانسان هي أن يفي بوظائفه المتطلعة الى مقاصدَ لا نهاية لها، وأن يعلن عجزَه وفقره بجنب الله تعالى بعبوديته، وان يرى بنظره الواسع تسبيحات الموجودات، فيشهد على ذلك ويطّلع على ماتمدّه الرحمة الإلهية من إنعام وآلاء فيشكر الله عليها، وأن يعاين معجزات القدرة الربانية في هذه المصنوعات فيتفكر فيها ويتأمل وينظر اليها نظر العبرة والاعجاب.

فيا عابدَ الدنيا وعاشقَ الحياة الفانية الغافلَ عن سر (أحسَنِ تقويم)! استمع الى هذه الواقعة الخيالية التي تتمثل فيها حقيقةُ حياةِ الدنيا. تلك الواقعة التمثيلية التي رآها (سعيد القديم) فحوّلته الى (سعيد الجديد) وهي:

رأيتُ نفسي كأني أسافر في طريقٍ طويل، أي اُرسَل الى مكانٍ بعيد، وكان سيدي قد خصّص لي مقدارَ ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كلَّ يومٍ شيئاً، حتى دخلتُ الى فندقٍ فيه ملهى فطفقتُ أبذّر ما أملك - وهي عشرُ ليرات - في ليلةٍ واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والاعجاب. فاصبحتُ وأنا صفر اليدين لم أتجّر بشئ، ولم آخذ شيئاً مما سأحتاج اليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى الآلام والخطايا التي ترسبتْ من لذات غير مشروعة، وسوى الجروح والغصّات والآهات التي ترشحت من تلك السفاهات والسفالات.. وبينما أنا في هذه الحالة الكئيبة الحزينة البائسة اذ تمثّل أمامي رجلٌ. فقال:

(أنفقَت جميع رأسمالك سدىً، وصرتَ مستحقاً للعقاب، وستذهب الى البلد الذي تريدُه خاويَ اليدين. فان كنتَ فطناً وذا بصيرة فبابُ التوبة مفتوحٌ لم يغلق بعدُ. فبإمكــانــك ان تدّخر نصـــف ما تحــصـل علــيه، مما بقي لك من الـلــيرات الخمس عشرة لتشتري بعضاً مما تحتاج اليه في ذلك المكان..) فاستشرتُ نفسي فاذا هي غير راضية بذلك، فقال الرجل:

- ((فادّخر اذن ثُلُثَه)). ولكن وجدتُ نفسي غير راضية بهذا ايضاً. فقال:

- ((فادّخر ربُعَهَ)). فرأيتُ نفسي لا تريد أن تَدَع العادةَ التي اُبتلَيت بها. فأدار الرجلُ رأسه وأدبر في حدّةٍ وغيظٍ ومضى في طريقه. ثم رأيتُ كأن الأمور قد تغيّرت. فرأيت نفسي في قطار ينطلق منحدراً بسرعة فائقة في داخل نفق تحت الارض، فاضطربت من دهشتي، ولكن لا مناص لي حيث لا يمكنني الذهابُ يميناً ولا شمالاً. ومن الغريب أنه كانت تبدو على طرفَي القطار أزهارٌ جميلة جذابة وثمارٌ لذيذة متنوعة فمددتُ يدي - كالاغبياء - نحوَها اُحاول قطفَ أزهارها واحصل على ثمراتها، الاّ انها كانت بعيدةَ المنال، الأشواكُ فيها انغرزتْ في يدي بمجرد ملامستها فأدْمَتها وجرحَتها والقطارُ كان ماضياً بسرعة فائقة فآذيتُ نفسي من دون فائدة تعود عليّ. فقال أحد موظفي القطار: ((اعطني خمسة قروش لأنتقيَ لك الكميةَ المناسبة التي تريدُها من تلك الأزهار والأثمار، فانك تخسر بجروحك هذه اضعافَ اضعافِ ما تحصل عليه بخمسة قروش فضلاً عن ان هناك عقاباً على صنيعك هذا، حيث أنك تقطفها من غير إذن.)) فاشتدّ عليّ الكربُ في تلك الحالة فنظرت اتطلّع من النافذة الى الامام لأتعرّف نهايةَ النفق، فرأيت أن هناك نوافذَ كثيرةً وثغوراً عدة قد أحلّت محلَّ نهاية النفق وأن مسافري القطار يُقذَفون خارجاً من القطار الى تلك الثغور والحفر، ورأيت أن ثغراً يقابلني أنا بالذات اُقيمَ على طرفيه حجرٌ اشبهُ ما يكونُ بشواهدِ القبر، فنظرت اليها بكل دقة وامعان فرأيتُ أنه قد كُتب عليهما بحروفٍ كبيرة اسم ((سعيد)) فصرختُ من فرقي وحيرتي: يا ويلاه!! وآنذاك سمعتُ صوت ذلك الرجل الذي أطال عليّ النصح في باب الملهى وهو يقول:

((هل استرجعتَ عقلك يا بني وأفقتَ من سكرتك؟)) فقلت:

((نعم ولكن بعد فوات الاوان، بعد أن خارتْ قواي ولم يبقَ لي حولٌ ولا قوة)).

فقال:

- ((تُب وتوكّل)) فقلت:

- ((قد فعلت)).

ثم أفقتُ وقد أختفى سعيدٌ القديم ورأيتُ نفسي سعيداً جديداً.

ونرجو من الله أن يجعل هذه الواقعة الخيالية خيراً. وسأفسر قسماً منها وعليك تفسير الباقي وهو:

ان ذلك السفر هو السفرُ الذي يمرُّ من عالَم الأرواح، ومن أطوار عالم الرَّحم، ومن الشباب، ومن الشيخوخة، ومن القبر، ومن البرزخ، الى الحشر والى الصراط والى أبد الآباد.

وتلك الليرات الذهبية البالغة ستين هي العمر البالغ ستين عاماً. وحينما رأيت تلك الواقعة الخيالية كنت في الخامسة والأربعين من العمر حسب ظني، ولم يكن لي سندٌ ولا حجةٌ من أن أعيش الى الستين من العمر، إلاّ أنه أرشدني أحدُ تلاميذ القرآن المخلصين أن اُنفق نصفَ ما بقي من العمر الغالب - وهو خمسة عشر عاماً - في سبيل الآخرة.

وذلك الفندق هو مدينةُ استانبول بالنسبة اليّ.

وذلك القطار هو الزمن، وكلُّ عامٍ بمنزلة عربة منه.. وذلك النفقُ هو الحياة الدنيا.. وتلك الأزهارُ والثمار الشائكة هي اللذات غير المشروعة واللهو المحظور حيث أن الألمَ الناشئ من تصوّر زوالها يُدمي القلبَ ويَجرح النفسَ فيقاسي الانسان من توقّع فراقِها مرارةَ العذاب. وان معنى ما قاله الخادم في القطار: ((اعطني خمسة قروش اعطك من أحسن ما تحتاجه)) هو: ان اللذات والأذواقَ التي يحصل عليها الانسانُ عن طريق السعي الحلال ضمن الدائرة المشروعة كافيةٌ لسعادته وهنائه وراحته فلا يدع مجالاً للدخول في الحرام.. ويمكنك ان تفسّر ما بقي.

C النكتة الرابعة

ان الانسان في هذا الكون أشبَه ما يكون بالطفل الضعيف المحبوب يحمل في ضعفِه قوةً كبيرةً وفي عجزه قدرةً عظيمة؛ لأنه بقوة ذلك الضعفِ وقدرةِ ذلك العجز سُخِّرت له هــذه الموجــوداتُ وانقــادت. فإذا ما أدرك الانســانُ ضعفَه ودعــا ربَّه قولاً وحالاً وطـوراً، وأدرك عجزَه فاستــنجد واســتغاث ربَّه، وادّى الشــكرَ والثناءَ على ذلك التسخير، فسيوفّق الى مطلوبه وستخضع له مقــاصدُه وتتحــقـق مآربُه وتأتي اليه طائعةً منقادةً مع أنه يعجز عن أن ينال بقدرته الذاتية الجزئية المحدودة بل ولا يتسنّى له عُشر معشار ذلك. الاّ انه يحيل خطأً أحياناً ما ناله بدعاء لسان الحال الى قدرته الذاتية. وعلى سبيل المثال: ان القوة الكامنة في ضعف فرخ الدجاج تجعل أمَّه تدفع عنه الأسدَ بما تملك من قوة. وان القوة الكامنة في ضعف شبل الأسد تسخِّر أمَّه المفترسة الضارية لنفسه، بحيث يبقى الأسدُ يتضوَّرُ من الجوع بينما يشبع هو مع صِغَره وضَعفه. وانه لجدير بالملاحظة؛ القوةُ الهائلةُ في الضعف، بل حريٌّ بالمشاهدة والاعجاب: تجلي الرحمة في ذلك الضعف.

وكما ان الطفل المحبوبَ الرقيقَ يحصل بضعفه على شفقة الآخرين، وببكائه على مطالبه، فيَخضع له الأقوياءُ والسلاطين فينال ما لا يمكنه أن ينال واحداً من الألف منه بقوته الضئيلة. فضعفُه وعجزُه اذن هما اللذان يحرّكان ويثيران الشفقة والحماية بحقه حتى إنه يذلّل بسبابته الصغيرة الكبارَ وينقاد اليه الملوكُ والأمراءُ. فلو أنكر ذلك الطفلُ تلك الشفقةَ واتّهم تلك الحمايةَ وقال بحماقة وغرور: ((أنا الذي سخرتُ كل هؤلاء الأقوياء بقوتي وارادتي))! فلاشك انه يستحق أن يقابَلَ باللطمة والصفعة. وكذلك الانسانُ اذا أنكر رحمةَ خالقه وأتهم حكمتَه وقال مثل ما قال قارون جاحداً النعمة. ] إنّما اُوتيتُهُ على عِلمٍ عندي[ (القصص: 78) فلاشك انه يعرِّض نفسَه للعذاب. فهذه المنزلة والسلطنة التي يتمتع بها الانسانُ اذن وهذه الترقيات البشرية والآفاق الحضارية ليست ناشئة من تفّوقه وقوةِ جدالِه وهيمنةِ غلبتِه ولا هو بجالب لها، بل مُنحت للانسان لضَعفه ومُدّت له يدُ المعاونة لعجزه، واُحسنتُ اليه لفقره، واُكرم بها لإحتياجه. وأن سبب تلك السلطنةِ ليس بما يملك من قوةٍ ولا بما يقدِرُ عليه من علمٍ بل هو الشفقةُ الربانيةُ ورأفتُها والرحمةُ الإلهية وحكمتُها التي سَخَّرت له الأشياءَ وسلَّمتْها اليه. نعم ان الانسان المغلوبَ أمام عقرب بلا عيون وحية بلا ارجل ليست قدرتُه هي التي ألبَستْه الحريرَ من دودة صغيرة واطعمته العسلَ من حشرة سامة، وانما ذلك ثمرةُ ضعفه الناتجة من التسخير الرباني والإكرام الرحماني.

فيا أيها الانسان! ما دامت الحقيقة هكذا فدع عنك الغرورَ والأنانية، وأعلن أمامَ عتبة باب الألوهية عجزَك وضعفَك، اعلنهما بلسان الإستمداد، وأفصِح عن فقرك وحاجتك بلسان التضرع والدعاء، وأظهِر بانك عبدٌ لله خالص قائلاً:

((حَسْبُنا الله ونِعَم الوكيلُ)) فارتفعْ وارتقِ في مدارج العلا.

ولا تقل: ((أنا لست بشئ وما أهميتي حتى يُسخرَّ لي هذا الكون من لدن الحكيم العليم عن قصد وعناية وحتى يطلب مني الشكر الكلي)).

ذلك وان كنتَ بحسب نفسِك وصورتِك الظاهرية في حكم المعدم، إلاّ انك بحسب وظيفتك ومنزلتك مُشاهدٌ فَطِنٌ، ومتفرجٌ ذكي على الكائنات العظيمة. وانك اللسانُ الناطق البليغ ينطق باسم هذه الموجودات الحكيمة.. وانك القارئ الداهي والمطالعُ النبيه لكتاب العالم هذا.. وانك المشرف المتفكر في هذه المخلوقات المسبّحة.. وانك بحكم الاستاذ الخبير والمعمار الكريم لهذه المصنوعات العابدة الساجدة.

نعم ايها الانسان! انك من جهة جسمِك النباتي ونفسِك الحيوانية جزءٌ صغير وجزئيٌ حقيرٌ ومخلوقٌ فقير وحيوانٌ ضعيف تخوض في الأمواج الهادرة لهذه الموجودات المتزاحمة المدهشة. إلاّ أنك من حيث انسانيتك المتكاملة بالتربية الاسلامية المنوَّرة بنور الايمان المتضمن لضياء المحبة الإلهية سلطانٌ في هذه العبدية.. وانك كليٌ في جزئيتك.. وانك عالمٌ واسع في صغرك.. ولك المقامُ السامي مع حقارتك فانت المشرفُ ذو البصيرة النيرّة على هذه الدائرة الفسيحة المنظورة، حتى يمكنك القول: ((ان ربيَ الرحيمَ قد جعلَ لي الدنيا مأوىً ومسكناً، وجعل لي الشمس والقمر سراجاً ونوراً، وجعل لي الربيعَ باقةَ وردٍ زاهية، وجعلَ لي الصيفَ مائدةَ نعمةٍ، وجعل لي الحيوانَ خادماً ذليلاً، وأخيراً جعل لي النباتَ زينةً واثاثاً وبهجة لداري ومسكني)).

وخلاصة القول:

انك اذا ألقيتَ السمعَ الى النفس والشيطان فستسقط الى أسفل سافلين واذا أصغيتَ الى الحق والقرآن فسترتقي الى أعلى عليين وكنتَ ((أحسن تقويم)) في هذا الكون.

C النكتة الخامسة:

ان الانسان اُرسل الى الدنيا ضيفاً وموظفاً ووُهبتْ له مواهبٌ واستعدادات مهمة جداً، وعلى هذا اسُندت اليه وظائفٌ جليلة. ولكي يقوم الانسانُ باعماله وليكدّ ويسعى لتلك الغايات والوظائف العظيمة فقد رُغِّب ورُهَّب لإنجاز عمله.

سنجمل هنا الوظائف الانسانية وأساسات العبودية التي أوضحناها في موضع آخر، وذلك لفهم وادراك سر ((أحسن تقويم)) فنقول:

ان الانسان بعد مجيئه الى هذا العالم له عبوديةٌ من ناحيتين:

الناحية الاولى: عبوديةٌ وتفكرٌ بصورة غيابية.

الناحية الثانية: عبوديةٌ ومناجاةٌ بصورة مخاطبة حاضرة.

الناحية الاولى هي:

تصديقُه بالطاعة لسلطان الربوبية الظاهر في الكون والنظرُ الى كماله سبحانه ومحاسنه باعجاب وتعظيم.

ثم استنباط العبرة والدروس من بدائع نقوش اسمائه الحسنى القدسية وإعلانها ونشرها واشاعتها.

ثم وزنُ جواهر الاسماء الربانية ودررها - كلُّ واحدٍ منها خزينة معنوية خفية - بميزان الإدراك والتبصّر وتقييمها بانوار التقدير والعظمة والرحمة النابعة من القلب.

ثم التفكر بإعجاب عند مطالعة أوراق الأرض والسماء وصحائف الموجودات التي هي بمثابة كتابات قلم القدرة.

ثم النظرُ باستحسان بالغ الى زينة الموجودات والصنائع الجميلة اللطيفة التي فيها والتحببُ لمعرفة الفاطر ذي الجمال والتلهّفُ الى الصعود الى مقام حضورٍ عند الصانع ذى الكمال ونيل التفاته الرباني.

الناحية الثانية هي:

مقامُ الحضور والخطاب الذي ينفذ من الأثر الى المؤثر، فيرى أن صانعاً جليلاً يريد تعريف نفسه اليه بمعجزات صنعته. فيقابله هو بالايمان والمعرفة.

ثم يرى أن ربّاً رحيماً يريد أن يحبب نفسه اليه بالأثمار الحلوة اللذيذة لرحمته، فيقابله هو بجعل نفسه محبوباً عنده بالمحبة الخالصة والتعبد الخالص لوجهه.

ثم يرى: أن مُنعماً كريماً يغرقه في لذائذ نِعَمِه المادية والمعنوية، فيقابله هو بفعله وحاله وقوله بكل حواسه وأجهزته - ان استطاع - بالشكر والحمد والثناء عليه.

ثم يرى: أن جليلاً جميلاً يُظهر في مرآة هذه الموجودات كبرياءَه وعظمتَه وكمالَه ويُبرز جلالَه وجمالَه فيها بحيث يجلب اليها الأنظار فيقابل هو ذلك كله: بترديد ((الله اكبر.. سبحان الله..)) ويسجد سجودَ مَن لا يمل بكل حيرة واعجاب وبمحبة ذائبة في الفناء.

ثم يرى: ان غنياً مطلقاً يعرض خزائنه وثروتَه الهائلة التي لا تنضب في سخاء مطلق، فيقابله هو بالسؤال والطلب بكمال الافتقار في تعظيم وثناء.

ثم يرى: ان ذلك الفاطرَ الجليل قد جعل الأرض معرضاً عجيباً لعرض جميع الصنائع الغريبة النادرة فيقابل هو ذلك بقوله (ما شاء الله) مستحسناً لها، وبقوله (بارك الله) مقدراً لها، وبقوله (سبحان الله) معجباً بها، وبقوله (الله اكبر) تعظيماً لخالقها.

ثم يرى: أن واحداً يختم على الموجودات كلها ختمَ التوحيد وسكّتَه التي لا تقلد وطغراءَه الخاصة به، وينقش عليها آيات التوحيد، وينصبُ رايةَ التوحيد في آفاق العالم معلناً ربوبيتَه، فيقابله هو بالتصديق والايمان والتوحيد والاذعان والشهادة والعبودية.

فالانسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح انساناً حقاً ويُظهر نفسه أنه في (أحسن تقويم) فيصير بيُمن الايمان وبركته لائقاً للأمانة الكبرى وخليفة أميناً على الأرض.

فيا أيها الانسان الغافلُ المخلوقُ في (أحسَن تقويم) والذي ينحدر أسفلَ سافلين لسوء اختياره ونزقه وطيشه. اسمعني جيداً وانظر الى اللوحتين المكتوبتين في المقام الثاني من (الكلمة السابعة عشرة) حتى ترى أنت ايضاً كيف كنتُ أرى الدنيا مثلَك حلوةً خضرة عندما كنتُ في غفلة الشباب وسُكره. ولكن لما أفقتُ من سكر الشباب وصحوتُ منه بصبحِ المشيب رأيت أن وجهَ الدنيا غير المتوجه الى الآخرة والذي كنتُ اعدُّه جميلاً رأيته وجهاً قبيحاً. وان وجه الدنيا المتوجه الى الآخرة حسن جميل.

فاللوحة الأولى:

تصوّر دنيا أهل الغفلة. فقد رأيتها من دون أن اسكر فيها شبيهة بدنيا اهل الضلالة الذين اَطبقت عليهم حجب الغفلة.



اللوحة الثانية:

تشير الى حقيقة أهل الهداية وذوى القلوب المطمئنة.

فلم ابدل شيئاً من تلكما اللوحتين بل تركتهما كما كانتا من قبل، وهما وان كانتا تشبهان الشعر الاّ انهما ليسا بشعر.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربّ اشرح لي صدري ^ ويسر لي امري ^

واحلل عقدةً من لساني ^ يفقهوا قولي[

اللّهم صلِّ على الذات المحمدية اللطيفة الأحدية شمسِ سماء الأسرار، ومَظهرِ الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطبِ فلكِ الجمال.

اللّهم بسرّه لديك، وبسيره إليكِ، آمِنْ خوفي، واَقِل عَثرتي، واَذهِب حُزني وحرصي، وكُن لي، وخذني إليك مني، وارزقني الفناءَ عني، ولا تجعلني مفتوناً بنفسي محجوباً بحسي، واكشف لي عن كل سرّ مكتوم.

ياحي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم.

وارحمني وارحم رفقائي وارحم اهلَ الايمان والقرآن.

آمين آمين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

] وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[

عبدالرزاق 02-02-2011 02:00 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الرابعة والعشرون

[ هذه الكلمة عبارة عن خمسة اغصان. لاحظ بامعان الغصن الرابع واستمسك بالغصن الخامس واصعد لتقطف ثماره ]

بسم الله الرحمن الرحيم

] الله لا إله الاهو له الاسماء الحسنى[ (طه:8)

نشير الى خمسة اغصان لحقيقة واحدة من الحقائق الكبرى الجليلة لهذه الآية الكريمة.

الغصن الأول

ان للسلطان عناوين مختلفة في دوائر حكومته، واوصافاً متباينة ضمن طبقات رعاياه، واسماءً وعلاماتٍ متنوعة في مراتب سلطنته. فمثلاً: له اسم الحاكم العادل في دوائر العدل، وعنوان السلطان في الدوائر المدنية، بينما له اسم القائد العام في الدوائر العسكرية وعنوان الخليفة في الدوائر الشرعية.. وهكذا له سائر الاسماء والعناوين.. فله في كل دائرة من دوائر دولته مقام وكرسي بمثابة عرش معنوي له؛ وعليه يمكن ان يكون ذلك السلطان الفرد مالكاً لألف اسم واسم في دوائر تلك السلطنة وفي مراتب طبقات الحكومة؛ اي يمكن ان يكون له الف عرش وعرش من العروش المتداخل بعضها في بعض حتى كأن ذلك الحاكم موجود وحاضر في كل دائرة من دوائر دولته.. ويعلم ما يجري فيها بشخصيته المعنوية، وهاتفه الخاص. ويُشاهد ويَشْهَد في كل طبقة من الطبقات بقانونه ونظامه وبممثليه.. ويراقب ويدير من وراء الحجاب كلَّ مرتبة من المراتب بحكمته وبعلمه وبقوته.. فلكل دائرة مركزٌ يخصّها وموقعٌ خاص بها، أحكامُه مختلفة، طبقاتُه متغايرة.

وهكذا فإن رب العالمين وهو سلطان الأزل والابد له ضمن مراتب ربوبيته شؤون وعناوين مختلفة، لكن يتناظر بعضها مـع بعـض.. وله ضمــن دوائــر الوهـيـتــه علامات واسماء متغايرة، لكن يُشاهد بعضها في بعضٍ.. وله ضمن اجراءاته العظيمة تجليات وجلوات متباينة، لكن يشابه بعضها بعضاً.. وله ضمن تصرفات قدرته عناوين متنوعة، لكن يُشعر بعضها ببعض.. وله ضمن تجليات صفاته مظاهر مقدسة متفاوتة، لكن يُظهر بعضُها بعضاً.. وله ضمن تجليات افعاله تصرفات متباينة، لكن تكمّل الواحدة الاخرى.. وله ضمن صنعته ومصنوعاته ربوبية مهيبة متغايرة لكن تلحظ احداها الاخرى.

ومع هذا يتجلى عنوان من عناوين اسمٍ من الاسماء الحسنى، في كل عالمٍ من عوالم الكون وفي كل طائفة من طوائفه. ويكون ذلك الاسم حاكماً مهيمناً في تلك الدائرة، وبقية الاسماء تابعة له هناك، بل مندرجة فيه.

ثم ان ذلك الاسم له تجلٍ خاص وربوبية خاصة في كل طبقات المخلوقات، صغيرة كانت أو كبيرة، قليلة كانت او كثيرة، خاصة كانت أو عامة. بمعنى أن ذلك الاسم وان كان محيطاً بكل شئ وعاماً، الاّ انه متوجه بقصدٍ وبأهمية بالغة الى شئٍ ما، حتى كأن ذلك الاسمَ متوجه فقط وبالذات الى ذلك الشئ، وكأنه خاص بذلك الشئ.

زد على ذلك فان الخالق الجليل قريب الى كل شئ مع ان له سبعين الف حجاب من الـحُجب النورانية. ويمكنك ان تقيس ذلك - مثلاً - من الـحُجب الموجودة في مراتب اسم الخالق، ابتداءً من تجلي اسم الخالق لك - تلك المرتبة الجزئية المتعلقة بالمخلوقية في اسم الخالق - وانتهاء الى المرتبة الكبرى لخالق العالمين جميعاً، ذلك العنوان الاعظم. بمعنى انك تستطيع ان تبلغ نهاية تجليات اسم الخالق وتدخل اليها من باب المخلوقية، بشرط ان تدع الكائنات وراءك، وعندئذٍ تتقرب الى دائرة الصفات.

ولوجود المنافذ في الحجب، والتناظر في الشؤون، والتعاكس في الاسماء، والتداخل في التمثّلات، والتمازج في العناوين، والتشابه في الظهور، والتساند في التصرفات، والتعاضد في الربوبيات، لزم البتة لمن عرفه سبحانه في واحد مما مر من الاسماء والعناوين والربوبية الاّ ينكر سائر الاسماء والعناوين والشؤون، بل يفهم بداهة انه هو هو. وإلاّ يتضرر إن ظل محجوباً عن تجليات الاسماء الاخرى ولم ينتقل من تجلي اسمٍ الى آخر.

فمثلاً: اذا رأى أثر اسمِ الخالق القدير، ولم ير اثر اسم العليم، يسقط في ضلالة الطبيعة، لذا عليه ان يجول بنظره فيما حوله ويرى أن الله هو هو، ويشاهد تجليه في كل شئ. وان تسمع اذنه من كل شئ: ] قل هو الله احد[ وينصت اليه. وان يردد لسانه دائماً: لا إله الاّ الله ويعلن (لآ اِلَه اِلاّ هُو بَرَابَرْ ميزَنَدْ عَالَمْ). وهكذا يشير القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة ] الله لا إله الاّ هو له الاسماء الحسنى[ الى الحقائق التي ذكرناها.

فان كنت تريد ان تشاهد تلك الحقائق الرفيعة عن قرب، فاذهب الى بحرٍ هائج، والى ارضٍ مهتزة بالزلازل، وأسألهما: ما تقولان؟ ستسمع حتماً انهما يناديان: يا جليل.. يا جليل.. يا عزيز.. يا جبار…

ثم اذهب الى الفراخ والصغار من الحيوانات، التي تعيش في البحر أو على الارض، والتي تُربى في منتهى الشفقة والرحمة، وأسألها: ما تقولين؟ لابد أنها تترنم: يا جميل .. يا جميل.. يا رحيم.. يا رحيم(1).

ثم انصت الى السماء كيف تنادي: يا جـليـل ذو الجمال! واعر سمعك الى الارض كــيــف تردد: يــا جمــيـل ذو الـجــلال. وتصــنّت للحـيوانات كيـف تقــول: يا رحمن يا رزاق. واسأل الربيع، فستسمع منـه: يا حـنان يا رحمـن يا رحـيم يا كريم يا لطيف يا عطوف يا مصوّر يا منوّر يـا محـسن يا مزيّن.. وامثالـها من الاسماء الكثيرة.

واسأل انساناً هو حقاً انسان وشاهد كيف يقرأ جميع الاسماء الحسنى، فهي مكتوبةٌ على جبهته، حتى اذا انعمت النظر ستقرؤها انت بنفسك.

وكأن الكون كله موسيقى متناغمة الالحان لذكر عظيم. فامتزاج اصغر نغمة واوطئها مع اعظم نغمة واعلاها ينتج لحناً لطيفاً مهيباً.. وقس على ذلك..

غير ان الانسان مهما كان مظهراً لجميع الاسماء الحسنى الاّ ان تنوع الاسماء الحسنى اصبح سبباً لتنوع الانسان - الى حدٍ ما - كما هو الحال في تنوع الكائنات واختلاف عبادة الملائكة، بل قد نشأت من هذا التنوع شرائع الانبياء المختلفة وطرائق الاولياء المتفاوتة ومشارب الاصفياء المتنوعة.

فمثلاً: ان الغالب في سيدنا عيسى عليه السلام هو تجلي اسم (القدير) مع الاسماء الاخرى، والمهيمن على أهل العشق هو اسم (الودود) والمستحوذ على اهل التفكر هو اسم (الحكيم).

فلو أن رجلاً كان عالماً وضابطاً وكاتبَ عدلٍ ومفتشاً في دوائر الدولة في الوقت نفسه، في كل دائرة من تلك الدوائر علاقةً وارتباطاً ووظيفةً وعملاً، وله ايضاً اجرة ومرتبٌ ومسؤولية فيها، وله كذلك مراتب رقي، فضلاً عن وجود الحسّاد والاعداء الذين يحاولون ان يعيقوا عمله.. فكما ان هذا الرجل وهذا شأنه، يظهر امام السلطان بعناوين كثيرة مختلفة جداً، ويرى السلطان من خلال تلك العناوين المتنوعة، ويسأله العون والمدد بألسنة كثيرة، ويراجعه بعناوين كثيرة ويستعيذ به في صور شتى كثيرة، خلاصاً من شر اعدائه. كذلك الانسان الذي حظي بتجليات اسماء كثيرة، وانيطت به وظائف كثيرة، وابتلي باعداء كثيرين، يذكر كثيراً من اسماء الله في مناجاته واستعاذته، كما أن مدار فخر الانسانية، وهو الانسان الكامل الحقيقي، محمد e يدعو الله ويستعيذ به من النار بألف اسم واسم في دعائه المسمى بالجوشن الكبير.

ومن هذا السر نجد القرآن يأمر بالاستعاذة بثلاثة عناوين، وذلك في سورة الناس ] قل اعوذ برب الناس ^ ملك الناس^ إله الناس^ من شر الوسواس الخناس...[

ويبين في ] بسم الله الرحمن الرحيم[ الاستعانة بثلاثة اسماء من اسمائه الحسنى.



الغصن الثاني

يبين سرين يتضمنان مفاتيح أسرار كثيرة

C السر الأول:

لِمَ يختلف الأولياء كثيراً في مشهوداتهم وكشفياتهم مع أنهم يتفقون في أصول الايمان، اذ تظهر احياناً كشوفهم التي هي في درجة الشهود مخالِفةً للواقع ومجانبة للحق؟

ولماذا يرى - ويبيّن - أصحاب الفكر وارباب النظر الحقيقةَ متناقضةً في أفكارهم رغم اثبات أحقيتها بالبرهان القاطع لدى كل واحد منهم؟ فِلمَ تتلون الحقيقة الواحدة بألوان شتى؟

C السر الثاني:

لماذا ترك الانبياء السابقون عليهم السلام قسماً من أركان الايمان، كالحشر الجسماني، على شئ من الاجمال، ولم يفصّلوه تفصيلاً كاملاً كما هو في القرآن الكريم. حتى ذهب - فيما بعد - قسمٌ من أممهم الى انكار تلك الاركان المجملة؟ ثم لماذا تقدم قسم من الاولياء العارفين الحقيقيين في التوحيد فحسب، حتى بلغوا درجة حق اليقين، مع ان قسماً من أركان الايمان يبدو مجملاً في مشاربهم أو يتراءى نادراً، بل لأجل هذا لم يول متبعوهم فيما بعد تلك الاركان الاهتمام اللازم، بل قد زاغ بعضهم وضل.

فما دام الكمال الحقيقي يُنال بانكشاف أركان الايمان كلها، فلماذا تقدم أهلُ الحقيقة في بعضها بينما تخلّفوا في بعضها الآخر. علما ان الرسول الكريم e وهو امام المرسلين الذي حظى بالمراتب العظمى للاسماء الحسنى كلها، وكذا القرآن الحكيم الذي هو امام جميع الكتب السماوية، قد فصّلا أركان الايمان كلها تفصيلاً واضحاً جلياً وباسلوب جاد ومقصود؟

الجواب: نعم! لأن الكمال الحقيقي الأتم هو هكذا في الحقيقة.

وحكمة هذه الأسرار هي على النحو الآتي:

ان الانسان على الرغم من ان له استعداداً لبلوغ الكمالات كلها ونيل أنوار الاسماء الحسنى جميعها فانه يتحرى الحقيقة من خلال ألوف الحجب والبرازخ، اذ اقتداره جزئي، واختياره جزئي، واستعداداته مختلفة ورغباته متفاوتة.

ولأجل هذا تتوسط الحجب والبرازخ لدى انكشاف الحقيقة، وفي شهود الحق، فبعضهم لا يستطيع المرور من البرزخ. وحيث ان القابليات متفاوتة، فقابلية بعضهم لا تكون منشأ لانكشاف بعض أركان الايمان.

ثم ان ألوان تجليات الاسماء تتنوع، حسب نيل المظاهر، وتصبح متغايرة، فلا يستطيع بعض من حظي بمظهر اسم من الاسماء ان يكون مداراً لتجليه تجلياً كاملاً، فضلاً عن ان تجلي الاسماء تتخذ صوراً مختلفة باعتبار الكلية والجزئية والظلية والأصلية. فيقصر بعض الاستعدادات عن اجتياز الجزئية والخروج من الظل. وقد يغلب اسم من الاسماء - حسب الاستعداد - فينفذُ حكمَُه وحدَه، ويكون مهيمناً في ذلك الاستعداد.

وهكذا، فهذا السر الغامض العميق وهذه الحكمة الواسعة، سنشير اليها ببضع اشارات ضمن تمثيل واسع تمازجه الحقيقة الى حد.

فلنفرض (زهرة) ذات نقوش، و (قطرة) ذات حياة عاشقة للقمر، و(رشحة) ذات صفاء متوجهة نحو الشمس، بحيث ان لكلٍ منها شعوراً، ولكلٍ منها كمالاً، وشوقاً نحو ذلك الكمال.

فهذه الأشياء الثلاثة تشير الىحقائق كثيرة، فضلاً عن اشاراتها الى سلوك النفس والعقل والروح، وهي أمثلة لثلاث طبقات لأهل الحقيقة(1):

أولاها:

أهل الفكر وأهل الولاية وأهل النبوة.. فهذه الأشياء تشير الى هؤلاء.

ثانيتها:

السالكون الى الحقيقة سعياً لبلوغ كمالهم بأجهزة جسمانية.. (أي عن طريق الحواس)

والماضون الى الحقيقة بالمجاهدة بتزكية النفس واعمال العقل..

والسائرون الى الحقيقة بتصفية القلب والايمان والتسليم.. فهذه الأشياء أمثلة لهؤلاء.



ثالثتها:

الذين حصروا السلوك الى الحقيقة باستدلالهم، ولم يدَعوا الانانية والغرور، وأوغلوا في الآثار.

والذين يتحرّون الحقيقة بالعلم والحكمة والمعرفة.

والذين يصلون الى الحقيقة سريعاً بالايمان والقرآن والفقر والعبودية.

فالاشياء الثلاثة تمثيلات تشير الى حكمة الاختلاف في الطوائف الثلاث المتفاوتة في الاستعدادات.

فالسر الدقيق والحكمة الواسعة التي يتضمنها رقي هذه الطبقات الثلاث، نحاول ان نبينها ضمن تمثيل وتحت عناوين "زهرة" و "قطرة" و "رشحة".

فمثلاً: للشمس - باذن خالقها وبأمره - أنواع ثلاثة مختلفة من التجلي والانعكاس والافاضة.

احدها: على الأزهار.

والآخر: على القمر والكواكب السيارة.

وآخر: على المواد اللماعة كالزجاج والماء.

فالأول: من هذا التجلي والافاضة والانعكاس على أوجه ثلاثة:

الاول: تجل كلي وانعكاس عمومي، وهو أفاضتها على جميع الازهار.

الثاني: تجلٍ خاصٍ، وهو انعكاس خاص حسب كل نوع.

الثالث: تجل جزئي، وهو افاضة حسب شخصية كل زهرة.

هذا وان مثالنا مبني على الرأي القائل بأن الالوان الزاهية للازهار انما تنشأ من انعكاس تحلل الالوان السبعة لضياء الشمس.

وبناء على هذا القول فالازهار ايضاً نوع من مرايا الشمس.

ثانيه: هو الفيض والنور الذي تعطيه الشمسُ القمرَ والكواكب السيارة، باذن الفاطر الحكيم. فالقمر يستفيد من النور الذي هو في حكم ظل لضياء الشمس استفادة كلية، بعد ان اُفيض عليه هذا الفيض الكلي والنور الواسع، وبعد ذلك يفيد القمر فيفيض بالنور بشكل خاص على البحار والهواء والتراب اللامع، ويفيض بصورة جزئية على حبابات الماء ودقائق التراب وذرات الهواء.

ثالثه: هو انعكاس للشمس - بأمر آلهي - انعكاساً صافياً كلياً بلا ظلٍ، بحيث يجعل كلاً من جو الهواء ووجه البحار مرايا.. ثم ان تلك الشمس تعطي صورتها الجزئية وتمثالها المصغر الى كل من حبابات البحار وقطرات الماء ورشحات الهواء وبلورات الثلج.

وهكذا فالشمس - في الجهات الثلاث المذكورة - لها افاضة وتوجّه الى كل زهرة، والى كل قطرة متوجهة للقمر، والى كل رشحة، بطريقين اثنين في كل منها:

الطريق الاول: افاضة مباشرة بالاصالة، من دون المرور في البرزخ، وبلا حجاب.. هذا الطريق يمثل طريق النبوة.

الطريق الثاني: تتوسط فيه البرازخ، اذ قابليات المرايا والمظاهر تعطي لوناً لتجليات الشمس.. هذا الطريق يمثل طريق الولاية.

وهكذا، (فالزهرة) و (القطرة) و (الرشحة) كل منها تستطيع ان تقول في الطريق الاول: (انا مرآة شمس العالم أجمع) ولكنها لا تتمكن ان تقولها في الطريق الثاني، بل تقول: (انني مرآة شمسي) أو (انني مرآة للشمس المتجلية على نوعي) لأنها تعرف الشمس هكذا، اذ لا تستطيع ان ترى الشمس المتوجهة الى العالم كله؛ لأن شمس ذلك الشخص، او نوعه، او جنسه، تظهر له ضمن برزخ ضيق وتحت قيد محدود. فـلا يستطـيـع ان يمـنـح تلـك الشمس المقيدة آثار الشـمس المطلـقة بـلا قيد ولا برزخ. اي لا يستطيع ان يمنح بشهود قلبي دفء وجه الارض قاطبة وتنويره وتحريك حياة الحيوانات والنباتات جميـعـها وجـعـل السـيـارات تجـري حـولها..

وامثالها من الآثار الجليلة المهيبة، لا يستطيع منح تلك الشمس الآثار التي شاهدها ضمن ذلك القيد الضيق والبرزخ المحدود.

وحتى لو منحت الاشياءُ الثلاثة - التي فرضناها ذات شعور - الشمسَ تلك الآثار العجيبة التي تشاهدها تحت ذلك القيد، فانها يمكنها ان تمنحها بوجهٍ عقلي وايماني بحت، وبتسليم تام من ان تلك المقيدة هي المطلقة ذاتها.

فتلك (الزهرة والقطرة والرشحة) التي فرضناها شبيهة بالانسان العاقل، اسنادُها هذه الاحكام - اي الآثار العظيمة - الى شموسها اسنادٌ عقلي لا شهودي.. بل قد تتصادم احكامُها الايمانية مع مشهوداتها الكونية، فتصدّق بصعوبة بالغة. وهكذا فعلينا نحن الثلاثة الدخول الى هذا التمثيل الممتزج بالحقيقة، والذي يضيق بها ولا يسعها، وتشاهَد في بعض جوانبه اعضاء الحقيقة.

سنفرض انفسنا نحن الثلاثة (الزهرة) و (القطرة) و (الرشحة). اذ لا يكفي ما افترضناه من شعور فيها، فنلحق بها عقولَنا ايضاً. اي ان ندرك ان تلك الثلاثة مثلما تستفيض من شمسها المادية، فنحن كذلك نستفيض من شمسنا المعنوية.

فأنت ايها الصديق الذي لا ينسى الدنيا ويوغل في الماديات وقد غلظتْ نفسُه وتكاثفت! كن (الزهرة). لأن استعدادك شبيه بها، اذ ان تلك الزهرة تأخذ لونا قد تحلل من ضياء الشمس وتمزج مثال الشمس من ذلك اللون، وتتلون به في صورة زاهية.

اما هذا الفيلسوف الذي درس في المدارس الحديثة، والمعتقد بالأسباب، والذي يشبهه (سعيد القديم)، فليكن (القطرة) العاشقة للقمر، الذي يمنحها ظل الضياء المستفاد من الشمس فيعطي عينَها نوراً فتتلألأ به... ولكن (القطرة) لا ترى بذلك النور الا القمر، ولا تستطيع ان ترى به الشمس، بل يمكنها رؤية الشمس بإيمانها.

ثم ان هذا الفقير الذي يعتقد أن كل شئ منه تعالى مباشرة، ويعدّ الاسباب حجابا، ليكن هو (الرشحة)، فهي رشحة فقيرة في ذاتها، لا شئ لها كي تستند اليه وتعتمد عليه كالزهرة وليس لها لون كي تشاهد به، ولا تعرف اشياء اخرى كي تتوجه اليها. فلها صفاء خالص يخبئ مثال الشمس في بؤبؤ عينها.

والآن، ما دمنا قد حللنا مواضع هذه الثلاثة، علينا ان ننظر الى انفسنا، لنرى ماذا بنا؟ وماذا نعمل؟

فها نحن ننظر، واذا بالكريم يُسبغ علينا نِعَمه واحسانَه، فينورنا ويربينا ويجمّلنا. والانسان عبد الاحسان، ويسأل القرب ممن يستحق العبادة والمحبة، ويطلب رؤيته، لذا فكل منا يسلك حسب استعداده بجاذبة تلك المحبة.

فيا من يشبه (الزهرة) انت تمضي في سلوكك، ولكن امض وانت زهرة.. وها قد مضيت، وقد ترقيت تدريجياً حتى بلغتَ مرتبةً كلية، كأنك اصبحت بمثابة كل الازهار. بينما الزهرة مرآة كثيفة، فألوان الضياء السبعة تنكسر وتتحلل فيها، فتخفي صورة الشمس المنعكسة فلن توفّق الى رؤية وجه محبوبك الشمس، لأن الألوان المقيدة، والخصائص، تشتت ضوء الشمس وتسدل الحجاب دونه، فيحجب ما وراءه. فانت في هذه الحالة لن تنجو من الفراقات الناشئة من توسط الصور والبرازخ. ولكن النجاة بشرط واحد هو:

ان ترفع رأسك السارح في محبة نفسك، وتكفّ نظرك المستمتع بمحاسن نفسك والمغتر بها، وتحدقه في وجه الشمس التي هي في كبد السماء. ثم تحوّل وجهك المنكب الى التراب - يسأل الرزق - الى الشمس في علاها، ذلك لأنك مرآة لتلك الشمس، ووظيفتك مرآتية واظهار لتجليها. أما رزقك فسيأتيك من باب خزينة الرحمة، التراب، سواء أعلمت أم لم تعلم.

نعم، كما ان الزهرة مرآة صغيرة للشمس، فان هذه الشمس الضخمة ايضاً هي مرآة كقطرة في بحر السماء تعكس لمعة متجلية من اسم الله (النور). فأدرك يا قلب الانسان من هذا ما اعظم الشمس التي أنت مرآتها!

فبعدما انجزت هذا الشرط تجد كمالك، ولكن لن ترى الشمس بذاتها وفي نفس الأمر بل لا تدرك تلك الحقيقة مجرّدة، اذ ألوان صفاتك تعطيها لوناً، ومنظارك الكثيف يلبسها صورة، وقابليتك المقيدة يحددها تحت قيد.

والآن ايها الفيلسوف الحكيم الداخل في (القطرة)! انك بمنظار قطرة فكرِك وسلّم الفلسفة رقيتَ وصعدت حتى بلغت القمر. ودخلت القمر. انظر! القمر في ذاته كثيف مظلم، لا ضياء له ولا حياة. فقد ذهب سعيُك هباءً وعلمك بلا جدوى ولا نفع. فانك تقدر أن تنجو من ظلمات اليأس ووحشة الغربة وازعاجات الارواح الخبيثة بهذه الشروط، وهي:

ان تركتَ ليل الطبيعة وتوجّهت الى شمس الحقيقة، اعتقدت يقينا ان انوار الليل هذا هي ظلال ضياء شمس النهار. فان وفيت بهذا الشرط تجد كمالك، فتجد الشمس المهيبة بديل قمر فقير معتم. ولكنك ايضاً مثل صديقك الآخر لن ترى الشمس صافية، وانما تراها وراء ستائر آنسها عقلُك وألفَتْها فلسفَتُك، تراها خلف ما نسجها علمُك وحكمتُك من حُجب، تراها في صبغة اعطَتْها اياها قابليتُك.

وهذا صديقكم الثالث الشبيه بـ (الرشحة) فقير، عديم اللون، يتبخر بسرعة بحرارة الشمس، يدع انانيَته ويمتطي البخارَ فيصعد الى الجو، يلتهب ما فيه من مادة كثيفة بنار العشق، ينقلب بالضياء نوراً، يمسك بشعاع صادر من تجليات ذلك الضياء ويقترب منه.

فيا مثال الرشحة! ما دمت تؤدي وظيفة المرآة للشمس مباشرة، فكن اينما شئت من المراتب، فيمكنك ان تجد نافذة نظارة صافية تطل منها الى عين الشمس بعين اليقين، فلا تعاني صعوبة في اسناد الآثار العجيبة للشمس اليها، اذ تستطيع ان تسند اليها اوصافها المهيبة بلا تردد، فلا يمكن ان يمسك يَدك ويكفّك شئٌ قطعاً عن اسناد الآثار المذهلة لسلطنتها الذاتية اليها. فلا يحيرك ضيق البرازخ ولا قيد القابليات ولا صغر المرايا، ولا يسوقك الى خلاف الحقيقة شئ من ذلك لأنك صاف وخالص تنظر اليها مباشرة، ولذلك فقد أدركت أن ما يشاهَد في المظاهر ويُرى في المرايا ليس شمساً، وانما نوع من تجلياتها وضرب من انعكاساتها المتلونة. وان تلك الانعكاسات انما هي دلائل وعناوين لها فحسب، ولكن لا يمكنها ان تُظهر آثار هيبتها جميعاً.

ففي هذا التمثيل الممتزج بالحقيقة يُسلَك الى الكمال بطرق ثلاثة مختلفة متنوعة، فهم يتباينون في مزايا تلك الكمالات وفي تفاصيل مرتبة الشهود، الا انهم يتفقون في النتيجة، وفي الاذعان للحق، وفي التصديق بالحقيقة.

هذا فكما ان انساناً ليلياً لم يشاهد الشمس اصلاً، وانما يرى ظلالها في مرآة القمر، لا يمكنه ان يمكّن في عقله ويستوعب هيبة الضياء الخاص بالشمس وجاذبتها العظيمة وانما يقلد مَن رآها ويستسلم لهم. كذلك مَن لم يبلغ بالوراثة النبوية المرتبة العظمى لأسمي (القدير) و (المحيي) وامثالها من الاسماء يرى الحشر الاعظم والقيامة الكبرى ويقبلها تقليداً، قائلاً: انها ليست مسألة عقلية. لأن حقيقة الحشر والقيامة مظاهر لتجلي الاسم الاعظم والمراتب العظمى لقسم من الاسماء. فمن لم يرقَ نظره الى تلك المرتبة يضطر الى التقليد. بينما مَن نفذ فكرُه الى هناك يرى الحشر والقيامة سهلة كسهولة تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف، فيرضى بها مطمئن القلب.

وهكذا فمن هذا السر يذكر القرآنُ الكريم الحشرَ والقيامة في اعظم مرتبة وفي اكمل تفصيل وهكذا يرشد اليهما الرسول الاعظم e الذي حظي بأنوار الاسم الاعظم.

أما الانبياء السابقون عليهم السلام فلم يبينوا الحشر في أعظم درجة واوسع تفصيل بل بشئ من الاجمال، وذلك بمقتضى حكمة الارشاد حيث كانت أممهم على احوال ابتدائية بسيطة.

ومن هذا السر ايضاً لم ير قسمٌ من الاولياء بعض اركان الايمان في مرتبته العظمى أو عجزوا عن ان يبينوه هكذا.

ومن هذا السر ايضاً تتفاوت كثيراً درجات العارفين في معرفة الله.

وهكذا تنكشف من هذه الحقيقة اسرار كثيرة امثال هذه.

والآن نكتفي بالتمثيل، لأنه يُشعر الى حدٍ ما بالحقيقة، اذ الحقيقة واسعة جداً وعميقة جداً،ولا نتدخل بما هو فوق حدنا من اسرار وبما لا طاقة لنا به.



الغصن الثالث

نظراً لشئ من الغموض الذي يكتنف فهمَ قسمٍ من الاحاديث الشريفة التي تبحث في (علامات الساعة واحداثها) وفي (فضائل الاعمال وثوابها) فقد ضعفها عددٌ من أهل العلم المعتدّين بعقولهم، ووضعوا بعضها في عداد (الموضوعات) وتطرّف آخرون من ضعاف الايمان المغرورين بعقولهم فذهبوا الى انكارها.

ونحن هنا لا نريد أن نناقشهم تفصيلاً، بل ننبه الى (اثني عشر) اصلاً من الاصول والقواعد العامة التي يمكن الاستهداء بها في فهم هذه الاحاديث الشريفة موضوعة البحث.

C الاصل الاول

وهو المسألة التي بيناها في الجواب عن السؤال الوارد في نهاية (الكلمة العشرين) ومجملها:

ان الدين امتحان واختبار، يميز الارواح العالية من الارواح السافلة، لذا يبحث في الحوادث التي سيشهدها الناس في المستقبل بصيغة ليست مجهولة ومبهمة الى حد استعصاء فهمها، وليست واضحة وضوح البداهة التي لا مناص من تصديقها. بل يعرضها عرضاً منفتحاًً على العقول، لا يعجزها، ولا يسلب منها القدرة على الاختيار.

فلو ظهرت علامة من علامات الساعة بوضوح كوضوح البديهيات، واضطر الناس الى التصديق، لتساوى عندئذ استعداد فطري كالفحم في خساسته مع استعداد فطري آخر كالألماس في نفاسته، ولضاع سر التكليف وضاعت نتيجة الامتحان سدى.

فلأجل هذا ظهرت اختلافات كثيرة في مسائل عديدة، كمسائل المهدي(1) والسفياني(2) وصدرت احكام متضاربة لكثرة الاختلاف في الروايات.

C الاصل الثاني:

للمسائل الاسلامية طبقات ومراتب، فبينما تحتاج احداها الى برهان قطعي - كما في مسائل العقائد - تكتفي الاخرى بغلبة الظن، واخرى الى مجرد التسليم والقبول وعدم الرفض.

لهذا لا يُطلب برهانٌ قطعي واذعان يقيني في كل مسألة من مسائل الفروع أو الاحداث الزمانية التي هي ليست من اسس الايمان، بل يكتفى بالتسليم وعدم الرفض.

C الاصل الثالث

لقد أسلم كثير من علماء بني اسرائيل والنصارى في عهد الصحابة الكرام y ، وحملوا معهم الى الاسلام معلوماتهم السابقة، فأُخذ وهماً غيرُ قليلٍ من تلك المعلومات السابقة المخالفة لواقع الحال كأنها من العلوم الاسلامية.

C الاصل الرابع

لقد اُدرج شئ من اقوال الرواة، أو المعاني التي استنبطوها ضمن متن الحديث، فاُخذت على علاّتها. ولما كان الانسان لا يسلم من خطأ، ظهر شئ من تلك الاقوال والاستنباطات مخالفاً للواقع، مما سبب ضعفَ الحديث.

C الاصل الخامس

اُعتبر بعض المعاني الملهَمة للاولياء واهل الكشف من المحدّثين على أنها احاديث، بناء على أن في الأمة محدَّثين (1)، اي: ملهمين. ومن المعلوم ان إلهام الاولياء قد يكون خاطئاً لبعض العوارض، فيمكن أن يظهر ما يخالف الحقيقة في امثال هذا النوع من الروايات.

C الاصل السادس

يشتهر بعض الحكايات بين الناس، فتجري تلك الحكاية مجرى الامثال، والامثال لا يُنظر الى معناها الحقيقي، وانما يُنظر الى الهدف الذي يساق اليه المَثَل، لهذا كان في بعض الاحاديث ذكر بعض ما تعارف عليه الناس من قصص وحكايات كناية وتمثيلاً على سبيل التوجيه والارشاد.

فان كان هناك نقص وقصور في المعنى الحقيقي في مثل هذه المسائل فهو يعود الى اعراف الناس وعاداتهم ويرجع الى ما تسامعوه وتعارفوا عليه من حكايات.

C الاصل السابع

هناك كثير من التشبيهات والتمثيلات البلاغية تؤخذ كحقائق مادية، إما بمرور الزمن او بانتقالها من يد العلم الى يد الجهل، فيقع الناس في الخطأ من حسبان تلك التشبيهات حقائقَ مادية.

فمثلاً: ان المَلَكين المسميين بالثور والحوت، والمتمثلين على صورتيهما في عالم المثال، وهما من ملائكة الله المشرفة على الحيوانات البرية والبحرية، قد تحولا الى ثور ضخم وحوت مجسم في ظن الناس وتصورهم الخاطىء، مما ادى الى الاعتراض على الحديث.

ومثلاًَ: سُمع صوت في مجلس الرسول e ، فقال: هذا صوتُ حجرٍ يهوي في جهنم منذ سبعين خريفاً فالآن حين انتهى الى قعرها(1) فالذي يسمع بهذا الحديث ولم تتبين له الحقيقة ينكره، فيزيغ، ولكن اذا علم ما هو ثابت قطعاً، انه بعد فترة وجيزة جاء أحدهم فاخبر النبي e ان المنافق الفلاني المشهور قد مات قبل هنيهة، عندئذ يتيقن ان الرسول e قد صور ببلاغته النبوية الفائقة ذلك المنافق الذي دخل السبعين من عمره كحجرٍ يتدحرج الى قعر جهنم، حيث ان حياته كلها سقوط الى الكفر وتردٍّ الى اسفل سافلين، وقد أسمع الله سبحانه ذلك الصوت في لحظة موت ذلك المنافق وجعله علامة عليه.

C الاصل الثامن

يخفي الحكيم العليم في دار الامتحان وميدان الابتلاء هذا، اموراً مهمة جداً بين ثنايا كثرة من الامور. وترتبط بهذا الاخفاء حكم كثيرة ومصالح شتى.

فمثلاً: قد أخفى سبحانه وتعالى (ليلة القدر) في شهر رمضان، و (ساعة الاجابة) في يوم الجمعة، و(أولياءه الصالحين) بين مجاميع البشر، و(الأجل) في العمر، و(قيام الساعة) في عمر الدنيا.. وهكذا.

فلو كان أجَلُ الانسان معيناً ومعلوماً وقته، لقضى هذا الانسان المسكين نصف عمره في غفلة تامة، ونصفه الآخر مرعوباً مدهوشاً كمن يُساق خطوة خطوة نحو حبل المشنقة. بينما تقتضي المحافظة على التوزان المطلوب بين الدنيا والآخرة ومصلحة بقاء الانسان معلقاً قلبُه بين الرجاء والخوف، أن تكون في كل دقيقة تمر بالانسان امكان حدوث الموت او استمرار الحياة.. وعلى هذا يرجح عشرون سنة من عمر مجهول الاجل على ألف سنة من عمر معلوم الاجل.

وهكذا فقيام الساعة، هو أجَلُ هذه الدنيا، التي هي كانسان كبير، فلو كان وقته معيناً ومعلناً لمضت القرون الاولى والوسطى سادرة في نوم الغفلة، بينما تظل القرون الاخيرة في رعب ودهشة؛ ذلك لان الانسان وطيد العلاقة بحياة مسكنه الاكبر وبلده الاعظم - الدنيا - بحكم حياته الاجتماعية والانسانية مثلما يرتبط بمسكنه وبلده بحكم حياته اليومية والشخصية.

نفهم من هذا أن القرب المذكور في الآية الكريمة] اقتربت الساعة[ لا يناقضه مرور ألف سنة ونيف، اذ الساعة اجل الدنيا. وما نسبة ألف سنة أو ألفين من السنين الى عمر الدنيا الاّ كنسبة يومٍ أو يومين أو دقيقة ودقيقتين الى سني العمر.

وكذلك ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن يوم القيامة ليس أجل الانسانية فحسب حتى يقاس قربه وبعده بمقياس عمرها، بل هو أجل الكائنات والسماوات والارض ذات الاعمار المهولة التي تندّ عن القياس والحساب.

ولأجل هذا فقد أخفى الحكيم العليم موعدَ قيام الساعة في علمه بين المغيّبات الخمسة، وكان من حكمة الاخفاء هذا أن يخشى الناسُ في جميع العصور قيام الساعة، حتى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا أشدّ خشية من قيامها في زمنهم من غيرهم، مع أنهم كانوا يعيشون في خير القرون، وهو قرن السعادة وانجلاء الحقائق، بل قال بعضهم ان أشراط الساعة وعلاماتها قد تحققت. فالذين يجهلون حكمة الاخفاء وحقيقته في الوقت الحاضر يقولون ظلماً: كيف ظن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قرب وقوع حقيقة مهمة وخطيرة ستأتي بعد ألف وأربعمائة سنة، ظنوها قريبة في عصرهم، علماً بأنهم كانوا أقدر المسلمين وأفضلهم في ادراك معاني الآخرة، وأحدّ المؤمنين بصيرة وأرهفهم حساً بارهاصات ما سيأتي به الزمن؟ لكأن فكرهم قد حاد عن الحقيقة الف سنة!

الجواب: لأن الصحابة الكرام - رضى الله عنهم أجمعين - كانوا اكثر الناس تفكراً بالآخرة، وأرسخهم يقيناً بفناء الدنيا، وأوسعهم فقهاً بحكمة اخفاء الله سبحانه لوقت القيامة، وذلك بفضل نور الصحبة النبوية وفيضها عليهم، لذا كانوا منتظرين أجَل الدنيا، متهيئين لموتها كمن ينتظر أجله الشخصى، فسعوا لآخرتهم سعياً حثيثاً.

ثم ان تكرار الرسول e (... فانتظروا الساعة) نابع من هذه الحكمة حكمة الاخفاء والابهام وفيه ارشاد نبوي بليغ، وليس تعييناً لموعد الساعة بالوحي، حتى يُظن بُعده عن الحقيقة، اذ الحكمة شئ يختلف عن العلة.

وهكذا فالاحاديث الشريفة التي هي من هذا القبيل نابعة من حكمة الاخفاء والابهام.

وبناء على هذه الحكمة نفسها، فقد انتظر الناس منذ زمن مديد، بل منذ زمن التابعين ظهور المهدي والدجال السفياني، على أمل اللحاق بهم، حتى قال قسم من الاولياء الصالحين بفوات وقتهم!

فالحكمة في عدم تعيين اوقات ظهورهم هي الحكمة نفسها في عدم تعيين يوم القيامة. وتتلخص بما يأتي:

ان كل وقت وكل عصر بحاجة الى (معنى) المهدي الذي يكون أساساً للقوة المعنوية، وخلاصاً من اليأس. فيلزم ان يكون لكل عصر نصيب من هذا المعنى. وكذلك يجب ان يكون الناس في كل عصر متيقظين وحذرين من شخصيات شريرة تكون على رأس النفاق وتقود تياراً عظيماً من الشر، وذلك لئلا يرتخي عنانُ النفس بالتسيّب وعدم المبالاة.

فلو كانت اوقات ظهور المهدي والدجال وامثالهما من الاشخاص معينةً لضاعت مصلحة الارشاد والتوجيه.

اما سر الاختلاف في الروايات الواردة في حقهما فهو:

ان الذين فسروا تلك الاحاديث الشريفة قد ادمجوا استنباطاتهم واجتهاداتهم الشخصية مع متن الحديث. كتفسيرهم ان وقائع المهدي واحداث الدجال تقع حول الشام والبصرة والكوفة حسب تصورهم؛ اذ كانت تلك المدن تقع حول مركز الخلافة يومئذ في المدينة المنورة والشام.

أو أنهم فسروا تلك الاحاديث بأن الآثار العظيمة التي تمثّل الشخصية المعنوية لاولئك الاشخاص أو تقوم بها جماعاتُهم، تصوّروها ناشئةً من شخصيتهم الذاتية الفردية، مما ادى الى ان يُفهم ان هؤلاء الاشخاص سيظهرون ظهوراً خارقاً للعادة، فيعرفهم جميع الناس، والحال - كما قلنا - ان الدنيا ميدان اختبار وامتحان، وان الله تعالى عندما يختبر الانسان لا يسلب منه الاختيار بل يفتح الباب امام عقله؛ لذا فهؤلاء الاشخاص - اي الدجال والمهدي - لا يُعرفون من قبل كثير من الناس عند ظهورهم، بل لا يَعرف ذلك الدجال الرهيب نفسه انه دجال بادئ الامر، وانما يعرفهم مَن ينظر اليهم بنور الايمان النافذ الى الاعماق.

والدجال الذي هو من علامات الساعة قال عنه الرسول e أن يوماً من ايامه كسنة ويوماً كشهر ويوماً كجمعة وسائر أيامه كأيامكم(1). وان الدنيا تسمع صوته، ويسيح الارض في اربعين يوماً.

فالذين لم ينصفوا قالوا: هذه الرواية ضرب من المحالات، وانكروها. حاشَ لله، بل ان حقيقتها - والعلم عند الله - هي الآتي:

ان في الحديث الشريف اشارة الى ظهور شخص من جهة الشمال - الذي هو اكثف منطقة لعالم الكفر - يقود تياراً عظيماً يتمخض من المادية الجاحدة، ويدعو الى الالحاد وانكار الخالق. فمعنى الحديث فيه اشارة الى ظهور هذا الشخص من شمال العالم. وتتضمن هذه الاشارة رمزاً حكيماً وهو:

ان الدائرة القريبة للقطب الشمالي تكون السنة فيها يوماً وليلة، حيث أن ستة أشهر منها ليل والستة الاخرى نهار. اي يوم الدجال هذا سنة واحدة كما ورد (يوم كسنة). فهذه اشارة الى ظهوره قريباً من تلك الدائرة. أما المراد بـ (يوم كشهر) فهو انه كلما تقدمنا من الشمال نحو مناطقنا يكون النهار احياناً شهراً كاملاً حيث لا تغرب الشمس شهراً في الصيف. وهذه اشارة ايضاً الى تجاوز الدجال الى عالم الحضارة بعد ظهوره في الشمال. وهذه الاشارة آتية من اسناد اليوم الى الدجال.. وهكذا كلما اقتربنا نزولاً من الشمال الى الجنـوب نرى الـشمــس لا تغرب اســبوعاً، الى ان يكون الفرق في الشروق والغروب ثلاث ساعات، اي كأيامنا الاعتيادية. وقد كنتُ في مكان كهذا عندما كنت اسيراً في روسيا، فكانت الشمس لا تغرب اسبوعاً في مكان قريب منا، حتى كان الناس يخرجون لمشاهدة المنظر الغريب للغروب.

اما بلوغ صوت الدجال الى انحاء العالم، وانه يطوف الارض في اربعين يوماً، فقد حلّتهما اجهزة الراديو والمخابرة ووسائل النقل الحاضرة من قطارات وطائرات. فالذين انكروا هاتين الحالتين من الملحدين بالامس وعدّوهما من المحالات يرونهما اليوم من الامور العادية.

أما يأجوج ومأجوج والسد اللذان هما من علامات الساعة، فقد كتبتُ عنهما بشئ من التفصيل في رسالة اخرى، احيل اليها، اما هنا فأقول:

انه مثلما دمرت قبيلتا المانجور والمغول بالامس المجتمعات البشرية وكانوا السبب في بناء سد الصين، فهناك روايات تشير الى انه مع قرب قيام الساعة ستسقط الحضارة الجديدة ايضاً وتنهار تحت ضربات اقدام افكارهم الارهابية والفوضوية المرعبة.

وهنا يتساءل عدد من الملاحدة:

اين هذه الطائفة من البشر، والتي قامت وستقوم بمثل هذه الافعال؟

الجواب: كما ان الجراد آفة زراعية تكتسح منطقة معينة في موسم معين، ثم تختفي تبعاً لتبدل الموسم. فإن خواص تلك الاجناس التي ابادت تلك المنطقة مخبوءة في حنايا بعض افراد محدودين منها، فتظهر تلك الآفة نفسها - بأمر إلهي - في موسم معين، وبكثرة ساحقة، اي ان حقيقة اجناسها تنزوي ولا تضمحل، لتظهر من جديد في موسم معين.

فكما ان الامر هكذا في الجراد، فان الاقوام الذين اشاعوا الفساد في العالم في وقت ما، سيظهرون عند موعد محدد لهم لإهلاك البشرية بأمر إلهي وبمشيئته سبحانه، فيدمرون الحضارة البشرية مرة اخرى، ولكن اثارتهم وتحريكهم سيكون بنمط آخر. ولا يعلم الغيب الا الله.

C الاصل التاسع

ان حصيلة قسم من المسائل الايمانية متوجهة الى امور تتعلق بهذا العالم الضيق المقيد، والقسم الآخر منها يرنو الى العالم الاخروى الواسع الطليق.

وحيث ان قسماً من الاحاديث النبوية الواردة في فضائل الاعمال قد عبّر عنها الرسول الكريم e باسلوب بلاغى يناسب الترغيب والترهيب، فقد ظن مَن لا ينعم النظر ان تلك الاحاديث الشريفة تحمل مبالغة!. كلا، انها جميعاً لعين الحق ومحض الحقيقة وليست فيها مبالغة قط.

مثال: ان الذي يخرش اذهان المتعسفين ويثيرها هو الحديث الآتي:

(لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناح بعوضةٍ ما شَرب الكافرُ منها جُرعة ماء)(1). او كما قال. وحقيقته هي:

ان كلمة (عند الله) تعبّر عن العالم الباقي، فالنور المنبثق من عالم البقاء، ولو بمقدار جناح بعوضة هو أوسع وأعم، لانه ابدي، من نور موقت ولو كان يملأ الارض. اي ان الحديث لا يعقد موازنة بين جناح البعوض والعالم الكبير، وانما الموازنة هي بين دنيا كل فرد - محصورة في عمره القصير - وبين النور الدائم المشع، ولو بمقدار جناح بعوضة من الفيض الإلهي واحسانه العميم.

ثم ان الدنيا لها وجهان، بل ثلاثة اوجه:

الاول: وجه كالمرآة تعكس تجليات الاسماء الحسنى.

والثاني: وجه ينظر الى الآخرة، اي ان الدنيا مزرعة الآخرة.

اما الثالث: فهو الوجه الذي ينظر الى العدم والفناء، فهذا الوجه الاخير هو الدنيا غير المرضية عند الله، وهي المعروفة بدنيا اهل الضلالة.

اذن فالدنيا المذكورة في الحديث الشريف ليست بالدنيا العظيمة التي هي كمرايا للاسماء الحسنى ورسائل صمدانية، ولا هي بالدنيـا التي هـي مزرعـة للآخـرة، وانما هي الدنيا التي هي نقيض الآخرة ومنشأ جميع الخطايا والذنوب ومنبع كل البلايا والمصائب، هي دنيا عبدة الدنيا التي لا تعدِل ذرة واحدة من عالم الآخرة السرمدي الممنوح لعباد الله المؤمنين.فاين هذه الحقيقة الصادقة الصائبة من فهم اهل الالحاد الظالمين لما ظنوه مبالغة؟!

ومثال آخر: هو ما ذهب الملحدون وتمادوا فيه بتعسفهم حين ظنوا أن ما ورد من الاحاديث الشريفة حول ثواب الاعمال وفضائل بعض السور في القرآن الكريم مبالغة غير معقولة، بل حتى قالوا انها محالة!

فقد ورد - مثلاً - ان سـورة ((الفاتحة)) لها ثـواب الـقـرآن(1)، وسورة ((الاخـلاص)) تعدل ثلث الـقرآن(2)، وسورة ((الزلـزال)) ربـع القرآن(3)، وسورة ((الكافرون)) ربع القرآن(4) وسورة ((يس)) لها ثواب عشرة امثال القرآن(5).

فالذين لا ينعمون النظر وليس لهم انصاف وتروٍّ يدّعون استحالة هذه الروايات! اذ يقولون: كيف تكون لسورة ((يس)) هذه الفضيلة وهي سورة من القرآن الكريم وهناك سور اخرى فاضلة؟!

ان حقيقة هذه الروايات هي:

ان لكل حرف من حروف القرآن الكريم ثواباً، وهو حسنة واحدة، ولكن بفضل الله وكرمه يتضاعف ثواب هذه الحروف ويثمر حيناً عشر حسنات، واحياناً سبعين، واخرى سبعمائة (كما في حروف آية الكرسي) ورابعة: الفاً وخمسمائة (كما في حروف سورة الاخلاص) وخامسة: عشرة آلاف حسنة (كقراءة الآيات في الاوقات الفاضلة وليلة النصف من شعبان) وسادسة: ثلاثين الفاً من الحسنات (كما في قراءة الآيات في ليلة القدر) فتتضاعف هذه الحسنات كما تتكاثر بذور الخشخاش. ويمكن فهم تضاعف الثواب الى ثلاثين الفاً من الآية الكريمة ] خير من الف شهر[ (القدر:3).

وهكذا فلا يمكن مقايسة ولا موازنة القرآن الكريم مع وجود هذا التضاعف العددي التصاعدي للثواب المذكور، وانما يمكن ذلك مع اصل الثواب لبعض السور.

ولنوضح ذلك بمثال:

لنفرض ان مزرعة زرعت فيها الف حبة من الذرة، فلو انبتت بعض حباتها سبع سنابل (عرانيس) في كل سنبلة مائة حبة، فان حبة واحدة من الذرة تعدل عندئذ ثلثي ما في المزرعة.

ولو فرضنا - مثلاً - ان حبة اخرى انبتت عشر سنابل (عرانيس) في كل سنبلة منها مائة حبة، فان حبة واحدة عند ذلك تساوي ضعف الحبوب المزروعة أصلاً.. وهكذا قس في ضوء هذا المثال.

فالآن نتصور القرآن الكريم مزرعة سماوية نورانية مقدسة، كل حرف فيه مع ثوابه الاصلي بمثابة حبة واحدة - بغض النظر عن سنابلها - فاذا ما طبقتَ هذا على المثال السابق يمكنك معرفة فضائل السور التي وردت بحقها الاحاديث الشريفة، بمقارنتها بأصل حروف القرآن.

مثال ذلك: ان حروف القرآن الكريم ثلاثمائة الف وستمائة وعشرون حرفاً، وحروف سورة الاخلاص مع البسملة تسع وستين حرفاً، فثلاثة اضعاف تسع وستون تساوي مائتين وسبعة حروف. اي ان حسنات كــل حـرف من حروف سورة الاخلاص تقارب ألفاً وخمـسمـائـة حسنة وكذلك اذا حـسبـــت حــروف سورة ((يس)) واخذت النسبة بينها وبين مجموع حروف القـرآن، واخذنا التضاعف الى عشرة امثالها بنظر الاعتــبار، نجـد ان لكـل حـرف فيها ما يقـارب من خمسـمائة حسنة.

فاذا قست على هذا المنوال بقية ما ورد في فضائل السور في الاحاديث فستدرك مدى كونها حقيقة صائبة لطيفة، ومدى بُعدها عن كل ما يومئ الى المبالغة والاسراف في الكلام.

C الاصل العاشر

قد يظهر افراد من الناس لهم خوارق في الاعمال والافعال كما يحدث في اكثر طوائف المخلوقات. فان كان الفرد الفذ هذا قد سبق الآخرين وبزّهم في الخير والصلاح فسيكون مبعث فخر لبني جنسه ومدار اعتزازهم، والاّ فهو نذير شؤم وبلاء عليهم. فكل من هؤلاء الافذاذ ينبث كشخصية معنوية في كل مكان في المجتمع، ويحاول الآخرون تقليده في افعاله ويجدّون لبلوغ شأوه، وربما يبلغ واحد منهم مبلغه في هذا الفعل أو ذاك. فالقضية اذن من حيث المنطق هي قضية ((ممكنة)) لإمكان وجود ذلك الفرد الخارق في كل مكان وجوداً مخفياً ومطلقاً، اي أنه اصبح شخصاً كلياً بعمله هذا، أي من الممكن ان يولّد هذا النوع من العمل نتيجة كهذه.

فانظر في ضوء هذا المثال الى احاديث نبوية شريفة وردت بهذه المعاني: مَن صلى ركعتين كذا فله أجر حجة(1) أي ثواب ركعتين في اوقات معينة يقابل حجة، هذه حقيقة ثابتة. فيجوز اذن ان تحمل كل ركعتين من الصلاة بالكلية هذا المعنى، ولكن الوقوع الفعلي لهذا النوع من الروايات ليس دائماً ولا كلياً، حيث أن للقبول شرائطه المعينة، لذا تنتفي من امثال هذه الروايات صفة الكلية والديمومة؛ فهي اما بالفعل موقتة مطلقة؛ او هي قضية ممكنة، كلية. والكلية في امثال هذه الاحاديث هي من حيث الامكان الاعتباري، كما هو في: الغيبة كالقتل، اي يكون الفرد بالغيبة سماً زعافاً قاتلاً. وكما هو في: الكلمة الطيبة صدقة كعتق رقبة.

والحكمة في ايراد هذه الاحاديث بهذه الصيغة هي:

ابراز امكانية وقوع هذه الصفة المعنوية الكاملة في كل مكان وفي صورتها المطلقة، لأنه أبلغ في الترغيب والترهيب واكثر حضاً للنفوس على الخير وأشد تجنيباً لها من الشر.

ثم ان شؤون العالم الابدي لا توزن بمقاييس عالمنا الحاضر، اذ ان اضخم ما عندنا يمكن ان يكون اصغر شئ هناك ولا يوازيه، فثواب الاعمال نظراً لكونه يتطلع الى ذلك العالم الابدي فان نظرتنا الدنيوية الضيقة تغدو قاصرة دونه، فنعجز عن ان نستوعبه بعقولنا المحدودة.

فمثلاً: هناك رواية تلفت انظار من لا يدققون النظر ولا ينصفون في احكامهم. هي:

من قرأ هذا اعطي له مثل ثواب موسى، وهارون، أي:

الحمد لله رب السموات ورب الارضين رب العالمين وله الكبرياء في السموات والارض وهو العزيز الحكيم.

الحمد لله رب السموات ورب الارضين رب العالمين وله العظمة في السموات والارض وهو العزيز الحكيم، وله الملك ربّ السموات وهو العزيز الحكيم.

فحقيقة هذه الاحاديث وامثالها التي تثير الاذهان هي:

اننا لا ندرك مدى الثواب الذي يناله نبيان عظيمان هما موسى وهارون عليهما السلام الا حسب تصورنا ووفق اطار فكرنا الضيق وضمن حدود نظرنا القاصر الدنيوي، لذا فحقيقة الثواب الذي يناله عبد عاجز مطلق العجز بقراءته ذلك الورد، من رب رحيم واسع الرحمة، في حياة خالدة ابدية، يمكن ان يكون مماثلاً لذلك الثواب الذي تصورناه بعقولنا القاصرة للنبيين العظيمين، وذلك حسب دائرة علمنا وأفق تفكيرنا.

مثلنا في هذا كمثل بدوي لم ير السلطان ولا يدرك عظمته وابهته، وفي نظره المحدود وفكره الضيق ان السلطان شخص كشيخ القرية او اكبر منه بقليل. حتى لقد كان حوالينا - في شرقي الاناضول - قرويون ســذج يقـولون: ان السلـطان يجلس قرب الموقد ويشرف على طبيخه بنفسه.. بمعـنى ان اقــصى ما يتصــوره البدوي لعظمة السلطان لا يرقى الى مستوى آمر فوج في الجيش.. فلو قيل لأحد هؤلاء: اذا أنجزتَ لي هذا العمل فسأكافئك برتبة السلطان - اي بمكانة آمر الفوج - فهذا القول حقيقة وصواب، حيث ان عظمة السلطان في ذهن السامع وفي فكره المحدود هي بمقدار عظمة آمر الفوج ليس الا.

وهكذا فنحن لا نكاد نفهم حتى بمثل هذا البدوي الحقائق الواردة في ثواب الاعمال المتوجهة الى الآخرة، بعقولنا الضيقة وبافكارنا القاصرة وبنظرنا الدنيوي الكليل؛ اذ ان ما في الحديث الشريف ليس هو عقد لموازنة بين الثواب الحقيقي الذي يناله موسى وهارون عليهما السلام، والذي هو مجهول لدينا، وبين الثواب الذي يناله العبد الذاكر للورد؛ لأن قاعدة التشبيه هي قياس المجهول على المعلوم، أي ادراك حُكم المجهول من حُكم المعلوم. أي ان الموازنة هي بين ثوابهما ((المعلوم)) لدينا حسب تصورنا، والثواب الحقيقي للعبد الذاكر ((المجهول)) عندنا.

