منتديات البوحسن - معلم ولكن

كان لا يأتي الى سوق الهال إلابعد العصر ليشتري الخضار والفواكه الذابلة بأثمان بخسة ... كنت ألمحه وهو يمر من أمام بيتي محملاً بعدة أكياس متمتماً وهو يمشي تمتمات لا يعلم إلا الله فحواها . كان الله في عونه ... أحد عشر ولداً وزوجة مريضة يتكدسون في غر فتين ويعيشون براتب تقاعدي ضئيل .‏

كنت أعجب كيف يعيش هذا الرجل ، ورغم أنني من المقربين إليه عندما أسأله يجيبني باعتزاز ما قاله الشاعر :‏

قنع النفس بالكفاف وإلا‏

طلبت منك فوق ما يكفيها‏

قلت له مرة : هل تعتقد أنك بكثرة الأولاد ستحرر الأرض المحتلة ؟‏

قال : لا والله أبداً ، قلت : ألم تفكر بتعليمهم وكسوتهم ومصاريفهم في هذا الزمن الصعب ؟ قال : بلى والله وكما تعلم أنا مريض وزوجتي مريضة ، وصدقني رفعت يديّ الى السماء أكثر من مرة وناجيت الله ، وقلت بصدق :‏

الناس يعطون أموالاً وميسرة‏

وأنت أعطيتني يا رب صبيانا‏

خذهم إليك فكلٌ صار في خلق‏

وأنت أعطيته يارب عريانا‏

وذرفت عيناه الدموع سخية ثم قال : عدد من زملائي الطلاب الكسالى فشلوا فهجروا المدرسة وقد كنت أشفق عليهم من كثرة ما ضربوا وأهينوا .... أتصدق أنهم الآن يسكنون القصور ويركبون أحدث أنواع السيارات ويمتلكون أرصدة في عدد من المصارف وأنا الذي تفوقت وأصبحت مربياً يشار إليه بالبنان يكون نصيبي الفقر والحرمان ؟!‏

قلت له مواسياً : الغنى غنى النفس وأنا على ثقة بأن الأمور ستتحسن قريباً وسيزيد راتبك التقاعدي .‏

قال ضاحكاً : ( عيش يا كديش ) وهب أن راتبي سيزاد فما هو حجم الزيادة ؟ ألا ترى معي أن كل شيء زاد سعره وغلا ثمنه ؟‏

والله لم يكن الشاعر مخطئاً عندما قال :‏

وحلاوة الدنيا لجاهلها‏

ومرارة الدنيا لمن عقلا‏

والله يا صديقي لأول مرة في حياتي أضرب ولداً ، البارحة عندما سئل ولدي : ماذا تحب أن تكون في المستقبل ؟ أجاب : معلماً مثل والدي ، نال نصيبه من العقاب .‏

سقى الله أيام المعلمين القديمة ، عندما كان يدخل المعلم الى مضافة أو مقهى كان الناس يقومون له احتراماً وتقديراً مرددين بكل فخر :‏

قم للمعلم وفه التبيجلاً‏

كاد المعلم أم يكون رسولا‏

كانت عيشته هانئة يلبس ويأكل ويشرب أفضل من الآخرين وراتبه يكفيه ويزيد ، أما الآن فلباسه من ( البالة ) وطعامه كما ترى وإ ن أ نب تلميذاً أو ضربه تشكل له لجنة تحقيق وقد يحال الى المحكمة وليس خافٍ على أحد أعداد المعلمين الذين يعملون الآن في سوق الهال وقيادة السيارات وأجراء في محلات الآثرياء كي يستطيعوا العيش بكرامة .... لذا آليت على نفسي أن أدخل أولادي في حرفٍ يستطيعون من خلالها تأمين مستقبلهم الذي أراه غامضاً .‏

قلت له عندما بلغ به التأثر مداه :‏

وعاقبة الصبر الجميل جميلة‏

وأفضل أخلاق الرجال التفضل‏

لكنه غادرني قبل أن أكمل هذا البيت من الشعر