ثم ان صورة الشمس المنعكسة من سطح البحر ومن قطرة ماء هي الصورة نفسها، والفرق في النوعية فقط، فكلاهما يعكسان صورة الشمس وضوءها، لذا فأن روح كل من موسى وهارون عليهما السلام التي هي مرآة صافية كالبحر تنعكس عليها من ماهية الثواب ما ينعكس على روح العبد الذاكر التي هي كقطرة ماء. فكلاهما ثواب واحد من حيث الماهية والكمية الا ان النوعية تختلف، اذ تتبع القابلية.

ثم ان ترديد ذكر وتسبيح معين، أو تلاوة آية واحدة قد تفتح من ابواب الرحمة والسعادة ما لا تفتحه عبادة ستين سنة، اي ان هناك حالات تمنح فيها آية واحدة من الفوائد ما للقرآن الكريم كله.

ثم ان الفيوضات الربانية المتجلية على الرسول الكريم e بتلاوته آية واحدة قد تكون مساوية لفيض إلهي كامل على نبي آخر؛ اذ هوe موضع تجلي الاسم الاعظم. فاذا قيل ان العبد الذاكر قد تعرض الى نفحة من ظل الاسم الاعظم بفضل وراثة النبوة ونال ثواباً بها بمقدار قابليته، بقدر الفيض الإلهي على نبي آخر، فليس في قوله خلاف للحقيقة قط.

ثم ان الثواب والأجر من عالم النور الخالد الذي يمكن ان ينحصر عالم منه في ذرة واحدة، بمثل انحصار صـورة الســمـوات بنجـومـها في قطـعـة صغيرة من زجاج ورؤيتها فيها. وهكذا فقراءة آية واحدة أو ذكر معين بنيةٍ خالصة يمكن ان تولد شفافية في الروح - كالزجاج - تستطيع ان تستوعب ثواباً نورانياً كالسموات الواسعة.

النتيجة: ايها الناظر الى كل شئ بعين النقد والتجريح ومن دون تدقيق، ويا ذا الايمان الواهي والفكر المملوء بالفلسفة المادية! أنصف قليلاً! أدم النظر في هذه الاصول العشرة، واياك ان تمدّ اصبع اعتراضك الى الاحاديث الشريفة وبدورها الى ما يخل بمرتبة عصمة النبوة للرسول الكريم e بحجة ما تراه في روايةٍ من خلاف قطعي للواقع ومنافاة للحقيقة.

فهذه الاصول العشرة، وميادين تطبيقها تجعلك تتخلى عن الانكار وتكفّك عن الرفض اولاً. ثم تخاطبك: ان كان هناك تقصيرٌ حقيقي، فهذا راجع الينا - اي الى الاصول - وليس الى الحديث الشريف قطعاً. وان لم يكن ثمة تقصير حقيقي فهو يعود الى سوء فهمك انت!

وحاصل الكلام: ان من يسترسل في الانكار والرفض، عليه ان يفنّد الاصول العشرة المذكورة والاّ لا يستطيع الانكار.

فان كنت منصفاً حقاً فتأمل جيداً في هذه الاصول العشرة، ومن بعدها لا تنهض لإنكار حديث نبوي يراه عقلك مخالفاً للحقيقة، بل قل: ربما هناك تفسير له، أو تأويل، أو تعبير، ودع الاعتراض!

C الاصل الحادي عشر

كما ان في القرآن الكريم آيات متشابهات تحتاج الى تأويل أو تطلب التسليم المطلق، كذلك في الحديث الشريف مشكلات تحتاج احياناً الى تفسير وتعبير دقيقين. ويمكنك الاكتفاء بالامثلة المذكورة.

نعم، ان اليقظ يستطيع ان يعبر عن رؤيا النائم، بينما النائم الذي يسمع مَن حوله من اليقظين قد يطبق كلامهم بشكلٍ ما في منامه فيعبّر عنه بما يلائمه في النوم.

فيا ايها المنوّم بالغفلة والفلسفة المادية، ويا عديمَ الانصاف! ان الذي يقول الله تعالى في حقه ] ما زاغ البصرُ وما طغى[ (النجم:17) والذي يقول عن نفسه تنام عيناي ولا ينام قلبي(1) هو اليقظان الحقيقي، فلا تنكر ما يراه هو، بل عبّر عنه وجِد تعبيراً له في رؤياك، والتمس له تفسيراً، اذ لو لسعت بعوضة شخصاً نائماً، فان آثار ذلك تظهر عليه وكأنه قد جرح في الحرب، واذا ما استفسر عنه بعد صحوه، فسيقول: نعم كنت في حرب دامية والمدافع مصوبة نحوي! بينما اليقظون الذين حوله يأخذون اضطرابه هذا مأخذ الاستهزاء. فنظرُ الغفلة المنومة وفكر الفلسفة المادية لا يمكن ان يكونا قطعاً محكاً للحقائق النبوية.

C الاصل الثاني عشر

ان نظر النبوة والتوحيد والايمان يرى الحقائق في نور الالوهية والآخرة ووحدة الكون لأنه متوجه اليها. أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فانه يرى الامور من زاوية الاسباب المادية الكثيرة والطبيعة لأنه متوجه اليها. فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً. فرب غاية عظيمة جليلة لدى اهل الفلسفة تافهة وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء اصول الدين وعلم الكلام. ولهذا فقد تقدم اهل العلم التجريبي كثيراً في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها واوصافها الدقيقة في حين تخلفوا كثيراً حتى عن ابسط المؤمنين وأقلهم علماً في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الاخروية.

فالذين لا يدركون هذا السر، يظنون ان علماء الاسلام متأخرون عن علماء الطبيعة والفلاسفة، والحال ان من انحدرت عقولهم الى عيونهم واصبحوا لا يفكرون الا بما يرون، وغرقوا في الكثرة من المخلوقات، أنّى لهم الجرأة ليلحقوا بورثة الانبياء عليهم السلام الذين بلغوا المقاصد الإلهية السامية وغاياتها الرفيعة العالية.

ثم ان الرؤية ان كانت من زاويتين مختلفتين، فلاشك من ظهور حقيقتين متباينتين، وقد تكون كلتاهما حقيقة. وحتماً لا تتعارض حقيقة علمية قاطعة مع حقائق النصوص القرآنية المقدسة، اذ اليد القصيرة للعلم التجريبي قاصرة عن بلوغ اهداب طرفٍ من حقائق القرآن الرفيعة المنزهة. وسنورد مثالاً واحداً فقط على هذا:

حقيقة الكرة الارضية في نظر أهل العلم هي:

انها احدى السيارات ذات الحجم المتوسط، تدور حول الشمس، وهي جرم صغير قياساً للكواكب والنجوم التي لا تعد ولا تحصى.

اما اذا نظرنا الى الكرة الارضية بنظر اهل القرآن، فحقيقتها هي كما وضحتها (الكلمة الخامسة عشرة):

ان الانسان الذي هو ألطف ثمرة العالم، ومعجزة جامعة من معجزات القادر الحكيم، وأبدع المخلوقات واعزها وألطفها، مع انه أعجزها وأضعفها.. هذا الانسان يعيش على هذه الارض، فالارض اذن مهدٌ لهذا الانسان، فهي مع صغرها وحقارتها قياساً الى السموات عظيمة وجليلة من حيث المعنى والمغزى والابداع؛ حتى اصبحت بالمنظور القرآني:

قلب الكون ومركزه من حيث المعنى.. ومعرض جميع المصنوعات المعجزة.. وموضع تجلي الاسماء الحسنى كلها، حتى لكانها البؤرة الجامعة لتلك الانوار.. ومحشر الافعال الربانية المطلقة ومرآتها.. وسوق واسع لإبراز الخلاقية الإلهية المطلقة، ولا سيما ايجادها الكثرة الهائلة من النباتات والحيوانات الدقيقة بكل جود وكرم.. ونموذج مصغر لمصنوعات عالم الآخرة الواسع الفسيح.. ومصنع يعمل بسرعة قصوى لانتاج منسوجات خالدة.. وموضع عرض لنماذج المناظر السرمدية المتبدلة بسرعة فائقة.. ومزرعة ضيقة مؤقتة لاستنبات بُذيرات تربّى بسرعة للبساتين الخالدة الرائعة.

لهذا كله يجعل القرآن الكريم الارض صنواً للسموات، من حيث عظمتها معنىً واهميتها صنعةً.وكأنها ثمرة صغيرة لشجرة ضخمة، وكأنها قلب صغير لجسد ضخم. فيذكرها القرآن الكريم مقرونة بالسموات، فهي في كفة والسموات كلها في كفة، فتكرر الآية الكريمة:

] رب السموات والارض[

وهكذا فقس سائر المسائل على هذا المنوال، وافهم:

ان الحقائق الميتة المنكفئة للفلسفة، لا يمكنها ان تتصادم مع حقائق القرآن الحية والمنورة. فكلتاهما حقيقة، الا ان الاختلاف هو في زاوية النظر، فتظهر الحقائق مـتباينة.









الغصن الرابع

] ألم تَرَ أن الله يسجد له مَن في السموات ومَن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدّوابُّ وكثيرٌ من الناس وكثيرٌ حق عليه العذاب، ومَن يُهِنِ الله فما لَه مِن مُكرِم اِن الله يفعلُ ما يشاء[ (الحج:18)

سنبين جوهرة واحدة فقط من الخزينة العظمى الواسعة لهذه الاية الكريمة، وذلك:

ان القرآن الحكيم يصرح بان كل شئ من العرش الى الفرش، ومن المَلَك الى السمك، ومن المجرات الى الحشرات، ومن السيارات الى الذرات.. كل منها يسجد لله، ويعبده، ويحمده ويقدّسه. الاّ أن عباداتها مختلفة متباينة متنوعة، كلٌ حسب قابلياتها، ومدى نيلها لتجليات الأسماء الحسنى.

نبين هنا تنوّع عبادات المخلوقات وتباينها بمثال:

فمثلاً (ولله المثل الاعلى) أن ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن، يستخدم أربعة أنواع من العمال في بناء قصر أو مدينة.

النوع الاول: هم عبيده، هذا النوع لا مرتّب لهم ولا اُجرة. بل ينالون ذوقاً في منتهى اللطف، ويحصلون على غاية الشوق في كل ما يعملونه ويؤدونه بأمر سيّدهم، بل يزدادون مُتعة وشوقاً من أي كلام في مدح سيدهم ووصفه، فحسبُهم الشرف العظيم الذي ينالونه بانتسابهم الى سيدهم. فضلاً عن تلذذهم لذة معنوية اثناء اشرافهم على العمل باسم ذلك المالك، وفي سبيله ونظره اليهم، فلا داعي الى مرتّبٍ ولا الى رتبة ولا الى أجرة.

القسم الثاني: هم خدّام بسطاء، لا يعرفون لماذا يعملون، بل ذلك المالك العظيم هو الذي يستخدمهم ويسوقهم الى العمل بفكره وعلمه، ويعطيهم اجرة جزئية تناسبهم وهؤلاء الخدام لا يعرفون نوع الغايات الكلية والمصالح العظيمة التي تترتب على عملهم، حتى حدا ببعض الناس ان يتوهم ان عمل هؤلاء لا غاية له الاّ اجرة جزئية تخصّهم بالذات.

القسم الثالث: هو الحيوانات التي يملكها ذلك المالك العظيم، ويستخدمها في أعمال بناء القصر والمدينة، ولا يعطيها الاّ علفها. فهذه الحيوانات تتمتع بلذة في اثناء قيامها بعمل يوافق استعداداتها، اذ القابلية أو الاستعداد ان دخلت طور الفعل والعمل بعدما كانت في طور القوة الكامنة، تنبسط وتتنفس، فتورث لذةً، وما اللذة الموجودة في الفعاليات كلها الا نابعة من هذا السر.

فاُجرة هذا القسم من الخدام ومرتّبهم هو العَلف مع لذة معنويةٍ، فهم يكتفون بهما.

القسم الرابع: وهم عمال يعرفون ماذا يعملون، ولماذا يعملون ولمن يعملون. فضلاً عن معرفتهم لِمَ يعمل العمال الآخرون، وما الذي يقصده المالك العظيم ولِمَ يدفع الجميعَ الى العمل؟

فهذا النوع من العمال، لهم رئاسة على العمال الآخرين، والاشراف عليهم، ولهم مرتّباتهم حسب درجاتهم ورتبهم.

وعلى غرار هذا المثال، فان مالك السماوات والارضين ذا الجلال، وباني الدنيا والآخرة ذا الجمال، وهو رب العالمين، يستخدم الملائكة والحيوانات والجمادات والنباتات والانسان في قصر هذا الكون ضمن دائرة الأسباب، ويسوقهم الى العبادة، لا لحاجةٍ، فهو الخالق، بل لأجل إظهار العزة والعظمة وشؤون الربوبية وأمثالها من الحِكَم..

وهكذا فقد كلف هذه الأنواع الاربعة باربعة أنماط مختلفة من العبادة.

القسم الأول: الذين يمثلون العبيد في المثال، هم الملائكة، فهم لا مراتب لهم في الرقي بالمجاهدة، اذ لكل منهم مقام ثابت ورتبة معينة، الاّ ان لهم ذوقاً خاصاً في عملهم نفسه، وهم يستقبلون الفيوض الربانية - حسب درجاتهم - في عبادتهم نفسها.

بمعنى ان اجرة خدماتهم مندرجة في عين أعمالهم؛ اذ كما يتلذذ الانسان من الماء والهواء والضياء والغذاء، كذلك الملائكة، يتلذذون ويتغذّون ويتنعمون بانوار الذكر والتسبيح والحمد والعبادة والمعرفة والمحبة، لانهم مخلوقون من نور، فيكفيهم النور غذاءً، بل حتى الروائح الطيبة القريبة من النور، هي الأخرى نوع من غذائهم حيث يُسرّون بها.

نعم! ان الأرواح الطيبة تحب الروائح الطيبة.

ثم ان للملائكة سعادة عظمى الى درجة لا يدركها عقل البشر ولا يستطيع ان يعرفها الاّ المَلَك نفسه، وذلك فيما يعملون من عمل بأمر معبودهم، وفي الأعمال التي يؤدونها في سبيله، والخدمات التي يقومون بها باسمه، والاشراف الذي يزاولونه بنظره، والشرف الذي يغنمونه بانتسابهم اليه، والتفسح والتنزه الذي ينالونه بمطالعة ملكه وملكوته، والتنعم الذي يحصلون عليه بمشاهدة تجليات جماله وجلاله.

فقسم من الملائكة عبّاد، وآخرون يزاولون عباداتهم في أعمالهم. والقسم العامل من الملائكة الأرضيين شبيه بنوع الانسان - ان جاز التعبير - فمنهم من يؤدي مهمة رعاية الحيوان وهم الرعاة، ونوع آخر لهم الاشراف على نبات الأرض وهم الفلاحون.. بمعنى ان سطح الأرض مزرعة عامة يشرف عليها مَلك موكل بها، أي يشرف على جميع طوائف الحيوانات التي تدبّ على الأرض بأمر الخالق الجليل، وباذنه، وفي سبيله، وبحوله وقوته. وهناك ملك موكل أصغر، للقيام برعاية خاصة لكل نوع من أنواع الحيوانات.

وحيث ان سطح الأرض مزرعة، تزرع فيها أنواع النباتات كلها، فهناك اذن مَلك موكّل للاشراف على تلك النباتات كلها، باسم الله سبحانه، وبقوته، وهناك مَلك أوطأ مرتبة، يشرف على كل طائفة من طوائف النباتات، وهكذا.. فهناك ملائكة مشرفون، وسيدنا ميكائيل عليه السلام الذي هو من حملة عرش الرزاقية؛ هو المشرف الأعظم على هؤلاء الملائكة.

وان الملائكة الذين هم بمثابة الرعاة والفلاحين يختلفون عن الانسان، لأن اشرافهم على الأمور هو عمل خالص في سبيل الله، وباسمه، وبقوته وبأمره، بل ان اشرافهم هو مشاهدة تجليات الربوبية في النوع الذي اُوكل لهم الاشراف عليه.. ومطالعة تجليات القدرة والرحمة فيه.. والقيام بإلهام الأوامر الإلهية اليه.. وأداء ما يشبه التنظيم في أفعاله الاختيارية. ولا سيما الاشراف على النباتات في مزرعة الأرض.. وتمثيل تسبيحاتها المعنوية واعلان تحياتها المعنوية الى فاطرها الجليل بلسان الملائكة.. علاوة على حُسن استعمال الاجهزة الممنوحة لها وتوجيهها الى غايات معينة والقيام بنوع من التنظيم فيها.

وتعدّ هذه الخدمات التي يؤديها الملائكة نوعاً من كسبٍ بالجزء الاختياري، بل هي نوع من العبادة والعبودية، إذ ليس لهم تصرف حقيقي، لأن كل شئ يحمل سكةً خاصة وختماً معيناً لخالق كل شئ لا يمكن لغيره تعالى أن يحشر نفسه في الايجاد قطعاً.

أي ان هذا النوع من عمل الملائكة هو عباداتهم؛ اذ ليس هي عادات كما هي في الانسان.

القسم الثاني: من العمال في قصر الكون، هو الحيوانات.

وحيث ان الحيوانات لها نفس مشتهية، واختيار جزئي، فلاتكون أعمالها خالصة لوجه الله. بل تستخرج النفسُ حظها، وشهوتَها من عملها ، لذا يمنح مالك الملك ذو الجلال والاكرام ، تلك الحيوانات أجرة ومرّتباً ضمن أعمالها ، تُطمئن نفوسها وتشبعها

فمثلا: البلبل المعروف بعاشق الورود والأزهار(1)، يستخدم الفاطرُ الجليل ذلك الحيوان الصغير ويستعلمه في خمس غايات:

اولاها: انه مأمور ومكلّف - باسم القبائل الحيوانية - باعلان شدة العلاقة تجاه طوائف النباتات.

ثانيتها: انه موظف باعلان الفرح والسرور، والترحيب بالهدايا المرسلة من قبل الرزاق الكريم، حيث انه خطيب رباني يسأل بتغريده أرزاق الحيوانات - ضيوف الرحمن - المحتاجين الى الرزق.

ثالثتها: اظهار حسن الاستقبال على رؤوس النباتات جميعاً، تعبيراً عن ارسال النباتات امداداً لبني جنسه من الطير والحيوان.

رابعتها: بيان شدة حاجة الحيوانات الى النباتات التي تبلغ حدّ العشق تجاه الوجوه المليحة للنباتات واعلانها على رؤوس الاشهاد.

خامستها: تقديم ألطف تسبيحٍ الى ديوان رحمة مالك الملك ذي الجلال والاكرام في ألطف شوق ووجد، وفي ألطف وجه، وهو الورد.

وهكذا هناك معان أخرى شبيهة بهذه الغايات الخمس.

فهذه المعاني وهذه الغايات هي الغاية من عمل البلبل الذي يقوم به لأجل الحق سبحانه وتعالى. فالبلبل يغرّد بلغته ونحن نفهم هذه المعاني من نغماته الحزينة، مثلما يفهمها ايضاً الملائكة والروحانيات. وان عدم فهم البلبل لمعنى نغماته معرفة كاملة ليس حائلاً امام فهمنا نحن لذلك، ولا يقدح فيه، والمثل: ((رُب مستمع أوعى من متكلم)) مشهور.

ثم ان عدم معرفة البلبل لهذه الغايات بالتفصيل لا يدل على عدم وجودها، فهو في الأقل كالساعة التي تعرّفك أوقاتك وهي لا تعلم شيئاً مما تعمل. فجهلُها لا يضر بمعرفتك.

اما مرتّب ذلك البلبل ومكافأته الجزئية فهي الذوق الذي يحصل عليه من مشاهدة تبسّم الأزهار الجميلة، والتلذذ الذي يحصل عليه من محاورتها.

أي ان نغماته الحزينة وأصواته الرقيقة ليست شكاوى نابعة من تألمات حيوانية، بل هي شكر وحمد وثناء تجاه العطايا الرحمانية.

وقس على البلبل؛ بلابل النحل والعنكبوت والنمل والهوام والحيوانات الصغيرة، فلكل منها غايات كثيرة في أعمالها، ُادرج فيها ذوق خاص، ولذة مخصوصة، كمرتّب وكمكافئة جزئية، فهي تخدم غايات جليلة لصنعة ربانية بذلك الذوق. فكما ان لعامل بسيط في سفينة السلطان مرتّبهُ الجزئي، كذلك لهذه الحيوانات التي تخدم الخدمات السبحانية مرتّبها الجزئي.

تتمة لبحث البلبل:

لا تحسبنّ ان هذه الوظيفة الربانية في الاعلان والدلالة والتغني بهزجات التسبيحات خاص بالعندليب. بل ان لكل نوع من أكثر انواع المخلوقات صنفاً شبيهاً بالعندليب، له فرد لطيف أو أفراد يمثلون ألطف مشاعر ذلك النوع ويتغنى بألطف التسبيحات بألطف السجعات، ولا سيما أنواع الهوام والحشرات، فبلابلها كثيرة، وعنادلها متنوعة جداً، تُمتّع جميع مَن له آذان صاغية اليهم بدءاً من أصغر حيوان الى أكبره، وتنثر على رؤوسهم تسبيحاتها بأجمل نغماتها.

وقسم من هذه البلابل ليلي، يكونون الأنيس المحبوب والقاصّ المؤنس في ذلك الليل الساكن والموجودات الصامتة، للحيوانات الصغيرة التي خلدت الى الهدوء، حتى كأن كلاً من تلك البلابل قطبٌ في حلقة ذكر خفي وسط ذلك المجلس الذي انسحب كل فرد فيه الى الهدوء والسكون ينصت الى نوع من ذكر الله وتسبيحه، بقلبه المطمئن الى الفاطر الجليل.

وقسم آخر من هذه البلابل نهاري، يعلنون في وضح النهار رحمة الرحمن الرحيم على منابر الاشجار وعلى رؤوس الاشهاد، ويتغنون بها، ولا سيما في موسم الصيف والربيع، وينثرون بتغريداتهم الرقيقة وشَدوِهم اللطيف وتسبيحاتهم المسجّعة الوجدَ والشوق، لدى كل سامع لهم، حتى يشرع السامع بذكر فاطره الجليل بلسانه الخاص، وبنغماته الخاصة.

بمعنى ان لكل نوع من أنواع الموجودات بلبله الخاص به، فهو رئيس حلقة ذكر خاص بهم. بل حتى لنجوم السماء بلبلها الخاص بها، يشدو بأنواره ويترنم باضوائه.

ولكن.. أفضل هذه البلابل طراً وأشرفها وأنورها وابهرها واعظمها وأكرمها، واعلاها صوتاً واجلاها نعتاً واتمّها ذكراً واعمّها شكراً وأكملها ماهية واحسنها صورة، هو الذي يثير الوجدَ والجذب والشوق في الأرض والسماوات العلى، في بستان هذا الكون العظيم، بسجعاته اللطيفة وتضرعاته اللذيذة، وتسبيحاته العلوية.. وهو العندليب العظيم لنوع البشر، في بستان الكائنات، بلبل القرآن لبني آدم، محمد الأمين، عليه وعلى أله وامثاله، أفضل الصلوات واجمل التسليمات.

خلاصة ما سبق: ان الحيوانات الخادمة في قصر الكون تمتثل الأوامر التكوينية امتثالاً تاماً، وتظهر ما في فطرتها من غايات بأجمل صورتها باسم الله. فتسبيحاتها؛ هي قيامها بوظائف حياتها بأبدع طراز بقوة الله سبحانه، وببذل الجهد في العمل. وعباداتها؛ هي هداياها وتحياتها التي تقدمها الى الفاطر الجليل واهب الحياة.

القسم الثالث من العمال: هم النباتات والجمادات.. هؤلاء العمال لا مرتّب لهم ولا مكافأة، لأن لا اختيار لهم، فاعمالهم خالصة لوجه الله. وحاصلة بمحض ارادته سبحانه وباسمه وفي سبيله، وبحوله وقوته. الاّ انه يُستشعر من أحوال النباتات ان لها نوعاً من التـلذذ في ادائها وظــائف التــلــقــيح والــتــوليـد وانمــاء الثــمار. الاّ انها لا تتألم قط، بخلاف الحيوانات التي لها آلام ممزوجة باللذائذ، حيث ان لها اختياراً. ولأجل عدم تدخل الاختيار في أعمال النباتات والجمادات تكون اثارهما أتقن وأكمل من أعمال الحيوانات التي لها اختيار. وفي النحل - مثلاً - التي تتنور بالوحي والالهام، يكون الاتقان في الاعمال أكمل من حيوان آخر يعتمد على جزئه الاختياري.

وكل طائفة من طوائف النباتات في مزرعة الأرض تسأل من فاطرها الحكيم وتدعوه بلسان الحال والاستعداد، قائلة:

يا ربنا آتنا من لدنك قوة، كي ننصب راية طائفتنا في أرجاء الأرض كافة، لنعلن بلساننا عظمة ربوبيتك.. ووفقنا يا ربنا لعبادتك في كل ركن من أركان مسجد الأرض هذا.. وهب لنا قدرة لنسيح في كل ناحية من نواحي معرض الأرض لنشهر فيها نقوش أسمائك الحسنى وبدائع صنعك وعجائبها.

والفاطر الحكيم يستجيب لدعاء النباتات المعنوي هذا، فيهَب لبذور طائفة منها جُنيحات من شعيرات دقيقة لتتمكن بها من الطيران الى كل مكان، فتجعل الناظر اليها يقرأ أسماء الله الحسنى كما في أغلب النباتات الشوكية وقسم من بذور الأزهار الصفراء، ويهب سبحانه لآخر نسيجاً طرياً طيباً يحتاجه الانسان ويرتاح اليه، حتى يجعل الانسان خادماً له، فيزرعه في كل ناحية.. ويهب لطائفة اخرى ما لا يهضم من شبيه العظام مكسواً بما يشبه اللحم تستسيغه الحيوانات، فتنشرها في اقطار الأرض.. ويهب لبعضٍ شويكات دقيقة تتعلق بالأشياء بأدنى تماس. وبهذا ينتقل من مكان الى آخر فينشر راية طائفته هناك.

وهكذا تنشر النباتات بدائع صنع الله سبحانه وتعالى فيهب لقسم آخر علباً مملوءة بالبذور تقذف بها الى مسافة أمتار حين نضوجها..

وقس على هذا المنوال كيف تستنطق النباتات ألسنة كثيرة في ذكر الفاطر الجليل وفي تقديسه. فلقد خلق الفاطر الحكيم والقدير العليم، كل شئ، في أحسن صورة، وفي اكمل انتظام، وجهّزه بأفضل جهاز، ووجّهه الى أحسن وجهة، ووظفه بأحسن وظيفة، فيقوم الشئ بأفضل التسبيحات واجملها، ويؤدي العبادات على أفضل الوجوه.

فان كنت أيها الانسان انساناً حقاً، فلا تقحم الطبيعة والمصادفة والعبثية والضلالة في هذه الأمور الجميلة، ولا تشوّه جمالها بعملك القبيح، فتكون قبيحاً.

القسم الرابع: هو الانسان، فالانسان الذي هو نوع من أنواع الخدم العاملين في هذا القصر، قصر الكون، هذا الانسان شبيه بالملائكة من جهة، وشبيه بالحيوان من جهة اخرى، اذ يشبه الملائكة في العبادة الكلية وشمول الاشراف واحاطة المعرفة وكونه داعياً الى الربوبية الجليلة، بل الانسان هو اكثر جامعية من الملائكة، لأنه يحمل نفساً شريرة شهوية - بخلاف الملائكة - وأمامه نجدان، له ان يختار، اما رقياً عظيماً أو تدنياً مريعاً. ووجه شبه الانسان بالحيوان هو انه يبحث في أعماله عن حظٍ لنفسه، وحصةٍ لذاته، لذا فالانسان له مرتّبان:

الأول: جزئي حيواني معجل

والثاني: كلي ملائكي مؤجل

ولقد ذكرنا في الكلمات الثلاث والعشرين السابقة قسماً من مكافأة ومرتّب الانسان ووظائفه، ومدارج رقيه وتدنيه، ولا سيما في الكلمة (الحادية عشرة والثالثة والعشرين) اذ فيهما تفصيل بيان، لذا نختصر هذا البحث ونختم بابه سائلين العلي القدير ان يفتح علينا أبواب رحمته ويوفقنا الى اتمام هذه الكلمة، راجين منه سبحانه وتعالى ان يعفو عن سيئاتنا ويغفر لنا خطايانا.



الغصن الخامس

لهذا الغصن خمس ثمرات:

C الثمرة الاولى:

يا نفسي المحبة لنفسها، ويا رفيقي العاشق للدنيا!

اعلمي! ان المحبة سبب وجود هذه الكائنات، والرابطة لأجزائها، وانها نور الأكوان، وحياتها.

ولما كان الانسان أجمع ثمرة من ثمرات هذا الكون، فقد اُدرجت في قلبه - الذي هو نواة تلك الثمرة - محبة قادرة على الاستحواذ على الكائنات كلها.

لذا لا يليق بمثل هذه المحبة غير المتناهية الاّ صاحب كمالٍ غير متناهٍ.

فيا نفسي! ويا صاحبي!

لقد أودع الله سبحانه جهازين في فطرة الانسان، ليكونا وسيلتين للخوف وللمحبة، وتلك المحبة والخوف إما سيتوجهان الى الخلق أو الى الخالق. علماً ان الخوف من الخلق بلية أليمة، والمحبة المتوجهة نحوه أيضاً مصيبة منغّصة؛ اذ إنك ايها الانسان تخاف من لا يرحمك، أو لا يسمع استرحامك. فالخوف اذاً في هذه الحالة بلاء أليم.

اما المحبة؛ فان ما تحبه، إما انه لا يعرفك، فيرحل عنك دون توديع - كشبابكَ ومالكَ - أو يحقّرك لمحبتك! ألا ترى ان تسعة وتسعين في المائة من العشاق المجازيين يشكون عن معشوقيهم، ذلك لأن عشق محبوبات دنيوية شبيهة بالاصنام لحد العبادة بباطن القلب الذي هو مرآة الصمد ثقيل في نظر اولئك المحبوبين، إذ الفطرة تردّ كل ما هو ليس فطري وأهلٌ له. (والحب الشهواني خارج عن بحثنا).

بمعنى: ان ما تحبه من أشياء إما انها لا تعرفك أو يحقّرك أو لا يرافقك، بل يفارقك وانفك راغم.

فما دام الأمر هكذا؛ فاصرف هذه المحبة والخوف الى مَن يجعل خوفك تذللاً لذيذاً، ومحبتك سعادة بلا ذلة.

نعم! ان الخوف من الخالق الجليل يعني وجدان سبيل الى رأفته ورحمته تعالى للالتجاء اليه. فالخوف بهذا الاعتبار هو سوط تشويقٍ يدفع الانسان الى حضن رحمته تعالى. اذ من المعلوم ان الوالدة تخوّف طفلها لتضمّه الى صدرها. فذلك الخوف لذيذ جداً لذلك الطفل. لأنه يجذب ويدفع الطفل الى صدر الحنان والعطف. علماً ان شفقة الوالدات كلهن ما هي الاّ لمعة من لمعات الرحمة الإلهية. بمعنى ان في الخوف من الله لذة عظيمة. فلئن كان للخوف من الله لذة الى هذا الحد، فكيف بمحبة الله سبحانه، ألا يفهم كم من اللذائذ غير المتناهية فيها.

ثم ان الذي يخاف من الله ينجو من الخوف من الآخرين، ذلك الخوف الملئ بالقساوة والبلايا.

ثم ان المحبة التي يوليها الانسان الى المخلوقات ان كانت في سبيل الله لا تكون مشوبة بألم الفراق.

نعم، ان الانسان يحب نفسه أولاً، ثم يحب أقاربه، ثم أمته، ثم الاحياء من المخلوقات، ثم الكائنات، ثم الدنيا، فهو ذو علاقة مع كل دائرة من هذه الدوائر، ويمكن ان يتلذذ بلذائذها ويتألم بآلامها. بينما لا يقر قرار لشئ في هذا العالم الصاخب الذي يموج بالهرج والمرج، وتعصف فيه العواصف المدمّرة، لذا ترى قلب الانسان المسكين يجرح دائماً.

فالاشياء التي يتشبث بها هي التي تجرحه بالذهاب عنه، بل قد تقطع يده، لذا لا ينجو الانسان من قلق دائم، وربما يلقي نفسه في أحضان الغفلة والسُكر.

فيا نفسي! ان كنت تعقلين، فاجمعي اذن جميع أنواع تلك المحبة وسلّميها الى صاحبها الحقيقي وانجي من هذه البلايا.

فهذه الأنواع من المحبة غير المتناهية انما هي مخصوصة لصاحب كمال وجمال لا نهاية لهما. ومتى ما سلمتيها الى صاحبها الحقيقي يمكنك ان تحبي الأشياء جميعها باسمه دون قلق ومن حيث انها مراياه.

بمعنى انه ينبغي الاّ تصرفي هذه المحبة مباشرة الى الكائنات، وإلاّ تنقلب المحبةُ الى نقمةٍ أليمة بعد ان كانت نعمة لذيذة.

ظل أمر آخر وهو أهم مما ذكر:

انك يا نفسي تولين وجه محبتك الى نفسك بالذات، فتجعلين نفسك، محبوبة نفسها بل معبودة لها، وتضحين بكل شئ في سبيلها وكأنك تمنحينها نوعاً من الربوبية، مع ان سبب المحبة إما كمال، والكمال محبوب لذاته، أو منفعة أو لذة أو فضيلة أو أي سبب مشابه بهذه الاسباب المؤدية الى المحبة.

والآن يا نفسي!

لقد أثبتنا في عدد من ((الكلمات)) اثباتاً قاطعاً: ان ماهيتك الاصلية هي عجينة مركبة من القصور والنقص والفقر والعجز. فانك حسب الضدّية تؤدين وظيفة المرآة، فبالنقص والقصور والفقر والعجز الموجود في ماهيتك أصلاً، تظهرين كمال الفاطر الجليل وجماله وقدرته ورحمته، مثلما يبيّن الظلامُ الدامس سطوع النور.

فيا أيتها النفس!

عليك الاّ تحبي نفسك بل الأولى لك معاداتها، أو التألم لحالها، والاشفاق عليها، بعد أن تصبح نفساً مطمئنة.

فان كنت تحبين نفسك لكونها منشأ اللذة والمنفعة، وانتِ مفتونة بأذواق اللذة والمنفعة، فلا تفضّلي لذة نفسانية بقدر ذرة على لذة لا نهاية لها ومنافع لا حدّ لها، فلا تكوني كاليراعة التي تغرق جميع الأشياء وجميع أحبتها في وحشة الظلام مكتفية هي بلُميعة في نفسها. لأن لذتك النفسانية ومنفعتك وما تنتفعين من وراء منفعتهم وما تسعدين بسعادتهم وجميع منافع الكائنات ونفعها كلها انما هي من لطف محبوب أزلي سبحانه.

فعليك اذاً ان تحبي ذلك المحبوب الأزلي حتى تلتذي - بسعادتك وبسعادة اولئك - بلذة لا منتهى لها من محبة الكمال المطلق.

وفي الحقيقة ان محبتك الشديدة لنفسك والمغروزة فيك، ما هي الاّ محبة ذاتية متوجهة الى ذات الله الجليلة سبحانه، الاّ انكِ أسأت استعمال تلك المحبة فوجهتيها الى ذاتك، فمزّقي يا نفسي اذن ما فيك من (أنا) واظهري (هو). فان جميع أ نواع محبتك المتفرقة على الكائنات انما هي محبة ممنوحة لك تجاه اسمائه الحسنى وصفاته الجليلة، بيد أنكِ أسأت استعمالها فستنالين جزاء ما قدمت يداك. لأن جزاء محبةٍ غير مشروعة وفي غير محلها، مصيبة لا رحمة فيها.

وان محبوباً أزلياً اعدّ - باسمه الرحمن الرحيم - مسكناً جامعاً لجميع رغباتك المادية، وهو الجنّة المزينة بالحور العين، وهيأ بسائر اسمائه الحسنى آلاءه العميمة لإشباع رغبات روحك وقلبك وسرّك وعقلك وبقية لطائفك. بل له سبحانه في كل اسم من أسمائه الحسنى خزائن معنوية لا تنفد من الاحسان والاكرام. فلاشك ان ذرة من محبة ذلك المحبوب الأزلي تكفي بديلاً عن الكائنات كلها ولا يمكن ان تكون الكائنات برمتها بديلاً عن تجلٍ جزئي من تجليات محبته سبحانه.

فاستمعي يا نفسي واتبعي هذا العهد الأزلي الذي انطقه ذلك المحبوب الأزلي، حبيبه الكريم بقوله تعالى:

] قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله[ (آل عمران: 31).

C الثمرة الثانية:

يا نفس: ان وظائف العبودية وتكاليفها ليست مقدمة لثواب لاحق، بل هي نتيجة لنعمة سابقة.

نعم؛ نحن قد أخذنا أجرتنا من قبل، وأصبحنا بحسب تلك الاجرة المقدمة لنا مكلفين بالخدمة والعبودية؛ ذلك:

لان الخالق ذا الجلال والاكرام الذي ألبسك – ايتها النفس – الوجود وهو الخير المحض قد أعطاك باسمه (الرزاق) معدة تتذوّقين وتتلذذين بجميع ما فرشه أمامك على مائدة النعمة من مأكولات. ثم انه وهب لك حياة حساسة، فهي كالمعدة تطلب رزقا لها، فوضع امام حواسك من عين وأذن وهي كالأيدي مائدة نعمة واسعة سعة سطح الارض. ثم وهب لك انسانية تطلب بدورها أرزاقاً معنوية كثيرة، ففتح امام معدة الانسانية آفاق الملك والملكوت بمقدار ما يصل اليه العقل.

وبما وهب لك من الاسلام والايمان الذي هو (الانسانية الكبرى) والذي يطلب نعماً لا نهاية لها، ويتغذى على ثمار الرحمة التي لا تنفد، فتح لك مائدة النعمة والسعادة واللذة الشاملة للاسماء الحسنى، والصفات الربانية المقدسة، ضمن دائرة الممكنات. ثم أعطاك المحبة التي هي نور من أنوار الايمان، فأحسن اليك بمائدة نعمة وسعادة ولذة لا تنتهي أبداً.

بمعنى انك قد اصبحت - باحسانه سبحانه وتعالى - بحسب جسمك الصغير المحدود المقيد الذليل العاجز الضعيف من جزء الى كلّي، والى كلّ نوراني، اذ قد رفعك من الجزئية الى نوع من الكلية، بما أعطاك (الحياة)، ثم الى الكلية الحقيقية، بما وهب لك (الانسانية)، ثم الى الكلية النورانية السامية بما أحسن اليك (الايمان) ومنها رفعك الى النور المحيط الشامل بما أنعم عليك من (المعرفة والمحبة).

فيا نفس!

لقد قبضت مقدماً كل هذه الاجور والاثمان؛ ثم كلّفت بالعبودية وهي خدمة لذيذة وطاعـة طيبة بـل مريـحة خفيفة؛ أفبعد هذا تتكاسلين عن أداء هذه الخدمة العظيمة المـشرفة؟ وتـقولين بدلال: لِمَ لا يقبل دعـائي. حـتى اذا ما قمت بالخدمة بشكل مهلـهل تطالبين باجرة عظيمة اخرى، وكأنك لم تكتفي بالاجرة السابقة؟

نعم؛ انه ليس من حقك الدلال أبداً، وانما من واجبك التضرع والدعاء، فالله سبحانه وتعالى يمنحك الجنة والسعادة الابدية بمحض فضله وكرمه، لذا فالتجئى الى رحمته، واعتمدي عليها، ورددى هذا النداء العلوي الرباني:

] قل بفـضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون[ (يونس:58)

واذا قلت: كيف يمكنني أن أقابل تلك النعم الكلية التي لا تحد بشكري المحدود الجزئي؟

فالجواب: بالنية الكلية، وبالاعتقاد الجازم الذي لا حدّ له.

فمثلاً: ان رجلا يدخل الى ديوان السلطان بهدية زهيدة متواضعة بقيمة خمسة فلوس، ويشاهد هناك هدايا مرصوصة تقدر أثمانها بالملايين أرسلت الى السلطان من قبل ذوات مرموقين. فعندها يناجي نفسه: ماذ اعمل؟ ان هديتي زهيدة ولا شئ! الاّ انه يستدرك ويقول فجأة :

- يا سيدي؛ انني اقدم لك جميع هذه الهدايا باسمي، فانك اهل لها، ويا سيدي العظيم، لو كان باستطاعتي ان اقدّم لك أمثال أمثال هذه الهدايا الثمينة لما ترددت.

وهكذا فالسلطان الذي لا حاجة له الى أحد والذي يقبل هدايا رعاياه رمزاً يشير الى مدى اخلاصهم وتعظيمهم له، يقبل تلك الهدية المتواضعة جداً من ذلك الرجل المسكين كأنها أعظم هدية، وذلك بسبب تلك النية الخالصة منه، والرغبة الصادقة، واليقين الجازم الجميل السامي.

وهكذا، فالعبد العاجز عندما يقول في الصلاة: (التحيات لله) ينوى بها:

انني ارفع اليك يا إلهي باسمي هدايا العبودية لجميع المخلوقات - التي هي حياتها - فلو كنت استطيع ان اقدم التحيات اليك يا ربي بعددهم لما احجمت ولا ترددت، فانك أهلٌ لذاك، بل اكثر.

فهذه النية الصادقة والاعتقاد الجازم، هي الشكر الكلي الواسع.

ولنأخذ مثلاً من النباتات حيث النوى والبذور فيها بمثابة نيّاتها. فالبطيخ مثلاً يقول بما ينوى من آلاف النوى التي في جوفه: يا خالقي انني على شوق ورغبة أن اعلن نقوش اسمائك الحسنى في ارجاء الارض كلها.

وحيث أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يحـدث وكيف يحدث، فانه يقبل النية الصادقة كأنها عـبادة فعلية، اي كأنها حدثت. ومن هنا تعلم كيف ان نية المؤمن خير من عمله، وتفهم كذلك حكمة التسبيح باعداد غير نهائية في مثل:

(سبحانك وبحمدك عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك)(1) ونسبحك بجميع تسبيحات أنبيائك وأوليائك وملائكتك.

فكما ان الضابط المسؤول عن الجنود يقدم اعمالهم وانجازاتهم الى السلطان باسمه، كذلك هذا الانسان الذي هو ضابط على المخلوقات، وقائد للنباتات والحيوانات، ومؤهل ليكون خليفة على موجودات الارض، ويعدّ نفسه مسـؤولاً ووكيلاً عمّا يحدث فـي عالمه الخاص.. يقول بلسان الجميع: ] اياك نعبد واياك نستعين[ فيقدّم الى المعبود ذي الجلال جميع عبادات الخلق واستعاناتهم.. ويجعل الموجودات قاطبة كذلك تتكلم باسمه وذلك عند قوله:

سبحانك بجميع تسبيحات جميع مخلوقاتك، وبألسنة جميع مصنوعاتك.

ثم انه يصلى على النبي e باسم جميع الاشياء على الارض:

اللّهم صلّ على محمد بعدد ذرات الكائنات ومركباتها.. اذ ان كل شئ في الوجود له علاقة مع النور المحمدي عليه الصلاة والسلام.

وهكذا افهم حكمة الاعداد غير النهائية في التسبيحات والصلوات.

C الثمرة الثالثة:

فيا نفس! ان كنت حقاً تريدين ان تنالي عملاً أخروياً خالداً في عمر قصير؟ وان كنت حقاً تريدين ان تري فائدة في كل دقيقة من دقائق عمرك كالعمر الطويل؟ وان كنت حقاً تريدين أن تحوّلي العادة الى عبادة وتبدلي غفلتك الى طمأنينة وسكينة. فاتبعي السنّة النبوية الشريفة.. ذلك: لان تطبيق السنّة والشرع في معاملةٍ ما ، يورث الطمأنينة والسكينة، ويصبح نوعاً من العبادة، بما يثمر من ثمرات اخروية كثيرة.

فمثلاً: اذا ابتعت شيئاً، ففي اللحظة التي تطبق الامر الشرعي - الايجاب والقبول - فان جميع هذا البيع والشراء يأخذ حكم العبادة حيث تذكرك بالحكم الشرعي، مما يعطي تصوّراً روحياً، وهذا التصور يذكرك بالشارع الجليل سبحانه، اي يعطي توجهاً إلهياً. وهذا هو الذي يسكب السكينة والطمأنينة في القلب.

اي ان انجاز الاعمال وفق السنة الشريفة يجعل العمل الفاني القصير مداراً للحياة الابدية، ذات ثمار خالدة. لذا فانصتي جيداً الى قوله تعالى:

] فآمنوا بالله ورسوله النبي الامّي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون[ (الاعراف:158) واسعي ان تكوني مظهراً جامعاً شاملاً لفيض تجلٍ لكل اسم من تجليات الاسماء الحسنى المنتشرة في احكام السنة الشريفة والشرع.

C الثمرة الرابعة:

ايتها النفس! لا تقلدي أهل الدنيا، ولا سيما أهل السفاهة وأهل الكفر خاصة، منخدعةً بزينتهم الظاهرية الصورية، ولذائذهم الخادعة غير المشروعة، لانك بالتقليد لا تكونين مثلهم قطعاً، بل تتردىن كثيراً جداً، بل لن تكوني حتى حيواناً ايضاً، لأن العقل الذي في رأسك يصبح آلة مشؤومة مزعجة تنزل بمطارقها على رأسك، اذ ان كان ثمة قصر فخم فيه مصباح كهربائي عظيم تشعبت منه قوة الكهرباء الى مصابيح أصغر فأصغر موزعة في منازل صغيرة مرتبطة كلها بالمصباح الرئيس. فلو أطفأ أحدهم المصباح الكهربائي الكبير، فسيعم الظلام المنازل الأخرى كلها وتستولى الوحشة فيها، ولكن لأن هناك مصابيح في قصور أخرى غير مربوطة بالمصباح الكبير في القصر الفخم، فان صاحب القصر هذا إن أطفأ المصباح الكهربائي الكبير فان مصابيح صغيرة تعمل على الاضاءة في القصور الأخرى، ويمكنه ان يؤدي بها عمله، فلا يستطيع اللصوص نهب شئ منه.

فيا نفسي!

القصر الأول، هو المسلم، والمصباح الكبير، هو؛ سيدنا الرسول e في قلب ذلك المسلم، فإن نسيه وأخرج الايمان به من قلبه - والعياذ بالله - فلا يؤمن بعدُ بأي نبي آخر. بل لا يبقى موضع للكمالات في روحه، بل ينسى ربه الجليل ويكون ما اُدرج في ماهيته من منازل ولطائف طعمة للظلام، ويحدث في قلبه دماراً رهيباً وتستولي عليه الوحشة، تُرى ما الذي يغني عن هذا الدمار الرهيب، وما النفع الذي يكسبه حتى يستطيع ان يعمرّ ذلك الدمار والوحشة؟!

أما الاجانب فانهم يشبهون القصر الثاني، بحيث لو أخرجوا نور محمد e من قلوبهم، تظل لديهم أنوار - بالنسبة لهم - أو يظنون أنها تظل! اذ يمكن ان يبقى لديهم شئ من العقيدة بالله والايمان بموسى وعيسى - عليهما السلام - والذي هو محور كمال اخلاقياتهم.

فيا نفسي الامارة بالسوء!

اذا قلت: انا لا أريد أن اكون اجنبياً بل حيواناً، فلقد كررنا عليك القول يا نفسي! إنك لن تكوني حتى كالحيوان، لانك تملكين عقلاً. فهذا العقل - الجامع لآلام الماضي ومخاوف المستقبل - يُنزل ضرباتٍ موجعة وصفعات مؤلمة برأسك وعينك، فيذيقك الوف الآلام في ثنايا لذة واحدة، بينما الحيوان يستمتع بلذة غير مشوبة بالآلام. لذا ان أردت ان تكوني حيواناً فتخلّي عن عقلك أولاً وارميه بعيداً، وتعرّضي لصفعة التأديب في الآية الكريمة: ] كالانعام بل هم أضل[ (الاعراف: 179).

C الثمرة الخامسة:

يا نفس! لقد كررنا القول: ان الانسان ثمرة شجرة الخلقة، فهو كالثمرة أبعد شئ عن البذرة، واجمع لخصائص الكل، وله نظر عام الى الجميع، ويضم جهة وحدة الكل، فهو مخلوق يحمل نواة القلب، ووجهه متوجه الى الكثرة - من المخلوقات - والى الفناء، والى الدنيا، ولكن العبادة التي هي حبل الوصال، أو نقطة اتصال بين المبدأ والمنتهى، تصرف وجه الانسان من الفناء الى البقاء، ومن الخلق الى الحق، ومن الكثرة الى الوحدانية، ومن المنتهى الى المبدأ.

لو أن ثمرة قيمة ذات ادراك أوشكت على ان تكوّن البذور، تباهت بجمالها ونظرت الى أسفل منها من ذوي الأرواح وألقت نفسها في أيديهم أو غفلت فسقطت ، فلا شك انها تتفتت وتتلاشى في ايديهم، وتضيع كأية ثمرة اعتيادية، ولكن تلك الثمرة المدركة ان وجدت نقطة استنادها وتمكنت من التفكير في انها ستكون وساطة لبقاء الشجرة واظهار حقيقتها ودوامها، عما تخبئ في نفسها من جهة الوحدة للشجرة، فان البذرة الواحدة لتلك الثمرة الواحدة تنال حقيقة كلية دائمة ضمن عمر باق دائم..

فالانسان الذي تاه في كثرة المخلوقات وغرق في الكائنات، وأخذ حب الدنيا بلبه حتى غره تبسم الفانيات وسقط في أحضانها، لاشك ان هذا الانسان يخسر خسراناً مبيناً، اذ يقع في الضلال والفناء والعدم، أي يعدم نفسه معنى.

ولكن اذا ما رفع هذا الانسان رأسه واستمع بقلب شهيد لدروس الايمان من لسان القرآن، وتوجّه الى الوحدانية فانه يستطيع ان يصعد بمعراج العبادة الى عرش الكمالات والفضائل فيغدو انساناً باقياً.

يا نفسي! لما كانت الحقيقة هي هذه، وانت من الملة الابراهيمية فقولي على غرار سيدنا ابراهيم: ] لا أحب الافلين[ وتوجهي الى المحبوب الباقي وابكي مثلي، قائلة:

(الأبيات الفارسية لم تدرج هنا، حيث أدرجت في المقام الثاني من الكلمة السابعة عشرة).

عبدالرزاق 02-02-2011 02:12 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة الخامسة والعشرون



رسالة المعجزات القرآنية

ارى من الفضول التحري عن برهانٍ وفي اليد معجزة خالدة، القرآن

اتُراني أتضايق من إلزام الجاحدين، وفي اليد برهان الحقيقة، القرآن



تنبيه:

لقد عزمنا في بداية هذه الكلمة على ان نكتب خمس شُعَل، ولكن في اواخر الشعلة الاولى - قبل وضع الحروف الجديدة بشهرين(1)1 - اضطررنا الى الأسراع في الكتابة لطبعها بالحروف القديمة، حتى كنا نكتب - في بعض الأيام - عشرين او ثلاثين صحيفة في غضون ساعتين او ثلاث ساعات، لذا اكتفينا بثلاث شُعَلٍ فكتبناها مجملةً مختصرة، وتركنا الآن شعلتين.

فآمل من اخواني الكرام ان ينظروا بعين الأنصاف والمسامحة الى ما كان مني من تقصيرات ونقائص واشكالات واخطاء.

ان كل آية من اكثر الآيات الواردة في هذه الرسالة ((المعجزات القرآنية)) إما أنها اصبحت موضع انتقاد الملحدين، أو أصابها اعتراض اهل العلوم الحديثة، أَو مسَّتها شبهات شياطين الجن والانس واوهامهم.

ولقد تناولت هذه (الكلمة الخامسة والعشرون) تلك الآيات وبيَّنت حقائقها ونكاتها الدقيقة على أفضل وجه، بحيث ان ما ظنه اهلُ الالحاد والعلوم من نقاط ضعف ومدار نقص، أثبتته الرسالة بقواعدها العلمية أنه لمعات اعجاز ومنابع كمال بلاغة القرآن.

اما الشبهات فقد اُجيبت عنها اجوبة قاطعة من دون ذكر الشبهة نفسها وذلك لئلا تتكدر الأذهان. كما في الآية الكريمة ] والشــمــس تجــري..[ ] والجبال اوتاداً[ . إلاّ ما ذكرناه من شبهاتهم في المقام الأول من الكلمة العشرين حول عدد من الآيات.

ثم ان هذه الرسالة (المعجزات القرآنية) وإن كُتبت باختصار شديد وفي غاية السرعة إلاّ أنها قد بيّنت جانب البلاغة وعلوم العربية بياناً شافياً باسلوب علمي رصين وعميق يثير اعجاب العلماء.

وعلى الرغم من ان كل بحث من بحوثها لا يستوعبه كل مهتم ولا يستفيد منه حق الفائدة، فإن لكلٍ حظه المهم في تلك الرياض الوارفة.

والرسالة وإن أُلّفت في اوضاع مضطربة وكتبتْ على عجل، ومع ما فيها من قصور في الافادة والتعبير، إلاّ انها قد بينت حقائق كثير من المسائل المهمة من وجهة نظر العلم.



سعيد النورسي

























رسالة المعجزات القرآنية



بسم الله الرحمن الرحيم

] قل لئن اجتمعتِ الانسُ والجن على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلهِ ولو كانَ بعــضُهم لبعـضٍ ظهيراً[ (الاسراء:88)



لقد اشرنا الى نحو أربعين وجهاً من وجوه إعجازٍ لا تُحد للقرآن الحكيم الذي هو منبع المعجزات والمعجزة الكبرى للرسول الكريم e ، وذلك في رسائلي العربية، وفي رسائل النور العربية، وفي تفسيري الموسوم بـ (( اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) وفي الكلمات الاربع والعشرين السابقة.

وفي هذه الرسالة نشير الى خمسةٍ من تلك الوجوه ونبيّنها بشئٍ من التفصيل، وندرج فيها سائر الوجوه مجملةً.

وفي المقدمة نشير الى تعريف القرآن الكريم وماهيته.

















المقدمة

(( عبارة عن ثلاثة اجزاء))



U الجزء الأول:

القرآن ما هو؟ وما تعريفه؟

لقد وضّح في الكلمة التاسعة عشرة واثبت في رسائل اخرى ان القرآن:

هو الترجمةُ الازلية لكتاب الكائنات الكبير.. والترجمانُ الابدي لألسنتها المتنوعة التالية للايات التكوينية.. ومفسّرُ كتاب عالَم الغيب والشهادة.. وكذا هو كشّافٌ لمخفيات الكنوز المعنوية للاسماء الإلهية المستترة في صحائف السماوات والأرض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المضمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان عالَم الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية الواردة من عالم الغيب المستور وراء حجاب عالم الشهادة هذا.. وكذا هو شمسُ عالم الاسلام المعنوي وأساسُه وهندسته.. وكذا هو خريطةٌ مقدسةٌ للعوالم الاخروية.. وكذا هو القولُ الشارح والتفسيرُ الواضح والبرهانُ القاطع والترجمان الساطع لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو المربي لهذا العالم الانساني.. وكالماء والضياء للانسانية الكبرى التي هي الاسلام.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر.. وهو المرشد المهدي الى ما يسوق الأنسانية الى السعادة.. وكذا هو للانسان: كما انه كتاب شريعةٍ، كذلك هو كتابُ حكمةٍ، وكما انه كتابُ دعاءٍ وعبوديةٍ، كذلك هو كتابُ أمرٍ ودعوةٍ، وكما أنه كتابُ ذكرٍ كذلك هو كتابُ فكرٍ.. وهو الكتاب الوحيد المقدس الجامع لكل الكتب التي تحقق جميع حاجات الانسان المعنوية، حتى انه قد ابرز لمشرَب كلِّ واحدٍ من اهل المشارب المختلفة، ولمسلك كلِّ واحدٍ من اهل المسالك المتباينة من الاولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرَب وتنويره، ولمساقِ ذلك المسلك وتصويره. فهذا الكتاب السماوي اشبهُ ما يكون بمكتبةٍ مقدسةٍ مشحونةٍ بالكتب.

U الجزء الثاني وتتمة التعريف: لقد وضّح في ( الكلمة الثانية عشرة) واثبت فيها: ان القرآن قد نزل من العرش الاعظم، من الاسم الاعظم، من اعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى؛ فهو كلام الله بوصفه ربّ العالمين، وهو امر الله بوصفه إله الموجودات، وهو خطابه بوصفه خالق السموات والارض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطاب ازلي باسم السلطنة الإلهية الشاملة العظمى، وهو سجل الالتفات والتكريم الرحماني النابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ، وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الالوهية – اذ في بدايات بعضها رموز وشفرات – وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة، نازلٌ من محيط الاسم الاعظم ينظر الى ما احاط به العرش الاعظم. ومن هذا السر اُطلق على القرآن الكريم ويطلق عليه دوماً ما يستحقه من اسم وهو: ( كلام الله) . وتأتي بعد القرآن الكريم الكتب المقدسة لسائر الانبياء عليهم السلام وصحفهم. أما سائر الكلمات الإلهية التي لا تنفد، فمنها ما هو مكالمة في صورة إلهامٍ نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجلٍ خاص لإسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فإلهامات المَلَك والبشر والحيوانات مختلفة جداً من حيث الكلية والخصوصية.

U الجزء الثالث: ان القرآن الكريم، كتاب سماوي يتضمن اجمالاً؛ كتبَ جميع الانبياء المختلفة عصورهم، ورسائل جميع الاولياء المختلفة مشاربهم، وآثار جميع الاصفياء المختلفة مسالكهم.. جهاتُه الست مُشرقة ساطعة نقية من ظلمات الاوهام، طاهرةٌ من شائبة الشبهات؛ اذ نقطةُ استناده: الوحي السماوي والكلام الأزلي باليقين.. هدفُه وغايتُه: السعادة الابدية بالمشاهدة.. محتواه: هداية خالصة بالبداهة.. أعلاه: انوار الايمان بالضرورة.. أسفله: الدليل والبرهان بعلم اليقين.. يمينُه: تسليم القلب والوجدان بالتجربة.. يساره: تسخير العقل والاذعان بعين اليقين.. ثمرتُه: رحمة الرحمن ودار الجنان بحق اليقين.. مقامُه: قبول المَلَك والانس والجان بالحدس الصادق.

ان كل صفةٍ من الصفات المذكورة في تعريف القرآن الكريم باجزائه الثلاثة، قد اثبتت اثباتاً قاطعاً في مواضع اخرى أو ستُثبت، فدعوانا ليست مجرد إدعاء من دون دليل، بل كل منها مبرهنة بالبرهان القاطع.

الشعلة الأولى

(( هذه الشعلة لها ثلاث اشعات))

الشعاع الاول

بلاغة القرآن معجزة

هذه البلاغة المعجزة نَبعت من جزالة نظم القرآن وحسن متانته، ومن بداعة أساليبه وغرابتها وجودتها، ومن براعة بيانه وتفوقه وصفوته، ومن قوة معانيه وصدقها، ومن فصاحة ألفاظه وسلاستها.

بهذه البلاغة الخارقة تحدى القرآن الكريم، منذ ألف وثلاث مئة من السنين، أذكى بلغاء بني آدم وأبرع خطبائهم وأعظم علمائهم، فما عارضوه، وما حاروا ببنت شفة، مع شدة تحديه اياهم، بل خضعت رقابهم بذل، ونكسوا رؤوسهم بهوان، مع أن من بلغائهم مَن يناطح السحاب بغروره.

نشير الى وجه الاعجاز في بلاغته بصورتين:

الصورة الاولى:

ان أكثر سكان جزيرة العرب كانوا في ذلك الوقت أميين، لذا كانوا يحفظون مفاخرهم ووقائعهم التاريخية وأمثالهم وحكمهم ومحاسن أخلاقهم في شعرهم، وبليغ كلامهم المتناقل شفاهاً، بدلاً من الكتابة. فكان الكلام الحكيم ذو المغزى يستقر في الاذهان ويتناقله الخلف عن السلف. فهذه الحاجة الفطرية فيهم دفعتهم الى أن يكون أرغب متاع في أسواقهم وأكثره رواجاً هو: الفصاحة والبلاغة، حتى كان بليغ القبيلة رمزاً لمجدها وبطلاً من أبطال فخرها. فهؤلاء القوم الذين ساسوا العالم بفطنتهم بعد اسلامهم كانوا في الصدارة والقمة في ميدان البلاغة بين أمم العالم. فكانت البلاغة رائجة وحاجتهم اليها شديدة حتى يعدونها مدار اعتزازهم، بل حتى كانت رحى الحرب تدور بين قبيلتين أو يحل الوئام بينهما بمجرد كلام يصدرعن بليغهم بل كتبوا سبع قصائد بماء الذهب لأبلغ شعرائهم وعلقوها على جدار الكعبة، فكانت (المعلقات السبعة) التي هي رمز فخرهم.

ففي مثل هذا الوقت الذي بلغت فيه البلاغة قمة مجدها، ومرغوب فيها الى هذا الحد، نزل القرآن الكريم - بمثل ما كـانت معــجزة ســيدنا مــوسى وعيسى عليهما السلام من جنس ما كان رائجاً في زمانهما، وهو السحر والطب - نزل في هذا الوقت متحدياً ببلاغته بلاغة عصره وكل العصور التالية، ودعا بلغاء العرب الى معارضته، والاتيان ولو بأقصر سورة من مثله، فتحداهم بقوله تعالى:] وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله[ (البقرة: 23) واشتد عليهم بالتحدي ] فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار[ (البقرة:24) أي: ستساقون الى جهنم وبئس المصير. فكان هذا يكسر غرورهم، ويستخف بعقولهم ويسفّه أحلامهم، ويقضي عليهم في الدنيا بالاعدام كما هو في الآخرة، أي: إما أن تأتوا بمثله أو أن ارواحكم واموالكم في خطر، ما دمتم مصرين على الكفر!

وهكذا فلو كانت المعارضة ممكنة فهل يمكن اختيار طريق الحرب والدمار، وهي أشد خطراً وأكثر مشقة. وبين أيديهم طريق سهلة هينة، تلك هي معارضته ببضعة أسطر تماثله، لإبطال دعواه وتحديه؟

أجل! هل يمكن لاولئك القوم الاذكياء الذين أداروا العالم بسياستهم وفطنتهم أن يتركوا أسهل طريق وأسلمها، ويختاروا الطريق الصعبة التي تلقي ارواحهم وأموالهم الى الهلاك؟

اذ لو كان باستطاعة بلغائهم أن يعارضوا القرآن ببضعة حروف، لتخلى القرآن عن دعواه، ولنجوا من الدمار المادي والمعنوي، والحال أنهم اختاروا طريق الحرب المريعة الطويلة. بمعنى أن المعارضة بالحروف محالة ولا يمكنهم ذلك بحال من الاحوال، لذا عمدوا الى المقارعة بالسيوف.

ثم أن هناك دافعين في غاية القوة لمعارضة القرآن واتيان مثيله وهما:

الاول: حرص الاعداء على معارضته.

الثاني: شغف الاصدقاء على تقليده.

ولقد ألفت تحت تأثير هذين الدافعين الشديدين ملايين الكتب بالعربية، من دون أن يكون كتاب واحد منها شبيهاً بالقرآن قط، اذ كل من يراها - سواءٌ أكان عالماً أو جاهلاً - لا بد أن يقول: القرآن لا يشبه هذه الكتب، ولايمكن أن يعارض واحد منها القرآن قطعاً. ولهذا فاما أن القرآن أدنى بلاغة من الكل، وهذا باطل محال باتفاق الاعداء والاصدقاء، وإما أن القرآن فوقها جميعاً، واسمى واعلى.

فان قلت: كيف نعلم أن أحداً لم يحاول المعارضة؟ ألم يعتمد أحد على نـفسه وموهبته ليبرز في ميدان التحدي؟ أوَلم ينفع تعاونهم ومؤازرة بعضهم بعضاً؟

الجواب: لو كانت المعارضة ممكنة، لكانت المحاولة قائمة لا محالة، لان هناك قضية الشرف والعزة وهلاك الارواح والاموال. فلو كانت المعارضة قد وقعت فعلاً، لكان الكثيرون ينحازون اليها، لان المعارضين للحق والعنيدين كثيرون دائماً. فلو وجد مَن يؤيد المعارضة لاشتهر به، اذ كانوا ينظمون القصائد لخصام طفيف، ويجعلونها في المآثر، فكيف بصراع عجيب كهذا يبقى مستوراً في التاريخ؟

ولقد نقلت واشتهرت أشنع الاشاعات وأقبحها طعناً بالاسلام، ولم تنقل سوى بضع كلمات تقوَّلها مسيلمة الكذاب لمعارضة القرآن. ومسيلمة هذا، وإن كان صاحب بلاغة لا يستهان به إلاّ أن بلاغته عندما قورنت مع بلاغة القرآن التي تفوق كل حسن وجمال عُدَّت هذياناً. ونقل كلامه هكذا في صفحات التاريخ.

وهكذا فالاعجاز في بلاغة القرآن يقين كيقين حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً. ولهذا يكون الامر هكذا.

الصورة الثانية:

سنبين حكمة الاعجاز في بلاغة القرآن بخمس نقاط:

النقطة الاولى:

ان في نظم القرآن جزالة خارقة، وقد بيّن كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز) من أوله الى آخره هذه الجزالة والمتانة في النظم، اذ كما أن عقارب الساعة العادَّة للثواني والدقائق والساعات يكمل كل منها نظام الآخر، كذلك النظم في هيئات كل جملة من جمل القرآن، والنظام الذي في كلماته، والانتظام الذي في مناسبة الجمل كل تجاه الآخر، وقد بُيّن كل ذلك بوضوح تام في التفسير المذكور. فمن شاء فليراجعه ليتمكن من أن يشاهد هذه الجزالة الخارقة في أجمل صورها، إلاّ اننا نورد هنا مثالين فقط لبيان نظم الكلمات المتعانقة لكل جملة (والتي لا يصلح مكانها غيرها بتناسق وتكامل).

C المثال الاول:

قوله تعالى:] ولـئـن مسّـْتهـم نـفحـةٌ مـن عـذابِ ربـّك[ (سورة الانبياء:46)

هذه الجملة مسوقة لإظهار هول العذاب، ولكن باظهار التأثير الشديد لأقله، ولهذا فان جميع هيئات الجملة التي تفيد التقليل تنظر الى هذا التقليل وتمده بالقوة كي يظهر الهول:

فلفظ (لئن) هو للتشكيك، والشك يوحي القلة.

ولفظ (مسَّ) هو اصابة قليلة، يفيد القلة أيضاً.

ولفظ (نفحة) مادته رائحة قليلة، فيفيد القلة، كما أن صيغته تدل على واحدة، أي واحدة صغيرة، كما في التعبير الصرفي - مصدر المرة - فيفيد القلة..

وتنوين التنكير في (نفحةٌ) هي لتقليلها، بمعنى أنها شئ صغير الى حد لا يُعلم، فيُنكر.

ولفظ (من) هو للتبعيض، بمعنى جزء، فيفيد القلة.

ولفظ (عذاب) هو نوع خفيف من الجزاء بالنسبة الى النكال والعقاب، فيشير الى القلة.

ولفظ (ربك) بدلاً من: القهار، الجبار، المنتقم، فيفيد القلة أيضاً وذلك باحساسه الشفقة والرحمة.

وهكذا تفيد الجملة أنه:

اذا كان العذاب شديداً ومؤثراً مع هذه القلة، فكيف يكون هول العقاب الإلهي؟ فتأمل في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئات الصغيرة، فيُعين كلٌ الآخر، فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة.

هذا المثال الذي سقناه يلحظ اللفظ والمقصد.

C المثال الثاني:

قوله تعالى: ] ومما رزقناهم يُنفقون[ (البقرة: 3)

فهيئات هذه الجملة تشير الى خمسة شروط لقبول الصدقة:

الشرط الاول: المستفاد من ((من)) التبعيضية في لفظ (مما) أي: أن لا يبسط المتصدق يده كل البسط فيحتاج الى الصدقة.

الشرط الثاني: المستفاد من لفظ (رزقناهم) أي: أن لا يأخذ من زيد ويتصدق على عمرو، بل يجب أن يكون من ماله، بمعنى: تصدقوا مما هو رزق لكم.

الشرط الثالث: المستفاد من لفظ (نا) في (رزقنا) أي: أن لا يمنَّ فيستكثر، أي: لا منّة لكم في التصدق، فأنا أرزقكم، وتنفقون من مالي على عبدي.

الشرط الرابع: المستفاد من (ينفقون) أي: أن ينفق على مَن يضعه في حاجاته الضرورية ونفقته، وإلاّ فلا تكون الصدقة مقبولة على مَن يصرفها في السفاهة.

الشرط الخامس: المستفاد من (رزقناهم) أيضاً. أي: يكون التصدق باسم الله، أي: المال مالي، فعليكم أن تنفقوه باسمي.

ومع هذه الشروط هناك تعميم في التصدق، اذ كما أن الصدقة تكون بالمال، تكون بالعلم ايضاً، وبالقول والفعل والنصيحة كذلك، وتشير الى هذه الاقسام كلمة (ما) التي في (مما) بعموميتها. وتشير اليها في هذه الجملة بالذات، لانها مطلقة تفيد العموم.

وهكذا تجُود هذه الجملة الوجيزة - التي تفيد الصدقة - الى عقل الانسان خمسة شروط للصدقة مع بيان ميدانها الواسع، وتشعرها بهيئاتها.

وهكذا، فلهيئات الجمل القرآنية نظمٌ كثيرة أمثال هذه.

وكذا للكلمات القرآنية أيضاً ميدان نظم واسع مثل ذلك، كل تجاه الآخر. وكذا للكلام القرآني ولجمله دوائر نظم كتلك.

C فمثلاً: قوله تعالى:

] قل هو الله أحد^ الله الصمد^ لم يلد ولم يولد^ ولم يكن له كفواً أحد[ .

هذه الآيات الجليلة فيها ست جمل: ثلاث منها مثبتة وثلاث منها منفية، تثبت ست مراتب من التوحيد كما تردّ ستة أنواع من الشرك. فكل جملة منها تكون دليلاً للجمل الاخرى كما تكون نتيجة لها. لان: لكل جملة معنيين، تكون باعتبار أحدهما نتيجة، وباعتبار الآخر دليلاً.

أي أن سورة الاخلاص تشتمل على ثلاثين سورة من سور الاخلاص. سور منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضها بعضاً، على النحو الآتي:

] قل هو الله[ لانه أحد، لانه صمد، لانه لم يلد، لانه لم يولد،لانه لم يكن له كفواً أحد.



وكذا: ] ولم يكن له كفواً[ : لانه لم يولد، لانه لم يلد، لانه صمد، لانه أحد، لانه هو الله.

وكذا: ] هو الله[ فهو أحد، فهو صمد، فاذاً لم يلد، فاذاً لم يولد، فاذاً لم يكن له كفواً أحد.

وهكذا فقس على هذا المنوال.

C ومثلاً: قوله تعالى:

] الم ^ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين[ (البقرة:1،2)

فلكلٍ من هذه الجمل الاربع معنيان: فباعتبار أحدهما يكون دليلاً للجمل الاخرى، وباعتبار الآخر نتيجة لها. فيحصل من هذا نقش نظمي اعجازي من ستة عشر خطاً من خطوط المناسبة والعلاقة.

وقد بين ذلك كتاب (اشارات الاعجاز) حتى كأن لكل آية من أكثر الآيات القرآنية عيناً ناظرة الى أكثر الآيات، ووجهاً متوجهاً اليها، فتمد الى كل منها خطوطاً معنوية من المناسبات والارتباطات، ناسجة نقشاً اعجازياً. كما بُيّن ذلك في ( الكلمة الثالثة عشرة).

وخير شاهد على هذا (اشارات الاعجاز) اذ من اول الكتاب الى اخره شرح لجزالة النظم هذه.

النقطة الثانية:

البلاغة الخارقة في معناه، اذا شئت ان تتذوق بلاغة المعنى في الآية الكريمة:

] سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم[ (الحديد: 1)

فانظر الى هذا المثال الموضّح في ( الكلمة الثالثة عشرة) . فتصوَّر نفسَك قبل مجئ نور القرآن، في ذلك العصر الجاهلي، وفي صحراء البداوة والجهل، فبينما تجد كل شئٍ قد اُسدل عليه ستارُ الغفلة وغشيَه ظلامُ الجهل ولُفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد بصدى قوله تعالى:] سبح لله ما في السموات والارض او تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن[ (الاسراء: 44) قد دبّت الحياةُ في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة بصدى (سبح..) و (تسبّح) في اذهان السامعين فتنهض مسبحةً ذاكرة الله. وان وجه السماء المظلمة التي تستعرّ فيها نجومٌ جامدة والارض التي تدبّ فيها مخلوقاتٌ عاجزة، تتحول في نظر السامعين بصدى (تسبح) وبنوره الى فمٍ ذاكر لله، كلُّ نجمٍ يشع نور الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بالغة. ويتحول وجهُ الارض بذلك الصدى السماوي ونوره الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

C ومثلاً:

انظر الى هذا المثال الذي اثبت في " الكلمة الخامسة عشرة " وهو قوله تعالى:

] يامعشرَ الجنِّ والانسِ إن استَطَعْتُمْ أنْ تَنفذوا مِن أقطارِ السموات والارضِ فانفذوا لا تنفذونَ إلاّ بسلطانٍ^ فبأي آلاء ربكما تُكذبان ^ يُرسَلُ عليكُما شواظٌ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران ^ فبأي آلاء ربكما تُكّذبان[ (الرحمن:33 ـ36) ] ولقد زيّنا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعلناها رجوماً للشياطين[ (الملك:5)

استمع لهذه الآيات وتدبّر ما تقول؟ انها تقول: ايها الانس والجان، ايها المغرورون المتمردون، المتوحلون بعجزهم وضعفهم، ايها المعاندون الجامحون المتمرغون في فقرهم وضعفهم! انكم إن لم تطيعوا أوامري، فهيا اخرجوا من حدود ملكي وسلطاني إن استطعتم! فكيف تتجرأون اذاً على عصيان أوامر سلطان عظيم: النجوم والاقمار والشموس في قبضته، تأتمر بأوامره،كأنها جنود متأهبون.. فأنتم بطغيانكم هذا إنما تبارزون حاكماً عظيماً جليلاً له جنود مطيعون مهيبون يستطيعون ان يرجموا بقذائف كالجبال، حتى شياطينكم لو تحملت.. وانتم بكفرانكم هذا إنما تتمردون في مملكة مالك عظيم جليل، له جنود عظام يستطيعون ان يقصفوا اعداءً كفرة - ولو كانوا في ضخامة الارض والجبال - بقذائف ملتهبة وشظايا من لهيب كامثال الأرض والجبال، فيمزقونكم ويشتتونكم!. فكيف بمخلوقات ضعيفة امثالكم؟.. وانتم تخالفون قانوناً صارماً يرتبط به من له القدرة - باذن الله - ان يمطر عليكم قذائف وراجمات امثال النجوم.

قس في ضوء هذا المثال قوة معاني ســائر الآيات ورصــانة بــلاغــتها وســمو إفاداتها.

النقطة الثالثة:

البداعة الخارقة في اسلوبه. نعم، ان اساليب القرآن الكريمغريبة وبديعة كما هي عجيبة ومقنعة، لم يقلّد أحداً قط ولا يستطيع احدٌ ان يقلده. فلقد حافظ وما يزال يحافظ على طراوة أساليبه وشبابيته وغرابته مثلما نزل اول مرة.

C فمثلاً:

ان الحروف المقطّعة المذكورة في بدايات عدةٍ من السور تشبه الشفرات؛ امثال:

الم. الر. طه. يس. حم. عسق. وقد كتبنا نحو ستٍ من لمعات اعجازها في (اشارات الاعجاز) نذكر منها:

ان الحروف المذكورة في بدايات السور تنصِّف كلَّ ازواج طبائع الحروف الهجائية من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة ..(1) وغيرها من اقسامها الكثيرة. اما الاوتار - التي لا تقبل التنصيف - فمن الثقيل النصف القليل كالقلقلة، ومن الخفيف النصف الكثير كالذلاقة.

فسلوكه في التنصيف والأخذ بهذا الطريق الخفي الذي لا يدركه العقل من بين هذه الطرق المتداخلة المترددة بين مائتي احتمال، ثم سَوق الكلام في ذلك السياق وفي ذلك الميدان الواسع المشتبهة الأعلام ليس بالامر الذي يأتي مصادفة قط، ولا هو من شأن البشر!

فهذه الحروف المقطعة التي في اوائل السور والتي هي شفرات ورموز إلهية تبين خمساً أو ستاً من اسرار لمعات اعجاز اخرى، بل ان علماء علم اسرار الحروف والمحققين من الاولياء قد استخرجوا من هذه المقطعات اسراراً كثيرة جداً، ووجدوا من الحقائق الجليلة ما يثبت لديهم ان المقطعات معجزة باهرة بحد ذاتها. اما نحن فلن نفتح ذلك الباب لأننا لسنا اهلاً لأسرارهم، زد عـلى ذلك لا نستــطــيــع ان نثبتها إثباتاً يكون مشهوداً لدى الجميع.وانما نكتفي بالاحالة الى ما في (اشارات الاعجاز) من خمس او ست لمعات اعجاز تخص المقطعات.

والآن نشير عدة اشارات الى اساليب القرآن، باعتبار السورة، والمقصد، والآيات، والكلام، والكلمة:

C فمثلاً:

سورة ( النبأ) ] عمّ يتساءلون..[ الى آخرها، اذا اُنعم النظر فيها فانها تصف وتثبت احوال الآخرة والحشر والجنة وجهنم باسلوب بديع يُطمئِن القلب ويقنعه، حيث تبين أن ما في هذه الدنيا من افعال إلهية وآثار ربانيةٍ متوجهة الى كلٍّ من تلك الاحوال الاخروية.

ولما كان ايضاح اسلوب السورة كلها يطول علينا، فسنشير الى نقطة او نقطتين منه:

تقول السورة في مستهلها اثباتاً ليوم القيامة: لقد جعلنا الأرض لكم مهداً قد بسط بسطاً جميلاً زاهياً.. والجبال أعمدة واوتاداً مليئة بالخزائن لمساكنكم وحياتكم.. وخلقناكم ازواجاً تتحابّون فيما بينكم ويأنس بعضكم ببعض.. وجعلنا الليل ساتراً لكم لتخلدوا الى الراحة.. والنهار ميداناً لمعيشتكم.. والشمس مصباحاً مضيئاً ومدفئاً لكم.. وانزلنا من السحب لكم ماءً باعثاً على الحياة يجري مجرى العيون.. وننشئُ بسهولة من ماء بسيط أشياء شتى من مزهر ومثمر يحمل ارزاقكم.. فاذاً يوم الفصل - وهو يوم القيامة - ينتظركم. وان إتيانه ليس بعسير علينا.

وبعد ذلك يشير اشارة خفية الى اثبات ما يحدث في يوم القيامة من سير الجبال وتناثرها، وتشقق السموات وتهيؤ جهنم، ومنح الجنة أهلها الرياض الجميلة. وكأنه يقول:

ان الذي يفعل هذه الأفعال في الجبال والأرض بمرآى منكم سيفعل مثلها في الآخرة.

أي ان ما في بداية السورة من جبال تشير الى احوال الجبال يوم القيامة، وان الحدائق التي في صدر السورة تشير الى رياض الجنة في الآخرة.

فقس سائر النقاط على هذا لتشاهد علو الاسلوب ومدى لطافته.

C ومثلاً:

] قل اللّهّمَّ مالكَ الملكِ تؤتي الملكَ مَن تَشاءُ وتنزعُ الملكَ ممن تشاءُ وتعزُّ من تشاءُ وتذّل من تشاء بيدك الخيرُ انَّكَ على كل شئٍ قدير ^ تولجُ الَّيلَ في النهار وتولج النهار في الّيل وتُخرجُ الحيَّ مِن الميتِ وتخرجُ الميتَ من الحيِّ وترزقُ مَن تشاءُ بغيرِ حِسابٍ[ (آل عمران: 26ـ27)

هذه الآية تبين باسلوب عالٍ رفيع: ما في بني الانسان من شؤون إلهية، وما في تعاقب الليل والنهار من تجليات إلهية، وما في فصول السنة من تصرفات ربانية، وما في الحياة والممات والحشر والنشر الدنيوي على وجه الارض من اجراءات ربانية.. هذا الاسلوب عالٍ وبديع الى حد يسخّر عقول اهل النظر. وحيث أن هذا الاسلوب العالي ساطع يمكن رؤيته بأدنى نظر فلا نفتح الآن هذا الكنز.

C ومثلاً:

] اذا السماءُ انشقّت ^ واَذِنَتْ لربِّها وحُقّت^ واذا الارضُ مُدّت^ وألقتْ ما فيها وتخلّت^ وأذنتْ لربها وحُقت[ (سورة الانشقاق: 1ـ5)

تبين هذه الايات مدى انقياد السموات والارض وامتثالهما أوامر الله سبحانه، تبينها باسلوب عالٍ رفيع؛ اذ كما ان قائداً عظيماً يؤسس دائرتين عسكريتين لأنجاز متطلبات الجهاد؛ كشُعَب المناورة والجهاد، وشُعَب التجنيد والسَوق الى الجهاد، وانه حالما ينتهي وقت الجهاد والمناورة يتوجه الى تينك الدائرتين ليستعملهما في شؤون اخرى، فقد انتهت مهمتهما. فكأن كلاً من الدائرتين تقول بلسان موظفيها وخدّامها أو بلسانها لو أُنطقت:

(( يا قائدى أمهلنا قليلاً كي نهئَ اوضاعنا ونطهّر المكان من بقايا اعمالنا القديمة ونطرحها خارجاً.. ثم شرِّف وتفضَّل علينا!)) وبعد ذلك تقول: (( فها قد ألقيناها خارجاً، فنحن طوع امرك، فافعل ما تشاء فنحن منقادون لأمرك. فما تفعله حق وجميل وخير)) .

فكذلك السموات والارض دائرتان فتحتا للتكليف والامتحان، فعندما تنقضي المدة، تخلّي السموات والأرض باذن الله ما يعود إلى دائرة التكليف، ويقولان: يا ربنا استخدمنا فيما تريد، فالامتثال حق واجب علينا، وكل ما تفعله هو حق.

فانظر الى سمو هذا الاسلوب الخارق في هذه الجمل وأنعم النظر فيه.

C ومثلاً:

] يا أرضُ ابلعي ماءكِ وياسماءُ أقلعي، وغيضَ الماءُ وقـضيَ الأمرُ واستوتْ على الجوديّ، وقيلَ بُعداً للقوم الظالمين[ (هود: 44)

للاشارة الى قطرة من بحر بلاغة هذه الآية الكريمة نبين اسلوباً منها في مرآة التمثيل، وذلك:

ان قائداً عظيماً في حرب عالمية شاملة يأمر جيشه بعد إحراز النصر: اوقفوا اطلاق النار ويأمر جيشه الآخر: كفوا عن الهجوم. ففي اللحظة نفسها ينقطع اطلاق النار ويقف الهجوم، ويتوجه اليهم قائلاً: لقد انتهى كل شئ واستولينا على الأعداء وقد نصبتْ راياتنا على قمة قلاعهم ونال اولئك الظالمون الفاسدون جزاءهم وولوا الى اسفل سافلين.

كذلك، فان السلطان الذي لا ندّ له ولا مثيل، قد أمر السموات والارض باهلاك قوم نوح. وبعد أن امتثلا الأمر توجه اليهما: ايتها الارض ابلعي ماءَك، وانتِ ايتها السماء اسكني واهدأي فقد انتهت مهمتكما. فانسحب الماء فوراً من دون تريث واستوت سفينة المأمور الإلهي كخيمة ضربت على قمة جبل. ولقي الظالمون جزاءهم.

فانظر الى علو هذا الاسلوب، اذ الارض والسماء كجنديين مطيعين مستعدين للطاعة وتلقي الاوامر. فتشير - الآية - بهذا الاسلوب الى ان الكائنات تغضب من عصيان الانسان وتغتاظ منه السموات والارض. وبهذه الاشارة تقول: (( ان الذي تمتثل السموات والأرض بأمره لا يُعصى ولا ينبغي ان يُعصى)) مما يفيد زجراً شديداً رادعاً للأنسان. فأنت ترى ان الآية قد جمعت ببيان موجز معجز جميل مجملٍ في بضع جمل حادثة الطوفان التي هي عامةٌ وشاملة مع جميع نتائجها وحقائقها.

فقس قطرات هذا البحر الاخرى على هذه القطرة.

والان انظر الى الاسلوب الذي يريه(القرآن) من نوافذ الكلمات:فمثلاً الى كلمة (( كالعرجون القديم)) في الآية الكريمة :] والقمرَ قدّرناهُ منازلَ حتى عادَ كالعرجونِ القديم[ (يس:39) كيف تعرض اسلوباً في غاية اللطف، وذلك:

ان للقمر منزلاً هو دائرة الثريا. حينما يكون القمر هلالاً فيه يشبه عرجوناً قديماً ابيض اللون. فتضع الآية بهذا التشبيه امام عين خيال السامع، كأن وراء ستار الخضراء(1) شجرة شق احدُ اغصانها النورانية المدببة البيضاء ذلك الستار ومدّ رأسه الى الخارج، والثريا كأنها عنقود معلق فيه. وسائر النجوم كالثمرات النورانية لشجرة الخلقة المستورة. ولا جرم فان عرض الهلال بهذا التشبيه لاولئك الذين مصدر عيشهم ومعظم قوتهم من النخيل هو اسلوب في غاية الحُسن واللطافة وفي منتهى التناسق والعلو. فإن كنت صاحب ذوق تدرك ذلك.

C ومثلاً:

كلمة ((تجري)) في الآية الكريمة ] والشمس تجري لمستقر لها[ (يس:38) تفتح نافذة لاسلوب عالٍ - كما اثبت في ختام الكلمة التاسعة عشرة - وذلك:

ان لفظ ((تجري)) الذي يعنى دوران الشمس، يفهّم عظمة الصانع الجليل بتذكيره تصرفات القدرة الإلهية المنتظمة في دوران الصيف والشتاء وتعاقب الليل والنهار، ويلفت الانظار الى المكتوبات الصمدانية التي كتبها قلم القدرة الإلهية في صحائف الفصول، فيعلّم حكمة الخالق ذي الجلال.

وان قوله تعالى ] وجعل الشمس سراجاً[ (نوح: 16) اي مصباحاً، يفتح بتعبير ((سراجاً)) نافذةً لمثل هذا الاسلوب وهو:

انه يُفهِّم عظمة الصانع واحسان الخالق بتذكيره: ان هذا العالم كأنه قصر، وان ما فيه من لوازم واطعمة وزينة قد اُعدت للأنسان وذوي الحياة، وان الشمس أيضاً ما هي إلاّ مصباح مسخر. فيبين بهذا دليلاً للتوحيد، إذ الشمس التي يتوهمها المشركون اعظم معبود لديهم وألمعها ما هي إلاّ مصباح مسخّر ومخلوق جامد.

فاذاً بتعبير ((سراجاً)) يذكّر رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، ويفهّم احسانه في سعة رحمته، ويُشعر - بذلك الافهام - بكرمه في عظمة سلطانه، ويفّهم الوحدانية بهذا الإشعار. وكأنه يقول: ان مصباحاً مسخراً وسراجاً جامداً لا يستحق العبادة بأي حال من الأحوال.

ثم ان جريان الشمس بتعبير ((تجري)) يذكّر بتصرفات منتظمة مثيرة للاعجاب في دوران الصيف والشتاء والليل والنهار، ويفهّم بذلك التذكير عظمة قدرة الصانع المتفرد في ربوبيته. بمعنى أنه يصرف ذهن الانسان من الشمس والقمر الى صحائف الليل والنهار والصيف والشتاء، ويجلب نظره الى ما في تلك الصحائف من سطور الحادثات المكتوبة.

أجل! ان القرآن لا يبحث في الشمس لذات الشمس بل لمن نوّرها وجعلها سراجاً، ولا يبحث في ماهيتها التي لا يحتاجها الانسان، بل في وظيفتها، اذ هي تؤدي وظيفة نابض (زنبرك) لانتظام الصنعة الربانية، ومركز لنظام الخلقة الربانية، ومكّوك لإنسجام الصنعة الربانية، في الأشياء التي ينسجها المصوّر الازلي بخيوط الليل والنهار.

ويمكنك ان تقيس على هذا سائرَ الكلمات القرآنية فهي وإن كانت تبدو كأنها كلمات مألوفة بسيطة، إلاّ أنها تؤدي مهمة مفاتيح لكنوز المعاني اللطيفة.

وهكذا فلعلو اسلوب القرآن - كما في الوجوه السابقة في الأغلب - كان الأعرابي يعشق كلاماً واحداً منه احياناً، فيسجد قبل ان يؤمن، كما سمع احدهم الآية الكريمة ] فاصدع بما تؤمر[ (الحجر 94) فخرَّ ساجداً، فلما سئل: أأسلمت؟ قال: لا بل اسجد لبلاغة هذا الكلام!

النقطة الرابعة:

الفصاحة الخارقة في لفظه. نعم، إن القرآن كما هو بليغ خارق من حيث اسلوبه وبيان معناه، فهو فصيح في غاية السلاسة في لفظه. والدليل القاطع على فصاحته هو عدم ايراثه السأم والملل. كما ان شهادة علماء فن البيان والمعاني برهان باهر على حكمة فصاحته.

نعم! لو كرّر الوف المرات فلا يورث سأماً ولا مللاً. بل يزيد لذةً وحلاوة.. ثم أنه لا يثقل على ذهن صبي بسيط فيستطيع حفظه.. ولا تسأم منه أذن المصاب بداء عضال الذي يتأذى من ادنى كلام، بل يتلذذ به.. وكأنه الشراب العذب في فم المحتضر الذي يتقلب في السكرات، وهو لذيذ في اذنه ودماغه لذة ماء زمزم في فمه.

والحكمة في عدم الملل والسأم من القرآن هو:

ان القرآن قوتٌ وغذاء للقلوب، وقوة وغناء للعقول، وماء وضياء للارواح، ودواء وشفاء للنفوس، لذا لا يُمَلّ. مثاله الخبز الذي نأكله يومياً دون ان نملّ، بينما لو تناولنا اطيب فاكهة يومياً لشعرنا بالملل. فإذاً لأن القرآن حق وحقيقة وصدق وهدى وذو فصاحة خارقة فلا يورث الملل والسآمة ، وانما يحافظ على شبابيته دائماً كما يحافظ على طراوته وحلاوته، حتى ان أحد رؤساء قريش وبلغائها عندما ذهب الى الرسول الكريم ليسمع القرآن، قال بعد سماعه له: (( والله ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة .. وما يقوله بشر. ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل اعلم بالشعر مني.. ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا)).

فلم يبق امامهم إلاّ ان يقولوا انه ساحر، ليغرروا به أتباعهم ويصدوهم عنه. وهكذا يبقى حتى أعتى اعداء القرآن مبهوتاً أمام فصاحته.

ان ايضاح اسباب الفصاحة في آيات القرآن الكريم وفي كلامه وفي جمله يطول كثيراً، فتفادياً من الإطالة نُقصر الكلام على اظهار لمعة اعجاز تتلمع من اوضاع الحروف الهجائية وكيفياتها في آية واحدة فقط، على سبيل المثال وهي: قوله تعالى: ] ثم اَنزلَ عليكم مِن بعدِ الغمّ اَمنةً نُعاسَاً يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّـتْهُم أنفسهم يظنونَ بالله غيرَ الحقِ ظنَّ الجاهليةِ يقولون هل لنا من الأمِر من شئٍ، قُل ان الأمرَ كلَّّه لله يُخفون في أنفسهم ما لا يُبْدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُـتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرزَ الذين كُتبَ عليهم القتلُ الى مـضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم ولـــيمــحـّص مـــا في قـــلوبـكـم والله علـيم بـذات الصــــدور[ (آل عمران: 154)

لقد جمعت هذه الآية جميع حروف الهجاء واجناس الحروف الثقيلة، ومع ذلك لم يفقدها هذا الجمع سلاستها بل زادها بهاءً الى جمالها ومزج نغمة من الـفصاحة نبعت من اوتار متناسبة متنوعـة.

فأنعم النظر في هذه اللمعة ذات الاعجاز وهي: أن الألف والياء لأنهما أخف حروف الهجاء، وتنقلب إحداهُما بالاخرى كأنهما اختان، تكرّر كلٌ منهما احدى وعشرين مرة.. وان الميم والنون(1) لأنهما اختان، ويمكن ان تحل احداهما محل الأخرى فقد ذُكر كلٌ منهما ثلاثاً وثلاثين مرةً.. وان الصاد والسين والشين متآخية حسب المخرج والصفة والصوت فذُكر كل واحد منها ثلاث مرات.. وان العين والغين متآخيتان فذكر العين ست مرات لخفتها بينما الغين لثقلها ذُكرت ثلاث مرات أي نصفه.. وان الطاء والظاء والذال والزاي، متآخية حسب المخرج والصفة والصوت، فذكر كل واحد منها مرتين.. وان اللام والالف متحدتان في صورة (لا)، وان حصة الالف نصف في صورة (لا) فذُكرت اللام اثنتين واربعين مرة، وذُكرت الالف - نصفها - احدى وعشرين مرة .. وان الهمزة والهاء متآخيتان حسب المخرج فذكرت الهمزة ثلاث عشرة مرة(2) والهاء اربع عشرة مرة لكونها أخفّ منها بدرجة.. وان القاف والفاء والكاف متآخية، فذُكرت القاف عشر مرات لزيادة نقطة فيها، وذكرت الفاء تسع مرات والكاف تسع.. وان الباء ذُكرت تسع مرات، والتاء ذُكرت اثنتا عشرة مرة، لأن درجتها ثلاثة.. وان الراء اخت اللام . ولكن الراء مئتان واللام ثلاثون حسب حساب " ابجدية الجمل " أي ان الراء فوق اللام بست درجات فأنخفضت عنها بست درجات. وايضاً الراء تتكرر كثيراً في التلفظ، فيثقل، فذُكرت ست مرات فقط.. ولأن الخاء والحاء والثاء والضاد ثقيلة وبينها مناسبات ذكر كل منها مرة واحدة.. ولأن الواو أخف من ((الهاء والهمزة)) واثقل من ((الياء والالف)) ذُكرت سبع عشرة مرة فوق الهمزة الثقيلة باربع درجات وتحت الالف الخفيفة باربع درجات ايضاً.

وهكذا فان هذه الحروف بهذا الوضع المنتظم الخارق، مع تلك المناسبات الخفية، والانتظام الجميل، والنظام الدقيق، والانسجام اللطيف تثبت بيقين جازم كحاصل ضرب اثنين في اثنين يساوي اربعاً: أنه ليس من شأن البشر ولا يمكنه أن يفعله. أما المصادفة فمحال ان تلعب به.

هذا فإن ما في اوضاع هذه الحروف من الانتظام العجيب والنظام الغريب مثلما هو مدار للفصاحة والسلاسة اللفظية، يمكن ان تكون له حِكم كثيرة اخرى.

فما دام في الحروف هذا الانتظام، فلا شك انه قد روعي في كلماتها وجملها ومعانيها إنتظام ذو أسرار، وانسجام ذو أنوار، لو رأته العين لقالت من اعجابها: ما شاء الله، واذا ادركه العقل لقال من حيرته: بارك الله.

النقطة الخامسة:

براعة البيان: أي التفوق والمتانة والهيبة، اذ كما ان في نظم القرآن جزالة، وفي لفظه فصاحة، وفي معناه بلاغة، وفي اسلوبه إبداعاً، ففي بيانه ايضاً براعة فائقة.

نعم! ان بيان القرآن لهو في أعلى مرتبة من مراتب طبقات الخطاب واقسام الكلام: كالترغيب والترهيب، والمدح والذم، والاثبات والارشاد، والافهام والافحام.

فمن بين الآف امثلة مقام ((الترغيب والتشويق)) سورة ((الانسان))، إذ بيان القرآن في هذه السورة سلس ينساب كالسلسبيل، ولذيذ كثمار الجنة، وجميل كحلل الحور العين(1).

ومن بين الأمـثلة التي لاتحد لمقام ((الترهيب والتهديد)) مقـدمة ســورة ((الغاشية)) اذ بيان القرآن في هذه السورة يؤثر تأثير غليان الرصاص في صماخ الضالين، ولهيب النار في عقولهم، وكالزقوم في حلوقهم، وكلفح جهنم في وجوههم، وكالضريع الشائك في بطونهم.

نعم، إن كانت مأمورةُ العذاب جهنم ] تكاد تميز من الغيظ[ فكيف يكون تهديد وترهيب آمرها بالعذاب؟

ومن بين الآف امثلة مقام ((المدح)) السور الخمس المستــهلة بـ((الحمد لله))؛ اذ بيان القرآن في هذه السور ساطع كالشمس(2)، مزّين كالنجوم، مهيب كالسموات والارض، محبوب مأنوس كالملائكة، لطيف رؤوف كالرحمة على الصغار في الدنيا، وجميل بهيج كالجنة اللطيفة في الآخرة.

ومن بين آلاف امثلة مقام ((الذم والزجر)) الآية الكريمة:

] أيحبُ احدكُم انْ يأكل لحم اخيهِ ميتاً فكرهتُموه[ . (الحجرات:12)

تنهى هذه الآية الكريمة عن الغيبة بست مراتب وتزجر عنها بشدة وعنف، وحيث ان خطاب الآية موجه الى المغتابين، فيكون المعنى كالاتي:

ان الهمزة الموجودة في البداية، للاستفهام الانكاري حيث يسري حكمه ويسيل كالماء الى جميع كلمات الآية، فكل كلمة منها تتضمن حكماً.

ففي الكلمة الاولى تخاطب الآية الكريمة بالهمزة:

أليس لكم عقل - وهو محل السؤال والجواب - ليعي هذا الامر القبيح؟

وفي الكلمة الثانية: ((ايحب)) تخاطب الآية بالهمزة:

هل فسد قلبكم - وهو محل الحب والبغض - حتى أصبح يحب اكره الاشياء واشدها تنفيراً.

وفي الكلمة الثالثة: ((احدكم)) تخاطب بالهمزة:

ماذا جرى لحياتكم الاجتماعية - التي تستمد حيويتها من حيوية الجماعة - وما بال مدنيتكم وحضارتكم حتى اصبحت ترضى بما يسمم حياتكم ويعكر صفوكم.

وفي الكلمة الرابعة: ((ان يأكل لحم)) تخاطب بالهمزة:

ماذا اصابت انسانيتكم؟ حتى اصبحتم تفترسون صديقكم الحميم.

وفي الكلمة الخامسة: ((اخيه)) تخاطب بالهمزة:

اليس بكم رأفة ببني جنسكم، أليس لكم صلة رحم تربطكم معهم، حتى اصبحتم تفتكون بمن هو اخوكم من عدة جهات، وتنهشون شخصه المعنوي المظلوم نهشاً قاسياً ، ايملك عقلاً من يعض عضواً من جسمه؟ اوَليس هو بمجنون؟.

وفي الكملة السادسة: ((ميتاً)) تخاطب بالهمزة:

اين وجدانكم؟ أفسدت فطرتكم حتى اصبحتم تجترحون ابغض الاشياء وافسدها - وهو أكل لحم اخيكم - في الوقت الذي هو جدير بكل احترام وتوقير.

يفهم من هذه الآية الكريمة - وبما ذكرناه من دلائل مختلفة في كلماتها - ان الغيبة مذمومة عقلاً وقلباً وانسانية ووجداناً وفطرة وملةً.

فتدبر هذه الآية الكريمة، وانظر كيف انها تزجر عن جريمة الغيبة باعجاز بالغ وبايجاز شديد في ست مراتب.

ومن بين آلاف امثلة مقام ((الاثبات)) الآية الكريمة:

] فانظر الى آثارِ رحمتِ الله كيفَ يحيى الأرضَ بعدَ موتِها انّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلِّ شيء قديرٌ[ (الروم:50) فانها تثبت الحشر وتزيل استبعاده ببيانٍ شافٍ وواف لا بيان فوقه. وذلك كما اثبتنا في الحقيقة التاسعة من الكلمة العاشرة وفي اللمعة الخامسة من الكلمة الثانية والعشرين بأنه: كلما حلّ موسم الربيع، فكأن الأرض تُبعث من جديد بانبعاث ثلاثمائة الف نوع من انواع الحشر والنشور، في انتظام متقن وتمييز تام علماً انها في منتهى الاختلاط والتشابك، حتى يكون ذلك الإحياء والبعث ظاهراً لكل مشاهد، وكأنه يقول له: ان الذي أحيا الأرضَ هكذا لن يصعب عليه اقامة الحشر والنشور. ثم أن كتابة هذه الالوف المؤلفة من انواع الاحياء على صحيفة الأرض بقلم القدرة دون خطأ ولا نقص لهي ختم واضح للواحد الأحد،فكما أثبتت هذه الآية الكريمة التوحيدَ، تثبت القيامة والحشر ايضاً مبينةً ان الحشر والنشور سهل على تلك القدرة وقطعي ثابت كقطعية ثبوت غروب الشمس وشروقها.

ثم ان الآية الكريمة اذ تبين هذه الحقيقة بلفظ ((كيف)) أي من زاوية الكيفية فان سوراً اخرى كثيرة قد فصّلت تلك الكيفية منها: سورة ((ق)) مثلاً: فانها تثبت الحشر والقيامة ببيان رفيع جميل باهر يفيد انه لا ريب في مجئ الحشر كما لا ريب فيمجئ الربيع - فتأمل في جواب القرآن الكفارَ المنكرين وتعجبهم من احياء العظام وتحولها الى خلق جديد، اذ يقول لهم:

] أفلم ينظروا الى السماءِ فوقَهُم كيفَ بنيناها وزينّاها ومالها من فروج^ والأرضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كلٍّ زوجٍ بهيج^ تبصرةً وذكرى لكلّ عبدٍ منيب^ ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فانبتنا بهِ جنّاتٍ وحبّ الحصيد^ والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد ^ رزقاً للعبادِ واحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج[ (ق: 6ـ11)

فهذا البيان يسيل كالماء الرقراق، ويسطع كالنجوم الزاهرة، وهو يطعم القلب ويغذّيه بغذاء حلو طيب كالرطب. فيكون غذاء ويكون لذة في الوقت نفسه.

ومن ألطف امثلة مقام ((الاثبات)) هذا المثال:

] يس^ والقرآنِ الحكيم ^ إنك لمن المرسلين[ (يس : 1ــ3) . هذا القَسَم يشير الى حجية الرسالة وبرهانها بيقين جازم وحق واضح حتى بلغت في الحقانية والصدق مرتبة التعظيم والإجلال، فيُقْسَم به.

يقول القرآن الكريم بهذه الاشارة: انك رسول لأن في يدك قرآناً حكيماً، والقرآن نفسه حق وكلام الحق لأن فيه الحكمة الحقة وعليه ختم الاعجاز.

ونذكر من امثلة مقام ((الاثبات)) ذات الاعجاز والايجاز هذه الآية الكريمة:] قال من يحيى العظامَ وهي رميمٌ^ قلْ يحييها الذي أنشأها أولَ مرةٍ وهو بكلّ خلقٍ عليم[ (يس: 78 - 79 ).

ففي المثال الثالث من الحقيقة التاسعة للكلمة العاشرة تصوير لطيف لهذه المسألة، على النحو الآتي:

ان شخصاً عظيماً يستطيع ان يشكّل - أمام انظارنا - جيشاً ضخماً في يوم واحد. فاذا قال احدهم: ان هذا الشخص يمكنه ان يجمع جنود طابوره المتفرقين للاستراحة ببوق عسكري فينتظم له الطابور حالاً. وانت ايها الانسان إن قلت: لا اصدق!! تدرك عندئذٍ مدى بعد انكارك عن العقل.

والأمر كذلك (ولله المثل الاعلى): ان الذي يبعث أجساد الاحياء قاطبة من غير شئ كأنها أفراد جيش ضخم بكمال الانتظام وبميزان الحكمة، ويجمع ذرات تلك الاجساد ولطائفها ويحفظها بأمر ((كن فيكون)) في كل قرن، بل في كل ربيع، على وجه الارض كافة، ويوجِد مئات الالوف من امثالها من انواع ذوي الحياة. ان القدير العليم الذي يفعل هذا هل يمكن أن يستبعد منه جمع الذرات الاساسية والاجزاء الاصلية المتعارفة تحت نظام الجسد كأنها افراد جيش منظم، بصيحة من صور اسرافيل؟ إن استبعاد هذا من ذلكم القدير العليم لا محالة جنون!

وفي مقام ((الارشاد)) فان البيانات القرآنية مؤثرة ورفيعة ومؤنــسة ورقيقة حتى أنها تملأ الروح شوقاً والعقل لهفة والعين دمعاً. فلنأخذ هذا المثال من بين الآف امثلته:

] ثم قسَتْ قُلوبكُم منْ بعدِ ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُّ قسوةً وانَّ من الحجارة لَمَا يتفجّر منه الانهارُ وانّ منها لَمَا يشّقّـق فيخرجُ منه الماءُ وانّ منها لما يهبطُ من خشية الله وما الله بغافلٍ عما تعملون[ (البقرة: 74) فكما اوضحنا واثبتنا في مبحث الآية الثالثة من ((المقام الاول للكلمة العشرين)) فان الآية هذه تخاطب بني اسرائيل قائلة: ماذا اصابكم يا بني اسرائيل حتى لا تبالون بجميع معجزات موسى عليه السلام، فعيونكم شاخصة جافة لا تدمع، وقلوبكم قاسية غليظة لا حرارة فيها ولا شوق، بينما الحجارة الصلدة القاسية قد ذرفت الدموع من اثنتي عشرة عيناً بضربة من عصا موسى - عليه السلام - وهي معجزة واحدة من معجزاته!

نكتفي بهذا القدر هنا ونحيل الى تلك الكلمة حيث وُضّح هذا المعنى الارشادى ايضاحاً كافياً.

وفي مقام ((الافحام والالزام)) تأمل في هذين المثالين فحسب من بين الآف امثلته.

C المثال الاول:

] وان كنتم في ريبٍ مما نزّلنا على عَبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله وادعوا شهداءَكُم من دون الله إن كنتم صادقين[ (البقرة:23)

سنشير هنا اشارة مجملة فحسب، اذ قد اوضحناه واثبتناه واشرنا اليه في ((اشارات الاعجاز)) وهو:

ان القرآن المعجز البيان يقول: يا معشر الانس والجن إن كانت لديكم شبهة في أن القرآن ليس كلام الله، وتتوهمون انه من كلام بشر. فهيا، فها هو ميدان التحدي. فأتوا بقرآنٍ مثل هذا يصدر عن شخص أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، مثل محمد الذي تصفونه انتم بـ ((الأمين))..

فان لم تفعلوا هذا فأتوا به من غير أمي، وليكن بليغاً أو عالماً..

فان لم تفعلوا هذا فأتوا به من جماعة من البلغاء وليس من شخص واحد، بل اجمعوا جميع بلغائكم وخطبائكم والآثار الجيدة للسابقين منهم ومدد اللاحقين وهمم شهدائكم وشركائكم من دون الله، وابذلوا كل ما لديكم حتى تأتوا بمثل هذا القرآن..

فان لم تفعلوا هذا فاتوا بكتابٍ في مثل بلاغة القرآن ونظمه،بصرف النظر عن حقائقه العظيمة ومعجزاته المعنوية.

بل القرآن قد تحداهم بأقل من هذا اذ يقول:] فاتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات[ (هود:13) أي ليس ضرورياً صدق المعنى فلتكن اكاذيب مفتريات.

وان لم تفعلوا، فليكن عشر سور منه وليس ضرورياً كل القرآن..

وان لم تفعلوا هذا، فأتوا بسورة واحدة من مثله فحسب، وان كنتم ترون هذا ايضاً صعباً عليكم، فلتكن سورة قصيرة..

واخيراً ما دمتم عاجزين لا تستطيعون ان تفعلوا ولن تفعلوا مع انكم في أمسّ الحاجة الى الاتيان بمثيله، لأن شرفكم وعزتكم ودينكم وعصبيتكم واموالكم وارواحكم ودنياكم واخراكم انما تصان باتيان مثله، والاّ ففي الدنيا يتعرض شرفكم ودينكم الى الخطر وتسامون الذل والهوان وتُهدر أموالكم، وفي الآخرة تصيرون حطباً للنار مع اصنامكم ومحكومين بالسجن الابدي ] فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة[ (البقرة: 24).

فما دمتم قد عرفتم عجزكم بثماني مراتب، فلابد ان تعرفوا ان القرآن معجز بثماني مراتب فإما ان تؤمنوا به أو تسكتوا نهائياً وتكون جهنم مثواكم وبئس المصير.

وبعد ما عرفت بيان القرآن هذا والزامه في مقام ((الافحام)) قل: حقاً انه ((ليس بعد بيان القرآن بيان)).

C المثال الثاني:

] فذكّر فما انتَ بنعمتِ ربّك بكاهنٍ ولا مجنون ^ أم يقولون شاعرٌ نتربّصُ به ريبَ المنون ^ قُل تربصوا فاني معكم من المتربصين ^ أم تأمرُهُم احلامُهم بهذا أم هم قوم طاغون ^ أم يقولون تَقَوّله بل لا يؤمنون ^ فليأتوا بحديثٍ مثله ان كانوا صادقين ^ ام خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون^ أم خَلقوا السموات والارض بل لا يـُوقنون^ أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ^ أم لهم سلّمٌ يستمعون فيه فليأتِ مستمعُهم بسلطانٍ مبين ^ أم له البنات ولكم البنونَ^ أم تسئلهم اجراً فهم من مغْرَم مُثقلون^ أم عندهم الغيبُ فهم يكتبون ^ أم يُريدون كيداً فالذين كفروا هم الـمَكيدون ^ أم لهم إلهٌ غيرُ الله سبحان الله عما يشركون[ (الطور: 29 - 43)

من بين الآف الحقائق التي تتضمنها هذه الآيات الجليلة سنبين حقيقة واحدة فقط مثالاً للإلزام وإفحام الخصم. كالآتي:

ان هذه الايات الكريمة تُلزم جميع اقسام اهل الضلالة وتسكتهم، وتسدّ جميع منابت الشبهات وتزيلها، وذلك بلفظ: أم .. أم، بخمس عشرة طبقة من الاستفهام الانكاري التعجبي، فلا تدع ثغرة شيطانية ينزوي فيها اهل الضلالة إلاّ وتسدها، ولا تدع ستاراً يتسترون تحته إلاّ وتمزقه، ولا تدع كذباً من اكاذيبهم إلاّ وتفنّده. فكل فقرة من فقراتها تبطل خلاصة مفهوم كفرٍ تحمله طائفة من الطوائف الكافرة؛ إما بتعبير قصير وجيز، أو بالسكوت عنه واحالته الى بداهة العقل لظهور بطلانه، أو باشارة مجملة إذ قد رُدّ ذلك المفهوم الكفري واُفحم في موضع آخر بالتفصيل. فمثلاً:

الفقرة الاُولى تشير الى الآية الكريمة ] وما عَلّمناهُ الشعرَ وما ينبغي له[ أما الفقرة الخامسة عشرة فهي ترمز الى الآية الكريمة ] لو كانَ فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[ . قس بنفسك سائر الفقرات في ضوء هذه الفقرة، وذلك:

ففي المقدمة تقول: بلّغ الاحكام الآلهية، فانك لستَ بكاهنٍ، لان كلام الكاهن ملفّق مختلط لا يعدو الظن والوهم، بينما كلامك هو الحق بعينه وهو اليقين.. وذكّر بتلك الاحكام فلستَ مجنوناً قط، فقد شهد اعداؤك كذلك على كمال عقلك.

] أم يقولون شاعرٌ نتربصُ بهِ ريبَ المنون[ فيا عجباً! أيقولون لك: شاعر، كالكفار العوام الذين لا يحتكمون الى العقل! أوَهم ينتظرون هلاكك وموتك! قل لهم: انتظروا وأنا معكم من المنتظرين.فان حقائقك العظيمة الباهرة منزّهة عن خيالات الشعر ومستغنية عن تزييناته.

] أم تأمُرهم أحلاُمهم بهذا[ : أم أنهم يستنكفون عن اتباعك كالفلاسفة المعتدين بعقولهم الفارغة؟؛ الذين يقولون: كفانا عقلنا. مع أن العقل نفسه يأمر باتباعك، فما من قول تقوله إلاّ وهو معقول، ولكن لا يبلغه العقل بمفرده.

] أم هم قوم طاغون[ أم ان سبب انكارهم هو عدم رضوخهم للحق كالطغاة الظلمة؟ مع أن عقبى الجبارين العتاة من فراعنة ونماريد معلومة لا تخفى على أحد.

] أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون[ . أم أنهم يتهمونك بأن القرآن كلام من عندك، كما يقول المنافقون الكاذبون الذين لا ضمير لهم ولا وجدان؟ مع أنهم هم الذين يدعونك الى الآن بـ ((محـمد الأمين)) لصدق كلامك. فاذاً لا ينـوون الايـمان. وإلاّ فليجدوا في آثار البشر مثيلاً للقرآن.

] أم خُلقوا من غير شئ[ أم أنهم يعدّون أنفسهم سائبين، خُلقوا سدىً بلا غاية ولا وظيفة ولا خالق لهم ولا مولى؟ . ويعتقدون الكونَ كله عبثاً كما يعتقد به الفلاسفة العبثيون! أفعَميتْ ابصارهم؟ افلا يرون الكون كله من اقصاه الى اقصاه مزيّناً بالحِكَم ومثمراً بالغايات، والموجودات كلها من الذرات الى المجرات مناطة بوظائف جليلة ومسخرة لأوامر آلهية.

] أم هم الخالقون[ أم أنهم يظنون أن الاشياء تتشكل بنفسها وتُربّى بنفسها وتخلق لوازمها بنفسها كما يقول الماديون المتفرعنون! حتى غدوا يستنكفون من الايمان والعبودية لله، فاذاً هم يظنون أنفسهم خالقين. والحال: ان خالق شئٍ واحد يلزم ان يكون خالقاً لكل شئ. فلقد دفعهم اذن غرورُهم وعتوّهم الى منتهى الحماقة والجهل حتى ظنوا أن مَن هو عاجز امام أضعف مخلوق - كالذباب والميكروب - قادرٌ مطلق! فما داموا قد تخلّوا الى هذا الحد عن العقل وتجردوا من الانسانية، فهم اذاً اضلّ من الأنعام بل أدنى من الجمادات.. فلا تهتم لإنكارهم، بل ضعهم في عداد الحيوانات المضرة والمواد الفاسدة. ولا تلقِ لهم بالاً ولا تلتفت اليهم أصلاً.

] أم خلقوا السموات والارض بل لا يوقنون[ أم يجحدون وجود الله تعالى كالمعطلة الحمقى المنكرين للخالق؟ فلا يستمعون للقرآن! فعليهم اذاً ان ينكروا خلق السموات والارض، أو يقولوا:

نحن الخالقون؛ ولينسلخوا من العقل كلياً وليدخلوا في هذيان الجنون، لأن براهين التوحيد واضحة تُقرأ في أرجاء الكون بعدد نجوم الســماء وبعـدد ازاهير الارض، كلها تدل عـلــى وجــوده تعــالى وتفــصــح عنه. فاذاً لا يرغبــون في الرضــوخ الى الحق واليقين، والاّ فكيف ظنوا ان كتاب الكون العظيم هذا الذي تندرج في كل حرف منه الوف الكتب أنه دون كاتب، مع أنهم يعلمون جيداً أن حرفاً واحداً لا يكون دون كاتب؟

] أم عندهم خزائن ربك[ أم أنهم ينفون الارادة الآلهية كبعض الفلاسفة الضالين او ينكرون اصل النبوة كالبراهمة، فلا يؤمنون بك! فعليهم اذاً ان ينكروا جميع آثار الحِكَم والغايات الجليلة والانتظامات البديعة والفوائد المثمرة واثار الرحمة الواسعة والعناية الفائقة الظاهرة على الموجودات كافة، والدالة على الارادة الآلهية واختيارها، وعليهم ان ينكروا جميع معجزات الانبياء عليهم السلام، أو عليهم أن يقولوا: أن الخزينة التي تفيض بالاحسان على الخلق اجمعين هي عندنا وبايدينا. وليُسْفِروا عن حقيقتهم بأنهم لا يستحقون الخطاب، ولا هم أهلٌ له. اذاً فلا تحزن على انكارهم. فلله حيوانات ضالة كثيرة.

] أم هم المصيطرون[ أم أنهم توهموا أنفسهم رقباء على اعمال الله تعالى؟ أفَيريدون ان يجعلوه سبحانه مسؤولاً، كالمعتزلة الذين نصبوا العقل حاكماً! فلا تبالِ ولا تكترث بهم إذ لا طائل وراء انكار هؤلاء المغرورين وامثالهم.

] أم لهم سلمٌ يستمعونَ فيه فليأتِ مستمعُهُم بسلطانٍ مبين[ أم أنهم يظنون أنفسهم قد وجدوا طريقاً آخر الى عالم الغيب كما يدّعيه الكهان الذين اتبعوا الشياطين والجان، وكمشعوذي تحضير الارواح؟ أم يظنون أن لديهم سلماً الى السموات التي صُكت ابوابها بوجوه الشياطين، حتى لا يصّدقوا بما تتلقاه من خبر السماء! فانكار هؤلاء الفجرة الكذابين وامثالهم، هو في حكم العدم.

] أم لهُ البناتُ ولكم البنون[ أم أنهم يسندون الشرك الى الأحد الصمد باسم العقول العشرة وارباب الانواع كما يعتقد به فلاسفة مشركون، أو بنوعٍ من الالوهية المنسوبة الى النجوم والملائكة كالصابئة، أو باسناد الولد اليه تعالى كالملحدين والضالين، أو ينسبون اليه الولد المنافي لوجوب وجود الأحد الصمد، ولوحدانيته وصمدانيته وهو المستغني المتعال؟ أم يسندون الأنوثة الى الملائكة المنافية لعبوديتهم وعصمتهم وجنسهم (طبيعتهم)؟ أفَهُم يظنون أنهم بهذا يوجدون شفعاء لأنفسهم، فلا يتّبعونك!؟ ان الانسان الفاني الذي يطلب الوريث المعين، والمطبوع على حب الدنيا الى حدّ الهيام بها، وهو العاجز الفقير الى بقاء نوعه، والمؤهل للتناسل والتكاثر والتجزؤ الجسماني، ذلك التناسل الذي هو رابطة البقاء وآصرة الحياة للمخلوقات كافة.. فاسناد التناسل هذا الى مَن وجودُه واجب وهو الدائم الباقي، الأزلي الأبدي، الذاتي، المنزّه عن الجسمانية، المقدس عن تجزئة الماهية، المتعالي عن ان يمس قدرته العجز، وهو الواحد الأحد الجليل ذو الجلال.. واسناد الاولاد اليه ولاسيما الضعفاء العاجزين أي البنات اللاتي لم يرتضها غرورُ هؤلاء، انما هو نهاية السفسطة ومنتهى الجنون وغاية الهذيان، حتى انه لا حاجة الى تفنيد افتراءاتهم واظهار بطلانهم فلا تنصت اليهم ولا تلق لهم بالاً اذ لا تُسمَع سفسطة كل ثملٍ ولا هذيان كل مجنون.

] أم تسألهم أجراً فهم من مغْرمٍ مُثقلون[ أم أنهم يرون تكاليف العبودية التي تطلبها منهم ثقيلاً عليهم؟ كما يراها الطغاة الباغون الحريصون على الدنيا المعتادون على الخسة فيهربون من تلك التكاليف! ألا يعلمون انك لا تريد منهم أجراً ولا من أحدٍ إلاّ منه سبحانه؟ أيعزّ عليهم التصدق من مال الله الذي اعطاه اياهم ليزداد المال بركة وليحصَّن من حسد الفقراء، ومن الدعاء بالسوء على مالكه؟ فالزكاة بمقدار العُشر أو واحد من اربعين، والتصدق بها على فقرائهم أتعدّ أمراً ثقيلاً حتى يهربوا من الاسلام؟ انهم لا يستحقون حتى الجواب على تكذيبهم، فهو واضح جداً وتافه جداً بل يستحقون التأديب لا الاجابة.

] أم عندهم الغيب فهم يكتبون[ أم أنهم لا يروق لهم ما تتلقاه من اخبار الغيب، فيدّعون معرفة الغيب كالبوذيين وكالعقلانيين الذين يحسبون ظنونهم يقيناً! أعندهم كتاب من الغيب وهو مفتوح لهم يكتبون منه حتى يردّوا كتابك الغيبي!؟ ان ذلك العالَم لا ينزاح حجابُه الاّ للرسل الموحى اليهم، ولا طاقة لأحد بالولوج فيه بنفسه قط.

ولا يستخفنَّك عن دعوتك تكذيب هؤلاء المغرورين المتكبرين الذين تجاوزوا طورهم وتعدّوا حدودهم. فعن قريب ستحطم حقائقُك احلامَهم وتكون أثراً بعد عين.

] أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون[ أم أنهم يريدون أن يكونوا كالمنافقين الذين فسدت فطرتهم وتفسخ وجدانهم، وكالزنادقة المكّارين الذين يصّدون الناس عن الهدى - الذي حرموا منه - بالمكيدة والخـديعـة فيصرفوهم عن سواء السبيل، حتى اطلقوا عليك اسم الكاهن أو المجنون أو الساحر، مع أنهم هم أنفسهم لا يصّدقون دعواهم فكيف بالآخرين؟ فلا تهتم بهؤلاء الكذابين الخداعين ولا تعتبرهم في زمرة الأناسي، بل امضِ في الدعوة الى الله، لا يفترك شئ عنها، فاولئك لا يكيدونك بل يكيدون أنفسهم، ويضرونها بأنفسهم. وما نجاحهم في الفساد والكيد إلاّ أمر مؤقت زائل بل هو استدراج ومكر إلهي.

] أم لهم إلهٌ غيرُ الله سبحان الله عما يُشركون[ أم أنهم يعارضونك ويستغنون عنك لانهم يتوهمون الهاً غير الله يستندون اليه كالمجوس الذين توهموا إلهين اثنين باسم خالق الخير وخالق الشر! أو كعبّاد الاسباب والاصنام الذين يمنحون نوعاً من الالوهية للاسباب ويتصورونها موئل استناد؟ اذاً فقد عميت ابصارهم أفلا يرون هذا الانتظام الاكمل الظاهر كالنهار في هذا الكون العظيم ولا هذا الانسجام الاجمل فيه!..

فبمقتضى قوله تعالى ] لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا[ اذا ما حلّ مختاران في قرية، وواليان في ولاية وسلطانان في بلد، فالانتظام يختل حتماً والانسجام يفسد نهائياً. والحال ان الانتظام الدقيق واضح بدءاً من جناح البعوضة الى قناديل السماء. فليس للشرك موضع ولو بمقدار جناح بعوض. فما دام هؤلاء يمرقون من نطاق العقل ويجافون الحكمة والمنطق ويقومون باعمال منافية كلياً للشعور والبداهة، فلا يصرفك تكذيبهم لك عن التذكير والارشاد.

وهكذا فهذه الايات التي هي سلسلة الحقائق، قد بينا بياناً مجملاً جوهرةً واحدة منها فقط من مئات جواهرها، تلك الجوهرة التي تخص (الالزام والافحام). فلو كانت لي قدرة لأبين عدة جواهر اخرى منها لكنتَ تقول ايضاً: ان هذه الآيات معجزة بحد ذاتها!

أما بيان القرآن في ((الافهام والتعليم)) فهو خارق وذو لطافة وسلاسة، حتى ان ابسط شخص عامي يفهم - بتلك البيانات - اعظم حقيقة واعمقها بيسر وسهولة.

نعم! ان القرآن المبين يرشد الى كثير من الحقائق الغامضة ويعلّم الناس اياها باسلوب سهل وواضح وببيان شافٍ يراعي نظر العوام، من دون ايذاء لشعور العامة ولا إرهاق لفكر العوام ولا ازعاج له، فكما اذا ما حاور انسان صبياً فانه يستعمل تعابير خاصــة به، كــذلــك الاســــاليب القرآنية والتــي تســمى بـ ((التنزلات الإلهية الى عقول البشر)) خطاب ينزل الى مستوى مدارك المخاطبين، حتى يفهّم أشد العوام أمية، من الحقائق الغامضة والاسرار الربانية ما يعجز حكماءٌ متبحرون عن بلوغها بفكرهم؛ وذلك بالتشبيهات والتمثيلات بصور متشابهات.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:21 AM

رد: الكلمات
 
فمثلاً: الآية الكريمة:

] الرحمن على العرشِ استوى[ تبين الربوبية الإلهية وكيفية تدبيرها لشؤون العالم في صورة تمثيل وتشبيه لمرتبة الربوبية بالسلطان الذي يعتلي عرشه ويدير أمر السلطنة.

نعم! لما كان القرآن كلاماً لرب العالمين نزل من المرتبة العظمى لربوبيته الجليلة، مهيمناً على جميع المراتب الاخرى، مرشداً البالغين الى تلك المراتب، مخترقاً سبعين ألف حجاب، ملتفتاً اليها ومنوراً لها، وقد نشر نوره على الاف الطبقات من المخاطبين المتباينين في الفهم والادراك، ونثر فيضه طوال عصور وقرون متفاوتة في الاستعدادات. وعلى الرغم من نشره لمعانيه بسهولة تامة في جميع الانحاء والازمان، احتفظ بحيويته ونداوته ونضارته ولم يفقد شيئاً منها، بل ظل في منتهى الطراوة والجدة واللطافة سهلاً ممتنعاً، اذ مثلما يلقى دروسه على أي عامي كان في غاية السهولة يلقيه على المختلفين في الفهم والمتباينين في الذكاء لكثير جداً من الطبقات المتفاوتة ويرشدهم الى الصواب ويورثهم القناعة والاطمئنان.

ففي هذا الكتاب المبين اينما وجهت نظرك يمكنك ان تشاهد لمعة اعجاز.

حاصل الكلام:

كما ان لفظة قرآنية مثل: ((الحمد لله)) عندما تُتلى تملأ الكهف الذي هو بمثابة اُذن الجبل، فانها تملأ في الوقت نفسه ما تشبه الاُذين الصغيرة جداً لبعوض فتستقر اللفظة نفسها فيهما معاً. كذلك الأمر في معاني القرآن الكريم. اذ مثلما تُشبع عقولاً جبارة، تعلّم عقولاً صغيرة وبسيطة جداً، وتُطمئنها بالكلمات نفسها، ذلك لأن القرآن يدعو جميع طبقات الجن والانس الى الايمان ويعلّم جميعهم علوم الايمان ويثبتها لهم جميعاً، لذا يستمع الى درس القرآن وارشاده اغبى الاغبياء من عامة الناس مع اخص الخواص جنباً الى جنب متكاتفين معاً.

أي أن القرآن الكريم مائدة سماوية تجد فيها الآف من مختلف طبقات الأفكار والعقول والقلوب والارواح غذاءهم، كل حسب ما يشتهيه ويلبّي رغباته. حتى ان كثيراً من أبواب القرآن ظلت مغلقة لتفتح في المستقبل من الزمان.

فإن شئت مثالاً على هذا المقام، فالقرآن كله من بدايته الى نهايته أمثلة لهذا المقام.

نعم، أن تلامذة القرآن والمستمعين لإرشاده من المجتهدين والصديقين وحكماء الاسلام والعلماء المحققين وعلماء اصول الفقه والمتكلمين والاولياء العارفين والاقطاب العاشقين والعلماء المدققين وعامة المسلمين.. كلهم يقولون بالاتفاق ((نحن نتلقى الارشاد على أفضل وجه من القرآن)).

والخلاصة:

أن لمعة اعجاز القرآن تتلمع في هذا المقام ايضاً - مقام الافهام والتعليم - كما هو الحال في سائر المقامات.

الشعاع الثاني

جامعية القرآن الخارقة

لهذا الشعاع خمس لمعات

اللمعة الاولى:

الجامعية الخارقة في لفظه. هذه الجامعية واضحة جلية في الآيات المذكورة في (الكلمات) السابقة وفي هذه (الكلمة).

نعم! ان الالفاظ القرآنية قد وُضعت وضعاً بحيث: أن لكلِ كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكون احياناً وجوهاً كثيرة جداً، تمنح كل مخاطب حظّه ونصيبه من ابواب مختلفة، كما يشير الى ذلك الحديث الشريف، فلكل آية ظهرٌ وبطن وحدّ ومطّلع(1)، ولكلٍ شجون وغصون وفنون(2).

U فمثلاً:

] والجبالَ اوتاداً[ (النبأ: 7)

فحصة عامي من هذا الكلام أنه:

يرى الجبال كالاوتاد المغروزة في الارض كما هو ظاهر أمام عينه، فيتأمل ما فيها من نِعم وفوائد، ويشكر خالقه.

وحصة شاعر من هذا الكلام أنه:

يتخيل أن الارض سهل منبسط، وقبة السماء عبارة عن خيمة عظيمة خضراء ضربت عليه، وزينت الخيمة بمصابيح، وان الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الافق، تمس قممها اذيال السماء، وكأنها اوتاد تلك الخيمة العظيمة. فتغمره الحيرة والاعجاب ويقدس الصانع الجليل.

أما البدوي البليغ فحصته من هذا الكلام أنه:

يتصور سطح الارض كصحراء واسعة، وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيم كثيرة بانواع شتى لمخلوقات متنوعة، حتى أن طبقة التراب عبارة عن غطاء اُلقي على تلك الاوتاد المرتفعة فرفعتها برؤوسها الحادة، جاعلةً منها مساكن مختلفة لأنواع شتى من المخلوقات.. هكذا يفهم فيسجد للفاطر الجليل سجدة حيرة واعجاب بجعله تلك المخلوقات العظيمة كأنها خيام ضربت على الارض.

أما الجغرافي الاديب فحصته من هذا الكلام أن:

كرة الارض عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر المحيط الهوائي أو الاثيري.وان الجبال أوتاد دقّت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة.. هكذا يفكر الجغرافي ويقول أمام عظمة القدير ذي الكمال الذي جعل الكرة الارضية الضخمة سفينة منتظمة وأركَبَنا فيها، لتجري بنا في آفاق العالم: (سبحانك ما اعظم شأنك).

أما المتخصص في امور المجتمع والملم بمتطلبات الحضارة الحديثة فحصتهُ من هذا الكلام:

أنه يفهم الارض عبارة عن مسكن، وان عماد حياة هذا المسكن هو حياة ذوي الحياة، وان عماد تلك الحياة هو الماء والهواء والتراب، التي هي شرائط الحياة. وان عماد هذه الثلاثة هو الجبال، لأن الجبال مخازن الماء، مشّاطة الهواء ومصفاته - اذ ترسب الغازات المضرة - وحامية التراب - اذ تحميه من استيلاء البحر والتوحل - وخزينة لسائر ما تقتضيه حياة الانسان.. هكذا يفهم فيحمد ويقدّس ذلكم الصانع ذا الجلال والاكرام الذي جعل هذه الجبال العملاقة اوتاداً ومخازن معايشنا على الارض التي هي مسكن حياتنا.

وحصة فيلسوف طبيعي من هذا الكلام:

أنه يدرك أن الامتزاجات والانقلابات والزلازل التي تحصل في باطن الارض تجد استقرارها وسكونها بظهور الجبال، فتكون الجبال سبباً لهدوء الارض واستقرارها حول محورها ومدارها وعدم عدولها عن مدارها السنوي وكأن الارض تتنفس بمنافذ الجبال فيخفّ غضَبُها وتسكن حدّتها.. هكذا يفهم ويطمئن ويلج في الايمان قائلاً: الحكمة لله.

U ومثلاً: ] ان السموات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما[ (الانبياء: 30)

ان كلمة ((رتقاً)) في هذه الآية تفيد لمن لم يتلوث بالفلسفة:

السماء كانت صافية لا سحاب فيها. والارض جدباء لا حياة فيها، فالذي فتح ابواب السماء بالمطر وفرش الارض بالخضرة هو الذي خلق جميع ذوي الحياة من ذلك الماء، وكأنه حصل نوع من المزاوجة والتلقيح بينهما، وما هذا إلاّ من شأن القدير ذي الجلال الذي يكون وجه الارض لديه كبستان صغير والسحب التي تحجب وجه السماء معصرات لذلك البستان.. يفهم هكذا فيسجد امام عظمة قدرته تعالى.

وتفيد تلك الكلمة ((رتقاً)) للعالم الكوني:

انه في بدء الخليقة، كانت الارض والسماء كتلتين لا شكل لهما وعجينتين طريتين لا نفع لهما، فبينما هما مادة لا مخلوقات لهما ولا مَن يدب عليهما، بسطهما الفاطر الحكيم بسطاً جميلاً، ومنحهما صوراً نافعة وزينة فاخرة وكثرة كاثرة من المخلوقات.. هكذا يفهم ويأخذه العجب أمام سعة حكمته تعالى.

وتفيد هذه الكلمة للفلاسفة المعاصرين:

ان كرتنا الارضية وسائر السيارات التي تشكل المنظومة الشمسية كانت في البداية ممــتـزجة مـع الشــمــس بشــكل عجينة لم تُفـرش بعــدُ، ففتـّق القادر القـيوم تلك العجينة ومكّن فيها السيارات كلاً في موضعه، فالشمس هناك والارض هنا.. وهكذا. وفرش الارض بالتراب وانزل عليها المطر من السماء، ونثر عليها الضياء من الشمس واسكنها الانسان.. هكذا يفهم ويرفع رأسه من حمأة الطبيعة قائلاً:آمنت بالله الواحد الأحد.

U ومثلاً: ] والشمس تجري لمستقر لها[ (يس: 38): فاللام في (لمستقر) تفيد معنى اللام نفسها ومعنى (في) ومعنى (الى).

فهذه (اللام) يفهمها العوام بمعنى (الى) ويفهم الآية في ضوئها؛ أي:

ان الشمس التي تمنحكم الضوء والحرارة، تجري الى مستقرٍ لها وستبلغه يوماً، وعندها لـن تفيدكم شيئاً. فيتذكر بهذا ما ربط الله سبحانه وتعالى من نعمٍ عظيمة بالشمس، فيحمد ربه ويقدّسه قائلاً: سبحان الله والحمد للّه.

والآية نفسها تظهر (اللام) بمعنى (الى) الى العالِم ايضاً، ولكن ليس بمعنى ان الشمس مصدر الضوء وحده، وانما كمكوك تحيك المنسوجات الربانية التي تنسج في معمل الربيع والصيف. وانها مدادٌ ودواةٌ من نور لمكتوبات الصمد التي تُكتب على صحيفة الليل والنهار. فيتصورها هكذا ويتأمل في نظام العالم البديع الذي يشير اليه جريان الشمس الظاهري، فيهوي ساجداً أمام حكمة الصانع الحكيم قائلاً: ما شاء الله كان، تبارك الله.

أما بالنسبة للفلكي، فان (اللام) يفهمها بمعنى (في) أي: ان الشمس تنظم حركة منظومتها ((كزنبرك)) الساعة بحركة محورية حول نفسها. فأمام هذا الصانع الجليل الذي خلق مثل هذه الساعة العظمى يأخذه العجب والانبهار فيقول: العظمة والقدرة لله وحده، ويدع الفلسفة داخلاً في ميدان حكمة القرآن.

و(اللام) هذه يفهمها العالِم المدقق بمعنى ((العلة)) وبمعنى ((الظرفية)) أي: أن الصانع الحكيم جعل الاسباب الظاهرية ستاراً لأفعاله وحجاباً لشؤونه. فقد ربط السيارات بالشمس بقانونه المسمى بـ((الجاذبية)) وبه يُجري السيارات المختلفة بحركات مختلفة ولكن منتظمة. ويجري الشمس حول مركزها سبباً ظاهرياً لتوليد تلك الجاذبية. أي أن معنى لمستقر هو: ان الشمس تجري في مستقر لها لإستقرار منظومتها، لأن الحركة تولد الحرارة والحرارة تولد القوة والقوة تولد الجاذبية الظاهرية، وذلك قانون رباني وسنة إلهية.

وهكذا، فهذا الحكيم المدقق يفهم مثل هذه الحكمة من حرف واحد من القرآن الحكيم ويقول: الحمد لله، ان الحكمة الحقة لهي في القرآن فلا اعتبر الفلسفة بعدُ شيئاً يذكر.

ومن هذه (اللام) والاستقرار يرد هذا المعنى الى مَن يملك فكراً وقلباً شاعرياً: ان الشمس شجرة نورانية، والسيارات التي حولها انما هي ثمراتها السائحة، فالشمس تنتفض دون الثمرات - بخلاف الاشجار الاخرى - لئلا تتساقط الثمرات، وبعكسه تتبعثر الثمرات.

ويمكن ان يتخيل ايضاً أن الشمس كسيد في حلقة ذكر، يذكر الله في مركز تلك الحلقة ذكر عاشقٍِ ولهان، حتى يدفع الآخرين الى الجذبة والانتشاء.

وقد قلت في رسالة اخرى في هذا المعنى

نعم، ان الشمس مثمرة، تنتفض لئلا تتساقط الثمرات الطيبة ولو سكنت وسكتت، لانفقد الانجذاب، فيصرخ العشاقُ المنسّقون في الفضاء الواسع هلعاً من السقوط والضياع!

U ومثلاً: ] واولئك هم المفلحون[ (البقرة: 5) فيها سكوت، وفيها اطلاق؛ اذ لم تعين بم يفلحون؟ ليجد كل واحد مبتغاه في هذا السكوت. فالآية تختصر الكلام ليتسع المعنى.

اذ إن قصد قسم من المخاطبين هو النجاة من النار، وقسم آخر لا يفكر إلاّ بالجنة، وقسم يأمل السعادة الابدية، وقسم يرجو الرضى الإلهي فحسب، وقسم غاية امله رؤية الله سبحانه. وهكذا.. فيترك القرآنُ الكلامَ على إطلاقه ليعمّ، ويحذف ليفيد معاني كثيرة، ويوجز ليجد كلُ واحدٍ حظَه منها.

وهكذا فـ (المفلحون) هنا لا يعِّين بِمَ سيفلحون. وكأن الآية بسكوتها تقول: أيها المسلمون: لكم البشرى! أيها المتقي: ان لك نجاة من النار. أيها العابد الصالح: فلاحُك في الجنة. أيها العارف باللّه: ستنال رضاه. أيها العاشق لجمال الله: ستحظى برؤيته تعالى.. وهكذا.

ولقد أوردنا من القرآن الكريم من جهة جامعية اللفظ في الكلام والكلمة والحروف والسكوت مثالاً واحداً فحسب من بين الآف الامثلة؛ فقس الآية والقصة على ما اسلفناه.

U ومثلا:ً ] فاعلم انه لا إله إلاّ الله واستغفر لذنبك[ (محمد:19)

هذه الآية لها من الوجوه الكثيرة والمراتب العديدة حتى رأت جميع طبقات الاولياء في شتى وسائل سلوكهم ومراتبهم حاجتهم الى هذه الآية. فأخذ كلٌ منهم غذاءً معنوياً لائقاً بمرتبته التي هو فيها، لأن لفظ الجلالة (الله) اسم جامع لجميع الاسماء الحسنى، ففيه انواع من التوحيد بقدر عدد الاسماء نفسها، أي: لا رزاق إلاّ هو، لا خالق إلاّ هو، لا رحمن إلاّ هو.. وهكذا.

U ومثلاً: قصة موسى عليه السلام من القصص القرآنية، فيها من العبر والدروس بقدر ما في عصا موسى عليه السلام من الفوائد؛ اذ فيها تطمين للرسول e وتسلية له، وتهديد للكفار، وتقبيح للمنافقين، وتوبيخ لليهود وما شابهها من المقاصد. فلها اذاً وجوه كثيرة جداً. لذا كررت في سور عدة. فمع انها تفيد جميع المقاصد في كل موضع إلاّ أن مقصداً منها هو المقصود بالذات، وتبقى المقاصد الاخرى تابعة له

اذا قلت: كيف نفهم ان القرآن قد أراد جميع تلك المعاني التي جاءت في الامثلة السابقة، ويشير اليها؟

فالجواب: ما دام القرآن الكريم خطاباً أزلياً، يخاطب به الله سبحانه وتعالى مختلف طبقات البشرية المصطفة خلف العصور ويرشدهم جميعاً، فلابد أنه يدرج معاني عدة لتلائم مختلف الافهام، وسيضع إمارات على ارادته هذه.

نعم، ففي كتاب ((اشارات الاعجاز)) ذكرنا هذه المعاني الموجودة هنا وأمثالها من المعاني المتعددة لكلمات القرآن، واثبتناها وفق قواعد علم الصرف والنحو وحسب دساتير علم البيان وفن المعاني وقوانين فن البلاغة.

والى جانب هذا فان جميع الوجوه والمعاني التي هي صحيحة حسب علوم العربية، وصائبة وفق اصول الدين، ومقبولة في فن المعاني، ولائقة في علم البيان ومستحسنة في علم البلاغة، هي من معاني القرآن الكريم، باجماع المجتهدين والمفسرين وعلماء اصول الدين واصول الفقه وبشهادة اختلاف وجهات نظرهم. وقد وضع القرآن الكريم امارات على كل من تلك المعاني حسب درجاتها وهي؛ إما لفظية أو معنوية، والامارة المعنوية هي: اما السياق نفسه او سباق الكلام أو أمارة من آيات اُخر تشير الى ذلك المعنى.

ان مئات الالوف من التفاسير التي قد بلغ بعضها ثمانين مجلداً(1) وقد الّفها علماء محققون، برهان قاطع باهر على جامعية وخارقية لفظ القرآن.

وعلى كل حال فلو اوضحنا في هذه الكلمة كل امارة تدل على كل معنى من المعاني بقانونها وبقاعدتها لطالت بنا الكلمة، لذا نختصر الكلام هنا ونحيل الى كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز).

اللمعة الثانية:

الجامعية الخارقة في معانيه. نعم، ان القرآن الكريم قد افاض من خزينة معانيه الجليلة مصادرَ جميع المجتهدين، ومذاقَ جميع العارفين، ومشاربَ جميع الواصلين ومسالكَ جميع الكاملين، ومذاهبَ جميع المحققين فضلاً عن انه صار دليلَهم في كل وقتٍ ومرشدَهم في رقيهم كل حين ناشراً على طرقهم انواره الساطعة من خزينته التي لا تنضب، كما هو مصدَّق ومتفق عليه بينهم.

اللمعة الثالثة:

الجامعية الخارقة في علمه. نعم، ان القرآن الكريم مثلما اجرى من بحر علومه؛ علومَ الشريعة المتعددة الوفيرة، وعلومَ الحقيقة المتنوعة الغزيرة، وعلومَ الطريقةِ المختلفة غير المحدودة، فانه اجرى كذلك من ذلك البحر بسخاء وانتظام؛ الحكمة الحقيقية لدائرة الممكنات، والعلومَ الحقيقية لدائرة الوجوب والمعارف الغامضة لدائرة الآخرة.

ولو اردنا ايراد مثال لهذه اللمعة فلابد من كتابة مجلد كامل! لذا نبيّن ((الكلمات)) الخمسة والعشرين السابقة فحسب.

نعم ان الحقائق الصادقة للكلمات الخمس والعشرين كلها إن هي إلاّ خمس وعشرون قطرة من بحر علم القرآن. فان وجد قصور في تلك ((الكلمات)) فهو راجع الى فهمي القاصر.

اللمعة الرابعة:

الجامعية الخارقة في مباحثه. نعم، ان القرآن قد جمع المباحث الكلية لما يخص الانسان ووظيفته، والكون وخالقه والارض والسموات والدنيا والاخرة والماضي والمستقبل والازل والابد فضلاً عن ضمه مباحث مهمة اساسية ابتداءً من خلق الانسان من النطفة الى دخوله القبر، ومن آداب الاكل والنوم الى مباحث القضاء والقدر، ومن خلق العالم في ستة ايام الى وظائف هبوب الريح التي يشير اليها القَسَم في والمرسلاتوالذاريات ومن مداخلته سبحانه في قلب الانسان وارادته باشارات الآيات الكريمة ] وما تشاؤن إلاّ أن يشاء الله[ (التكوير :29) ] يحولُ بين المرء وقلبهِ[ (الانفال:24) الى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67)، ومن ] وجعلنا فيها جنات من نخيلٍ واعناب[ (يس:34) الى الحقيقة العجيبة التي تعبّر عنها الآية ] اذا زلزلت الارض زلزالها[ (الزلزال)، ومن حالة السماء ] ثم استوى الى السماء وهي دخان[ (فصلت: 11) الى انشقاق السماء وانكدار النجوم وانتشارها في الفضاء الذي لايحد، ومن انفتاح الدنيا للامتحان الى انتهاء الاختبار، ومن القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة والبرزخ والحشر والصراط الى الجنة والسعادة الابدية، ومن وقائع الزمان الماضي الغابر من خلق آدم عليه السلام وصراع إبنَيْهِ الى الطوفان، الى هلاك قوم فرعون وحوادث جليلة لأغلب الانبياء عليهم السلام، ومن الحادثة الازلية في ] ألستُ بربكم[ (الاعراف: 172) الى ] وجوه يومئذ ناضرة ^ الى ربها ناظرة[ (القيامة:22،23) التي تفيد الابدية.

فجميع هذه المباحث الاساسية والمهمة تُبين في القرآن بياناً واضحاً يليق بذات الله الجليلة سبحانه الذي يدير الكون كله كأنه قصر ويفتح الدنيا والآخرة كغرفتين يفتح احداهما ويسد الاخرى بسهولة ، ويتصرف في الارض تصرفه في بستان صغير، وفي السماء كأنها سقف مزيّن بالمصابيح ، ويطّلع على الماضي والمستقبل كصحيفتين حاضرتين امام شهوده كالليل والنهار ويشاهد الازل والابد كاليوم وامس، يشاهدهما كالزمان الحاضر الذي اتصل فيه طرفا سلسلة الشؤون الإلهية . فكما ان معمارياً يتكلم في بناءين بناهما وفي إدارتهما ويجعل للاعمال المتعلقة بهما صحيفة عمل وفهرس نظـام؛ فالقــرآن الكــريم كــذلك كلام مبين يلــيـق بمن خلق هذا الــكـون ويديره وكتب صحيفة اعمـــاله وفــهارس برامــجه - إن جاز التعــبيــر - واظــهــرهــا. فلا يُشاهَد فيه اثرٌ من تصَـنّع وتكلّف باي جهة كانت كما لا أمارة قطعاً لشائبة تقليد أي كلامٍ عن أحد وفرض نفسه في موضع غير موضــعه وامثــالها من الخــدع. فهو بكل جديته، وبكل صـفائه، وبكــل خلوصـــه صـــافٍ بـــراق ســـاطــع زاهــر، اذ مثلما يقول ضوء الشمس: انا منبعث من الشمس فالقرآن كذلك يقول: ((انا كلام رب العالمين وبيانه)).

نعم ان الذي جمّل هذه الدنيا وزينها بصنائعه الثمينة وملأها باطايب نعمه الشهية ونشر في وجه الارض بدائع مخلوقاته ونعمه القيمة بكل إبداع واحسان وتنسيق وتنظيم ذلكم الصانع الجليل والمنعم المحسن، مَن غيرُهُ يليق أن يكون صاحب هذا البيان، بيان القرآن الكريم الذي ملأ الدنيا بالتقدير والتعظيم والاستحسان والاعجاب والحمد والشكر حتى جعل الارض رباط ذكر وتهليل،ومسجداً يرفع فيه اسم الله ومعرضاً لبدائع الصنعة الإلهية؟ ومَن يكون غيرُه صاحب هذا الكلام؟ ومَن يمكنه ان يدّعى ان يكون صاحبه؟ فهل يليق للضياء الذي ملأ الدنيا نوراً ان يعود لغير الشمس؟ وبيان القرآن الذي كشف لغز العالم ونوّره، نور مَن يكون غير نور من خلق السموات والارض؟ فمن يجرؤ ان يقلّده ويأتي بنظيرِ له؟

حقاً، ان الصانع الذي زيّن بابداع صنعته هذه الدنيا، محال الاّ يتكلم مع هذا الانسان المبهور بصُنعهِ وابداعه، فما دام انه يفعل ويعلم فلابد انه يتكلم، وما دام انه يتكلّم فلا يليق بكلامه إلاّ القرآن. فمالك الملك الذي يهتم بتنظيم زهرة صغيرة كيف لا يبالي بكلام حوّل مُلكه الى جذبة ذكر وتهليل؟ أيمكن أن يُنزّل من قدر هذا الكلام بنسبته الى غيره؟.

اللمعة الخامسة:

الجامعية الخارقة في اسلوبه وايجازه

((في هذه اللمعة خمسة اضواء))

الضوء الاول:

ان لأسلوب القرآن جامعية عجيبة، حتى ان سورة واحدة تتضمن بحر القرآن العظيم الذي ضم الكون بين جوانحه، وان آية واحدة تضم خزينة تلك السورة. وان اكثر الايات - كل منها - كسورة صغيرة، واكثر السور - كل منها - كقرآن صغير. فمن هذا الايجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للارشاد وتسهيل واسع جميل. لأن كل انسان على الرغم من حاجتـه الى تــلاوة القــرآن كل وقــت، فانه قــد لا يتاح له تلاوته، اما لغباوته وقصور فهمه أو لأسباب اخرى. فلكي لا يُحرم أحدٌ من القرآن فان كل سورة في حكم قرآن صغير، بل كل آية طويلة في مقام سورة قصيرة، حتى أن اهل الكشف متفقون ان القرآن في الفاتحة والفاتحة في البسملة.أما البرهان على هذا فهو اجماع أهل التحقيق العلماء.

الضوء الثاني:

ان الايات القرآنية جامعة بدلالاتها واشاراتها لأنواع الكلام والمعارف الحقيقية والحاجات البشرية كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، الترغيب والترهيب، الزجر والارشاد، القصص والامثال، الاحكام والمعارف الإلهية، العلوم الكونية، وقوانين وشرائط الحياة الشخصية والحياة الاجتماعية والحياة القلبية والحياة المعنوية والحياة الاخروية. حتى يصدق عليه المَثَل السائر بين اهل الحقيقة: ((خذ ما شئت لما شئت)) بمعنى ان الايات القرآنية فيها من الجامعية ما يمكن ان يكون دواء لكل داء وغذاء لكل حاجة.

نعم هكذا ينبغي ان يكون، لأن الرائد الكامل المطلق لجميع طبقات اهل الكمال الذين يقطعون المراتب دوماً الى الرقي - ذلك القرآن العظيم - لابد أن يكون مالكاً لهذه الخاصية.

الضوء الثالث:

الايجاز المعجز للقرآن. فقد يذكر القرآن مبدأ سلسلة طويلة ومنتهاها ذكراً لطيفاً يُري السلسلة بكاملها، وقد يدرج في كلمة واحدة براهين كثيرة لدعوىً؛ صراحة واشارة ورمزاً وايماءً.

فمثلاً:

] ومن آياتهِ خلقُ السموات والارض واختلافُ ألسنتِكُم وألوانكم[ (الروم:22)

هذه الآية الكريمة تذكر مبدأ سلسلة خلق الكون ومنتهاها. وهي سلسلة آيات التوحيد ودلائله، ثم تبين السلسلة الثانية، جاعلة القارئ يقرأ السلسلة الاولى وذلك:

ان أولى صحائف العالم الشاهدة على الصانع الحكيم هي خلق السموات والارض، ثم تزيين السموات بالنجـوم واعمــار الارض بـــذوي الحياة، ثم تبدل المواسم بتسخير الشمس والقمر،ثم سلسلة الشؤون الربانية في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما.. وهكذا تدريجياً حتى تبلغ خصوصية الملامح والاصوات وامتيازها وتشخصاتها التي هي اكثر مواضع انتشار الكثرة.

فاذا ما وجد انتظام بديع حكيم محير للالباب، وتبينَ عملُ قلمٍ صَنّاع حكيم في اكثر المواضع بُعداً عن الانتظام وازيدها تعرضاً للمصادفة ظاهراً، تلك هي ملامح وجوه الانسان والوانه، فلابد أن الصحائف الأخرى الظاهر نظامها تفهم بنفسها وتدل على مصّورها البديع.

ثم انه لما كان اثر الابداع والحكمة يُشاهد في أصل خلق السموات والارض التي جعلها الصانع الحكيم الحجر الاساس للكون، فلابد أن نقش الحكمة واثر الابداع ظاهر جداً في سائر اجزاء الكون.

فهذه الآية حوت ايجازاً لطيفاً معجزاً في اظهار الخفي واضمار الظاهر فأوجزتْ وأجملت. حقاً ان سلسلة البراهين المبتدئة من ] فسبحان الله حين تمسون..[ الى ] وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم[ والتي تتكرر فيها ست مرات ((ومن آياته... ومن آياته)) انما هي سلسلة جواهر، سلسلة نور، سلسلة اعجاز، سلسلة ايجاز اعجازي؛ يتمنى القلب ان اُبيّن الجواهر الكامنة في هذه الكنوز، ولكن ما حيلتي فالمقام لا يتحمله، فلا افتح ذلك الباب، واعلق الامر الى وقت آخر بمشيئة الله.

ومثلاً:

] ...فارسلون ^ يوسفُ ايها الصدِّيق[ (يوسف: 45-46) فبين كلمة (فارسلون) وكلمة (يوسف) يكمن معنى العبارة التالية: الى يوسف لأستعبر منه الرؤيا، فأرسلوه، فذهب الى السجن، وقال.. بمعنى انه أوجز عدة جملٍ في جملة واحدة من دون ان يخلّ بوضوح الآية ولا أشكل في فهمها.

ومثلاً:

] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ (يس: 80)

ففي معرض ردّ القرآن على الانسان العاصي الذي يتحدى الخالق بقوله: ] مَن يحيى العظام وهي رميم[ (يس: 78) يقول ] قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم[ (يس 79) ويقول أيضاً ] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ قادر على أن يحيى العظام وهي رميم.

فهذا الكلام يتوجه الى دعوى الاحياء من عدة جهات ويثبتها. إذ إنه يبدأ من سلسلة الاحسانات التي احسن الله بها الى الانسان فيذكّره بها ويثير شعوره، إلاّ انه يختصرالكلام لأنه فصّله في آيات اخرى، ويوجزه محيلاً اياه على العقل. أي: أن الذي منحكم من الشجر الثمرَ والنار، ومن الاعشاب الرزقَ والحبوب ، ومن التراب الحبوبَ والنباتات، قد جعل لكم الارض مهداً، فيها جميع ارزاقكم، والعالم قصراً فيه جميع لوازم حياتكم، فهل يمكن ان يترككم سدىً فتفروا منه، وتختفوا عنه في العدم؟ فلا يمكن أن تكونوا سدىً فتدخلوا القبر وتناموا براحة دون سؤال عما كسبتم ودون احيائكم؟.

ثم يشير الى دليل واحد لتلك الدعوى: فيقول رمزاً بكلمة ] الشجر الاخـضر[ ايها المنكر للحشر! انظر الى الاشجار! فإن مَن يحيى اشجاراً لاحدّ لها في الربيع بعد أن ماتت في الشتاء واصبحت شبيهة بالعظام.. ويجعلها مخضرّة ، بل يُظهر في كل شجرة ثلاثة نماذج من الحشر؛ في الاوراق والازهار والاثمار.. ان هذا القدير لا تُتحدّى قدرتُه بالانكار ولا يُستبعد منه الحشر.

ثم يشير الى دليل آخر ويقول:

ان الذي اخرج لكم النار، تلك المادة الخفيفة النورانية، من الشجر الكثيف الثقيل المظلم، كيف تستبعدون منه منح حياةٍ لطيـفة كالـنار، وشعورٍ كالــنور لعظـام كالحطب.

ثم يأتي بدليل آخر صراحة ويقول:

ان الذي يخلق النار من الشجر المشهور لدى البدويين بحكّ غصنين معاً، ويجمع بين صفتين متضادتين الرطوبة والحــرارة ويجعل احــداهما منــشأ للاخــرى، يدلنا على أن كل شـــئ حتى العــنــاصــر الأصــلية والتابعة انما تتــحرك بقــوته وتــتمـثل بأمره. ولاشئ منها يتحرك بذاته أو سدىً. فمثل هذا الخالق العظيم لا يمكن أن يُستبعد منه احياء الانسان من التراب ـ وقد خلقه من التراب ويعود اليه - فلا يُتحدى بالعصيان.

ثم بعد ذلك يذكّر بكلمة ] الشجر الاخـضر[ شجرة موسى عليه السلام المشهورة فيومئ الى اتفاق الانبياء ايماءً لطيفاً، بأن هذه الدعوى الاحمدية (عليه الصلاة والسلام) هي بعينها دعوى موسى عليه السلام. مما يزيد ايجاز هذه الكلمة لطافةً وحسناً آخر.

الضوء الرابع:

ان ايجاز القرآن جامع ومعجز، فلو انعم النظر فيه لشوهد بوضوح ان القرآن قد بيّن في مثالٍ جزئي وفي حادثة خاصة، دساتيرَ كلية واسعة وقوانينَ عامة طويلة، وكأنه يبين في غرفة ماءٍ بحراً واسعاً.

سنشير الى مثالين اثنين من آلاف امثلته.

C المثال الاول:

هو الايات الثلاث التي فصّلنا شرحها في المقام الاول من ((الكلمة العشرين)) : وهي:

انه بتعليم آدم عليه السلام الاسماء كلها تفيد الآية الكريمة: تعليم جميع العلوم والفنون الملهَمة لبني آدم.

وبحادثة سجود الملائكة لآدم عليه السلام وعدم سجود الشيطان تبين الآية: ان اكثر الموجودات ـ من السمك الى المَلَك ـ مسخرةٌ لبني الانسان، كما ان المخلوقات المضرة ـ من الثعبان الى الشيطان ـ لا تنقاد اليه بل تعاديه.

وبحادثة ذبح قوم موسى عليه السلام البقرة تعبّر الآية عن: ان فكرة عبادة البقر قد ذُبحتْ بسكين موسى عليه السلام، تلك الفكرة التي كانت رائجة في مصر حتى ان لها اثراً مباشراً في حادثة العجل.

وبنبعان الماء من الحجر وتشقق الصخور وسيلان الماء منها تبين الآية: ان الطبقة الصخرية التي تحت التراب خزائن أوعية الماء تزوّد التراب بما يبعث فيه الحياة.

C المثال الثاني:

ان قصة موسى عليه السلام قد تكررت كثيراً في القرآن الكريم؛ اذ إن في كل جملة منها، وفي كل جزء منها إظهاراً لطرفٍ من دستور كلي، ويعبّر عن ذلك الدستور.

منها: الآية الكريمة ] يا هامان ابنِ لي صرحاً[ (غافر: 36) يأمر فرعون وزيره: إبنِ لي برجاً عالياً لأطّلِع على احوال السموات وانظر هل هناك إله يتصرف فيها كما يدّعيه موسى عليه السلام؟ فبكلمة ((صرحا)) تبين الآية الكريمة بحادثة جزئية دستوراً عجيباً وعُرفاً غريباً كان جارياً في سلالة فراعنة مصر الذين ادّعوا الربوبية لجحودهم بالخالق وايمانهم بالطبيعة، وخلّدوا اسماءهم بجبروتهم وعُتوهم، فشيّدوا الاهرام المشهورة كأنها جبال وسط صحراء لا جبال فيها، ليشتهروا بها، وحفظوا جنائزهم بالتحنيط واضعين اياها في تلك المقابر الشامخة، لاعتقادهم بتناسخ الارواح والسحر.

ومنها: قوله تعالى ] فاليوم ننجيك ببدنك[ (يونس: 92) والخطاب موجه الى فرعون الذي غرق، وفي الوقت نفسه تبين الآية: ما كان للفراعنة من دستور لحياتهم مذكّرٍ بالموت ملئٍ بالعبر، وهو نقل اجساد موتاهم بالتحنيط من الماضي الى الاجيال المقبلة لعرضها امامهم وفق اعتقادهم بتناسخ الارواح، كما تفيد الآية الكريمة باسلوب معجز اشارة غيبية الى: ان الجسد الذي اكتشف في العصر الأخير هو نفسه جسد فرعون الذي غرق، فكما اُلقي به الى الساحل في الموضع الذي غرق فيه، فسيلقى به كذلك من بحر الزمان فوق امواج العصور الى ساحل هذا العصر.

ومنها: قوله تعالى ] يذبّحون ابناءكم ويستحيون نساءكم[ (البقرة: 49) فانه بحادثة ذبح بنى اسرائيل واستحياء نسائهم وبناتهم في عهد فرعون يبين الإبادة الجماعية التي يتعرض لها اليهود في اكثر البلدان وفي كل عصر، والدور المهم الذي تؤديه نساؤهم وبناتهم في حياة السفاهة للبشرية وتحلل اخلاقها.

ومنها: ] ولتجدنّهم أحرصَ الناسِ على حياة[ (البقرة: 96)

] وترى كثيراً منهم يُسارعون في الاثم والعدوان واكلهم السُحت لبئسَ ما كانوا يعملون[ (المائدة: 62 )

] ويسعوْن في الارض فساداً والله لا يحبُ المفسدين[ (المائدة: 64)

] وقـضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الارض مرتين[ (الاسراء:4)

] ولاتعثوا في الارض مفسدين[ (البقرة: 60)

هذان الحكمان القاضيان في حق اليهود - الحرص والفساد - يتضمنان هذين الدستورين العامين المهمين، اللذين يديرهما اولئك القوم في حياة المجتمع الانساني بالمكر والحيل والخديعة؛ فالآية تبين: انهم هم الذين زلزلوا الحياة الاجتماعية الانسانية واوقدوا الحرب بين الفقراء والاغنياء بتحريض العاملين على اصحاب رأس المال. وكانوا السبب في تأسيس البنوك بجعلهم الربا أضعافاً مضاعفة، وجمعوا اموالاً طائلة بكل وسيلة دنيئة بالمكر والحيل، هؤلاء القوم هم انفسهم ايضاً انخرطوا في كل انواع المنظمات الفاسدة ومدّوا أيديهم الى كل نوع من انواع الثورات، أخذاً لثأرهم من الشعوب الغالبة ومن الحكومات التي ذاقوا منها الحرمان وسامتهم انواع العذاب.

ومنها:

] فتمنوا الموت إن كنتم صادقين^ ولن يتمنوه ابداً[ (البقرة: 94ـ95)

فالآية تبين بعنوان حادثة جزئية وقعت في مجلس صغير في الحضرة النبوية الكريمة من أن اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة وأخوفهم من الموت، لن يتمنوا الموت ولن يتخلّوا عن الحرص على الحياة حتى قيام الساعة.

ومنها:

] وضربت عليهم الذلة والمسكنة[ (البقرة:61)

تبين الآية الكريمة بهذا العنوان مقدرات اليهود في المستقبل بصورة عامة، وحيث أن الحرص والفساد قد تغلغل في سجاياهم وتمكن من طبعهم فالقرآن الكريم يغلظ عليهم في الكلام ويصفعهم صفعات زجر عنيفة للتأديب.

ففي ضوء هذه الامثلة، قس بنفسك قصة موسى عليه السلام وحوادث وقعت لبني اسرائيل وقصصهم.

وبعد، فان وراء كلمات القرآن البسيطة ومباحثه الجزئية هناك كثير من امثال ما في هذا الضوء الرابع من لمعات اعجاز كلمعة ايجاز اعجازي، والعارف تكفيه الاشارة.

الضوء الخامس:

هو الجامعية الخارقة لمقاصد القرآن ومسائله ومعانيه واساليبه ولطائفه ومحاسنه. نعم! اذا انعم النظر في سور القرآن الكريم وآياته، ولاسيما فواتح السور، ومبادئ الآيات ومقاطعها تبيّن:

ان القرآن المعجز البيان قد جمع انواع البلاغة، وجميع اقسام فضائل الكلام، وجميع اصناف الاساليب العالية وجميع افراد محاسن الاخلاق، وجميع خلاصات العلوم الكونية، وجميع فهارس المعارف الإلهية، وجميع الدساتير النافعة للحياة البشرية الشخصية والاجتماعية، وجميع القوانين النورانية السامية لحكمة الكون.. وعلى الرغم من جمعه هذا لايظهر عليه أي اثر كان من آثار الخلط وعدم الاستقامة في التركيب أو المعنى.

حقاً، ان جمع جميع هذه الاجناس المختلفة الكثيرة في موضع واحد من دون أن ينشأ منه اختلال نظامٍ أو اختلاط وتشوش، انما هو شأن نظام اعجاز قهّار ليس إلاّ.

وحقاً ان تمزيق ستار العاديّات - التي هي مصدر الجهل المركب - ببيانات نافذة، واستخراج خوارق العادات المتسترة تحت ذلك الستار واظهارها بجلاء، وتحطيم طاغوت الطبيعة - التي هي منبع الضلالة - بسيوف البراهين الالماسية، وتشتيت حجب نوم الغفلة الكثيفة بصيحات مدوية كالرعد، وحل طلسم الكون المغلق والمعمّى العجيب للعالم الذي أعجز الفلسفة البشرية والحكمة الانسانية... ما هو إلاّ من صنع هذا القرآن المعجز البيان، البصير بالحقيقة ، المطّلع على الغيب، المانح للهداية، المظهر للحق.

نعم، إذا اُنعم النظر في آيات القرآن الكريم بعين الانصاف لشوهدت أنها لا تشبه فكراً تدريجياً متسلسلاً يتابع مقصداً أو مقصدين كما هو الحال في سائر الكتب بل انها تُلْقى إلقاءً، ولها طور دفعي وآني، وان عليها علامة أن كل طائفة منها ترد معاً انما ترد مستقلة وروداً وجيزاً منجّماً ومن مكان قصي ضمن مخابرة في غاية الاهمية والجدية.

نعم، مَن غيرُ رب العالمين يستطيع ان يجري هذا الكلام الوثيق الصلة بالكون وبخالق الكون وبهذه الصورة الجادة؟ ومَن غيرُه تعالى يتجاوز حدّه بما لا حد له من التجاوز فيتكلم حسب هواه باسم الخالق ذي الجلال وباسم الكون كلاماً صحيحاً كهذا؟

نعم، انه واضح جلي في القرآن أنه كلام رب العالمين.. هذا الكلام الجاد الحق السامي الحقيقي الخالص، ليس عليه اية امارة كانت تومئ بالتقليد. فلو فرضنا محالاً ان هناك مَن هو مثل مسيلمة الكذاب الذي تجاوز حدّه بغير حدود فقلّد كلام خالقه ذي العزة والجبروت وتكلّم من بنات فكره ناصباً نفسه متكلماً عن الكون، فلابد أن ستظهر الاف من أمارات التقليد والتصنع والاف من علامات الغش والتكلف. لأن مَن يتلـبّس طوراً اسمى واعلى بكثير من حالته الدنيئة لا شك أن كل حالة من حالاته تدل على التقليد والتصنع.

فانظر الى هذه الحقيقة التي يعلنها هذا القَسَم وانعم النظر فيها:

] والنجم اذا هوى ^

ما ضل صاحبكم وما غوى ^

وما ينطق عن الهوى ^

ان هو إلاّ وحيٌ يوحى[ (النجم: 1ـ4).



الشعاع الثالث

اعجاز القرآن الكريم الناشئ من إخباره عن الغيوب وديمومة شبابه، وصلاحه لكل طبقة من الناس . ولهذا الشعاع ثلاث جلوات.

الجلوة الاولى:

إخباره عن الغيوب . لهذه الجلوة ثلاث قبسات.

القبس الاول:

إخباره الغيبي عن الماضي

ان القرآن الحكيم، بلسان امي امين بالاتفاق يذكر اخباراً من لدن آدم عليه السلام الى خير القرون، مع ذكره أهم احوال الانبياء عليهم السلام واحداثهم المهمة، يذكرها ذكراً في منتهى القوة وغاية الجد، وبتصديق من الكتب السابقة كالتوراة والانجيل فيوافق ما اتفقت عليه تلك الكتب السابقة ويصحح حقيقة الواقعة ويفصِل في تلك المباحث التي اختلفت فيها.

بمعنى أن نظر القرآن الكريم ذلك النظر المطّلع على الغيب يرى احوال الماضي أفضل من تلك الكتب وبما هو فوقها جميعاً بحيث يزكيّها ويصدّقها في المسائل المتفق عليها، ويصححها ويفصِل في المباحث التي اختلف فيها. علماً ان إخبار القرآن الذي يخص احوال الماضي ووقائعه ليس امراً عقلياً حتى يُخبر عنه بالعقل، بل هو أمر نقلي متوقف على السماع، والنقل خاص بأهل القراءة والكتابة، مع ان الاعداء والاصدقاء متفقون معاً على أن القرآن انما نزل على شخص امي لا يعرف القراءة والكتابة، معروف بالامانة موصوف بالأُمية. وحينما يخبر عن تلك الاحوال الماضية يخبر عنها وكأنه يشاهدها كلها، اذ يتناول روح حادثة طويلة وعقدتها الحياتية، فيخبر عنها، ويجعلها مقدمة لمقصده. بمعنى ان الخلاصات والفذلكات المذكورة في القرآن الكريم تدل على: ان الذي أظهرها يرى جميع الماضي بجميع احواله، إذ كما ان شخصاً متخصصاً في فن أو صنعة اذا اتى بخلاصة من ذلك الفن، أو بنموذج من تلك الصنعة، فانها تدل على مهارته وملكته. كذلك الخلاصات وروح الوقائع المذكورة في القرآن الكريم تبين:

ان الذي يقولها انما يقولها وقد أحاط بها ويراها ثم يخبر عنها بمهارة فوق العادة (ان جاز التعبير).

الفبس الثاني:

إخباره الغيبي عن المستقبل

لهذا القسم انواع كثيرة:

القسم الاول: خاص بقسم من اهل الكشف والولاية.

C مثلاً:

ان محي الدين بن عربي وجد كثيراً من الإخبار عن الغيب في سورة الروم ] الم ^ غُلبت الروم[ (الروم:1- 2)

وان الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) قد شاهد في المقطّعات التي في بدايات السور كثيراً من اشارات المعاملات الغيبية.

وبالنسبة الى علماء الباطن فالقرآن الحكيم من اوله الى آخره نوع من الاخبار عن الغيب.

أما نحن فسنشير الى قسم منها، الى الذي يخص العموم ويرجع الى الجميع. ولهذا القسم ايضاً طبقات كثيرة، فسنقصركلامنا على طبقة واحدة.

فالقرآن الكريم يقول للرسول الكريم e (1) : ] فاصبر إنّ وعدَ الله حقٌ[ (الروم: 60)

] لتدخُلنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسَكُم ومقصّرين لا تخافون[ (الفتح: 27)

] هو الذي ارسل رسُولهُ بالهدى ودين الحق ليُظْهرهُ على الدين كله..[ (الفتح:28)

] وهم مِن بعدِ غَلَبهم سَيغْلِبون^ في بـضع سنين للّه الامر[ (الروم: 3،4)

] فستبْصِر ويُبصرون^ بأيّكم المفتون[ (القلم: 5،6)

] ام يقولون شاعرٌ نتربّص به ريبَ المنون^ قل تربّصوا فاني معكم من المتربصين[ (الطور: 30 - 31)

] والله يعصِمُك من الناس[ (المائدة: 67)

] فان لم تفعلوا ولن تفعلوا..[ (البقرة:24)

] ولن يتمنَوه ابداً[ (البقرة:95)

] سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهِم حتى يتبيّن لهم انه الحقّ[ (فصلت: 53)

] قل لئن اجتمعتِ الانسُ والجنُ على ان ياتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتون بمثله ولو كان بعـضُهم لبعضٍٍ ظهيراً[ (الاسراء:88)

] ياتى الله بقومٍ يحبّهم ويحبّونه أذلةٍ على المؤمنين اعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[ (المائدة :54)

] وقل الحمد لله سيريكم اياته فتعرفونها[ (النمل: 93)

] قل هو الرحمنُ امنّا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين[ (الملك:29)

] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليَستَخلفنَّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم ديَنهم الذي ارتـضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا[ (النور: 55)

وامثال هذه الآيات كثيرة جداً تتضمن اخباراً عن الغيب وقد تحققت كما أخبرت.

فالإخبار عن الغيب دون تردد وبكمال الجد والاطمئنان وبما يُشعر بقوة الوثوق، على لسان مَن هو معرّض لاعتراضات المعترضين وانتقاداتهم، وربما يفقد دعواه لخطأ طفيف، يدل دلالة قاطعة: انه يتلقى الدرس من استاذه الازلي ثم يقوله للناس.

القبس الثالث:

إخباره الغيب عن الحقائق الإلهية والحقائق الكونية والامور الاخروية.

نعم! ان بيانات القرآن التي تخص الحقائق الإلهية، وبياناته الكونية التي فتحت طلسم الكون وكشفت عن معمّى خلق العالم لهي اعظم البيانات الغيبية، لأنه ليس من شأن العقل قط، ولا يمكنه أن يسلك سلوكاً مستقيماً بين مالايحد من طرق الضلالة، فيجد تلك الحقائق الغيبية. وكما هو معلوم فان اعظم دهاة حكمـاء البــشر لم يصلوا الى اصغر تلك الحقائق وابسطها بعقولهم. ثم ان عقول البشر ستقول بلا شك امام تلك الحقائق الإلهية والحقائق الكونية التي اظهرها القرآن الكريم: صدقتَ، وستقبل تلك الحقائق بعد استماعها الى بيان القرآن بصفاء القلب وتزكية النفس، وبعد رقي الروح واكتمال العقل، وستباركه.

وحيث ان ((الكلمة الحادية عشرة)) قد أوضحت وأثبتت نبذة من هذا القسم فلا داعي للتكرار.

أما اخبار القرآن الغيبي عن الآخرة والبرزخ، فان عقل البشر وإن لم يدرك احوال الآخرة والبرزخ بمفرده ولا يراها وحده، إلاّ ان القرآن يبينها ويثبتها اثباتاً يبلغ درجة الشهود.

فراجع ((الكلمة العاشرة)) لتلمس مدى صواب الاخبار الغيبي عن الآخرة الذي أخبر به القرآن الكريم. فقد اثبتته تلك الرسالة ووضحته ايّما ايضاح.

الجلوة الثانية:

شبابية القرآن وفتوته

ان القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينزل في كل عصر نضراً فتياً.

نعم! ان القرآن الكريم لأنه خطاب ازلي يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً يلزم ان تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شاباً وهو كذلك كما كان. حتى انه ينظر الى كل عصر من العصور المختلفة في الافكار والمتباينة في الطبائع نظراً كأنه خاص بذلك العصر ووفق مقتضياته ملقناً دروسه ملفتاً اليها الانظار.

ان آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم مثله، وتتغير وتُبدَّل. إلاّ ان احكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها اكثر كلما مرت العصور.

نعم، ان هذا العصر الذي اغترّ بنفسه وأصمَّ اذنيه عن سماع القرآن اكثر من أي عصر مضى، واهل الكتاب منهم خاصة، أحوج ما يكونون الى ارشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ ((يا اهل الكتاب.. يا اهل الكتاب)) حتى كأن ذلك الخطاب موجّه الى هذا العصر بالذات إذ إن لفظ ((اهل الكتاب)) يتضمن معنى: اهل الثقافة الحديثة ايضاً!

فالقرآن يطلق نداءه يدوّي في اجواء الآفاق ويملأ الارض والسبع الطباق بكل شدة وقوة وبكل نضارة وشباب فيقول:

] يا أهل الكتاب تعالَوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم..[ (آل عمران 64)

فمثلاً: ان الافراد والجماعات مع انهم قد عجزوا عن معارضة القرآن إلاّ أن المدنية الحاضرة التي هي حصيلة افكار بني البشر وربما الجن ايضاً قد اتخذت طوراً مخالفاً له واخذت تعارض اعجازه باساليبها الساحرة. فلأجل اثبات اعجاز القرآن بدعوى الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن..[ لهذا المعارض الجديد الرهيب نضع الاسس والدساتير التي اتت بها المدنية الحاضرة امام اسس القرآن الكريم.

ففي الدرجة الاولى: نضع الموازنات التي عقدت والموازين التي نصبت في الكلمات السابقة، ابتداءاً من الكلمة الاولى الى الخامسة والعشرين، وكذا الآيات الكريمة المتصدرة لتلك الكلمات والتي تبين حقيقتها، تثبت إعجاز القرآن وظهوره على المدنية الحاضرة بيقين لا يقبل الشك قطعاً.

وفي الدرجة الثانية: نورد اجمالاً قسماً من دساتير المدنية والقرآن التي وضحته واثبتته (الكلمة الثانية عشرة).

فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها: ان ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي (القوة) وهي تستهدف (المنفعة) في كل شئ. وتتخذ (الصراع) دستوراً للحياة. وتلتزم بالعنصرية والقومية السلبية رابطةً للجماعات. وغايتها هي (لهو عابث) لإشباع رغبات الاهواء وميول النفس التي من شأنها تزييد جموح النفس واثارة الهوى. ومن المعلوم ان شأن (القوة) هو (التجاوز). وشأن (المنفعة) هو (التزاحم) اذ هي لا تفي بحاجات الجميع وتلبية رغباتهم. وشأن (الصراع) هو (التصادم) وشأن (العنصرية) هو (التجاوز) حيث تكبر بابتلاع غيرها.

فهذه الدساتير والاسس التي تستند اليها هذه المدنية الحاضرة هي التي جعلتها عاجزة - مع محاسنها - عن ان تمنح سوى عشرين بالمائة من البشر سعادة ظاهرية بينما ألقت البقية الى شقاء وتعاسة وقلق.

أما حكمة القرآن فهي تقبل (الحق) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلاً من (القوة).. وتجعل (رضى الله ونيل الفضائل) هو الغاية والهدف، بدلاً من (المنفعة)..

وتتخذ دستور (التعاون) اساساً في الحياة، بدلاً من دستور (الصراع).. وتلتزم رابطة الدين والصنف والوطن لربط فئات الجماعات، بدلاً من (العنصرية والقومية السلبية).. وتجعل غاياتها (الحدّ من تجاوز النفس الامارة ودفع الروح الى معالي الامور وتطمين مشاعرها السامية لسوق الانسان نحو الكمال والمثل العليا لجعل الانسان انساناً حقاً).

ان شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن (التعاون) هو (اغاثة كل للآخر).. وشأن (الدين) هو (الاخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس وكبح جماحها واطلاق الروح وحثها نحو الكمال) هو (سعادة الدارين).

وهكذا غُلبت المدنية الحاضرة أمام القرآن الحكيم مع ما أخذت من محاسنَ من الاديان السابقة ولا سيما من القرآن الكريم.

وفي الدرجة الثالثة: سنبين - على سبيل المثال - اربعة مسائل فحسب من بين الاف المسائل:

U المسألة الاولى:

ان دساتير القرآن الكريم وقوانينه لأنها آتية من الازل فهي باقية وماضية الى الابد. لاتهرم ابداً ولا يصيبها الموت، كما تهرم القوانين المدنية وتموت، بل هي شابة وقوية دائماً في كل زمان.

فمثلاً: ان المدنية بكل جمعياتها الخيرية، وانظمتها الصارمة ونظمها الجبارة، ومؤسساتها التربوية الاخلاقية لم تستطع ان تعارض مسألتين من القرآن الكريم بل انهارت امامهما وهي في قوله تعالى :

] وآتوا الزكاة[ (البقرة: 43) و] ..واحلّ الله البيع وحرّم الربا[ (البقرة: 275)

سنبين هذا الظهور القرآني المعجز وهذه الغالبية بمقدمة:

ان اس اساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الانساني انما هو كلمة واحدة، كما أن منبع جميع الاخلاق الرذيلة كلمة واحدة ايضاً. كما اُثبت ذلك في (اشارات الاعجاز).

الكلمة الاولى: (ان شبعتُ، فلا عليّ ان يموت غيري من الجوع).

الكلمة الثانية: (اكتسبْ انتَ، لآكل انا، واتعبْ انت لأستريح أنا).

نعم، انه لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلاّ بالمحافظة على التوزان القائم بين الخواص والعوام، اي بين الاغنياء والفقراء، واساس هذا التوزان هو رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، واطاعة العوام واحترامهم للخواص.

فالآن، ان الكلمة الاولى قد ساقت الخواص الى الظلم والفساد، ودفعت الكلمة الثانية العوام الى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحة والامان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث اوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين واصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد.

فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية ومؤسساتها الاخلاقية وبكل وسائل نظامها وانضباطها الصارم عجزت عن ان تصلح بين تينك الطبقتين من البشر كما عجزت عن ان تضمد جرحي الحياة البشرية الغائرَين.

أما القرآن الكريم فانه يقلع الكلمة الاولى من جذورها، ويداويها بوجوب الزكاة. ويقلع الكلمة الثانية من اساسها ويداويها بحرمة الربا.

نعم، ان الآيات القرآنية تقف على باب العالم قائلة للربا: الدخول ممنوع. وتأمر البشرية: اوصدوا ابواب الربا لتنسد امامكم ابواب الحروب. وتحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:22 AM

رد: الكلمات
 
فمثلاً: الآية الكريمة:

] الرحمن على العرشِ استوى[ تبين الربوبية الإلهية وكيفية تدبيرها لشؤون العالم في صورة تمثيل وتشبيه لمرتبة الربوبية بالسلطان الذي يعتلي عرشه ويدير أمر السلطنة.

نعم! لما كان القرآن كلاماً لرب العالمين نزل من المرتبة العظمى لربوبيته الجليلة، مهيمناً على جميع المراتب الاخرى، مرشداً البالغين الى تلك المراتب، مخترقاً سبعين ألف حجاب، ملتفتاً اليها ومنوراً لها، وقد نشر نوره على الاف الطبقات من المخاطبين المتباينين في الفهم والادراك، ونثر فيضه طوال عصور وقرون متفاوتة في الاستعدادات. وعلى الرغم من نشره لمعانيه بسهولة تامة في جميع الانحاء والازمان، احتفظ بحيويته ونداوته ونضارته ولم يفقد شيئاً منها، بل ظل في منتهى الطراوة والجدة واللطافة سهلاً ممتنعاً، اذ مثلما يلقى دروسه على أي عامي كان في غاية السهولة يلقيه على المختلفين في الفهم والمتباينين في الذكاء لكثير جداً من الطبقات المتفاوتة ويرشدهم الى الصواب ويورثهم القناعة والاطمئنان.

ففي هذا الكتاب المبين اينما وجهت نظرك يمكنك ان تشاهد لمعة اعجاز.

حاصل الكلام:

كما ان لفظة قرآنية مثل: ((الحمد لله)) عندما تُتلى تملأ الكهف الذي هو بمثابة اُذن الجبل، فانها تملأ في الوقت نفسه ما تشبه الاُذين الصغيرة جداً لبعوض فتستقر اللفظة نفسها فيهما معاً. كذلك الأمر في معاني القرآن الكريم. اذ مثلما تُشبع عقولاً جبارة، تعلّم عقولاً صغيرة وبسيطة جداً، وتُطمئنها بالكلمات نفسها، ذلك لأن القرآن يدعو جميع طبقات الجن والانس الى الايمان ويعلّم جميعهم علوم الايمان ويثبتها لهم جميعاً، لذا يستمع الى درس القرآن وارشاده اغبى الاغبياء من عامة الناس مع اخص الخواص جنباً الى جنب متكاتفين معاً.

أي أن القرآن الكريم مائدة سماوية تجد فيها الآف من مختلف طبقات الأفكار والعقول والقلوب والارواح غذاءهم، كل حسب ما يشتهيه ويلبّي رغباته. حتى ان كثيراً من أبواب القرآن ظلت مغلقة لتفتح في المستقبل من الزمان.

فإن شئت مثالاً على هذا المقام، فالقرآن كله من بدايته الى نهايته أمثلة لهذا المقام.

نعم، أن تلامذة القرآن والمستمعين لإرشاده من المجتهدين والصديقين وحكماء الاسلام والعلماء المحققين وعلماء اصول الفقه والمتكلمين والاولياء العارفين والاقطاب العاشقين والعلماء المدققين وعامة المسلمين.. كلهم يقولون بالاتفاق ((نحن نتلقى الارشاد على أفضل وجه من القرآن)).

والخلاصة:

أن لمعة اعجاز القرآن تتلمع في هذا المقام ايضاً - مقام الافهام والتعليم - كما هو الحال في سائر المقامات.

الشعاع الثاني

جامعية القرآن الخارقة

لهذا الشعاع خمس لمعات

اللمعة الاولى:

الجامعية الخارقة في لفظه. هذه الجامعية واضحة جلية في الآيات المذكورة في (الكلمات) السابقة وفي هذه (الكلمة).

نعم! ان الالفاظ القرآنية قد وُضعت وضعاً بحيث: أن لكلِ كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكون احياناً وجوهاً كثيرة جداً، تمنح كل مخاطب حظّه ونصيبه من ابواب مختلفة، كما يشير الى ذلك الحديث الشريف، فلكل آية ظهرٌ وبطن وحدّ ومطّلع(1)، ولكلٍ شجون وغصون وفنون(2).

U فمثلاً:

] والجبالَ اوتاداً[ (النبأ: 7)

فحصة عامي من هذا الكلام أنه:

يرى الجبال كالاوتاد المغروزة في الارض كما هو ظاهر أمام عينه، فيتأمل ما فيها من نِعم وفوائد، ويشكر خالقه.

وحصة شاعر من هذا الكلام أنه:

يتخيل أن الارض سهل منبسط، وقبة السماء عبارة عن خيمة عظيمة خضراء ضربت عليه، وزينت الخيمة بمصابيح، وان الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الافق، تمس قممها اذيال السماء، وكأنها اوتاد تلك الخيمة العظيمة. فتغمره الحيرة والاعجاب ويقدس الصانع الجليل.

أما البدوي البليغ فحصته من هذا الكلام أنه:

يتصور سطح الارض كصحراء واسعة، وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيم كثيرة بانواع شتى لمخلوقات متنوعة، حتى أن طبقة التراب عبارة عن غطاء اُلقي على تلك الاوتاد المرتفعة فرفعتها برؤوسها الحادة، جاعلةً منها مساكن مختلفة لأنواع شتى من المخلوقات.. هكذا يفهم فيسجد للفاطر الجليل سجدة حيرة واعجاب بجعله تلك المخلوقات العظيمة كأنها خيام ضربت على الارض.

أما الجغرافي الاديب فحصته من هذا الكلام أن:

كرة الارض عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر المحيط الهوائي أو الاثيري.وان الجبال أوتاد دقّت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة.. هكذا يفكر الجغرافي ويقول أمام عظمة القدير ذي الكمال الذي جعل الكرة الارضية الضخمة سفينة منتظمة وأركَبَنا فيها، لتجري بنا في آفاق العالم: (سبحانك ما اعظم شأنك).

أما المتخصص في امور المجتمع والملم بمتطلبات الحضارة الحديثة فحصتهُ من هذا الكلام:

أنه يفهم الارض عبارة عن مسكن، وان عماد حياة هذا المسكن هو حياة ذوي الحياة، وان عماد تلك الحياة هو الماء والهواء والتراب، التي هي شرائط الحياة. وان عماد هذه الثلاثة هو الجبال، لأن الجبال مخازن الماء، مشّاطة الهواء ومصفاته - اذ ترسب الغازات المضرة - وحامية التراب - اذ تحميه من استيلاء البحر والتوحل - وخزينة لسائر ما تقتضيه حياة الانسان.. هكذا يفهم فيحمد ويقدّس ذلكم الصانع ذا الجلال والاكرام الذي جعل هذه الجبال العملاقة اوتاداً ومخازن معايشنا على الارض التي هي مسكن حياتنا.

وحصة فيلسوف طبيعي من هذا الكلام:

أنه يدرك أن الامتزاجات والانقلابات والزلازل التي تحصل في باطن الارض تجد استقرارها وسكونها بظهور الجبال، فتكون الجبال سبباً لهدوء الارض واستقرارها حول محورها ومدارها وعدم عدولها عن مدارها السنوي وكأن الارض تتنفس بمنافذ الجبال فيخفّ غضَبُها وتسكن حدّتها.. هكذا يفهم ويطمئن ويلج في الايمان قائلاً: الحكمة لله.

U ومثلاً: ] ان السموات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما[ (الانبياء: 30)

ان كلمة ((رتقاً)) في هذه الآية تفيد لمن لم يتلوث بالفلسفة:

السماء كانت صافية لا سحاب فيها. والارض جدباء لا حياة فيها، فالذي فتح ابواب السماء بالمطر وفرش الارض بالخضرة هو الذي خلق جميع ذوي الحياة من ذلك الماء، وكأنه حصل نوع من المزاوجة والتلقيح بينهما، وما هذا إلاّ من شأن القدير ذي الجلال الذي يكون وجه الارض لديه كبستان صغير والسحب التي تحجب وجه السماء معصرات لذلك البستان.. يفهم هكذا فيسجد امام عظمة قدرته تعالى.

وتفيد تلك الكلمة ((رتقاً)) للعالم الكوني:

انه في بدء الخليقة، كانت الارض والسماء كتلتين لا شكل لهما وعجينتين طريتين لا نفع لهما، فبينما هما مادة لا مخلوقات لهما ولا مَن يدب عليهما، بسطهما الفاطر الحكيم بسطاً جميلاً، ومنحهما صوراً نافعة وزينة فاخرة وكثرة كاثرة من المخلوقات.. هكذا يفهم ويأخذه العجب أمام سعة حكمته تعالى.

وتفيد هذه الكلمة للفلاسفة المعاصرين:

ان كرتنا الارضية وسائر السيارات التي تشكل المنظومة الشمسية كانت في البداية ممــتـزجة مـع الشــمــس بشــكل عجينة لم تُفـرش بعــدُ، ففتـّق القادر القـيوم تلك العجينة ومكّن فيها السيارات كلاً في موضعه، فالشمس هناك والارض هنا.. وهكذا. وفرش الارض بالتراب وانزل عليها المطر من السماء، ونثر عليها الضياء من الشمس واسكنها الانسان.. هكذا يفهم ويرفع رأسه من حمأة الطبيعة قائلاً:آمنت بالله الواحد الأحد.

U ومثلاً: ] والشمس تجري لمستقر لها[ (يس: 38): فاللام في (لمستقر) تفيد معنى اللام نفسها ومعنى (في) ومعنى (الى).

فهذه (اللام) يفهمها العوام بمعنى (الى) ويفهم الآية في ضوئها؛ أي:

ان الشمس التي تمنحكم الضوء والحرارة، تجري الى مستقرٍ لها وستبلغه يوماً، وعندها لـن تفيدكم شيئاً. فيتذكر بهذا ما ربط الله سبحانه وتعالى من نعمٍ عظيمة بالشمس، فيحمد ربه ويقدّسه قائلاً: سبحان الله والحمد للّه.

والآية نفسها تظهر (اللام) بمعنى (الى) الى العالِم ايضاً، ولكن ليس بمعنى ان الشمس مصدر الضوء وحده، وانما كمكوك تحيك المنسوجات الربانية التي تنسج في معمل الربيع والصيف. وانها مدادٌ ودواةٌ من نور لمكتوبات الصمد التي تُكتب على صحيفة الليل والنهار. فيتصورها هكذا ويتأمل في نظام العالم البديع الذي يشير اليه جريان الشمس الظاهري، فيهوي ساجداً أمام حكمة الصانع الحكيم قائلاً: ما شاء الله كان، تبارك الله.

أما بالنسبة للفلكي، فان (اللام) يفهمها بمعنى (في) أي: ان الشمس تنظم حركة منظومتها ((كزنبرك)) الساعة بحركة محورية حول نفسها. فأمام هذا الصانع الجليل الذي خلق مثل هذه الساعة العظمى يأخذه العجب والانبهار فيقول: العظمة والقدرة لله وحده، ويدع الفلسفة داخلاً في ميدان حكمة القرآن.

و(اللام) هذه يفهمها العالِم المدقق بمعنى ((العلة)) وبمعنى ((الظرفية)) أي: أن الصانع الحكيم جعل الاسباب الظاهرية ستاراً لأفعاله وحجاباً لشؤونه. فقد ربط السيارات بالشمس بقانونه المسمى بـ((الجاذبية)) وبه يُجري السيارات المختلفة بحركات مختلفة ولكن منتظمة. ويجري الشمس حول مركزها سبباً ظاهرياً لتوليد تلك الجاذبية. أي أن معنى لمستقر هو: ان الشمس تجري في مستقر لها لإستقرار منظومتها، لأن الحركة تولد الحرارة والحرارة تولد القوة والقوة تولد الجاذبية الظاهرية، وذلك قانون رباني وسنة إلهية.

وهكذا، فهذا الحكيم المدقق يفهم مثل هذه الحكمة من حرف واحد من القرآن الحكيم ويقول: الحمد لله، ان الحكمة الحقة لهي في القرآن فلا اعتبر الفلسفة بعدُ شيئاً يذكر.

ومن هذه (اللام) والاستقرار يرد هذا المعنى الى مَن يملك فكراً وقلباً شاعرياً: ان الشمس شجرة نورانية، والسيارات التي حولها انما هي ثمراتها السائحة، فالشمس تنتفض دون الثمرات - بخلاف الاشجار الاخرى - لئلا تتساقط الثمرات، وبعكسه تتبعثر الثمرات.

ويمكن ان يتخيل ايضاً أن الشمس كسيد في حلقة ذكر، يذكر الله في مركز تلك الحلقة ذكر عاشقٍِ ولهان، حتى يدفع الآخرين الى الجذبة والانتشاء.

وقد قلت في رسالة اخرى في هذا المعنى

نعم، ان الشمس مثمرة، تنتفض لئلا تتساقط الثمرات الطيبة ولو سكنت وسكتت، لانفقد الانجذاب، فيصرخ العشاقُ المنسّقون في الفضاء الواسع هلعاً من السقوط والضياع!

U ومثلاً: ] واولئك هم المفلحون[ (البقرة: 5) فيها سكوت، وفيها اطلاق؛ اذ لم تعين بم يفلحون؟ ليجد كل واحد مبتغاه في هذا السكوت. فالآية تختصر الكلام ليتسع المعنى.

اذ إن قصد قسم من المخاطبين هو النجاة من النار، وقسم آخر لا يفكر إلاّ بالجنة، وقسم يأمل السعادة الابدية، وقسم يرجو الرضى الإلهي فحسب، وقسم غاية امله رؤية الله سبحانه. وهكذا.. فيترك القرآنُ الكلامَ على إطلاقه ليعمّ، ويحذف ليفيد معاني كثيرة، ويوجز ليجد كلُ واحدٍ حظَه منها.

وهكذا فـ (المفلحون) هنا لا يعِّين بِمَ سيفلحون. وكأن الآية بسكوتها تقول: أيها المسلمون: لكم البشرى! أيها المتقي: ان لك نجاة من النار. أيها العابد الصالح: فلاحُك في الجنة. أيها العارف باللّه: ستنال رضاه. أيها العاشق لجمال الله: ستحظى برؤيته تعالى.. وهكذا.

ولقد أوردنا من القرآن الكريم من جهة جامعية اللفظ في الكلام والكلمة والحروف والسكوت مثالاً واحداً فحسب من بين الآف الامثلة؛ فقس الآية والقصة على ما اسلفناه.

U ومثلا:ً ] فاعلم انه لا إله إلاّ الله واستغفر لذنبك[ (محمد:19)

هذه الآية لها من الوجوه الكثيرة والمراتب العديدة حتى رأت جميع طبقات الاولياء في شتى وسائل سلوكهم ومراتبهم حاجتهم الى هذه الآية. فأخذ كلٌ منهم غذاءً معنوياً لائقاً بمرتبته التي هو فيها، لأن لفظ الجلالة (الله) اسم جامع لجميع الاسماء الحسنى، ففيه انواع من التوحيد بقدر عدد الاسماء نفسها، أي: لا رزاق إلاّ هو، لا خالق إلاّ هو، لا رحمن إلاّ هو.. وهكذا.

U ومثلاً: قصة موسى عليه السلام من القصص القرآنية، فيها من العبر والدروس بقدر ما في عصا موسى عليه السلام من الفوائد؛ اذ فيها تطمين للرسول e وتسلية له، وتهديد للكفار، وتقبيح للمنافقين، وتوبيخ لليهود وما شابهها من المقاصد. فلها اذاً وجوه كثيرة جداً. لذا كررت في سور عدة. فمع انها تفيد جميع المقاصد في كل موضع إلاّ أن مقصداً منها هو المقصود بالذات، وتبقى المقاصد الاخرى تابعة له

اذا قلت: كيف نفهم ان القرآن قد أراد جميع تلك المعاني التي جاءت في الامثلة السابقة، ويشير اليها؟

فالجواب: ما دام القرآن الكريم خطاباً أزلياً، يخاطب به الله سبحانه وتعالى مختلف طبقات البشرية المصطفة خلف العصور ويرشدهم جميعاً، فلابد أنه يدرج معاني عدة لتلائم مختلف الافهام، وسيضع إمارات على ارادته هذه.

نعم، ففي كتاب ((اشارات الاعجاز)) ذكرنا هذه المعاني الموجودة هنا وأمثالها من المعاني المتعددة لكلمات القرآن، واثبتناها وفق قواعد علم الصرف والنحو وحسب دساتير علم البيان وفن المعاني وقوانين فن البلاغة.

والى جانب هذا فان جميع الوجوه والمعاني التي هي صحيحة حسب علوم العربية، وصائبة وفق اصول الدين، ومقبولة في فن المعاني، ولائقة في علم البيان ومستحسنة في علم البلاغة، هي من معاني القرآن الكريم، باجماع المجتهدين والمفسرين وعلماء اصول الدين واصول الفقه وبشهادة اختلاف وجهات نظرهم. وقد وضع القرآن الكريم امارات على كل من تلك المعاني حسب درجاتها وهي؛ إما لفظية أو معنوية، والامارة المعنوية هي: اما السياق نفسه او سباق الكلام أو أمارة من آيات اُخر تشير الى ذلك المعنى.

ان مئات الالوف من التفاسير التي قد بلغ بعضها ثمانين مجلداً(1) وقد الّفها علماء محققون، برهان قاطع باهر على جامعية وخارقية لفظ القرآن.

وعلى كل حال فلو اوضحنا في هذه الكلمة كل امارة تدل على كل معنى من المعاني بقانونها وبقاعدتها لطالت بنا الكلمة، لذا نختصر الكلام هنا ونحيل الى كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز).

اللمعة الثانية:

الجامعية الخارقة في معانيه. نعم، ان القرآن الكريم قد افاض من خزينة معانيه الجليلة مصادرَ جميع المجتهدين، ومذاقَ جميع العارفين، ومشاربَ جميع الواصلين ومسالكَ جميع الكاملين، ومذاهبَ جميع المحققين فضلاً عن انه صار دليلَهم في كل وقتٍ ومرشدَهم في رقيهم كل حين ناشراً على طرقهم انواره الساطعة من خزينته التي لا تنضب، كما هو مصدَّق ومتفق عليه بينهم.

اللمعة الثالثة:

الجامعية الخارقة في علمه. نعم، ان القرآن الكريم مثلما اجرى من بحر علومه؛ علومَ الشريعة المتعددة الوفيرة، وعلومَ الحقيقة المتنوعة الغزيرة، وعلومَ الطريقةِ المختلفة غير المحدودة، فانه اجرى كذلك من ذلك البحر بسخاء وانتظام؛ الحكمة الحقيقية لدائرة الممكنات، والعلومَ الحقيقية لدائرة الوجوب والمعارف الغامضة لدائرة الآخرة.

ولو اردنا ايراد مثال لهذه اللمعة فلابد من كتابة مجلد كامل! لذا نبيّن ((الكلمات)) الخمسة والعشرين السابقة فحسب.

نعم ان الحقائق الصادقة للكلمات الخمس والعشرين كلها إن هي إلاّ خمس وعشرون قطرة من بحر علم القرآن. فان وجد قصور في تلك ((الكلمات)) فهو راجع الى فهمي القاصر.

اللمعة الرابعة:

الجامعية الخارقة في مباحثه. نعم، ان القرآن قد جمع المباحث الكلية لما يخص الانسان ووظيفته، والكون وخالقه والارض والسموات والدنيا والاخرة والماضي والمستقبل والازل والابد فضلاً عن ضمه مباحث مهمة اساسية ابتداءً من خلق الانسان من النطفة الى دخوله القبر، ومن آداب الاكل والنوم الى مباحث القضاء والقدر، ومن خلق العالم في ستة ايام الى وظائف هبوب الريح التي يشير اليها القَسَم في والمرسلاتوالذاريات ومن مداخلته سبحانه في قلب الانسان وارادته باشارات الآيات الكريمة ] وما تشاؤن إلاّ أن يشاء الله[ (التكوير :29) ] يحولُ بين المرء وقلبهِ[ (الانفال:24) الى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67)، ومن ] وجعلنا فيها جنات من نخيلٍ واعناب[ (يس:34) الى الحقيقة العجيبة التي تعبّر عنها الآية ] اذا زلزلت الارض زلزالها[ (الزلزال)، ومن حالة السماء ] ثم استوى الى السماء وهي دخان[ (فصلت: 11) الى انشقاق السماء وانكدار النجوم وانتشارها في الفضاء الذي لايحد، ومن انفتاح الدنيا للامتحان الى انتهاء الاختبار، ومن القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة والبرزخ والحشر والصراط الى الجنة والسعادة الابدية، ومن وقائع الزمان الماضي الغابر من خلق آدم عليه السلام وصراع إبنَيْهِ الى الطوفان، الى هلاك قوم فرعون وحوادث جليلة لأغلب الانبياء عليهم السلام، ومن الحادثة الازلية في ] ألستُ بربكم[ (الاعراف: 172) الى ] وجوه يومئذ ناضرة ^ الى ربها ناظرة[ (القيامة:22،23) التي تفيد الابدية.

فجميع هذه المباحث الاساسية والمهمة تُبين في القرآن بياناً واضحاً يليق بذات الله الجليلة سبحانه الذي يدير الكون كله كأنه قصر ويفتح الدنيا والآخرة كغرفتين يفتح احداهما ويسد الاخرى بسهولة ، ويتصرف في الارض تصرفه في بستان صغير، وفي السماء كأنها سقف مزيّن بالمصابيح ، ويطّلع على الماضي والمستقبل كصحيفتين حاضرتين امام شهوده كالليل والنهار ويشاهد الازل والابد كاليوم وامس، يشاهدهما كالزمان الحاضر الذي اتصل فيه طرفا سلسلة الشؤون الإلهية . فكما ان معمارياً يتكلم في بناءين بناهما وفي إدارتهما ويجعل للاعمال المتعلقة بهما صحيفة عمل وفهرس نظـام؛ فالقــرآن الكــريم كــذلك كلام مبين يلــيـق بمن خلق هذا الــكـون ويديره وكتب صحيفة اعمـــاله وفــهارس برامــجه - إن جاز التعــبيــر - واظــهــرهــا. فلا يُشاهَد فيه اثرٌ من تصَـنّع وتكلّف باي جهة كانت كما لا أمارة قطعاً لشائبة تقليد أي كلامٍ عن أحد وفرض نفسه في موضع غير موضــعه وامثــالها من الخــدع. فهو بكل جديته، وبكل صـفائه، وبكــل خلوصـــه صـــافٍ بـــراق ســـاطــع زاهــر، اذ مثلما يقول ضوء الشمس: انا منبعث من الشمس فالقرآن كذلك يقول: ((انا كلام رب العالمين وبيانه)).

نعم ان الذي جمّل هذه الدنيا وزينها بصنائعه الثمينة وملأها باطايب نعمه الشهية ونشر في وجه الارض بدائع مخلوقاته ونعمه القيمة بكل إبداع واحسان وتنسيق وتنظيم ذلكم الصانع الجليل والمنعم المحسن، مَن غيرُهُ يليق أن يكون صاحب هذا البيان، بيان القرآن الكريم الذي ملأ الدنيا بالتقدير والتعظيم والاستحسان والاعجاب والحمد والشكر حتى جعل الارض رباط ذكر وتهليل،ومسجداً يرفع فيه اسم الله ومعرضاً لبدائع الصنعة الإلهية؟ ومَن يكون غيرُه صاحب هذا الكلام؟ ومَن يمكنه ان يدّعى ان يكون صاحبه؟ فهل يليق للضياء الذي ملأ الدنيا نوراً ان يعود لغير الشمس؟ وبيان القرآن الذي كشف لغز العالم ونوّره، نور مَن يكون غير نور من خلق السموات والارض؟ فمن يجرؤ ان يقلّده ويأتي بنظيرِ له؟

حقاً، ان الصانع الذي زيّن بابداع صنعته هذه الدنيا، محال الاّ يتكلم مع هذا الانسان المبهور بصُنعهِ وابداعه، فما دام انه يفعل ويعلم فلابد انه يتكلم، وما دام انه يتكلّم فلا يليق بكلامه إلاّ القرآن. فمالك الملك الذي يهتم بتنظيم زهرة صغيرة كيف لا يبالي بكلام حوّل مُلكه الى جذبة ذكر وتهليل؟ أيمكن أن يُنزّل من قدر هذا الكلام بنسبته الى غيره؟.

اللمعة الخامسة:

الجامعية الخارقة في اسلوبه وايجازه

((في هذه اللمعة خمسة اضواء))

الضوء الاول:

ان لأسلوب القرآن جامعية عجيبة، حتى ان سورة واحدة تتضمن بحر القرآن العظيم الذي ضم الكون بين جوانحه، وان آية واحدة تضم خزينة تلك السورة. وان اكثر الايات - كل منها - كسورة صغيرة، واكثر السور - كل منها - كقرآن صغير. فمن هذا الايجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للارشاد وتسهيل واسع جميل. لأن كل انسان على الرغم من حاجتـه الى تــلاوة القــرآن كل وقــت، فانه قــد لا يتاح له تلاوته، اما لغباوته وقصور فهمه أو لأسباب اخرى. فلكي لا يُحرم أحدٌ من القرآن فان كل سورة في حكم قرآن صغير، بل كل آية طويلة في مقام سورة قصيرة، حتى أن اهل الكشف متفقون ان القرآن في الفاتحة والفاتحة في البسملة.أما البرهان على هذا فهو اجماع أهل التحقيق العلماء.

الضوء الثاني:

ان الايات القرآنية جامعة بدلالاتها واشاراتها لأنواع الكلام والمعارف الحقيقية والحاجات البشرية كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، الترغيب والترهيب، الزجر والارشاد، القصص والامثال، الاحكام والمعارف الإلهية، العلوم الكونية، وقوانين وشرائط الحياة الشخصية والحياة الاجتماعية والحياة القلبية والحياة المعنوية والحياة الاخروية. حتى يصدق عليه المَثَل السائر بين اهل الحقيقة: ((خذ ما شئت لما شئت)) بمعنى ان الايات القرآنية فيها من الجامعية ما يمكن ان يكون دواء لكل داء وغذاء لكل حاجة.

نعم هكذا ينبغي ان يكون، لأن الرائد الكامل المطلق لجميع طبقات اهل الكمال الذين يقطعون المراتب دوماً الى الرقي - ذلك القرآن العظيم - لابد أن يكون مالكاً لهذه الخاصية.

الضوء الثالث:

الايجاز المعجز للقرآن. فقد يذكر القرآن مبدأ سلسلة طويلة ومنتهاها ذكراً لطيفاً يُري السلسلة بكاملها، وقد يدرج في كلمة واحدة براهين كثيرة لدعوىً؛ صراحة واشارة ورمزاً وايماءً.

فمثلاً:

] ومن آياتهِ خلقُ السموات والارض واختلافُ ألسنتِكُم وألوانكم[ (الروم:22)

هذه الآية الكريمة تذكر مبدأ سلسلة خلق الكون ومنتهاها. وهي سلسلة آيات التوحيد ودلائله، ثم تبين السلسلة الثانية، جاعلة القارئ يقرأ السلسلة الاولى وذلك:

ان أولى صحائف العالم الشاهدة على الصانع الحكيم هي خلق السموات والارض، ثم تزيين السموات بالنجـوم واعمــار الارض بـــذوي الحياة، ثم تبدل المواسم بتسخير الشمس والقمر،ثم سلسلة الشؤون الربانية في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما.. وهكذا تدريجياً حتى تبلغ خصوصية الملامح والاصوات وامتيازها وتشخصاتها التي هي اكثر مواضع انتشار الكثرة.

فاذا ما وجد انتظام بديع حكيم محير للالباب، وتبينَ عملُ قلمٍ صَنّاع حكيم في اكثر المواضع بُعداً عن الانتظام وازيدها تعرضاً للمصادفة ظاهراً، تلك هي ملامح وجوه الانسان والوانه، فلابد أن الصحائف الأخرى الظاهر نظامها تفهم بنفسها وتدل على مصّورها البديع.

ثم انه لما كان اثر الابداع والحكمة يُشاهد في أصل خلق السموات والارض التي جعلها الصانع الحكيم الحجر الاساس للكون، فلابد أن نقش الحكمة واثر الابداع ظاهر جداً في سائر اجزاء الكون.

فهذه الآية حوت ايجازاً لطيفاً معجزاً في اظهار الخفي واضمار الظاهر فأوجزتْ وأجملت. حقاً ان سلسلة البراهين المبتدئة من ] فسبحان الله حين تمسون..[ الى ] وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم[ والتي تتكرر فيها ست مرات ((ومن آياته... ومن آياته)) انما هي سلسلة جواهر، سلسلة نور، سلسلة اعجاز، سلسلة ايجاز اعجازي؛ يتمنى القلب ان اُبيّن الجواهر الكامنة في هذه الكنوز، ولكن ما حيلتي فالمقام لا يتحمله، فلا افتح ذلك الباب، واعلق الامر الى وقت آخر بمشيئة الله.

ومثلاً:

] ...فارسلون ^ يوسفُ ايها الصدِّيق[ (يوسف: 45-46) فبين كلمة (فارسلون) وكلمة (يوسف) يكمن معنى العبارة التالية: الى يوسف لأستعبر منه الرؤيا، فأرسلوه، فذهب الى السجن، وقال.. بمعنى انه أوجز عدة جملٍ في جملة واحدة من دون ان يخلّ بوضوح الآية ولا أشكل في فهمها.

ومثلاً:

] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ (يس: 80)

ففي معرض ردّ القرآن على الانسان العاصي الذي يتحدى الخالق بقوله: ] مَن يحيى العظام وهي رميم[ (يس: 78) يقول ] قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم[ (يس 79) ويقول أيضاً ] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ قادر على أن يحيى العظام وهي رميم.

فهذا الكلام يتوجه الى دعوى الاحياء من عدة جهات ويثبتها. إذ إنه يبدأ من سلسلة الاحسانات التي احسن الله بها الى الانسان فيذكّره بها ويثير شعوره، إلاّ انه يختصرالكلام لأنه فصّله في آيات اخرى، ويوجزه محيلاً اياه على العقل. أي: أن الذي منحكم من الشجر الثمرَ والنار، ومن الاعشاب الرزقَ والحبوب ، ومن التراب الحبوبَ والنباتات، قد جعل لكم الارض مهداً، فيها جميع ارزاقكم، والعالم قصراً فيه جميع لوازم حياتكم، فهل يمكن ان يترككم سدىً فتفروا منه، وتختفوا عنه في العدم؟ فلا يمكن أن تكونوا سدىً فتدخلوا القبر وتناموا براحة دون سؤال عما كسبتم ودون احيائكم؟.

ثم يشير الى دليل واحد لتلك الدعوى: فيقول رمزاً بكلمة ] الشجر الاخـضر[ ايها المنكر للحشر! انظر الى الاشجار! فإن مَن يحيى اشجاراً لاحدّ لها في الربيع بعد أن ماتت في الشتاء واصبحت شبيهة بالعظام.. ويجعلها مخضرّة ، بل يُظهر في كل شجرة ثلاثة نماذج من الحشر؛ في الاوراق والازهار والاثمار.. ان هذا القدير لا تُتحدّى قدرتُه بالانكار ولا يُستبعد منه الحشر.

ثم يشير الى دليل آخر ويقول:

ان الذي اخرج لكم النار، تلك المادة الخفيفة النورانية، من الشجر الكثيف الثقيل المظلم، كيف تستبعدون منه منح حياةٍ لطيـفة كالـنار، وشعورٍ كالــنور لعظـام كالحطب.

ثم يأتي بدليل آخر صراحة ويقول:

ان الذي يخلق النار من الشجر المشهور لدى البدويين بحكّ غصنين معاً، ويجمع بين صفتين متضادتين الرطوبة والحــرارة ويجعل احــداهما منــشأ للاخــرى، يدلنا على أن كل شـــئ حتى العــنــاصــر الأصــلية والتابعة انما تتــحرك بقــوته وتــتمـثل بأمره. ولاشئ منها يتحرك بذاته أو سدىً. فمثل هذا الخالق العظيم لا يمكن أن يُستبعد منه احياء الانسان من التراب ـ وقد خلقه من التراب ويعود اليه - فلا يُتحدى بالعصيان.

ثم بعد ذلك يذكّر بكلمة ] الشجر الاخـضر[ شجرة موسى عليه السلام المشهورة فيومئ الى اتفاق الانبياء ايماءً لطيفاً، بأن هذه الدعوى الاحمدية (عليه الصلاة والسلام) هي بعينها دعوى موسى عليه السلام. مما يزيد ايجاز هذه الكلمة لطافةً وحسناً آخر.

الضوء الرابع:

ان ايجاز القرآن جامع ومعجز، فلو انعم النظر فيه لشوهد بوضوح ان القرآن قد بيّن في مثالٍ جزئي وفي حادثة خاصة، دساتيرَ كلية واسعة وقوانينَ عامة طويلة، وكأنه يبين في غرفة ماءٍ بحراً واسعاً.

سنشير الى مثالين اثنين من آلاف امثلته.

C المثال الاول:

هو الايات الثلاث التي فصّلنا شرحها في المقام الاول من ((الكلمة العشرين)) : وهي:

انه بتعليم آدم عليه السلام الاسماء كلها تفيد الآية الكريمة: تعليم جميع العلوم والفنون الملهَمة لبني آدم.

وبحادثة سجود الملائكة لآدم عليه السلام وعدم سجود الشيطان تبين الآية: ان اكثر الموجودات ـ من السمك الى المَلَك ـ مسخرةٌ لبني الانسان، كما ان المخلوقات المضرة ـ من الثعبان الى الشيطان ـ لا تنقاد اليه بل تعاديه.

وبحادثة ذبح قوم موسى عليه السلام البقرة تعبّر الآية عن: ان فكرة عبادة البقر قد ذُبحتْ بسكين موسى عليه السلام، تلك الفكرة التي كانت رائجة في مصر حتى ان لها اثراً مباشراً في حادثة العجل.

وبنبعان الماء من الحجر وتشقق الصخور وسيلان الماء منها تبين الآية: ان الطبقة الصخرية التي تحت التراب خزائن أوعية الماء تزوّد التراب بما يبعث فيه الحياة.

C المثال الثاني:

ان قصة موسى عليه السلام قد تكررت كثيراً في القرآن الكريم؛ اذ إن في كل جملة منها، وفي كل جزء منها إظهاراً لطرفٍ من دستور كلي، ويعبّر عن ذلك الدستور.

منها: الآية الكريمة ] يا هامان ابنِ لي صرحاً[ (غافر: 36) يأمر فرعون وزيره: إبنِ لي برجاً عالياً لأطّلِع على احوال السموات وانظر هل هناك إله يتصرف فيها كما يدّعيه موسى عليه السلام؟ فبكلمة ((صرحا)) تبين الآية الكريمة بحادثة جزئية دستوراً عجيباً وعُرفاً غريباً كان جارياً في سلالة فراعنة مصر الذين ادّعوا الربوبية لجحودهم بالخالق وايمانهم بالطبيعة، وخلّدوا اسماءهم بجبروتهم وعُتوهم، فشيّدوا الاهرام المشهورة كأنها جبال وسط صحراء لا جبال فيها، ليشتهروا بها، وحفظوا جنائزهم بالتحنيط واضعين اياها في تلك المقابر الشامخة، لاعتقادهم بتناسخ الارواح والسحر.

ومنها: قوله تعالى ] فاليوم ننجيك ببدنك[ (يونس: 92) والخطاب موجه الى فرعون الذي غرق، وفي الوقت نفسه تبين الآية: ما كان للفراعنة من دستور لحياتهم مذكّرٍ بالموت ملئٍ بالعبر، وهو نقل اجساد موتاهم بالتحنيط من الماضي الى الاجيال المقبلة لعرضها امامهم وفق اعتقادهم بتناسخ الارواح، كما تفيد الآية الكريمة باسلوب معجز اشارة غيبية الى: ان الجسد الذي اكتشف في العصر الأخير هو نفسه جسد فرعون الذي غرق، فكما اُلقي به الى الساحل في الموضع الذي غرق فيه، فسيلقى به كذلك من بحر الزمان فوق امواج العصور الى ساحل هذا العصر.

ومنها: قوله تعالى ] يذبّحون ابناءكم ويستحيون نساءكم[ (البقرة: 49) فانه بحادثة ذبح بنى اسرائيل واستحياء نسائهم وبناتهم في عهد فرعون يبين الإبادة الجماعية التي يتعرض لها اليهود في اكثر البلدان وفي كل عصر، والدور المهم الذي تؤديه نساؤهم وبناتهم في حياة السفاهة للبشرية وتحلل اخلاقها.

ومنها: ] ولتجدنّهم أحرصَ الناسِ على حياة[ (البقرة: 96)

] وترى كثيراً منهم يُسارعون في الاثم والعدوان واكلهم السُحت لبئسَ ما كانوا يعملون[ (المائدة: 62 )

] ويسعوْن في الارض فساداً والله لا يحبُ المفسدين[ (المائدة: 64)

] وقـضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الارض مرتين[ (الاسراء:4)

] ولاتعثوا في الارض مفسدين[ (البقرة: 60)

هذان الحكمان القاضيان في حق اليهود - الحرص والفساد - يتضمنان هذين الدستورين العامين المهمين، اللذين يديرهما اولئك القوم في حياة المجتمع الانساني بالمكر والحيل والخديعة؛ فالآية تبين: انهم هم الذين زلزلوا الحياة الاجتماعية الانسانية واوقدوا الحرب بين الفقراء والاغنياء بتحريض العاملين على اصحاب رأس المال. وكانوا السبب في تأسيس البنوك بجعلهم الربا أضعافاً مضاعفة، وجمعوا اموالاً طائلة بكل وسيلة دنيئة بالمكر والحيل، هؤلاء القوم هم انفسهم ايضاً انخرطوا في كل انواع المنظمات الفاسدة ومدّوا أيديهم الى كل نوع من انواع الثورات، أخذاً لثأرهم من الشعوب الغالبة ومن الحكومات التي ذاقوا منها الحرمان وسامتهم انواع العذاب.

ومنها:

] فتمنوا الموت إن كنتم صادقين^ ولن يتمنوه ابداً[ (البقرة: 94ـ95)

فالآية تبين بعنوان حادثة جزئية وقعت في مجلس صغير في الحضرة النبوية الكريمة من أن اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة وأخوفهم من الموت، لن يتمنوا الموت ولن يتخلّوا عن الحرص على الحياة حتى قيام الساعة.

ومنها:

] وضربت عليهم الذلة والمسكنة[ (البقرة:61)

تبين الآية الكريمة بهذا العنوان مقدرات اليهود في المستقبل بصورة عامة، وحيث أن الحرص والفساد قد تغلغل في سجاياهم وتمكن من طبعهم فالقرآن الكريم يغلظ عليهم في الكلام ويصفعهم صفعات زجر عنيفة للتأديب.

ففي ضوء هذه الامثلة، قس بنفسك قصة موسى عليه السلام وحوادث وقعت لبني اسرائيل وقصصهم.

وبعد، فان وراء كلمات القرآن البسيطة ومباحثه الجزئية هناك كثير من امثال ما في هذا الضوء الرابع من لمعات اعجاز كلمعة ايجاز اعجازي، والعارف تكفيه الاشارة.

الضوء الخامس:

هو الجامعية الخارقة لمقاصد القرآن ومسائله ومعانيه واساليبه ولطائفه ومحاسنه. نعم! اذا انعم النظر في سور القرآن الكريم وآياته، ولاسيما فواتح السور، ومبادئ الآيات ومقاطعها تبيّن:

ان القرآن المعجز البيان قد جمع انواع البلاغة، وجميع اقسام فضائل الكلام، وجميع اصناف الاساليب العالية وجميع افراد محاسن الاخلاق، وجميع خلاصات العلوم الكونية، وجميع فهارس المعارف الإلهية، وجميع الدساتير النافعة للحياة البشرية الشخصية والاجتماعية، وجميع القوانين النورانية السامية لحكمة الكون.. وعلى الرغم من جمعه هذا لايظهر عليه أي اثر كان من آثار الخلط وعدم الاستقامة في التركيب أو المعنى.

حقاً، ان جمع جميع هذه الاجناس المختلفة الكثيرة في موضع واحد من دون أن ينشأ منه اختلال نظامٍ أو اختلاط وتشوش، انما هو شأن نظام اعجاز قهّار ليس إلاّ.

وحقاً ان تمزيق ستار العاديّات - التي هي مصدر الجهل المركب - ببيانات نافذة، واستخراج خوارق العادات المتسترة تحت ذلك الستار واظهارها بجلاء، وتحطيم طاغوت الطبيعة - التي هي منبع الضلالة - بسيوف البراهين الالماسية، وتشتيت حجب نوم الغفلة الكثيفة بصيحات مدوية كالرعد، وحل طلسم الكون المغلق والمعمّى العجيب للعالم الذي أعجز الفلسفة البشرية والحكمة الانسانية... ما هو إلاّ من صنع هذا القرآن المعجز البيان، البصير بالحقيقة ، المطّلع على الغيب، المانح للهداية، المظهر للحق.

نعم، إذا اُنعم النظر في آيات القرآن الكريم بعين الانصاف لشوهدت أنها لا تشبه فكراً تدريجياً متسلسلاً يتابع مقصداً أو مقصدين كما هو الحال في سائر الكتب بل انها تُلْقى إلقاءً، ولها طور دفعي وآني، وان عليها علامة أن كل طائفة منها ترد معاً انما ترد مستقلة وروداً وجيزاً منجّماً ومن مكان قصي ضمن مخابرة في غاية الاهمية والجدية.

نعم، مَن غيرُ رب العالمين يستطيع ان يجري هذا الكلام الوثيق الصلة بالكون وبخالق الكون وبهذه الصورة الجادة؟ ومَن غيرُه تعالى يتجاوز حدّه بما لا حد له من التجاوز فيتكلم حسب هواه باسم الخالق ذي الجلال وباسم الكون كلاماً صحيحاً كهذا؟

نعم، انه واضح جلي في القرآن أنه كلام رب العالمين.. هذا الكلام الجاد الحق السامي الحقيقي الخالص، ليس عليه اية امارة كانت تومئ بالتقليد. فلو فرضنا محالاً ان هناك مَن هو مثل مسيلمة الكذاب الذي تجاوز حدّه بغير حدود فقلّد كلام خالقه ذي العزة والجبروت وتكلّم من بنات فكره ناصباً نفسه متكلماً عن الكون، فلابد أن ستظهر الاف من أمارات التقليد والتصنع والاف من علامات الغش والتكلف. لأن مَن يتلـبّس طوراً اسمى واعلى بكثير من حالته الدنيئة لا شك أن كل حالة من حالاته تدل على التقليد والتصنع.

فانظر الى هذه الحقيقة التي يعلنها هذا القَسَم وانعم النظر فيها:

] والنجم اذا هوى ^

ما ضل صاحبكم وما غوى ^

وما ينطق عن الهوى ^

ان هو إلاّ وحيٌ يوحى[ (النجم: 1ـ4).



الشعاع الثالث

اعجاز القرآن الكريم الناشئ من إخباره عن الغيوب وديمومة شبابه، وصلاحه لكل طبقة من الناس . ولهذا الشعاع ثلاث جلوات.

الجلوة الاولى:

إخباره عن الغيوب . لهذه الجلوة ثلاث قبسات.

القبس الاول:

إخباره الغيبي عن الماضي

ان القرآن الحكيم، بلسان امي امين بالاتفاق يذكر اخباراً من لدن آدم عليه السلام الى خير القرون، مع ذكره أهم احوال الانبياء عليهم السلام واحداثهم المهمة، يذكرها ذكراً في منتهى القوة وغاية الجد، وبتصديق من الكتب السابقة كالتوراة والانجيل فيوافق ما اتفقت عليه تلك الكتب السابقة ويصحح حقيقة الواقعة ويفصِل في تلك المباحث التي اختلفت فيها.

بمعنى أن نظر القرآن الكريم ذلك النظر المطّلع على الغيب يرى احوال الماضي أفضل من تلك الكتب وبما هو فوقها جميعاً بحيث يزكيّها ويصدّقها في المسائل المتفق عليها، ويصححها ويفصِل في المباحث التي اختلف فيها. علماً ان إخبار القرآن الذي يخص احوال الماضي ووقائعه ليس امراً عقلياً حتى يُخبر عنه بالعقل، بل هو أمر نقلي متوقف على السماع، والنقل خاص بأهل القراءة والكتابة، مع ان الاعداء والاصدقاء متفقون معاً على أن القرآن انما نزل على شخص امي لا يعرف القراءة والكتابة، معروف بالامانة موصوف بالأُمية. وحينما يخبر عن تلك الاحوال الماضية يخبر عنها وكأنه يشاهدها كلها، اذ يتناول روح حادثة طويلة وعقدتها الحياتية، فيخبر عنها، ويجعلها مقدمة لمقصده. بمعنى ان الخلاصات والفذلكات المذكورة في القرآن الكريم تدل على: ان الذي أظهرها يرى جميع الماضي بجميع احواله، إذ كما ان شخصاً متخصصاً في فن أو صنعة اذا اتى بخلاصة من ذلك الفن، أو بنموذج من تلك الصنعة، فانها تدل على مهارته وملكته. كذلك الخلاصات وروح الوقائع المذكورة في القرآن الكريم تبين:

ان الذي يقولها انما يقولها وقد أحاط بها ويراها ثم يخبر عنها بمهارة فوق العادة (ان جاز التعبير).

الفبس الثاني:

إخباره الغيبي عن المستقبل

لهذا القسم انواع كثيرة:

القسم الاول: خاص بقسم من اهل الكشف والولاية.

C مثلاً:

ان محي الدين بن عربي وجد كثيراً من الإخبار عن الغيب في سورة الروم ] الم ^ غُلبت الروم[ (الروم:1- 2)

وان الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) قد شاهد في المقطّعات التي في بدايات السور كثيراً من اشارات المعاملات الغيبية.

وبالنسبة الى علماء الباطن فالقرآن الحكيم من اوله الى آخره نوع من الاخبار عن الغيب.

أما نحن فسنشير الى قسم منها، الى الذي يخص العموم ويرجع الى الجميع. ولهذا القسم ايضاً طبقات كثيرة، فسنقصركلامنا على طبقة واحدة.

فالقرآن الكريم يقول للرسول الكريم e (1) : ] فاصبر إنّ وعدَ الله حقٌ[ (الروم: 60)

] لتدخُلنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسَكُم ومقصّرين لا تخافون[ (الفتح: 27)

] هو الذي ارسل رسُولهُ بالهدى ودين الحق ليُظْهرهُ على الدين كله..[ (الفتح:28)

] وهم مِن بعدِ غَلَبهم سَيغْلِبون^ في بـضع سنين للّه الامر[ (الروم: 3،4)

] فستبْصِر ويُبصرون^ بأيّكم المفتون[ (القلم: 5،6)

] ام يقولون شاعرٌ نتربّص به ريبَ المنون^ قل تربّصوا فاني معكم من المتربصين[ (الطور: 30 - 31)

] والله يعصِمُك من الناس[ (المائدة: 67)

] فان لم تفعلوا ولن تفعلوا..[ (البقرة:24)

] ولن يتمنَوه ابداً[ (البقرة:95)

] سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهِم حتى يتبيّن لهم انه الحقّ[ (فصلت: 53)

] قل لئن اجتمعتِ الانسُ والجنُ على ان ياتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتون بمثله ولو كان بعـضُهم لبعضٍٍ ظهيراً[ (الاسراء:88)

] ياتى الله بقومٍ يحبّهم ويحبّونه أذلةٍ على المؤمنين اعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[ (المائدة :54)

] وقل الحمد لله سيريكم اياته فتعرفونها[ (النمل: 93)

] قل هو الرحمنُ امنّا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين[ (الملك:29)

] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليَستَخلفنَّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم ديَنهم الذي ارتـضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا[ (النور: 55)

وامثال هذه الآيات كثيرة جداً تتضمن اخباراً عن الغيب وقد تحققت كما أخبرت.

فالإخبار عن الغيب دون تردد وبكمال الجد والاطمئنان وبما يُشعر بقوة الوثوق، على لسان مَن هو معرّض لاعتراضات المعترضين وانتقاداتهم، وربما يفقد دعواه لخطأ طفيف، يدل دلالة قاطعة: انه يتلقى الدرس من استاذه الازلي ثم يقوله للناس.

القبس الثالث:

إخباره الغيب عن الحقائق الإلهية والحقائق الكونية والامور الاخروية.

نعم! ان بيانات القرآن التي تخص الحقائق الإلهية، وبياناته الكونية التي فتحت طلسم الكون وكشفت عن معمّى خلق العالم لهي اعظم البيانات الغيبية، لأنه ليس من شأن العقل قط، ولا يمكنه أن يسلك سلوكاً مستقيماً بين مالايحد من طرق الضلالة، فيجد تلك الحقائق الغيبية. وكما هو معلوم فان اعظم دهاة حكمـاء البــشر لم يصلوا الى اصغر تلك الحقائق وابسطها بعقولهم. ثم ان عقول البشر ستقول بلا شك امام تلك الحقائق الإلهية والحقائق الكونية التي اظهرها القرآن الكريم: صدقتَ، وستقبل تلك الحقائق بعد استماعها الى بيان القرآن بصفاء القلب وتزكية النفس، وبعد رقي الروح واكتمال العقل، وستباركه.

وحيث ان ((الكلمة الحادية عشرة)) قد أوضحت وأثبتت نبذة من هذا القسم فلا داعي للتكرار.

أما اخبار القرآن الغيبي عن الآخرة والبرزخ، فان عقل البشر وإن لم يدرك احوال الآخرة والبرزخ بمفرده ولا يراها وحده، إلاّ ان القرآن يبينها ويثبتها اثباتاً يبلغ درجة الشهود.

فراجع ((الكلمة العاشرة)) لتلمس مدى صواب الاخبار الغيبي عن الآخرة الذي أخبر به القرآن الكريم. فقد اثبتته تلك الرسالة ووضحته ايّما ايضاح.

الجلوة الثانية:

شبابية القرآن وفتوته

ان القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينزل في كل عصر نضراً فتياً.

نعم! ان القرآن الكريم لأنه خطاب ازلي يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً يلزم ان تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شاباً وهو كذلك كما كان. حتى انه ينظر الى كل عصر من العصور المختلفة في الافكار والمتباينة في الطبائع نظراً كأنه خاص بذلك العصر ووفق مقتضياته ملقناً دروسه ملفتاً اليها الانظار.

ان آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم مثله، وتتغير وتُبدَّل. إلاّ ان احكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها اكثر كلما مرت العصور.

نعم، ان هذا العصر الذي اغترّ بنفسه وأصمَّ اذنيه عن سماع القرآن اكثر من أي عصر مضى، واهل الكتاب منهم خاصة، أحوج ما يكونون الى ارشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ ((يا اهل الكتاب.. يا اهل الكتاب)) حتى كأن ذلك الخطاب موجّه الى هذا العصر بالذات إذ إن لفظ ((اهل الكتاب)) يتضمن معنى: اهل الثقافة الحديثة ايضاً!

فالقرآن يطلق نداءه يدوّي في اجواء الآفاق ويملأ الارض والسبع الطباق بكل شدة وقوة وبكل نضارة وشباب فيقول:

] يا أهل الكتاب تعالَوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم..[ (آل عمران 64)

فمثلاً: ان الافراد والجماعات مع انهم قد عجزوا عن معارضة القرآن إلاّ أن المدنية الحاضرة التي هي حصيلة افكار بني البشر وربما الجن ايضاً قد اتخذت طوراً مخالفاً له واخذت تعارض اعجازه باساليبها الساحرة. فلأجل اثبات اعجاز القرآن بدعوى الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن..[ لهذا المعارض الجديد الرهيب نضع الاسس والدساتير التي اتت بها المدنية الحاضرة امام اسس القرآن الكريم.

ففي الدرجة الاولى: نضع الموازنات التي عقدت والموازين التي نصبت في الكلمات السابقة، ابتداءاً من الكلمة الاولى الى الخامسة والعشرين، وكذا الآيات الكريمة المتصدرة لتلك الكلمات والتي تبين حقيقتها، تثبت إعجاز القرآن وظهوره على المدنية الحاضرة بيقين لا يقبل الشك قطعاً.

وفي الدرجة الثانية: نورد اجمالاً قسماً من دساتير المدنية والقرآن التي وضحته واثبتته (الكلمة الثانية عشرة).

فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها: ان ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي (القوة) وهي تستهدف (المنفعة) في كل شئ. وتتخذ (الصراع) دستوراً للحياة. وتلتزم بالعنصرية والقومية السلبية رابطةً للجماعات. وغايتها هي (لهو عابث) لإشباع رغبات الاهواء وميول النفس التي من شأنها تزييد جموح النفس واثارة الهوى. ومن المعلوم ان شأن (القوة) هو (التجاوز). وشأن (المنفعة) هو (التزاحم) اذ هي لا تفي بحاجات الجميع وتلبية رغباتهم. وشأن (الصراع) هو (التصادم) وشأن (العنصرية) هو (التجاوز) حيث تكبر بابتلاع غيرها.

فهذه الدساتير والاسس التي تستند اليها هذه المدنية الحاضرة هي التي جعلتها عاجزة - مع محاسنها - عن ان تمنح سوى عشرين بالمائة من البشر سعادة ظاهرية بينما ألقت البقية الى شقاء وتعاسة وقلق.

أما حكمة القرآن فهي تقبل (الحق) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلاً من (القوة).. وتجعل (رضى الله ونيل الفضائل) هو الغاية والهدف، بدلاً من (المنفعة)..

وتتخذ دستور (التعاون) اساساً في الحياة، بدلاً من دستور (الصراع).. وتلتزم رابطة الدين والصنف والوطن لربط فئات الجماعات، بدلاً من (العنصرية والقومية السلبية).. وتجعل غاياتها (الحدّ من تجاوز النفس الامارة ودفع الروح الى معالي الامور وتطمين مشاعرها السامية لسوق الانسان نحو الكمال والمثل العليا لجعل الانسان انساناً حقاً).

ان شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن (التعاون) هو (اغاثة كل للآخر).. وشأن (الدين) هو (الاخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس وكبح جماحها واطلاق الروح وحثها نحو الكمال) هو (سعادة الدارين).

وهكذا غُلبت المدنية الحاضرة أمام القرآن الحكيم مع ما أخذت من محاسنَ من الاديان السابقة ولا سيما من القرآن الكريم.

وفي الدرجة الثالثة: سنبين - على سبيل المثال - اربعة مسائل فحسب من بين الاف المسائل:

U المسألة الاولى:

ان دساتير القرآن الكريم وقوانينه لأنها آتية من الازل فهي باقية وماضية الى الابد. لاتهرم ابداً ولا يصيبها الموت، كما تهرم القوانين المدنية وتموت، بل هي شابة وقوية دائماً في كل زمان.

فمثلاً: ان المدنية بكل جمعياتها الخيرية، وانظمتها الصارمة ونظمها الجبارة، ومؤسساتها التربوية الاخلاقية لم تستطع ان تعارض مسألتين من القرآن الكريم بل انهارت امامهما وهي في قوله تعالى :

] وآتوا الزكاة[ (البقرة: 43) و] ..واحلّ الله البيع وحرّم الربا[ (البقرة: 275)

سنبين هذا الظهور القرآني المعجز وهذه الغالبية بمقدمة:

ان اس اساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الانساني انما هو كلمة واحدة، كما أن منبع جميع الاخلاق الرذيلة كلمة واحدة ايضاً. كما اُثبت ذلك في (اشارات الاعجاز).

الكلمة الاولى: (ان شبعتُ، فلا عليّ ان يموت غيري من الجوع).

الكلمة الثانية: (اكتسبْ انتَ، لآكل انا، واتعبْ انت لأستريح أنا).

نعم، انه لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلاّ بالمحافظة على التوزان القائم بين الخواص والعوام، اي بين الاغنياء والفقراء، واساس هذا التوزان هو رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، واطاعة العوام واحترامهم للخواص.

فالآن، ان الكلمة الاولى قد ساقت الخواص الى الظلم والفساد، ودفعت الكلمة الثانية العوام الى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحة والامان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث اوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين واصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد.

فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية ومؤسساتها الاخلاقية وبكل وسائل نظامها وانضباطها الصارم عجزت عن ان تصلح بين تينك الطبقتين من البشر كما عجزت عن ان تضمد جرحي الحياة البشرية الغائرَين.

أما القرآن الكريم فانه يقلع الكلمة الاولى من جذورها، ويداويها بوجوب الزكاة. ويقلع الكلمة الثانية من اساسها ويداويها بحرمة الربا.

نعم، ان الآيات القرآنية تقف على باب العالم قائلة للربا: الدخول ممنوع. وتأمر البشرية: اوصدوا ابواب الربا لتنسد امامكم ابواب الحروب. وتحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:27 AM

رد: الكلمات
 

الاساس الثاني:

ان المدنية الحاضرة لا تقبل تعدد الزوجات، وتحسب ذلك الحكم القرآني مخالفاً للحكمة ومنافياً لمصلحة البشر.

نعم، لو كانت الحكمة من الزواج قاصرة على قضاء الشهوة للزم ان يكون الامر معكوساً، بينماهو ثابت حتى بشهادة جميع الحيوانات وبتصديق النباتات المتزاوجة:

ان الحكمة من الزواج والغاية منه انما هي التكاثر وانجاب النسل. أما اللذة الحاصلة من قـضاء الشــهوة فهــي اجرة جزئية تمنــحها الـرحمــة الإلهــية لــتأدية تلــك المهمة. فما دام الزواج للتكاثر وانجاب النسل ولبقاء النوع حكمةً وحقيقةً، فلا شك ان المرأة التي لا يمكن أن تلد إلاّ مرة واحدة في السنة ولا تكون خصبة الاّ نصف ايام الشهر وتدخل سن اليأس في الخمسين من عمرها لا تكفي الرجل الذي له القدرة على الاخصاب في اغلب الاوقات حتى وهو ابن مائة سنة. لذا تضطر المدنية الى فتح اماكن العهر والفحش.

U الاساس الثالث:

ان المدنية التي لا تتحاكم الى المنطق العقلي، تنتقد الآية الكريمة ] للذَكَرِ مثلُ حظ الانثيين[ (النساء:11) التي تمنح النساء الثلث من الميراث (اي نصف ما يأخذه الذكر).

ومن البديهي ان اغلب الاحكام في الحياة الاجتماعية انما تسنّ حسب الاكثرية من الناس، فغالبية النساء يجدن ازواجاً يعيلونهن ويحمونهن، بينما الكثير من الرجال مضطرون الى اعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن.

فاذا ما اخذت الانثى الثلث من ابيها (اي نصف ما اخذه الزوج من ابيه) فان زوجها سيسد حاجتها. بينما اذا اخذ الرجل حظين من ابيه فانه سينفق قسطاً منه على زوجته، وبذلك تحصل المساواة، ويكون الرجل مساوياً لأخته. وهكذا تقتضي العدالة القرآنية(1).



U الاساس الرابع:

ان القرآن الكريم مثلما يمنع بشدة عبادة الاصنام يمنع كذلك اتخاذ الصور التي هي شبيهة بنوع من اتخاذ الاصنام. أما المدنية الحاضرة فانها تعدّ الصورمن مزاياها وفضائلها وتحاول ان تعارض القرآن. والحال ان الصور اياً كانت، ظلية أو غيرها، فهي: إما ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى متجسم، حيث تهيج الاهواء وتدفع الانسان الى الظلم والرياء والهوى.

ثم ان القرآن يأمر النساء ان يحتجبن بحجاب الحياء، رحمةً بهن وصيانة لحرمتهن وكرامتهن ولكيلا تهان تلك المعادن الثمينة معادن الشفقة والرأفة وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة تحت اقدام الذل والمهانة، ولكي لا يكنّ آلة لهوسات الرذيلة ومتعة تافهة لا قيمة لها(1). أما المدنية فانها قد اخرجت النساء من اوكارهن وبيوتهن ومزقت حجابهن وأدت بالبشرية ان يجنَّ جنونها. علماً ان الحياة العائلية انما تدوم بالمحبة والاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة. بينما التكشف والتبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة والاحترام الجاد ويسممان الحياة العائلية؛ ولا سيما الولع بالصور فانه يفسد الاخلاق ويهدمها كلياً، ويؤدي الى انحطاط الروح وتردّيها، ويمكن فهم هذا بالآتي:

كما ان النظر بدافع الهوى وبشهوة الى جنازة امرأة حسناء تنتظر الرحمة وترجوها يهدم الاخلاق ويحطها، كذلك النظر بشهوة الى صور نساء ميتات أو الى صور نساء حيات - وهي في حكم جنائز مصغرة لهن - يزعزع مشاعر الانسان ويعبث بها، ويهدمها.

وهكذا بمثل هذه المسائل الاربع فان كل مسألة من آلاف المسائل القرآنية تضمن سعادة البشر في الدنيا كما تحقق سعادته الابدية في الاخرة.

فَلكَ أن تقيس سائر المسائل على المسائل المذكورة.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة تخسر وتُغلب امام دساتير القرآن المتعلقة بحياة الانسان الاجتماعية، فيظهر افلاسها - من زاوية الحقيقة - ازاء اعجاز القرآن المعنوي، كذلك فان فلسفة اوربا وحكمة البشر - وهي المدنية - عند الموازنة بينها وبين حكمة القرآن بموازين الكلمات الخمس والعشرين السابقة، ظهرت عاجزة وحكمة القرآن معجزة، وان شئت فراجع ((الكلمة الثانية عشرة والثالثة عشرة)) لتلمس عجز حكمة الفلسفة وافلاسها واعجاز حكمة القرآن وغناها.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة غُلبت امام اعجاز حكمة القرآن العلمي والعملي، كذلك آداب المدنية وبلاغتها فهي مغلوبة امام الأدب القرآنـي وبلاغتــه. والنسبة بينهما اشبه ما يكـون بــبــكاء يتيم فَقَد أبــوَيه بكاءً ملــؤه الحزن الــقــاتـم واليأس المرير، الى انشاد عاشق عفيف حزينٍ على فراق قصير الأمد غناءً ملؤه الشوق والأمل.. أو نسبة صراخ سكير يتخبط في وضع سافل، الى قصائد حماسية تحضّ على بذل الغوالي من الانفس والاموال وبلوغ النصر. لأن: الادب والبلاغة من حيث تأثير الاسلوب، إما يورثان الحزن وإما الفرح. والحزن نفسه قسمان:

إما انه حزن منبعث من فقد الأحبة، أي من عدم وجود الأحبة والاخلاء، وهو حزن مظلم كئيب تورثه المدنية الملوثة بالضلالة والمشوبة بالغفلة والمعتقدة بالطبيعة، وإما انه ناشىء من فراق الأحبة، بمعنى ان الأحبة موجودون، ولكن فراقهم يبعث على حزن ينم عن لوعة الاشتياق. فهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير.

أما الفرح والسرور فهو ايضاً قسمان:

الاول: يدفع النفس الى شهواتها، هذا هو شأن آداب المدنية من ادب مسرحي وسينمائي وروائي.

أما الثاني: فهو فرح لطيف برئ نزيه، يكبح جماح النفس ويلجمها ويحث الروح والقلب والعقل والسر على المعالي وعلى موطنهم الاصلي، على مقرهم الابدي، على احبتهم الاخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان الذي يحض البشر ويشوّقه للجنّة والسعادة الابدية وعلى رؤية جمال الله تعالى.

ولقد توهم بعض قاصري الفهم وممن لايكلفون انفسهم دقة النظر: ان المعنى العظيم والحقيقة الكبرى التي تفيدها الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بـعـضهم لبعـض ظهيراً[ ظنوها صورة محالة ومبالغة بلاغية! حاشَ لله! بل انها بلاغة هي عين الحقيقة، وصورة ممكنة وواقعة وليست محالة قط. فأحد وجوه تلك الصورة هو أنه:

لو اجتمع اجمل ما يقوله الانس والجن الذي لم يترشح من القرآن ولا هو من متاعه، فلا يماثل القرآن قط ولن يماثله. لذا لم يظهر مثيله.

والوجه الآخر: ان المدنية وحكمة الفلسفة والآداب الاجنبية التي هي نتائج افكار الجن والانس وحتى الشياطين وحصيلة اعمالهم، هي في دركات العجز امام احكام القرآن وحكمته وبلاغته. كما قد بيّنا امثلة منها.

الجلوة الثالثة:

خطابه كل طبقة من طبقات الناس

ان القرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجه توجهاً خاصاً الى تلك الطبقة بالذات. اذ لما كان القرآن يدعو جميع بني آدم بطوائفهم كافة الى الايمان الذي هو اسمى العلوم وادقها، والى معرفة الله التي هي اوسع العلوم وأنورها، والى الاحكام الاسلامية التي هي اهم المعارف واكثرها تنوعاً، فمن الألزم اذاً ان يكون الدرس الذي يلقيه على تلك الطوائف من الناس، درساً يوائم فهم كلٍ منها. والحال أن الدرس واحد، وليس مختلفاً، فلابد اذاً من وجود طبقات من الفهم في الدرس نفسه، فكل طائفة من الناس - حسب درجاتهاــ تأخذ حظها من الدرس من مشهد من مشاهد القرآن.

ولقد وافينا بأمثلة كثيرة لهذه الحقيقة، يمكن مراجعتها، اما هنا فنكتفي بالاشارة الى بضع اجزاءٍ منها، والى حظ طبقة أو طبقتين منها من الفهم فحسب.

فمثلاً:

قوله تعالى: ] لم يلد ولم يولد ^ ولم يكن له كفواً أحد[

فان حظ فهم طبقة العوام التي تشكل الاكثرية المطلقة هو:

((ان الله منزّه عن الوالد والولد وعن الزوجة والأقران))

وحظ طبقة اخرى متوسطة من الفهم هو:

((نفي الوهية عيسى عليه السلام والملائكة، وكل ما هو من شأنه التولد)) لأن نفي المحال لا فائدة منهفي الظاهر؛ لذا فلابد ان يكون المراد اذاً ما هو لازم الحكم كما هو مقرر في البلاغة. فالمراد من نفي الولد والوالدية اللذين لهما خصائص الجسمانية هو نفي الالوهية عن كل مَن له ولد ووالد وكفو، وبيان عدم لياقتهم للالوهية.

فمن هذا السر تبين: أن سورة الاخلاص يمكن أن تفيد كل انسان في كل وقت.

وحظ فهم طبقة اكثر تقدماً هو:

ان الله منزّه عن كل رابطة تتعلق بالموجودات تُشم منها رائحة التوليد والتولد، وهو مقدّس عن كل شريك ومعين ومجانس، وانما علاقتــه بالمــوجــودات هي الخــلاقيـة. فهو يخلق الموجودات بأمر ((كن فيكون)) بارادته الازلية وباختياره. وهو منزّه عن كل رابطة تنافي الكمال، كالايجاب والاضطرار والصدور بغير اختيار.

وحظ فهم طبقة أعلى من هذه هو:

ان الله ازلي، ابدي، اول وآخر، لانظير له ولا كفو، ولاشبيه، ولامثيل ولامثال في اية جهة كانت، لا في ذاته ولافي صفاته ولا في افعاله. وانما هناك (المَثَل) (ولله المثل الاعلى) الذي يفيد التشبيه في افعاله وشؤونه فحسب.

فلك أن تقيس على هذه الطبقات اصحاب الحظوظ المختلفة في الادراك من امثال طبقة العارفين وطبقة العاشقين وطبقة الصديقين وغيرهم...

المثال الثاني:

قوله تعالى ] ما كان محمد أبا احدٍ من رجالكم[ (الاحزاب:40)

فحظ فهم الطبقة الاولى من هذه الآية هو:

ان زيداً خادم الرسول e ومتبناه ومخاطبه بـ : يا بني، قد طلّق زوجته العزيزة بعدما احسّ انه ليس كفواً لها، فتزوجها الرسول e بأمر الله تعالى، فالآية (النازلة بهذه المناسبة) تقول: ان النبي e اذا خاطبكم مخاطبة الاب لإبنه، فانه يخاطبكم من حيث الرسالة، اذ هو ليس اباً لأحدٍ منكم باعتباره الشخصي حتى لا تليق به زوجاته.

وحظ فهم الطبقة الثانية هو:

ان الامير العظيم ينظر الى رعاياه نظر الأب الرحيم، فان كان سلطاناً روحانياً في الظاهر والباطن فان رحمته ستفوق رحمة الاب وشفقته اضعافاً مضاعفة، حتى تنظر اليه افراد الرعية نظرهم للاب وكأنهم اولاده الحقيقيون. وحيث إن النظرة الى الاب لا يمكن ان تنقلب الى النظر الى الزوج والنظر الى البنت لايتحول بسهولة الى النظر الى الزوجة، فلا يوافق في فكر العامة تزوج الرسول e ببنات المؤمنين استناداً الى هذا السر. لذا فالقرآن يخاطبهم قائلاً: ان الرسول e ينظر اليكم نظر الرحمة والشفقة من زاوية الرحمة الإلهية ويعاملكم معاملة الاب الحنون من حيث النبوة، ولكنه ليس اباً لكم من حيث الشخصية الانسانية حتى لا يلائم تزوجه من بناتكم ويحرم عليه.

القسم الثالث يفهم الآية هكذا:

ينبغي عليكم ألاّ ترتكبوا السيئات والذنوب اعتماداً على رأفة الرسول الكريم e عليكم وانتسابكم اليه. اذ إن هناك الكثيرين يعتمدون على ساداتهم ومرشديهم فيتكاسلون عن العبادة والعمل، بل يقولون احياناً:

((قد اُديِّتْ صلاتُنا)) (كما هو الحال لدى بعض الشيعة).

النكتة الرابعة:

ان قسماً آخر يفهم اشارة غيبية من الآية وهي:

ان أبناء الرسول e لا يبلغون مبلغ الرجال، وانما يتوفاهم الله - قبل ذلك - فلا يدوم نسله من حيث كونهم رجالاً لحكمة يراها سبحانه وتعالى. إلاّ أن لفظ " رجال " يشير الى أنه سيدوم نسله من النساء دون الرجال.

فللّه الحمد والمنة فان النسل الطيب المبارك من فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) كالحسن والحسين (رضي الله عنهما) وهما البدران المنوران لسلسلتين نورانيتين، يديمان ذلك النسل المبارك (المادي والمعنوي) لشمس النبوة.

اللّهم صلِّ عليه وعلى آله .

((تمت الشعلة الاولى بأشعتها الثلاثة)).









الشعلة الثانية

هذه الشعلة لها ثلاثة انوار

النور الاول

ان القرآن الكريم قد جمع السلاسة الرائقة والسلامة الفائقة والتساند المتين والتناسب الرصين والتعاون القوي بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب الرفيع بين الآيات ومقاصدها، بشهادة علم البيان وعلم المعاني وشهادة الوف من ائمة هذه العلوم كالزمخشري والسكاكي وعبد القاهر الجرجاني، مع ان هناك ما يقارب تسعة اسباب مهمة تخل بذلك التجاوب والتعاون والتساند والسلاسة والسلامة، فلم تؤثر تلك الاسباب في الافساد والاخلال بل مدّت وعضّدت سلاسته وسلامته وتسانده إلاّ ما اجرته بشئ من حكمها في اخراج رؤوسها من وراء ستار النظام والسلاسة، وذلك لتدلّ على معان جليلة من سلاسة نظم القرآن، بمثل ما تخرج البراعم بعض البروزات والندب في جذع الشجرة المنسقة، فهذه البروزات ليست لإخلال تناسق الشجرة وتناسبها وانما لإعطاء ثمرات يتم بها جمال الشجرة وكمال زينتها.

اذ إن ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة نجماً نجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقطعاً، مع أنه يُظهر من التلاؤم الكامل كأنه نزل دفعة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة لاسباب نزول مختلفة متباينة، مع أنه يظهر من التساند التام كأنه نزل لسبب واحد.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء جواباً لأسئلة مكررة متفاوتة، مع انه يظهر من الامتزاج التام والاتحاد الكامل كأنه جواب عن سؤال واحد.

وأيضاً ان ذلك القرآن جاء بياناً لأحكام حوادث متعددة متغايرة، مع أنه يبين من الانتظام الكامل كأنه بيان لحادثة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن نزل متضمناً لتنزلات كلامية إلهية في اساليب تناسب افهامَ مخاطبين لا يحصرون، ومن حالات من التلـقي متخــالــفة متــنوعة، مع أنه يبين من السلاسة اللطيفة والتماثل الجميل، كأن الحالة واحدة والفهم واحد، حتى تجري السلاسة كالماء السلسبيل.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء مكلماً متوجهاً الى اصناف متعددة متباعدة من المخاطبين، مع أنه يظهر من سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطبين صنف واحد بحيث يظن كل صنف انه المخاطب وحده بالاصالة.

وأيضاً ان ذلك القرآن نزل هادياً وموصلاً الى غايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع انه يبين من الاستقامة الكاملة والموازنة الدقيقة والانتظام الجميل كأن المقصد واحد.

فهذه الاسباب مع انها اسباب للتشويش واختلال المعنى والمبنى إلاّ انها استخدمت في اظهار اعجاز بيان القرآن وسلاسته وتناسبه.

نعم! من كان ذا قلبٍ غير سقيم، وعقل مستقيم، ووجدان غير مريض، وذوق سليم، يرى في بيان القرآن سلاسة جميلة وتناسقاً لطيفاً ونغمة لذيذة وفصاحة فريدة. فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب أنه يرى في القرآن عيناً ترى كل الكائنات ظاهراً وباطناً بوضوح تام كأنها صحيفة واحدة، يقلّبها كيف يشاء، فيعرّف معانيها على ما يشاء من اسلوب.

فلو اردنا توضيح حقيقة هذا النور الاول بأمثلة، لاحتجنا الى بضعة مجلدات. لذا نكتفي بالايضاحات التي تخص هذه الحقيقة في كل من ((الرسائل العربية))(1) و ((اشارات الاعجاز)) والكلمات الخمس والعشرين السابقة. بل القرآن الكريم بكامله مثال لهذه الحقيقة. ابيّنه كله دفعة واحدة.



















النور الثاني

يبحث هذا النور عن مزية الاعجاز في الاسلوب البديع للقرآن في الخلاصات (الفذلكات) والاسماء الحسنى التي تنتهي بها الآيات الكريمة:

تنبيه

سترد آيات كثيرة في هذا النور الثاني، وهي ليست خاصة به وحده بل تكون امثلة ايضاً لما ذكر من المسائل والاشعة. ولو اردنا ان نوفي هذه الامثلة حقها من الايضاح لطال بنا البحث، بيد اني اراني مضطراً في الوقت الحاضر الى الاختصار والاجمال، لذا فقد أشرنا اشارة في غاية الاختصار والاجمال الى الآيات التي اوردناها مثالاً لبيان هذا السر العظيم سر الاعجاز مؤجلين تفصيلاتها الى وقت آخر.

فالقرآن الكريم يذكر في اكثر الاحيان قسماً من الخلاصات والفذلكات في خاتمة الآيات. فتلك الخلاصات: إما انها تتضمن الاسماء الحسنى أو معناها، واما انها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكر والتدبر فيها.. أو تتضمن قاعدة كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها.

ففي تلك الفذلكات بعض اشارات من حكمة القرآن العالية، وبعض رشاشات من ماء الحياة للهداية الإلهية، وبعض شرارات من بوراق إعجاز القرآن.

ونحن الآن نذكر اجمالاً ((عشر اشارات)) فقط من تلك الاشارات الكثيرة جداً، كما نشير الى مثال واحد فقط من كثير من امثلتها، والى معنى اجمالي لحقيقة واحدة فقط من بين الحقائق الكثيرة لكل مثال.

هذا وان اكثر هذه الاشارات العشر تجتمع في اكثر الآيات معاً مكونة نقشاً اعجازياً حقيقياً. وان اكثر الآيات التي نأتي بها مثالاً هي امثلة لأكثر الاشارات. فنبين من كل آية اشارة واحدة مشيرين اشارة خفيفة الى معاني تلك الآيات التي ذكرناها في ((كلمات)) سابقة.



C مزية الجزالة الاولى:

ان القرآن الكريم - ببياناته المعجزة - يبسط افعال الصانع الجليل ويفرش آثاره أمام النظر، ثم يستخرج من تلك الافعال والآثار، الاسماء الإلهية، أو يثبت مقصداً من مقاصد القرآن الاساسية كالحشر والتوحيد.

فمن امثلة المعنى الاول:

قوله تعالى ] هو الذي خلقَ لكُم ما في الارض جميعاً ثم استوى الى السماء فسويهنّ سبعَ سمواتٍ وهو بكل شيء عليم[ (البقرة: 29)

ومن امثلة المعنى الثاني:

قوله تعالى] ألم نجعل الارض مهاداً^ والجبال اوتاداً^ وخلقناكم ازواجاً[ الى قوله تعالى ] إن يوم الفصل كان ميقاتاً[ (النبأ)

ففي الآية الاولى: يعرض القرآن الآثار الإلهية العظيمة التي تدل بغاياتها ونظمها على علم الله وقدرته،يذكرها مقدّمة لنتيجة مهمة وقصد جليل ثم يستخرج اسم الله ((العليم)).

وفي الآية الثانية: يذكر افعال الله الكبرى وآثاره العظمى، ويستنتج منها الحشر الذي هو يوم الفصل، كما وُضح في النقطة الثالثة من الشعاع الاول من الشعلة الاولى.

C النكتة البلاغية الثانية:

ان القرآن الكريم ينشر منسوجات الصنعة الإلهية ويعرضها على انظار البشر ثم يلفّها ويطويها في الخلاصة ضمن الأسماء الإلهية، أو يحيلها الى العقل.

فمن أمثلة الاول:

] قل من يرزقكم من السماء والارض، أمّن يملك السمعَ والابصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومَن يدّبر الأمر فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون ^ فذلكم الله ربكم الحق[ (يونس: 31- 32)

فيقول اولاً: (( مَن الذي هيأ السماء والارض وجعلهما مخازن ومستودعاتٍ لرزقكم، فأنزل من هناك المطر ويخرج من هنا الحبوب ؟ ومَن غيرُ الله يستطيع ان

يجعل السماء والارض العظيمتين في حكم خازنين مطيعين لحكمه؟ فالشكر والحمد اذاً له وحده)).

ويقول في الفقرة الثانية: ((أمّن هو مالك اسماعكم وابصاركم التي هي اثمن ما في اعضائكم؟ من أي مصنع أو محل ابتعتموها؟ فالذي منحكم هذه الحواس اللطيفة من عين وسمع انما هو ربّكم! وهو الذي خلقكم ورباكم، ومنحها لكم،فالرب اذاً انما هو وحده المستحق للعبادة ولا يستحقها غيره)).

ويقول في الفقرة الثالثة: ((أمّن يحيى مئات الالاف من الطوائف الميتة كما يحيى الارض؟ فمن غير الحق سبحانه وخالقُ الكون يقدر ان يفعل هذا الأمر؟ فلا ريب انه هو الذي يفعل وهو الذي يحيى الارض الميتة. فما دام هو الحق فلن تضيع عنده الحقوق، وسيبعثكم الى محكمة كبرى وسيحييكم كما يحيى الارض)).

ويقول في الفقرة الرابعة: ((مَن غير الله يستطيع ان يدبّر شؤون هذا الكون العظيم ويدير أمره ادارةً منسقة منظمة بسهولة إدارة قصر أو مدينة؟ فما دام ليس هناك غير الله، فلا نقص اذاً في القدرة القادرة على ادارة هذا الكون العظيم – بكل أجرامهِ بيسر وسهولة – ولا حاجة لها الى شريك ولا الى معين فهي مطلقة لا يحدها حدود. ولايدع مَن يدبّر امور الكون العظيم ادارة مخلوقات صغيرة الى غيره. فانتم اذاً مضطرون لأن تقولوا: الله.)).

فترى ان الفقرة الاولى والرابعة تقول: الله، وتقول الثانية: رب. وتقول الثالثة: الحق. فافهم مدى الاعجاز في موقع جملة ] فذلكم الله ربكم الحق[ .

وهكذا يذكر القرآن عظيم تصرفات الله سبحانه وعظيم منسوجاته ثم يذكر اليد المدبرة لتلك الآثار الجليلة والمنسوجات العظيمة: ] فذلكم الله ربكم الحق[ ، أي: أنه يُري منبع تلك التصرفات العظيمة ومصدرها بذكر الاسماء الإلهية: الله، الرب، الحق.

ومن امثلة الثاني:

] ان في خلق السموات والارض واختلاف الّيل والنهار والفُلك التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس وما انزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الارضَ بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون[ (البقرة: 164)



يذكر القرآن في هذه الآيات ما في خلق السموات والارض من تجلي سلطنة الالوهية الذي يُظهر تجلي كمال قدرته سبحانه وعظمة ربوبيته، ويَشهد على وحدانيته.. ويذكر تجلي الربوبية في اختلاف الليل والنهار، وتجلي الرحمة بتسخير السفينة وجريانها في البحر التي هي من الوسائل العظمى للحياة الاجتماعية، وتجلي عظمة القدرة في انزال الماء الباعث على الحياة من السماء الى الارض الميتة واحيائها مع طوائفها التي تزيد على مئات الآلاف، وجعلها في صورة معرض للعجائب والغرائب.. كما يذكر تجلي الرحمة والقدرة في خلق ما لا يحد من الحيوانات المختلفة من تراب بسيط.. كما يذكر تجلي الرحمة والحكمة من توظيف الرياح بوظائف جليلة كتلقيح النباتات وتنفسها، وجعلها صالحة في ترديد انفاس الأحياء بتحريكها وادارتها.. كما يذكر تجلي الربوبية في تسخير السحب وجمعها وتفريقها وهي معلقة بين السماء والارض كأنها جنود منصاعون للاوامر يتفرقون للراحة ثم يجّمعون لتلقي الاوامر في عرض عظيم.

وهكذا بعد سرد منسوجات الصنعة الإلهية يسوق العقل الى اكتناه حقائقها تفصيلاً فيقول: ] لاياتٍ لقوم يعقلون[ آخذاً بزمام العقل الى التدبر موقظاً اياه الى التفكر.

C مزيّة الجزالة الثالثة:

ان القرآن الكريم قد يذكر افعال الله سبحانه بالتفصيل ثم بعد ذلك يوجزها ويجملها بخلاصة، فهو بتفصيلها يورث القناعة والاطمئنان وبايجازها واجمالها يسهّل حفظها وتقييدها. فمثلاً:

] وكذلك يَجتَبيك ربُّك ويعلّمك من تأويل الاحاديث ويُتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على أبَويك من قبلُ ابراهيم واسحق ان ربك عليمٌ حكيمٌ[ (يوسف:6)

يشير بهذه الآية الى النعم التي انعمها الله على سيدنا يوسف وعلى آبائه من قبل، فيقول: ان الله تعالى هو الذي اصطفاكم من بنى آدم لمقام النبوة وجعل سلسلة جميع الانبياء مرتبطة بسلسلتكم وسوّدها على سائر سلاسل بني البشر، كما جعل اسرتكم موضع تعليم وهداية، تلقّن العلوم الإلهية والحكمة الربانية، فجمع فيكم سلطنة الدنيا الســـعــيــدة وســعادة الآخـــرة الخــالـدة، وجعــلك بالعلــم والحــكمة عــزيــزاً لمصر ونبياً عظيماً ومرشداً حكيماً.. فبعد أن يذكر تلك النعم ويعدّدها وكيف ان الله قد جعله هو واباءه ممتازين بالعلم والحكمة، يقول: ] ان ربك عليم حكيم[ أي اقتضت ربوبيته وحكمته ان يجعلك واباءك تحظون بنور اسم ((العليم الحكيم)).

وهكذا أجمل تلك النعم المفصّلة بهذه الخلاصة.

ومثلاً: قوله تعالى ] قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) الى قوله تعالى (وترزق من تشاء بغير حساب[ (آل عمران:27)

تعرض هذه الآية أفعال الله سبحانه في المجتمع الانساني وتفيد:

بأن العزة والذلة والفقر والغنى مربوطة مباشرة بمشيئة الله وارادته تعالى. أي: ((ان التصرف في اكثر طبقات الكثرة تشتتاً انما هو بمشيئة الله وتقديره فلا دخل للمصادفة قط)).

فبعد ان اعطت الآية هذا الحكم، تقول: ان اعظم شئ في الحياة الانسانية هو رزقه، فتثبت ببضع مقدمات ان الرزق انما يرسل مباشرة من خزينة الرزاق الحقيقي؛ إذ إن رزقكم منوط بحياة الارض، وحياة الارض منوطة بالربيع، والربيع انما هو بيد من يسخر الشمس والقمر ويكور الليل والنهار. اذاً فان منح تفاحة لإنسان رزقاً حقيقياً، انما هو من فعل من يملأ الارض بانواع الثمرات، وهو الرزاق الحقيقي.

وبعد ذلك يجمل القرآن ويثبت تلك الافعال المفصّلة بهذه الخلاصة: ] وترزق من تشاء بغير حساب[ .

C النكتة البلاغية الرابعة:

ان القرآن قد يذكر المخلوقات الإلهية مرتبة بترتيب معين ثم يبين به ان في المخلوقات نظاماً وميزاناً، يُريان ثمرة المخلوقات وكأنه يضفي نوعاً من الشفافية والسطوع على المخلوقات التي تظهر منها الاسماء الإلهية المتجلية فيها، فكأن تلك المخلوقات المذكورة ألفاظ، وهذه الاسماء معانيها، أو انها ثمرات وهذه الاسماء نواها أو لبابها.

فمثلاً: ] ولقد خلقنا الانسان من سلالةٍ من طين ^ ثم جعلناهُ نطفةً في قرارٍ مكين^ ثم خلقنا النطفةَ عَلَقةً فخلقنا العلقة مُـضغةً فخلقنا الـمُـضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتبارك الله احسن الخالقين[ (المؤمنون:12ـ14) يذكر القرآن خلق الانسان واطواره العجيبة الغريبة البديعة المنتظمة الموزونة ذكراً مرتباً يبيّن كالمرآة ] فتبارك الله احسنُ الخالقين[ ، حتى كأن كل طـور يبـين نفسه ويـوحي بنفسه هـذه الآيـة، بل حـتـى قـالـها قبل مجيئها احـد كتّاب الوحي حينما كان يـكـتب هـذه الآية، فذهب به الظن الى أن يقول: أأوحي اليّ ايضاً؟ والحال أن كمال نظام الكلام الأول وشفافيته الرائقة وانسجامه التام يظهر نفسه قبل مجئ هذه الكلمة.

وكذا قوله تعالى:

] ان ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايامٍ ثم استوى على العرش يُغشي الّيل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والامرُ تبارك الله ربُ العالمين[ (الاعراف: 54)

يبين القرآن في هذه الآية عظمة القدرة الإلهية وسلطنة الربوبية بوجه يدلّ على قدير ذي جلال استوى على عرش ربوبيته ويسطّر آيات ربوبيته على صحائف الكون ويحوّل الليل والنهار كأنهما شريطان يعقب احدهما الاخر. والشمس والقمر والنجوم متهيئة لتلقي الاوامر كجنود مطيعين. لذا فكل روح ما ان تسمع هذه الآية إلاّ وتقول: تبارك الله رب العالمين.. بارك الله.. ماشاء الله. أي أن جملة ] تبارك الله رب العالمين[ تجري مجرى الخلاصة لما سبق من الجمل وهي بحكم نواتها وثمرتها وماء حياتها.

C مزية الجزالة الخامسة:

ان القرآن قد يذكر الجزئيات المادية المعرّضة للتغير والتي تكون مناط مختلف الكيفيات والاحوال، ثم لأجل تحويلها الى حقائق ثابتة يقيدها ويُجْمِلها بالاسماء الإلهية التي هي نورانية وكلية وثابتة. أو يأتي بخلاصة تسوق العقل الى التفكر والاعتبار.

ومن امثلة المعنى الاول:

] وعلّم ادمَ الاسماءَ كلّها ثم عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين^ قالوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[ (البقرة:31 - 32)

هذه الآية تذكر اولاً حادثة جزئية هي: ان سبب تفضيل آدم في الخلافة على الملائكة هو ((العلم)) ومن بعد ذلك تذكر حادثة مغلوبية الملائكة امام سيدنا آدم في قضية العلم، ثم تعقب ذلك باجمال هاتين الحادثتين بذكر اسمين كليين من الاسماء الحسنى انت العليم الحكيم بمعنى ان الملائكة يقولون: انت العليم يارب فعلّمتَ آدم فغلبنا وانت الحكيم فتمنحنا كل ما هو ملائم لإستعدادنا، وتفضّله علينا باستعداداته.

ومن امثلة المعنى الثاني:

] وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكُم مما في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لَبَنًا خالصاً سائغاً للشاربين^ ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سَكرَاً ورزقاً حسناً ان في ذلك لاية لقومٍ يعقلون^ واوحى ربُّك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يَعرشُون^ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سُبُلَ ربّكِ ذُلُلاً يخرج من بطونها شراب مختلفٌ الوانهُ فيه شفاءٌ للناس ان في ذلك لاية لقومٍ يتفكرون[ (النحل:66ــ69)

تعرض هذه الآيات الكريمة ان الله تعالى جعل الشاة، والمعزى، والبقر، والابل وامثالها من المخلوقات ينابيع خالصة زكية لذيذة تدفق الحليب، وجعل سبحانه العنب والتمر وأمثالهما أطباقاً من النعمة وجفاناً لطيفة لذيذة.. كما جعل من امثال النحل - التي هي معجزة من معجزات القدرة - العسل الذي فيه شفاء للناس الى جانب لذته وحلاوته.. وفي خاتمة المطاف تحث الآيات على التفكر والاعتبار وقياس غيرها عليها بــ ] ان في ذلك لايةً لقوم يتفكرون[ .

C النكتة البلاغية السادسة:

ان القرآن الكريم قد يَنشر احكام الربوبية على الكثرة الواسعة المنتشرة ثم يضع عليها مظاهر الوحدة ويجمعها في نقطة توحدّها كجهة وحدة بينها، أو يمكّنها في قاعدة كلية. فمثلاً: قوله تعالى ] وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم[ (البقرة: 255) فهذه الآية (أي آيةُ الكرسي) تأتي بعشر جمل تمثل عشر طبقات من التوحيد في اشكال مختلفة، وتثبتها. وبعد ذلك تقطع قطعاً كلياً بقوة صـارمة عـرق الـشـرك ومداخـلة غيـر اللّـه بـ ] مَن ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه[ .

فهذه الآية لأنها قد تجلّى فيها الاسم الاعظم فان معانيها من حيث الحقائق الإلهية هي في الدرجة العظمى والمقام الاسمى، اذ تبين تصرفات الربوبية في الدرجة العظمى، وبعد ذكر تدبير الالوهية الموّجه للسموات والارض كافة توجهاً في اعلى مقام واعظم درجة تذكر الحفيظية الشاملة المطلقة بكل معانيها ثم تلخص منابع تلك التجليات العظمى في رابطة وحدة اتحادٍ، وجهة وحدة بقوله تعالى: ] وهو العلي العظيم[ .

ومثلاً:

] الله الذي خلق السموات والارض وانزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار^ وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الّيل والنهار ^ وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها[ (ابراهيم:32ـ34)

تبين هذه الآيات: كيف أن الله تعالى قد خلق هذا الكون للانسان في حكم قصر، وارسل ماء الحياة من السماء الى الارض، فجعل السماء والارض مسخرتين كأنهما خادمان عاملان على ايصال الرزق الى الناس كافة، كما سخر له السفينة ليمنح الفرصة لكل أحد، ليستفيد من ثمار الارض كافة، ليضمن له العيش فيتبادل الافراد فيما بينهم ثمار سعيهم واعمالهم. أي جعل لكل من البحر والشجر والريح أوضاعاً خاصة بحيث تكون الريح كالسوط والسفينة كالفرس والبحر كالصحراء الواسعة تحتها. كما انه سبحانه جعل الانسان يرتبط مع كل ما في انحاء المعمورة بالسفينة وبوسائط نقل فطرية في الانهار والروافد وسيّر له الشمس والقمر وجعلهما ملاحين مأمورين لإدارة دولاب الكائنات الكبير واحضار الفصول المختلفة واعداد ما فيها من نعم إلهية. كما سخر الليل والنهار جاعلاً الليل لباساً وغطاءً ليخلد الانسان الى الراحة والنهار معاشاً ليتجر فيه.

وبعد تعداد هذه النعم الإلهية تأتي الآية بخلاصة ] وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها[ لبيان مدى سعة دائرة انعام الله تعالى على الانسان وكيف انها مملوءة بانواع النعم أي: ان كل ما سأله الانسان بحاجته الفطرية وبلسان استعداده قد منحه الله تعالى اياه. فتلك النعم لا تدخل في الحصر ولا تنفد ولا تنقضي بالتعداد.

نعم، ان كانت السموات والارض مائدة من موائد نعمه العظيمة وكانت الشمس والقمر والليل والنهار بعضاً من تلك النعم التي احتوتها تلك المائدة، فلا شك أن النعم المتوجهة الى الانسان لا تعد ولاتحصى.

C سر البلاغة السابعة:

قد تبين الآية غايات المسَبَّب وثمراته لتعزل السبب الظاهري وتسلب منه قدرة الخلق والايجاد. وليُعلَم ان السبب ما هو الاّ ستار ظاهري؛ ذلك لأن ارادة الغايات الحكيمة والثمرات الجليلة يلزم ان يكون من شأن من هو عليم مطلق العلم وحكيم مطلق الحكمة، بينما سببها جامدٌ من غير شعور. فالآية تفيد بذكر الثمرات والغايات: ان الاسباب وإن بدتْ في الظاهر والوجود متصلة مع المسببَّات إلاّ ان بينهما في الحقيقة وواقع الأمر بوناً شاسعاً جداً.

نعم! ان المسافة بين السبب وايجاد المسبَّب مسافة شاسعة بحيث لا طاقة لأعظم الاسباب ان تنال ايجاد أدنى مسبَّب، ففي هذا البعد بين السبب والمسبَّب تشرق الاسماء الإلهية كالنجوم الساطعة. فمطالع تلك الاسماء هي في تلك المسافة المعنوية، اذ كما يُشاهد اتصال أذيال السماء بالجبال المحيطة بالافق وتبدو مقرونة بها، بينما هناك مسافة عظيمة جداً بين دائرة الافق والسماء، كذلك فان ما بين الاسباب والمسببات مسافة معنوية عظيمة جداً لا تُرى الاّ بمنظار الايمان ونور القرآن. فمثلاً:

] فلينظر الانسانُ الى طعامهِ^ أنّا صَببنا الماء صبّاً^ ثم شققنا الارض شقّاً^ فانبتنا فيها حبّاً^ وعنباً وقـضباً^ وزيتوناً ونخلاً^ وحدائقَ غُلباً^ وفاكهة وأبّاً^ متاعاً لكم ولأنعامكم[ (عبس:24 – 32).

هذه الآيات الكريمة تذكر معجزات القدرة الإلهية ذكراً مرتباً حكيماً تربط الاسباب بالمسببات، ثم في خاتمة المطاف تبيّن الغاية بلفظ (متاعاً لكم ولأنعامكم) فتثبت في تلك الغاية أن متصرفاً مستتراً وراء جميع تلك الاسباب والمسببات المتسلسلة يرى تلك الغايات ويراعيها. وتؤكد أن تلك الاسباب ما هي إلاّ حجاب دونه.

نعم ان عبارة ] متاعاً لكم ولأنعامكم[ تسلب جميع الاسباب من القدرة على الايجاد والخلق. اذ تقول معنىً:

ان الماء الذي ينزل من السماء لتهيئة الارزاق لكم ولأنعامكم لا ينزل بنفسه، لأنه ليس له قابلية الرحمة والحنان عليكم وعلى انعامكم كي يرأف بحالكم؛ فاذاً يُرسل إرسالاً.

وان التراب الذي لاشعُور له، لأنه بعيد كل البعد من أن يرأف بحالكم فيهئ لكم الرزق، فلا ينشق اذاً بنفسه، بل هناك مَن يشقّه ويفتح ابوابه، ويناولكم النِعَم منه.

وكذا الاشجار والنباتات، فهي بعيدة كل البعد عن تهيئة الثمرات والحبوب رأفة بكم وتفكراً برزقكم، فما هي إلاّ حبالٌ وشرائط ممتدة من وراء ستار الغيب يمدها حكيم رحيم علّق تلك النعم بها وارسلها الى ذوي الحياة.

وهكذا فمن هذه البيانات تظهر مطالع اسماء حسنى كثيرة كالرحيم والرزاق والمنعم والكريم.

ومثلاً:

] ألم ترَ أن الله يُزجى سحاباً ثم يؤلّف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودْقَ يخرج من خلاله ويُنزّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار^ يقلبُ الله الّيل والنهار ان في ذلك لعبرةً لاولي الابصار^ والله خلَق كلَّ دابة من ماءٍ فمنهم مَن يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم مَن يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء ان الله على كل شيء قدير[ (النور:43 ــ45).

فهذه الآية الكريمة حينما تبين التصرفات العجيبة في انزال المطر وتشكل السحاب التي تمثل ستار خزينة الرحمة الإلهية واهم معجزة من معجزات الربوبية، تبينها كأن اجزاء السحاب كانت منتشرة ومختفية في جو الســــماء - كالجـنــود المنـتـشـريـن لـلراحــة - فــتــجـتـمع بـــأمــر الله وتـتألف تلك الاجـــزاء الصغيــرة مشكلة السحاب كما تجتمع الجنود بصوت بوق عسكري، فيرسل الماء الباعث على الحياة الى ذوي الحياة كافة، من تلك القطع من السحاب التي هي في جسامة الجبال السيارة في القيامة وعلى صورتها. وهي في بياض الثلج والبَرَد وفي رطوبتها.. فيُشاهد في ذلك الارسال ارادة وقصداً لأنه يأتي حسب الحاجة، أي ترسل المطر ارسالاً، ولا يمكن ان تجتمع تلك الاجزاء الضخمة من السحاب وكأنها جبال بنفسها في الوقت الذي نرى الجو براقاً صحواً لا شئ يعكّره، بل يرسلها مَن يعرف ذوي الحياة ويعلم بحالهم.

ففي هذه المسافة المعنوية تظهر مطالع الاسماء الحسنى كالقدير والعليم والمتصرف والمدبّر والمربي والمغيث والمحيي.

C مزية الجزالة الثامنة:

ان القرآن الكريم قد يذكر من افعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يعدّ الاذهان للتصديق ويحضر القلوب للايمان بافعاله المعجزة في الآخرة. أو أنه يصوّر الافعال الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل يجعلنا نقنع ونطمئن اليه بما نشاهده من نظائرها العديدة. فمثلاً:

] أوَ لم يَرَ الانسانُ أنّا خَلقناه مِن نطفةٍ فاذا هو خصيمٌ مبينٌ..[ الى آخر سورة (يس).. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة.

انه يقدّم النشأة الاولى اولاً، ويعرضها للانظار قائلاً: انكم ترون نشأتكم من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة ومن المضغة الى خلق الانسان، فكيف تنكرون اذن النشأة الاخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟ ثم يشير بـ ] الذي جعل لكم من الشجَر الأخضر ناراً[ الى تلك الآلاء وذلك الاحسان والانعام الذي انعمه الحق سبحانه على الانسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدىً ولا عبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام. ثم انه يقول رمزاً: انكم ترون احياء واخضرار الاشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟ ثم هل يمكن ان يعجز مَن خلق السماوات والارض عن إحياء الانسان واماتـتــه وهو ثــمــرة الســـموات والأرض؟ وهل يمــكن من يــديــر أمر الشجرة ويرعاها ان يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث ((شجرة الخلقة)) التي عجنت جميع اجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟ وهكذا فان الذي سيحييكم في الحشر مَن بيده مقاليد السموات والارض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر ((كن فيكون)) تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسيـر وهـيّـن كخلق زهـرة واحـدة، وايجاد جميع الحيـوانات سهل على قدرته كايجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ] من يحيي العظام[ ؟

ثم انه بعبارة ] فسبحان الذي بيده ملكوتُ كل شيء [ يبين انه سبحانه بيده مقاليد كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنزلين يغلق هذا ويفتح ذاك. فما دام الأمر هكذا فان نتيجة جميع الدلائل هي: ] واليه تُرجعون[ أي انه يحييكم من القبر، ويسوقكم الى الحشر، ويوفي حسابكم عند ديوانه المقدس.

وهكذا ترى ان هذه الآيات قد هيأت الاذهان، واحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت من نظائرها بافعال في الدنيا.

هذا وقد يذكر القرآن ايضاً افعالاً اخروية بشكل يحسس ويشير الى نظائرها الدنيوية،ليمنع الانكار والاستبعاد. فمثلاً:

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا الشمسُ كُوِّرتْ ^ واذا النجومُ انكدَرتْ ^ واذا الجبالُ سُيرتْ^ واذا العشارُ عطلتْ^ واذا الوحوشُ حُـشِرتْ^ واذا البحار سُجّرتْ^ واذا النفوسُ زُوّجتُْ^ واذا الموؤدة سُئلتْ^ بأيّ ذنبٍ قُتلَتْ^ واذا الصُحُفُ نُشرت^ واذا السماء كُشطتْ^ واذا الجحيمُ سُعّرتْ^ واذا الجنةُ ازلفتْ^ علمتْ نفسٌ ما احــضرتْ...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انفطرتْ^ واذا الكواكبُ انتثرتْ^ واذا البحار فُجرتْ^ واذا القبورُ بُعثرتْ^ علمتْ نفسٌ ما قدّمتْ واخّرت...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انشقّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ ^ واذا الارضُ مُدّت^ والقتْ ما فيها وتخلّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ...[ الى آخر السورة.

فترى ان هذه السوَر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة باسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقل دونها ويبقى في حيرة. ولكن الانسان ما أن يرى نظائرها في الخريف والربيع إلاّ ويقبلها بكل سهولة ويسر. ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجاً، فمثلاً:

] واذا الصحف نشرت[ تفيد هذه الآية: ((ستنشر في الحشر جميع اعمال الفرد مكتوبة على صحيفة)). وحيث ان هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقل اليها سبيلاً، إلاّ أن السورة كما تشير الى الحشر الربيعي وكما ان للنقاط الاخرى نظائرها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جلي فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال، وله وظائف. وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تظهر به الاسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الاعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر. أي انه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فانه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الاغصان وتفتح الاوراق والاثمار.

نعم إن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ] واذا الصحف نشرت[ .

وهكذا قس النقاط الاخرى على هذا المنوال. وان كانت لديك قوة استنباط فاستنبط. ولاجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ] اذا الشمس كوّرت[ ايضاً. فان لفظ (كوّرت) الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّت وجمعت، فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ الى نظيره ومثيله في الدنيا:

اولا: ان الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والاثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضئ الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته واظهرها الى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابها.

ثانياً: ان الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الاسحار ولفّها في الاماسي وهكذا يتناوب الليل والنهار هامة الارض، وهي تجمع متاعها مقللة من تعاملها، أو يكون القمر - الى حدٍ ما - نقاباً لاخذها وعطائها ذلك، أي كما ان هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر اعمالها بهذه الاسباب فلابد من أن يأتي يوم تعفى من مهامها، وتفصل من وظيفتها، حتى ان لم يكن هناك سبب للاعفاء والعزل. ولعلّ توسع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويداً رويداً. تسترجع الشمس - بهذا التوسع - وبأمر رباني ما لفّته ونشرته على رأس الارض باذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: الى هنا انتهت مهمتك مع الارض، فهيّا الى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين إياها بالخيانة وعدم الوفاء. بهذا تقرأ الشمسُ الأمر الرباني ] اذا الشمس كوّرت[ على وجهها المبقع.

C نكتة البلاغة التاسعة:

ان القرآن الكريم قد يذكر بعضاً من المقاصد الجزئية،ثم لأجل أن يحوّل تلك الجزئيات الى قاعدة كلية ويجيلَ الاذهان فيها يثبّت ذلك المقصد الجزئي ويقرره ويؤكده بالاسماء الحسنى التي هي قاعدة كلية.

فمثلاً:

] قد سمعَ الله قولَ التي تُجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمعُ تحاوركما ان الله سميعٌ بصير[ (المجادلة: 1)

يقول القرآن: ان الله سميع مطلق السمع يسمع كل شئ، حتى إنه ليسمع باسمه ((الحق)) حادثة جزئية، حادثة لمرأة - المرأة التي حظيت بألطف تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية وهي التي تمثل اعظم كنز لحقيقة الرأفة والحنان - هذه الدعوى المقدمة من امرأة وهي محقة في دعواها على زوجها وشكواها الى الله منه يسمعها باهتمام بالغ كأي أمرعظيم باسم ((الرحيم)) وينظر اليها بكل جد ويراها باسم ((الحق)).

فلأجل جعل هذا المقصد الجزئي كلياً تفيد الآية بأن الذي يسمع ادنى حادثة من المخلوقات ويراها، يلزم ان يكون ذلك الذي يسمع كل شئ ويراه، وهو المنزّه عن الممكنات. والذي يكون رباً للكون لابد أن يرى ما في الكون اجمع من مظالم ويسمع شكوى المظلومين، فالذي لا يرى مصائبهم ولا يسمع استغاثاتهم لايمكن ان يكون رباً لهم.

لذا فان جملة ] ان الله سميع بصير[ تبين حقيقتين عظيمتين. كما جعلت المقصد الجزئي أمراً كلياً.

ومثل ثان:

] سبحانَ الذي اسرى بعبدهِ ليلاً من المسجدِ الحرام الى المسجد الاقصا الذي باركنا حوله لنُريهُ من آياتنا انه هو السميعُ البصير[ (الاسراء:1).

ان القرآن الكريم يختم هذه الآية بـ ] انه هو السميع البصير[ وذلك بعد ذكره إسراء الرسول الحبيب e من مبدأ المعراج - أي من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى - ومنتهاه الذي تشير إليه سورة النجم.

فالضمير في ((إنّه)) إما أن يرجع الى الله تعالى، أو الى الرسول الكريم e فاذا كان راجعاً الى الرسول e ، فان قوانين البلاغة ومناسبة سياق الكلام تفيدان: أنّ هذه السياحة الجزئية، فيها من السير العمومي والعروج الكلي ما قد سَمِع وشاهَدَ كلَّ ما لاقى بَصَره وسمعَه من الآيات الربانية، وبدائع الصنعة الإلهية اثناء ارتقائه في المراتب الكلية للاسماء الإلهية الحسنى البالغة الى سدرة المنتهى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى. مما يدل على أن هذه السياحة الجزئية هي في حُكم مفتاحٍ لسياحةٍ كليةٍ جامعة لعجائب الصنعة الإلهية(1).

واذا كان الضمير راجعاً الى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى يكون عندئذٍ هكذا:

إنه سبحانه وتعالى دعا عبدَه الى حضوره والمثول بين يديه لينيط به مهمةً ويكلّفه بوظيفة؛ فاسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي هو مجمع الانبياء. وبعد اجراء اللقاء معهم واظهاره بأنه الوارث المطلق لأصول أديان جميع الأنبياء، سَيَّره في جولةٍ ضمن مُلكه وسياحةٍ ضمن ملكوته، حتى أبلغه سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.

وهكذا فان تلك السياحة أو السير، وإن كانت معراجاً جزئياً وأن الذي عُرج به عبدٌ، إلاّ ان هذا العبد يحمل امانة عظيمة تتعلق بجميع الكائنات، ومعه نور مبين ينير الكائنات ويبدل من ملامحها ويصبغها بصبغته. فضلاً عن أن لديه مفتاحاً يستطيع ان يفتح به باب السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

فلأجل كل هذا يصف الله سبحانه وتعالى نفسَه بــ ] إنه هو السميعُ البصير[ كي يُظهِر ان في تلك الأمانة وفي ذلك النور وفي ذلك المفتاح، من الحِكم السامية ما يشمل عموم الكائنات، ويعم جميع المخلوقات، ويحيط بالكون اجمع.

ومثل آخر:

] الحمد للّه فاطرِ السموات والارض جاعلِ الملئكةِ رسلاً اولي اجنحةٍ مثنى وثلثَ ورباعَ يزيدُ في الخلقِ ما يشاءُ ان الله على كل شئٍ قدير[ (فاطر:1).

ففي هذه السورة يقول تعالى: ان فاطر السموات والارض ذا الجلال قد زيّن السموات والارض وبيّن آثار كماله على ما لا يعد من المشاهدين وجعلهم يرفعون اليه ما لا نهاية له من الحمد والثناء. وانه تعالى زيّن الارض والسماء بما لا يحد من النعم والآلاء فتحمد السموات والارض بلسان نعمها وبلسان المنعمين عليهم جميعاً وتثنى على فاطرها (الرحمن). وبعد ذلك يقول: ان الله سبحانه الذي منح الانسان والحيوانات والطيور من سكان الارض اجهزة واجنحة يتمكنون بها من الطيران والسياحة بين مدن الارض وممالكها، والذي منح سكان النجوم وقصور السموات - وهم الملائكة - كي تسيح وتطير بين ممالكها العلوية وابراجها السماوية لابد ان يكون قادراً على كل شئ. فالذي اعطى الذبابة الجناح لتطير من ثمرة الى اخرى، والعصفور ليطير من شجرة الى اخرى، هو الذي جعل الملائكة اولي اجنحة لتطير من الزُهَرة الى المشتري ومن المشتري الى زُحَل.

ثم ان عبارة ] مثنى وثلث ورباع[ تشير الى أن الملائكة ليسوا منحصرين بجزئية ولا يقيدهم مكان معين، كما هو الحال في سكان الارض بل يمكن ان يكونوا في آن واحد في اربع نجوم أو اكثر.

فهذه الحادثة الجزئية، أي تجهيز الملائكة بالاجنحة تشير الى عظمة القدرة الإلهية المطلقة العامة وتؤكدها بخلاصة ] ان الله على كل شيء قدير[

C نكتة البلاغة العاشرة:

قد تذكر الآية ما اقترفه الانسان من سيئات، فتزجره زجراً عنيفاً، ثم تختمها ببعض من الاسماء الحسنى التي تشير الى الرحمة الإلهية لئلا يلقيه الزجر العنيف في اليأس والقنوط.

فمثلاً:

] قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً^ سبحانه وتعالى عمّا يقولون علواً كبيراً ^ تسبح له السموات السبع والارض ومَن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليماً غفوراً[ (الاسراء:42 - 44)

تقول هذه الآية: ((قل لهم لو كان في ملك الله شريك كما تقولون لامتدّت ايديهم الى عرش ربوبيته ولظهرت علائم المداخلة باختلال النظام، ولكن جميع المخلوقات من السموات السبع الطباق الى الأحياء المجهرية، جزئيها وكليّها، صغيرها وكبيرها، تسبّح بلسان ما يظهر عليها من تجليات الاسماء الحسنى ونقوشها، وتقدس مسمّى تلك الاسماء ذا الجلال والاكرام، وتنزّهه عن الشريك والنظير)).

نعم، ان السماء تقدسه وتشهد على وحدته بكلماتهاالنيرة من شموس، ونجوم، وبحكمتها وانتظامها.. وان جو الهواء يسبّحه ويقدسه ويشهد على وحدانيته بصوت السحاب وكلمات الرعد والبرق والقطرات.. والارض تسبح خالقها الجليل وتوحدهّ بكلماتها الحية من حيوانات ونباتات وموجودات.. وكذا تسبحه وتشهد على وحدانيته كل شجرة من اشجارها بكلمات اوراقها وازاهيرها وثمراتها.. وكل مخلوق صغير ومـصــنوع جــزئــي مــع صــغره وجزئيــته يســبح باشــارات ما يحـمــله مــن نقوش وكيفيات وما يظهره من أسماء حسنى كثيرة وتقدس مسمى تلك الاسماء ذا الجلال وتشهد على وحدانيته تعالى. وهكذا فالكون برمته معاً وبلسان واحد، يسبح خالقه الجليل متفقاً ويشهد على وحدانيته، مؤدياً بكمال الطاعة ما انيط به من وظائف العبودية. الاّ الانسان الذي هو خلاصــة الكـون ونتيجته وخليفته المكرم وثمرته الــيانــعة، يقــوم بخلاف جميع ما في الكون وبضده، فيكفر بالله ويشرك به. فكــم هــو قبــيــح صنــيعه هـذا؟ وكــم ياترى يــســتـحق عقـاباً عـلى مـا قــدمت يــداه؟ ولكن لئلا يقع الانسان في هاوية اليأس والقنوط تبين له الآية حكمةَ عدم هدم القهار الجليل الكونَ على رأسه بما يجترحه من سيئات شنيعة كهذه الجناية العظمى، وتقول ] انه كان حليماً غفوراً[ مبينة حكمة الامهال وفتح باب الأمل بهذه الخاتمة.

فافهم من هذه الاشارات العشر الاعجازية، ان في الخلاصات والفذلكات التي في ختام الآيات لمعات اعجازية كثيرة فضلاً عما تترشح منها من رشحات الهداية الغزيرة، حتى بلغ بدهاة البلغاء أنهم لم يتمالكوا انفسهم من الحيرة والاعجاب امام هذه الاساليب البديعة فقالوا: ما هذا كلام البشر، وآمنوا بحق اليقين بقوله تعالى:

] ان هو الاّ وحي يوحى[ .

هذا وان بعض الآيات - الى جانب جميع الاشارات المذكورة - تتضمن مزايا اخرى عديدة لم نتطرق اليها في بحثنا، فيُشاهد من اجماع تلك المزايا نقش اعجازي بديع يراه حتى العميان.

النور الثالث

وهو أن القرآن الكريم لا يمكن ان يقاس بأي كلام آخر، اذ إن منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة:

الأول: المتكلم. الثاني: المخاطب. الثالث: المقصد. الرابع: المقام. وليس المقام وحده كما ضل فيه الادباء. فلابد من ان تنظر في الكلام الى: مَن قال؟ ولمن قال؟ ولِمَ قال؟ وفيمَ قال؟ فلا تقف عند الكلام وحده وتنظر اليه.

ولما كان الكلام يستمد قوته وجماله من هذه المنابع الاربعة فبانعام النظر في منابع القرآن تُدرك درجة بلاغته وحسنها وسموها وعلوها.

نعم ان الكلام يستمد القوة من المتكلم، فاذا كان الكلام أمراً ونهياً يتضمن ارادة المتكلم وقدرته حسب درجته وعند ذاك يكون الكلام مؤثراً نافذاً يسري سريان الكهرباء من دون اعاقة أو مقاومة. وتتضاعف قوة الكلام وعلوه حسب تلك النسبة.

فمثلاً: ] ياارضُ ابلعي ماءكِ وياسماءُ أقلعي[ (هود:44) و] فقال لها وللارض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين[ (فصلت:11)

فانظر الى قوة وعلو هذه الاوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والارادة. ثم انظر الى كلام انسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم: اسكني يا ارض وانشقي ياسماء وقومي ايتُها القيامة!

فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين؟ ثم اين الاوامر الناشئة من فضول الانسان والنابعة من رغباته والمتولدة من أمانيه.. واين الاوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله.

نعم! اين امر أمير عظيم مطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ : تقدّم، واين هذا الأمر اذا صدر من جندي بسيط لا يُبالى به؟ فهذان الأمران وان كانا صورة واحدة إلاّ أن بينهما معنىً بوناً شاسعاً،كما بين القائد العام والجندي.

ومثلاً: ] انما امره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون[ (يس:82) و] واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم[ (البقرة:34) انظر الى قوة وعلو الامرين في هاتين الآيتين. ثم انظر الى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة؟.

نعم! اين تصوير عامل يمارس عمله، وبيان صانع وهو يصنع، وكلام مُحسن في آن احسانه، كلٌ يصور أفاعيله، ويطابق فعله قوله، أي يقول: انظروا فقد فعلت كذا لكذا، افعل هذا لذاك، وهذا يكون كذا وذاك كذا... وهكذا يبين فعلَه للعين والاذن معاً، فمثلاً :

] أفلم ينظروا الى السماءِ فوقَهم كيف بنيناها وزيّناها ومالَها من فروج^ والارضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كل زوج بهيج^ تَبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيب^ ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فانبتنا به جناتٍ وحبّ الحصيد^ والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد^ رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج[ (ق:6ــ11).

اين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن؛ كأنه ثمار الجنة. - وقد ذكر كثيراً من الدلائل ضمن هذه الافعال مع انتظام البلاغة واثبت الحشر الذي هو نتيجتها بتعبير ] كذلك الخروج[ ليلزم بـه الــذين ينكرون الحــشر فــي مستــهل الــسورة - فــأيــن هذا وايــن كلام النــاس عــلى وجه الفــضول عن افعال لا تمسهم إلاّ قليلاً؟ فلا تكون نسبته اليه إلاّ كنسبة صورة الزهرة الى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة.

ان بيان معنى هذه الآيات من قوله تعالى ] أفلم ينظروا[ الى ] كذلك الخروج[ على وجه أفضل يتطلب منا وقتاً طويلاً فنكتفي بالاشارة اليه ونمضي الى شأننا:

ان القرآن يبسط مقدّمات ليرغم الكفار على قبول الحشر، لإنكارهم اياه في مستهل السورة. فيقول: افلا تنظرون الى السماء فوقكم كيف بنيناها، بناءً مهيباً منتظماً.. أوَلا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص او فطور..؟ أوَلا ترون كيف بسطنا الارض وفرشناها لكم بالحكمة، وثبتنا فيها الجبال لتقيها من مّد البحار واستيلائها؟ أوَلا ترون انا خلقنا فيها ازواجاً جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات، وزيّنا بها ارجاء الارض كافة؟ أوَلا ترون كيف ارُسلُ ماءً مباركاً من السماء فاُنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه واجعله رزقاً لعبادي؟ أوَلا يرون انني احيي الارض الميتة، بذلك الماء. وآتي الوفاً من الحشر الدنيوي. فكما اُخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الارض الميتة، كذلك خروجكم يوم الحشر؛ اذ تموت الارض في القيامة وتبعثون انتم أحياء. فأين ما اظهرته الآية في اثبات الحشر من جزالة البيان ـ التي ما اشرنا إلا الى واحدة من الألف منها ـ واين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى؟.

* * *

لقد انتهجنا من اول هذه الرسالة الى هنا نهج المحايد الموضوعي في تحقيق قضية الاعجاز، وقد ابقينا كثيراً من حقوق القرآن مطوية مخفية مستورة، فكنا نعقد موازنة ننزل تلك الشمس منزلة الشموع، وذلك كله لكي نُخضع خصماً عاتياً لقبول اعجاز القرآن.

والآن وقد وفَّى التحقيق العلمي مهمته، واُثبت اعجاز القرآن اثباتاً ساطعاً. فنشير ببعض القول باسم الحقيقة لا باسم التحقيق العلمي، الى مقام القرآن، ذلك المقام العظيم الذي لا تسعه موازنة ولا ميزان.

نعم! ان نسبة سائر الكلام الى آيات القرآن، كنسبة صور النجوم المتناهية في الصغر التي تتراءى في المرايا، الى النجوم نفسها.

نعم! اين كلمات القرآن التي كل منها تصوّر الحقائق الثابتة وتبينها، واين المعاني التي يرسمها البشر بكلماته على مرايا صغيرة لفكره ومشاعره؟

اين الكلمات الحية حياة الملائكة الاطهار.. كلمات القرآن الذي يفيض بانوار الهداية وهو كلام خالق الشمس والقمر.. واين كلمات البشر اللاذعة الخادعة بدقائقها الساحرة بنفثاتها التي تثير اهواء النفس.

نعم! كم هي النسبة بين الحشرات السامة والملائكة الاطهار والروحانيين المنوّرين؟ انها هي النسبة نفسها بين كلمات البشر وكلمات القرآن الكريم. وقد اثبتتْ هذه الحقيقة مع الكلمة الخامسة والعشرين جميع الكلمات الاربع والعشرين السابقة. فدعوانا هذه ليست ادعاء وانما هي نتيجة لبرهان سبقها.

نعم! اين الفاظ القرآن التي كل منها صدف درر الهداية ومنبـع حقائق الايمان، ومعدن أسس الاسلام، والتي تتنزل من عرش الرحمن وتتوجه من فوق الكون ومن خارجه الى الانسان، فاين هذا الخطاب الازلي المتضمن للعلم والقدرة والارادة، من الفاظ الانسان الواهية المليئة بالأهواء؟

نعم! ان القرآن يمثل شجرة طوبى طيبة نشرت اغصانها في جميع ارجاء العالم الاسلامي، فاورقت جميع معنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره واحكامه، وابرزت اولياءه واصفياءه كزهور نضرة جميلة تستمد حسنها ونداوتها من ماء حياة تلك الشجرة، واثمرت جميعَ الكمالات والحقائق الكونية والإلهية حتى غدت كل نواة من نوى ثمارها دستور عمل ومنهج حياة.. نعم اين هذه الحقائق المتسلسلة التي يطالعنا بها القرآن بمثابة شجرة مثمرة وارفة الظلال واين منها كلام البشر المعهود. اين الثرى من الثريا؟

ان القرآن الحكيم ينشر جميع حقائقه في سوق الكون ويعرضها على الملأ اجمعين منذ اكثر من الف وثلاث مائة سنة وان كل فرد وكل امة وكل بلد قد اخذ من جواهره ومن حقائقه، وما زال يأخذ.. على الرغم من هذا فلم تخل تلك الألفة، ولا تلك الوفرة، ولا مرور الزمان، ولا التحولات الهائلة، بحقائقه القيمة ولا باسلوبه الجميل، ولم تشيّبه ولم تتمكن من ان تفقِدهُ طراوته أو تسقط من قيمته أو تطفئ سنا جماله وحسنه.

ان هذه الحالة وحدها اعجاز أي اعجاز.

والآن اذا ما قام أحدٌ ونظم قسماً من الحقائق التي اتى بها القرآن حسب اهوائه وتصرفاته الصبيانية، ثم اراد أن يوازن بين كلامه وكلام القرآن بغية الاعتراض على بعض آياته وقال: لقد قلت كلاماً شبيهاً بالقرآن. فلا شك ان كلامه هذا يحمل من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال:

ان بنّاءً شيد قصراً فخماً، احجاره من جواهر مختلفة، ووضع تلك الاحجار في اوضاع وزينها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة، ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمه عن تلك النقوش البديعة، ويجهل قيمة جواهره وزينته. وبدأ يبدّل نقوش الاحجار واوضاعها، ويجعلها في نظام حسب اهوائه حتى غدا بيتاً اعتيادياً.ثم جمّله بما يعجب الصبيان من خرز تافه، ثم بدأ يقول: انظروا ان لي من المهارة في فن البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم، ولي ثروة اكثر من بنّاء القصر! فانظروا الى جواهري الثمينة! لا شك ان كلامه هذا هذيان بل هذيان مجنون ليس إلا.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:27 AM

رد: الكلمات
 

الاساس الثاني:

ان المدنية الحاضرة لا تقبل تعدد الزوجات، وتحسب ذلك الحكم القرآني مخالفاً للحكمة ومنافياً لمصلحة البشر.

نعم، لو كانت الحكمة من الزواج قاصرة على قضاء الشهوة للزم ان يكون الامر معكوساً، بينماهو ثابت حتى بشهادة جميع الحيوانات وبتصديق النباتات المتزاوجة:

ان الحكمة من الزواج والغاية منه انما هي التكاثر وانجاب النسل. أما اللذة الحاصلة من قـضاء الشــهوة فهــي اجرة جزئية تمنــحها الـرحمــة الإلهــية لــتأدية تلــك المهمة. فما دام الزواج للتكاثر وانجاب النسل ولبقاء النوع حكمةً وحقيقةً، فلا شك ان المرأة التي لا يمكن أن تلد إلاّ مرة واحدة في السنة ولا تكون خصبة الاّ نصف ايام الشهر وتدخل سن اليأس في الخمسين من عمرها لا تكفي الرجل الذي له القدرة على الاخصاب في اغلب الاوقات حتى وهو ابن مائة سنة. لذا تضطر المدنية الى فتح اماكن العهر والفحش.

U الاساس الثالث:

ان المدنية التي لا تتحاكم الى المنطق العقلي، تنتقد الآية الكريمة ] للذَكَرِ مثلُ حظ الانثيين[ (النساء:11) التي تمنح النساء الثلث من الميراث (اي نصف ما يأخذه الذكر).

ومن البديهي ان اغلب الاحكام في الحياة الاجتماعية انما تسنّ حسب الاكثرية من الناس، فغالبية النساء يجدن ازواجاً يعيلونهن ويحمونهن، بينما الكثير من الرجال مضطرون الى اعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن.

فاذا ما اخذت الانثى الثلث من ابيها (اي نصف ما اخذه الزوج من ابيه) فان زوجها سيسد حاجتها. بينما اذا اخذ الرجل حظين من ابيه فانه سينفق قسطاً منه على زوجته، وبذلك تحصل المساواة، ويكون الرجل مساوياً لأخته. وهكذا تقتضي العدالة القرآنية(1).



U الاساس الرابع:

ان القرآن الكريم مثلما يمنع بشدة عبادة الاصنام يمنع كذلك اتخاذ الصور التي هي شبيهة بنوع من اتخاذ الاصنام. أما المدنية الحاضرة فانها تعدّ الصورمن مزاياها وفضائلها وتحاول ان تعارض القرآن. والحال ان الصور اياً كانت، ظلية أو غيرها، فهي: إما ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى متجسم، حيث تهيج الاهواء وتدفع الانسان الى الظلم والرياء والهوى.

ثم ان القرآن يأمر النساء ان يحتجبن بحجاب الحياء، رحمةً بهن وصيانة لحرمتهن وكرامتهن ولكيلا تهان تلك المعادن الثمينة معادن الشفقة والرأفة وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة تحت اقدام الذل والمهانة، ولكي لا يكنّ آلة لهوسات الرذيلة ومتعة تافهة لا قيمة لها(1). أما المدنية فانها قد اخرجت النساء من اوكارهن وبيوتهن ومزقت حجابهن وأدت بالبشرية ان يجنَّ جنونها. علماً ان الحياة العائلية انما تدوم بالمحبة والاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة. بينما التكشف والتبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة والاحترام الجاد ويسممان الحياة العائلية؛ ولا سيما الولع بالصور فانه يفسد الاخلاق ويهدمها كلياً، ويؤدي الى انحطاط الروح وتردّيها، ويمكن فهم هذا بالآتي:

كما ان النظر بدافع الهوى وبشهوة الى جنازة امرأة حسناء تنتظر الرحمة وترجوها يهدم الاخلاق ويحطها، كذلك النظر بشهوة الى صور نساء ميتات أو الى صور نساء حيات - وهي في حكم جنائز مصغرة لهن - يزعزع مشاعر الانسان ويعبث بها، ويهدمها.

وهكذا بمثل هذه المسائل الاربع فان كل مسألة من آلاف المسائل القرآنية تضمن سعادة البشر في الدنيا كما تحقق سعادته الابدية في الاخرة.

فَلكَ أن تقيس سائر المسائل على المسائل المذكورة.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة تخسر وتُغلب امام دساتير القرآن المتعلقة بحياة الانسان الاجتماعية، فيظهر افلاسها - من زاوية الحقيقة - ازاء اعجاز القرآن المعنوي، كذلك فان فلسفة اوربا وحكمة البشر - وهي المدنية - عند الموازنة بينها وبين حكمة القرآن بموازين الكلمات الخمس والعشرين السابقة، ظهرت عاجزة وحكمة القرآن معجزة، وان شئت فراجع ((الكلمة الثانية عشرة والثالثة عشرة)) لتلمس عجز حكمة الفلسفة وافلاسها واعجاز حكمة القرآن وغناها.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة غُلبت امام اعجاز حكمة القرآن العلمي والعملي، كذلك آداب المدنية وبلاغتها فهي مغلوبة امام الأدب القرآنـي وبلاغتــه. والنسبة بينهما اشبه ما يكـون بــبــكاء يتيم فَقَد أبــوَيه بكاءً ملــؤه الحزن الــقــاتـم واليأس المرير، الى انشاد عاشق عفيف حزينٍ على فراق قصير الأمد غناءً ملؤه الشوق والأمل.. أو نسبة صراخ سكير يتخبط في وضع سافل، الى قصائد حماسية تحضّ على بذل الغوالي من الانفس والاموال وبلوغ النصر. لأن: الادب والبلاغة من حيث تأثير الاسلوب، إما يورثان الحزن وإما الفرح. والحزن نفسه قسمان:

إما انه حزن منبعث من فقد الأحبة، أي من عدم وجود الأحبة والاخلاء، وهو حزن مظلم كئيب تورثه المدنية الملوثة بالضلالة والمشوبة بالغفلة والمعتقدة بالطبيعة، وإما انه ناشىء من فراق الأحبة، بمعنى ان الأحبة موجودون، ولكن فراقهم يبعث على حزن ينم عن لوعة الاشتياق. فهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير.

أما الفرح والسرور فهو ايضاً قسمان:

الاول: يدفع النفس الى شهواتها، هذا هو شأن آداب المدنية من ادب مسرحي وسينمائي وروائي.

أما الثاني: فهو فرح لطيف برئ نزيه، يكبح جماح النفس ويلجمها ويحث الروح والقلب والعقل والسر على المعالي وعلى موطنهم الاصلي، على مقرهم الابدي، على احبتهم الاخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان الذي يحض البشر ويشوّقه للجنّة والسعادة الابدية وعلى رؤية جمال الله تعالى.

ولقد توهم بعض قاصري الفهم وممن لايكلفون انفسهم دقة النظر: ان المعنى العظيم والحقيقة الكبرى التي تفيدها الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بـعـضهم لبعـض ظهيراً[ ظنوها صورة محالة ومبالغة بلاغية! حاشَ لله! بل انها بلاغة هي عين الحقيقة، وصورة ممكنة وواقعة وليست محالة قط. فأحد وجوه تلك الصورة هو أنه:

لو اجتمع اجمل ما يقوله الانس والجن الذي لم يترشح من القرآن ولا هو من متاعه، فلا يماثل القرآن قط ولن يماثله. لذا لم يظهر مثيله.

والوجه الآخر: ان المدنية وحكمة الفلسفة والآداب الاجنبية التي هي نتائج افكار الجن والانس وحتى الشياطين وحصيلة اعمالهم، هي في دركات العجز امام احكام القرآن وحكمته وبلاغته. كما قد بيّنا امثلة منها.

الجلوة الثالثة:

خطابه كل طبقة من طبقات الناس

ان القرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجه توجهاً خاصاً الى تلك الطبقة بالذات. اذ لما كان القرآن يدعو جميع بني آدم بطوائفهم كافة الى الايمان الذي هو اسمى العلوم وادقها، والى معرفة الله التي هي اوسع العلوم وأنورها، والى الاحكام الاسلامية التي هي اهم المعارف واكثرها تنوعاً، فمن الألزم اذاً ان يكون الدرس الذي يلقيه على تلك الطوائف من الناس، درساً يوائم فهم كلٍ منها. والحال أن الدرس واحد، وليس مختلفاً، فلابد اذاً من وجود طبقات من الفهم في الدرس نفسه، فكل طائفة من الناس - حسب درجاتهاــ تأخذ حظها من الدرس من مشهد من مشاهد القرآن.

ولقد وافينا بأمثلة كثيرة لهذه الحقيقة، يمكن مراجعتها، اما هنا فنكتفي بالاشارة الى بضع اجزاءٍ منها، والى حظ طبقة أو طبقتين منها من الفهم فحسب.

فمثلاً:

قوله تعالى: ] لم يلد ولم يولد ^ ولم يكن له كفواً أحد[

فان حظ فهم طبقة العوام التي تشكل الاكثرية المطلقة هو:

((ان الله منزّه عن الوالد والولد وعن الزوجة والأقران))

وحظ طبقة اخرى متوسطة من الفهم هو:

((نفي الوهية عيسى عليه السلام والملائكة، وكل ما هو من شأنه التولد)) لأن نفي المحال لا فائدة منهفي الظاهر؛ لذا فلابد ان يكون المراد اذاً ما هو لازم الحكم كما هو مقرر في البلاغة. فالمراد من نفي الولد والوالدية اللذين لهما خصائص الجسمانية هو نفي الالوهية عن كل مَن له ولد ووالد وكفو، وبيان عدم لياقتهم للالوهية.

فمن هذا السر تبين: أن سورة الاخلاص يمكن أن تفيد كل انسان في كل وقت.

وحظ فهم طبقة اكثر تقدماً هو:

ان الله منزّه عن كل رابطة تتعلق بالموجودات تُشم منها رائحة التوليد والتولد، وهو مقدّس عن كل شريك ومعين ومجانس، وانما علاقتــه بالمــوجــودات هي الخــلاقيـة. فهو يخلق الموجودات بأمر ((كن فيكون)) بارادته الازلية وباختياره. وهو منزّه عن كل رابطة تنافي الكمال، كالايجاب والاضطرار والصدور بغير اختيار.

وحظ فهم طبقة أعلى من هذه هو:

ان الله ازلي، ابدي، اول وآخر، لانظير له ولا كفو، ولاشبيه، ولامثيل ولامثال في اية جهة كانت، لا في ذاته ولافي صفاته ولا في افعاله. وانما هناك (المَثَل) (ولله المثل الاعلى) الذي يفيد التشبيه في افعاله وشؤونه فحسب.

فلك أن تقيس على هذه الطبقات اصحاب الحظوظ المختلفة في الادراك من امثال طبقة العارفين وطبقة العاشقين وطبقة الصديقين وغيرهم...

المثال الثاني:

قوله تعالى ] ما كان محمد أبا احدٍ من رجالكم[ (الاحزاب:40)

فحظ فهم الطبقة الاولى من هذه الآية هو:

ان زيداً خادم الرسول e ومتبناه ومخاطبه بـ : يا بني، قد طلّق زوجته العزيزة بعدما احسّ انه ليس كفواً لها، فتزوجها الرسول e بأمر الله تعالى، فالآية (النازلة بهذه المناسبة) تقول: ان النبي e اذا خاطبكم مخاطبة الاب لإبنه، فانه يخاطبكم من حيث الرسالة، اذ هو ليس اباً لأحدٍ منكم باعتباره الشخصي حتى لا تليق به زوجاته.

وحظ فهم الطبقة الثانية هو:

ان الامير العظيم ينظر الى رعاياه نظر الأب الرحيم، فان كان سلطاناً روحانياً في الظاهر والباطن فان رحمته ستفوق رحمة الاب وشفقته اضعافاً مضاعفة، حتى تنظر اليه افراد الرعية نظرهم للاب وكأنهم اولاده الحقيقيون. وحيث إن النظرة الى الاب لا يمكن ان تنقلب الى النظر الى الزوج والنظر الى البنت لايتحول بسهولة الى النظر الى الزوجة، فلا يوافق في فكر العامة تزوج الرسول e ببنات المؤمنين استناداً الى هذا السر. لذا فالقرآن يخاطبهم قائلاً: ان الرسول e ينظر اليكم نظر الرحمة والشفقة من زاوية الرحمة الإلهية ويعاملكم معاملة الاب الحنون من حيث النبوة، ولكنه ليس اباً لكم من حيث الشخصية الانسانية حتى لا يلائم تزوجه من بناتكم ويحرم عليه.

القسم الثالث يفهم الآية هكذا:

ينبغي عليكم ألاّ ترتكبوا السيئات والذنوب اعتماداً على رأفة الرسول الكريم e عليكم وانتسابكم اليه. اذ إن هناك الكثيرين يعتمدون على ساداتهم ومرشديهم فيتكاسلون عن العبادة والعمل، بل يقولون احياناً:

((قد اُديِّتْ صلاتُنا)) (كما هو الحال لدى بعض الشيعة).

النكتة الرابعة:

ان قسماً آخر يفهم اشارة غيبية من الآية وهي:

ان أبناء الرسول e لا يبلغون مبلغ الرجال، وانما يتوفاهم الله - قبل ذلك - فلا يدوم نسله من حيث كونهم رجالاً لحكمة يراها سبحانه وتعالى. إلاّ أن لفظ " رجال " يشير الى أنه سيدوم نسله من النساء دون الرجال.

فللّه الحمد والمنة فان النسل الطيب المبارك من فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) كالحسن والحسين (رضي الله عنهما) وهما البدران المنوران لسلسلتين نورانيتين، يديمان ذلك النسل المبارك (المادي والمعنوي) لشمس النبوة.

اللّهم صلِّ عليه وعلى آله .

((تمت الشعلة الاولى بأشعتها الثلاثة)).









الشعلة الثانية

هذه الشعلة لها ثلاثة انوار

النور الاول

ان القرآن الكريم قد جمع السلاسة الرائقة والسلامة الفائقة والتساند المتين والتناسب الرصين والتعاون القوي بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب الرفيع بين الآيات ومقاصدها، بشهادة علم البيان وعلم المعاني وشهادة الوف من ائمة هذه العلوم كالزمخشري والسكاكي وعبد القاهر الجرجاني، مع ان هناك ما يقارب تسعة اسباب مهمة تخل بذلك التجاوب والتعاون والتساند والسلاسة والسلامة، فلم تؤثر تلك الاسباب في الافساد والاخلال بل مدّت وعضّدت سلاسته وسلامته وتسانده إلاّ ما اجرته بشئ من حكمها في اخراج رؤوسها من وراء ستار النظام والسلاسة، وذلك لتدلّ على معان جليلة من سلاسة نظم القرآن، بمثل ما تخرج البراعم بعض البروزات والندب في جذع الشجرة المنسقة، فهذه البروزات ليست لإخلال تناسق الشجرة وتناسبها وانما لإعطاء ثمرات يتم بها جمال الشجرة وكمال زينتها.

اذ إن ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة نجماً نجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقطعاً، مع أنه يُظهر من التلاؤم الكامل كأنه نزل دفعة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة لاسباب نزول مختلفة متباينة، مع أنه يظهر من التساند التام كأنه نزل لسبب واحد.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء جواباً لأسئلة مكررة متفاوتة، مع انه يظهر من الامتزاج التام والاتحاد الكامل كأنه جواب عن سؤال واحد.

وأيضاً ان ذلك القرآن جاء بياناً لأحكام حوادث متعددة متغايرة، مع أنه يبين من الانتظام الكامل كأنه بيان لحادثة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن نزل متضمناً لتنزلات كلامية إلهية في اساليب تناسب افهامَ مخاطبين لا يحصرون، ومن حالات من التلـقي متخــالــفة متــنوعة، مع أنه يبين من السلاسة اللطيفة والتماثل الجميل، كأن الحالة واحدة والفهم واحد، حتى تجري السلاسة كالماء السلسبيل.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء مكلماً متوجهاً الى اصناف متعددة متباعدة من المخاطبين، مع أنه يظهر من سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطبين صنف واحد بحيث يظن كل صنف انه المخاطب وحده بالاصالة.

وأيضاً ان ذلك القرآن نزل هادياً وموصلاً الى غايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع انه يبين من الاستقامة الكاملة والموازنة الدقيقة والانتظام الجميل كأن المقصد واحد.

فهذه الاسباب مع انها اسباب للتشويش واختلال المعنى والمبنى إلاّ انها استخدمت في اظهار اعجاز بيان القرآن وسلاسته وتناسبه.

نعم! من كان ذا قلبٍ غير سقيم، وعقل مستقيم، ووجدان غير مريض، وذوق سليم، يرى في بيان القرآن سلاسة جميلة وتناسقاً لطيفاً ونغمة لذيذة وفصاحة فريدة. فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب أنه يرى في القرآن عيناً ترى كل الكائنات ظاهراً وباطناً بوضوح تام كأنها صحيفة واحدة، يقلّبها كيف يشاء، فيعرّف معانيها على ما يشاء من اسلوب.

فلو اردنا توضيح حقيقة هذا النور الاول بأمثلة، لاحتجنا الى بضعة مجلدات. لذا نكتفي بالايضاحات التي تخص هذه الحقيقة في كل من ((الرسائل العربية))(1) و ((اشارات الاعجاز)) والكلمات الخمس والعشرين السابقة. بل القرآن الكريم بكامله مثال لهذه الحقيقة. ابيّنه كله دفعة واحدة.



















النور الثاني

يبحث هذا النور عن مزية الاعجاز في الاسلوب البديع للقرآن في الخلاصات (الفذلكات) والاسماء الحسنى التي تنتهي بها الآيات الكريمة:

تنبيه

سترد آيات كثيرة في هذا النور الثاني، وهي ليست خاصة به وحده بل تكون امثلة ايضاً لما ذكر من المسائل والاشعة. ولو اردنا ان نوفي هذه الامثلة حقها من الايضاح لطال بنا البحث، بيد اني اراني مضطراً في الوقت الحاضر الى الاختصار والاجمال، لذا فقد أشرنا اشارة في غاية الاختصار والاجمال الى الآيات التي اوردناها مثالاً لبيان هذا السر العظيم سر الاعجاز مؤجلين تفصيلاتها الى وقت آخر.

فالقرآن الكريم يذكر في اكثر الاحيان قسماً من الخلاصات والفذلكات في خاتمة الآيات. فتلك الخلاصات: إما انها تتضمن الاسماء الحسنى أو معناها، واما انها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكر والتدبر فيها.. أو تتضمن قاعدة كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها.

ففي تلك الفذلكات بعض اشارات من حكمة القرآن العالية، وبعض رشاشات من ماء الحياة للهداية الإلهية، وبعض شرارات من بوراق إعجاز القرآن.

ونحن الآن نذكر اجمالاً ((عشر اشارات)) فقط من تلك الاشارات الكثيرة جداً، كما نشير الى مثال واحد فقط من كثير من امثلتها، والى معنى اجمالي لحقيقة واحدة فقط من بين الحقائق الكثيرة لكل مثال.

هذا وان اكثر هذه الاشارات العشر تجتمع في اكثر الآيات معاً مكونة نقشاً اعجازياً حقيقياً. وان اكثر الآيات التي نأتي بها مثالاً هي امثلة لأكثر الاشارات. فنبين من كل آية اشارة واحدة مشيرين اشارة خفيفة الى معاني تلك الآيات التي ذكرناها في ((كلمات)) سابقة.



C مزية الجزالة الاولى:

ان القرآن الكريم - ببياناته المعجزة - يبسط افعال الصانع الجليل ويفرش آثاره أمام النظر، ثم يستخرج من تلك الافعال والآثار، الاسماء الإلهية، أو يثبت مقصداً من مقاصد القرآن الاساسية كالحشر والتوحيد.

فمن امثلة المعنى الاول:

قوله تعالى ] هو الذي خلقَ لكُم ما في الارض جميعاً ثم استوى الى السماء فسويهنّ سبعَ سمواتٍ وهو بكل شيء عليم[ (البقرة: 29)

ومن امثلة المعنى الثاني:

قوله تعالى] ألم نجعل الارض مهاداً^ والجبال اوتاداً^ وخلقناكم ازواجاً[ الى قوله تعالى ] إن يوم الفصل كان ميقاتاً[ (النبأ)

ففي الآية الاولى: يعرض القرآن الآثار الإلهية العظيمة التي تدل بغاياتها ونظمها على علم الله وقدرته،يذكرها مقدّمة لنتيجة مهمة وقصد جليل ثم يستخرج اسم الله ((العليم)).

وفي الآية الثانية: يذكر افعال الله الكبرى وآثاره العظمى، ويستنتج منها الحشر الذي هو يوم الفصل، كما وُضح في النقطة الثالثة من الشعاع الاول من الشعلة الاولى.

C النكتة البلاغية الثانية:

ان القرآن الكريم ينشر منسوجات الصنعة الإلهية ويعرضها على انظار البشر ثم يلفّها ويطويها في الخلاصة ضمن الأسماء الإلهية، أو يحيلها الى العقل.

فمن أمثلة الاول:

] قل من يرزقكم من السماء والارض، أمّن يملك السمعَ والابصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومَن يدّبر الأمر فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون ^ فذلكم الله ربكم الحق[ (يونس: 31- 32)

فيقول اولاً: (( مَن الذي هيأ السماء والارض وجعلهما مخازن ومستودعاتٍ لرزقكم، فأنزل من هناك المطر ويخرج من هنا الحبوب ؟ ومَن غيرُ الله يستطيع ان

يجعل السماء والارض العظيمتين في حكم خازنين مطيعين لحكمه؟ فالشكر والحمد اذاً له وحده)).

ويقول في الفقرة الثانية: ((أمّن هو مالك اسماعكم وابصاركم التي هي اثمن ما في اعضائكم؟ من أي مصنع أو محل ابتعتموها؟ فالذي منحكم هذه الحواس اللطيفة من عين وسمع انما هو ربّكم! وهو الذي خلقكم ورباكم، ومنحها لكم،فالرب اذاً انما هو وحده المستحق للعبادة ولا يستحقها غيره)).

ويقول في الفقرة الثالثة: ((أمّن يحيى مئات الالاف من الطوائف الميتة كما يحيى الارض؟ فمن غير الحق سبحانه وخالقُ الكون يقدر ان يفعل هذا الأمر؟ فلا ريب انه هو الذي يفعل وهو الذي يحيى الارض الميتة. فما دام هو الحق فلن تضيع عنده الحقوق، وسيبعثكم الى محكمة كبرى وسيحييكم كما يحيى الارض)).

ويقول في الفقرة الرابعة: ((مَن غير الله يستطيع ان يدبّر شؤون هذا الكون العظيم ويدير أمره ادارةً منسقة منظمة بسهولة إدارة قصر أو مدينة؟ فما دام ليس هناك غير الله، فلا نقص اذاً في القدرة القادرة على ادارة هذا الكون العظيم – بكل أجرامهِ بيسر وسهولة – ولا حاجة لها الى شريك ولا الى معين فهي مطلقة لا يحدها حدود. ولايدع مَن يدبّر امور الكون العظيم ادارة مخلوقات صغيرة الى غيره. فانتم اذاً مضطرون لأن تقولوا: الله.)).

فترى ان الفقرة الاولى والرابعة تقول: الله، وتقول الثانية: رب. وتقول الثالثة: الحق. فافهم مدى الاعجاز في موقع جملة ] فذلكم الله ربكم الحق[ .

وهكذا يذكر القرآن عظيم تصرفات الله سبحانه وعظيم منسوجاته ثم يذكر اليد المدبرة لتلك الآثار الجليلة والمنسوجات العظيمة: ] فذلكم الله ربكم الحق[ ، أي: أنه يُري منبع تلك التصرفات العظيمة ومصدرها بذكر الاسماء الإلهية: الله، الرب، الحق.

ومن امثلة الثاني:

] ان في خلق السموات والارض واختلاف الّيل والنهار والفُلك التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس وما انزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الارضَ بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون[ (البقرة: 164)



يذكر القرآن في هذه الآيات ما في خلق السموات والارض من تجلي سلطنة الالوهية الذي يُظهر تجلي كمال قدرته سبحانه وعظمة ربوبيته، ويَشهد على وحدانيته.. ويذكر تجلي الربوبية في اختلاف الليل والنهار، وتجلي الرحمة بتسخير السفينة وجريانها في البحر التي هي من الوسائل العظمى للحياة الاجتماعية، وتجلي عظمة القدرة في انزال الماء الباعث على الحياة من السماء الى الارض الميتة واحيائها مع طوائفها التي تزيد على مئات الآلاف، وجعلها في صورة معرض للعجائب والغرائب.. كما يذكر تجلي الرحمة والقدرة في خلق ما لا يحد من الحيوانات المختلفة من تراب بسيط.. كما يذكر تجلي الرحمة والحكمة من توظيف الرياح بوظائف جليلة كتلقيح النباتات وتنفسها، وجعلها صالحة في ترديد انفاس الأحياء بتحريكها وادارتها.. كما يذكر تجلي الربوبية في تسخير السحب وجمعها وتفريقها وهي معلقة بين السماء والارض كأنها جنود منصاعون للاوامر يتفرقون للراحة ثم يجّمعون لتلقي الاوامر في عرض عظيم.

وهكذا بعد سرد منسوجات الصنعة الإلهية يسوق العقل الى اكتناه حقائقها تفصيلاً فيقول: ] لاياتٍ لقوم يعقلون[ آخذاً بزمام العقل الى التدبر موقظاً اياه الى التفكر.

C مزيّة الجزالة الثالثة:

ان القرآن الكريم قد يذكر افعال الله سبحانه بالتفصيل ثم بعد ذلك يوجزها ويجملها بخلاصة، فهو بتفصيلها يورث القناعة والاطمئنان وبايجازها واجمالها يسهّل حفظها وتقييدها. فمثلاً:

] وكذلك يَجتَبيك ربُّك ويعلّمك من تأويل الاحاديث ويُتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على أبَويك من قبلُ ابراهيم واسحق ان ربك عليمٌ حكيمٌ[ (يوسف:6)

يشير بهذه الآية الى النعم التي انعمها الله على سيدنا يوسف وعلى آبائه من قبل، فيقول: ان الله تعالى هو الذي اصطفاكم من بنى آدم لمقام النبوة وجعل سلسلة جميع الانبياء مرتبطة بسلسلتكم وسوّدها على سائر سلاسل بني البشر، كما جعل اسرتكم موضع تعليم وهداية، تلقّن العلوم الإلهية والحكمة الربانية، فجمع فيكم سلطنة الدنيا الســـعــيــدة وســعادة الآخـــرة الخــالـدة، وجعــلك بالعلــم والحــكمة عــزيــزاً لمصر ونبياً عظيماً ومرشداً حكيماً.. فبعد أن يذكر تلك النعم ويعدّدها وكيف ان الله قد جعله هو واباءه ممتازين بالعلم والحكمة، يقول: ] ان ربك عليم حكيم[ أي اقتضت ربوبيته وحكمته ان يجعلك واباءك تحظون بنور اسم ((العليم الحكيم)).

وهكذا أجمل تلك النعم المفصّلة بهذه الخلاصة.

ومثلاً: قوله تعالى ] قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) الى قوله تعالى (وترزق من تشاء بغير حساب[ (آل عمران:27)

تعرض هذه الآية أفعال الله سبحانه في المجتمع الانساني وتفيد:

بأن العزة والذلة والفقر والغنى مربوطة مباشرة بمشيئة الله وارادته تعالى. أي: ((ان التصرف في اكثر طبقات الكثرة تشتتاً انما هو بمشيئة الله وتقديره فلا دخل للمصادفة قط)).

فبعد ان اعطت الآية هذا الحكم، تقول: ان اعظم شئ في الحياة الانسانية هو رزقه، فتثبت ببضع مقدمات ان الرزق انما يرسل مباشرة من خزينة الرزاق الحقيقي؛ إذ إن رزقكم منوط بحياة الارض، وحياة الارض منوطة بالربيع، والربيع انما هو بيد من يسخر الشمس والقمر ويكور الليل والنهار. اذاً فان منح تفاحة لإنسان رزقاً حقيقياً، انما هو من فعل من يملأ الارض بانواع الثمرات، وهو الرزاق الحقيقي.

وبعد ذلك يجمل القرآن ويثبت تلك الافعال المفصّلة بهذه الخلاصة: ] وترزق من تشاء بغير حساب[ .

C النكتة البلاغية الرابعة:

ان القرآن قد يذكر المخلوقات الإلهية مرتبة بترتيب معين ثم يبين به ان في المخلوقات نظاماً وميزاناً، يُريان ثمرة المخلوقات وكأنه يضفي نوعاً من الشفافية والسطوع على المخلوقات التي تظهر منها الاسماء الإلهية المتجلية فيها، فكأن تلك المخلوقات المذكورة ألفاظ، وهذه الاسماء معانيها، أو انها ثمرات وهذه الاسماء نواها أو لبابها.

فمثلاً: ] ولقد خلقنا الانسان من سلالةٍ من طين ^ ثم جعلناهُ نطفةً في قرارٍ مكين^ ثم خلقنا النطفةَ عَلَقةً فخلقنا العلقة مُـضغةً فخلقنا الـمُـضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتبارك الله احسن الخالقين[ (المؤمنون:12ـ14) يذكر القرآن خلق الانسان واطواره العجيبة الغريبة البديعة المنتظمة الموزونة ذكراً مرتباً يبيّن كالمرآة ] فتبارك الله احسنُ الخالقين[ ، حتى كأن كل طـور يبـين نفسه ويـوحي بنفسه هـذه الآيـة، بل حـتـى قـالـها قبل مجيئها احـد كتّاب الوحي حينما كان يـكـتب هـذه الآية، فذهب به الظن الى أن يقول: أأوحي اليّ ايضاً؟ والحال أن كمال نظام الكلام الأول وشفافيته الرائقة وانسجامه التام يظهر نفسه قبل مجئ هذه الكلمة.

وكذا قوله تعالى:

] ان ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايامٍ ثم استوى على العرش يُغشي الّيل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والامرُ تبارك الله ربُ العالمين[ (الاعراف: 54)

يبين القرآن في هذه الآية عظمة القدرة الإلهية وسلطنة الربوبية بوجه يدلّ على قدير ذي جلال استوى على عرش ربوبيته ويسطّر آيات ربوبيته على صحائف الكون ويحوّل الليل والنهار كأنهما شريطان يعقب احدهما الاخر. والشمس والقمر والنجوم متهيئة لتلقي الاوامر كجنود مطيعين. لذا فكل روح ما ان تسمع هذه الآية إلاّ وتقول: تبارك الله رب العالمين.. بارك الله.. ماشاء الله. أي أن جملة ] تبارك الله رب العالمين[ تجري مجرى الخلاصة لما سبق من الجمل وهي بحكم نواتها وثمرتها وماء حياتها.

C مزية الجزالة الخامسة:

ان القرآن قد يذكر الجزئيات المادية المعرّضة للتغير والتي تكون مناط مختلف الكيفيات والاحوال، ثم لأجل تحويلها الى حقائق ثابتة يقيدها ويُجْمِلها بالاسماء الإلهية التي هي نورانية وكلية وثابتة. أو يأتي بخلاصة تسوق العقل الى التفكر والاعتبار.

ومن امثلة المعنى الاول:

] وعلّم ادمَ الاسماءَ كلّها ثم عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين^ قالوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[ (البقرة:31 - 32)

هذه الآية تذكر اولاً حادثة جزئية هي: ان سبب تفضيل آدم في الخلافة على الملائكة هو ((العلم)) ومن بعد ذلك تذكر حادثة مغلوبية الملائكة امام سيدنا آدم في قضية العلم، ثم تعقب ذلك باجمال هاتين الحادثتين بذكر اسمين كليين من الاسماء الحسنى انت العليم الحكيم بمعنى ان الملائكة يقولون: انت العليم يارب فعلّمتَ آدم فغلبنا وانت الحكيم فتمنحنا كل ما هو ملائم لإستعدادنا، وتفضّله علينا باستعداداته.

ومن امثلة المعنى الثاني:

] وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكُم مما في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لَبَنًا خالصاً سائغاً للشاربين^ ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سَكرَاً ورزقاً حسناً ان في ذلك لاية لقومٍ يعقلون^ واوحى ربُّك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يَعرشُون^ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سُبُلَ ربّكِ ذُلُلاً يخرج من بطونها شراب مختلفٌ الوانهُ فيه شفاءٌ للناس ان في ذلك لاية لقومٍ يتفكرون[ (النحل:66ــ69)

تعرض هذه الآيات الكريمة ان الله تعالى جعل الشاة، والمعزى، والبقر، والابل وامثالها من المخلوقات ينابيع خالصة زكية لذيذة تدفق الحليب، وجعل سبحانه العنب والتمر وأمثالهما أطباقاً من النعمة وجفاناً لطيفة لذيذة.. كما جعل من امثال النحل - التي هي معجزة من معجزات القدرة - العسل الذي فيه شفاء للناس الى جانب لذته وحلاوته.. وفي خاتمة المطاف تحث الآيات على التفكر والاعتبار وقياس غيرها عليها بــ ] ان في ذلك لايةً لقوم يتفكرون[ .

C النكتة البلاغية السادسة:

ان القرآن الكريم قد يَنشر احكام الربوبية على الكثرة الواسعة المنتشرة ثم يضع عليها مظاهر الوحدة ويجمعها في نقطة توحدّها كجهة وحدة بينها، أو يمكّنها في قاعدة كلية. فمثلاً: قوله تعالى ] وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم[ (البقرة: 255) فهذه الآية (أي آيةُ الكرسي) تأتي بعشر جمل تمثل عشر طبقات من التوحيد في اشكال مختلفة، وتثبتها. وبعد ذلك تقطع قطعاً كلياً بقوة صـارمة عـرق الـشـرك ومداخـلة غيـر اللّـه بـ ] مَن ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه[ .

فهذه الآية لأنها قد تجلّى فيها الاسم الاعظم فان معانيها من حيث الحقائق الإلهية هي في الدرجة العظمى والمقام الاسمى، اذ تبين تصرفات الربوبية في الدرجة العظمى، وبعد ذكر تدبير الالوهية الموّجه للسموات والارض كافة توجهاً في اعلى مقام واعظم درجة تذكر الحفيظية الشاملة المطلقة بكل معانيها ثم تلخص منابع تلك التجليات العظمى في رابطة وحدة اتحادٍ، وجهة وحدة بقوله تعالى: ] وهو العلي العظيم[ .

ومثلاً:

] الله الذي خلق السموات والارض وانزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار^ وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الّيل والنهار ^ وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها[ (ابراهيم:32ـ34)

تبين هذه الآيات: كيف أن الله تعالى قد خلق هذا الكون للانسان في حكم قصر، وارسل ماء الحياة من السماء الى الارض، فجعل السماء والارض مسخرتين كأنهما خادمان عاملان على ايصال الرزق الى الناس كافة، كما سخر له السفينة ليمنح الفرصة لكل أحد، ليستفيد من ثمار الارض كافة، ليضمن له العيش فيتبادل الافراد فيما بينهم ثمار سعيهم واعمالهم. أي جعل لكل من البحر والشجر والريح أوضاعاً خاصة بحيث تكون الريح كالسوط والسفينة كالفرس والبحر كالصحراء الواسعة تحتها. كما انه سبحانه جعل الانسان يرتبط مع كل ما في انحاء المعمورة بالسفينة وبوسائط نقل فطرية في الانهار والروافد وسيّر له الشمس والقمر وجعلهما ملاحين مأمورين لإدارة دولاب الكائنات الكبير واحضار الفصول المختلفة واعداد ما فيها من نعم إلهية. كما سخر الليل والنهار جاعلاً الليل لباساً وغطاءً ليخلد الانسان الى الراحة والنهار معاشاً ليتجر فيه.

وبعد تعداد هذه النعم الإلهية تأتي الآية بخلاصة ] وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها[ لبيان مدى سعة دائرة انعام الله تعالى على الانسان وكيف انها مملوءة بانواع النعم أي: ان كل ما سأله الانسان بحاجته الفطرية وبلسان استعداده قد منحه الله تعالى اياه. فتلك النعم لا تدخل في الحصر ولا تنفد ولا تنقضي بالتعداد.

نعم، ان كانت السموات والارض مائدة من موائد نعمه العظيمة وكانت الشمس والقمر والليل والنهار بعضاً من تلك النعم التي احتوتها تلك المائدة، فلا شك أن النعم المتوجهة الى الانسان لا تعد ولاتحصى.

C سر البلاغة السابعة:

قد تبين الآية غايات المسَبَّب وثمراته لتعزل السبب الظاهري وتسلب منه قدرة الخلق والايجاد. وليُعلَم ان السبب ما هو الاّ ستار ظاهري؛ ذلك لأن ارادة الغايات الحكيمة والثمرات الجليلة يلزم ان يكون من شأن من هو عليم مطلق العلم وحكيم مطلق الحكمة، بينما سببها جامدٌ من غير شعور. فالآية تفيد بذكر الثمرات والغايات: ان الاسباب وإن بدتْ في الظاهر والوجود متصلة مع المسببَّات إلاّ ان بينهما في الحقيقة وواقع الأمر بوناً شاسعاً جداً.

نعم! ان المسافة بين السبب وايجاد المسبَّب مسافة شاسعة بحيث لا طاقة لأعظم الاسباب ان تنال ايجاد أدنى مسبَّب، ففي هذا البعد بين السبب والمسبَّب تشرق الاسماء الإلهية كالنجوم الساطعة. فمطالع تلك الاسماء هي في تلك المسافة المعنوية، اذ كما يُشاهد اتصال أذيال السماء بالجبال المحيطة بالافق وتبدو مقرونة بها، بينما هناك مسافة عظيمة جداً بين دائرة الافق والسماء، كذلك فان ما بين الاسباب والمسببات مسافة معنوية عظيمة جداً لا تُرى الاّ بمنظار الايمان ونور القرآن. فمثلاً:

] فلينظر الانسانُ الى طعامهِ^ أنّا صَببنا الماء صبّاً^ ثم شققنا الارض شقّاً^ فانبتنا فيها حبّاً^ وعنباً وقـضباً^ وزيتوناً ونخلاً^ وحدائقَ غُلباً^ وفاكهة وأبّاً^ متاعاً لكم ولأنعامكم[ (عبس:24 – 32).

هذه الآيات الكريمة تذكر معجزات القدرة الإلهية ذكراً مرتباً حكيماً تربط الاسباب بالمسببات، ثم في خاتمة المطاف تبيّن الغاية بلفظ (متاعاً لكم ولأنعامكم) فتثبت في تلك الغاية أن متصرفاً مستتراً وراء جميع تلك الاسباب والمسببات المتسلسلة يرى تلك الغايات ويراعيها. وتؤكد أن تلك الاسباب ما هي إلاّ حجاب دونه.

نعم ان عبارة ] متاعاً لكم ولأنعامكم[ تسلب جميع الاسباب من القدرة على الايجاد والخلق. اذ تقول معنىً:

ان الماء الذي ينزل من السماء لتهيئة الارزاق لكم ولأنعامكم لا ينزل بنفسه، لأنه ليس له قابلية الرحمة والحنان عليكم وعلى انعامكم كي يرأف بحالكم؛ فاذاً يُرسل إرسالاً.

وان التراب الذي لاشعُور له، لأنه بعيد كل البعد من أن يرأف بحالكم فيهئ لكم الرزق، فلا ينشق اذاً بنفسه، بل هناك مَن يشقّه ويفتح ابوابه، ويناولكم النِعَم منه.

وكذا الاشجار والنباتات، فهي بعيدة كل البعد عن تهيئة الثمرات والحبوب رأفة بكم وتفكراً برزقكم، فما هي إلاّ حبالٌ وشرائط ممتدة من وراء ستار الغيب يمدها حكيم رحيم علّق تلك النعم بها وارسلها الى ذوي الحياة.

وهكذا فمن هذه البيانات تظهر مطالع اسماء حسنى كثيرة كالرحيم والرزاق والمنعم والكريم.

ومثلاً:

] ألم ترَ أن الله يُزجى سحاباً ثم يؤلّف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودْقَ يخرج من خلاله ويُنزّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار^ يقلبُ الله الّيل والنهار ان في ذلك لعبرةً لاولي الابصار^ والله خلَق كلَّ دابة من ماءٍ فمنهم مَن يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم مَن يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء ان الله على كل شيء قدير[ (النور:43 ــ45).

فهذه الآية الكريمة حينما تبين التصرفات العجيبة في انزال المطر وتشكل السحاب التي تمثل ستار خزينة الرحمة الإلهية واهم معجزة من معجزات الربوبية، تبينها كأن اجزاء السحاب كانت منتشرة ومختفية في جو الســــماء - كالجـنــود المنـتـشـريـن لـلراحــة - فــتــجـتـمع بـــأمــر الله وتـتألف تلك الاجـــزاء الصغيــرة مشكلة السحاب كما تجتمع الجنود بصوت بوق عسكري، فيرسل الماء الباعث على الحياة الى ذوي الحياة كافة، من تلك القطع من السحاب التي هي في جسامة الجبال السيارة في القيامة وعلى صورتها. وهي في بياض الثلج والبَرَد وفي رطوبتها.. فيُشاهد في ذلك الارسال ارادة وقصداً لأنه يأتي حسب الحاجة، أي ترسل المطر ارسالاً، ولا يمكن ان تجتمع تلك الاجزاء الضخمة من السحاب وكأنها جبال بنفسها في الوقت الذي نرى الجو براقاً صحواً لا شئ يعكّره، بل يرسلها مَن يعرف ذوي الحياة ويعلم بحالهم.

ففي هذه المسافة المعنوية تظهر مطالع الاسماء الحسنى كالقدير والعليم والمتصرف والمدبّر والمربي والمغيث والمحيي.

C مزية الجزالة الثامنة:

ان القرآن الكريم قد يذكر من افعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يعدّ الاذهان للتصديق ويحضر القلوب للايمان بافعاله المعجزة في الآخرة. أو أنه يصوّر الافعال الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل يجعلنا نقنع ونطمئن اليه بما نشاهده من نظائرها العديدة. فمثلاً:

] أوَ لم يَرَ الانسانُ أنّا خَلقناه مِن نطفةٍ فاذا هو خصيمٌ مبينٌ..[ الى آخر سورة (يس).. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة.

انه يقدّم النشأة الاولى اولاً، ويعرضها للانظار قائلاً: انكم ترون نشأتكم من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة ومن المضغة الى خلق الانسان، فكيف تنكرون اذن النشأة الاخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟ ثم يشير بـ ] الذي جعل لكم من الشجَر الأخضر ناراً[ الى تلك الآلاء وذلك الاحسان والانعام الذي انعمه الحق سبحانه على الانسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدىً ولا عبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام. ثم انه يقول رمزاً: انكم ترون احياء واخضرار الاشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟ ثم هل يمكن ان يعجز مَن خلق السماوات والارض عن إحياء الانسان واماتـتــه وهو ثــمــرة الســـموات والأرض؟ وهل يمــكن من يــديــر أمر الشجرة ويرعاها ان يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث ((شجرة الخلقة)) التي عجنت جميع اجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟ وهكذا فان الذي سيحييكم في الحشر مَن بيده مقاليد السموات والارض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر ((كن فيكون)) تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسيـر وهـيّـن كخلق زهـرة واحـدة، وايجاد جميع الحيـوانات سهل على قدرته كايجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ] من يحيي العظام[ ؟

ثم انه بعبارة ] فسبحان الذي بيده ملكوتُ كل شيء [ يبين انه سبحانه بيده مقاليد كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنزلين يغلق هذا ويفتح ذاك. فما دام الأمر هكذا فان نتيجة جميع الدلائل هي: ] واليه تُرجعون[ أي انه يحييكم من القبر، ويسوقكم الى الحشر، ويوفي حسابكم عند ديوانه المقدس.

وهكذا ترى ان هذه الآيات قد هيأت الاذهان، واحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت من نظائرها بافعال في الدنيا.

هذا وقد يذكر القرآن ايضاً افعالاً اخروية بشكل يحسس ويشير الى نظائرها الدنيوية،ليمنع الانكار والاستبعاد. فمثلاً:

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا الشمسُ كُوِّرتْ ^ واذا النجومُ انكدَرتْ ^ واذا الجبالُ سُيرتْ^ واذا العشارُ عطلتْ^ واذا الوحوشُ حُـشِرتْ^ واذا البحار سُجّرتْ^ واذا النفوسُ زُوّجتُْ^ واذا الموؤدة سُئلتْ^ بأيّ ذنبٍ قُتلَتْ^ واذا الصُحُفُ نُشرت^ واذا السماء كُشطتْ^ واذا الجحيمُ سُعّرتْ^ واذا الجنةُ ازلفتْ^ علمتْ نفسٌ ما احــضرتْ...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انفطرتْ^ واذا الكواكبُ انتثرتْ^ واذا البحار فُجرتْ^ واذا القبورُ بُعثرتْ^ علمتْ نفسٌ ما قدّمتْ واخّرت...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انشقّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ ^ واذا الارضُ مُدّت^ والقتْ ما فيها وتخلّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ...[ الى آخر السورة.

فترى ان هذه السوَر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة باسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقل دونها ويبقى في حيرة. ولكن الانسان ما أن يرى نظائرها في الخريف والربيع إلاّ ويقبلها بكل سهولة ويسر. ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجاً، فمثلاً:

] واذا الصحف نشرت[ تفيد هذه الآية: ((ستنشر في الحشر جميع اعمال الفرد مكتوبة على صحيفة)). وحيث ان هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقل اليها سبيلاً، إلاّ أن السورة كما تشير الى الحشر الربيعي وكما ان للنقاط الاخرى نظائرها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جلي فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال، وله وظائف. وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تظهر به الاسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الاعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر. أي انه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فانه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الاغصان وتفتح الاوراق والاثمار.

نعم إن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ] واذا الصحف نشرت[ .

وهكذا قس النقاط الاخرى على هذا المنوال. وان كانت لديك قوة استنباط فاستنبط. ولاجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ] اذا الشمس كوّرت[ ايضاً. فان لفظ (كوّرت) الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّت وجمعت، فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ الى نظيره ومثيله في الدنيا:

اولا: ان الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والاثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضئ الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته واظهرها الى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابها.

ثانياً: ان الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الاسحار ولفّها في الاماسي وهكذا يتناوب الليل والنهار هامة الارض، وهي تجمع متاعها مقللة من تعاملها، أو يكون القمر - الى حدٍ ما - نقاباً لاخذها وعطائها ذلك، أي كما ان هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر اعمالها بهذه الاسباب فلابد من أن يأتي يوم تعفى من مهامها، وتفصل من وظيفتها، حتى ان لم يكن هناك سبب للاعفاء والعزل. ولعلّ توسع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويداً رويداً. تسترجع الشمس - بهذا التوسع - وبأمر رباني ما لفّته ونشرته على رأس الارض باذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: الى هنا انتهت مهمتك مع الارض، فهيّا الى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين إياها بالخيانة وعدم الوفاء. بهذا تقرأ الشمسُ الأمر الرباني ] اذا الشمس كوّرت[ على وجهها المبقع.

C نكتة البلاغة التاسعة:

ان القرآن الكريم قد يذكر بعضاً من المقاصد الجزئية،ثم لأجل أن يحوّل تلك الجزئيات الى قاعدة كلية ويجيلَ الاذهان فيها يثبّت ذلك المقصد الجزئي ويقرره ويؤكده بالاسماء الحسنى التي هي قاعدة كلية.

فمثلاً:

] قد سمعَ الله قولَ التي تُجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمعُ تحاوركما ان الله سميعٌ بصير[ (المجادلة: 1)

يقول القرآن: ان الله سميع مطلق السمع يسمع كل شئ، حتى إنه ليسمع باسمه ((الحق)) حادثة جزئية، حادثة لمرأة - المرأة التي حظيت بألطف تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية وهي التي تمثل اعظم كنز لحقيقة الرأفة والحنان - هذه الدعوى المقدمة من امرأة وهي محقة في دعواها على زوجها وشكواها الى الله منه يسمعها باهتمام بالغ كأي أمرعظيم باسم ((الرحيم)) وينظر اليها بكل جد ويراها باسم ((الحق)).

فلأجل جعل هذا المقصد الجزئي كلياً تفيد الآية بأن الذي يسمع ادنى حادثة من المخلوقات ويراها، يلزم ان يكون ذلك الذي يسمع كل شئ ويراه، وهو المنزّه عن الممكنات. والذي يكون رباً للكون لابد أن يرى ما في الكون اجمع من مظالم ويسمع شكوى المظلومين، فالذي لا يرى مصائبهم ولا يسمع استغاثاتهم لايمكن ان يكون رباً لهم.

لذا فان جملة ] ان الله سميع بصير[ تبين حقيقتين عظيمتين. كما جعلت المقصد الجزئي أمراً كلياً.

ومثل ثان:

] سبحانَ الذي اسرى بعبدهِ ليلاً من المسجدِ الحرام الى المسجد الاقصا الذي باركنا حوله لنُريهُ من آياتنا انه هو السميعُ البصير[ (الاسراء:1).

ان القرآن الكريم يختم هذه الآية بـ ] انه هو السميع البصير[ وذلك بعد ذكره إسراء الرسول الحبيب e من مبدأ المعراج - أي من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى - ومنتهاه الذي تشير إليه سورة النجم.

فالضمير في ((إنّه)) إما أن يرجع الى الله تعالى، أو الى الرسول الكريم e فاذا كان راجعاً الى الرسول e ، فان قوانين البلاغة ومناسبة سياق الكلام تفيدان: أنّ هذه السياحة الجزئية، فيها من السير العمومي والعروج الكلي ما قد سَمِع وشاهَدَ كلَّ ما لاقى بَصَره وسمعَه من الآيات الربانية، وبدائع الصنعة الإلهية اثناء ارتقائه في المراتب الكلية للاسماء الإلهية الحسنى البالغة الى سدرة المنتهى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى. مما يدل على أن هذه السياحة الجزئية هي في حُكم مفتاحٍ لسياحةٍ كليةٍ جامعة لعجائب الصنعة الإلهية(1).

واذا كان الضمير راجعاً الى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى يكون عندئذٍ هكذا:

إنه سبحانه وتعالى دعا عبدَه الى حضوره والمثول بين يديه لينيط به مهمةً ويكلّفه بوظيفة؛ فاسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي هو مجمع الانبياء. وبعد اجراء اللقاء معهم واظهاره بأنه الوارث المطلق لأصول أديان جميع الأنبياء، سَيَّره في جولةٍ ضمن مُلكه وسياحةٍ ضمن ملكوته، حتى أبلغه سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.

وهكذا فان تلك السياحة أو السير، وإن كانت معراجاً جزئياً وأن الذي عُرج به عبدٌ، إلاّ ان هذا العبد يحمل امانة عظيمة تتعلق بجميع الكائنات، ومعه نور مبين ينير الكائنات ويبدل من ملامحها ويصبغها بصبغته. فضلاً عن أن لديه مفتاحاً يستطيع ان يفتح به باب السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

فلأجل كل هذا يصف الله سبحانه وتعالى نفسَه بــ ] إنه هو السميعُ البصير[ كي يُظهِر ان في تلك الأمانة وفي ذلك النور وفي ذلك المفتاح، من الحِكم السامية ما يشمل عموم الكائنات، ويعم جميع المخلوقات، ويحيط بالكون اجمع.

ومثل آخر:

] الحمد للّه فاطرِ السموات والارض جاعلِ الملئكةِ رسلاً اولي اجنحةٍ مثنى وثلثَ ورباعَ يزيدُ في الخلقِ ما يشاءُ ان الله على كل شئٍ قدير[ (فاطر:1).

ففي هذه السورة يقول تعالى: ان فاطر السموات والارض ذا الجلال قد زيّن السموات والارض وبيّن آثار كماله على ما لا يعد من المشاهدين وجعلهم يرفعون اليه ما لا نهاية له من الحمد والثناء. وانه تعالى زيّن الارض والسماء بما لا يحد من النعم والآلاء فتحمد السموات والارض بلسان نعمها وبلسان المنعمين عليهم جميعاً وتثنى على فاطرها (الرحمن). وبعد ذلك يقول: ان الله سبحانه الذي منح الانسان والحيوانات والطيور من سكان الارض اجهزة واجنحة يتمكنون بها من الطيران والسياحة بين مدن الارض وممالكها، والذي منح سكان النجوم وقصور السموات - وهم الملائكة - كي تسيح وتطير بين ممالكها العلوية وابراجها السماوية لابد ان يكون قادراً على كل شئ. فالذي اعطى الذبابة الجناح لتطير من ثمرة الى اخرى، والعصفور ليطير من شجرة الى اخرى، هو الذي جعل الملائكة اولي اجنحة لتطير من الزُهَرة الى المشتري ومن المشتري الى زُحَل.

ثم ان عبارة ] مثنى وثلث ورباع[ تشير الى أن الملائكة ليسوا منحصرين بجزئية ولا يقيدهم مكان معين، كما هو الحال في سكان الارض بل يمكن ان يكونوا في آن واحد في اربع نجوم أو اكثر.

فهذه الحادثة الجزئية، أي تجهيز الملائكة بالاجنحة تشير الى عظمة القدرة الإلهية المطلقة العامة وتؤكدها بخلاصة ] ان الله على كل شيء قدير[

C نكتة البلاغة العاشرة:

قد تذكر الآية ما اقترفه الانسان من سيئات، فتزجره زجراً عنيفاً، ثم تختمها ببعض من الاسماء الحسنى التي تشير الى الرحمة الإلهية لئلا يلقيه الزجر العنيف في اليأس والقنوط.

فمثلاً:

] قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً^ سبحانه وتعالى عمّا يقولون علواً كبيراً ^ تسبح له السموات السبع والارض ومَن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليماً غفوراً[ (الاسراء:42 - 44)

تقول هذه الآية: ((قل لهم لو كان في ملك الله شريك كما تقولون لامتدّت ايديهم الى عرش ربوبيته ولظهرت علائم المداخلة باختلال النظام، ولكن جميع المخلوقات من السموات السبع الطباق الى الأحياء المجهرية، جزئيها وكليّها، صغيرها وكبيرها، تسبّح بلسان ما يظهر عليها من تجليات الاسماء الحسنى ونقوشها، وتقدس مسمّى تلك الاسماء ذا الجلال والاكرام، وتنزّهه عن الشريك والنظير)).

نعم، ان السماء تقدسه وتشهد على وحدته بكلماتهاالنيرة من شموس، ونجوم، وبحكمتها وانتظامها.. وان جو الهواء يسبّحه ويقدسه ويشهد على وحدانيته بصوت السحاب وكلمات الرعد والبرق والقطرات.. والارض تسبح خالقها الجليل وتوحدهّ بكلماتها الحية من حيوانات ونباتات وموجودات.. وكذا تسبحه وتشهد على وحدانيته كل شجرة من اشجارها بكلمات اوراقها وازاهيرها وثمراتها.. وكل مخلوق صغير ومـصــنوع جــزئــي مــع صــغره وجزئيــته يســبح باشــارات ما يحـمــله مــن نقوش وكيفيات وما يظهره من أسماء حسنى كثيرة وتقدس مسمى تلك الاسماء ذا الجلال وتشهد على وحدانيته تعالى. وهكذا فالكون برمته معاً وبلسان واحد، يسبح خالقه الجليل متفقاً ويشهد على وحدانيته، مؤدياً بكمال الطاعة ما انيط به من وظائف العبودية. الاّ الانسان الذي هو خلاصــة الكـون ونتيجته وخليفته المكرم وثمرته الــيانــعة، يقــوم بخلاف جميع ما في الكون وبضده، فيكفر بالله ويشرك به. فكــم هــو قبــيــح صنــيعه هـذا؟ وكــم ياترى يــســتـحق عقـاباً عـلى مـا قــدمت يــداه؟ ولكن لئلا يقع الانسان في هاوية اليأس والقنوط تبين له الآية حكمةَ عدم هدم القهار الجليل الكونَ على رأسه بما يجترحه من سيئات شنيعة كهذه الجناية العظمى، وتقول ] انه كان حليماً غفوراً[ مبينة حكمة الامهال وفتح باب الأمل بهذه الخاتمة.

فافهم من هذه الاشارات العشر الاعجازية، ان في الخلاصات والفذلكات التي في ختام الآيات لمعات اعجازية كثيرة فضلاً عما تترشح منها من رشحات الهداية الغزيرة، حتى بلغ بدهاة البلغاء أنهم لم يتمالكوا انفسهم من الحيرة والاعجاب امام هذه الاساليب البديعة فقالوا: ما هذا كلام البشر، وآمنوا بحق اليقين بقوله تعالى:

] ان هو الاّ وحي يوحى[ .

هذا وان بعض الآيات - الى جانب جميع الاشارات المذكورة - تتضمن مزايا اخرى عديدة لم نتطرق اليها في بحثنا، فيُشاهد من اجماع تلك المزايا نقش اعجازي بديع يراه حتى العميان.

النور الثالث

وهو أن القرآن الكريم لا يمكن ان يقاس بأي كلام آخر، اذ إن منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة:

الأول: المتكلم. الثاني: المخاطب. الثالث: المقصد. الرابع: المقام. وليس المقام وحده كما ضل فيه الادباء. فلابد من ان تنظر في الكلام الى: مَن قال؟ ولمن قال؟ ولِمَ قال؟ وفيمَ قال؟ فلا تقف عند الكلام وحده وتنظر اليه.

ولما كان الكلام يستمد قوته وجماله من هذه المنابع الاربعة فبانعام النظر في منابع القرآن تُدرك درجة بلاغته وحسنها وسموها وعلوها.

نعم ان الكلام يستمد القوة من المتكلم، فاذا كان الكلام أمراً ونهياً يتضمن ارادة المتكلم وقدرته حسب درجته وعند ذاك يكون الكلام مؤثراً نافذاً يسري سريان الكهرباء من دون اعاقة أو مقاومة. وتتضاعف قوة الكلام وعلوه حسب تلك النسبة.

فمثلاً: ] ياارضُ ابلعي ماءكِ وياسماءُ أقلعي[ (هود:44) و] فقال لها وللارض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين[ (فصلت:11)

فانظر الى قوة وعلو هذه الاوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والارادة. ثم انظر الى كلام انسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم: اسكني يا ارض وانشقي ياسماء وقومي ايتُها القيامة!

فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين؟ ثم اين الاوامر الناشئة من فضول الانسان والنابعة من رغباته والمتولدة من أمانيه.. واين الاوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله.

نعم! اين امر أمير عظيم مطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ : تقدّم، واين هذا الأمر اذا صدر من جندي بسيط لا يُبالى به؟ فهذان الأمران وان كانا صورة واحدة إلاّ أن بينهما معنىً بوناً شاسعاً،كما بين القائد العام والجندي.

ومثلاً: ] انما امره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون[ (يس:82) و] واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم[ (البقرة:34) انظر الى قوة وعلو الامرين في هاتين الآيتين. ثم انظر الى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة؟.

نعم! اين تصوير عامل يمارس عمله، وبيان صانع وهو يصنع، وكلام مُحسن في آن احسانه، كلٌ يصور أفاعيله، ويطابق فعله قوله، أي يقول: انظروا فقد فعلت كذا لكذا، افعل هذا لذاك، وهذا يكون كذا وذاك كذا... وهكذا يبين فعلَه للعين والاذن معاً، فمثلاً :

] أفلم ينظروا الى السماءِ فوقَهم كيف بنيناها وزيّناها ومالَها من فروج^ والارضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كل زوج بهيج^ تَبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيب^ ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فانبتنا به جناتٍ وحبّ الحصيد^ والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد^ رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج[ (ق:6ــ11).

اين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن؛ كأنه ثمار الجنة. - وقد ذكر كثيراً من الدلائل ضمن هذه الافعال مع انتظام البلاغة واثبت الحشر الذي هو نتيجتها بتعبير ] كذلك الخروج[ ليلزم بـه الــذين ينكرون الحــشر فــي مستــهل الــسورة - فــأيــن هذا وايــن كلام النــاس عــلى وجه الفــضول عن افعال لا تمسهم إلاّ قليلاً؟ فلا تكون نسبته اليه إلاّ كنسبة صورة الزهرة الى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة.

ان بيان معنى هذه الآيات من قوله تعالى ] أفلم ينظروا[ الى ] كذلك الخروج[ على وجه أفضل يتطلب منا وقتاً طويلاً فنكتفي بالاشارة اليه ونمضي الى شأننا:

ان القرآن يبسط مقدّمات ليرغم الكفار على قبول الحشر، لإنكارهم اياه في مستهل السورة. فيقول: افلا تنظرون الى السماء فوقكم كيف بنيناها، بناءً مهيباً منتظماً.. أوَلا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص او فطور..؟ أوَلا ترون كيف بسطنا الارض وفرشناها لكم بالحكمة، وثبتنا فيها الجبال لتقيها من مّد البحار واستيلائها؟ أوَلا ترون انا خلقنا فيها ازواجاً جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات، وزيّنا بها ارجاء الارض كافة؟ أوَلا ترون كيف ارُسلُ ماءً مباركاً من السماء فاُنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه واجعله رزقاً لعبادي؟ أوَلا يرون انني احيي الارض الميتة، بذلك الماء. وآتي الوفاً من الحشر الدنيوي. فكما اُخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الارض الميتة، كذلك خروجكم يوم الحشر؛ اذ تموت الارض في القيامة وتبعثون انتم أحياء. فأين ما اظهرته الآية في اثبات الحشر من جزالة البيان ـ التي ما اشرنا إلا الى واحدة من الألف منها ـ واين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى؟.

* * *

لقد انتهجنا من اول هذه الرسالة الى هنا نهج المحايد الموضوعي في تحقيق قضية الاعجاز، وقد ابقينا كثيراً من حقوق القرآن مطوية مخفية مستورة، فكنا نعقد موازنة ننزل تلك الشمس منزلة الشموع، وذلك كله لكي نُخضع خصماً عاتياً لقبول اعجاز القرآن.

والآن وقد وفَّى التحقيق العلمي مهمته، واُثبت اعجاز القرآن اثباتاً ساطعاً. فنشير ببعض القول باسم الحقيقة لا باسم التحقيق العلمي، الى مقام القرآن، ذلك المقام العظيم الذي لا تسعه موازنة ولا ميزان.

نعم! ان نسبة سائر الكلام الى آيات القرآن، كنسبة صور النجوم المتناهية في الصغر التي تتراءى في المرايا، الى النجوم نفسها.

نعم! اين كلمات القرآن التي كل منها تصوّر الحقائق الثابتة وتبينها، واين المعاني التي يرسمها البشر بكلماته على مرايا صغيرة لفكره ومشاعره؟

اين الكلمات الحية حياة الملائكة الاطهار.. كلمات القرآن الذي يفيض بانوار الهداية وهو كلام خالق الشمس والقمر.. واين كلمات البشر اللاذعة الخادعة بدقائقها الساحرة بنفثاتها التي تثير اهواء النفس.

نعم! كم هي النسبة بين الحشرات السامة والملائكة الاطهار والروحانيين المنوّرين؟ انها هي النسبة نفسها بين كلمات البشر وكلمات القرآن الكريم. وقد اثبتتْ هذه الحقيقة مع الكلمة الخامسة والعشرين جميع الكلمات الاربع والعشرين السابقة. فدعوانا هذه ليست ادعاء وانما هي نتيجة لبرهان سبقها.

نعم! اين الفاظ القرآن التي كل منها صدف درر الهداية ومنبـع حقائق الايمان، ومعدن أسس الاسلام، والتي تتنزل من عرش الرحمن وتتوجه من فوق الكون ومن خارجه الى الانسان، فاين هذا الخطاب الازلي المتضمن للعلم والقدرة والارادة، من الفاظ الانسان الواهية المليئة بالأهواء؟

نعم! ان القرآن يمثل شجرة طوبى طيبة نشرت اغصانها في جميع ارجاء العالم الاسلامي، فاورقت جميع معنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره واحكامه، وابرزت اولياءه واصفياءه كزهور نضرة جميلة تستمد حسنها ونداوتها من ماء حياة تلك الشجرة، واثمرت جميعَ الكمالات والحقائق الكونية والإلهية حتى غدت كل نواة من نوى ثمارها دستور عمل ومنهج حياة.. نعم اين هذه الحقائق المتسلسلة التي يطالعنا بها القرآن بمثابة شجرة مثمرة وارفة الظلال واين منها كلام البشر المعهود. اين الثرى من الثريا؟

ان القرآن الحكيم ينشر جميع حقائقه في سوق الكون ويعرضها على الملأ اجمعين منذ اكثر من الف وثلاث مائة سنة وان كل فرد وكل امة وكل بلد قد اخذ من جواهره ومن حقائقه، وما زال يأخذ.. على الرغم من هذا فلم تخل تلك الألفة، ولا تلك الوفرة، ولا مرور الزمان، ولا التحولات الهائلة، بحقائقه القيمة ولا باسلوبه الجميل، ولم تشيّبه ولم تتمكن من ان تفقِدهُ طراوته أو تسقط من قيمته أو تطفئ سنا جماله وحسنه.

ان هذه الحالة وحدها اعجاز أي اعجاز.

والآن اذا ما قام أحدٌ ونظم قسماً من الحقائق التي اتى بها القرآن حسب اهوائه وتصرفاته الصبيانية، ثم اراد أن يوازن بين كلامه وكلام القرآن بغية الاعتراض على بعض آياته وقال: لقد قلت كلاماً شبيهاً بالقرآن. فلا شك ان كلامه هذا يحمل من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال:

ان بنّاءً شيد قصراً فخماً، احجاره من جواهر مختلفة، ووضع تلك الاحجار في اوضاع وزينها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة، ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمه عن تلك النقوش البديعة، ويجهل قيمة جواهره وزينته. وبدأ يبدّل نقوش الاحجار واوضاعها، ويجعلها في نظام حسب اهوائه حتى غدا بيتاً اعتيادياً.ثم جمّله بما يعجب الصبيان من خرز تافه، ثم بدأ يقول: انظروا ان لي من المهارة في فن البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم، ولي ثروة اكثر من بنّاء القصر! فانظروا الى جواهري الثمينة! لا شك ان كلامه هذا هذيان بل هذيان مجنون ليس إلا.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:36 AM

رد: الكلمات
 

الشعلة الثالثة

هذه الشعلة لها ثلاثة اضواء

الضياء الاول

لقد وضّح في ((الكلمة الثالثة عشرة)) وجهٌ عظيم من وجوه اعجاز القرآن المعجز البيان، فاُخذ هنا وادرج مع سائر اخوته من وجوه الاعجاز.

اذا شئت ان تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ اعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد اسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، اذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في اذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ] يسبّح لله ما في السموات وما في الارض الملك القدوس العزيز الحكيم[ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم ان وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين، بصدى قوله تعالى ] تسبّح له السمواتُ السبعُ والارضُ[ الى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الارض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسـبــيــح والتــقديــس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحــة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري الى ذلك العصر تتذوق دقائق الاعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! انك اذا نظرت الى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا متعارفاً، واضاءته سائر العلوم الاسلامية، حتى وضحت بشـمـس الــقــرآن. أي اذا نـظـرت الى الآيـات من خــلال ســتــار الأُلفة، فانك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف انها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه اعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

واذا اردت مشاهدة اعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع الى هذا المثال وتأمل فيه:

لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد اُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقاتِ ارتباط بين اغصان الشجرة وثمراتها واوراقها وازاهيرها - كما هو موجود بين اعضاء جسم الانسان - فكل جزء من اجزائها يأخذ شكلاً معيناً وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فاذا قام احدٌ - من قبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد - ورسم على شاشةٍ صورة لكل عضو من اعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين اغصانها وثمراتها واوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها - البعيدين عن بعضهما بما لايحد - بصورٍ وخطوط تمثل اشكال اعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى ادنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين - كهذا المثال - ايضاً، فان بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود الى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا الى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش الى العرش ومن الذرات الى الشموس) قد حافظت - تلك البيانات الفرقانية - على الموازنة والتناسب واعطت لكل عضو من الاعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون - لدى اجراء تحقيقاتهم وابحاثهم - الى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. ان الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق انما هو أنت وحدك ايها القرآن الحكيم!

فلنمثل - ولله المثل الاعلى - الاسماء الإلهية وصفاتها الجليلة والشؤون الربانية وافعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتــد دائــرة عظــمتـها من الازل الى الابد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى اجراءاتها من حدود ] فالق الحب والنوى[ (الانعام:95) ] ويحوُل بين المرء وقلبه[ (الانفال:24) ] وهو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (آل عمران:6) الى ] خلق السموات والارض في ستة أيام[ ( هود:7) والى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) والى ] وسخّر الشمس والقمر[ (الزمر:5)

فنرى ان القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها واغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً اخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الاسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والافعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع اولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين امام جمال بيانه المعجز والاعجابُ يغمرهم: سبحان الله! ما اصوبَ هذا! وما اكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما اجمله وأليقه.

فلو اخذنا مثلاً اركانَ الايمان الستة التي تتوجه الى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الالهي والتي تعد غصناً من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها واغصانها وثمراتها وازاهيرها مراعياً في تصويره انسجاماً بديعاً بين ثمراتها وازاهيرها معّرفاً طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الانسان عاجزاً عن ادراك ابعاده ومبهوتاً أمام حسن جماله.

ثم ان الاسلام الذي هو فرع من غصن الايمان، أبدع القرآن الكريم واتى بالرائع المعجب في تصوير ادق فروع اركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على ابسط ادابها ومنتهى غاياتها واعمق حِكَمها واصغر فوائدها وثمراتها. وابهر دليل على ذلك هو:

كمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن اشاراته ورموزه.. فكمال انتظام هذه الشريعة الـغــراء وجمــال توازنها الدقيــق وحــسن تناسب احكامها ورصانتها، كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابداً على أحقية القرآن الكريم؛ بمعنى:

ان البيانات القرآنية لا يمكن ان تستند الى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان اميّ، بل لابد ان تستند الى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الاشياء معاً..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالازل والابد معاً والشاهد على جميع الحقائق في آن واحد.. آمنا.



الضياء الثاني

ان فلسفة البشر التي تحاول ان تتصدى لحكمة القرآن الكريم وتسعى لمعارضتها، قد سقطت وهوت امام حكمة القرآن السامية.. كما اوضحنا ذلك في ((الكلمة الثانية عشرة)) في اسلوب حكاية تمثيلية، واثبتناه اثباتاً قاطعاً في كلمات اخرى.

لذا نحيل الى تلك الرسائل، إلاّ اننا سنعقد هنا موازنة جزئية بسيطة بينهما من جانب آخر وهو جانب نظرتهما الى الدنيا؛ كالآتي:

ان فلسفة البشر وحكمته تنظر الى الدنيا على انها: ثابتة دائمة، فتذكر ماهية الموجودات وخواصها ذكراً مفصلاً مسهباً، بينما لو ذكرتْ وظائف تلك الموجودات الدالة على صانعها فانها تذكرها ذكراً مجملاً مقتضباً. أي انها تفصّل في ذكر نقوش كتاب الكون وحروفه، في حين لا تعير معناه ومغزاه اهتماماً كبـيراً.

أما القرآن الكريم فانه ينظر الى الدنيا، على أنها: عابرة سيّالة، خدّاعة سيّارة، متقلبة لا قرار لها ولا ثبات، لذا يذكر خواص الموجودات وماهياتها المادية الظاهرة ذكراً مجملاً مقتضباً، بينما يفصل تفصيلاً كاملاً لدى بيانه وظائفها التي تنمّ عن عبوديتها التي اناطها بها الصانع الجليل، ولدى بيانه مدى انقياد الموجودات للاوامر التكوينية الإلهية، وكيف وبأي وجه من وجوهها تدل على أسماء صانعها الحسنى.

ففي بحثنا هذا، سنلقي نظرة عجلى على الفرق بين نظرة الفلسفة ونظرة القرآن (الى الدنيا والموجودات) من حيث هذا الاجمال والتفصيل؛ لنرى اين يقف الحق الابلج والحقيقة الساطعة.

ان ساعتنا اليدوية التي يبدو عليها الاستقرار والثبات تنطوي على تغيرات وتبدلات واهتزازات عديدة، سواءً في حركات التروس الدائمة أو في اهتزازات الدواليب والآلات الدقيقة. فكما ان الساعة هكذا، فالدنيا كذلك، كأنها ساعة عظيمة أبدعتها القدرة الإلهية، فعلى الرغم من انها تبدو ثابتة مستقرة، فهي تتقلب وتتدحرج في تغيّر واضطراب دائمين، ضمن تيار الزوال والفناء؛ اذ لما حل ((الزمان)) في الدنيا، اصبح ((الليل والنهار)) كعقرب الثواني ذي الرأس المزدوج لتلك الساعة العظمى، تتبدل بسرعة.. وصارت (السنة) كأنها عقرب الدقائق لتلك الساعة.. وغدا (العصر) كأنه عقرب الساعات لها.. وهكذا ألقى (الزمانُ) الدنيا على ظهر امواج الزوال والفناء، مستبقياً الحاضر وحده للوجود مسلّماً الماضي والمستقبل الى العدم.

فالدنيا - علاوة على هذه الصورة التي يمنحها الزمان - فهي كالساعة ايضاً متغيرة وغير ثابتة، من حيث (المكان)؛ اذ إن (الجو) - كمكان - في تبدل سريع وفي تغيّر دائم، وفي تحول مستمر، حتى انه قد يحدث في اليوم الواحد مراتٍ عدة امتلاء الغيوم بالامطار ثم انقشاعها عن صحو باسم. أي كأن الجو بسرعة تغيّره وتحوله يمثل عقرب الثواني لتلك الساعة العظمى.

و (الارض) التي هي ركيزة دار الدنيا، فان (وجهها) كمكان في تبدل مستمر، من حيث الموت والحياة، ومن حيث ما عليه من نبات وحيوان، لذا فهو كعقرب الدقائق تبين لنا: ان هذه الجهة من الدنيا عابرة سائرة زائلة.

وكما ان الارض من حيث وجهها في تبدل وتغير، فان ما في (باطنها) من تغيرات وزلازل وانقلابات تنتهي الى بروز الجبال وخسف الارض، جعلها كعقرب الساعات التي تسير ببطء نوعاً ما إلاّ أنها تبين لنا: ان هذه الجهة من الدنيا ايضاً تمضي الى زوال.

أما (السماء) التي هي سقف دار الدنيا، فان التغيرات الحاصلة فيها - كمكان - سواءً بحركات الاجرام السماوية، أو بظهور المذنبات وحدوث الكسوف والخسوف، وسقوط النجوم والشهب وامثالها من التغيرات تبين: ان السماء ليست ثابتة ولا مستقرة، بل تسير نحو الهرم والدمار. فتغيراتها كعقرب الساعة العادَّة للاسابيع، الدالة على مضيها نحو الخراب والزوال رغم سيرها البطئ.

وهكذا، فالدنيا - من حيث انها دنيا (أي باعتبار نفسها) - قد شُيّدت على هذه الاركان السبعة، هذه الاركان تهدّها في كل وقت وتزلزلها كل حين، إلاّ ان هذه الدنيا المتزلزلة المتغيرة المتبدلة باستمرار عندما تتوجه الى صانعها الجليل، فان تلك التغيرات والحركات تغدو حركات قلم القدرة الإلهية لدى كتابتها رسائل صمدانية على صفحة الوجود وتصبح تبدلات الاحوال مرايا متجددة تعكس انوار تجليات الاسماء الإلهية الحسنى، وتبين شؤونها الحكيمة وتصفها بأوصاف متنوعة مختلفة لائقة بها.

وهكذا فالدنيا من حيث انها دنيا، متوجهة نحو الفناء والزوال، وساعية سعياً حثيثاً نحو الموت والخراب، ومتزلزلة متبدلة باستمرار. فهي عابرة راحلة كالماء الجاري في حقيقة امرها. إلاّ أن الغفلة عن الله اظهرت ذلكالماء جامداً ثابتاً، وبمفهوم (الطبيعة) الماديّ تعكّر صفوه وتلوث نقاؤه، حتى غدت الدنيا ستاراً كثيفاً يحجُب الآخرة.

فالفلسفة السقيمة؛ بتدقيقاتها الفلسفية وتحرياتها، وبمفهوم الطبيعة المادي، وبمغريات المدنية السفيهة الفاتنة، وهوساتها وعربدتها.. كثّفت تلك الدنيا وزادتها صلابة وتجمداً، وعمّقت الغفلة في الانسان، وضاعفت من لوثاتها وشوائبها حتى أنستْه الصانع الجليل والآخرة البهيجة.

أما القرآن الكريم، فانه يهزّ هذه الدنيا - وتلك حقيقتهاــ هزاً عنفياً - من حيث انها دنيا - حتى يجعلها كالعهن المنفوش، وذلك في قوله تعالى: ] القارعة ما القارعة..[ و ] اذا وقعت الواقعة..[ و] والطور^ وكتاب مسطور..[ وامثالها من الآيات الجليلة.

ثم انه يمنح الدنيا شفافية وصفاءً رائقاً مزيلاً عنها الشوائب والاكدار، وذلك ببياناتها الرائعة في قوله تعالى: ] أوَ لم ينظروا في ملكوت السموات والارض..[ (الاعراف:185) ] أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها..[ (ق:6) ] أوَلم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانتا رتقاً...[ (الانبياء:30) وامثالها من الآيات الحكيمة.

ثم انه يذيب تلك الدنيا الجامدة بنظر الغفلة عن الله بعباراته النورانية اللامعة في قوله تعالى: ] الله نورُ السموات والارض... [ وما الحياة الدنيا إلاّ لعبٌ ولهو... وامثالها من الآيات العظيمة.

ثم انه يزيل توهم الابدية والخلود في الدنيا بعباراته التي تنم عن زوال الدنيا وموتها في قوله تعالى: ] اذا السماء انفطرت... [ ] اذا الشمس كوّرت.. [ ] اذا السماء انشقت... [ ] ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلاّ مَن شاء الله.. [ (الزمر:68) وأمثالها من الآيات الكريمة.

ثم انه يبدد الغفلة المولّدة لمفهوم (الطبيعة) المادي، ويشتتها بنداءاته المدوية كالصاعقة في قوله تعالى: ] يعلم ما يَلجُ في الارض وما يخرجُ منها وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها وهو معكم اينما كنتم والله بما تعملون بصير[ (الحديد:4)، ] وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربّك بِغافل عمّا تعملون[ (النمل:93).. وامثالها من الآيات النيرة.

وهكذا فان القرآن الكريم بجميع آياته المتوجهة للكون (اي الآيات الكونية)يمضي على هذا الاساس، فيكشف عن حقيقة الدنيا كما هي، ويبيّنها للانظار. ويصرف نظر الانسان ببيانه إلى مدى دمامة وجه الدنيا القبيح - بتلك الآيات - ليتوجه الى الوجه الصبوح الجميل للدنيا الجميلة، ذلك الوجه المتوجه الى الصانع الجليل. فيوجّه نظر الانسان الى هذا الوجه، ملقناً اياه الحكمة الصائبة والفلسفة الحقّة بما يعلّمه من معاني كتاب الكون الكبير مع التفاته الى حروفه ونقوشه، من دون ان يبدد جهوده فيما لا يعنيه من امور نقوش الحروف الزائلة كما تفعله الفلسفة الثملة العاشقة للقبح، حيث أنستْه النظر الى المعنى والمغزى.



الضياء الثالث

لقد اشرنا في الضياء الثاني الى انهزام حكمة البشر وسقوطها امام حكمة القرآن، كما اشرنا فيه الى اعجاز حكمة القرآن. وفي هذا الضياء سنبين درجة حكمة تلاميذ القرآن، وهم العلماء الاصفياء والاولياء الصالحون والمنوّرون من حكماء الاشراقيين(1) امام حكمة القرآن مشيرين من هذا الجانب الى اعجاز القرآن اشارة مختصرة.

ان اصدق دليل على سمو القرآن الحكيم وعلوه، واوضح برهان على كونه صدقاً وعدلاً واقوى علامة وحجة على اعجازه هو:

ان القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع اقسامه مع جميع مراتب تلك الاقسام وجميع لوزامه، ولم يخل باتزان أيٍ كان منها.. ثم انه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمع الاحكام التي تقتضيها الاسماء الإلهية الحسنى جميعها مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الاحكام.. ثم انه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والالوهية.

فهذه ((المحافظة والموازنة والجمع)) خاصيةٌ لا توجد قطعاً في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج افكار اعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الاولياء الصالحين النافذين الى عالم الملكوت، ولا في كتب الاشراقيين الموغلين في بواطن الامور، ولا في معارف الروحانيين الماضين الى عالم الغيب؛ بل كل قسم من اولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من اغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كلياً مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت الى غيره من الاغصان؛ إما لجهله به أو لعدم التفاته اليه. وكأن هناك نوعاً من تقسيم الاعمال فيما بينهم.

نعم! ان الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة. اذ تلزم نظراً كلياً كنظر القرآن الكريم ليحيط بها. فكل ما سوى القرآن الكريم - ولو يتلقى الدرس منه - لا يرى تماماً بعقله الجزئي المحدود إلاّ طرفاً أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخلّ بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالافراط أو بالتفريط. ولقد بينا هذه الحقيقة بتمثيل عجيب في الغصن الثاني من الكلمة الرابعة والعشرين. أما هنا فسنورد مثالاً آخر يشير الى المسألة نفسها، هو:

لنفرض ان كنزاً عظيماً يضم ما لا يحــد من الجـواهر الثمينة في قعر بحر واسع. وقد غاص غواصون مهرة في اعماق ذلك البحر بحثاً عن جواهر ذلك الكنز الثمين. ولكن لأن عيونهم معصوبة فلا يتمكنون من معرفة انواع تلك الجواهر الثمينة إلاّ بايديهم.. ولقد لقيت يدُ بعضهم ألماساً طويلاً نسبياً، فيقضي ذلك الغواص ويحكم: ان الكنز عبارة عن قضبان من الماس. وعندما يسمع من اصدقائه اوصافاً لجواهر غيرها يحسب أن تلك الجواهر التي يذكرونها ما هي إلاّ توابع ما وجده من قضبان الالماس وما هي إلاّ فصـوصه ونــقــوشــه. ولنفرض أن آخــرين لقوا شيئاً كروياً من الياقوت، واخرين وجدوا كهرباً مربعاً.. وهكذا..فكل واحد من هؤلاء الذين رأوا تلك الجواهر والاحجار الكريمة بايديهم - دون عيونهم - يعتقد أن ما وجده من جوهر نفيس هو الأصل في ذلك الكنز ومعظمه. ويزعم ان ما يسمعه من اصدقائه زوائدُه وتفرعاتُه، وليس اصلاً للكنز.

وهكذا تختل موازنة الحقائق، ويضمحل التناسق ايضاً، ويتبدل لون كثير من الحقائق اذ يضطر مَن يريد أن يرى اللون الحقيقي للحقيقة الى تأويلات وتكلفات. حتى قد ينجر بعضهم الى الانكار والتعطيل. فمن يتأمل في كتب حكماء الاشراقيين، وكتب المتصوفة الذين اعتمدوا على مشهوداتهم وكشفياتهم دون ان يزنوها بموازين السنة المطهرة يصدّق حكمنا هذا دون تردد.

اذاً فعلى الرغم من أنهم يسترشدون بالقرآن، ويؤلفون في جنس حقائق القرآن إلاّ أن النقص يلازم آثارهم، لأنها ليست قرآناً.

فالقرآن الكريم الذي هو بحر الحقائق، آياته الجليلة غوّاصة كذلك في البحر تكشف عن الكنز، إلاّ أن عيونها مفتحة بصيرة تحيط بالكنز كله، وتبصر كل ما فيه، لذا يصف القرآن الكريم باياته الجليلة ذلك الكنز العظيم وصفاً متوازناً يلائمه وينسجم معه فيظهر حُسنه الحقيقي وجماله الاخاذ. فمثلاً:

ان القرآن الكريم يرى عظمة الربوبية الجليلة ويصفها بما تفيده الآيات الكريمة ] والارض جميعاً قبـضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) ] يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب[ (الانبياء:104) وفي الوقت نفسه يرى شمول رحمته تعالى ويدل عليها بما تفصح عنه الآيات الكريمة ] ان الله لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء^ هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (ال عمران: 5ـ6) ] ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها[ (هود:56) ] وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم[ (العنكبوت: 60).

ثم انه مثلما يرى سعة الخلاقية الإلهية ويدل عليها بما تعبّر عنها الآية الكريمة ] خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور[ (الانعام: 1) فانه يرى شمول تصرفه تعالى في الكون واحاطة ربوبيته بكل شئ وتدل عليها بما تبينه الآية الكريمة ] خلقكم وما تعملون[ (الصافات: 96)

ثم انه مثلما يرى الحقيقة العظمى التي تدل عليها الآية الكريمة ] يحيى الارض بعد موتها[ (الروم: 50) فانه يرى حقيقة الكرم الواسع التي تعبر عنها الآية الكريمة ] واوحى ربك الى النحل.. [ (النحل:68) ويدل عليها، ويرى في الوقت نفسه حقيقة الحاكمية المهيمنة ويدل عليها بــ] والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره[ (الاعراف: 54) ومثلما يرى الحقيقة الرحيمة المدبرة التي تفيدها الآية الكريمة ] أوَلم يروا الى الطير فوقهم صافات ويقـبـضن ما يمسكهن إلاّ الرحمن انه بكل شيء بصير[ (الملك:19) يرى الحقيقة العظمى التي تفيدها الآية الكريمة ] وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما.. [ (البقرة:255) في الوقت الذي يرى حقيقة الرقابة الإلهية في تعبير الآية ] وهو معكم اين ما كنتم[ (الحديد:4) كالحقيقة المحيطة التي تفصح عنها الآية ] هو الاول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم[ (الحديد:3) ويرى أقربيته سبحانه التي يعبر عنها قوله تعالى ] ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد[ (ق: 16) مع ما تشير اليه من حقيقة سامية الآية الكريمة ] تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة[ (المعارج:4) كالحقيقة الجامعة التي تدل عليها وتفيدها الآية الكريمة ] ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي[ (النحل: 90) وامثالها من الآيات الكريمة التي تضم الدساتير الدنيوية والاخروية والعلمية والعملية.

فالقرآن يرى جميع الدساتير التي تحقق سعادة الدارين ويبيّنها مع بيانه كل ركن من اركان الايمان الستة بالتفصيل، وكل ركن من اركان الاسلام الخمسة بقصدٍ وجدّ محافظاً على الموازنة فيما بينها جميعاً مديماً تناسبها، فينشأ من منبع الجمال والحسن البديع الحاصل من تناسب مجموع تلك الحقائق وتوازنها اعجازٌ معنوي رائع للقرآن.

فمن هذا السر يتبين: أن علماء الكلام، وإن تتلمذوا على القرآن الكريم وألّفوا الوف الكتب - بعضها عشرات المجلدات - إلاّ انهم لترجيحهم العقل على النقل كالمعتزلة، عجزوا عن ان يوضحوا ما تفيده عشرُ آيات من القرآن الكريم وتثبته اثباتاً قاطعاً بما يورث القناعة والاطمئنان، ذلك لأنهم يحفرون عيوناً في سفوح جبال بعيدة ليأتوا منها بالماء الى اقصى العالم بوساطة انابيب، أي بسلسلة الاسباب، ثم يقطعون تلك السلسلة هناك، فيثبتون وجود واجب الوجود والمعرفة الإلهية التي هي كالماء الباعث على الحياة!! أما الآيات الكريمة فكل واحدة منها كــعصا موســى تستــطيع ان تـفــجّر المـــاء ايــنما ضــربت، وتــفــتــح من كل شـــئ نافذةً تــدل على الصانع الجليل وتعرّفه. وقد أثبتت هذه الحقيقة بوضوح في سائر الكلمات وفي الرسالة العربية (قطرة) المترشحة من بحر القرآن.

ومن هذا السر ايضاً نجد ان جميع ائمة الفرق الضالة الذين توغلوا في بواطن الامور واعتمدوا على مشهوداتهم من دون اتباع السنة النبوية، فرجعوا من اثناء الطريق، وترأسوا جماعة وشكلوا لهم فرقةً ضالة.. هؤلاء قد زلّوا الى مثل هذه البدع والضلالة وساقوا البشرية الى مثل هذه السبل الضالة لانهم لم يستيطعوا ان يحافظوا على تناسق الحقائق وموازنتها.

إن عجز جميع هؤلاء يبين اعجازاً للآيات القرآنية.



الخاتمة

لقد مضت لمعتان اعجازيتان من لمعات اعجاز القرآن، في الرشحة الرابعة عشرة من الكلمة التاسعة عشرة وهما حكمة التكرار في القرآن، وحكمة اجماله في مضمار العلوم الكونية، وتبين بوضوح هناك ان كلاً منهما منبع من منابع الاعجاز بخلاف ما يظن بعض الناس انهما سبب نقص وقصور كما قد وضحت بجلاء لمعةٌ من اعجاز القرآن التي تتلألأ على وجه معجزات الانبياء عليهم السلام، وذلك في المقام الثاني من الكلمة العشرين، وذكرت كذلك امثال هذه اللمعات في سائر (الكلمات) وفي رسائلي العربية. فنكتفي بها، ولكن نقول: ان معجزة قرآنية اخرى هي:

كما ان معجزات الانبياء بمجموعها أظهرت نقشاً من نقوش اعجاز القرآن، فان القرآن كذلك بجميع معجزاته معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام، وان معجزاته e جميعها ايضاً هي معجزة قرآنية. اذ انها تشير الى نسبة القرآن الى الله سبحانه وتعالى، أي أنه كلام الله. وبظهور هذه النسبة تكون كل كلمة من كلمات القرآن معجزة، لأن الكلمة الواحدة آنذاك يمكن أن تتضمن بمعناها شجرة من الحقائق فهي بمثابة النواة.. ويمكن ان تكون ذات علاقة مع جميع اعضاء الحقيقة العظمى، بمثابة مركز القلب.. ويمكن أن تنظر وتتوجه بحروفها وهيئتها وكيفيتها وموقعها الى مالا يحد من الامور وذلك لاستنادها الى علم محيط وارادة غير متناهية.

ومن هنا يدّعى علماء علم الحروف: انهم استخرجوا من حرف من القرآن اسراراً كثيرة تسع صفحة كاملة، ويثبتون دعواهم لأهل ذلك الفن.

والآن تذكّر ما مضى في هذه الرسالة من أولها الى هنا وانظر بمنظار مجموع ما فيها من الشُعَل والاشعة واللمعات والانوار والاضواء الى نتيجة الدعوى المذكورة في اول الرسالة، تجدها تعلنها اعلاناً باعلى صوتها وتقرأها، تلك هي:

] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعـضهم لبعضٍ ظهيـراً[ .

] سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا انك انت العليم الحكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا[

] رب اشرح لي صدري^ ويسر لي امرى^ واحلل عقدة من لساني^ يفقهوا قولي[

اللّهم صلّ وسلّم أفـضل واجمل وانبل، واظهر وأطهر، وأحسن وأبرّ، واكرم واعـزّ، واعظم واشرف، واعلى وأزكى، وابرك وألطف صلواتك، وأوفى واكثر وأزيد، وأرقى وارفع وأدوم سلامك، صلاةً وسلاماً، ورحمةً ورضواناً، وعفواً وغفراناً تمتد وتزيد بوابل سحائب مواهب جودك وكرمك، وتنمو وتزكو بنفائس شرائفِ لطائف جودك ومننك، أزلية بأزليتك لا تزول، ابدية بابديتك لا تحول، على عبدك وحبيبك ورسولك محمد خير خلقك، النور الباهر اللامع، والبرهان الظاهر القاطع، والبحر الزاخر، والنور الغامر، والجمال الزاهر، والجلال القاهر، والكمال الفاخر، صلاتك التي صلّيت بعظمة ذاتك عليه وعلى آله واصحابه كذلك، صلاةً تغفر بها ذنوبنا، وتشرح بهاصدورنا، وتطهّر بها قلوبنا وتروّح بها ارواحنا وتقدس بها اسرارنا، وتنزّه بها خواطرنا وافكارنا، وتصفّي بها كدورات ما في اسرارنا وتشفي بها امراضنا، وتفتح بها اقفال قلوبنا.

] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب[

] وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين[

آمين .. آمين ... آمين

الذيل الاول

المرتبة السابعة عشرة من الشعاع السابع ((رسالة الآية الكبرى)) اُلحقت ذيلاً بالكلمة الخامسة والعشرين ((المعجزات القرآنية))

ان السائح الذي لا يناله تعب ولا شبع والذي علم ان غاية الحياة في هذه الدنيا، بل حياة الحياة انما هو الايمان، حاور هذا السائح قلبه قائلاً:

ان الكلام الذي نبحث فيه هو أشهر كلام في هذا الوجود واصدقه وأحكمه، وقد تحدى في كل عصر مَن لا ينقاد اليه، ذلك القرآن الكريم ذو البيان المعجز.. فلنراجع اذاً هذا الكتاب الكريم، ولنفهم ماذا يقول... ولكن لنقف لحظة قبل دخولنا هذا العالم الجميل لنبحث فيما يجعلنا نستيقن أنه كتاب خالقنا نحن.. وهكذا باشر بالتدقيق والبحث.

وحيث ان هذا السائح من المعاصرين فقد نظر أولاً الى ((رسائل النور)) التي هي لمعات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، فرأى:

ان هذه الرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة هي بذاتها تفسير قيّم للآيات الفرقانية، اذ إنها تكشف عن نكاتها الدقيقة وأنوارها الزاهية.

ورغم ان رسائل النور نشرت الحقائق القرآنية بجهاد متواصل الى الآفاق كافة، في هذا العصر العنيد الملحد، لم يستطع أحد أن يعارضها أو ينقدها، مما يثبت ان القرآن الكريم الذي هو رائدها ومنبعها، ومرجعها، وشمسها، انما هو سماوي من كلام الله رب العالمين، وليس بكلام بشر، حتى ان ((الكلمة الخامسة والعشرين)) وختام ((المكتوب التاسع عشر)) وهما حجة واحدة من بين مئات الحجج، تقيمها ((رسائل النور)) لبيان إعجاز القرآن، فتثبته بأربعين وجهاً إثباتاً حيّر كل من نظر اليها، فقدّرها واعجب بها - ناهيك عن انهم لم ينقدوها ولم يعترضوا عليها قط - بل اثنوا عليها كثيراً. هذا وقد احال السائح اثبات وجه الاعجاز للقرآن الكريم، وانه كلام الله سبحانه حقاً الى ((رسائل النور))، إلاّ انه انعم النظر في بضع نقاط تبين باشارة مختصرة:



عظمة القرآن الكريم:

النقطة الاولى: مثلما ان القرآن الكريم بكل معجزاته وحقائقه الدالة على أحقيته هو معجزة لمحمد عليه الصلاة والسلام، فان محمداً عليه الصلاة والسلام بكل معجزاته ودلائل نبوته وكمالاته العلمية معجزة أيضاً للقرآن الكريم وحجة قاطعة على ان القرآن الكريم كلام الله رب العالمين.

النقطة الثانية: ان القرآن الكريم قد بدّل الحياة الاجتماعية تبديلاً هائلاً نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلاباً عظيماً سواء في نفوس البشر وفي قلوبهم، أو في أرواحهم وفي عقولهم، أو في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، وأدام هذا الانقلاب وأداره، بحيث إن آياته البالغة ستة آلاف وستمائة وستاً وستين آية تتُلى منذ أربعة عشر قرناً في كل آن بألسنة أكثر من مائة مليون شخص في الأقل بكل إجلال واحترام، فيربي الناس ويزكي نفوسهم، ويصفي قلوبهم، ويمنح الأرواح إنكشافاً ورقياً، والعقول إستقامة ونوراً، والحياة حياةً وسعادةً. فلا شك أنه لا نظير لمثل هذا الكتاب ولا شبيه له ولا مثيل. فهو خارق، وهو معجز.

النقطة الثالثة: ان القرآن الكريم قد أظهر بلاغة - أيّما بلاغة - منذ ذلك العصر الى زماننا هذا، حتى انه حطّ من قيمة (المعلقات السبع) المشهورة وهي قصائد أبلغ الشعراء، كتبت بالذهب وعُلقت على جدران الكعبة، حتى ان ابنة (لبيد) أنزلت قصيدة أبيها من على جدار الكعبة قائلة : (أما وقد جاءت الآيات فليس لمثلك هنا مقام).

وكذا عندما سمع أعرابيٌ الآية الكريمة: ] فاصْدَع بما تُؤمَر[ (الحجر: 94) خر ساجداً. فقيل له:

أأسلمـت؟ قال:

لا، بل سجدت لبلاغة هذه الآية.

وكذا، فان آلافاً من أئمة البلاغة وفحول الأدب، أمثال عبد القاهر الجرجاني، والسكاكي، والزمخشري، قد أقرّوا بالاجماع والاتفاق:

((ان بلاغة القرآن فوق طاقة البشر ولا يمكن أن يُدرك)).

وكذا، فان القرآن الكريم منذ نزوله - كان وما زال كذلك - يتحدى كل مغرور ومتعنت من الأدباء والبلغاء، وينال من عتوّهم وتعاليهم، تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله.. أو ان يرضوا بالهلاك والذل في الدنيا والآخرة..

وبينما يعلن القرآن تحديه هذا، اذا ببلغاء ذلك العصر العنيدين قد تركوا السبيل القصيرة وهي المضاهاة والمعارضة والاتيان بسورة من مثله،سالكين السبيل الطويلة، سبيل الحرب التي تأتي بالويل والدمار على الأرواح والاموال، مما يثبت اختيارهم هذا: انه لا يمكن المسير في تلك السبيل القصيرة.

وكذا، ففي متناول الأيدي ملايين الكتب العربية التي كتبها أولياء القرآن بشغف اقتباس اسلوبه وتقليده أو كتبها أعداؤه لأجل معارضته ونقده، فكل ما كتب، ويكتب، مع التقدم والرقي في الاسلوب الناشئ من تلاحق الأفكار - ومنذ ذلك الوقت الى الآن - لا يمكن ان يضاهي أو يدانى أيٌّ منها أسلوب القرآن، حتى لو استمع رجل عامي لما يتلى من القرآن الكريم لاضطر الى القول: ان هذا القرآن لا يشبه أيّاً من هذه الكتب، ولا في مرتبتها. فاما أن بلاغته تحت الجميع، أو أنها فوق الجميع. ولن يستطيع انسان كائناً من كان، ولا كافر، ولا أحمق ان يقول: انها أسفل الجميع، فلابد اذاً ان مرتبة بلاغته فوق الجميع. حتى قد تلا أحدهم الآية الكريمة:

] سَبّح لله ما في السموات والارض[ ( الحديد:1) ثم قال:

- ((اني لا أرى الوجه المعجز الذي ترونه في بلاغة هذه الآية الكريمة)).

فقيل له:

((عد بخيالك - كهذا السائح - الى ذلك العصر واستمع اليها هناك)).

وبينما هو يتخيل نفسه هناك فيما قبل نزول القرآن الكريم، اذا به يرى:

ان موجودات العالم ملقاة في فضاء خالٍ شاسع دون حدود، في دنيا فانية زائلة، وهي في حالة يائسة مضطربة تتخبط في ظلمة قاتمة، وهي جامدة دون حياة وشعور، وعاطلة دون وظيفة ومهام، ولكن حالما أنصت الى هذه الآية الكريمة وتدبرها اذا به يرى:

ان هذه الآية قد كشفت حجاباً مسدلاً عن وجه الكون وعن وجه العالم كله حتى بان ذلك الوجه مشرقاً ساطعاً، فألقى هذا الكلام الأزلي والأمر السرمدي درساً على جميع أرباب المشاعر المصطفين حسب العصور كلها مظهراً لهم:

ان هذا الكون هو بحكم مسجد كبير، وان جميع المخلوقات - ولا سيما السموات والارض - منهمكة في ذكر وتهليل وتسبيح ينبض بالحيوية. وقد تسنم الكل وظائفهم بكل شوق ونشوة وهـم ينجزونها بكل سعادة وإمتـنان.

هكذا شاهد السائح سريان مفعول هذه الآية الكريمة في الكون، فتذوق مدى سمو بلاغتها، وقاس عليها سائر الآيات الكريمة، فأدرك السر في هيمنة بلاغة القرآن الفريدة لنصف الارض وخمس البشرية، وعلم حكمة واحدة من آلاف الحكم لديـمومة جلال سلطان القرآن الكريم بكل توقير وتعظيم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان دون إنقطاع.

النقطة الرابعة: ان القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات اصالة وحقيقة بحيث ان التكرار الكثير - المسبب للسآمة حتى من أطيب الأشياء - لا يورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته، وهذا أمر مسلّم به عند الجميع منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الأمثال.

وكذا فقد اظهر القرآن الكريم من الطراوة، والفتوة والنضارة والجدّة بحيث يحتفظ بها وكأنه قد نزل الآن، رغم مرور أربعة عشر قرناً من الزمان عليه، ورغم تيسر الحصول عليه للجميع. فكل عصر قد تلقاه شاباً نضراً وكأنه يخاطبه. وكل طائفة علمية مع انهم يجدونه في متناول ايديهم وينهلون منه كل حين، ويقتفون أثر اسلوب بيانه، يرونه محافظاً دائماً على الجدة نفسها في اسلوبه والفتوة عينها في طُرز بيانه.

النقطة الخامسة: ان القرآن الكريم قد بسط أحد جناحيه نحو الماضي والآخر نحو المستقبل، فالحقيقة التي اتفق عليها الأنبياء السابقون هي جذر القرآن وأحد جناحيه، فهو يصدقهم ويؤيدهم، وهم بدورهم يؤيدونه ويصدقونه بلسان حال التوافق.

وكذلك فان الأولياء الصالحين، والعلماء الاصفياء هم ثمار استمدت الحياة من شجرة القرآن الكريم، فتكاملهم الحيوي يدل على ان شجرتهم المباركة هي ذات حياة وعطاء، وذات فيض دائم وذات حقيقة واصالة، فالذين انضووا تحت حماية جناحه الثاني، وعـاشــوا فــي ظــلالــه من أصحاب جميــع طـرق الـولاية الحـقة، واربــاب جميع العلوم الاسلامية الحقة يشهدون ان القرآن هو عين الحق، ومجمع الحقائق، ولا مثيل له في جامعيته وشموليته، فهو معجزة باهرة.

النقطة السادسة: ان الجهات الست للقرآن الكريم منورة مضيئة، مما يُبين صدقه وعدله.

نعم، فمن تحته أعمدة الحجج والبراهين، وعليه تتألق سكة الاعجاز وبين يديه - وهدفه - هدايا سعادة الدارين، ومن خلفه - أي نقطة استناده - حقائق الوحي السماوي، وعن يمينه تصديق ما لايحد من أدلة العقول المستقيمة، وعن يساره الاطمئنان الجاد والانجذاب الخالص والاستسلام التام للقلوب السليمة والضمائر الطاهرة.

واذ تثبت - تلك الجهات الست - ان القرآن الكريم حصن سماوي حصين في الأرض لا يقوى على خرقه خارق ولا ينفذ من جداره نافذ، فهناك أيضاً ستة " مقامات " تؤكد انه الصدق بذاته والحق بعينه، وانه ليس بكلام بشر قط، وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأول تلك المقامات: تأييد مصرّف هذا الكون ومدبّره له، الذي اتخذ إظهار الجميل وحماية البر والصدق ومحق الخداعين وازالة المفترين، سنة جارية لفعاليته سبحانه، فأيَّد سبحانه وصدّق هذا القرآن بما منحه من مقام إحترام وتعظيم وأولاه من مرتبة توفيق وفلاح هو أكثر قبولاً وأعلى مرتبة وأعظم هيمنة في العالم.

ومن ثم فان الاعتقاد الراسخ والتوقير اللائق من الذات المباركة للرسول الكريم e نحو القرآن الكريم يفوق الجميع وهو منبع الاسلام وترجمان القرآن، وكونه بين اليقظة والنوم حينما يتنزل عليه الوحي فيتنزل عليه دون ارادته، وعدم بلوغ سائر كلامه شأوه، بل عدم مشابهته له الى حدّ رغم أنه أفصح الناس، وبيانه - بهذا القرآن - بياناً غيبياً لما مضى من الحوادث الكونية الواقعة ولما سيأتي منها مع أميّته، من دون تردد وبكل إطمئنان. وعدم ظهور أية حيلة أو خطأ أو ما شابهها من الأوضاع منه مهما صغرت رغم انه بين أنظار أشد الناس إنعاماً للنظر في تصرفاته.. فايمان هذا الترجمان الكريم والمبلغ العظيم e وتصديقه بكل قوته لكل حكم من أحكام القرآن الكريم، وعدم زعزعة أي شئ له مهما عظم يؤيد ويؤكد أن القرآن سماوي وكله صدق وعدل وكلام مبارك للرب الرحيم.

وكذا فان ارتباط خمس البشرية، بل الشطر الأعظم منهم بذلك القرآن الكريم المشاهد أمامهم، إرتباط انجذاب وتديّن، واستماعهم اليه بجد وشوق ولهفة، وتوافد الجن والملائكة والروحانيين اليه والتفافهم حوله عند تلاوته التفاف الفراشة العاشقة للنور بشهادة امارات ووقائع وكشفيات صادقة كثيرة، كل ذلك تصديق بان هذا القرآن هو محل رضى الكون واعجابه، وان له فيه اسمى مقام وأعلاه.

وكذا فان أخذ كل طبقة من طبقات البشر ابتداءً من الغبي الشديد الغباء والعامي، الى الذكي الحاد الذكاء والعالم نصيبها كاملة من الدروس التي يلقيها القرآن الكريم، وفهمهم منه أعمق الحقائق، واستنباط جميع الطوائف من علماء مئات العلوم والفنون الاسلامية، وبخاصة مجتهدي الشريعة السمحة ومحققي اصول الدين وعباقرة علم الكلام وامثالهم، واستخراجهم الاجوبة الشافية لما يحتاجونه من المسائل التي تخص علومهم من القرآن الكريم، انما هو تصديق بأن القرآن الكريم هو منبع الحق ومعدن الحقيقة.

وكذا فان عدم معارضة أدباء العرب الذين هم في المقدمة في الأدب ولا سيما الذين لم يدخلوا في الاسلام مع رغبتهم الملحة في المعارضة، وعجزهم عجزاً تاماً أمام وجه واحد، - وهو الوجه البلاغي - من بين وجوه الاعجاز السبعة الكبرى للقرآن، وعجزهم عن الاتيان بسورة واحدة فقط من سور القرآن الكريم، وصدودهم عن ذلك، وعدم معارضته ممن أتى من مشاهير البلغاء وعباقرة العلماء لحد الآن لاي وجه من وجوه الاعجاز - مع رغبتهم في ذيوع صيتهم بالمعارضة - وسكوتهم بعجز واحجامهم عن ذلك، لهو حجة قاطعة على ان القرآن الكريم معجزة فوق طاقة البشر.

نعم ان قيمة الكلام وعلوه وبلاغته تتوضح في بيان: ((من قاله؟ ولمن قاله؟ ولِمَ قاله؟)).

وبناء على هذا فان القرآن الكريم لم يأت ولن يأتي مثله ولن يدانيه شئ قط؛ ذلك لأن القرآن الكريم انما هو خطاب من رب العوالم جميعاً وكلام من خالقها، وهو مكالمة لا يمكن تقليدها - باي جانب كان من الجوانب - وليس فيه امارة تومئ بالتصنع.

ثم ان المخاطب هو مبعوث باسم البشرية قاطبة، بل باسم المخلوقات جميعاً، وهو أكرم من أصبــح مخــاطــباً وأرفعهــم ذكراً، وهــو الــذي ترشـــح الاسلام العظيم من قوة إيمانه وسعته، حتى عرج به الى قاب قوسين أو أدنى فنزل مكللاً بالمخاطبة الصمدانية.

ثم ان القرآن الكريم المعجز البيان قد بيّن سبيل سعادة الدارين، ووضّح غايات خلق الكون، وما فيه من المقاصد الربانية موضحاً ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الايمان السامي الواسع الذي يضم الحقائق الاسلامية كلها عارضاً كل ناحية من نواحي هذا الكون الهائل ومقلباً إياه كمن يقلب خارطة أو ساعة أمامه، معلِّماً الانسانَ صانعَه الخالق سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته. فلا ريب ولابد انه لا يمكن الاتيان بمثل هذا القرآن أبداً، ولا يمكن مطلقاً ان تُنال درجة إعجازه.

وكذا فان الآلاف من العلماء الأفذاذ الذين قام كل منهم بكتابة تفسير للقرآن الكريم في مجلدات بلغ قسم منها ثلاثين أو أربعين مجلداً بل سبعين مجلداً، وبيانهم بأسانيدهم ودلائلهم لما في القرآن الكريم مما لايحد من المزايا السامية والنكات البليغة والخواص الدقيقة والاسرار اللطيفة والمعاني الرفيعة والاخبارات الغيبية الكثيرة بأنواعها المختلفة، وإظهار كل هؤلاء لتلك المزايا واثباتهم لها دليل قاطع أن القرآن الكريم معجزة إلهية خارقة وبخاصة اثبات كل كتاب من كتب رسائل النور البالغة مائة وثلاثين كتاباً لمزية من مزايا القرآن الكريم ولنكتة من نكاته البديعة إثباتاً قاطعاً بالبراهين الدامغة، ولاسيما رسالة (المعجزات القرآنية)، و(المقام الثاني من الكلمة العشرين) الذي يستخرج كثيراً من خوارق الحضارة من القرآن الكريم أمثال القطار والطائرة. و(الشعاع الاول) المسمى (بالاشارات القرآنية) الذي يبين اشارات آيات الى رسائل النور والى الكهرباء، والرسائل الصغيرة الثمانية المسماة (بالرموزات الثمانية) التي تبين مدى الانتظام الدقيق في حروف القرآن الكريم، وكم هي ذات أسرار ومعان غزيرة، والرسالة الصغيرة التي تبين خواتيم سورة الفتح وتثبت إعجازها بخمسة وجوه من حيث الاخبار الغيبي، وأمثالها من الرسائل.. فان إظهار كل جزء من أجزاء رسائل النور لحقيقة من حقائق القرآن الكريم، ولنور من أنواره كل ذلك تصديق وتأكيد بان القرآن الكريم ليس له مثيل، وانه معجزة وخارقة، وانه لسان الغيب في عالم الشهادة هذا، وانه كلام علاّم الغيوب.

وهكذا، لأجل مزايا وخواص القرآن الكريم هذه التي أشير اليها في ست نقاط، وفي ست جهات، وفي ستة مقامات، دامت حاكميته النورانية الجليلة وسلطانه المقدس المعظم، بكمال الوقار والاحترام مضيئة وجوه العصور ومنورة وجه الأرض أيضاً، طوال ألف وثلاثمائة سنة. ولأجل تلك الخواص أيضاً نال القرآن الكريم ميزات قدسية حيث ان لكل حرف من حروفه عشرة أثوبة وعشر حسنات في الأقل، وعشر ثمار خالدة، بل ان كل حرف من حروف قسم من الآيات والسور يثمر مائة أو ألفاً أو أكثر، من ثمار الآخرة، ويتصاعد نور كل حرف وثوابه وقيمته في الأوقات المباركة من عشرة الى المئات.. وامثالها من المزايا القدسية قد فهمها سائح العالم، فخاطب قلبه قائلاً:

- حقاً إن هذا القرآن الكريم المعجز في كل ناحية من نواحيه قد شهد باجماع سوره وباتفاق آياته، وبتوافق أسراره وأنواره، وبتطابق ثماره وآثاره، شهادةً ثابتة بالدلائل على وجود واجب الوجود، وعلى وحدانيته سبحانه، وعلى صفاته الجليلة، وعلى أسمائه الحسنى، حتى ترشحت الشهادات غير المحدودة لجميع أهل الايمان من تلك الشهادة.

وهكذا، فقد ذكرت في المرتبة السابعة عشرة من المقام الأول اشارة قصيرة لما تلقاه السائح هذا، من درس التوحيد والايمان من القرآن الكريم:

لا إله إلا الله الواجب الوجود الواحد الاحد الذي دَلَّ على وجوب وجوده في وحدتهِ: القرآن المعجز البيان، المقبولُ المرغوبُ لأجناس المَلَكِ والإنس والجانِ، المقروء كل آياته في كل دقيقة بكمال الاحترام، بألسنة مئات الملايين من نوع الانسان، الدّائم سَلطنتهُ القدسيةُ على أقطار الأرض والاكوان، وعلى وجوهِ الاعصار والزمان، والجاري حاكميته المعنوية النورانية على نصف الأرض وخُمس البشر في أربعة عشر عصراً بكمال الاحتشام.. وكذا شَهِدَ وبرهن باجماع سورِهِ القدسية السماوية، وباتفاق آياته النورانية الإلهية وبتوافق أسراره وأنواره وبتطابق حقائقه وثمراته وآثاره بالمشاهدة والعيان.

الذيل الثاني

المسألة العاشرة من الشعاع الحادي عشر ((رسالة الثمرة))

زهرة اميرداغ

[ رد شاف ومقنع على اعتراضات ترد حول التكرار في القرآن الكريم ]

اخواني الاعزاء الأوفياء!

كنت اعاني من حالة مضطربة بائسة حينما تناولت هذه المسألة بالكتابة، لذا اكتنفها شئ من الغموض لكونها بقيت كما جاءت عفو الخاطر. ولكني ادركت ان تلك العبارات المشوشة تنطوي على اعجاز رائع. فيا اسفى اذ لم استطع ان اوفي حق هذا الاعجاز من الأداء والتعبير. فعبارات الرسالة مهما كانت خافتة الانوار إلاّ انها تعد - من حيث تعلقها بالقرآن الكريم – (عبادة فكرية) و (صَدَفَة) تضم لآلئ نفيسة سامية، فالرجاء ان تصرفوا النظر عن قشرتها وتنعمـوا النظر بما فيها من لآلئ ساطعة. فان وجدتموها جديرة حقاً فاجعلوها (المسألة العاشرة) لرسالة الثمرة، وإلاّ فاقبلوها رسالة جوابية عن تهانيكم.

ولقد اضطررت الى كتابتها في غاية الاجمال والاقتضاب، لما كنت اكابد من سوء التغذية وأوجاع الامراض، حتى انني ادرجت في جملة واحدة منها حقائق وحججاً غزيرة، واتممتها - بفضل الله - في يومين من إيام شهر رمضان المبارك فارجو المعذرة عما بدر مني من تقصير(1).

اخوتي الاوفياء الصادقين!

حينما كنت اتلو القرآن - المعجز البيان - في الشهر المبارك رمضان، تدبّرت في معاني الآيات الثلاث والثلاثين - التي وردت اشاراتُها الى رسائل النور في (الشعاع الأول) - فرأيت أن كل آية منها - بل آيات تلك الصفحة في المصحف وموضوعها - كأنها تطل على رسائل النور وطلابها من جهة نيلهم غيضا من فيضها وحظاً من معانيها - لا سيما آية النور في سورة النور ، فهي تشير بالاصابع العشر الى رسائل النور، كما أن الآيات التي تعقبها - وهي آية الظلمات - تطل على معارضي الرسائل واعدائها بل تعطيهم حصة كبرى، اذ لا يخفى ان مقام تلك الآيات وأبعادها ومراميها غير قاصرة على زمان ومكان معينين بل تشمل الأزمنة والامكنة جميعها، أي تخرج من جزئية الامكنة والازمنة الى كلّيتهما الشاملة، لذا شعرت ان رسائل النور وطلابها انما يمثلون في عصرنا هذا - حق التمثيل - فرداً واحداً من افراد تلك الكلية الشاملة.

ان خطاب القرآن الكريم قد اكتسب الصفة الكلية والسعة المطلقة والرفعة السامية والاحاطة الشاملة؛ لصدوره مباشرة من المقام الواسع المطلق للربوبية العامة الشاملة للمتكلم الازلي سبحانه.. ويكتسبها من المقام الواسع العظيم لمن اُنزل عليه هذا الكتاب، ذلكم النبي الكريم e الممثل للنوع البشري والمخاطب باسم الأنسانية قاطبة، بل باسـم الكائنات جميعاً.. ويكتسبها ايضاً من توجه الخطاب الى المقام الواسع الفسيح لطبقات البشرية كافة وللعصور كافة.. ويكتسبها أيضاً من المقام الرفيع المحيط النابع من البيان الشافي لقوانين الله سبحانه المتعلقة بالدنيا والآخرة،بالارض والسماء، بالازل والابد، تلك القوانين التي تخص ربوبيته وتشمل امور المخلوقات كافة.

فهذا الخطاب الجليل الذي اكتسب من السعة والسمو والاحاطة والشمول ما اكتسب، يبرز اعجازاً رائعاً وإحاطة شاملة، بحيث:

ان مراتبه الفطرية والظاهرية التي تلاطف أفهام العوام البسيطة - وهم معظم المخاطبين - تمنح في الوقت نفسه حصة وافرة لأعلى المستويات الفكرية ولأرقى الطبقات العقلية، فلا يهب لمخاطبيه شيئاً من ارشاداته وحدها، ولا يخصهم بعبرة من حكاية تأريخية فقط، بل يخاطب مع ذلك كل طبقة في كل عصر - لكونها فرداً من افراد دستور كلي - خطاباً ندياً طرياً جديداً كأنه الآن ينزل عليهم.

ولا سيما كثرة تكراره: ((الظالمين... الظالمين..)) وزجره العنيف لهم وانذاره الرهيب من نزول مصائب سماوية وأرضية بذنوبهم ومظالمهم، فيلفت الأنظار - بهذا التكرار - الى مظالم لا نظير لها في هذا العصر، بعرضه أنواعاً من العذاب والمصائب النازلة على قوم عاد وثمود وفرعون. وفي الوقت نفسه يبعث السلوان والطمأنينة الى قلوب المؤمنين المظلومين، بذكره نجاة رسل كرام امثال ابراهيم وموسى عليهما السلام.

ثم ان هذا القرآن العظيم يرشد كل طبقة من كل عصر ارشاداً واضحاً باعجاز رائع مبيناً:

ان (الازمنة الغابرة) والعصور المندثرة التي هي في نظر الغافلين الضالين واد من عدم سحيق موحش رهيب، ومقبرة مندرسة أليمة كئيبة، يعرضها صحيفة حية تطفح عبراً ودروساً، وعالماً عجيباً ينبض بالحياة ويتدفق بالحيوية من أقصاه الى أقصاه، ومملكِة ربانية ترتبط معنا بوشائج وأواصر فيبينها - باعجازه البديع - واضحة جليلة كأنها مشهودة تعرض أمامنا على شاشة، فتارة يأتي بتلك العصور ماثلة شاخصة أمامنا، وتارة يأخذنا الى تلك العصور.

ويبين بالاعجاز نفسه (الكون) الذي يراه الغافلون فضاء موحشاً بلا نهاية، وجمادات مضطربة بلا روح تتدحرج في دوامة الفراق والآلام، يبينه القرآن: كتاباً بليغاً، كتبه الأحد الصمد، ومدينة منسقة عمرها الرحمن الرحيم، ومعرضاً بديعاً أقامه الرب الكريم لإشهار مصنوعاته. فيبعث بهذا البيان حياة في تلك الجمادات، ويجعل بعضها يسعى لإمداد الآخر، وكل جزء يغيث الآخر ويعينه، كأنه يحاوره محاورة ودية صميمة، فكل شئ مسخر وكل شئ انيط به وظيفة وواجب.. وهكذا يلقي القرآن دروس الحكمة الحقيقية والعلم المنور الى الانس والجن والملائكة كافة. فلا ريب ان هذا القرآن العظيم - الذي له هذا الاعجاز في البيان - قمين بأن يحوز خواص راقية عالية، وميزات مقدسة سامية، امثال:

في كل حرف منه عشر حسنات، بل ألف حسنة أحياناً، بل ألوف الحسنات في احيان أخرى.. وعجز الجن والأنس عن الأتيان بمثله ولو اجتمعوا له.. ومخاطبته بني آدم جميعهم بل الكائنات برمتها مخاطبة بليغة حكيمة.. وحرص الملايين من الناس في كل عصر على حفظه عن ظهر قلب بشوق ومتعة.. وعدم الســأم من تــلاوته الكثيــرة رغم تــكراراتــه.. واســتــقراره الـتــام في اذهــان الصغــار اللطيــفة البسيطــة مع كثرة ما فيه من جمل ومواضع تلتبس عليهم.. وتلذذ المرضى والمحتضرين - الذين يتألمون حتى من أدنى كلام - بسماعه، وجريانه في اسماعهم عذباً طيباً.. وغيرها من الخواص السامية والمزايا المقدسة التي يحوزها القرآن الكريم، فيمنح قرّاءه وتلاميذه انواعاً من سعادة الدارين.

ويظهر اعجازه الجميل ايضاً في (اسلوب ارشاده البليغ) حيث راعى أحسن الرعاية أمية مبلغه الكريم e باحتفاظه التام على سلاسته الفطرية، فهو أجلّ من ان يدنو منه تكلف او تصنع او رياء - مهما كان نوعه - فجاء اسلوبه مستساغاً لدى العوام الذين هم اكثرية المخاطبين ملاطفاً بساطة اذهانهم بتنزلاته الكلامية القريبة من أفهامهم.. باسطاً امامهم صحائف ظاهرة ظهوراً بديهياً كالسموات والارض.. موجهاً الانظار الى معجزات القدرة الإلهية وسطور حكمته البالغة المضمرتين تحت العاديات من الامور والاشياء.

ثم ان القرآن الكريم يظهر نوعاً من اعجازه البديع ايضاً في (تكراره البليغ) لجملة واحدة، او لقصة واحدة، وذلك عند ارشاده طبقات متباينة من المخاطبين الى معان عدة، وعبر كثيرة في تلك الآية أو القصة، فاقتضى التكرار حيث أنه: كتاب دعاء ودعوة كما انه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار، فكل ما كرر في القرآن الكريم اذاً من آية أو قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة.

ويظهر إعجازه ايضاً عند تناوله (حوادث جزئية) وقعت في حياة الصحابة الكرام اثناء نزوله وارسائه بناء الاسلام وقواعد الشريعة فتراه يأخذ تلك الحوادث بنظر الاهتمام البالغ، مبيناً بها: أن أدق الامور لأصغر الحوداث جزئية انما هي تحت نظر رحمته سبحانه، وضمن دائرة تدبيره وإرادته، فضلا عن انه يظهر بها سنناً إلهية جارية في الكون ودساتير كلية شاملة. زد على ذلك ان تلك الحوادث - التي هي بمثابة النويات عند تأسيس الإسلام والشريعة ستثمر فيما يأتي من الازمان ثماراً يانعة من الأحكام والفوائد.

ان تكرر الحاجة يستلزم التكرار، هذه قاعدة ثابتة، لذا فقد أجاب القرآن الكريم عن أسئلة مكررة كثيرة خلال عشرين سنة فارشد باجاباته المكررة طبقات كثيرة متباينة من المخاطبين. فهو يكرر جملاً تملك ألوف النـتــائـج، ويكرر ارشادات هي نتيجة لأدلة لاحد لها، وذلك عند ترسيخه في الأذهان وتقريره في القلوب ما سيحدث من انقلاب عظيم وتبدل رهيب في العالم وما سيصيبه من دمار وتفتت الاجزاء، وما سيعقبه من بناء الآخرة الخالدة الرائعة بدلا من هذا العالم الفاني.

ثم انه يكرر تلك الجمل والآيات ايضاً عند اثباته: ان جميع الجزئيات والكليات ابتداء من الذرات الى النجوم انما هي في قبضة واحد أحد سبحانه وضمن تصرفه جل شأنه.

ويكررها ايضاً عند بيانه الغضب الإلهي والسخط الرباني على الانسان المرتكب للمظالم عند خرقه الغاية من الخلق، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والأرض والسماء والعناصر وتؤجج غضبها على مقترفيها.

لذا فان تكرار تلك الجمل والآيات عند بيان امثال هذه الأمور العظيمة الهائلة لايعد نقصاً في البلاغة قط، بل هو اعجاز في غاية الروعة والإبداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة، وجزالة - بل فصاحة - مطابقة تطابقاً تاماً لمقتضى الحال، فعلى سبيل المثال:

C ان جملة ] بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ[ هي آية واحدة تتكرر مائة واربع عشرة مرة في القرآن الكريم ذلك لأنها حقيقة كبرى تملأ الكون نوراً وضياء وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق - كما بيناها في اللمعة الرابعة عشرة - فما من أحد إلاّ وهو بحاجة مسيسة الى هذه الحقيقة في كل حين، فلو تكررت هذه الحقيقة العظمى ملايين المرات، فالحاجة ما زالت قائمة باقية لا ترتوي. اذ ليست هي حاجة يومية كالخبز، بل هي ايضاً كالهواء والضياء الذي يُضطر اليه ويشتاق كل دقيقة.

C وان الآية الكريمة ] وان ربك لهو العزيز الرحيم[ تتكرر ثماني مرات في سورة (الشعراء). فتكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على الوف الحقائق في سورة تذكُر نجاة الأنبياء عليهم السلام وعذاب اقوامهم، انما هو لبيان:

ان مظالم اقوامهم تمس الغاية من الخلق، وتتعرض الى عظمة الربوبية المطلقة، فتقتضي العزة الربانية عذابَ تلك الأقوام الظالمة مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الأنبياء عليهم السلام. فلو تكررت هذه الآية الوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق اليها، فالتكرار هنا بلاغة راقية ذات اعجاز وايجاز.

C وكذلك الآية الكريمة ] فبأي آلاء ربكما تكذبان[ المكررة في سورة (الرحمن) والآية الكريمة ] ويل يومئذ للمكذبين[ المكررة في سورة (المرسلات) تصرخ كل منهما في وجه العصور قاطبة وتعلن اعلاناً صريحاً في اقطار السموات والأرض أن كفر الجن والأنس وجحودهم بالنعم الإلهية، ومظالمهم الشنيعة، يثير غضب الكائنات ويجعل الأرض والسموات في حنق وغيظ عليهم... ويخل بحكمة خلق العالم والقصد منه.. ويتجاوز حقوق المخلوقات كافة ويتعدى عليها.. ويستخف بعظمة الالوهية وينكرها، لذا فهاتان الآيتان ترتبطان بألوف من امثال هذه الحقائق، ولهما من الأهمية ما لألوف المسائل وقوتها، لو تكررتا الوف المرات في خطاب عام موجه الى الجن والانس لكانت الضرورة قائمة بعد، والحاجة اليها ما زالت موجودة باقية. فالتكرار هنا بلاغة موجزة جليلة ومعجزة جميلة.

C (ومثال آخر نسوقه حول حكمة التكرار في الحديث النبوي e ) فالمناجاة النبوية المسماة بالجوشن الكبير مناجاة رائعة مطابقة لحقيقة القرآن الكريم ونموذج مستخلص منه. نرى فيها جملة: سبحانك يا لا إله إلاّ انت الأمان الأمان خلصنا من النار.. اجرنا من النار.. نجّنا من النار، هذه الجمل تتكرر مائة مرة، فلو تكررت الوف المرات لما ولدت السأم، إذ أنها تنطوي على أجل حقيقة في الكون وهي التوحيد. وأجل وظيفة للمخلوقات تجاه ربهم الجليل وهي التسبيح والتحميد والتقديس، واعظم قضية مصيرية للبشرية وهي النجاة من النار والخلاص من الشقاء الخالد. وألزم غاية للعبودية وللعجز البشري وهي الدعاء.

وهكذا نرى امثال هذه الأسس فيما تشتمل عليه انواع التكرار في القرآن الكريم. حتى نرى أنه يعبر اكثر من عشرين مرة عن حقيقة التوحيد - صراحة أو ضمناً - في صحيفة واحدة من المصحف وذلك حسب اقتضاء المقام، ولزوم الحاجة الى الافهام، وبلاغة البيان، فيهيج بالتكرار الشوق الى تكرار التلاوة، ويمد به البلاغة قوة وسمواً من دون أن يورث سأماً أو مللاً.

ولقد أوضحت اجزاء رسائل النور حكمة التكرار في القرآن الكريم وبينت حججها واثبتت مدى ملاءمة التكرار وانسجامه مع البلاغة، ومدى حسنه وجماله الرائع.

C أما حكمة إختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة، ومن جهة الاعجاز ومن حيث التفصيل والاجمال فهي كما يأتي:

ان الصف الاول من المخاطبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش وهم اميون لاكتاب لهم، فاقتضت البلاغة اسلوباً عالياً قوياً واجمالاً معجزاً مقنعاً، وتكراراً يستلزمه التثبيت في الافهام؛ لذا بحثت اغلب السور المكية اركان الايمان ومراتب التوحيد باسلوب في غاية القوة والعلو، وبايجاز في غاية الاعجاز، وكررت الايمان بالله والمبدأ والمعاد والاخرة كثيراً، بل قد عبرت عن تلك الاركان الايمانية في كل صحيفة أو اية، او في جملة واحدة، او كلمة واحدة، بل ربما عبرت عنها في حرف واحد، في تقديم وتأخير، في تعريف وتنكير، في حذف وذكر. فاثبتت اركان الايمان في أمثال تلك الحالات والهيئات البلاغية إثباتاً جعل علماء البلاغة وائمتها يقفون حيارى مبهوتين أمام هذا الأسلوب المعجز. ولقد وضّحت رسائل النور ولاسيما ((الكلمة الخامسة والعشرون (المعجزات القرآنية) مع ذيولها)) اعجاز القرآن في أربعين وجهاً من وجوهها، وكذلك تفسير ((إشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) باللغة العربية الذي يبين بياناً رائعاً اعجاز القرآن من حيث وجه النظم بين الآيات الكريمة. فاثبتت كلتا الرسالتين فعلاً علو الأسلوب البلاغي الفذ وسمو الايجاز المعجِز.

أما الآيات المدنية وسورها فالصف الاول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى وهم أهل كتاب مؤمنون بالله. فاقتضت قواعد البلاغة واساليب الإرشاد واسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقاً لواقع حالهم، فجاء باسلوب سهل واضح سلس، مع بيان وتوضيح في الجزئيات - دون الأصول والاركان (الايمانية) - لأن تلك الجزئيات هي منشأ الاحكام الفرعية والقوانين الكلية، ومدار الأختلافات في الشرائع والاحكام. لذا فغالباً ما نجد الآيات المدنية واضحة سلسة باسلوب بياني معجز خاص بالقرآن الكريم. ولكن ذكر القرآن فذلكة قوية أو نتيجة ملخصة أو خاتمة رصينة أو حجة دامغة تعقيباً على حادثة جزئية فرعية، يجعل تلك الحادثة الجزئية قاعدة كلية عامة، ومن بعد ذلك يضمن الامتثال بها بترسيخ الايمان بالله الذي يحققه ذكر تلك الفواصل الختامية الملخصة للتوحيد والايمان والاخرة. فترى أن ذلك المقام الواضح السلس يتنور ويسمو بتلك الفواصل الختامية. (ولقد بينت ((رسائل النور)) واثبتت حتى للمعاندين مدى البلاغة العالية والميزات الراقية وانواع الجزالة السامية الدقيقة الرفيعة في تلك الفذلكات والفواصل وذلك في عشر مميزات ونكت في النور الثاني من الشعلة الثانية للكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن). فان شئت فانظر الى ] ان الله على كل شيء قدير[ ، ] ان الله بكل شيء عليم[ ] وهوالعزيز الحكيم[ ] وهو العزيز الرحيم[ وامثالها من الآيات التي تفيد التوحيد وتذكر بالاخرة، والتي تنتهي بها اغلب الآيات الكريمة، ترَ أن القرآن الكريم عند بيانه الاحكام الشرعية الفرعية والقوانين الاجتماعية يرفع نظر المخاطب الى آفاق كلية سامية، فيبدل ـ بهذه الفواصل الختامية - ذلك الأسلوب السهل الواضح السلس اسلوباً عالياً رفيعاً، كأنه ينقل القارئ من درس الشريعة الى درس التوحيد. فيثبت أن القرآن: كتاب شريعة واحكام وحكمة، كما هو كتاب عقيدة وايمان، وهو كتاب ذكر وفكر، كما هو كتاب دعاء ودعوة.

وهكذا ترى أن هناك نمطاً من جزالة معجزة ساطعة في الآيات المدنية هو غير بلاغة الآيات المكية، حسب اختلاف المقام وتنوع مقاصد الأرشاد والتبليغ.

فقد ترى هذا النمط في كلمتين فقط: ] ربك[ و ] رب العالمين[ إذ يعلّم الأحدية بتعبير ] ربك[ ويعلّم الواحدية بـ ] رب العالمين[ ، علما ان الواحدية تـتضمن الأحدية.

بل قد ترى ذلك النمط من البلاغة في جملة واحدة فيريك في آية واحدة مثلا نفوذ علمه الى موضع الذرة في بؤبؤ العين وموقع الشمس في كبد السماء، واحاطة قدرته التي تضع بالآلة الواحدة كلاً في مكانه، جاعلة من الشمس كأنها عين السماء فيعقب ] وهو عليم بذات الصدور[ بعد آية ] يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل[ (الحديد:6) أي يعقب نفوذ علمه سبحانه الى خفايا الصدور بعد ذكره عظمة الخلق في السموات والأرض وبسطها أمام الأنظار. فيقر في الأذهان أنه يعلم خواطر القلوب وخوافي شؤونها ضمن جلال خلاقيته للسموات والأرض وتدبيره لشؤونها. فهذا التعقيب: ] وهو عليم بذات الصدور[ لون من البيان يحول ذلك الأسلوب السهل الواضح الفطري - القريب الى افهام العوام - الى ارشاد سامٍ وتبليغ عام جذاب.

سؤال: ان النظرة السطحية العابرة لا تستطيع ان ترى ما يورده القرآن الكريم من حقائق ذات اهمية، فلا تعرف نوع المناسبة والعلاقة بين فذلكة تعبر عن توحيد سام أو تفيد دستوراً كلياً، وبين حادثة جزئية معتادة؛ لذا يتوهم البعض ان هناك شيئاً من قصور في البلاغة، فمــثــلاً لا تظهــر المناســبة البلاغية في ذكر دســـتور عظـيم:

] وفوق كل ذي علم عليم[ تعقيباً على حادثة جزئية وهي ايواء يوسف عليه السلام أخاه اليه بتدبير ذكي. فيرجى بيان السر في ذلك وكشف الحجاب عن حكمته؟

الجواب: ان اغلب السور المطولة والمتوسطة - التي كل منها كأنها قرآن على حدة - لا تكتفي بمقصدين او ثلاثة من مقاصد القرآن الاربعة (وهي: التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية) بل كل منها يتضمن ماهية القرآن كلها، والمقاصد الأربعة معاً، أي كل منها: كتاب ذكر وايمان وفكر، كما أنه كتاب شريعة وحكمة وهداية. فكل سورة من تلك السُوَر تتضمن كُتباً عدة، وترشد الى دروس مختلفة متنوعة. فتجد ان كل مقام - بل حتى الصحيفة الواحدة - يفتح أمام الإنسان ابواباً للايمان يحقق بها اقرار مقاصد أخرى حيث أن القرآن يذكر ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسخ في اعماق المؤمن احاطة ربوبيته سبحانه بكل شئ، ويريه تجلياتها المهيبة في الآفاق والأنفس. لذا فان ما يبدو من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية فتتلاحق مناسبات وثيقة وعلاقات قوية بتلك المناسبة الضعيفة ظاهراً، فيكون الاسلوب مطابقاً تماماً لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية.

سؤال آخر: ما حكمة سَوق القرآن الوف الدلائل لاثبات امور الآخرة وتلقين التوحيد واثابة البشر؟ وما السر في لفته الانظار الى تلك الامور صراحة وضمناً واشارة في كل سورة بل في كل صحيفة من المصحف وفي كل مقام؟

الجواب: لأن القرآن الكريم ينبه الانسان الى اعظم انقلاب يحدث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تأريخ العالم.. وهو الآخرة. ويرشده الى اعظم مسألة تخصه وهو الحامل للامانة الكبرى وخلافة الأرض.. تلك هي مسألة التوحيد الذي تدور عليه سعادته وشقاوته الأبديتان. وفي الوقت نفسه يزيل القرآن سيل الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم أشد انواع الجحود والانكار المقيت.

لذا لو قام القرآن بتوجيه الانظار الى الأيمان بتلك الأنقلابات المدهشة وحمل الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر.. نعم لو قام به آلاف المرات وكرر تلك المسائل ملايين المرات لايعد ذلك منه إسرافاً في البلاغة قط، كما أنه لايولد سأماً ولا مللاً ألبتة، بل لا تنقطع الحاجة الى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك أهم ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة.

فمثلاً: ان حقيقة الآية الكريمة: ] ان الذين امنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير[ (البروج:11) هي بشرى السعادة الخالدة تزفها هذه الآية الكريمة الى الانسان المسكين الذي يلاقي حقيقة الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من تصور الموت اعداماً أبدياً، وتنجيه - وعالمه وجميع أحبته - من قبضة الفناء، بل تمنحه سلطنة ابدية، وتكسبه سعادة دائمة.. فلو تكررت هذه الآية الكريمة ملياراً من المرات لايعد تكرارها من الاسراف قط، ولا يمس بلاغتها شئ.

وهكذا ترى أن القرآن الكريم الذي يعالج امثال هذه المسائل القيمة ويسعى لاقناع المخاطبين بها باقامة الحجج الدامغة، يعمق في الأذهان والقلوب تلك التحولات العظيمة والتبدلات الضخمة في الكون، ويجعلها أمامهم سهلة واضحة كتبدل المنزل وتغير شكله. فلابد أن لفت الأنظار الى أمثال هذه المسائل - صراحة وضمناً واشارة - بالوف المرات ضروري جداً بل هو كضرورة الإنسان الى نعمة الخبز والهواء والضياء التي تتكرر حاجته اليها دائماً.

C ومثلاً: ان حكمة تكرار القرآن الكريم: ] والذين كفروا لهم نار جهنم[ (فاطر:36) ] ان الظالمين لهم عذاب أليم) (ابراهيم:22) وأمثالها من آيات الانذار والتهديد. وسوقها باسلوب في غاية الشدة والعنف، هي ] مثلما اثبتناها في رسائل النور اثباتاً قاطعاً[ :

ان كفر الانسان انما هو تجاوز - أيّ تجاوز - على حقوق الكائنات واغلب المخلوقات، مما يثير غضب السماوات والارض، ويملأ صدور العناصر حنقاً وغيظاً على الكافرين، حتى تقوم تلك العناصر بصفع اولئك الظالمين بالطوفان وغيره. بل حتى الجحيم تغضب عليهم غضباً تكاد تتفجر من شدته كما هو صريح الآية الكريمة: ] اذا القوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور^ تكاد تميز من الغيظ..[ (الملك: 7-8). فلو يكرر سلطان الكون في اوامره تلك الجناية العظمى (الكفر) وعقوبتها باسلوب في غاية الزجر والشدة ألوف المرات، بل ملايين المرات، بل مليارات المرات لما عد ذلك اسـرافاً مــطلقاً ولا نقصاً في البلاغــة، نظراً لضخامة تلك الجناية العامة وتجاوز الحقوق غير المحدودة، وبناء على حكمة اظهار اهمية حقوق رعيته سبحانه وابراز القبح غير المتناهي في كفر المنكرين وظلمهم الشنيع. اذ لا يكرر ذلك لضآلة الأنسان وحقارته بل لهول تجاوز الكافر وعظم ظلمه.

ثم اننا نرى ان مئات الملايين من الناس منذ الف ومئات من السنين يتلون القرآن الكريم بلهفة وشوق وبحاجة ماسة اليه دون ملل ولاسأم.

نعم، ان كل وقت وكل يوم إنما هو عالمٌ يمضي وباب ينفتح لعالم جديد لذا فان تكرار (لا إله إلا الله) بشوق الحاجة اليها ألوف المرات لأجل اضاءة تلك العوالم السيارة كلها وانارتها بنور الايمان، يجعل تلك الجملة التوحيدية كأنها سراج منير في سماء تلك العوالم والايام. فكما أن الأمر هكذا في (لا إله إلاّ الله) كذلك تلاوة القرآن الكريم فهي تبدد الظلام المخيم على تلك الكثرة الكاثرة من المشاهد السارية، وعلى تلك العوالم السيارة المتجددة، وتزيل التشوه والقبح عن صورها المنعكسة في مرآة الحياة، وتجعل تلك الاوضاع المقبلة شهوداً له يوم القيامة لا شهوداً عليه. وترقّيه الى مرتبة معرفة عِظَم جزاء الجنايات، وتجعله يدرك قيمة النذر المخفية لسلطان الازل والابد التي تشتت عناد الظالمين الطغاة، وتشوّقه الى الخلاص من طغيان النفس الأمارة بالسوء.. فلأجل هذه الحكم كلها يكرر القرآن الكريم ما يكرر في غاية الحكمة، مظهراً ان النذر القرآنية الكثيرة الى هذا القدر، وبهذه القوة والشدة والتكرار حقيقة عظمى، ينهزم الشيطان من توهمها باطلا، ويهرب من تخيلها عبثاً. نعم ان عذاب جهنم لهو عين العدالة لأولئك الكفار الذين لا يعيرون للنذر سمعاً.

C ومن المكررات القرآنية ((قصص الانبياء)) عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام. - مثلاً - التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الأنبياء انما هي لاثبات الرسالة الأحمدية وذلك بأظهار نبوة الانبياء جميعهم حجةً على احقية الرسالة الاحمدية وصدقها؛ حيث لا يمكن أن ينكرها إلاّ من ينكر نبوتهم جميعاً. فذكرها اذن دليل على الرسالة.

ثم إن كثيراً من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفقون الى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما يتيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتـوسـطة بمـثــابة قرآن مصغر، ومن ثم تــكرار الـقــصص فيهــا بمثـل تكرار أركان الايمان الضرورية. أي أن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه اسراف قط. زد على ذلك فان فيه تعليماً بأن حادثة ظهور محمد e أعظم حادثة للبشرية واجلّ مسألة من مسائل الكون.

C نعم! ان منح ذات الرسول الكريم e اعظم مقام واسماه في القرآن الكريم، وجعل (محمد رسول الله) - الذي يتضمن اربعة من اركان الايمان - مقروناً بـ (لا إله إلاّ الله) دليل وأي دليل على أن الرسالة المحمدية هي اكبر حقيقة في الكون، وان محمداً e لهو اشرف المخلوقات طراً. وان الحقيقة المحمدية التي تمثل الشخصية المعنوية الكلية لمحمد e هي السراج المنير للعالمين كليهما، وانه e أهل لهذا المقام الخارق، كما قد اثبت ذلك في أجزاء رسائل النور بحجج وبراهين عديدة اثباتاً قاطعاً. نورد هنا واحداً من الف منها. كما يأتي:

ان كل ما قام به جميع أمة محمد e من حسنات في الازمنة قاطبة يكتب مثلها في صحيفة حسناته e ، وذلك حسب قاعدة ((السبب كالفاعل)).

وان تنويره لجميع حقائق الكائنات بالنور الذي اتى به لا يجعل الجن والأنس والملائكة وذوي الحياة في امتنان ورضى وحدهم بل يجعل الكون برمته والسماوات والأرض جميعاً راضية عنه محدثة بفضائله.

وان ما يبعثه صالحو الامة - الذين يبلغون الملايين - يومياً من أدعية فطرية مستجابة لا ترد - بدلالة القبول الفعلي المشاهد لأدعية النباتات بلسان الاستعداد، وادعية الحيوانات بلسان حاجة الفطرة - ومن ادعية الرحمة بالصلاة والسلام عليه ، وما يرسلونه بما ظفروا من مكاسب معنوية وحسنات هداياً، انما تقدم اليه اولاً.

فضلاً عما يدخل في دفتر حسناته e من أنوار لا حدود لها بما تتلوه أمته - بمجرد التلاوة - من القرآن الكريم الذي في كل حرف من حروفه - التي تزيد على ثلاثمائة الف حرف - عشر حسنات وعشر ثمار اخروية، بل مائة بل الف من الحسنات..

نعم! ان علام الغيوب سبحانه قد سبق علمه وشاهد أن الحقيقة المحمدية التي هي الشخصية المعنوية لتلك الذات المباركة e ستكون كمثال شجرة طوبى الجنة، لذا أولاه في قرآنه تلك الأهمية العظمى حيث هو المستحق لذلك المقام الرفيع. وبيّن في اوامره بأن نيل شفاعته انما هو باتباعه والاقتداء بسنته الشريفة وهو أعظم مسألة من مسائل الأنسان. بل أخذ بنظر الاعتبار - بين حين وآخر - اوضاعه الانسانية البشرية التي هي بمثابة بذرة شجرة طوبى الجنة.

وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملك هذه القيمة الراقية وفيها من الحكم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أن في تكراره معجزة معنوية قوية وواسعة، الاّ مَن مرض قلبه وسقم وجدانه بطاعون المادية، فتشمله القاعدة المشهورة:

قد ينكر المرء ضوء الشمس من رمد وينكــر الفم طعم الـماء مـن سـقم





خاتمة هذه المسألة العاشرة في حاشيتين:

الحاشية الاولى:

طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، ان زنديقاً عنيداً، قد فضح سوء طويته وخبث قصده باقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته. وصرح قائلاً: ليترجم القرآن لتظهر قيمته؟ أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتتلى ترجمته بدلاً منه! الى آخره من الافكار السامة. الا أن رسائل النور بفضل الله قد شلت تلك الفكرة واجهضت تلك الخطة بحججها الدامغة وبأنتشارها الواسع في كل مكان، فاثبتت اثباتاً قاطعاً أنه:

لا يمكن قطعاً ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية.. وان أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة.. وان الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل - بأي حال - محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة الى الألف، لذا لا يمكن مطلقاً تلاوة الترجمة بدلاً منه.

بيد ان المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعوا بمحاولات هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نور القرآن الكريم بأفواههم. ولكن لما كنت لا التقي احداً، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من أوضاع، الاّ ان اغلب ظني ان ما أوردته آنفاً هو السبب الذي دعا الى إملاء هذه (المسألة العاشرة) علي، رغم ما يحيط بي من ضيق.

الحاشية الثانية:

كنت جالساً ذات يوم في الطابق العلوي من فندق (شهر) عقب اطلاق سراحنا من سجن (دنيزلي) أتأمل فيما حوالي من اشجار الحَوَر (الصفصاف) الكثيرة في الحدائق الغناء والبساتين الجميلة، رأيتها جذلانة بحركاتها الراقصة الجذابة، تتمايل بجذوعها وأغصانها، وتهتز اوراقها بادنى لمسة من نسيم. فبدت أمامي بابهى صورة واحلاها، وكأنها تسبح لله في حلقات ذكر وتهليل.

مسّت هذه الحركات اللطيفة أوتار قلبي المحزون من فراق إخواني، وانا مغموم لانفرادي وبقائي وحيداً.. فخطر على البـال – فجأة – موســما الخريف والشتاء وانتابتني غفلة، اذ ستتناثر الاوراق وسيذهب الرواء والجمال.. وبدأت أتألم على تلك الحَوَر الجميلة، واتحسر على سائر الأحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألما شديداً حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزان تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات!.

وبينما أنا في هذه الحالة المحزنة اذا بالنور الذي اتت به الحقيقة المحمدية e يغيثني - مثلما يغيث كل مؤمن ويسعفه - فبدّل تلك الأحزان والغموم التي لا حدود لها مسرات وأفراحاً لاحد لها، فبتّ في امتنان أبدي ورضى دائم من الحقيقة المحمدية التي انقذني فيض واحد من فيوضات انوارها غير المحدودة فنشر ذلك الفيض السلوان في ارجاء نفسي واعماق وجداني، وكان ذلك كالآتي:

ان تلك النظرة الغافلة أظهرت تلك الاوراق الرقيقة والاشجار الفارعة الهيفاء من دون وظيفة ولا مهمة، لا نفع لها ولا جدوى، وانها لا تهتز اهتزازها اللطيف من شدة الشوق والنشوة بل ترتعد من هول العدم والفراق.. فتبّاً لها من نظرة غافلة اصابت صميم ما هو مغروز فيّ - كما هو عند غيري - من عشق للبقاء، وحب الحياة، والافتتان بالمحاسن، والشفقة على بني الجنس.. فحولت الدنيا الى جهنم معنوية، والعقل الى عضو للشقاء والتعذيب. فبينما كنت اقاسي هذا الوضع المؤلم، اذا بالنور الذي أنار به محمد e البشرية جمعاء يرفع الغطاء ويزيل الغشاوة ويبرز حِكَماً ومعاني ووظائف ومهمات غزيرة جداً تبلغ عدد اوراق الحَوَر. وقد اثبتت رسائل النور ان تلك الوظائف والحكم تنقسم الى ثلاثة أقسام:

القسم الاول: وهو المتوجه الى الاسماء الحسنى للصانع الجليل. فكما ان صانعاً ماهراً اذا ما قام بصنع ماكنة بديعة، يثني عليه الجميع ويقدرون صنعته ويباركون ابداعه، فان تلك الماكنة هي بدورها كذلك تبارك صانعها وتثني عليه بلسان حالها، وذلك باراءتها النتائج المقصودة منها اراءة تامة.

اما القسم الثاني: فهو المـتوجه الى انظــار ذوي الحياة وذوي الشعـور من المخلوقات أي يكون موضــع مطالعة حلــوة وتأمل لذيذ، فيــكون كل شــئ كأنه كتاب معرفة وعـلـم، ولا يغادر هذا العالَم - عالم الشهادة - الاّ بعد وضع معانيه في اذهان ذوي الشعور، وطبع صوره في حافظتهم، وانطباع صورته في الالواح المثالية لسجلات علم الغيب، أي لا ينسحب من عالم الشهادة الى عالم الغيب إلا بعد دخوله ضمن دوائر وجود كثيرة ويكسـب انواعا من الوجود المعنـوي والغيـبي والعلمي.

نعم ما دام الله موجوداً، وعلمه يحيط بكل شئ، فلابد ان لا يكون هناك في عالم المؤمن عدم، واعدام، وانعدام، وعبث، ومحو، وفناء، من زاوية الحقيقة.. بينما دنيا الكفار زاخرة بالعدم والفراق والانعدام ومليئة بالعبث والفناء ومما يوضح هذه الحقيقة ما يدور على الالسنة من قول مشهور هو: ((من كان له الله كان له كل شئ، ومن لم يكن له الله لم يكن له شئ)).

الخلاصة: ان الايمان مثلما ينقذ الانسان من الاعدام الأبدي اثناء الموت، فهو ينقذ دنيا كل شخص ايضاً من ظلمات العدم والانعدام والعبث. بينما الكفر - ولا سيما الكفر المطلق - فانه يعدم ذلك الانسان، ويعدم دنياه الخاصة به بالموت. ويلقيه في ظلمات جهنم معنوية محولاً لذائذ حياته آلاماً وغصصاً.

فلْترنّ آذان الذين يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة، وليأتوا بعلاج لهذا الامر ان كانوا صادقين، أو ليدخلوا حظيرة الايمان ويخلصوا انفسهم من هذه الخسارة الفادحة.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[



أخوكم الراجي دعواتكم والمشتاق اليكم

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-02-2011 11:40 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السادسة والعشرون

رسالة القدر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واِنْ مِنْ شيءٍ الاّ عندنا خزائنُهُ وما نُنَزّله اِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلومٍ[ (الحجر:21)

] وكلّ شيءٍ اَْحْصَيناه في إمامٍ مُبينٍ[ (يس:12)

[ القدر الإلهي والجزء الاختياري مسألتان مهمتان. نحاول حلّ بعض اسرارهما في اربعة مباحث تخص القدر]



المبحث الاول

ان القدر والجزء الاختياري جزءان من ايمان حالي ووجداني، يبيّن نهاية حدود الايمان والاسلام، وليسا مباحث علمية ونظرية.

اي: ان المؤمن يعطي للهكل شئ، ويحيل اليه كل أمر، وما يزال هكذا حتى يحيل فعله ونفسه اليه.ولكي لا ينجو في النهاية من التكليف والمسؤولية يبرز امامه الجزء الاختياري قائلاً له: ((انت مسؤول، أنت مكلّف))!

ثم انه لكي لا يغتر بما صدر عنه من حسنات وفضائل، يواجهه القدر، قائلاً له: ((اعرف حدّك، فلست انت الفاعل)).

اجل! ان القدر والجزء الاختياري هما في اعلى مراتب الايمان والاسلام قد دخلا ضمن المسائل الايمانية، لانهما ينقذان النفس الانسانية.. فالقدر ينقذها من الغرور، والجزء الاختياري ينجيها من الشعور بعدم المسؤولية. وليسا من المسائل العلمية والنظرية التي تفضي الى ما يناقض سر القدر وحكمة الجزء الاختياري كلياً بالتشبث بالقدر للتبرئة من مسؤولية السيئات التي اقترفتها النفوس الامارة بالسوء والافتخار بالفضائل التي اُنعمت عليها والاغترار بها واسنادها الى الجزء الاختياري.

اجل! ان العوام الذين لم يبلغوا مرتبة ادراك سر القدر لهم مواضع لاستعماله، ولكن هذه المواضع تنحصر في الماضيات من الامور وبخصوص المصائب والبلايا والذي هو علاج اليأس والحزن، وليس في امور المعاصي أو في المقبلات من الايام، والذي ينتفي كونه مساعداً على اقتراف الذنوب والتهاون في التكاليف.

بمعنى ان مسألة القدر ليست للفرار من التكليف والمسؤولية، بل هو لإنقاذ الانسان من الفخر والغرور، ولهذا دخلت ضمن مسائل الايمان.

أما الجزء الاختياري، فقد دخل ضمن مباحث العقيدة ليكون مرجعاً للسيئات، لا ليكون مصدراً للمحاسن والفضائل التي تسوق الى الطغيان والتفرعن.

نعم! ان القرآن الكريم يبين ان الانسان مسؤول عن سيئاته مسؤولية كاملة. لأن الانسان هو الذي اراد السيئات. ولما كانت السيئات من قبيل التخريبات، لذا يستطيع الانسان ان يوقع دماراً هائلاً بسيئة واحدة، كإحراق بيت كامل بعود ثقاب، وبذلك يستحق انزال عقاب عظيم به.

أما في الحسنات، فليس له الحق في الفخر والمباهاة، لأن حصته فيها ضئيلة جداً، لأن الرحمة الإلهية هي التي ارادت الحسنات، واقتضتها. والقدرة الربانية هي التي اوجدتها، فالسؤال والجواب والسبب والداعي كلاهما من الحق سبحانه وتعالى. ولا يكون الانسان مالكاً لهذه الحسنات وصاحباً لها الاّ بالدعاء والتضرع، وبالايمان، وبالشعور بالرضى عنها. بينما الذي اراد السيئات هو النفس الانسانية، إما بالاستعداد او بالاختيار، مثلما تكتسب بعض المواد التعفن والاسوداد من ضياء الشمس الجميل اللامع، فذلك الاسوداد انما يعود الى استعداد تلك المادة، ولكن الذي يوجد تلك السيئات بقانون إلهي متضمن لمصالح كثيرة انما هو الله سبحانه ايضاً. اي أن التسبب والسؤال هما من النفس الانسانية بحيث تتحمل المسؤولية عنها. أما الخلق والايجاد الخاص به سبحانه وتعالى فهو جميل، لأن له ثمرات اخرى جميلة، ونتائج شتى جميلة، فهو خير.

ومن هذا السر يكون خلق الشر ليس شراً، وانما كسب الشر شر، اذ لا يحق لكسلان قد تأذى من المطر - المتضمن لمصالح غزيرة - ان يقول:المطر ليس رحمة.

نعم! ان في الخلق والايجاد خيراً كثيراً مع تضمنه لشر جزئي، وان ترك خير كثير لأجل شر جزئي، يحدث شراً كثيراً، لذا فان ذلك الشــر الجزئي يعدّ خيــراً وفي حكمه. فليس في الخلق الإلهي شرٌ ولا قبح، بل يعود الشر الى كسب العبد والى استعداده.

وكما ان القدر الإلهي منزّه عن القبح والظلم، من حيث النتيجة والثمرات، كذلك فهو مقدّس عن القبح والظلم من حيث العلة والسبب، لأن القدر الإلهي ينظر الى العلل الحقيقية، فيعدل. بينما الناس يبنون احكامهم على ما يشاهدونه من علل ظاهرة فيرتكبون ظلماً ضمن عدالة القدر نفسه.

فمثلاً: هب ان حاكماً قد حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة، وانت برئ منها، ولكن لك قضية قتل مستورة لا يعرفها الاّ الله.

فالقدر الإلهي قد حكم عليك بذلك السجن، وقد عدل من أجل ذلك القتل المستور عن الناس. أما الحاكم فقد ظلمك، حيث حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة وانت منها برئ.

وهكذا ففي الشئ الواحد تظهر جهتان، جهة عدالة القدر والايجاد الإلهي، وجهة ظلم البشر وكسبه. قس بقية الامور على هذا.

اي ان القدر والايجاد الإلهي منزّهان عن الشر والقبح والظلم، باعتبار المبدأ والمنتهى والاصول والفروع والعلل والنتائج.

واذا قيل:

ما دام الجزء الاختياري لا قابلية له في الايجاد، ولا يوجد في يد الانسان غير الكسب الذي هو في حكم امر اعتباري، فكيف يكون اذن شكوى القرآن المعجز البيان من هذا الانسان شكاوى عظيمة تجاه عصيانه خالق السموات والارض؛ حتى كأنه اُعطي له وضع العدو العاصي، بل يرسل سبحانه جنوده الملائكة لإمداد العبد المؤمن تجاه ذلك العاصى، بل يُمدّه خالق السموات والارض بنفسه.. فِلمَ هذه الأهمية البالغة؟

الجواب: لأن الكفر والعصيان والسيئة كلها تخريب وعدم، ويمكن ان تترتب تخريبات هائلة وعدمات غير محدودة على امرٍ اعتباري وعدمي واحد. اذ كما ان عدم ايفاء ملاح سفينة ضخمة بوظيفته يغرق السفينة، ويفسد نتائج اعمال جميع العاملين فيها، لترتب جميع تلك التخريبات الجسيمة على عمل عدمٍ واحد، كذلك الكفر والمعصية، لكونهما نوعاً من العدم والتخريب، فيمكن ان يحركهما الجزء الاختياري بأمر اعتباري، فيسببان نتائج مريعة. لأن الكفر وان كان سيئة واحدة؛ الاّ انه تحقير لجميع الكائنات بوصمها بالتفاهة والعبثية، وتكذيب لجميع الموجودات الدالة على الوحدانية، وتزييف لجميع تجليات الاسماء الحسنى. فان تهديده سبحانه وتعالى وشكواه باسم الكائنات قاطبة، والموجودات كافة والاسماء الإلهية الحسنى؛ كلها من الكافر شكاوى عنيفة وتهديدات مريعة هو عين الحكمة وان تعذيبه بعذاب خالد هو عين العدالة.

وحيث ان الانسان لدى انحيازه الى جانب التخريب بالكفر والعصيان، يسبب دماراً رهيباً بعمل جزئي، فان اهل الايمان محتاجون اذن، تجاه هؤلاء المخربين، الى عناية إلهية عظيمة، لأنه اذا تعهّد عشرة من الرجال الأقوياء بالحفاظ على بيت وتعميره، فان طفلاً شريراً في محاولته احراق البيت، يُلجئ اولئك الرجال الى الذهاب الى وليّه بل التوسل الى السلطان.

لذا فالمؤمنون محتاجون اشد الحاجة الى عنايته سبحانه وتعالى للصمود تجاه هؤلاء العصاة الفاجرين.

نحصل مما سبق: ان الذي يتحدث عن القدر والجزء الاختياري ان كان ذا ايمان كامل، مطمئن القلب، فانه يفوّض امر الكائنات كلها، ونفسه كذلك، الى الله سبحانه وتعالى، ويعتقد بان الامور تجري تحت تصرفه سبحانه وتدبيره. فهذا الشخص يحق له الكلام في القدر والجزء الاختياري لأنه يعرف أن نفسه وكل شئ، منه سبحانه وتعالى. فيتحمل المسؤولية، مستنداً الى الجزء الاختياري الذي يعتبره مرجعاً للسيئات، فيقدّس ربه وينزّهه، ويظل في دائرة العبودية ويرضخ للتكليف الإلهي ويأخذه على عاتقه. وينظر الى القدر في الحسنات والفضائل الصادرة عنه، لئلا يأخذه الغرور، فيشكر ربه بدل الفخر، ويرى القدر في المصائب التي تنزل به فيصبر.

ولكن ان كان الذي يتحدث في القدر الإلهي والجزء الاختياري من أهل الغفلة، فلا يحق له الخوض فيهما، لأن نفسه الامارة بالسوء - بدافع من الغفلة أو الضلالة - تحيل الكائنات الى الاسباب، فتجعل ما لله اليها، وترى نفسها مالكة لنفسها، وترجع افعالها الى نفسها ويسنـدها الى الاســباب، بينما تحمّـل القــدر المســؤولية والتقصيرات. وحينئذٍ يكون الخوض في القدر والجزء الاختياري باطلاً لا اساس له - بهذا المفهوم - ولا يعنى سوى دسيسة نفسية تحاول التملص من المسؤولية، مما ينافي حكمة القدر وسر الجزء الاختياري.



المبحث الثاني

هذا المبحث بحث علمي دقيق خاص للعلماء(1).

C اذا قلت: كيف يمكن التوفيق بين القدر والجزء الاختياري؟

الجواب: بسبعة وجوه:

الاول: ان العادل الحكيم الذي تشهد لحكمته وعدالته الكائنات كلها، بلسان الانتظام والميزان، قد اعطى للانسان جزءاً اختيارياً مجهول الماهية، ليكون مدار ثواب وعقاب. فكما ان للحكيم العادل حكَماً كثيرة خفية عنا، كذلك كيفية التوفيق بين القدر والجزء الاختياري خافية علينا. ولكن عدم علمنا بكيفية التوفيق لا يدل على عدم وجوده.

الثاني: ان كل انسان يشعر بالضرورة ان له ارادة واختياراً في نفسه، فيعرف وجود ذلك الاختيار وجداناً. وان العلم بماهية الموجودات شئ والعلم بوجودها شئ آخر. فكثير من الاشياء وجودها بديهي لدينا الاّ أن ماهيتها مجهولة بالنسبة الينا. فهذا الجزء الاختياري يمكن ان يدخل ضمن تلك السلسلة، فلا ينحصر كل شئ في نطاق معلوماتنا، وان عدم علمنا لا يدل على عدمه.

الثالث: ان الجزء الاختياري لا ينافي القدر، بل القدر يؤيد الجزء الاختياري؛ لأن القدر نوع من العلم الإلهي، وقد تعلق العلم الإلهي باختيارنا، ولهذا يؤيد الاختيار ولا يبطله.

الرابع: القدر نوع من العلم، والعلم تابع للمعلوم، اي على اية كيفية يكون المعلوم يحيط به العلم ويتعلق به، فلا يكون المعلوم تابعاً للعلم، اي ان دساتير العلم ليست اساساً لإدارة المعلوم من حيث الوجود الخارجي، لأن ذاتَ المعلوم ووجوده الخارجي ينظر الى الارادة ويستند الى القدرة.

ثم ان الازل ليس طرفاً لسلسلة الماضي كي يُتخذ اساساً في وجود الاشياء ويُتصور اضطراراً بحسبه، بل الازل يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل - كاحاطة السماء بالارض - كالمرآة الناظرة من الاعلى.

لذا ليس من الحقيقة في شئ تخيل طرفٍ ومبدأٍ في جهة الماضي للزمان الممتد في دائرة الممكنات واطلاق اسم الازل عليه، ودخول الاشياء بالترتيب في ذلك العلم الازلي، وتوهم المرء نفسه في خارجه، ومن ثم القيام بمحاكمة عقلية في ضوء ذلك.

فانظر الى هذا المثال لكشف هذا السر:

اذا وجدت في يدك مرآة، وفرضتَ المسافة التي في يمينها الماضي. والمسافة التي في يسارها المستقبل، فتلك المرآة لا تعكس الاّ ما يقابلها، وتضم الطرفين بترتيب معين، حيث لا تستوعب اغلبهما، لأن المرآة كلما كانت واطئة عكست القليل، بينما اذا رفعت الى الاعلى فان الدائرة التي تقابلها تتوسع، وهكذا بالصعود تدريجياً تستوعب المرآة المسافة في الطرفين معاً في نفسها في آن واحد.

وهكذا يرتسم في المرآة في وضعها هذا كل ما يجري من حالات في كلتا المسافتين. فلا يقال ان الحالات الجارية في احداها مقدمة على الاخرى، أو مؤخرة عنها، او توافقها، أو تخالفها.

وهكذا فالقدر الإلهي لكونه من العلم الازلي، والعلم الازلي ((في مقام رفيع يضم كل ما كان وما يكون، ويحيط به)) كما يُعبّر عنه في الحديث الشريف، لذا لا نكون نحن ولا محاكماتنا العقلية خارجَين عن هذا العلم قطعاً، حتى نتصوره مرآة تقع في مسافة الماضي.

الخامس: ان القدر يتعلق تعلقاً واحداً بالسبب وبالمسبب معاً - فالارادة لا تتعلق مرة بالمسبب ثم بالسبب مرة اخرى - اي ان هذا المسبَّب سيقع بهذا السبب. لذا يجب الاّ يقال: ما دام موت الشخص الفلاني مقدّراً في الوقت الفلاني، فما ذنب من يرميه ببندقية بارادته الجزئية؛ اذ لو لم يرمه لمات ايضا؟

سؤال: لِمَ يجب الاّ يقال؟

الجواب: لأن القدر قد عّين موته ببندقية ذاك، فاذا فرضت عدم رميه، عندئذٍ تفرض عدم تعلق القدر. فبِمَ تحكم اذن على موته. الاّ اذا تركت مسلك اهل السنة والجماعة ودخلت ضمن الفرق الضالة التي تتصور قدراً للسبب وقدراً للمسبب، كما هو عند الجبرية. أو تنكر القدر كالمعتزلة. أما نحن اهل الحق فنقول: لو لم يرمه فان موته مجهول عندنا. أما الجبرية فيقولون: لو لم يرمه لمات ايضاً. بينما المعتزلة يقولون: لو لم يرمه لا يموت.

السادس (1): ان الميلان الذي هو اس اساس الجزء الاختياري، أمر اعتباري عند الماتريدية، فيمكن أن يكون بيد العبد، ولكن الميلان أمر موجود لدى الاشعريين، فليس هو بيد العبد، الاّ ان التصرف عندهم أمر اعتباري بيد العبد. ولهذا فذلك الميلان وذلك التصرف فيه، امران نسبيان، ليس لهما وجود خارجي محقق. أما الامر الاعتباري فلا يحتاج ثبوته ووجوده الى علة تامة والتي تستلزم الضرورة الموجبة لرفع الاختيار، بل اذا اتخذت علة ذلك الامر الاعتباري وضعاً بدرجة من الرجحان، فانه يمكن ان يثبت،ويمكن ان يتركه في تلك اللحظة، فيقول له القرآن آنئذٍ: هذا شر! لا تفعل.

نعم! لو كان العبد خالقاً لأفعاله وقادراً على الايجاد، لَرُفع الاختيار؛ لأن القاعدة المقررة في علم الاصول والحكمة أنه ((ما لم يجب لم يوجد)) اي لا ياتي الى الوجود شئ مالم يكن وجوده واجباً، اي لابد من وجود علة تامة ثم يوجد. أما العلة التامة فيقتضي المعلول بالضرورة وبالوجوب. وعندها لا اختيار.

C اذا قلت:

الترجيح بلا مرجّحٍ محال، بينما كسب الانسان الذي تسمونه امراً اعتبارياً، بالعمل احياناً وبعدمه اخرى، يلزم الترجيح بلا مرجّح ان لم يوجد مرجّح موجِب، وهذا يهدم اعظم اصل من اصول الكلام!

الجواب: ان الترجّح بلا مرجّح محال - اي الرجحان بلا سبب ولا مرجّح - دون الترجيح بلا مرجّح الذي يجوز وهو واقع، فالارادة الإلهية صفة من صفاته تعالى وشأنها القيام بمثل هذا العمل (اي اختياره تعالى هو المرجّح).

C اذا قلت:

ما دام الذي خلق القتل هو الله سبحانه وتعالى، فلماذا يقال لي: القاتل؟

الجواب: ان اسم الفاعل مشتق من المصدر الذي هو أمر نسبي، حسب قواعد علم الصرف ولا يشتق من الحاصل بالمصدر الذي هو أمر ثابت. فالمصدر هو كسبنا، ونتحمل عنوان القاتل نحن، والحاصل بالمصدر مخلوق الله سبحانه، وما يشم منه المسؤولية لا يشتق من الحاصل بالمصدر.

السابع: ان ارادة الانسان الجزئية وجزأه الاختياري، ضعيف وأمر اعتباري. الاّ ان الله سبحانه وهو الحكيم المطلق قد جعل تلك الارادة الجزئية الضعيفة شرطاً عادياً لارادته الكلية. اي كأنه يقول معنىً: يا عبدي ايّ طريق تختاره للسلوك، فانا اسوقك اليه. ولهذا فالمسؤولية تقع عليك، فمثلاً (ولا مشاحة في الامثال) اذا أخذت طفلاً عاجزاً ضعيفاً على عاتقك وخيّرته قائلاً: الى اين تريد الذهاب، فسآخذك اليه. وطلب الطفل الصعود على جبلٍ عالٍ، وانت اخذته الى هناك، ولكن الطفل تمرض او سقط. فلا شك ستقول له: انت الذي طلبت! وتعاتبه. وتزيده لطمة تأديب. وهكذا.. ولله المثل الاعلى. فهو سبحانه أحكم الحاكمين جعل ارادة عبده الذي هو في منتهى الضعف شرطاً عادياً لارادته الكلية.

حاصل الكلام:

ايها الانسان! ان لك ارادة في منتهى الضعف، الاّ ان يدها طويلة في السيئات والتخريبات وقاصرة في الحسنات، هذه الارادة هي التي تسمى بالجزء الاختياري. فسلّم لإحدى يدى تلك الارادة الدعاء، كي تمتد وتطال الى الجنة التي هي ثمرة من ثمار سلسلة الحسنات وتبلغ السعادة الابدية التي هي زهرة من ازاهيرها.. وسلّم لليد الاخرى الاستغفار كي تقصر يدها عن السيئات، ولا تبلغ ثمرة الشجرة الملعونة زقوم جهنم. اي أن الدعاء والتوكل يمدّان ميلان الخير بقوة عظيمة، كما ان الاستغفار والتوبة يكسران ميلان الشر ويحدّان من تجاوزه.



المبحث الثالث

ان الايمان بالقدر من اركان الايمان، اي ان كل شئ بتقدير الله، والدلائل القاطعة على القدر كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى. ونحن سنبين هنا مدى قوة هذا الركن الايماني وسعته باسلوب بسيط وظاهر في مقدمة.

المقدمة

ان كل شئ قبل كونه وبعد كونه مكتوب في كتاب، يصرّح بهذا القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة امثال ] ولا رطب ولا يابس الاّ في كتاب مبين[ وتصدّق هذا الحكم القرآني الكائنات قاطبة، التي هي قرآن القدرة الإلهية الكبير، بآيات النظام والميزان والانتظام والامتياز والتصوير والتزيين وامثالها من الايات التكوينية.

نعم! ان كتابات كتاب الكائنات المنظومة وموزونات اياتها تشهد على أن كل شئ مكتوب. أما الدليل على أن كل شئ مكتوب ومقدّر قبل وجوده وكونه، فهو جميع المبادىء والبذور وجميع المقادير والصور شواهد صدق. اذ ما البذور الاّ صنيديقات لطيفة ابدعها معمل (ك.ن) أودع فيها القدر فهيرس رسمه، وتبني القدرة - حسب هندسة القدر ـ معجزاتها العظيمة على تلك البذيرات، مستخدمة الذرات. بمعنى ان كل ما سيجري على الشجرة من امور مع جميع وقائعها، في حكم المكتوب في بذرتها. لأن البذور بسيطة ومتشابهة مادةً، فلا اختلاف بينها.

ثم ان المقدار المنظم لكل شئ يبين القدر بوضوح فلو دقق النظر الى كائن حي لتبين أن له شكلاً ومقداراً، كأنه قد خرج من قالب في غاية الحكمة والاتقان، بحيث أن اتخاذ ذلك المقدار والشكل والصورة، اما انه يتأتى من وجود قالب مادي خارق في منتهى الانثناءات والانحناءات.. أو أن القدرة الإلهية تفصّل تلك الصورة وذلك الشكل وتُلبسها الشجرة بقالب معنوي علمي موزون أتى من القدر.

تأمل الآن في هذه الشجرة، وهذا الحيوان، فالذرات الصم العمي الجامدة التي لا شعور لها والمتشابهة بعضها ببعض، تتحرك في نمو الاشياء، ثم تتوقف عند حدود معينة توقف عارف عالم بمظان الفوائد والثمرات. ثم تبدل مواضعها وكأنها تستهدف غاية كبرى.

اي أن الذرات تتحرك على وفق المقدار المعنوي الآتي من القدر، وحسب الامر المعنوي لذلك المقدار.

فما دامت تجليات القدر موجودة في الاشياء المادية المشهودة الى هذه الدرجة، فلابد أن أوضاع الاشياء الحاصلة والصور التي تلبسها والحركات التي تؤديها بمرور الزمان تابعة ايضاً لإنتظام القدر.

نعم! ان في البذرة تجليين للقدر.

الاول: (بديهي) يخبر ويشير الى الكتاب المبين الذي هو عنوان الارادة والاوامر التكوينية.

والآخر: تجلٍ نظري (معقول) يخبر ويرمز الى الامام المبين الذي هو عنوان الامر والعلم الإلهي.

(فالقدر البديهي) هو ما تتضمن تلك البذرة من اوضاع وكيفيات وهيئات مادية للشجرة، والتي ستشاهد فيما بعد.

و(القدر النظري) هو ما سيخلق من تلك البذرة من اوضاع واشكال وحركات وتسبيحات طوال حياة الشجرة وهي التي يُعبّر عنها بتاريخ حياة الشجرة. فتلك الاوضاع والاشكال والافعال تتبدل حيناً بعد حين الاّ ان لها مقداراً قدرياً منتظماً، كما هو الظاهر في اغصان الشجرة واوراقها.

فلئن كان للقدر تجلٍ كهذا في الاشياء الاعتيادية والبسيطة، فلابد أن هذا يفيد؛ ان الاشياء كلها قبل كونها ووجودها مكتوبة في كتاب، ويمكن ان يفهم ذلك بشئ من التدبر.

أما الدليل على أن تأريخ حياة كل شئ، بعد وجوده وكونه، مكتوب؛ فهو جميع الثمرات التي تخبر عن الكتاب المبين والامام المبين. والقوة الحافظة للانسان التي تشير الى اللوح المحفوظ وتخبر عنه، كل منها شاهد صادق، وأمارة وعلامة على ذلك.

نعم! ان كل ثمرة تُكتب في نواتها - التي هي في حكم قلبها - مقدّرات حياة الشجرة ومستقبلها ايضاً.

والقوة الحافظة للانسان - التي هي كحبة خردل في الصغر - تَكتب فيها يدُ القدرة بقلم القدر تاريخ حياة الانسان وقسماً من حوادث العالم الماضية كتابةً دقيقة، كأنها وثيقة وعهد صغير من صحيفة الاعمال اعطته تلك القدرة للانسان ووضعها في زاوية من دماغه ليتذكر بها وقت المحاسبة، وليطمئن انّ خلق هذا الهرج والمرج والفناء والزوال مرايا للبقاء، رسَمَ فيها القدير هوّيات الزائلات، والواحاً يكتب فيها الحفيظ العليم معاني الفانيات.

نحصل مما سبق: ان حياة النباتات، ان كانت منقادة الى هذا الحد لنظام القدر مع انها ادنى حياة وابسطها، فان حياة الانسان التي هي في اعلى مرتبة من مراتب الحياة، لابد انها رسمت بجميع تفرعاتها بمقياس القدر وكتبت بقلمه.

نعم! كما ان القطرات تُخبر عن السحاب، والرشحات تدل على نبع الماء والمستندات والوثائق تشير الى وجود السجل الكبير، كذلك الثمرات والنطف والبذور والنوى والصور والاشكال الماثلة امامنا وهي في حكم رشحات القدر البديهي - اي الانتظام المادي في الاحياء - وقطرات القدر النظري - اي الانتظام المعنوي والحياتي - وبمثابة مستنداتهما ووثائقهما.. تدل بالبداهة على الكتاب المبين، وهو سجل الارادة والاوامر التكوينية، وعلى اللوح المحفوظ، الذي هو ديوان العلم الإلهي، الامام المبين.

النتيجة: ما دمنا نرى أن ذرات كل كائن حي، اثناء نموه ونشوئه ترحل الى حدود ونهايات ملتوية منثنية وتقف عندها. وتغير طريقها لتثمر في تلك النهايات حكمةً وفائدة ومصلحة. فبالبداهة ان المقدار الظاهري لذلك الشئ قد رُسم بقلم القدر.

وهكذا فان القدر البديهي المشهود يدل على ما في الحالات المعنوية ايضاً لذلك الكائن الحي من حدود منتظمة ومثمرة ونهايات مفيدة قد رسمت بقلم القدر ايضاً. فالقدرة مصدر، والقدر مِسطَر، تُسطّر القدرةُ على مسطر القدر، ذلك الكتاب للمعاني.

فما دمنا ندرك ادراكاً جازماً أن ما رُسم من حدود وثمرات ونهايات حكيمة، انما هو بقلم القدر المادي والمعنوي، فلابد أن ما يجريه الكائن الحي طوال حياته من احوال واطوار قد رسم ايضاً بقلم ذلك القدر. اذ إن تاريخ حياته يجري على وفق نظام وانتظام، مع تغييره الصور واتخاذه الاشكال. فما دام قلم القدر مهيمناً على جميع ذوي الحياة، فلاشك ان تاريخ حياة الانسان - الذي هو اكمل ثمرة من ثمرات العالم وخليفة الارض الحامل للامانة الكبرى - اكثر انقياداً لقانون القدر من اي شئ آخر.

C فان قال:

ان القدر قد كبّلنا وسلب حريتنا، الا ترى ان الايمان بالقدر يورث ثقلاً على القلب ويولد ضيقاً في الروح، وهما المشتاقان الى الانبساط والجولان؟

والجواب: كلا. حاشَ للّه! فكما ان القدر لا يورث ضيقاً، فانه يمنح خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية وسروراً ونوراً يحقق الأمن والامان والروح والريحان؛ لأن الانسان إن لم يؤمن بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ضمن دائرة ضيقة وحرية جزئية وتحرر مؤقت، لأن الانسان له علاقات مع الكائنات قاطبة، وله مقاصد ومطالب لا تنتهيان الاّ ان قدرته وارادته وحريته لا تكفي لإيفاء واحدٍ من مليون من تلك المطالب والمقاصد، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الانسان من ثقل معنوي في عدم الايمان بالقدر، وكم هو مخيف وموحش.

بينما الايمان بالقدر يحمل الانسان على أن يضع جميع تلك الاثقال في سفينة القدر، مما يمنحه راحة تامة، اذ ينفتح امام الروح والقلب ميدان تجوال واسع، فيسيران في طريق كمالاتهما بحرية تامة. بيد أن هذا الايمان يسلب من النفس الامارة بالسوء حريتها الجزئية ويكسر فرعونيتها ويحطم ربوبيتها ويحدّ من حركاتها السائبة.

ألا ان الايمان بالقدر لذيذ ما بعده لذة، وسعادة ما بعدها سعادة. وحيث لا نستطيع تعريف تلك اللذة والسعادة، نشير اليهما بالمثال الآتي:

رجلان يسافران معاً الى عاصمة سلطان عظيم، ويدخلان الى قصر السلطان العامر بالعجائب والغرائب. احدهما لا يعرف السلطان ويريد ان يسكن في القصر خلسة ويمضي حياته بغصب الاموال، فيعمل في حديقة القصر. ولكن ادارة تلك الحديقة وتدبيرها وتنظيم وارداتها وتشغيل مكائنها واعطاء ارزاق حيواناتها الغريبة وامثالها من امورها المرهقة دفعته الى الاضطراب الدائم والقلق المستمر، حتى اصبحت تلك الحديقة الزاهية الشبيهة بالجنة جحيماً لا يطاق. اذ يتألم لكل شئ يعجز عن ادارته، فيقضي وقته بالآهات والحسرات. واخيراً يُلقى به في السجن عقاباً وتأديباً له لسوء تصرفه وادبه.

اما الشخص الثاني فانه يعرف السلطان، ويعدّ نفسه ضيفاً عليه، ويعتقد ان جميع الاعمال في القصر والحديقة تدار بسهولة تامة .. بنظام وقانون وعلى وفق برنامج ومخطط، فيلقى الصعوبات والتــكاليـف الى قانون السلــطان، مســتفيداً بانــشــراح تام وصفاء كامـل من متــع تلــك الحديــقة الـزاهــرة كــالجـنــة، ويــرى كــل شـــئ جميلاً حقاً، استناداً الى عطف السلطان ورحمته، واعتماداً على جمال قوانينه الادارية.. فيقضي حياته في لذة كاملة وسعادة تامة.

فافهم من هذا سر (من آمن بالقدر أمن من الكدر)







المبحث الرابع

اذا قلت: لقد اُثبت في المبحث الاول ان كل ما للقدر جميل وخير، بل حتى الشر الآتي منه خير. والقبح الوارد منه جميل . بينما المصائب والبلايا التي تنزل في دار الدنيا هذه تجرح هذا الحكم وتقدح بهذا الاثبات.

الجواب: يا نفسي ويا صاحبي!

يا من تتألمان كثيراً لشدة ما تحملان من شفقة ورأفة. اعلما ان الوجود خير محض والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل الى الوجود، وكون العدم اساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص.

ولما كان العدم شراً محضاً، فالحالات التي تنجر الى العدم او يُشم منها العدم تتضمن الشر ايضاً، لذا فالحياة التي هي اسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن احوال مختلفة، وتتصفى بدخولها اوضاعاً متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة، وتبين نقوش اسماء واهب الحياة بياناً لطيفاً وجميلاً بتحولها في اطوار متنوعة.

وبناءً على هذه الحقيقة تعرض حالات على الاحياء في صور الآلام والمصائب والمشقات والبليات، فتتجدد بتلك الحالات انوار الوجود في حياتهم وتتباعد عنها ظلمات العدم، واذا بحياتهم تتطهر وتتصفى، ذلك لأن التوقف والسكون والسكوت والعطالة والدعة والرتابة، كل منها عدمٌ في الكيفيات والاحوال. حتى ان اعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في الحالات الرتيبة.

حاصل الكلام : لما كانت الحياة تبين نقوش الاسماء الحسنى، فكل ما ينزل بالحياة اذن جميل وحسن.

فمثلاً: أن صانعاً ثرياً ماهراً يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له في ظرف ساعة بدور النموذج (موديل) لأجل اظهار آثار صنعته الجميلة وابراز مدى ثرواته القيّمة فيُلبسه ما نسجه من حلة قشيبة في غاية الجمال والابداع،و يجرى عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لإظهار خوارق صنائعه وبدائع مهاراته، فيقصّ ويبدّل ويطوّل ويقصر، وهكذا...

تُرى أيحق لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: ((انك تتعبني وترهقني بطلبك منّي الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وانك تشوّه بقصّك وتقصيرك هذا القميص الذي يجمّلني ويزينني؟ ترى أيقدر ان يقول له: لقد ظلمت وما انصفت؟!)).

وكذلك الأمر في الصانع الجليل الفاطر الجميل (ولله المثل الاعلى) اذ يبدّل قميص الوجود الذي ألبسه ذوي الحياة، ويقلبه في حالات كثيرة، ذلك القيمص المرصع باللطائف والحواس كالعين والاذن والعقل والقلب وامثالها، يبدّله ويقلّبه اظهاراً لنقوش اسمائه الحسنى.

ففي الاوضاع التي تتسم بالآلام والمصائب انوار جمال لطيف تشف عن اشعة رحمة ضمن لمعات الحكمة الإلهية، اظهاراً لأحكام بعض الاسماء الحسنى.



الخاتمة

[ هذه فقرات خمس اسكتت النفس الامارة بالسوء لسعيد القديم، تلك النفس الجاهلة المتفاخرة المغرورة المرائية المعجبة بنفسها]

C الفقرة الاولى:

ما دامت الاشياء موجودة ومتقنة الصنع، فلابد ان صانعاً ماهراً قد صنعها. فلقد اثبتنا في الكلمة الثانية والعشرين اثباتاً قاطعاً انه:

ان لم تُسند كل الاشياء الى الواحد الأحد، يتعسر كل شئ كتعسر الاشياء كلها. وإن اُسند كل شئ الى الواحد الأحد، تسهل الاشياء كلها كسهولة شئ واحد.

ولما كان الذي خلق الارض والسموات هو الواحد الأحد، فلابد ان ذلك البديع الحكيم لا يعطى ثمرات الارض والسموات ونتائجهما وغاياتهما - وهم ذوو الحياة - الى غيره فيفسد الامور. ولا يمكن ان يسلّمها الى ايدي الآخرين فيعبث بجميع اعماله الحكيمة. ولا يمكن ان يبيدها.. ولا يسلّم ايضاً شكرها وعباداتها الى غيره.

C الفقرة الثانية:

يا نفسي المغرورة! انكِ تشبهين ساق العنب، لا تغتري ولا تفتخري، فتلك الساق لم تعلق العناقيد على نفسها، بل علّقها عليها غيرها.

C الفقرة الثالثة:

يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلة: انني خدمت الدين. فان الحديث الشريف صريح بـ ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر(1) فعليك ان تعدّى نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لانك غير مزكاة.

واعلمي ان خدمتك للدين وعباداتك ما هي الا شكر ما انعم الله عليك، وهي اداء لوظيفة الفطرة وفريضة الخلق ونتيجة الصنعة الإلهية.. اعلمي هذا وانقذي نفسك من العجب والرياء.

C الفقرة الرابعة:

ان كنت ترومين الحصول على علم الحقيقة، والحكمة الحقة، فاظفري بمعرفة الله، اذ حقائق الموجودات كلها، انما هي اشعة اسم الله الحق، ومظاهر اسمائه الحسنى، وتجليات صفاته الجليلة. واعلمي ان حقيقة كل شئ مادياً كان أو معنوياً وجوهرياً أو عرضياً، وحقيقة الانسان نفسه انما تستند الى نور من انوار اسمائه تعالى وترتكز على حقيقته. والاّ فهي صورة تافهة لا حقيقة لها. ولقد ذكرنا في ختام الكلمة العشرين شيئاً من هذا البحث.

يا نفسي!

ان كنت مشتاقة الى هذه الدنيا، وتفرين من الموت، فاعلمي يقيناً ان ما تظنينه حياة، ما هو الاّ الدقيقة التي انت فيها، فما قبل تلك الدقيقة من زمان وما فيه من اشياء دنيوية كله ميت. وما بعد تلك الدقيقة من زمان وما فيه كله عدم، لا شئ.

بمعنى ان ما تفتخرين به وتغترين به من حياة فانية ليس الاّ دقيقة واحدة، حتى ان قسماً من اهل التدقيق قالوا: ان الحياة عاشرة عشر من الدقيقة، بل آنٌّ سيّال.. من هنا حَكَم قسم من اهل الولاية والصلاح بعدمية الدنيا من حيث انها دنيا.

فما دام الامر هكذا فدعي الحياة المادية النفسية واصعدي الى درجات حياة القلب والروح والسر. وانظري ما اوسع دائرة حياتها، فالماضي والمستقبل - الميتان بالنسبة لك - حيّان بالنسبة لها وموجودان.

فيا نفسي:

ما دام الامر هكذا، ابكي كما يبكي قلبي واستغيثي وقولي:

أنا فانٍ، من كان فانياً لا اريد

انا عاجز، من كان عاجزاً لا اريد..

سلمت روحي للرحمن، سواه لا اريد..

بل اريد، ولكن حبيباً باقياً اريد..

انا ذرة..

ولكن شمساً سرمداً اريد.

انا لا شئ ومن غير شئ، ولكن الموجودات كلّها اريد.

C الفقرة الخامسة:

هذه الفقرة خطرت باللغة العربية وكتبت كما وردت. وهي اشارة الى مرتبة من المراتب الثلاث والثلاثين في ذكر ((الله اكبر)).

الله اكبر؛ اذ هو القدير العليم الحكيم الكريم الرحيم الجميل النقاش الازلي الذي ما حقيقة هذه الكائنات كلاً وجزءاً وصحائف وطبقاتٍ وما حقائق هذه الموجودات كلياً وجزئياً ووجوداً وبقاءً إلا:

خطوط قلم قـضائه وقدره وتنظيمه وتقديره بعلمٍ وحكمة.ٍ

ونقوش بركار علمه وحكمته وتصويره وتدبيره بصنع وعناية.

وتزيينات يد بـيـضاء صنعه وعنايته وتزيينه وتنويره بلطف وكرمٍِ.

وأزاهير لطائف لطفه وكرمه وتودده وتعرّفه برحمة ونعمة.

وثمرات فياض رحمته ونعمته وترحمه وتحننه بجمال وكمال.

ولمعات وتجليات جماله وكماله بشهادات تفانية المرايا وسيالية المظاهر مع بقاء الجمال المجرد السرمدي، الدائم التجلي والظهور، على مر الفصول والعصور والدهور، ودائم الانعام على مر الانام والايام والاعوام.

نعم فالاثر المكمّل يدل ذا عقل على الفعل المكمّل ثم الفعل المكّمل يدل ذا فهم على الاسم المكمل ثم الاسم المكمّل يدل بالبداهة على الوصف المكمّل ثم الوصف المكمل يدل بالضرورة على الشأن المكمّل ثم الشأن المكمل يدل باليقين على كمال الذات بما يليق بالذات وهو الحق اليقين.

نعم تفاني المرآة، زوال الموجودات، مع التجلي الدائم مع الفيض الملازم.. من اظهر الظواهر ان الجمال الظاهر، ليس ملك المظاهر.. من افصح تبيان.. من اوضح برهان للجمال المجرد للاحسان المجدد للواجب الوجود.. للباقي الودود..

اللّهم صل على سيّدنا محمّد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله

وعلى آله وصحبه وسلم.

ذيل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم - بالرغم من فهمي القاصر - طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله (الرحمن).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله (الرحيم).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله (الحكيم).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولا سيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

] فلا تُزكّوا انفُسَكم[ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم[ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

] ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِك[ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

] كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه[ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة ] فلا تزكوا انفسكم[ وهي: عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما اودعه الله فيه من اجهزة لحمده سبحانه وتقديسه الى نفسه، فيصيبه وصف الآية الكريمة: ] من اتّخذ الهَه هَواه[ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: ] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم[ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.



والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: ] ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك[ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماً منه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هذه المرتبة هي في سر هذه الآية الكريمة: ] قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها[ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: ] كُلُّ شَيٍء هالكٌ الا وجْهَه[ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة: ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في (الكلمات الست والعشرين) السابقة من كتاب (الكلمات) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى (القدير) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل (وحدة الوجود) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: (لا موجود الا هو) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل (وحدة الشهود) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: (لا مشهود الا هو) للوصول الى الاطمئنان القلبي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمى من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.

عبدالرزاق 02-02-2011 11:40 AM

رد: الكلمات
 
الكلمة السادسة والعشرون

رسالة القدر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واِنْ مِنْ شيءٍ الاّ عندنا خزائنُهُ وما نُنَزّله اِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلومٍ[ (الحجر:21)

] وكلّ شيءٍ اَْحْصَيناه في إمامٍ مُبينٍ[ (يس:12)

[ القدر الإلهي والجزء الاختياري مسألتان مهمتان. نحاول حلّ بعض اسرارهما في اربعة مباحث تخص القدر]



المبحث الاول

ان القدر والجزء الاختياري جزءان من ايمان حالي ووجداني، يبيّن نهاية حدود الايمان والاسلام، وليسا مباحث علمية ونظرية.

اي: ان المؤمن يعطي للهكل شئ، ويحيل اليه كل أمر، وما يزال هكذا حتى يحيل فعله ونفسه اليه.ولكي لا ينجو في النهاية من التكليف والمسؤولية يبرز امامه الجزء الاختياري قائلاً له: ((انت مسؤول، أنت مكلّف))!

ثم انه لكي لا يغتر بما صدر عنه من حسنات وفضائل، يواجهه القدر، قائلاً له: ((اعرف حدّك، فلست انت الفاعل)).

اجل! ان القدر والجزء الاختياري هما في اعلى مراتب الايمان والاسلام قد دخلا ضمن المسائل الايمانية، لانهما ينقذان النفس الانسانية.. فالقدر ينقذها من الغرور، والجزء الاختياري ينجيها من الشعور بعدم المسؤولية. وليسا من المسائل العلمية والنظرية التي تفضي الى ما يناقض سر القدر وحكمة الجزء الاختياري كلياً بالتشبث بالقدر للتبرئة من مسؤولية السيئات التي اقترفتها النفوس الامارة بالسوء والافتخار بالفضائل التي اُنعمت عليها والاغترار بها واسنادها الى الجزء الاختياري.

اجل! ان العوام الذين لم يبلغوا مرتبة ادراك سر القدر لهم مواضع لاستعماله، ولكن هذه المواضع تنحصر في الماضيات من الامور وبخصوص المصائب والبلايا والذي هو علاج اليأس والحزن، وليس في امور المعاصي أو في المقبلات من الايام، والذي ينتفي كونه مساعداً على اقتراف الذنوب والتهاون في التكاليف.

بمعنى ان مسألة القدر ليست للفرار من التكليف والمسؤولية، بل هو لإنقاذ الانسان من الفخر والغرور، ولهذا دخلت ضمن مسائل الايمان.

أما الجزء الاختياري، فقد دخل ضمن مباحث العقيدة ليكون مرجعاً للسيئات، لا ليكون مصدراً للمحاسن والفضائل التي تسوق الى الطغيان والتفرعن.

نعم! ان القرآن الكريم يبين ان الانسان مسؤول عن سيئاته مسؤولية كاملة. لأن الانسان هو الذي اراد السيئات. ولما كانت السيئات من قبيل التخريبات، لذا يستطيع الانسان ان يوقع دماراً هائلاً بسيئة واحدة، كإحراق بيت كامل بعود ثقاب، وبذلك يستحق انزال عقاب عظيم به.

أما في الحسنات، فليس له الحق في الفخر والمباهاة، لأن حصته فيها ضئيلة جداً، لأن الرحمة الإلهية هي التي ارادت الحسنات، واقتضتها. والقدرة الربانية هي التي اوجدتها، فالسؤال والجواب والسبب والداعي كلاهما من الحق سبحانه وتعالى. ولا يكون الانسان مالكاً لهذه الحسنات وصاحباً لها الاّ بالدعاء والتضرع، وبالايمان، وبالشعور بالرضى عنها. بينما الذي اراد السيئات هو النفس الانسانية، إما بالاستعداد او بالاختيار، مثلما تكتسب بعض المواد التعفن والاسوداد من ضياء الشمس الجميل اللامع، فذلك الاسوداد انما يعود الى استعداد تلك المادة، ولكن الذي يوجد تلك السيئات بقانون إلهي متضمن لمصالح كثيرة انما هو الله سبحانه ايضاً. اي أن التسبب والسؤال هما من النفس الانسانية بحيث تتحمل المسؤولية عنها. أما الخلق والايجاد الخاص به سبحانه وتعالى فهو جميل، لأن له ثمرات اخرى جميلة، ونتائج شتى جميلة، فهو خير.

ومن هذا السر يكون خلق الشر ليس شراً، وانما كسب الشر شر، اذ لا يحق لكسلان قد تأذى من المطر - المتضمن لمصالح غزيرة - ان يقول:المطر ليس رحمة.

نعم! ان في الخلق والايجاد خيراً كثيراً مع تضمنه لشر جزئي، وان ترك خير كثير لأجل شر جزئي، يحدث شراً كثيراً، لذا فان ذلك الشــر الجزئي يعدّ خيــراً وفي حكمه. فليس في الخلق الإلهي شرٌ ولا قبح، بل يعود الشر الى كسب العبد والى استعداده.

وكما ان القدر الإلهي منزّه عن القبح والظلم، من حيث النتيجة والثمرات، كذلك فهو مقدّس عن القبح والظلم من حيث العلة والسبب، لأن القدر الإلهي ينظر الى العلل الحقيقية، فيعدل. بينما الناس يبنون احكامهم على ما يشاهدونه من علل ظاهرة فيرتكبون ظلماً ضمن عدالة القدر نفسه.

فمثلاً: هب ان حاكماً قد حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة، وانت برئ منها، ولكن لك قضية قتل مستورة لا يعرفها الاّ الله.

فالقدر الإلهي قد حكم عليك بذلك السجن، وقد عدل من أجل ذلك القتل المستور عن الناس. أما الحاكم فقد ظلمك، حيث حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة وانت منها برئ.

وهكذا ففي الشئ الواحد تظهر جهتان، جهة عدالة القدر والايجاد الإلهي، وجهة ظلم البشر وكسبه. قس بقية الامور على هذا.

اي ان القدر والايجاد الإلهي منزّهان عن الشر والقبح والظلم، باعتبار المبدأ والمنتهى والاصول والفروع والعلل والنتائج.

واذا قيل:

ما دام الجزء الاختياري لا قابلية له في الايجاد، ولا يوجد في يد الانسان غير الكسب الذي هو في حكم امر اعتباري، فكيف يكون اذن شكوى القرآن المعجز البيان من هذا الانسان شكاوى عظيمة تجاه عصيانه خالق السموات والارض؛ حتى كأنه اُعطي له وضع العدو العاصي، بل يرسل سبحانه جنوده الملائكة لإمداد العبد المؤمن تجاه ذلك العاصى، بل يُمدّه خالق السموات والارض بنفسه.. فِلمَ هذه الأهمية البالغة؟

الجواب: لأن الكفر والعصيان والسيئة كلها تخريب وعدم، ويمكن ان تترتب تخريبات هائلة وعدمات غير محدودة على امرٍ اعتباري وعدمي واحد. اذ كما ان عدم ايفاء ملاح سفينة ضخمة بوظيفته يغرق السفينة، ويفسد نتائج اعمال جميع العاملين فيها، لترتب جميع تلك التخريبات الجسيمة على عمل عدمٍ واحد، كذلك الكفر والمعصية، لكونهما نوعاً من العدم والتخريب، فيمكن ان يحركهما الجزء الاختياري بأمر اعتباري، فيسببان نتائج مريعة. لأن الكفر وان كان سيئة واحدة؛ الاّ انه تحقير لجميع الكائنات بوصمها بالتفاهة والعبثية، وتكذيب لجميع الموجودات الدالة على الوحدانية، وتزييف لجميع تجليات الاسماء الحسنى. فان تهديده سبحانه وتعالى وشكواه باسم الكائنات قاطبة، والموجودات كافة والاسماء الإلهية الحسنى؛ كلها من الكافر شكاوى عنيفة وتهديدات مريعة هو عين الحكمة وان تعذيبه بعذاب خالد هو عين العدالة.

وحيث ان الانسان لدى انحيازه الى جانب التخريب بالكفر والعصيان، يسبب دماراً رهيباً بعمل جزئي، فان اهل الايمان محتاجون اذن، تجاه هؤلاء المخربين، الى عناية إلهية عظيمة، لأنه اذا تعهّد عشرة من الرجال الأقوياء بالحفاظ على بيت وتعميره، فان طفلاً شريراً في محاولته احراق البيت، يُلجئ اولئك الرجال الى الذهاب الى وليّه بل التوسل الى السلطان.

لذا فالمؤمنون محتاجون اشد الحاجة الى عنايته سبحانه وتعالى للصمود تجاه هؤلاء العصاة الفاجرين.

نحصل مما سبق: ان الذي يتحدث عن القدر والجزء الاختياري ان كان ذا ايمان كامل، مطمئن القلب، فانه يفوّض امر الكائنات كلها، ونفسه كذلك، الى الله سبحانه وتعالى، ويعتقد بان الامور تجري تحت تصرفه سبحانه وتدبيره. فهذا الشخص يحق له الكلام في القدر والجزء الاختياري لأنه يعرف أن نفسه وكل شئ، منه سبحانه وتعالى. فيتحمل المسؤولية، مستنداً الى الجزء الاختياري الذي يعتبره مرجعاً للسيئات، فيقدّس ربه وينزّهه، ويظل في دائرة العبودية ويرضخ للتكليف الإلهي ويأخذه على عاتقه. وينظر الى القدر في الحسنات والفضائل الصادرة عنه، لئلا يأخذه الغرور، فيشكر ربه بدل الفخر، ويرى القدر في المصائب التي تنزل به فيصبر.

ولكن ان كان الذي يتحدث في القدر الإلهي والجزء الاختياري من أهل الغفلة، فلا يحق له الخوض فيهما، لأن نفسه الامارة بالسوء - بدافع من الغفلة أو الضلالة - تحيل الكائنات الى الاسباب، فتجعل ما لله اليها، وترى نفسها مالكة لنفسها، وترجع افعالها الى نفسها ويسنـدها الى الاســباب، بينما تحمّـل القــدر المســؤولية والتقصيرات. وحينئذٍ يكون الخوض في القدر والجزء الاختياري باطلاً لا اساس له - بهذا المفهوم - ولا يعنى سوى دسيسة نفسية تحاول التملص من المسؤولية، مما ينافي حكمة القدر وسر الجزء الاختياري.



المبحث الثاني

هذا المبحث بحث علمي دقيق خاص للعلماء(1).

C اذا قلت: كيف يمكن التوفيق بين القدر والجزء الاختياري؟

الجواب: بسبعة وجوه:

الاول: ان العادل الحكيم الذي تشهد لحكمته وعدالته الكائنات كلها، بلسان الانتظام والميزان، قد اعطى للانسان جزءاً اختيارياً مجهول الماهية، ليكون مدار ثواب وعقاب. فكما ان للحكيم العادل حكَماً كثيرة خفية عنا، كذلك كيفية التوفيق بين القدر والجزء الاختياري خافية علينا. ولكن عدم علمنا بكيفية التوفيق لا يدل على عدم وجوده.

الثاني: ان كل انسان يشعر بالضرورة ان له ارادة واختياراً في نفسه، فيعرف وجود ذلك الاختيار وجداناً. وان العلم بماهية الموجودات شئ والعلم بوجودها شئ آخر. فكثير من الاشياء وجودها بديهي لدينا الاّ أن ماهيتها مجهولة بالنسبة الينا. فهذا الجزء الاختياري يمكن ان يدخل ضمن تلك السلسلة، فلا ينحصر كل شئ في نطاق معلوماتنا، وان عدم علمنا لا يدل على عدمه.

الثالث: ان الجزء الاختياري لا ينافي القدر، بل القدر يؤيد الجزء الاختياري؛ لأن القدر نوع من العلم الإلهي، وقد تعلق العلم الإلهي باختيارنا، ولهذا يؤيد الاختيار ولا يبطله.

الرابع: القدر نوع من العلم، والعلم تابع للمعلوم، اي على اية كيفية يكون المعلوم يحيط به العلم ويتعلق به، فلا يكون المعلوم تابعاً للعلم، اي ان دساتير العلم ليست اساساً لإدارة المعلوم من حيث الوجود الخارجي، لأن ذاتَ المعلوم ووجوده الخارجي ينظر الى الارادة ويستند الى القدرة.

ثم ان الازل ليس طرفاً لسلسلة الماضي كي يُتخذ اساساً في وجود الاشياء ويُتصور اضطراراً بحسبه، بل الازل يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل - كاحاطة السماء بالارض - كالمرآة الناظرة من الاعلى.

لذا ليس من الحقيقة في شئ تخيل طرفٍ ومبدأٍ في جهة الماضي للزمان الممتد في دائرة الممكنات واطلاق اسم الازل عليه، ودخول الاشياء بالترتيب في ذلك العلم الازلي، وتوهم المرء نفسه في خارجه، ومن ثم القيام بمحاكمة عقلية في ضوء ذلك.

فانظر الى هذا المثال لكشف هذا السر:

اذا وجدت في يدك مرآة، وفرضتَ المسافة التي في يمينها الماضي. والمسافة التي في يسارها المستقبل، فتلك المرآة لا تعكس الاّ ما يقابلها، وتضم الطرفين بترتيب معين، حيث لا تستوعب اغلبهما، لأن المرآة كلما كانت واطئة عكست القليل، بينما اذا رفعت الى الاعلى فان الدائرة التي تقابلها تتوسع، وهكذا بالصعود تدريجياً تستوعب المرآة المسافة في الطرفين معاً في نفسها في آن واحد.

وهكذا يرتسم في المرآة في وضعها هذا كل ما يجري من حالات في كلتا المسافتين. فلا يقال ان الحالات الجارية في احداها مقدمة على الاخرى، أو مؤخرة عنها، او توافقها، أو تخالفها.

وهكذا فالقدر الإلهي لكونه من العلم الازلي، والعلم الازلي ((في مقام رفيع يضم كل ما كان وما يكون، ويحيط به)) كما يُعبّر عنه في الحديث الشريف، لذا لا نكون نحن ولا محاكماتنا العقلية خارجَين عن هذا العلم قطعاً، حتى نتصوره مرآة تقع في مسافة الماضي.

الخامس: ان القدر يتعلق تعلقاً واحداً بالسبب وبالمسبب معاً - فالارادة لا تتعلق مرة بالمسبب ثم بالسبب مرة اخرى - اي ان هذا المسبَّب سيقع بهذا السبب. لذا يجب الاّ يقال: ما دام موت الشخص الفلاني مقدّراً في الوقت الفلاني، فما ذنب من يرميه ببندقية بارادته الجزئية؛ اذ لو لم يرمه لمات ايضا؟

سؤال: لِمَ يجب الاّ يقال؟

الجواب: لأن القدر قد عّين موته ببندقية ذاك، فاذا فرضت عدم رميه، عندئذٍ تفرض عدم تعلق القدر. فبِمَ تحكم اذن على موته. الاّ اذا تركت مسلك اهل السنة والجماعة ودخلت ضمن الفرق الضالة التي تتصور قدراً للسبب وقدراً للمسبب، كما هو عند الجبرية. أو تنكر القدر كالمعتزلة. أما نحن اهل الحق فنقول: لو لم يرمه فان موته مجهول عندنا. أما الجبرية فيقولون: لو لم يرمه لمات ايضاً. بينما المعتزلة يقولون: لو لم يرمه لا يموت.

السادس (1): ان الميلان الذي هو اس اساس الجزء الاختياري، أمر اعتباري عند الماتريدية، فيمكن أن يكون بيد العبد، ولكن الميلان أمر موجود لدى الاشعريين، فليس هو بيد العبد، الاّ ان التصرف عندهم أمر اعتباري بيد العبد. ولهذا فذلك الميلان وذلك التصرف فيه، امران نسبيان، ليس لهما وجود خارجي محقق. أما الامر الاعتباري فلا يحتاج ثبوته ووجوده الى علة تامة والتي تستلزم الضرورة الموجبة لرفع الاختيار، بل اذا اتخذت علة ذلك الامر الاعتباري وضعاً بدرجة من الرجحان، فانه يمكن ان يثبت،ويمكن ان يتركه في تلك اللحظة، فيقول له القرآن آنئذٍ: هذا شر! لا تفعل.

نعم! لو كان العبد خالقاً لأفعاله وقادراً على الايجاد، لَرُفع الاختيار؛ لأن القاعدة المقررة في علم الاصول والحكمة أنه ((ما لم يجب لم يوجد)) اي لا ياتي الى الوجود شئ مالم يكن وجوده واجباً، اي لابد من وجود علة تامة ثم يوجد. أما العلة التامة فيقتضي المعلول بالضرورة وبالوجوب. وعندها لا اختيار.

C اذا قلت:

الترجيح بلا مرجّحٍ محال، بينما كسب الانسان الذي تسمونه امراً اعتبارياً، بالعمل احياناً وبعدمه اخرى، يلزم الترجيح بلا مرجّح ان لم يوجد مرجّح موجِب، وهذا يهدم اعظم اصل من اصول الكلام!

الجواب: ان الترجّح بلا مرجّح محال - اي الرجحان بلا سبب ولا مرجّح - دون الترجيح بلا مرجّح الذي يجوز وهو واقع، فالارادة الإلهية صفة من صفاته تعالى وشأنها القيام بمثل هذا العمل (اي اختياره تعالى هو المرجّح).

C اذا قلت:

ما دام الذي خلق القتل هو الله سبحانه وتعالى، فلماذا يقال لي: القاتل؟

الجواب: ان اسم الفاعل مشتق من المصدر الذي هو أمر نسبي، حسب قواعد علم الصرف ولا يشتق من الحاصل بالمصدر الذي هو أمر ثابت. فالمصدر هو كسبنا، ونتحمل عنوان القاتل نحن، والحاصل بالمصدر مخلوق الله سبحانه، وما يشم منه المسؤولية لا يشتق من الحاصل بالمصدر.

السابع: ان ارادة الانسان الجزئية وجزأه الاختياري، ضعيف وأمر اعتباري. الاّ ان الله سبحانه وهو الحكيم المطلق قد جعل تلك الارادة الجزئية الضعيفة شرطاً عادياً لارادته الكلية. اي كأنه يقول معنىً: يا عبدي ايّ طريق تختاره للسلوك، فانا اسوقك اليه. ولهذا فالمسؤولية تقع عليك، فمثلاً (ولا مشاحة في الامثال) اذا أخذت طفلاً عاجزاً ضعيفاً على عاتقك وخيّرته قائلاً: الى اين تريد الذهاب، فسآخذك اليه. وطلب الطفل الصعود على جبلٍ عالٍ، وانت اخذته الى هناك، ولكن الطفل تمرض او سقط. فلا شك ستقول له: انت الذي طلبت! وتعاتبه. وتزيده لطمة تأديب. وهكذا.. ولله المثل الاعلى. فهو سبحانه أحكم الحاكمين جعل ارادة عبده الذي هو في منتهى الضعف شرطاً عادياً لارادته الكلية.

حاصل الكلام:

ايها الانسان! ان لك ارادة في منتهى الضعف، الاّ ان يدها طويلة في السيئات والتخريبات وقاصرة في الحسنات، هذه الارادة هي التي تسمى بالجزء الاختياري. فسلّم لإحدى يدى تلك الارادة الدعاء، كي تمتد وتطال الى الجنة التي هي ثمرة من ثمار سلسلة الحسنات وتبلغ السعادة الابدية التي هي زهرة من ازاهيرها.. وسلّم لليد الاخرى الاستغفار كي تقصر يدها عن السيئات، ولا تبلغ ثمرة الشجرة الملعونة زقوم جهنم. اي أن الدعاء والتوكل يمدّان ميلان الخير بقوة عظيمة، كما ان الاستغفار والتوبة يكسران ميلان الشر ويحدّان من تجاوزه.



المبحث الثالث

ان الايمان بالقدر من اركان الايمان، اي ان كل شئ بتقدير الله، والدلائل القاطعة على القدر كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى. ونحن سنبين هنا مدى قوة هذا الركن الايماني وسعته باسلوب بسيط وظاهر في مقدمة.

المقدمة

ان كل شئ قبل كونه وبعد كونه مكتوب في كتاب، يصرّح بهذا القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة امثال ] ولا رطب ولا يابس الاّ في كتاب مبين[ وتصدّق هذا الحكم القرآني الكائنات قاطبة، التي هي قرآن القدرة الإلهية الكبير، بآيات النظام والميزان والانتظام والامتياز والتصوير والتزيين وامثالها من الايات التكوينية.

نعم! ان كتابات كتاب الكائنات المنظومة وموزونات اياتها تشهد على أن كل شئ مكتوب. أما الدليل على أن كل شئ مكتوب ومقدّر قبل وجوده وكونه، فهو جميع المبادىء والبذور وجميع المقادير والصور شواهد صدق. اذ ما البذور الاّ صنيديقات لطيفة ابدعها معمل (ك.ن) أودع فيها القدر فهيرس رسمه، وتبني القدرة - حسب هندسة القدر ـ معجزاتها العظيمة على تلك البذيرات، مستخدمة الذرات. بمعنى ان كل ما سيجري على الشجرة من امور مع جميع وقائعها، في حكم المكتوب في بذرتها. لأن البذور بسيطة ومتشابهة مادةً، فلا اختلاف بينها.

ثم ان المقدار المنظم لكل شئ يبين القدر بوضوح فلو دقق النظر الى كائن حي لتبين أن له شكلاً ومقداراً، كأنه قد خرج من قالب في غاية الحكمة والاتقان، بحيث أن اتخاذ ذلك المقدار والشكل والصورة، اما انه يتأتى من وجود قالب مادي خارق في منتهى الانثناءات والانحناءات.. أو أن القدرة الإلهية تفصّل تلك الصورة وذلك الشكل وتُلبسها الشجرة بقالب معنوي علمي موزون أتى من القدر.

تأمل الآن في هذه الشجرة، وهذا الحيوان، فالذرات الصم العمي الجامدة التي لا شعور لها والمتشابهة بعضها ببعض، تتحرك في نمو الاشياء، ثم تتوقف عند حدود معينة توقف عارف عالم بمظان الفوائد والثمرات. ثم تبدل مواضعها وكأنها تستهدف غاية كبرى.

اي أن الذرات تتحرك على وفق المقدار المعنوي الآتي من القدر، وحسب الامر المعنوي لذلك المقدار.

فما دامت تجليات القدر موجودة في الاشياء المادية المشهودة الى هذه الدرجة، فلابد أن أوضاع الاشياء الحاصلة والصور التي تلبسها والحركات التي تؤديها بمرور الزمان تابعة ايضاً لإنتظام القدر.

نعم! ان في البذرة تجليين للقدر.

الاول: (بديهي) يخبر ويشير الى الكتاب المبين الذي هو عنوان الارادة والاوامر التكوينية.

والآخر: تجلٍ نظري (معقول) يخبر ويرمز الى الامام المبين الذي هو عنوان الامر والعلم الإلهي.

(فالقدر البديهي) هو ما تتضمن تلك البذرة من اوضاع وكيفيات وهيئات مادية للشجرة، والتي ستشاهد فيما بعد.

و(القدر النظري) هو ما سيخلق من تلك البذرة من اوضاع واشكال وحركات وتسبيحات طوال حياة الشجرة وهي التي يُعبّر عنها بتاريخ حياة الشجرة. فتلك الاوضاع والاشكال والافعال تتبدل حيناً بعد حين الاّ ان لها مقداراً قدرياً منتظماً، كما هو الظاهر في اغصان الشجرة واوراقها.

فلئن كان للقدر تجلٍ كهذا في الاشياء الاعتيادية والبسيطة، فلابد أن هذا يفيد؛ ان الاشياء كلها قبل كونها ووجودها مكتوبة في كتاب، ويمكن ان يفهم ذلك بشئ من التدبر.

أما الدليل على أن تأريخ حياة كل شئ، بعد وجوده وكونه، مكتوب؛ فهو جميع الثمرات التي تخبر عن الكتاب المبين والامام المبين. والقوة الحافظة للانسان التي تشير الى اللوح المحفوظ وتخبر عنه، كل منها شاهد صادق، وأمارة وعلامة على ذلك.

نعم! ان كل ثمرة تُكتب في نواتها - التي هي في حكم قلبها - مقدّرات حياة الشجرة ومستقبلها ايضاً.

والقوة الحافظة للانسان - التي هي كحبة خردل في الصغر - تَكتب فيها يدُ القدرة بقلم القدر تاريخ حياة الانسان وقسماً من حوادث العالم الماضية كتابةً دقيقة، كأنها وثيقة وعهد صغير من صحيفة الاعمال اعطته تلك القدرة للانسان ووضعها في زاوية من دماغه ليتذكر بها وقت المحاسبة، وليطمئن انّ خلق هذا الهرج والمرج والفناء والزوال مرايا للبقاء، رسَمَ فيها القدير هوّيات الزائلات، والواحاً يكتب فيها الحفيظ العليم معاني الفانيات.

نحصل مما سبق: ان حياة النباتات، ان كانت منقادة الى هذا الحد لنظام القدر مع انها ادنى حياة وابسطها، فان حياة الانسان التي هي في اعلى مرتبة من مراتب الحياة، لابد انها رسمت بجميع تفرعاتها بمقياس القدر وكتبت بقلمه.

نعم! كما ان القطرات تُخبر عن السحاب، والرشحات تدل على نبع الماء والمستندات والوثائق تشير الى وجود السجل الكبير، كذلك الثمرات والنطف والبذور والنوى والصور والاشكال الماثلة امامنا وهي في حكم رشحات القدر البديهي - اي الانتظام المادي في الاحياء - وقطرات القدر النظري - اي الانتظام المعنوي والحياتي - وبمثابة مستنداتهما ووثائقهما.. تدل بالبداهة على الكتاب المبين، وهو سجل الارادة والاوامر التكوينية، وعلى اللوح المحفوظ، الذي هو ديوان العلم الإلهي، الامام المبين.

النتيجة: ما دمنا نرى أن ذرات كل كائن حي، اثناء نموه ونشوئه ترحل الى حدود ونهايات ملتوية منثنية وتقف عندها. وتغير طريقها لتثمر في تلك النهايات حكمةً وفائدة ومصلحة. فبالبداهة ان المقدار الظاهري لذلك الشئ قد رُسم بقلم القدر.

وهكذا فان القدر البديهي المشهود يدل على ما في الحالات المعنوية ايضاً لذلك الكائن الحي من حدود منتظمة ومثمرة ونهايات مفيدة قد رسمت بقلم القدر ايضاً. فالقدرة مصدر، والقدر مِسطَر، تُسطّر القدرةُ على مسطر القدر، ذلك الكتاب للمعاني.

فما دمنا ندرك ادراكاً جازماً أن ما رُسم من حدود وثمرات ونهايات حكيمة، انما هو بقلم القدر المادي والمعنوي، فلابد أن ما يجريه الكائن الحي طوال حياته من احوال واطوار قد رسم ايضاً بقلم ذلك القدر. اذ إن تاريخ حياته يجري على وفق نظام وانتظام، مع تغييره الصور واتخاذه الاشكال. فما دام قلم القدر مهيمناً على جميع ذوي الحياة، فلاشك ان تاريخ حياة الانسان - الذي هو اكمل ثمرة من ثمرات العالم وخليفة الارض الحامل للامانة الكبرى - اكثر انقياداً لقانون القدر من اي شئ آخر.

C فان قال:

ان القدر قد كبّلنا وسلب حريتنا، الا ترى ان الايمان بالقدر يورث ثقلاً على القلب ويولد ضيقاً في الروح، وهما المشتاقان الى الانبساط والجولان؟

والجواب: كلا. حاشَ للّه! فكما ان القدر لا يورث ضيقاً، فانه يمنح خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية وسروراً ونوراً يحقق الأمن والامان والروح والريحان؛ لأن الانسان إن لم يؤمن بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ضمن دائرة ضيقة وحرية جزئية وتحرر مؤقت، لأن الانسان له علاقات مع الكائنات قاطبة، وله مقاصد ومطالب لا تنتهيان الاّ ان قدرته وارادته وحريته لا تكفي لإيفاء واحدٍ من مليون من تلك المطالب والمقاصد، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الانسان من ثقل معنوي في عدم الايمان بالقدر، وكم هو مخيف وموحش.

بينما الايمان بالقدر يحمل الانسان على أن يضع جميع تلك الاثقال في سفينة القدر، مما يمنحه راحة تامة، اذ ينفتح امام الروح والقلب ميدان تجوال واسع، فيسيران في طريق كمالاتهما بحرية تامة. بيد أن هذا الايمان يسلب من النفس الامارة بالسوء حريتها الجزئية ويكسر فرعونيتها ويحطم ربوبيتها ويحدّ من حركاتها السائبة.

ألا ان الايمان بالقدر لذيذ ما بعده لذة، وسعادة ما بعدها سعادة. وحيث لا نستطيع تعريف تلك اللذة والسعادة، نشير اليهما بالمثال الآتي:

رجلان يسافران معاً الى عاصمة سلطان عظيم، ويدخلان الى قصر السلطان العامر بالعجائب والغرائب. احدهما لا يعرف السلطان ويريد ان يسكن في القصر خلسة ويمضي حياته بغصب الاموال، فيعمل في حديقة القصر. ولكن ادارة تلك الحديقة وتدبيرها وتنظيم وارداتها وتشغيل مكائنها واعطاء ارزاق حيواناتها الغريبة وامثالها من امورها المرهقة دفعته الى الاضطراب الدائم والقلق المستمر، حتى اصبحت تلك الحديقة الزاهية الشبيهة بالجنة جحيماً لا يطاق. اذ يتألم لكل شئ يعجز عن ادارته، فيقضي وقته بالآهات والحسرات. واخيراً يُلقى به في السجن عقاباً وتأديباً له لسوء تصرفه وادبه.

اما الشخص الثاني فانه يعرف السلطان، ويعدّ نفسه ضيفاً عليه، ويعتقد ان جميع الاعمال في القصر والحديقة تدار بسهولة تامة .. بنظام وقانون وعلى وفق برنامج ومخطط، فيلقى الصعوبات والتــكاليـف الى قانون السلــطان، مســتفيداً بانــشــراح تام وصفاء كامـل من متــع تلــك الحديــقة الـزاهــرة كــالجـنــة، ويــرى كــل شـــئ جميلاً حقاً، استناداً الى عطف السلطان ورحمته، واعتماداً على جمال قوانينه الادارية.. فيقضي حياته في لذة كاملة وسعادة تامة.

فافهم من هذا سر (من آمن بالقدر أمن من الكدر)







المبحث الرابع

اذا قلت: لقد اُثبت في المبحث الاول ان كل ما للقدر جميل وخير، بل حتى الشر الآتي منه خير. والقبح الوارد منه جميل . بينما المصائب والبلايا التي تنزل في دار الدنيا هذه تجرح هذا الحكم وتقدح بهذا الاثبات.

الجواب: يا نفسي ويا صاحبي!

يا من تتألمان كثيراً لشدة ما تحملان من شفقة ورأفة. اعلما ان الوجود خير محض والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل الى الوجود، وكون العدم اساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص.

ولما كان العدم شراً محضاً، فالحالات التي تنجر الى العدم او يُشم منها العدم تتضمن الشر ايضاً، لذا فالحياة التي هي اسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن احوال مختلفة، وتتصفى بدخولها اوضاعاً متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة، وتبين نقوش اسماء واهب الحياة بياناً لطيفاً وجميلاً بتحولها في اطوار متنوعة.

وبناءً على هذه الحقيقة تعرض حالات على الاحياء في صور الآلام والمصائب والمشقات والبليات، فتتجدد بتلك الحالات انوار الوجود في حياتهم وتتباعد عنها ظلمات العدم، واذا بحياتهم تتطهر وتتصفى، ذلك لأن التوقف والسكون والسكوت والعطالة والدعة والرتابة، كل منها عدمٌ في الكيفيات والاحوال. حتى ان اعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في الحالات الرتيبة.

حاصل الكلام : لما كانت الحياة تبين نقوش الاسماء الحسنى، فكل ما ينزل بالحياة اذن جميل وحسن.

فمثلاً: أن صانعاً ثرياً ماهراً يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له في ظرف ساعة بدور النموذج (موديل) لأجل اظهار آثار صنعته الجميلة وابراز مدى ثرواته القيّمة فيُلبسه ما نسجه من حلة قشيبة في غاية الجمال والابداع،و يجرى عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لإظهار خوارق صنائعه وبدائع مهاراته، فيقصّ ويبدّل ويطوّل ويقصر، وهكذا...

تُرى أيحق لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: ((انك تتعبني وترهقني بطلبك منّي الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وانك تشوّه بقصّك وتقصيرك هذا القميص الذي يجمّلني ويزينني؟ ترى أيقدر ان يقول له: لقد ظلمت وما انصفت؟!)).

وكذلك الأمر في الصانع الجليل الفاطر الجميل (ولله المثل الاعلى) اذ يبدّل قميص الوجود الذي ألبسه ذوي الحياة، ويقلبه في حالات كثيرة، ذلك القيمص المرصع باللطائف والحواس كالعين والاذن والعقل والقلب وامثالها، يبدّله ويقلّبه اظهاراً لنقوش اسمائه الحسنى.

ففي الاوضاع التي تتسم بالآلام والمصائب انوار جمال لطيف تشف عن اشعة رحمة ضمن لمعات الحكمة الإلهية، اظهاراً لأحكام بعض الاسماء الحسنى.



الخاتمة

[ هذه فقرات خمس اسكتت النفس الامارة بالسوء لسعيد القديم، تلك النفس الجاهلة المتفاخرة المغرورة المرائية المعجبة بنفسها]

C الفقرة الاولى:

ما دامت الاشياء موجودة ومتقنة الصنع، فلابد ان صانعاً ماهراً قد صنعها. فلقد اثبتنا في الكلمة الثانية والعشرين اثباتاً قاطعاً انه:

ان لم تُسند كل الاشياء الى الواحد الأحد، يتعسر كل شئ كتعسر الاشياء كلها. وإن اُسند كل شئ الى الواحد الأحد، تسهل الاشياء كلها كسهولة شئ واحد.

ولما كان الذي خلق الارض والسموات هو الواحد الأحد، فلابد ان ذلك البديع الحكيم لا يعطى ثمرات الارض والسموات ونتائجهما وغاياتهما - وهم ذوو الحياة - الى غيره فيفسد الامور. ولا يمكن ان يسلّمها الى ايدي الآخرين فيعبث بجميع اعماله الحكيمة. ولا يمكن ان يبيدها.. ولا يسلّم ايضاً شكرها وعباداتها الى غيره.

C الفقرة الثانية:

يا نفسي المغرورة! انكِ تشبهين ساق العنب، لا تغتري ولا تفتخري، فتلك الساق لم تعلق العناقيد على نفسها، بل علّقها عليها غيرها.

C الفقرة الثالثة:

يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلة: انني خدمت الدين. فان الحديث الشريف صريح بـ ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر(1) فعليك ان تعدّى نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لانك غير مزكاة.

واعلمي ان خدمتك للدين وعباداتك ما هي الا شكر ما انعم الله عليك، وهي اداء لوظيفة الفطرة وفريضة الخلق ونتيجة الصنعة الإلهية.. اعلمي هذا وانقذي نفسك من العجب والرياء.

C الفقرة الرابعة:

ان كنت ترومين الحصول على علم الحقيقة، والحكمة الحقة، فاظفري بمعرفة الله، اذ حقائق الموجودات كلها، انما هي اشعة اسم الله الحق، ومظاهر اسمائه الحسنى، وتجليات صفاته الجليلة. واعلمي ان حقيقة كل شئ مادياً كان أو معنوياً وجوهرياً أو عرضياً، وحقيقة الانسان نفسه انما تستند الى نور من انوار اسمائه تعالى وترتكز على حقيقته. والاّ فهي صورة تافهة لا حقيقة لها. ولقد ذكرنا في ختام الكلمة العشرين شيئاً من هذا البحث.

يا نفسي!

ان كنت مشتاقة الى هذه الدنيا، وتفرين من الموت، فاعلمي يقيناً ان ما تظنينه حياة، ما هو الاّ الدقيقة التي انت فيها، فما قبل تلك الدقيقة من زمان وما فيه من اشياء دنيوية كله ميت. وما بعد تلك الدقيقة من زمان وما فيه كله عدم، لا شئ.

بمعنى ان ما تفتخرين به وتغترين به من حياة فانية ليس الاّ دقيقة واحدة، حتى ان قسماً من اهل التدقيق قالوا: ان الحياة عاشرة عشر من الدقيقة، بل آنٌّ سيّال.. من هنا حَكَم قسم من اهل الولاية والصلاح بعدمية الدنيا من حيث انها دنيا.

فما دام الامر هكذا فدعي الحياة المادية النفسية واصعدي الى درجات حياة القلب والروح والسر. وانظري ما اوسع دائرة حياتها، فالماضي والمستقبل - الميتان بالنسبة لك - حيّان بالنسبة لها وموجودان.

فيا نفسي:

ما دام الامر هكذا، ابكي كما يبكي قلبي واستغيثي وقولي:

أنا فانٍ، من كان فانياً لا اريد

انا عاجز، من كان عاجزاً لا اريد..

سلمت روحي للرحمن، سواه لا اريد..

بل اريد، ولكن حبيباً باقياً اريد..

انا ذرة..

ولكن شمساً سرمداً اريد.

انا لا شئ ومن غير شئ، ولكن الموجودات كلّها اريد.

C الفقرة الخامسة:

هذه الفقرة خطرت باللغة العربية وكتبت كما وردت. وهي اشارة الى مرتبة من المراتب الثلاث والثلاثين في ذكر ((الله اكبر)).

الله اكبر؛ اذ هو القدير العليم الحكيم الكريم الرحيم الجميل النقاش الازلي الذي ما حقيقة هذه الكائنات كلاً وجزءاً وصحائف وطبقاتٍ وما حقائق هذه الموجودات كلياً وجزئياً ووجوداً وبقاءً إلا:

خطوط قلم قـضائه وقدره وتنظيمه وتقديره بعلمٍ وحكمة.ٍ

ونقوش بركار علمه وحكمته وتصويره وتدبيره بصنع وعناية.

وتزيينات يد بـيـضاء صنعه وعنايته وتزيينه وتنويره بلطف وكرمٍِ.

وأزاهير لطائف لطفه وكرمه وتودده وتعرّفه برحمة ونعمة.

وثمرات فياض رحمته ونعمته وترحمه وتحننه بجمال وكمال.

ولمعات وتجليات جماله وكماله بشهادات تفانية المرايا وسيالية المظاهر مع بقاء الجمال المجرد السرمدي، الدائم التجلي والظهور، على مر الفصول والعصور والدهور، ودائم الانعام على مر الانام والايام والاعوام.

نعم فالاثر المكمّل يدل ذا عقل على الفعل المكمّل ثم الفعل المكّمل يدل ذا فهم على الاسم المكمل ثم الاسم المكمّل يدل بالبداهة على الوصف المكمّل ثم الوصف المكمل يدل بالضرورة على الشأن المكمّل ثم الشأن المكمل يدل باليقين على كمال الذات بما يليق بالذات وهو الحق اليقين.

نعم تفاني المرآة، زوال الموجودات، مع التجلي الدائم مع الفيض الملازم.. من اظهر الظواهر ان الجمال الظاهر، ليس ملك المظاهر.. من افصح تبيان.. من اوضح برهان للجمال المجرد للاحسان المجدد للواجب الوجود.. للباقي الودود..

اللّهم صل على سيّدنا محمّد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله

وعلى آله وصحبه وسلم.

ذيل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم - بالرغم من فهمي القاصر - طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله (الرحمن).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله (الرحيم).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله (الحكيم).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولا سيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

] فلا تُزكّوا انفُسَكم[ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم[ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

] ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِك[ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

] كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه[ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة ] فلا تزكوا انفسكم[ وهي: عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما اودعه الله فيه من اجهزة لحمده سبحانه وتقديسه الى نفسه، فيصيبه وصف الآية الكريمة: ] من اتّخذ الهَه هَواه[ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: ] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم[ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.



والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: ] ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك[ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماً منه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هذه المرتبة هي في سر هذه الآية الكريمة: ] قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها[ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: ] كُلُّ شَيٍء هالكٌ الا وجْهَه[ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة: ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في (الكلمات الست والعشرين) السابقة من كتاب (الكلمات) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى (القدير) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل (وحدة الوجود) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: (لا موجود الا هو) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل (وحدة الشهود) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: (لا مشهود الا هو) للوصول الى الاطمئنان القلبي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمى من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.


الساعة الآن 09:47 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى