منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   رسائل ووصايا في التزكية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=15)
-   -   المكتوبات (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=6071)

عبدالرزاق 02-03-2011 01:25 AM

المكتوبات
 

بسم الله الرحمن الرحيم

وَبهِ نـَسْتـَعينُ

المكتوب الأول

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِِ{



((جواب مختصر عن اربعة اسئلة))

o السؤال الاول:

هل سيدنا الخضر عليه السلام على قيد الحياة؟ فان كان على قيد الحياة فلِمَ يعترض على حياته عدد من العلماء الأجلاّء؟

الجواب: انه على قيد الحياة، الاّ ان للحياة خمس مراتب، وهو في المرتبة الثانية منها، ولهذا شكّ عدد من العلماء في حياته.

الطبقة الاولى من الحياة: هي حياتنا نحن، التي هي مقيدة بكثير من القيود.

الطبقة الثانية من الحياة: هي طبقة حياة سيدنا الخضر وسيدنا إلياس عليهما السلام والتي فيها شئ من التحرر من القيود، اي يمكنهما ان يكونا في اماكن كثيرة في وقت واحد، وان يأكلا ويشربا متى شاءا. فهما ليسا مضطرين ومقيدين بضرورات الحياة البشرية دائماً مثلنا. ويروي اهل الكشف والشهود من الاولياء بالتواتر حوادث واقعة عن هذه الطبقة. فهذه الروايات تثبت وجود هذه الطبقة من الحياة وتنورها، حتى ان في مقامات الولاية مقاماً يُعبّر عنه بـ ((مقام الخضر)). فالولي الذي يبلغ هذا المقام يجالس الخضر عليه السلام ويتلقى عنه الدرس، ولكن يُظن احياناً خطأً أن صاحب هذا المقام هو الخضر بعينه.

الطبقة الثالثة من الحياة: هي طبقة حياة سيدنا ادريس وسيدنا عيسى عليهما السلام. هذه الطبقة تكتسب لطافة نورانية بالتجرد من ضرورات الحياة البشرية والدخول في حياة شبيهة بحياة الملائكة، فهما يوجدان في السموات بجسميهما الدنيويين - الذي هو بلطافة بدن مثالي ونورانية جسد نجمي - والحديث الشريف الوارد أن سيدنا عيسى عليه السلام ينـزل في آخر الزمان ويحكم بالشريعة المحمدية(1) حكمته هي الآتي:

انه ازاء ما تجريه الفلسفة الطبيعية من تيار الالحاد وانكار الالوهية في آخر الزمان، تتصفى العيسوية وتتجرد من الخرافات. وفي أثناء انقلابها الى الاسلام، يجرّد شخص العيسوية المعنوي سيف الوحي السماوي ويقتل شخص الالحاد المعنوي، كما ان عيسى عليه السلام الذي يمثل الشخص المعنوي للعيسوية يقتل الدجالَ الممثل للالحاد في العالم. بمعنى انه يقتل مفهوم انكار الالوهية.

الطبقة الرابعة من الحياة: هي حياة الشهداء، الثابتة بنص القرآن الكريم، أن لهم طبقة حياة أعلى وأسمى من حياة الأموات في القبور. نعم! ان الشهداء الذين ضحوا بحياتهم الدنيوية في سبيل الحق، ينعم عليهم سبحانه وتعالى بكمال كرمه حياة شبيهة بالحياة الدنيوية في عالم البرزخ، الاّ انها بلا آلام ولا متاعب ولا هموم؛ حيث لا يعلمون أنهم قد ماتوا، بل يعلمون أنهم قد ارتحلوا الى عالم افضل، لذا يستمتعون متعة تامة ويتنعمون بسعادة كاملة، اذ لا يشعرون بما في الموت من ألم الفراق من الأحبة، كما هو لدى الاموات الآخرين الذين يعلمون انهم قد ماتوا، رغم ان ارواحهم باقية. لذا فاللذة والسعادة التي يستمتعون بها في عالم البرزخ قاصرة عن اللذة التي يتمتع بها الشهداء. وهذا نظير المثال الآتي:

شخصان رأيا في المنام انهما قد دخلا قصراً جميلاً كالجنة. أحدهما يعلم أن ما يراه هو رؤيا. فاللذة التي يحصل عليها تكون ناقصة جداً، اذ يقول في نفسه: ستزول هذه اللذة بمجرد انتباهي من النوم. أما الآخر فلا يعتقد انه في رؤيا لذا ينال لذة حقيقية ويسعد سعادة حقيقية.

وهكذا يتميز كسب الشهداء من حياتهم البرزخية عن كسب الاموات منها.

ان نيل الشهداء هذا النمط من الحياة واعتقادهم أنهم أحياء ثابت بوقائع وروايات غير محدودة. حتى ان إجارة سيدنا حمزة رضى الله عنه، سيد الشهداء، لمن استجاره ولجأ اليه وقضاءه لحوائجهم الدنيوية، وحمل الآخرين لقضائها، وامثالها من حوادث واقعة كثيرة، نوّرت هذه الطبقة من الحياة واثبتتها. حتى انني شخصياً وقعت لي هذه الحادثة:

كان ابن اختي ((عبيد)) أحد طلابي، قد استشهد بقربي بدلاً عنى، في الحرب العالمية الاولى. فرأيت في المنام رؤيا صادقة عندي: انني قد دخلت قبره الشبيه بمنزل تحت الارض، رغم اني في الاسر على بعد مسيرة ثلاثة اشهر منه، واجهل مكان دفنه. ورأيته في طبقة حياة الشهداء. وقد كان يعتقد انني ميت، وذكر أنه قد بكى عليّ كثيراً، ويعتقد انه ما زال على قيد الحياة، الاّ انه قد بنى له منزلاً جميلاً تحت الارض حذراً من استيلاء الروس.

فهذه الرؤيا الجزئية - مع بعض الشروط والأمارات - اعطتني قناعة تامة - بدرجة الشهود - للحقيقة المذكورة.

الطبقة الخامسة من الحياة:هي الحياة الروحانية لأهل القبور.

نعم! الموت هو تبديل مكان واطلاق روح وتسريح من الوظيفة، وليس اعداماً ولا عدماً ولا فناءً. فتمثُّل ارواح الاولياء، وظهورهم لأصحاب الكشف، بحوادث لا تعد، وعلاقات سائر اهل القبور بنا، في اليقظة والمنام، واخبارهم ايانا اخباراً مطابقة للواقع.. وامثالها من الادلة الكثيرة، تنوّر هذه الطبقة وتثبتها.

ولقد اثبتت ((الكلمة التاسعة والعشرون)) الخاصة ببقاء الروح بدلائل قاطعة طبقة الحياة هذه اثباتاً تاماً.



السؤال الثاني:

ان الآية الكريمة: } الذي خَلَقَ الموت والحياةَ ليبلوَكُم ايّكُم أحْسَنُ عَمَلاً{ (الملك:2) وامثالها في القران الحكيم، تعد الموت مخلوقاً كالحياة، وتعتبره نعمة إلهية. ولكن الملاحظ ان الموت انحلال وعدم وتفسخ، وانطفاء لنور الحياة، وهادم اللذات... فكيف يكون ((مخلوقاً)) وكيف يكون ((نعمة))؟

الجواب: لقد ذكرنا في ختام الجواب عن السؤال الأول: ان الموت في حقيقته تسريح وانهاء لوظيفة الحياة الدنيا، وهو تبديل مكان وتحويل وجود، وهو دعوة الى الحياة الباقية الخالدة ومقدمة لها؛ اذ كما ان مجئ الحياة الى الدنيا هو بخلق وبتقدير إلهي، كذلك ذهابها من الدنيا هو ايضاً بخلق وتقدير وحكمة وتدبيرإلهي؛ لأن موت ابسط الأحياء - وهو النبات - يُظهر لنا نظاماً دقيقاً وابداعاً للخلق ما هو اعظم من الحياة نفسها وانظم منها، فموت الأثمار والبذور والحبوب الذي يبدو ظاهراً تفسخاً وتحللاً هو في الحقيقة عبارة عن عجن لتفاعلات كيمياوية متسلسلة في غاية الانتظام، وامتزاج لمقادير العناصر في غاية الدقة والميزان، وتركيب وتشكّل للذرات بعضها ببعض في غاية الحكمة والبصيرة، بحيث ان هذا الموت الذي لا يرى، وفيه هذا النظام الحكيم والدقة الرائعة، هو الذي يظهر بشكل حياة نامية للسنبل وللنبات الباسق المثمر. وهذا يعني ان موت البذرة هو مبدأ حياة النبات الجديدة، أزهاراً وأثماراً.. بل هو بمثابة عين حياته الجديدة؛فهذا الموت اذن مخلوق منتظم كالحياة..

وكذلك فان ما يحدث في معدة الانسان من موت لثمرات حية، أو غذاء حيواني، هو في حقيقته بداية ومنشأ لصعود ذلك الغذاء في اجزاء الحياة الانسانية الراقية. فذلك الموت اذن مخلوق اكثر انتظاماً من حياة تلك الاغذية.

فلئن كان موت النبات - وهو في ادنى طبقات الحياة - مخلوقاً منتظماً بحكمة، فكيف بالموت الذي يصيب الانسان وهو في ارقى طبقات الحياة؟ فلا شك ان موته هذا سيثمر حياة دائمة في عالم البرزخ، تماماً كالبذرة الموضوعة تحت التراب والتي تصبح بموتها نباتاً رائع الجمال والحكمة في (عالم الهواء).

اما كيف يكون الموت نعمة؟..

فالجواب: سنذكر اربعة وجوه فقط من اوجه النعمة والامتنان الكثيرة للموت.

اولها: الموت انقاذ للانسان من اعباء وظائف الحياة الدنيا ومن تكاليف المعيشة المثقلة. وهوباب وصال في الوقت نفسه مع تسعة وتسعين من الاحبة الاعزاء في عالم البرزخ، فهو اذن نعمة عظمى!

ثانيها: انه خروج من قضبان سجن الدنيا المظلم الضيق المضطرب، ودخول في رعاية المحبوب الباقي وفي كنف رحمته الواسعة، وهو تنعم بحياة فسيحة خالدة مستنيرة لا يزعجها خوف، ولا يكدرها حزن ولا همّ.

ثالثها: ان الشيخوخة وامثالها من الاسباب الداعية لجعل الحياة صعبة ومرهقة، تبيّن مدى كون الموت نعمة تفوق نعمة الحياة. فلو تصورت ان اجدادك مع ما هم عليه من احوال مؤلمة قابعون امامك حالياً مع والديك اللذين بلغا ارذل العمر، لفهمت مدى كون الحياة نقمة، والموت نعمة. بل يمكن ادراك مدى الرحمة في الموت ومدى الصعوبة في ادامة الحياة ايضاً بالتأمل في تلك الحشرات الجميلة العاشقة للازاهير اللطيفة، عند اشتداد وطأة البرد القارس في الشتاء عليها.

رابعها: كما ان النوم راحة للانسان ورحمة، ولا سيما للمبتلين والمرضى والجرحى، كذلك الموت - الذي هو اخو النوم - رحمة ونعمة عظمى للمبتلين ببلايا يائسة قد تدفعهم الى الانتحار.

اما اهل الضلال، فالموت لهم كالحياة نقمة عظمى وعذاب في عذاب، كما اثبتنا ذلك في ((كلمات)) متعددة اثباتاً قاطعاً وذلك خارج بحثنا هذا.

السؤال الثالث: اين جهنم؟

الجواب: لا يعلم الغيب الاّ الله، قال تعالى: } قل إنما العِلْمُ عندَ الله{ (الملك: 26) وقد جاء في بعض الروايات: ان جهنم تحت الارض(1). فالكرة الارضية بحركتها السنوية، تخط دائرة حول ميدان سيكون محشراً في المستقبل، كما بينا هذا في مواضع اخرى.

أما جهنم تحت الارض، فيعني: تحت مدارها السنوي، وان سبب عدم رؤيتها والاحساس بها هو لكونها ناراً بلا نور ومستورة بحجاب. ولا جرم ان في مدار جولان الارض، تلك المسافة المهولة، كثيراً جداً من المخلوقات، وهي لا تُشاهد، لفقدها النور، فكما أن القمر كلما سُحب نوره يفقد وجوده، كذلك ان كثيراً جداً من المخلوقات والاجرام لكونها معتمة لا نراها رغم انها أمام ابصارنا.

وجهنم اثنتان:

احداهما جهنم صغرى، والاخرى جهنم كبرى.

والصغرى بمثابة نواة الكبرى، اذ ستنقلب اليها في المستقبل وستكون منزلاً من منازلها.

ومعنى ان جهنم الصغرى تحت الارض، انها في مركزها، لأن تحت الكرة مركزها. ومن المعلوم في علم طبقات الارض ان الحرارة تتزايد درجة واحدة - على الاغلب - كلما حفر في الارض ثلاث وثلاثون متراً. بمعنى ان درجة الحرارة تبلغ في مركز الارض مائتى الف درجة، لان نصف قطر الارض اكثر من ستة الاف كيلو متر، اي ناره أشد من نار الدنيا بمائتي درجة، وهذا يوافق ما ورد في الحديث الشريف(1).

وقد أدت جهنم الصغرى هذه وظائف كثيرة جداً تخص جهنم الكبرى في هذه الدنيا وفي عالم البرزخ، كما اشارت اليها الاحاديث الشريفة.

أما في عالم الآخرة فستفرغ الارض أهلها وتلقي بهم في ميدان الحشر الذي هو في مدارها السنوي، كما تُسلّم ما في جوفها من جهنم صغرى الى جهنم كبرى بأمر الله جل جلاله. أما قول عدد من ائمة المعتزلة: ان جهنم سوف تخلق فيما بعد، فهو خطأ وغباء في الوقت نفسه، ناشئ من عدم انبساطها انبساطاً تاماً في الوقت الحاضر وعدم انكشافها انكشافاً تاماً بما يوافق اهل الارض. ثم ان رؤية منازل عالم الآخرة المستورة عنا بستار الغيب بابصارنا الدنيوية واراءتها الآخرين لا تحصل الاّ بتصغير الكون كله (اي الدنيا والآخرة)وجعلهما في حكم ولايتين. أو بتكبير عيوننا بحجم النجوم كي نعرف اماكنها ونعيّنها. فالمنازل التي تخص عالم الآخرة لا ترى بابصارنا الدنيوية. والعلم عند الله.

ولكن يفهم من اشارات بعض الروايات ان جهنم التي في الآخرة لها علاقة مع دنيانا، فقد ورد في شدة حرارة الصيف انها (من فيح جهنم)(1). فجهنم الكبرى اذن تلك النار الهائلة لا ترى بعين العقل الخافتة الصغيرة، ولكن نستطيع أن ننظر اليها بنور اسم الله ((الحكيم)) وذلك:

ان جهنم الكبرى الموجودة تحت المدار السنوي للارض كأنها قد وكّلت جهنم الصغرى الموجودة في مركز الارض، فتؤدي بها بعض وظائفها. وان ملك الله القدير ذي الجلال واسع جداً، فاينما وجّهت الحكمة الإلهية جهنم فهي تستقر هناك وعندها.

نعم. ان قديراً ذا جلال، وحكيماً ذا كمال، المالك لأمر ((كن فيكون)) الذي ربط القمر بالارض بحكمة كاملة وفق نظام، كما هو مشاهد، وربط الارض بالشمس بعظمة قدرته وفق نظام، وسيّر الشمس مع سياراتها بعظمة ربوبيته الجليلة، بسرعة مقاربة لسرعة الارض السنوية، يجريها الى شمس الشموس (بناءً على فرض) وجعل النجوم المتلألئة كالمصابيح، شواهد نورانية على عظمة ربوبيته، مظهراً بهذا ربوبية جليلة وعظمة قدرة قادرة، لا يستبعد عن كمال حكمة هذا القدير الجليل وعن عظمة قدرته وسلطان ربوبيته ان يجعل جهنم الكبرى في حكم خزان معمل الاضاءة، ويشعل بها نجوم السماء الناظرة الى الآخرة، ويمدّها منها بالحرارة والقوة، اي يبعث اليها النار والحرارة من جهنم، ويرسل اليها من الجنة - التي هي عالم النور - نوراً وضياءً. وفي الوقت نفسه يجعل من جهنم مسكناً لأهل العذاب وسجناً لهم.

وكذا ان الفاطر الحكيم الذي يضم شجرة عظيمة هائلة كالجبل في بذيرة صغيرة كالخردل، لا يستبعد عن قدرته وعن حكمته أن يحفظ جهنم الكبرى في بذرة جهنم الصغرى المستقرة في قلب الكرة الارضية.

نحصل من هذا:

ان الجنة وجهنم ثمرتان من غصن شجرة الخلق، قد تدلتا الى الأبد، وموضع الثمرة في منتهى الغصن.

وانهما نتيجتان لسلسلة الكائنات هذه، ومحل النتائج يكون في طرفي السلسلة، السفلية منها والثقيلة في الاسفل، والعلوية النورانية منها في الاعلى.

وانهما مخزنان لسيل الشؤون الإلهية والمحاصيل الارضية المعنوية، ومكان المخزن يكون حسب نوع المحاصيل، الفاسدة منها في اسفله، والجيدة في اعلاه.

وانهما حوضان للموجودات السيالة المتموجة والجارية نحو الابد. ومحل الحوض يكون في موضع سكون السيل وتجمعه. بمعنى أن خبثه وقذارته في الاسفل، طيباته ونقيّاته في الاعلى.

وأنهما موضعان لتجلي اللطف والقهر والرحمة والعظمة، وموضع التجلي يكون في اي موضع كان. ويفتح الرحمن الجميل والقهار الجليل موضع تجليه اينما شاء.

أما وجود الجنة وجهنم، فقد اثبت اثباتاً قاطعاً في ((الكلمة العاشرة والكلمة الثامنة والعشرين والكلمة التاسعة والعشرين)) الاّ اننا نقول هنا:

ان وجود الثمرة قطعي ويقين كقطعية ويقين وجود الغصن.. ووجود النتيجة يقين كيقين وجود السلسلة.. ووجود المخزن يقين كيقين وجود المحاصيل.. ووجود الحوض يقين كيقين وجود النهر.. ووجود موضع التجلي يقين كيقين وجود الرحمة والقهر.

السؤال الرابع:

العشق المجازي للمحبوبات يمكن ان ينقلب الى عشق حقيقي، فهل يمكن أن ينقلب العشق المجازي للدنيا الذي يحمله اكثر الناس الى العشق الحقيقي؟

الجواب: نعم، اذا شاهد ذلك العاشق المجازي لوجه الدنيا الفاني، قبحَ الزوال ودمامة الفناء على ذلك الوجه. فاعرض عنه، وبحث وتحرى عن محبوب باق لا يزول. ووفقه الله للنظر الى وجَهي الدنيا الجميلين - وهما مرآة الاسماء الحسنى ومزرعة الآخرة - انقلب حينئذٍ العشق المجازي غير المشروع الى عشق حقيقي. ولكن بشرط الاّ يلتبس عليه، دنياه الزائلة غير المستقرة المرتبطة بحياته، بالدنيا الخارجية؛ اذ لو نسي نفسه نسيان اهل الضلالة والغفلة وخاض في غمار آفاق الدنيا وظن دنياه الخاصة كالدنيا العمومية، فعشقها، فانه يقع في مستنقع الطبيعة ويغرق. الاّ من أنجته يد العناية نجاة خارقة للعادة.

فتأمل في التمثيل الآتي الذي ينور لك هذه الحقيقة:

هب اننا نحن الاربعة دخلنا في غرفة، على جدرانها الاربعة مرايا كبيرة كبر الحائط. فعندئذٍ تصبح تلك الغرفة الجميلة خمس غرف. احداها حقيقية وعمومية، والاربعة الاخرى مثالية وخصوصية. وكل منا يستطيع ان يبدّل شكل غرفته الخاصة وهيئتها ولونها بوساطة مرآته. فلو صبغناها باللون الأحمر فانها تُري الغرفة حمراء ولو صبغناها باللون الأخضر فانها تريها خضراء.. هكذا، يمكننا ان نعطي للغرفة اوضاعاً متنوعة بالتغيير في المرآة والتصرف فيها، بل نستطيع وضعها في اوضاع جميلة أو قبيحة، أو اي شكل نرغب فيه، ولكننا لا نستطيع ان نغيّر ونبدل الغرفة العمومية الخارجة عن المرآة بسهولة ويسر. فأحكام الغرفتين الخصوصية والعمومية مختلفتان، وان كانتا واحدة متحدة في الحقيقة. فأنت بتحريك أصبع يمكنك تخريب غرفتك، بينما لا يمكنك تحريك حجر من تلك الغرفة العمومية ولو قيد أنملة.

وهكذا الدنيا فهي منزل جميل مزيّن، وحياة كل منا مرآة كبيرة واسعة، ولكل منا دنياه الخاصة من هذه الدنيا العمومية. ولكل منا عالمه الخاص به، الاّ ان عمود دنيانا ومركزها وبابها، حياتنا، بل ان دنيانا وعالمنا الخاص، صحيفة، وحياتنا قلم، يكتب بوساطته كثير من الاشياء التي تنقل الى صحيفة اعمالنا. فان احببنا دنيانا، ثم شاهدنا انها زائلة فانية لا قرار لها كحياتنا - لأنها مبنية فوقها - وشعرنا بهذا الزوال، وادركناه، عندئذٍ تتحول محبتنا نحوها الى محبة نقوش الاسماء الإلهية الحسنى التي تمثلها دنيانا الخاصة، المرآة لها. ومنها تنتقل المحبة الى محبة تجليات الاسماء الحسنى.

ثم اننا اذا ادركنا ان دنيانا الخاصة مزرعة مؤقتة للآخرة والجنة، وحوّلنا احاسيسنا الشديدة ومشاعرنا القوية نحوها كالحرص والطلب والمحبة وامثالها، الى نتائج تلك المزرعة وثمراتها وسنابلها، تلك هي فوائدها الاخروية. ينقلب عندها ذلك العشق المجازي الى عشق حقيقي. وبخلاف هذا نكون ممن قال الله تعالى في حقهم } نَسوُا الله فَاَنْساهم اَنْفُسَهُمْ اُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ{ (الحشر: 19). فالذي ينسى نفسه ويغفل عنها، ولم يفكر بزوال حياته، وحسَِبَ دنياه الخاصة الفانية ثابتة كالدنيا العمومية،ناسياً زوال الحياة، عاداًّ نفسه خالداً فيها فسكن اليها وتمسك بها بجميع حواسه ومشاعره يغرق فيها وينتهي أمره. فتكون تلك المحبة وبالاً عليه وعذاباً أليما، لأنها تولد شفقة ورقّة قلب يائس يأس اليتيم، فيقاسي الألم من احوال ذوي الحياة حتى يستشعر الم الرقة والفراق مما يصيب المخلوقات الجميلة المعرضة لصفعات الزوال والفراق، ويجد نفسه مكتوف الايدي ازاءها فيتجرع الألم في يأس مرير.

أما الشخص الأول الذي نجى من شِباك الغفلة، فانه يجد بلسماً شافياً ازاء شدة الم الشفقة تلك، اذ يشاهد في موت ذوي الحياة وفي زوال مَن يتألم لأوضاعهم، بقاء مرايا ارواحهم التي تمثل تجليات دائمة لأسماء دائمة لذات جليلة باقية خالدة. وعندئذٍ تنقلب شفقته الى سرور دائم، ويشاهد وراء جميع المخلوقات الجميلة المعرّضة للفناء والزوال، نقشاً واتقاناً وتجميلاً وتزييناً واحساناً وتنويراًً دائمياًً، يُشعره بجمال منزه وحسن مقدس، حتى يرى ذلك الزوال والفناء نمطاً لتزييد الحسن وتجديد اللذة وتشهير الصنعة، مما يزيد لذته وشوقه واعجابه.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالقادر حمود 02-03-2011 01:47 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثاني

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ{

(قطعة من الجواب الذي بعثه الى تلميذه المذكور المعلوم لما أرسل من هدية(1))

ثالثاً: لقد أرسلت اليّ هدية، تريد ان تغيّر بها قاعدة في غاية الأهمية من قواعد حياتي.

انني يا أخي لا أقول: ((لا أقبل هديتك مثلما لا أقبلها من شقيقي (عبد المجيد)(2) وابن اخي (عبد الرحمن)(3). فانك أسبق منهما وأقرب الى روحي، لذلك؛ فلو تُردّ هدية كل شخص، فهديتك لاتُردّ، على ان تكون لمرة واحدة فقط.

وأبين بهذه المناسبة سرّ قاعدتي تلك بالآتي:

كان (سعيد القديم) لا يتحمل أذى المنّ من أحد، بل كان يفضّل الموت على ان يظل تحت ثقل المنة. ولم يخالف قاعدته، رغم مقاساته المشقات والعناء. فهذه الخصلة الموروثة من (سعيد القديم) الى اخيك العاجز هذا، ليست تزهّداً ولا استغناءً مصطنعاً عن الناس، بل ترتكز على بضعة اسباب واضحة:

الاول:

ان أهل الضلال يتهمون العلماء باتخاذهم العلم مغنماً. فيهاجموهم ظلماً وعدواناً بقولهم: ((انهم يجعلون العلم والدين وسيلة لكسب معيشتهم)) فيجب تكذيب هؤلاء تكذيباً فعلياً.

الثاني:

نحن مكلّفون باتباع الانبياء - عليهم السلام - في نشر الحق وتبليغه، وان القرآن الكريم يذكر الذين نشروا الحق انهم اظهروا الاستغناء عن الناس بقولهم: } إن أجريَ الاّ على الله{ } ان اجريَ الاّ على الله{ . وان الآية الكريمة: } اتّبعوا مَن لا يسئَلُكُم اجراً وهم مُهتدون{ في سورة يس، تفيد معاني جمّة، ومغزى عميقاً، فيما تخص مسألتنا هذه.

الثالث:

لقد بُيّن في ((الكلمة الاولى)): ((يلزم الاعطاء باسم الله، والأخذ باسم الله)). ولكن الذي يحدث غالباً هو ان المعطي، غافل، فيعطي باسم نفسه، فيتمنّن ضمناً، او ان الآخذ غافل يُسنِد الشكر والثناء الخاص بالمنعم الحقيقي الى الاسباب الظاهرية فيخطئ.

الرابع:

ان التوكل والقناعة والاقتصاد خزينة عظيمة، وكنز ثمين لايعوضان بشئ. لاأريد ان اسد ابواب تلك الخزائن والكنوز التي لا تنفد بأخذ المال من الناس. فشكراً للرزاق ذي الجلال بآلاف المرات انه لم يُلجئني منذ طفولتي الى البقاء تحت منّة احدٍ من الناس. فأرجو من رحمته تعالى معتمداً على كرمهِ ان يُمضي بقية عمري ايضاً بتلك القاعدة.

الخامس:

لقد اقتنعت قناعة تامة منذ حوالي سنتين بامارات وتجارب كثيرة؛ انني لست مأذوناً بقبول أموال الناس ولا سيما هدايا الميسورين والموظفين، اذ أتأذى بقسمٍ منها، بل يُدفع به الى الأذى ليُحول دون أكلها، وأحياناً يُحوَّل الى صورة تضرني. فهذه الحالة اذن أمرٌمعنوي بعدم اخذ اموال الناس ونهىٌ عن قبولها.

وكذا، فان فيّ استيحاشاً من الناس، لا أستطيع قبول زيارة كل شخص في كل حين، فقبول هدايا الناس، يلزمني قبولي زيارتهم في وقت لا أريدها اخذاً بمراعاة شعورهم. وهذا ما لا أحبّذه.

انني افضّل ان آكل كسرة خبزٍ يابس، وان ألبس ثوباً فيه مائة رقعة ورقعة ينقذني من التصنع والتملق، على ان آكل اطيب حلوى الآخرين، وألبس افخر ملابسهم واضطر الى مراعاة مشاعرهم وهذا ما اكرهه.

السادس:

ان السبب المهم للاستغناء عن الناس هو ما يقوله ابن حجر(1) الموثوق حسب مذهبنا (الشافعي):يحرم قبول ما يوهب لك بنية الصلاح، ان لم تكن صالحاً(2).

نعم ان انسان هذا العصر يبيع هديته البخسة بثمن باهظ، لحرصه وطمعه، فيتصور شخصاً مذنباً عاجزاً مثلي ولياً صالحاً، ثم يعطيني رغيفاً هديةً. فاذا اعتقدت انني صالح - حاشلله - فهذا علامة الغرور، ودليل على عدم الصلاح. وان لم اعتقد صلاحي، فقبول ذلك المال غير جائز لي.

وايضاً ان أخذ الصدقة والهدية مقابل الاعمال المتوجهة للاخرة يعني قطف ثمرات خالدة للآخرة، بصورة فانية في الدنيا.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:51 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثالث

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يـُسَبـِّحُ بـِحَمْدِه{

(قسم من الرسالة التي بعثها الى طالبه المعروف)

خامساً: كنتَ قد كتبتَ في احدى رسائلك، رغبتك في أن تشاركني ما تجيش به مشاعري واحاسيسي هنا. فاستمع اذاً الى واحدةٍ من الفٍ منها، وهو:

في احدى الليالي، كنت على ارتفاع عظيم، في وكر منصوب على قمة شجرة ((القطران)) المرتفعة على قمة من قمم جبل ((ضام)). نظرت مِن هناك الى وجه السماء الأنيس الجميل المظيـّن بمصابيح النجوم، فرأيت أن في القَسم الوارد في الآية الكريمة: } فلا اُقسِمُ بالخنـّسِ ` الجَوار الكـُنـّسِ{ (التكوير:15-16) نوراً سامياً من انوار الاعجاز، وشاهدت فيه سراً بليغاً لامعاً من اسرار البلاغة.

نعم! ان هذه الآية الكريمة تشير الى النجوم السيارة والى استتارتها وانتشارها. فتعرض الآية أمام نظر المشاهد نقشاً بديعاً متقن الصنع في وجه السماء، وترسم لوحة رائعة تلقن العبرة والدرس.

نعم! هذه السيارات ما ان تخرج من دائرة قائدها الشمس وتدخل في دائرة النجوم الثابتة الاّ وتعرض في وجه السماء روائع النقش المتجدد، وبدائع الاتقان تتجدد حيناً بعد حين.. فقد تتكاتف احداها مع مثيلتها، وتـُظهران معاً آية باهرة في الجمال.. وقد تدخل احداها بين صغيرات النجوم فتقودها قيادة الكبيرة للصغيرات.. ولا سيما نجم الزُهـَرة اللامعة في الأفق، بعد الغروب في هذا الموسم خاصة ومثيلتها تسطع قبل الفجر.. فياله من جمال زاهر يضفيانه على الافق!.

ثم بعد انها كل نجم وظيفته، واشرافه على الاُخريات، وايفاء خدماته كالمكوك في نسج نقوش الصنعة البديعة، يرجع الى دائرة سلطانه المهيبة، الشمس، فيتسربل بالنور، ويتستر، ويختفي عن الانظار.

فهذه السيارات التي عبـّر عنها القرآن الكريم بـ((الخنـّس)) ((الكنـّس)) يجريها سبحانه وتعالى مع ارضنا هذه جريان سفينة تمخر عباب الكون، ويسيـّرها طيران الطير في فضاء العالم، ويسيح بها سياحة طويلة، في انتظام كامل.دالاً بها على عظمة ربوبيته وابـّهة الوهيته جل جلاله، كالشمس في وضع النهار.

فيا لأبـّهة مليك مقتدر، من بين سفائنه وطائراته ما هو اكبر جسامة من الارض ألف مرة، وتقطع مسافة ثماني ساعات في ثانية واحدة! قس بنفسك مدى السعادة السامية، ومدى الشرف العظيم في العبودية لهذا المليك الجليل، والانتساب اليه بالايمان، والضيافة على مائدة اكرامه وافضاله.

ثم نظرت الى القمر، ورأيت أن الآية الكريمة } والقمرَ قدّرناهُ منازلَ حتى عادَ كالعـُرجون القديم{ (يس:39) تعبـّر عن نور مشرق من الاعجاز.

نعم! ان تقدير القمر تقديراً دقيقاً جداً، وتدويره حول الارض وتدبيره وتنويره، واعطاءه اوضاعاً ازاء الارض والشمس، محسوبة بحساب في منتهى الدقة والعناية، تتحير منه العقول، يرشد كل ذي شعور يشاهد هذه الدقة في التقدير ان يقول: ان القدير الذي ينظم هذه الامور على هذه الشاكلة الخارقة ويقـدّرها تقديراً دقيقاً، لا يصعب عليه شيء، مما يوحى: ان الذي يفعل هذا قادر على كل شيء.

ثم ان القمر يعقب الشمس، هذا التعقيب مقدر حسابه، لا يخطىء حتى في ثانية واحدة، ولا يتباطأ عن عمله قيد انملة، مما يدفع كل متأمل فيه الى القول: سبحان من تحيـّر في صنعه العقول. اذ يأخذ القمر شكل هلال رقيق ولاسيما نهاية شهر آيار – مثلما يحدث في احيان اخرى – ويتخذ شكل عرجون قديم اثناء دخوله منزل الثريا. حتى لكأن الثريا عنقود يتدلى بهذا العرجون القديم، من وراء ستار الخضراء(1) القاتمة مما يوحى للخيال وجود شجرة عظيمة نورانية وكأن غصناً دقيقاً من تلك الشجرة قد خرق ذلك الستار واخرج نهايته مع عنقود هناك، وصار الثريا والهلال.

هذا اللوحة الرائعة تلقي الى الخيال: ان النجوم الاخرى ثمرات تلك الشجرة الغيبية. فشاهد لطافة الآية الكريمة } كالعـُرجون القديم{ وذق حلاوة بلاغتها.

ثم خطرت بالبال الآية الكريمة } هـُوَ الـَّذي جـَعَلَ لكْم الارضَ ذَلولاً فامْشوا في مـَناكِبها { (الملك:15) التي تشير الى ان الارض سفينة مسخـّرة ودابة مأمورة: من هذه الاشَارة رأيت نفسي في موقع رفيع من تلك السفينة العظيمة السائرة سريعاً في فضاء الكون، فقرأت: } سبحان الـَّذي سَخـّر لنا هذا وما كـُنـّا له مـُقْرنين{ (الزخرف:13) التي تـُسنّ قراءتها حين ركوب الدابة من فرس وسفينة وغيرهما(2).

وكذا رأيت أن الكرة الارضية، قد أخذت بهذه الحركة طور ماكينة السينما التي تبين المشاهد وتعرضها، فحرّكتْ ما في السموات من نجوم، وبدأت تسوقها سوقالجيش، عارضة مناظر جذابة ومشاهد لطيفة توقع أهل الفكر والعقل في حيرة واعجاب، وتجعلهم في نشوة من مشاهدتها. فقلت: سبحان الله… ما أقل هذه التكاليف التي تؤدي بها هذه الاعمال العظام العجيبة الغريبة والراقية الرفيعة؟

ومن هذه النقطة خطرت بالبال نكتتان ايمانيتان:

اولاها: قبل بضعة ايام سألني أحد ضيوفي سؤالاً، اساس سؤاله المنطوي على شبهة هو: ان الجنة وجهنم بعيدتان جداً، هب ان اهل الجنة يمرون ويطيرون كالبرق والبراق من المحشر ويدخلون الجنة بلطف إلهي. ولكن كيف يذهب اهل جهنم الى جهنم وهم يزرحون تحت اثقال اجساهدهم واحمال ذنوبهم الجسيمة؟ وبأية وساطة يذهبون اليها؟

والذي ورد بالبال هو: لو دُعيت الامم جميعاً الى مؤتمر عام يعقد في امريكا مثلاً. فان كل امة تركب سفينتها الكبيرة وتذهب الى هناك. وكذلك سفينة الارض التي اعتادت السياحة الطويلة في بحر محيط الكون، والتي تقطع في سنة واحدة مسافة تبلغ خمساً وعشرين الف سنة، هذه الارض تأخذ أهليها وتحملهم الى ميدان الحشر وتفرغهم هناك. وكذا تفرغ نار جهنم الصغرى الموجودة في جوفها، والتي تبلغ درجة حرارتها مائتي الف درجة – الموافقة لما جاء في الحديث الشريف – بدلالة تزايد الحرارة كل ثلاث وثلاثين متراً، درجة واحدة. والتي تؤدي بعض وظائف جهنم الكبرى في الدنيا والبرزخ - حسب رواية الحديث - وتفرغها في ميدان الحشر. ثم تتبدل الارض بأمر الله الى ارض باقية جميلة غيرها، وتصبح منزلاً من منازل عالم الآخرة.

النكتة الثانية التي وردت بالبال:

ان الصانع القدير، الفاطر الحكيم، الواحد الأحد، قد سنّ سنة، واجرى عادة وهي اداء اعمال كثيرة جداً بشئ قليل جداً، وانجاز وظائف جليلة جداً بشئ يسيرجداً، اظهاراً لكمال قدرته وجمال حكمته ودليلاً على وحدانيته جل جلاله.

ولقد ذكرت في بعض ((الكلمات)) أنه:

اذا اُسندت الاشياء كلها الى واحد أحد، تحصل سهولة ويسر بدرجة الوجوب، وإن اُسندت الى اسباب عدة وصنّاع كثيرين تظهر مشاكل وعوائق وصعوبات بدرجة الامتناع. لأن شخصاً واحداً، وليكن ضابطاً أو بنّاءً، يحصل على النتيجة التي يريدها، ويعطى الوضع المطلوب، لكثرة من الجنود، او كثرة من الاحجار ولوازم البناء، بحركة واحدة وبسهولة تامة، بحيث لو احيل ذلك الأمر الى افراد الجيش أو الى احجار البناء لتعسّر استحصال تلك النتائج بل لا يمكن قطعاً الاّ بصعوبة عظيمة.

فما يشاهد في هذه الكائنات من افعال السير والجولان والانجذاب والدوران ومن المناظر اللطيفة والمشاهد المعبّرة عن التسبيح، ولا سيما في الفصول الاربعة وفي اختلاف الليل والنهار.. اقول لو اسندت هذه الافعال الى الوحدانية فان واحداً أحداً بأمر واحد منه الى كرة واحدة بالحركة يستحصل على اوضاع رفيعة ونتائج ثمينة كاظهار عجائب الصنعة في تبدل المواسم وغرائب الحكمة في اختلاف الليل والنهار، ولوحات راقية في حركة النجوم والشمس والقمرالظاهرية وامثالها من الافعال، تحصل كلها لأن الموجودات كلها جنوده، فيعين جندياً بسيطاً كالارض حسب ارادته ويجعله قائداً على النجوم، ويجعل الشمس الضخمة سراجاً لإعطاء اهل الارض الحرارة والنور، ويجعل الفصول الاربعة - التي هي الواح نقوش القدرة الإلهية - مكوكاً، والليل والنهار اللذين هما صحيفة كتابة الحكمة الربانية نابضاً، ويقدّر القمر منازل لمعرفة المواقيت، ويجعل النجوم على هيئة مصابيح مضيئة لطيفة متلألئة بايدي الملائكة المنجذبين بنشوة السرور والفرح.. هكذا يُظهر حِكَماً كثيرة تخص الارض بمثل هذه الاوضاع الجميلة.

فهذه الاوضاع ان لم تطلب من ذاتٍ جليلة ينفذ حكمه في الموجودات كلها ويتوجه اليها كلها بنظامه وقانونه وتدبيره، يلزم اذاً ان تقطع الشموس والنجوم كلها مسافات لاحدّ لها في كل يوم بحركة حقيقية، وبسرعة لا حدّ لها!.

وهكذا ففي الوحدانية سهولة بلا نهاية كما ان في الكثرة صعوبة بلا نهاية. ولأجل هذا يعطي ذوو المهن والتجارة وحدةً للكثرة، اي يشكلون شركات فيما بينهم تسهيلاً للامور وتيسيراً لها.

حاصل الكلام: ان في طريق الضلال مشكلات لا نهاية لها، وفي طريق الوحدانية والهداية سهولة لا نهاية لها.





الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:52 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الرابع

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

سلام الله ورحمته وبركاته عليكم وعلى اخوانكم لا سيما.... الخ

اخوتي الاعزاء!

انا الآن في موضع، على ذروة شجرة صنوبر ضخمة عظيمة، منتصبة على قمة شاهقة من قمم جبل ((ضام)) . لقد استوحشتُ من الإنس واستأنست بالوحوش.. وحينما ارغب في المحاورة والمجالسة مع الناس اتصوركم بقربي خيالاً، واجاذبكم الحديث وأجد السلوان بكم. وانا على رغبة في أن اظل هنا وحيداً مدة شهر او شهرين، ان لم يحدث ما يمنع، وإن رجعت الى ((بارلا)) نتحرى معاً حسب رغبتكم عن وسيلة لمجالسة ومحاورة بيننا. فقد اشتقتُ اليها اكثر منكم.

والآن اكتب اليكم ما ورد بالبال من خواطر على شجرة الصنوبر هذه:

اولاها: خاطرة فيها شئ من الخصوصية، فهي من اسراري، ولكن لا يُكتم عنكم السر، وهو:

ان قسماً من اهل الحقيقة يحظون باسم الله ((الودود)) من الاسماء الحسنى، وينظرون الى واجب الوجود من خلال نوافذ الموجودات بتجليات المرتبة العظمى لذلك الاسم. كذلك اخوكم هذا الذي لا يعدّ شيئاً يذكر، وهو لا شئ، قد وُهب له وضع يجعله يحظى باسم الله ((الرحيم)) واسم الله ((الحكيم)) من الاسماء الحسنى، وذلك اثناء ما يكون مستخدماً لخدمة القرآن فحسب، وحينما يكون منادياً لتلك الخزينة العظمى التي لا تنتهي عجائبها.

فجميع ((الكلمات)) انما هي جلوات تلك الحظوة. نرجو من الله تعالى ان تكون نائلة لمضمون الآية الكريمة } ومَن يؤتَ الحِكمةَ فقد اُوتيَ خيراً كثيراً{ (البقرة:269).

ثانيتها: لقد وردت هذه الفقرة الرقيقة فجأة بالبال، وهي: ان ما يقال في الطريقة النقشبندية:

((در طريق نقشبندى لازم آمد جار ترك:

ترك دنيا، ترك عقبى، ترك هستى، ترك ترك))(1).

ووردت هذه الفقرة الاتية عقب الفقرة السابقة مباشرة وهي:

((در طريق عجز مندى لازم آمد جار جيز

فقر مطلق عجز مطلق شكر مطلق شوق مطلق اي عزيز))(2).

ثم خطر بالبال ما كتبتَـه انت: ((انظر الى الصحيفة المتلونة الزاهية لكتاب الكون… الخ)) ذلك الشعر الغني بالمعاني والزاهي بألوان الوصف.

نظرت الى النجوم المتدلية في سقف السماء، من خلال ذلك الشعر. وقلت: ليتني كنت شاعراً، فاتم هذا الشعر. ومع انني لا املك موهبة في الشعر والنظم، الاّ انني شرعت به، ولكن لم استطع ان انظمه شعراً فكتبته كما ورد في القلب. فان شئت حوّله نظماً يا من انت وارثي.

والخاطرة التي وردت دفعة هي:

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره مكتوب الحكمة النيّر على الوجود.

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة(1).

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علـّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

فنحن لأهل السموات مساجدٌ سيارة ومساكنٌ دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيرة، ولا يسمع اقوالنا البينة، فنحن آيات ناطقة بالحق.

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:52 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الخامس

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ{

لقد قال رائد السلسلة النقشبندية وشمسها الامام الرباني رضي الله عنه(1) في مؤلفه ((مكتوبات)):

((انني ارجّح وضوح مسألة من الحقائق الايمانية وانكشافها على آلاف من الاذواق والمواجيد والكرامات))(2).

وقال ايضاً: ((ان منتهى الطرق الصوفية كافة هو وضوح الحقائق الايمانية وانجلاؤها))(3).

وقال كذلك: ((ان الولاية ثلاثة اقسام: الولاية الصغرى: وهي الولاية المشهورة. وقسم ثان: هو الولاية الوسطى. وقسم ثالث: هو الولاية الكبرى. هذه الولاية الكبرى هو فتح الطريق الى الحقيقة مباشرة دون الدخول في برزخ التصوف وذلك بوساطة وراثة النبوة))(1).

وقال ايضاً: ((ان السلوك في الطريقة النقشبندية يسير على جناحين، اي الاعتقاد الصحيح بالحقائق الايمانية، والعمل التام بالفرائض الدينية. فاذا ما حدث خلل وقصور في اي من هذين الجناحين يتعذر السير في ذلك الطريق))(2).

بمعنى ان الطريقة النقشبندية لها ثلاثة مشاهد:

اولها وأسبقها واعظمها: هو خدمة الحقائق الايمانية خدمة مباشرة ، تلك الخدمة التي سلكها الامام الرباني في اخريات ايامه.

الثاني: خدمة الفرائض الدينية والسنة النبوية تحت ستار الطريقة.

الثالث: السعي لإزالة الامراض القلبية عن طريق التصوف والسير بخطى القلب.

فالاول من هذه الطرق هو بحكم الفرض، والثاني بحكم الواجب، والثالث بحكم السنة.

فما دامت الحقيقة هكذا: فاني أخال أن لو كان الشيخ عبد القادر الكيلاني(3) والشاه النقشبند(4) والامام الرباني وأمثالهم من اقطاب الايمان رضوان آ عليهم اجمعين في عصرنا هذا، لبذلوا كل ما في وسعهم لتقوية الحقائق الايمانية والعقائد الاسلامية، ذلك لانهما منشأ السعادة الابدية، وان اي تقصير فيهما يعني الشقاء الابدي.

نعم، لا يمكن دخول الجنة من دون ايمان، بينما يدخلها الكثيرون جداً دون تصوف. فالانسان لا يمكن ان يعيش دون خبز، بينما يمكنه العيش دون فاكهة. فالتصوف فاكهة والحقائق الاسلامية خبز.

وفيما مضى كان الصعود الى بعض من حقائق الايمان يستغرق اربعين يوماً، بالسير والسلوك، وقد يطول الى اربعين سنة، ولو هيأت الرحمة الإلهية في الوقت الحاضر طريقا للصعود الى تلك الحقائق لا يستغرق اربعين دقيقة! فليس من العقل أن لا يبالى بهذا الطريق؟!

فالذين قرأوا بانعام ثلاثاً وثلاثين رسالة من ((الكلمات)) يقرون بأن تلك ((الكلمات)) قد فتحت امامهم طريقاً قرآنياً قصيراً كهذا.

فما دامت الحقيقة هكذا. فاني اعتقد:

ان ((الكلمات)) التي كُتبت لبيان اسرار القرآن هي انجع دواء لأمراض هذا العصر وأفضل مرهم يمرر على جروحه، وانفع نور يبدد هجمات خيول الظلام الحالك على المجتمع الاسلامي، وأصدق مرشد ودليل لاولئك الحيارى الهائمين في وديان الضلالة.

فيا أخي! انك تعلم جيداً أن الضلالة إن كانت ناجمة من الجهل فازالتها يسير وسهل. ولكن ان كانت ناشئة من العلم فازالتها عسير ومعضل. وقد كان هذا القسم الأخير نادراً فيما مضى من الزمان، وربما لا تجد من الألف الا واحداً يضل باسم العلم. واذا ما وجد ضالون من هذا النوع ربما يسترشد منهم واحد من الألف. ذلك لأن امثال هؤلاء يعجبون بأنفسهم، فمع انهم يجهلون يعتقدون أنهم يعلمون.

واني اعتقد ان الله سبحانه وتعالى قد منح ((الكلمات)) المعروفة، التي هي لمعات معنوية من اعجاز القرآن الكريم خاصية الدواء الشافي والترياق المضاد لسموم زندقة هذه الضلالة في هذا العصر.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:53 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب السادس

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

سلام الله ورحمته وبركاته عليكما وعلى اخوانكما ما دام الملوان(1) وتعاقب العصران وما دام القمران(2) واستقبل الفرقدان(3).

اخويّ الغيورين، زميلَيّ الشهمين، يا مبعثيّ سلواني في دار الغربة، الدنيا..

لما كان المولى الكريم سبحانه وتعالى قد جعلكما مشاركين لي في المعاني التي أنعمها على فكري، فمن حقكما اذاً مشاركتي في مشاعري وأحاسيسي.

سأحكى لكما بعضاً مما كنت اقاسيه من ألم الفراق في غربتي هذه، طاوياً ما هو اكثر ايلاماً منه لئلا اجعلكما تتألمان كثيراً.

لقد بقيت منذ شهرين او ثلاثة وحيداً فريداً، وربما يأتيني ضيف في كل عشرين يوماً او ما يقرب من ذلك، فأظل وحيداً في سائر الاوقات. ومنذ ما يقرب من عشرين يوماً ليس حولي احد من اهل الجبل، فلقد تفرقوا.

ففي هذه الجبال الموحية بالغربة، وعندما يرخى الليل سدوله، فلا صوت ولا صدى، الاّ حفيف الاشجار الحزين.. رأيتني وقد غمرتني خمسة ألوان من الغربة.

اولها: اني بقيت وحيداً غريباً عن جميع أقراني واحبابي واقاربي، بما اخذت الشيخوخة مني مأخذاً، فشعرت بغربة حزينة من جراء تركهم لى ورحيلهم الى عالم البرزخ.

ومن هذه الغربة انفتحت دائرة غربة اخرى، وهي انني شعرت بغربة مشوبة بألم الفراق حيث تركتني اكثر الموجودات التي اتعلق بها كالربيع الماضي.

ومن خلال هذه الغربة انفتحت دائرة غربة اخرى، وهي الغربة عن موطني واقاربي، فشعرت بغربة مفعمة بألم الفراق، اذ بقيت وحيداً بعيداً عنهم.

ومن خلال هذه الغربة ألقت عليّ اوضاع الليل البهيم والجبال الشاخصة امامي، غربة فيها من الحزن المشوب بالعطف ما اشعرني ان ميدان غربة اخرى انفتحت امام روحي المشرفة على الرحيل عن هذا المضيف الفاني متوجهة نحو أبد الأباد، فضمتنى غربة غير معتادة، واخذني التفكير، فقلت فجأة: سبحان الله! وفكرت كيف يمكن ان تقاوم كل هذه الظلمات المتراكبة وانواع الغربة المتداخلة!.

فاستغاث قلبي قائلاً:

يا رب! انا غريب وحيد، ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي.

فأقول: الغوث الغوث. ارجو العفو، واستمد القوة من بابك يا إلهي!.

واذا بنور الايمان وفيض القرآن ولطف الرحمن يمدّنى من القوة ما يحول تلك الانواع الخمسة من الغربة المظلمة، الى خمس دوائر نورانية من دوائر الانس والسرور. فبدأ لساني يردد: } حسبنا الله ونعم الوكيل{ (آل عمران: 173) وتلا قلبي الآية الكريمة: } فان تولّوا فقل حَسبيَ الله لاّ إله الا هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم{ (التوبة:129).

وخاطب عقلي كذلك نفسي القلقة المضطربة المستغيثة قائلاً:

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.

انما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، واثام في اثام في بلاء.

اذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء، ووفاء في بلاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر كالبلابل؛ فالازهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في بلاء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وانت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.

وقلت كما قال أحد اساتذتي مولانا جلال الدين الرومي(1) مخاطباً نفسه:

او كفت : ((ألستُ)) وتوكفتى: ((بلى))

شكر ((بلى)) جيست؟ كشيدن بلا

سرّ بلا جيست كة يعنى منم

حلقة زنِ دركهِ فقر و فنا(2)

((أتدري ما سر البلاء؟.. انه طرقُ باب الفقر والاستغناء عن الناس)).

وحينئذٍ قالت نفسي: أجل! أجل!. ان الظلمات لتتبدد وباب النور لينفتح بالعجز والتوكل والفقر والالتجاء . فالحمد لله على نور الايمان والاسلام.

وقد رأيت هذه الفقرة من ((الحكم العطائية)) المشهورة تنطوي على حقيقة جليلة وهي قوله:

ماذا وجَدَ من فقده وماذا فقد مَن وجده؟(3)

اي: ان الذي وجده فقد وجد كل شئ، ومن فقده لا يجد شيئاً سوى البلاء.

وفهمت سراً من اسرار الحديث الشريف ((... طوبى للغرباء...))(1) فشكرت الله.

فيا اخويّ!

ان ظلمات انواع الغربة هذه، وان تبددت بنور الايمان، الاّ انها تركت فيّ شيئاً من بصمات احكامها، واوحت بهذه الفكرة:

ما دمت غريباً واعيش في الغربة وراحلاً الى الغربة، فهل انتهت مهمتي في هذا المضيف، كي اوكلكم و((الكلمات)) عني. واقطع حبال العلاقات عن الدنيا قطعاً كلياً؟

وحيث أن هذه الفكرة وردت على البال بهذه الصورة، فكنت اسألكم:

هل ((الكلمات)) المؤلفة كافية؟ وهل فيها نقص؟ واعني بهذا السؤال: هل انتهت مهمتى كي أنسى الدنيا واُلقي بنفسي في احضان غربة نورانية لذيذة حقيقية باطمئنان قلب واقول كما قال مولانا جلال الدين:

دانى سماع جة بود؟ بى خود شدن ز هستى

أندر فناى مطلق ذوق بقا جشيدن (2)

ليت شعري هل لي أن ابحث عن غربة رفيعة سامية!.

ولأجل هذا كنت اجابهكم بتلك الأسئلة.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:54 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب السابع

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.

اخوتي الاعزاء!

لقد ابلغتم الحافظ توفيق الشامي(1) ليقول لي مسألتين هما:

اولاً: ان اهل الضلالة الحاليين، يجدون في زواج الرسول e بزينب موضع نقد واعتراض، كما كان دأب المنافقين في سالف الزمان. اذ يعدونه زواجاً مبنياً على الشهوة ودوافع نفسانية!

الجواب: حاش لله وكلا! ألف ألف مرة كلا! ان يد الشبهات السافلة احط من أن تبلغ طرفاً من ذلك المقام الرفيع السامي.

نعم! ان من كان مالكاً لذرة من الانصاف يعلم انه e من الخامسة عشرة الى الاربعين من عمره - تلك الفترة التي تغلي فيها الحرارة الغريزية وتلتهب الهوسات النفسانية - قد التزم بالعصمة التامة والعفة الكاملة، بشهادة الاعداء والاصدقاء، واكتفى بزوجة واحدة شبه عجوز، وهي خديجة الكبرى رضى الله عنها. فلابد ان كثرة زواج هذا الكريم العفيف صلى الله عليه وسلم بعد الاربعين - اي في فترة توقف الحرارة الغريزية وسكون الهوسات - ليست نفسانية بالضرورة والبداهة، وانما هي مبنية على حِكم مهمة، احداها هي:

ان اقوال الرسول e وافعاله واحواله واطواره وحركاته وسكناته، هي منبع الدين ومصدر الاحكام والشريعة.

ولقد روى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هذه الاحكام وحملوا مهمة تبليغ ما ظهر لهم من حياته صلى الله عليه وسلم. أما أسرار الدين واحكام الشريعة النابعة من احواله المخفية عنهم، في نطاق اموره الشخصية الخاصة به، فان رواتها وحامليها هي زوجاته الطاهرات، فقد أدَّيْنَ هذه المهمة على وجهها حق الأداء. بل ان ما يقرب من نصف احكام الدين واسراره يأتي عن طريقهن.

بمعنى ان هذه الوظيفة الجليلة يلزم لها زوجات كثيرات، وذوات مشارب مختلفة كذلك.

أما زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب، فقد ذكر في الشعاع الثالث من الشعلة الاولى من الكلمة الخامسة والعشرين، فيما يخص الآية الكريمة } ما كان محمدٌ أبا أحدٍ منْ رجالِكم ولكن رسولَ الله وخاتمَ النبيين{ (الاحزاب:40)، ان الآية الواحدة تفيد معاني عديدة، بوجوه عديدة، حسب فهم طبقات الناس.

فحصة طبقة من الناس من فهم هذه الآية الكريمة:

أن زيداً رضى الله عنه الذي كان مولى رسول الله e ، ويحظى بخطابه له: يا بني! لم يجد نفسه كفواً لزوجته العزيزة النفس فطلقها لذلك، كما وردت الروايات الصحيحة، وبناء على اعترافه بنفسه. اي أن زينب رضى الله عنها، قد خُلقت على مستوى آخر من الاخلاق العالية، فشعر بها زيد بفراسته بأنها على فطرة سامية تليق ان تكون زوجة نبي. حيث وجد نفسه غير كفوءة لها فطرة، مما سبب عدم الامتزاج النفسي والانسجام الروحي بينهما، فطلقها، وتزوجها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأمر إلهي.

فالآية الكريمة } زوجناكها{ (الاحزاب: 37) تدل باشارتها على أن ذلك النكاح قد عقد بعقد سماوي، فهو عقد خارق للعادة، وفوق العرف والمعاملات الظاهرية، اذ هو عقدٌ عُقد بحكم القدر الإلهي المحض، حتى انقاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لذلك الحكم مضطراً وما كان ذلك برغبة من نفسه.

وهذا الحكم القدري يتضمن حكماً شرعياً مهماً وحكمة عامة ومصلحة شاملة.

فبأشارة الآية الكريمة } لكي لا يكون على المؤمنين حَرجٌ في أزواجِ أدعيائهم{ (الاحزاب:37). ان خطاب الكبار للصغار بـ : يا بني! ليس حراماً، اذ لا يغير الاحكام كقول المظاهر لزوجته (اي قوله أنت عليّ كظهر أمي).

وكذا فان الانبياء والكبار لدى خطابهم لأمتهم ولرعاياهم، ولدى نظرهم اليهم، نظر الابوة، انما هو باعتبار مهمة الرسالة وليست باعتبار الشخصية الانسانية حتى يحرم الزواج منهم.

وطبقة ثانية من الناس يفهمون هكذا:

ان سيداً عظيماً وآمراً حاكماً ينظر الى رعاياه نظر الابوة. اي يشفق عليهم شفقة الوالد. فان كان ذلك الآمر سلطاناً روحانياً، ظاهراً وباطناً، فرحمته تزداد حينئذ عن شفقة الاب أضعافاً مضاعفة. والافراد بدورهم ينظرون اليه نظر الوالد، كأنهم أولاد حقيقيون له، وحيث أن نظر الأبوة من الصعوبة انقلابه الى نظر الزوج، ونظر البنت ايضاً لا يتحول بسهولة الى نظر الزوجة، لذلك وجد العامة حرجاً في تزوج النبي e ببنات المؤمنين، والقرآن الكريم يصحح مفاهيمهم قائلاً:

ان النبي يشفق عليكم ويعاملكم معاملة الاب، وينظر اليكم باسم الرحمة الإلهية، فانتم كالابناء بالنسبة للرسالة التي يحملها. ولكن ليس هو اباكم باعتبار الشخصية الانسانية، لكي يقع الحرج في الأمر، أمر الزواج. وحتى لو خاطبكم بيا أبنائي وأولادي فانتم لستم اولاده وفق الاحكام الشرعية، فلا تكونون اولاده فعلاً.



الباقي هو الباقي





سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:54 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثامن

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

ان لدخول اسمَي ((الرحمن الرحيم)) في البسملة وذكرهما في بدء كل امر ذي بال، حِكَماً كثيرة. أعلق بيان تلك الحكم على مشيئة الله الى وقت آخر، ذاكراً هنا شعوراً خاصاً بي.

اخي!

اني ارى اسمي ((الرحمن الرحيم)) نوراً عظيماً الى حد كبير، بحيث يحيط ذلك النور بالكون كله، وارى فيهما من القوة والسطوع لكل روح، بحيث يحققان لها جميع حاجاتها الابدية، وينجيانها من اعدائها التي لا تحد.

فلقد وجدت أن أهم وسيلة للوصول الى هذين النورين العظيمين تكمن في ((الفقر مع الشكر)) و((العجز مع الشفقة)) أي بتعبير آخر: العبودية والافتقار.

ولمناسبة هذه المسألة اقول، ولكن مخالفاً لأقوال العلماء المحققين، بل حتى مخالفاً لاستاذي الامام الرباني:

ان المشاعر والاحاسيس الشديدة الساطعة التي كان يشعر بها سيدنا يعقوب تجاه سيدنا يوسف عليهما السلام ليست مشاعر نابعة من المحبة والعشق.بل نابعة من الشفقة، لأن الشفقة أنفذ من المحبة والعشق، وأسطع منهما واعلى وأنزه، فهي الأليق بمقام النبوة.

أما المحبة والعشق، فان كانتا شديدتين نحو المحبوبات المجازية والمخلوقات، فلا تليقان بمقام النبوة الرفيع.

بمعنى ان ما يبيّن القرآن الكريم مشاعر سيدنا يعقوب واحاسيسه تجاه سيدنا يوسف (عليهما السلام) في أسطع صورة وألمع اعجاز والتي هي وسيلة الوصول الى اسم ((الرحيم))، إنما هي درجة رفيعة سامية للشفقة.

أما العشق الذي هو وسيلة الوصول الى اسم ((الودود)) فهو في محبة ((زليخا)) (امرأة العزيز) ليوسف عليه السلام.

اذاً فالقرآن الكريم بأيّ مدى بيّن سمو مشاعر سيدنا يعقوب ورفعته على احاسيس زليخا، فان الشفقة ايضاً تبدو أرفع وأسمى من المحبة بتلك الدرجة.

ولقد قال استاذي الامام الرباني: ان المحاسن الجمالية ليوسف عليه السلام هي من قبيل المحاسن الاخروية، لذا فالمحبة المتوجهة نحوها ليست من انواع المحبة المجازية حتى يبدو النقص والقصور فيها. ذلك لأنه يرى أن العشق المجازي لا يليق تماماً بمقام النبوة.

وانا اقول:

يا استاذي المحترم! ان هذا تأويل متكلف. أما الحقيقة فينبغي ان تكون هكذا:

ان تلك المشاعر والاحاسيس ليست مشاعر محبة، بل هي مرتبة من الشفقة التي هي أسطع من المحبة بمائة درجة وأوسع منها وأسمى.

نعم! ان الشفقة بجميع انواعها لطيفة، نزيهة، أما العشق والمحبة فلا يُتنازَل الى كثير من انواعهما.

ثم ان الشفقة واسعة، اذ الوالد الذي يشفق على اولاده يشفق ايضاً على جميع الصغار، بل حتى على ذوي الارواح، فيبين نوعاً من انوار اسم ((الرحيم)) المحيط بكل شئ. بينما العشق يحصر النظر بمحبوبه وحده. ويضحي بكل شئ في سبيله. أو يذم الآخرين ضمناً ويهوّن من شأنهم اعلاءً لقدر محبوبه وثناءً عليه.

فمثلاً قد قال احد العاشقين:

((ان الشمس لتخجل من جمال محبوبتي،فتتستر بحجاب السحاب لئلا تراها)).

ايها العاشق! بأي حق تُخجل الشمس، تلك الصحيفة النورانية التي تظهر ثمانية اسماء عظمى؟



ثم ان الشفقة خالصة، لا تطلب شيئاً من المشفق عليه، فهي صافية لا تطلب عوضاً. والدليل على هذا، الشفقة المقرونة بالتضحية التي يحملها والدات الحيوانات، والتي هي ادنى مراتب الشفقة، فهي لا تطلب مقابل شفقتها شيئاً.

بينما العشق يطلب الاجرة والعوض. وما نواح العاشقين الا نوع من الطلب، وسؤال للاجرة.

اذاً فان شفقة سيدنا يعقوب التي هي اسطع نورٍ يتلمع في أسطع سور القرآن، سورة يوسف، تظهر اسمي ((الرحمن الرحيم)) وتعلن: ان طريق الشفقة هي طريق الرحمة، وان ضماد ألم الشفقة ذاك انما هو: } فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الراحمين{ (يوسف: 64).







الباقي هو الباقي





سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:55 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب التاسع

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{



((جزء من رسالة بعثها الى تلميذه المعهود، ذلك التلميذ الخالص))

........

ثانياً:

ان توفيقكم ونجاحكم في نشر الأنوار القرآنية ونشاطكم وشوقكم في هذا السبيل، انما هو اكرام إلهي، بل هو كرامة قرآنية وعناية ربانية.اهنئكم يا اخي. ولمناسبة ذكر الكرامة والإكرام والعناية ساذكر فرقاً بين الكرامة والاكرام وهو الآتي:

ان اظهار الكرامة فيه ضرر ان لم يكن هناك ضرورة، بينما اظهار الاكرام تحديث بالنعمة. فالشخص المتشرف بالكرامة اذا ما صدر عنه أمرخارق للعادة وهو يعلم، فلربما يكون صدور ذلك الامر الخارق استدراجاً ان كانت نفسه الأمارة باقية من حيث اعجابه بنفسه والاعتماد على كشفه واحتمال وقوعه في الغرور.

ولكن ان صدر عنه أمر خارق دون علمه وشعوره، كمن يأتيه من يحمل سؤالاً في قلبه، فيجيب عنه جواباً شافياً من نوع الانطاق بالحق فانه لا يعتمد على نفسه بعد ادراكه الامر، بل تزداد ثقته بالله واطمئنانه اليه، قائلاً: ان لي حفيظاً رقيباً يتولاني بالتربية اكثر مني. فيزيد توكله على الله.

هذا القسم، كرامة لا خطورة فيها، وصاحبها غيرمكلف باخفائها. ولكن عليه الاّ يسعى قصد اظهارها للفخر، لأنه ربما ينسب ذلك الامر الخارق الى نفسه، اذ فيه شئ من كسب الانسان في الظاهر.

أما الاكرام فهو أسلم من القسم الثاني السليم من تلك الكرامة وهو في نظري أعلى منه وأسمى. فاظهاره تحدث بالنعمة، لأن ليس فيه نصيب من كسب الانسان. فالنفس لا تستطيع ان تسنده اليها.

وهكذا يا أخي! ان ما رأيتُه وكتبته سابقاً من احسانات إلهية، فيما يخصك ويخصني ولا سيما في خدمتنا للقرآن، انما هو اكرام إلهي، اظهاره تحدث بالنعمة. ولهذا اكتب اليكم عن التوفيق الإلهي في خدمتنا من قبيل التحدث بالنعمة. وانا على علم انه يحرك فيكم عرق الشكر لا الفخر.

ثالثاً:

أرى أن أسعد انسان في هذه الحياة الدنيا هو ذلك الذي يتلقى الدنيا مضيف جندية ويذعن انها هكذا، ويعمل وفق ذلك. فهو بهذا التلقي يتمكن أن ينال أعظم مرتبة ويحظى بها بسرعة، تلك هي مرتبة رضى الله سبحانه، اذ لا يمنح قيمة الالماس الثمينة الباقية لقطع زجاجية تافهة، بل يجعل حياته تمضي بهناء واستقامة.

نعم! ان الأمور التي تعود الى الدنيا هي بمثابة قطع زجاجية قابلة للكسر بينما الأمور الباقية التي تخص الآخرة هي بقيمة الألماس المتين الثمين.

فما في فطرة الانسان من رغبة ملحة ومحبة جياشة وحرص رهيب وسؤال شديد وأحاسيس اخرى من أمثال هذه، وهي أحاسيس شديدة وعريقة، انما وهبت له ليغنم بها أموراً اخروية. لذا فان توجيه تلك الأحاسيس وبذلها بشدة نحو أمور دنيوية فانية انما يعني اعطاء قيمة الالماس لقطع زجاجية تافهة.

ولقد وردت هذه النقطة على خاطري لمناسبة هذه المسألة فسأذكرها لكم، وهي:

ان العشق محبة قوية شديدة، فحينما يتوجه الى محبوبات فانية، فان ذلك العشق اما يجعل صاحبه في عذاب أليم مقيم، أو يدفعه ليتحرى عن محبوب حقيقي حيث لا يستحق ذلك المحبوب المجازي تلك المحبة الشديدة. وعندها يتحول العشق المجازي الى عشق حقيقي.

وهكذا ففي الانسان ألوف من أمثال هذه الأحاسيس، كل منها لها مرتبتان - كالعشق - احداهما مجازية، والاخرى حقيقية.

فمثلاً: القلق على المستقبل. هذا الاحساس موجود في كل انسان، فعندما يقلق قلقاً شديداً على المستقبل يرى أنه لا يملك عهداً للوصول الى ذلك المستقبل الذي

يقلق عليه، فضلاً عن أن ذلك المستقبل القصير الأمد مكفول من حيث الرزق - من قبل الرزاق - فاذاً لا يستحق كل هذا القلق الشديد. وعندها يصرف وجهه عنه، متوجهاً الى مستقبل حقيقي مديد، وهو ما وراء القبر والذي لم يُكفَل للغافلين.

ثم ان الانسان يبدي حرصاً شديداً نحو المال والجاه، ولكنه يرى أن ذلك المال الفاني الذي هو امانة بيده مؤقتاً، وذلك الجاه الذي هو مدار شهرة ذات بلاء، ومصدر رياء مهلك، لا يستحقان ذلك الحرص الشديد. وعند ذلك يتوجه الى الجاه الحقيقي الذي هو المراتب المعنوية ودرجات القرب الإلهي وزاد الآخرة، ويتوجه الى المال الحقيقي الذي هو الاعمال الاخروية. فينقلب الحرص المجازي الذي هو اخلاق ذميمة الى حرص حقيقي الذي هو اخلاق حميدة سامية.

ومثلاً: يعاند الانسان ويثبت ويصر على أمور تافهة زائلة فانية ثم يشعر أنه يصر على شئ سنة واحدة، بينما هو لا يستحق اصرار دقيقة واحدة. فليس الا الاصرار والعناد يجعله يثبت على أمور ربما هي مهلكة ومضرة به. ولكن ما ان يشعر أن هذا الحس الشديد لم يوهب له ليبذل في مثل هذه الامور التافهة، وان صرفه في هذا المجال مناف للحقيقة والحكمة، تراه يوجه ثباته واصراره وعناده الشديد في تلك الامورالتافهة الى أمور باقية وسامية ورفيعة تلك هي الحقائق الايمانية والاسس الاسلامية والاعمال الاخروية. وعندها ينقلب الحس الشديد للعناد المجازي الذي هو خصلة مرذولة الى خصلة سامية وسجية طيبة وهي العناد الحقيقي، وهو الثبات الشديد على الحق.

وهكذا على غرار هذه الامثلة الثلاثة فان الاجهزة المعنوية الممنوحة للانسان اذا ما استعملها في سبيل النفس والدنيا، غافلاً وكأنه مخلد فيها؛ تصبح تلك الاجهزة المعنوية منابع اخلاق دنيئة ومصادر اسرافات في الامور ومنشأ عبثية لا طائل وراءها. ولكن اذا ما وجه احاسيسه تلك، الخفيفة منها الى الدنيا والشديدة منها الى العقبى وأعمال الآخرة والافعال المعنوية، فانها تكون منشأ للاخلاق الفاضلة وسبيلاً ممهداً الى سعادة الدارين ومنسجماً انسجاماً تاماً مع الحكمة والحقيقة.

ومن هنا فاني أخال ان سبباً من أسباب عدم تأثير نصيحة الناصحين في هذا الزمان هو: انهم يقولون لسيئي الخلق: لا تحسدوا. لا تحرصوا. لا تعادوا. لا تعاندوا. لا تحبوا الدنيا. بمعنى انهم يقولون لهم غيّروا فطرتكم. وهو تكليف لا يطيقونه في الظاهر. ولكن لو يقولون لهم: اصرفوا وجوه هذه الصفات الى أمور الخير، غيّروا مجراها، فعندئذ تجدي النصيحة وتؤثر في النفوس، وتكون ضمن نطاق ارادة الانسان واختياره.

رابعاً:

لقد دار بين علماء الاسلام كثيراً بحثٌ حول الفروق بين الايمان والاسلام. فقال قسم: كلاهما واحد. وآخرون قالوا: انهما ليسا واحداً بل لا ينفك احدهما عن الآخر. واوردوا آراء كثيرة مختلفة مشابهة لهذا. وقد فهمت فرقاً بينهما كهذا:

ان الاسلام التزام، والايمان اذعان. أو بتعبير آخر: الاسلام هو الولاء للحق والتسليم والانقياد له. أما الايمان فهو قبول الحق وتصديقه.

ولقد رأيت - فيما مضى - بعضاً ممن لا دين لهم يظهرون ولاءً شديداً لأحكام القرآن، بمعنى ان ذلك الملحد قد نال اسلاماً بجهة التزامه الحق، فيقال له: مسلم بلا دين. ثم رأيت بعض المؤمنين لا يظهرون ولاءً لأحكام القرآن ولا يلتزمون بها، اي أنهم ينالون عبارة: مؤمن غير مسلم.

تُرى أيمكن ان يكون ايمان بلا إسلام سبب النجاة يوم القيامة؟

الجواب: كما ان الاسلام بلا إيمان لا يكون سبب النجاة، كذلك الايمان بلا إسلام لا يكون سبب النجاة.

فـلله الحمد والمنة، ان موازين رسائل النور قد بينت ثمرات الدين الاسلامي وحقائق القرآن ونتائجهما بياناً شافياً وافياً - بفيض الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم - بحيث لو فهمها حتى من لا دين له لا يمكن ان يكون غير موالٍ لها.

وقد اظهرت هذه الرسائل دلائل الايمان والاسلام وبراهينهما كذلك قوية راسخة بحيث لو فهمها غير المسلم يصدّق بها لا محالة، ويؤمن بها رغم بقائه على غير الاسلام.

نعم، ان ((الكلمات)) قد وضّحت ثمار الايمان والاسلام توضيحاً جميلاً حلواً، كجمال ثمار طوبى الجنة ولذتها، واوضحت نتائجهما اليانعة الطيبة كأطايب سعادة الدارين، حتى انها تمنح كل من رآها واطلع عليها وعرفها شعور الولاء والانحياز التام والتسليم الكامل. بل اظهرت براهين الايمان والاسلام قوية راسخة رسوخ الموجودات كلها، وكثيرة كثرة الذرات، فيعطي من الاذعان والرسوخ ما لا منتهى لهما في الايمان. حتى انني حينما أقرأ - احياناً - كلمة الشهادة في اوراد الشاه النقشبند، واقول: ((على ذلك نحيا وعليه نموت وعليه نبعث غداً)) اشعر بمنتهى الالتزام، بحيث لا اضحى بحقيقة ايمانية واحدة لو اعطيتُ الدنيا بأسرها. لأن افتراض ما يخالف حقيقة واحدة لدقيقة واحدة أليم عليّ ألماً لا يطاق. بل ترضخ نفسي لتعطي الدنيا بأسرها - لو كانت لي - مقابل حقيقة ايمانية. وحينما اقول: ((وآمنا بما ارسلتَ من رسول، وآمنا بما انزلتَ من كتاب، وصدّقنا)) أشعر بقوة ايمانية عظيمة لا منتهى لها، واعد ما يخالف اية حقيقة من حقائق الايمان محالاً عقلياً، وارى اهل الضلال في منتهى البلاهة والجنون.

بلّغ سلامي الى والديك مع وافر الاحترام وارجُ منهما الدعاء لي، ولكونك اخي فهما في حكم والديّ ايضاً. بلغ سلامي الى اهل قريتكم جميعاً. ولا سيما من يستمع لـ ((الكلمات)) منك.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:56 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب العاشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

جواب عن سؤالين:

الاول: هو هامش المقصد الثاني من الكلمة الثلاثين الخاصة بـ((انا وتحولات الذرات)):

لقد ذُكر في القرآن : ((إمام مبين)) و ((كتاب مبين)) في عدة مواضع. وقال قسم من المفسرين: انهما بمعنى واحد. وقال آخرون: معناهما مختلف. وفسّروا حقيقتهما بوجوه متضاربة. وخلاصة ما قالوه: انهما عنوانان للعلم الإلهي. ولقد حصل لي الاطمئنان التام والقناعة التامة بفيض القرآن الكريم أن:

((الامام المبين)) عنوانٌ لنوعٍ من العلم الإلهي وأمره، بحيث يتوجّه الى عالم الغيب اكثر مما يتوجه الى عالم الشهادة. أي: أنه يتوجه الى الماضي والمستقبل اكثر من توجهه الى الحال والزمن الحاضر. وبعبارة اخرى: انه سجلٌ للقدر الإلهي ينظر الى أصل كل شئ والى نسله، الى عروقه والى بذوره، اكثر مما ينظر الى وجوده الظاهري. وقد اُثبت وجود هذا السجل في ((الكلمة السادسة والعشرين)) ، وفي حاشية ((الكلمة العاشرة)) . نعم! ان هذا الامام المبين عنوانٌ لنوع من العلم الإلهي وأمره، وهذا يعني: ان إنتاج مبادئ الاشياء وجذورها واصولها - بكمال الانتظام - للاشياء، في غاية الابداع والاتقان، يدل على أن ذلك التنظيم والاتقان إنما يتمان وفق سجل دساتير للعلم الإلهي. كماان نتائج الاشياء وأنسالها وبذورها، سجل صغير للأوامر الإلهية لكونها تتضمن برامج ما سيأتي من الموجودات وفهارسه، فيصح ان يقال: ان البذرة مثلاً عبارة عن مجسّمة مصغرة للبرامج والفهارس التي تنظم جميع تركيب الشجرة الضخمة، وللاوامر التكوينية التي تعيّن تلك التصاميم والفهارس وتحدّدها.

الحاصل: ان ((الامام المبين)) هو في حكم فهرس وبرنامج شجرة الخلق، الممتدة عروقها واغصانها وفروعها حول الماضي والمستقبل وعالم الغيب. فـ((الامام المبين)) بهذا المعنى سجل للقدر الإلهـي، وكراس دساتيره. والذرات تُساق الى حركاتها ووظائفها في الاشياء باملاء من تلك الدساتير وبحكمها. أما ((الكتاب المبين)) فهو يتوجه الى عالم الشهادة اكثر من توجهه الى عالم الغيب، أي: ينظر الى الزمان الحاضر اكثر مما ينظر الى الماضي والمستقبل. فهو: عنوانٌ للقدرة الإلهية وارادتها، وسجل لهما وكتاب، اكثر مما هو عنوان للعلم الإلهي وأمره. وبتعبير آخر: انه اذا كان ((الامام المبين)) سجلاً للقَدَر الإلهي فـ ((الكتاب المبين)) سجل للقُدرة الإلهية. أي أن الانتظام والاتقان في كل شئ، سواءً في وجوده، في ماهيته، في صفاته، في شؤونه يدلان على أن الوجود يُضفى على الشئ وتُعيَّن له صوَره، ويشخَّص مقداره، ويعطى له شكله الخاص، بدساتير قدرة كاملة وقوانين إرادة نافذة. فتلك القدرة الإلهية والارادة الإلهية اذاً لهما مجموعة كلية وعمومية لقوانينه وسجل عظيم، بحيث يُفصَّل ويُخاط ثوبُ أنماط الوجود الخاص لكل شئ ويُلبَس عليه ويُعطى له صوره المخصوصة، وفق تلك القوانين. وقد اثبت وجود هذا السجل في رسالة ((القدر الإلهي والجزء الاختياري(( كما اثبت فيها ((الامام المبين)).

فانظر الى حماقة الفلاسفة وارباب الضلالة والغفلة! فلقد شعروا بوجود اللوح المحفوظ للقدرة الإلهية الفاطرة، وأحسّوا بمظاهر ذلك الكتاب البصير للحكمة الربانية، وارادتها النافذة في الاشياء، ولمسوا صُوَره ونماذجه، إلاّْ انهم اطلقوا عليه اسم ((الطبيعة)) - حاشَ لله - فاخمدوا نورَه.

وهكذا، باملاءٍ من الإمام المبين، أي بحُكم القَدَر الإلهي ودستوره النافذ، تكتب القدرةُ الإلهية - في ايجادها - سلسلةَ الموجودات - التي كلٌ منها آية - وتوجِد وتحرِك الذرات في لوح ((المحو والاثبات)) الذي هو الصحيفة المثالية للزمان.

أي ان حركات الذرات انما هي اهتزازات وحركات اثناء عبور الموجودات - من جراء تلك الكتابة، ومن ذلك الاستنساخ - من عالم الغيب، الى عالم الشهادة، أي من العلم الى القدرة. أما ((لوح المحو والاثبات)) فهو سجل متبدل للّوح المحفوظ الاعظم الثابت الدائم، ولوحة ((كتابة ومحو)) له في دائرة الممكنات أي الاشياء المعرضة دوماً الى الموت والحياة، الى الفناء والوجود. بحيث ان حقيقة الزمان هو هذا.

نعم! فكما ان لكل شئ حقيقة، فحقيقة ما نسميه بالزمان الذي يجري جريان النهر العظيم في الكون هي في حكم صحيفة ومداد لكتابات القدرة الإلهية في لوح المحو والاثبات. ولا يعلم الغيب إلاّ الله.



السؤال الثاني: اين ميدان الحشر؟

الجواب: العلم عند الله.. وان حكمة الخالق الحكيم الرفيعة التي يظهرها في كل شئ حتى في ربط حكم كثيرة جليلة بشئ صغير جداً، تشير صراحة الى ان الكرة الارضية لا تخط اثناء سيرها السنوي دائرة عظيمة عبثاً وعلى غير هدى. بل انها تدور حول شئ عظيم، وتخط دائرة محيطة لميدان عظيم، وتعيّن حدوده، وتجول حول مشهر عظيم، وتسلّم محاصيلها المعنوية اليه، لتعرض تلك المعروضات امام انظار الناس في ذلك المحشر. بمعنى أن ميدان حشر عظيم سيُبسط من منطقة الشام - كما في رواية(1) - التي ستكون في حكم نواة تملأ دائرة عظيمة محيطها يبلغ ما يقرب مسافة خمس وعشرين الف سنة.

وتُرسل الآن محاصيل الارض المعنوية الى دفاتر والواح ذلك الميدان المعنوي، المحجوب عنا تحت ستار الغيب، وحينما يُفتح الميدان في المستقبل، ستُفرغ الارض ايضاً باهليها الى الميدان نفسه وتمضي محاصيلها المعنوية تلك من الغيب الى الشهادة.

نعم! ان الكرة الارضية في حكم مزرعة، وبمثابة نبع، وكأنها مكيال، قد انتجت من المحاصيل الوفيرة ما يملأ ذلك الميدان الاكبر، وسالت منها مخلوقات كثيرة يستوعبها ذلك الميدان، وخرجت منها مصنوعات كثيرة تملأ ذلك الميدان.اي ان الكرة الارضية نواة، وان ميدان الحشر مع ما فيه، شجرة وسنبل ومخزن.

نعم! كما ان نقطة نورانية تخط خطاً او دائرة بحركتها السريعة، فالكرة الارضية كذلك تكون سبباً لتمثيل دائرة وجودٍ، بحركتها السريعة والحكيمة، وتلك الدائرة مع محاصيلها تكون محور تشكل ميدان الحشر الاكبر.. } قل إنما العلمُ عندَ الله{ .





الباقي هو الباقي





سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:56 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الحادي عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

[ان هذا المكتوب علاج مهم، يشير الى دريرات اُخرجت من خزائن عظمى لآيات اربع كريمات].

اخي العزيز!

ان القرآن الحكيم قد درّس نفسي الامارة بالسوء هذه المسائل المختلفة الاربعة في اوقات متباينة.كتبته لمن شاء من اخواني الذين يرغبون ان يأخذوا حظاً أو درساً منه.

فهذه المسائل تبين دريرات من خزينة الحقائق لأربع آيات كريمات مختلفة من حيث المبحث، ولكل مبحث من تلك المباحث صورتها وفائدتها الخاصة بها.

l المبحث الأول

قال تعالى: } إنّ كيدَ الشّيطان كان ضَعيفاً{ (النساء: 76).

يا نفسي الآيسة من جراء الوساوس والشبهات!

ان تداعي الخيالات، وتخطر الفرضيات نوع من ارتسامٍ غير اختياري، والارتسام إن كان آتياً من الخير والنورانيات، يسري حكم حقيقته الى صورته ومثاله، الىٍ حدٍ ما. مثلما ينتقل ضوء الشمس وحرارتها الى صورتها في المرآة. وإن كان الارتسام صادراً من الشر ومن الكثيف فلا يسرى حكم الأصل وخاصيته الى صورته، ولا الى مثاله. كصورة النجس والقذارة في المرآة ليست نجسة ولا قذرة. وصورة الحية في المرآة لا تلدغ.

وبناء على هذا: ان تصور الكفر ليس كفراً، وتخيّل الشتم ليس شتماً، ولا سيما ان كان بلا اختيار، وكان تخطراً فرضياً، فلا ضرر فيه على الاطلاق.

ثم ان قبح الشئ ونجاسته وقذارته هو بسبب النهي الإلهي، حسب مذهب اهل الحق، اهل السنة والجماعة. وحيث أن الامر خاطر فرضي، وتداع خيالي، بلا اختيار ولا رضى، فلا يتعلق به النهى الإلهي، ولهذا فلا يكون الامر قبيحاً ولا قذراً ولا نجساً مهما كان صورةً لقبيح وقذر ونجس.

l لمسألة الثانية:

ثمرة اينعت في مرعى جبل في بارلا، تحت شجرة الصنوبر والقطران أدرجت في كتاب ((الكلمات)).

l المسألة الثالثة:

هذه المسألة والتي بعدها، قسم من الامثلة التي تبين عجز المدنية الحديثة ازاء اعجاز القرآن، والمذكور في ((الكلمة الخامسة والعشرين)). وهما مثالان من الوف الامثلة التي تثبت مدى الظلم والاجحاف في الحقوق المدنية للحضارة الحديثة والتي تخالف احكام القرآن.

ان الحكم القرآني } فللذكر مثلُ حظِّ الانُثيين{ (النساء: 176) محض العدالة وعين الرحمة في الوقت نفسه نعم، ان ذلك الحكم عدالة؛ لأن الرجل الذي ينكح امرأة يتكفل بنفقتها كما هو في الاكثرية المطلقة. أما المرأة فهي تتزوج الرجل وتذهب اليه، وتحمّل نفقتها عليه، فتلافي نقصها في الارث.

ثم ان الحكم القرآني رحمة؛ لأن تلك البنت الضعيفة محتاجة كثيراً الى شفقة والدها وعطفه عليها والى رحمة اخيها ورأفته بها فهي تجد - حسب الحكم القرآني - تلك الشفقة عليها من والدها وعطفه دون ان يكدرها حذر، اذ ينظر اليها والدها نظرة من لا يخشى منها ضرراً، ولا يقول بانها ستكون سبباً في انتقال نصف ثروتي الى الاجانب والاغيار. فلا يشوب تلك الشفقة والعطف الابوي الحذر والقلق.

ثم انها ترى من اخيها رحمة وحماية لا يعكرّها حسد ولا منافسة، اذ لا ينظر اليها اخوها نظر من يجد فيها منافساً له يمكن أن تبدد نصف ثروة ابيهما بوضعها في يد الاجانب. فلايعكر صفو تلك الرحمة والحماية حقد وكدر.

فتلك البنت اللطيفة الرقيقة فطرة، والضعيفة النحيفة خلقة، تفقد في هذه الحالة شيئاً قليلاً في ظاهر الأمر. الاّ انها تكسب - بدلاً منه - ثروة لا تفنى من شفقة الاقارب وعطفهم عليها ورحمتهم بها. والاّ فان اعطاءها نصيباً اكثر مما تستحق بزعم ان ذلك رحمة في حقها ازيد من رحمة الله سبحانه، ليس رحمة بها قط بل ظلم شنيع في حقها، ربما يفتح سبيلاً امام الحرص الوحشي المستولي على النفوس في هذا الزمان لارتكاب ظلم أشنع، يذكّر بالغيرة الوحشية التي كانت مستولية على النفوس في زمن الجاهلية في وأدهم البنات. فالاحكام القرآنية كلها تصدّق - كما يصدّق هذا الحكم - قوله تعالى: } وما ارسلناك الاّ رحمة للعالمين{ (الانبياء:107).

l المسألة الرابعة: قوله تعالى } فلأمّه السُدُس{ (النساء:11).

ان المدنية (وهي بلا ميم) - اي الدنية - كما قد اصبحت سبباً لمثل هذا الظلم (المذكور في المسألة السابقة) في حق البنات باعطائها اكثر مما تستحق، كذلك تقترف ظلماً أدهى وانكى بحق الوالدات وذلك بحرمانهن من حقوقهن.

نعم! ان شفقة الوالدة وحنانها الذي هو ألطف جلوة من رحمته تعالى بل ألذها واجدرها بالاحترام، اسمى واكرم حقيقة من حقائق الوجود.

والوالدة هي بالذات اكرم صديقة عزيزة وارحم مضحية، بل انها تضحي بدنياها وحياتها وراحتها لولدها، بدافع من حنانها وعطفها. حتى ان الدجاجة التي هي في ابسط مراتب الامومة وتحمل بصيصاً من تلك الشفقة، لا تتردد في الهجوم على الكلب والصولة على الاسد دفاعاً عن فراخها، رغم خوفها وجبنها.

فحرمان الوالدة التي تطوي جوانحها على مثل هذه الحقيقة العزيزة والى هذا الحد، من تركة ولدها، ظلم مريع وعمل اجرامي، واهانة بحقها، وكفران نعمة ازاء الحقيقة الجديرة بالتوقير، بحيث يهتز له عرش الرحمة. وفوق ذلك فهو دسّ للسم في الترياق النافع لحياة البشر الاجتماعية. فان لم يُدرك هذا وحوش البشرية الذين يدّعون خدمتها، فان الناس الحقيقيين الكاملين يعلمون ان حكم القرآن الحكيم في قوله تعالى } فلأمه السدس{ عين الحق ومحض العدل.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:57 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثاني عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السلام عليكم وعلى رفقائكم!

اخوتي الاعزاء!

لقد سألتموني في تلك الليلة سؤالاً لم اجب عنه، لأن البحث في المسائل الايمانية والخوض فيها على صورة مناقشات غير جائز. فانتم قد بسطتم الموضوع على بساط النقاش. والآن اكتب جواباً في غاية الاختصار عن الاسئلة الثلاثة التي هي اساس نقاشكم. وتجدون تفاصيله في ((الكلمات)) التي سجل اسماءها ((السيد الصيدلي)) الاّ انه لم ترد ببالي ((الكلمة السادسة والعشرون)) الخاصة بالقدر والجزء الاختياري، فلم اذكرها، راجعوها، ولكن لا تقرأوها قراءة الجرائد والصحف. والسبب الذي دعاني الى احالتي السيد الصيدلي الى مطالعة تلك ((الكلمات)) هو ان الشبهات التي ترد في امثال تلك المسائل نابعة من ضعف الاعتقاد في الاركان الايمانية، وأن تلك ((الكلمات)) تثبت الاركان الايمانية بتمامها اثباتاً كاملاً.

u سؤالكم الاول: ما الحكمة في اخراج سيدنا آدم عليه السلام من الجنة؟ وما الحكمة في ادخال قسم من بني آدم جهنم؟

الجواب: حكمته: التوظيف.. فقد بُعثَ الى الارض موظفاً، موكولاً اليه مهمة جليلة، بحيث ان نتائج تلك الوظيفة هي جميع انواع الرقي المعنوي البشري، وانكشاف جميع استعدادات البشر ونمائها، وصيرورة الماهية الانسانية مرآة جامعة للاسماء الإلهية الحسنى كلها.

فلو كان سيدنا آدم عليه السلام باقياً في الجنة لبقى مقامه ثابتاً كمقام المَلَك، وَلما نمت الاستعدادات البشرية. بينما الملائكة الذين هم ذوو مقام ثابت مطرد كثيرون فلا داعي الى الانسان للقيام بذلك النوع من العبودية. فاقتضت الحكمة الإلهية وجود دار تكليف تلائم استعدادات الانسان التي تتمكن من قطع مقامات لا نهاية لها. ولذلك اُخرج آدم عليه السلام من الجنة بالخطيئة المعروفة التي هي مقتضى فطرة البشر خلاف الملائكة.

اي ان اخراج آدم عليه السلام من الجنة، هو عين الحكمة ومحض الرحمة. كما ان ادخال الكفار جهنم حق وعدالة، مثلما جاء في ((الاشارة الثالثة من الكلمة العاشرة)) ان الكافر وإن عمل ذنباً في عمر قصير، الاّ أن ذلك الذنب ينطوي على جناية لا نهاية لها؛ ذلك لأن الكفر تحقير للكائنات جميعاً وتهوين من شأنها.. وتكذيب لشهادة المصنوعات كلها للوحدانية.. وتزييف للاسماء الحسنى المشهودة جلواتها في مرايا الموجودات.. ولهذا يلقى القهارالجليل، سلطان الموجودات، الكفارَ في جهنم ليخلدوا فيها، أخذاً لحقوق الموجودات كلها منهم.

والقاؤهم في جهنم ابداً هو عين الحق والعدالة، لأن جناية بلا نهاية تقتضي عذاباً بلا نهاية.

u سؤالكم الثاني: لماذا خلقت الشياطين؟ فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الشيطان والشرور، فما الحكمة فيه؟ اذ خلق الشر شر وخلق القبح قبيح!.

الجواب: حاشَ لله.. وكلا.. ان خلق الشر ليس شراً، بل كسب الشر شر، لأن الخلق والايجاد يتطلع الى جميع النتائج ويتعلق بها، بينما الكسب يتعلق بنتائج خصوصية، لأنه مباشرةٌ خاصة. فمثلاً: ان النتائج المترتبة على نزول المطر تبلغ الالوف، وجميعها نتائج حسنة وجميلة، فاذا ما تضرر أحدهم من المطر بسوء تصرفه وعمله، فليس له الحق ان يقول: ان ايجاد المطر لا رحمة فيه. وليس له أن يحكم بأن خلق المطر شر، بل صار شراً في حقه بسوء اختياره وسوء تصرفه وبكسبه هو بالذات.

وكذا خلق النار، فيه فوائد كثيرة جداً، وجميعها خير، ولكن لو تأذى أحدهم من النار بسوء كسبه وباستعماله السئ لها، فليس له أن يقول: ان خلق النار شر، اذ النار لم تخلق لإحراقه فقط، بل هو الذي أدخل يده في النار التي تطبخ له طعامه، فجعل بسوء عمله تلك الخادمة المطيعة عدوة له.

حاصل الكلام: ان شراً قليلاً يُقبل به للحصول على خير كثير، اذ لو ترك شرٌ ينتج خيراً كثيراً للحيلولة دون حصول ذلك الشر القليل، لحصل عندئذٍ شر كثير.

مثال ذلك: عند سوق الجيش الى الجهاد لابد من حدوث اضرار وشرور جزئية مادية وبدنية، ومن المعلوم كذلك ان في الجهاد خيراً كثيراً حيث ينجو الاسلام من سيطرة الكفار، فلو ُترك الجهاد خشية حدوث تلك الاضرار والشرور القليلة لحصل اذاً شر كثير من دون الحصول على خير كثير، وهذا هو عين الظلم. ومثال آخر: ان قطع الأصبع التي اصابها (الغنغرينا) فيه خير وهو حسن، بينما يبدو ذلك القطع في الظاهر شراً، ولكن لو لم تقطع تلك الاصبع لقطعت اليد، فيحصل آنذاك شر أكبر.

وهكذا فان خلق الشرور والاضرار والبلايا والشياطين، ليس شراً ولا قبيحاً لأن هذه الامور خُلقت للحصول على نتائج مهمةكثيرة جداً. فالملائكة مثلاً لا درجات رقي لهم، وذلك لعدم تسلط الشياطين عليهم؛ لذا يكون مقامهم ثابتاً لا يتبدل. وكذا الحيوانات فان مراتبها ثابتة وناقصة حيث لم تسلط عليها الشياطين. بينما في عالم الانسان تمتد المسافة بين مراتب الرقي ودركات التدني الى أبعاد مديدة طويلة جداً، اذ بدءً من النماردة والفراعنة وانتهاءً الى الصدّيقين والاولياء والانبياء عليهم السلام هناك مراتب للرقي والتدني؛ لذا بخلق الشياطين؛ وبسر التكليف، وبارسال الانبياء، انفتح ميدان الامتحان والتجربة والجهاد والمسابقة، وبه تتميز الارواح السافلة التي هي كالفحم في خساسته عن الارواح العالية التي هي كالالماس في نفاسته.فلولا المجاهدة والمسابقة لبقيت الاستعدادات كامنة في جوهر الانسانية، اي لتساوى الفحم والالماس. اي لتساوت الروح السامية لسيدنا ابى بكر الصديق رضى الله عنه وهي في اعلى عليين مع روح ابي جهل التي هي في اسفل سافلين!

اذاً فخلق الشياطين والشرور وايجادها ليس شراً وليس؛ قبيحاً؛ لأنه متوجه نحو نتائج كلية وعظيمة. بل الشرور والقبائح الناتجة انما هي حاصلة من سوء الاستعمال ومن الكسب الانساني الذي هو مباشرةٌ خاصة، راجعة الى الكسب الانساني وليست الى الخلق الإلهي.

u واذا سألتم:

ان كثيراً من الناس يسقطون في هاوية الكفر والضلال بوجود الشياطين ويتضررون من جرائهم على الرغم من بعثة الانبياء عليهم السلام. وحيث ان الحكم جار على الاكثرية، وان الاكثرين يتضررون، فخلق الشر اذاً شر، بل يمكن ان يقال ان بعثة الانبياء ليست رحمة!

فالجواب: انه لا اعتبار للكمية بالنسبة الى النوعية، فالاكثرية في الحقيقة متوجهة اصلاً الى النوعية، لا الى الكمية. فلو كانت هناك مائة نواة للتمر - مثلاً - ولم توضع تحت التراب ولم تسق بالماء، اي إن لم تحدث فيها تفاعلات كيمياوية، اي ان لم تنل مجاهدة حياتية، فانها تظل على حالها مائة نواة وتساوي قيمتها مائة درهم. بينما اذا سقيت بالماء وتعرضت لمجاهدة حياتية فتفسخت من جرائها، وبسوء طبعها، ثمانون منها، ونمت عشرون منها نخلاً مثمراً، أفيمكنك ان تقول: ان سقي تلك البذور شر حيث أفسد الكثير منها! لا تستطيع قول ذلك بلا شك، لان تلك النوى العشرين قد اصبحت بمثابة عشرين الف نواة، فالذي يفقد الثمانين ويكسب العشرين ألفاً لاشك انه غانم لم يتضرر، فلا يكون السقي اذاً شراً.

وكذا لو وجدت مائة من بيض الطاووس - مثلاً - فثمنها يساوي ثمن البيض وهو خمسمائة قرش ولكن اذا حضنت تلك المائة من البيض وفرخ عشرون منها، وفسدت الثمانون الباقية، هل يمكن ان يقال حينئذٍ ان ضرراً كبيراً قد حدث، أو أن هذه المعاملة شر، أو أن حضانة الطاووسة على البيض عمل قبيح.. لاشك ان الجواب ليس كذلك، بل العمل هذا خير، لأن الطاووس وبيضه قد كسبا عشرين طاووساً اثمانها باهظة بدلاً عن تلك البيوض الكثيرة الزهيدة الثمن.

وهكذا فقد غنم النوع البشري مائة الف من الانبياء عليهم السلام وملايين الاولياء وملايين الملايين من الاصفياء الذين هم شموس عالم الانسانية واقمارها ونجومها، ببعثة الانبياء وبسر التكليف وبمحاربة الشياطين، ازاء ما خسره من المنافقين - الكثيرين كماً والتافهين نوعاً - والكفار الذين هم ضرب من الحيوانات المضرة.

u سؤالكم الثالث: ان الله سبحانه وتعالى ينزل المصائب ويسـلط البلايا، ألا يكون هذا ظلماً على الابرياء بل حتى على الحيوانات؟

الجواب: حاشَ لله وكلا.. فان المُلك ملكه وحده، وله أن يتصرف فيه كيف يشاء. تُرى لو ان صنّاعاً ماهراً جعلك نموذجاً ((موديلاً)) مقابل اجرة، وألبسك ثوباً زاهياً خاطه بأفضل ما يكون، ثم بدأ يقصّره ويطوله ويقصه.. ثم يقعدك وينهضك ويثنيك.. كل ذلك لكي يبين حذاقته ومهارته، فهل لك أن تقول له: لقد شوهت جمال ثيابي الذي زادني جمالاً، وقد ارهقتنى لكثرة ما تقول لي: اجلس.. إنهض! فلا ريب انك لا تقدر على هذا القول. بل لو قلته، فهو دليل الجنون ليس الاّ.

وعلى غرار هذا فان الصانع الجليل قد ألبسك جسماً بديعاً مزيناً بالعين والاذن والانف وغيرها من الاعضاء والحواس. ولأجل اظهار آثار اسمائه الحسنى المتنوعة يبتليك بانواع من البلايا فيمرضك حيناً ويمتعك بالصحة احياناً اخرى، ويجيعك مرة ويشبعك تارة ويظمئك اخرى. وهكذا يقلبك في امثال هذه الاطوار والاحوال لتتقوى ماهية الحياة وتظهر جلوات اسمائه الحسنى.

فان قلت: لماذا يبليني بهذه المصائب؟ فان مائة من الحِكَم الجليلة تسكتك، كما اشير اليها في المثال السابق. اذ من المعلوم ان السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجودٌ وخير. فالحياة تتكامل بالحركة وتترقى بالبلايا وتنال حركات مختلفة بتجليات الاسماء وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون قلماً متحركاً لكتابة مقدراتها، وتفى بوظائفها، وتستحق الاجر الاخروي.

نكتفي بهذا القدر من الاجوبة المختصرة لاسئلتكم الثلاث التي دارت حولها مناقشاتكم. أما ايضاحها ففي الثلاث والثلاثين كلمة من ((الكلمات)).

اخي العزيز!

اقرأ هذه الرسالة للسيد الصيدلي، ومن تراه لائقاً ممن سمعوا المناقشة وبلّغ سلامي الى الصيدلي الذي هو من طلابي الجدد، وقل له:

لايجوز بحث المسائل الايمانية الدقيقة - كالمذكورة - بشكل مناقشات جدلية من دون ميزان، ولا امام جماعة من الناس، اذ تتحول الادوية عندئذٍ الى سموم، لانها دون ميزان، فتضر المتكلمين والمستمعين معاً. وانما يجوز ذلك عند فراغ البال وسكون القلب وتوفّر الانصاف عند الباحثين، وتداولاً فكرياً ليس الاّ.

وقل له: ان كانت ترد الى قلبك الشبهات في مثل هذه المسائل ولم تجد لهاجواباً في ((الكلمات)) فليكتب اليّ رسالة خاصة بشأنها.

وقل للصيدلي ايضاً: لقد ورد المعنى الآتي بحق الرؤيا التي رآها، والتي تعود الى والده المرحوم:

لما كان الوالد المرحوم طبيباً، فقد نفع اناساً اتقياء وصالحين كثيرين بل أولياء. فارواح اولئك الميامين الذين انتفعوا منه ظهرت - لأبنه القريب منه - على صورة طيور اثناء وفاته. فخطر لي ان ذلك استقبال مفرح وترحيب مفعم بالشفاعة.

سلامي ودعواتي الى كل من حضر معنا هنا تلك الليلة.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:57 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثالث عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السلام على من اتبع الهدى.. والملام على من اتبع الهوى

اخوتى الاعزاء!

تسألون كثيراً عن حالي وراحتي، وعن عدم مراجعتي الجهات المسؤولة للحصول على شهادة (للمنفيين) وعن عدم اهتمامي لأحوال العالم السياسية. وحيث ان اسئلتكم تتكرر كثيراً، فضلاً عن انها تُسأل مني معنىً، اضطر الى اجابة هذه الاسئلة الثلاثة بلسان سعيد القديم وليس بلسان سعيد الجديد.

o سؤالكم الاول:

كيف حالكم؟ أأنتم في خير وعافية؟

الجواب: انني أحمد الله تعالى حمداً لا أحصيه، اذ حوّل أنواع الظلم والمكاره التي جابهني بها أهل الدنيا(1) الى أنواع من الفضل والرحمة. واليكم البيان:

بينما كنت منعزلاً في مغارة أحد الجبال، وقد طلّقت السياسة وتجردت عن الدنيا منشغلاً بامور آخرتي، أخرجني أهل الدنيا من هناك ونفوني ظلماً وعدواناً. فجعل الخالق الرحيم الحكيم هذا النفي لي رحمة، اذ حوّل ذلك الانزواء في الجبل الذي كان معرضاً لعوامل تخل بالاخلاص والأمان، الى خلوة في جبال (بارلا) يحيط بها الأمن والاطمئنان والاخلاص. وقد عزمت عندما كنت أسيراً في روسيا ورجوت الله ان أنزوي في أواخر عمري في مغارة. فجعل أرحم الراحمين (بارلا) في مقام تلك المغارة ويسّر لي فائدتها ولم يحمّل كاهلي الضعيف متاعب المغارة وصعوباتها إلاّ ما اصابتني من مضايقات بسبب أوهام وريوب كان يحملها بضعة أشخاص فيها، فهؤلاء الذين كانوا أصدقائي - وقد ركبتهم الأوهام ظناً منهم انهم يعملون لصالحي ولراحتي - إلاّ انهم بأوهامهم هذه قد جلبوا الضيق على قلبي والضرر على خدمة القرآن.

وعلى الرغم من ان أهل الدنيا اعطوا للمنفيين جميعاً وثائق العودة وأخلوا سبيل المجرمين من السجون وعفوا عنهم، فقد منعوا الوثيقة عني ظلماً وجوراً، ولكن ربي الرحيم شاء ان يبقيني في هذه الغربة ليستخدمني في خدمة القرآن أكثر وليجعلني أكتب هذه الأنوار القرآنية التي سميتها ((الكلمات)) أكثر فاكثر، فابقاني في هذه الغربة بلا ضجة ولا ضوضاء، وحوّلها الى رحمة سابغة.

ومع ان أهل الدنيا سمحوا لذوي النفوذ والشيوخ ولرؤساء العشائر (من المنفيين) - الذين يمكنهم المداخلة في دنياهم - بالبقاء في الأقضية والمدن الكبيرة وسمحوا لأقاربهم ولجميع معارفهم بزيارتهم، فانهم فرضوا عليّ حياة العزلة ظلماً وعدواناً وارسلوني الى قرية صغيرة. ولم يسمحوا لأقاربي ولا لأهل بلدتي - باستثناء واحد أو اثنين - بزيارتي. فقلب خالقي الرحيم هذه العزلة الى رحمة غامرة بالنسبة لي، اذ جعل هذه العزلة وسيلة لصفاء ذهني وتخليصه من توافه الأمور وتوجيهه للاستفاضة من القرآن الحكيم على صفائه ونقائه.

ثم ان أهل الدنيا استكثروا عليّ في البدء حتى كتابة رسالة أو رسالتين أعتياديتين في مدة سنتين كاملتين. بل انهم حتى اليوم لا يرتاحون عندما يحضر لزيارتي ضيف أو ضيفان مرة كل عشرة أيام أو كل عشرين يوماً أو كل شهر، مع ان غرض الزيارة هو ثواب الآخرة ليس إلاّ. فارتكبوا الظلم في حقي، ولكن ربي الرحيم وخالقي الحكيم بدّل لي ذلك الظلم الى رحمة، اذ أدخلني في خلوة مرغوبة وعزلة مقبولة في هذه الشهور الثلاثة التي يكسب المرء فيها تسعين سنة من حياة معنوية. فالحمد لله على كل حال.

هذه هي حالي وظروف راحتي.

o سؤالكم الثاني:

لِمَ لا تراجع (المسؤولين) للحصول على شهادة؟

الجواب: انني في هذه المسألة محكوم للقدر ولست محكوماً لأهل الدنيا، لذا اراجع القدر. وارحل من ههنا متى ما سمح القدر وقطع رزقي هنا ارحل.

وحقيقة هذا المعنى هي:

ان في كل ما يصيب الانسان سببين:

الاول: سبب ظاهر. والآخر: حقيقي.

وقد اصبح اهل الدنيا سبباً ظاهراً وأتوا بي الى ههنا. أما القدر الإلهي فهو السبب الحقيقي، فحكم عليّ بهذه العزلة. والسبب الظاهر ظَلَمَ، أما السبب الحقيقي فقد عدل.

والسبب الظاهر فكرّ على هذا النمط: ((ان هذا الرجل يخدم العلم والدين بافراط، فلربما يتدخل في امور دنيانا)). فنفوني بناء على هذا الاحتمال، وظلموا ظلماً مضاعفاً بثلاث جهات.

اما القدر الإلهي فقد رأى: انني لا اخدم الدين والعلم خدمة خالصة كاملة، فحكم عليّ بهذا النفي، وحوّل ظلمهم المضاعف الى رحمة مضاعفة.

فما دام القدر هو الحاكم في نفيي، والقدر عادل، فانا ارجع اليه وافوض امري اليه. اما السبب الظاهر فليس له الاّ حجج ومبررات تافهة. بمعنى ان مراجعة اهل الدنيا لا يعني شيئاً ولا يجدى نفعاً.فلوكانوا يملكون حقاً أو اسباباً قوية فلربما يمكن مراجعتهم.

انني تركت دنياهم تركاً نهائياً - تباً لها - وفي الوقت الذي اعرضت عن سياساتهم كلياً - وتعساً لها - فان كل ما يساورهم من شكوك واوهام لا أصل لها اطلاقاً؛ لذا لا ارغب في ان اضفي صبغة الحقيقة على تلك الريوب والاوهام بمراجعتهم. فلو كان لي اقل رغبة في التدخل بسياستهم الدنيوية – التي طرف حبالها بايدي الاجانب – لكانت تُظهر نفسها في ثماني ساعات وليست في ثماني سنوات. علماً انني لم ارغب في قراءة جريدة واحدة ولم اقرأها طوال ثماني سنوات. فمنذ اربع سنوات وانا هنا تحت المراقبة، لم تبدُ مني ظاهرة من ذلك، بمعنى ان خدمة القرآن لها من السمو والرفعة ما يعلو على جميع السياسات مما يجعلني اترفّع عن التدخل في السياسات الدنيوية التي يغلب عليها الكذب.

والسبب الثاني لعدم مراجعتهم هو: ان ادعاء الحق ازاء من يظنون الباطل حقاً، نوع من الباطل فلا اريد ارتكاب ظلم كهذا.

o سؤالكم الثالث:

لِمَ لا تهتم الى هذا الحد بمجريات السياسية العالمية الحاضرة.. نراك لا تغيّر من طورِكَ اصلاً امام الحوادث الجارية على صفحات العالم. أفترتاح اليها أم انك تخاف خوفاً يدفعك الى السكوت؟

الجواب: ان خدمة القرآن الكريم هي التي منعتني بشدة عن عالم السياسة بل أنستني حتى التفكر فيها. والاّ فان تأريخ حياتي كلها تشهد بأن الخوف لم يكبلني ولا يمنعني في مواصلة سيري فيما اراه حقاً. ثم ممَّ يكون خوفي؟ فليس لي مع الدنيا علاقة غير الأجل، اذ ليس لي اهل واولاد أفكر فيهم، ولا اموال افكر فيها، ولا افكر في شرف الأصالة والحسب والنسب. ورحم الله من اعان على القضاء على السمعة الاجتماعية التي هي الرياء والشهرة الكاذبة، فضلاً عن الحفاظ عليها..

فلم يبق الاّ أجلي، وذلك بيد الخالق الجليل وحده. ومن يجرأ أن يتعرض له قبل اوانه. فنحن نفضل اصلاً موتاً عزيزاً على حياة ذليلة.

ولقد قال احدهم مثل سعيد القديم؛

ونحن أناسٌ لا تَوَسّطَ بَيْننا لنا الصَدْرُ دونَ العالَمينَ أو القبرُ (1)

أنما هي خدمة القرآن تمنعني عن التفكر في الحياة الاجتماعية السياسية وذلك:

ان الحياة البشرية ما هي الاّّ كركب وقافلة تمضي، ولقد رأيت بنور القرآن الكريم في هذا الزمان، ان طريق تلك القافلة الماضية أدت بهم الى مستنقع آسن، فالبشرية تتعثر في سيرها فهي لا تكاد تقوم حتى تقع في اوحال ملوثة منتنة.

ولكن قسماً منها يمضي في طريق آمنة.

وقسم آخر قد وجد بعض الوسائل لتنجيه - قدر المستطاع - من الوحل والمستنقع.

وقسم آخر وهم الأغلبية يمضون وسط ظلام دامس في ذلك المستنقع الموحل المتسخ.

فالعشرون من المائة من هؤلاء يلطخون وجوههم واعينهم بذلك الوحل القذر ظناً منهم انه المسك والعنبر، بسبب سُكرهم. فتارة يقومون واخرى يقعون وهكذا يمضون حتى يغرقون.

أما الثمانون من المائة، فهم يعلمون حقيقة المستنقع ويتحسسون عفونته وقذارته الاّ انهم حائرون، اذ يعجزون عن رؤية الطريق الآمنة.

وهكذا فهناك علاجان اثنان ازاء هؤلاء:

اولهما: ايقاظ العشرين منهم المخمورين بالمطرقة.

وثانيها: اراءة طريق الأمان والخلاص للحائرين باظهار نور لهم (اي بالارشاد).

فالذي اراه أن ثمانين رجلاً يمسكون بالمطرقة بايديهم تجاه العشرين بينما يظل اولئك الثمانون الحائرون البائسون دون أن يُُبصّروا النور الحق، وحتى لو اُبصروا فان هؤلاء لكونهم يحملون في ايديهم عصا ونوراً معاً فلا يوثق بهم. فيحاور الحائر نفسه في قلق واضطراب: تُرى أيريد هذا أن يستدرجني بالنور ليضربني بالمطرقة؟. ثم حينما تتحطم المطرقة بالعوارض احياناً، يذهب ذلك النور ايضاً ادراج الرياح أو ينطفئ.

وهكذا، فذلك المستنقع هو الحياة الاجتماعية البشرية العابثة الملوثة الغفلة الملطخة بالضلالة.

واولئك المخمورون هم المتمردون الذين يتلذذون بالضلالة.

واولئك الحائرون هم الذين يشمئزون من الضلالة ولكنهم لا يستطيعون الخروج منها، فهم يريدون الخلاص ولكنهم لا يهتدون سبيلاً.. فهم حائرون.

أما تلك المطارق فهي التيارات السياسية، واما تلك الانوار فهي حقائق القرآن فالنور لا تثار حياله الضجة ولا يقابل بالعداء قطعاً، ولا ينفر منه الاّ الشيطان الرجيم.

ولذلك، قلت: ((اعوذ بالله من الشيطان والسياسة)) لكي احافظ على نور القرآن. واعتصمت بكلتا يدي بذلك النور، ملقياً مطرقة السياسة جانباً.

ورأيت أن في جميع التيارات السياسية - سواءً الموافقة منها أو المخالفة - عشاقاً لذلك النور.

فالدرس القرآني الذي يُلقى من موضع طاهر زكي مبرأ من موحيات افكار التيارات السياسية والانحيازات المغرضة جميعها، ويُرشد اليه من مقام أرفع واسمى منها جميعاً، ينبغي الاّ تحجم عنه جهة، ولا يكون موضع شبهة فئة، مهما كانت. اللّهم الاّ اولئك الذين يظنون الكفر والزندقة سياسة فينحازون اليها. وهؤلاء هم شياطين في صورة اناسي أو حيوانات في اجساد بشر.

وحمداً لله فانني بسبب تجردي عن التيارات السياسية لم أبخس قيمة حقائق القرآن التي هي اثمن من الالماس ولم اجعلها بتفاهة قطع زجاجية بتهمة الدعاية السياسية. بل تُزيد قيمة تلك الجواهر القرآنية على مرّ الايام وتتألق اكثر امام انظار كل طائفة.



} وقالوا الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي
لولا أنْ هدانا الله لقدْ جاءت رُسُل ربّنا بالحق{



الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

المكتوب الرابع عشر



لم يؤلف

عبدالرزاق 02-03-2011 01:58 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الخامس عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

اخي العزيز! ان سؤالك الاول الذي هو:

معلوم ان صغار الصحابة هم اعظم بكثير من اعاظم الاولياء، فلماذا اذن لم يكشف الصحابة الكرام بنظر ولايتهم المفسدين المندسين في المجتمع، حتى سبّبوا استشهاد ثلاثة من الخلفاء الراشدين؟

جوابه: في مقامين اثنين:

المقام الاول

بتوضيح سر دقيق للولاية وبيانه تحل عقدة السؤال وهو:

ان ولاية الصحابة الكرام هي ((الولاية الكبرى)) ومنبعها واصولها الاولى من وراثة النبوة، وطريقها: النفوذ من الظاهر الى الحقيقة مباشرة، من دون المرور بطريق البرزخ. فهي ولاية متوجهة الى انكشاف ((الاقربية الإلهية)) حيث ان طريق هذه الولاية رغم قصرها الشديد سامية وعالية جداً، خوارقها قليلة وكشوفاتها وكراماتها نادراً ما تظهر، الا ان مزاياها وفضائلها عالية جداً. بينما كرامات الاولياء اغلبها ليست اختيارية، فقد يظهر منهم أمر خارق للعادة من حيث لم يحتسبوا، اكراماً من الله لهم، وأغلب هذه الكشوفات والكرامات يظهر لهم اثناء فترة السير والسلوك وعند مرورهم في برزخ الطريقة. وحينما يتجردون - الى حد ما - من حظوظ البشرية ينالون حالات خارقة للعادة.

أما الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم اجمعين - فهم ليسوا مضطرين الى قطع الدائرة العظيمة بالسير والسلوك ضمن الطريقة للوصول الى الحقيقة، وذلك لتشرفهم بانعكاس انوار الصحبة النبوية الشريفة، فهم قادرون - بهذا السر - ان ينفذوا من الظاهر الى الحقيقة بخطوة واحدة وفي جلسة واحدة. فمثلاً:

ان هناك طريقين لإدراك ليلة القدر التي مضت ليلتها بالأمس وغدت ماضياً:

الاولى:

معاناة الايام يوماً بعد يوم سنة كاملة، لأجل الوصول الى تلك الليلة المباركة مرة اخرى ومقابلتها وموافقتها، فلابد من السير والسلوك وقطع سنة كاملة للظفر بهذه ((القربـية الإلهية)).

وهذا هو مسلك معظم السالكين من اهل الطرق.

الثانية:

انسلال الجسم المادي المقيد بالزمان من غلافه، والتسامي روحياً بالتجرد، ورؤية ليلة القدر الماضية بالأمس مع ليلة العيد المقبلة بعد يوم حاضرتين ماثلتين كأنهما اليوم الحاضر، حيث ان الروح ليست مقيدة بالزمان. فحينما تسمو الاحاسيس الانسانية الى درجة رهافة الروح يتوسع ذلك الزمان الحاضر - ويطوي فيه الماضي والمستقبل - فتكون الاوقات الماضية والمستقبلة بالنسبة للاخرين بمثابة الحاضر بالنسبة اليه.

في ضوء هذا التمثيل، يكون العبور الى ليلة القدر الماضية بالأمس، بالرقي الى مرتبة الروح ومشاهدة الماضي كأنه الحاضر.

واساس هذا السر الغامض انما هو انكشاف ((الاقربية الإلهية)).

ولنوضح هذا بمثال:

ان الشمس قريبة منا لأن ضياءها وحرارتها وصورتها تتمثل في مرآتنا التي في ايدينا، ولكن نحن بعيدون عنها. فلو أحسسنا بأقربيتها من حيث النورانية، وادركنا علاقتنا مع صورتها المثالية في مرآتنا، وعرفناها بتلك الوساطة، ولمسنا حقيقة ضيائها وحرارتها وهيئتها فان اقربيتها تنكشف لنا لدرجة تغرينا بتكوين علاقة معها عن معرفة وقرب.

ولكن لو اردنا التقرب اليها والتعرف عليها من حيث بعدنا عنها لأضطررنا الى كثير جداً من السير الفكري والسلوك العقلي لنصعد فكرياً بصحبة القوانين العلمية الى السموات ونتصور من ثمة الشمس متألقة في فضاء الكون، ولابد من الاستعانة بهذه القوانين والتدقيقات المطولة جداً لادراك ما في ماهيتها من ضياء وحرارة والوان سبعة. وبعد هذا كله قد نحصل على القربية المعنوية منها، بمثل التي حصل عليها الشخص الاول بتأمل يسير في مرآته.

وعلى غرار هذا المثال؛

فالنبوة، والولاية الموروثة عنها، متوجهتان الى انكشاف ((الاقربية الإلهية)). اما سائر الولايات فان معظمها تسلك على أساس ((القربية الإلهية)) فتضطر الى السير والسلوك عبر مراتب عدة قبل بلوغها المقام المطلوب.



المقام الثاني

ان الذي كان وراء حوادث الفتن ليس هو عدداً قليلاً من اليهود كي يمكن حصرهم وايقاف ذلك الفساد، واطفاء تلك الفتن بمجرد كشفهم. اذ بدخول اقوام كثيرة متباينة الى حظيرة الاسلام، تداخلت واختلطت تيارات متناقضة وغير متجانسة في باطنها مع عقيدة الاسلام. وبخاصة اولئك الذين أصيب غرورهم القومي بالضربات القوية من يد سيدنا عمر رضي الله عنه. فكانوا يضمرون في نفوسهم الانتقام ويترقبون الفرصة له حيث أُبطل دينهم السابق ودُمّر سلطانهم وازيلت دولتهم التي كانت مدار افتخارهم وعزهم، لذا فقد كانوا يحملون احساساً بالانتقام شعورياً وغير شعوري من خلافة الاسلام. ولهذا قيل ان المنافقين الدساسين الاذكياء امثال اليهود قد استغلوا تلك الحالة الاجتماعية.

اي ان مقاومة تلك الفتن وازالتها هي بمواجهتها باصلاح ذلك المجتمع وتنوير الافكار المختلفة، وليس بكشف قلة من المفسدين.

واذا قيل:

ان سيدنا عمر رضي الله عنه قد هتف من فوق المنبر بسارية احد قواد سراياه وهو على بعد مسيرة شهر منه بـ((يا سارية الجبل الجبل!))(1) فهتافه هذا وتوجيهه هذا اصبحا سبباً من اسباب نيل النصر في تلك المعركة. هذه الحادثة المشهورة تبين مدى نفاذ بصيرته الحادة.

والسؤال هو: لماذا لم تر تلك البصيرة بنظرها الثاقب قاتلَه فيروز الذي كان قريباً منه؟

الجواب: نجيب عن هذا السؤال بما اجاب عنه سيدنا يعقوب عليه السلام(2) ،فقد سئل عليه السلام: كيف وجدت ريح يوسف عليه السلام من قميصه الذي في ارض مصر، ولم تره في الجب القريب منك في ارض كنعان؟

فأجاب عليه السلام: ان حالاتنا كالبرق الخاطف، يظهر احياناً ويختفي اخرى، فنكون احيانا كمن هو جالس في اعلى مقام ويرى جميع ما حوله، واحياناً اخرى لا نرى ظهر اقدامنا.

والخلاصة: انه مهما كان الانسان فاعلا ذا اختيار الا أن المشيئة الإلهية هي الاصل، والقدر الإلهي حاكم مهيمن والمشيئة الإلهية ترد المشيئة الانسانية،بمضمون قوله تعالى: } وما تشاؤون إلاّ انْ يشاء الله{ (الانسان:30) واذا جاء القدر عمي البصر، فينفذ حكمه، واذا ما تكلم القدر تسكت القدرة البشرية، ويصمت الاختيار الجزئي.



o مـضمون سؤالكم الثاني هو:

ما حقيقة الوقائع التي دبّت في صفوف المسلمين في عهد سيدنا علي رضي الله عنه؟ وماذا نسمي اولئك الذي ماتوا وقُتلوا فيها؟

الجواب: ان ((معركة الجمل)) التي دارت رحاها بين سيدنا على رضي الله عنه وجماعته من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين من جهة اخرى، هي معركة بين العدالة المحضة والعدالة الاضافية (النسبية). وتوضيحها كالأتي:

لقد جعل سيدنا علي رضي الله عنه، العدالة المحضة أساساً لسياسته في ادارة دفة الحكم. وسار بمقتضاها على وفق اجتهاده وبمثل ما كان الشيخان يسيران عليه من قبله. أما معارضوه فقد قالوا: ان صفاء القلوب وطهارة النفوس في عهد الشيخين كانا ملائمين وممهّدين لكي تنشر العدالة المحضة سلطانها على المجتمع، الاّ أن دخول اقوام متباينة الطبائع والاتجاهات وهم على ضعف الاسلام بمرور الزمن، في هذا المجتمع ادّى الى وضع عوائق مهمة ازاء الرغبة في تطبيق العدالة المحضة، فغدا تطبيقها صعباً، لذا فقد اجتهدوا على اساس بالعدالة النسبية التي هي اختيار لأهون الشرين.

ولكن، لأن المنافسة حول هذين النوعين من الاجتهاد آلت الى ميدان السياسة، فقد نشبت الحرب بين الطرفين. وحيث أن كل طرف قد توصل الى اجتهاده بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ومصلحة الاسلام، ونشبت الحرب نتيجة هذا الاجتهاد الخالص لله، فيصح أن نقول: القاتل والمقتول كلاهما من أهل الجنة، وكلاهما مأجوران مثابان، رغم معرفتنا أن اجتهاد الامام علي رضي الله عنه كان صواباً وان اجتهاد مخالفيه مجانب للصواب. وهؤلاء المخالفون ليسوا اهلاً للعقاب الاخروي. اذ المجتهد لله اذا أصاب فله اجران وان اخطأ فله اجر واحد، أي أنه ينال ثواب بذله الجهد في الاجتهاد، وهو نوع من العبادة، اي هو معذور في خطئه.

وقد قال أحد اعلام علمائنا المحققين ويعدّ قوله حجة، شعراً باللغة الكردية:

ذى شر صحابان مَكَه قال وقيل لورا جنتينه قاتل وهم قتيل

أي لا تخض فيما وقع بين الصحب الكرام؛ لأن القاتل والمقتول كليهما في الجنة.

أما ايضاح الفرق بين العدالة المحضة والعدالة الاضافية فهو:

ان حق الشخص البرئ الواحد لا يبطل لأجل الناس جميعاً، اي أن حقه محفوظ، وهذا المعنى هو الذي تشير اليه الآية الكريمة } مَنْ قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً{ (المائدة: 32) فلا يُضحى بفردٍ واحد لأجل الحفاظ على سلامةٍ الجميع؛ اذ الحق هو حق ضمن اطار الرحمة الإلهية، فلا يُنظر الى كونه صغيراً أو كبيراً، لذا لا يُفدى بالصغير لأجل الكبير، ولا بحياة فرد وحقه لأجل سلامة جماعة والحفاظ عليها، ان لم يكن له رضى في الأمر. اما اذا كانت التضحية برضاه ورغبة منه فهي مسألة اخرى.

أما العدالة الاضافية فهي أن الجزء يضحى لأجل سلامة الجميع، فهذه العدالة لا تأخذ حق الفرد بنظر الاعتبار لأجل الجماعة، وانما تحاول القيام بنوع من عدالة اضافية من حيث الشر الأهون. ولكن اذا كانت العدالة المحضة قابلة للتطبيق فلا يُصار الى العدالة الاضافية، وان صار اليها فقد وقع الظلم. فالامام علي رضي الله عنه قال: ان العدالة المحضة قابلة للتطبيق، كما كان عليه في عهد الشيخين. لذا حاول بناء الخلافة الاسلامية على تلك القاعدة من العدالة المحضة. بينما معارضوه كانوا يقولون ان هذه العدالة المحضة غير قابلة للتطبيق، حيث هناك، عوائق ومشكلات كثيرة تظهر اثناء تطبيقها، فصار اجتهادهم الى العدالة الاضافية.

أما ما أورده التاريخ من اسباب اخرى فهي ليست اسباباً حقيقية، بل حجج ومبررات واهية.

o فان قلت:

لِمَ لَمْ يُوفّق الامام علي رضي الله عنه بمثل ما وفق اسلافه في ادارة دفة الخلافة رغم اتصافه ـ من هذه الناحية - بقابليات فائقة وذكاء خارق، ولياقة تامة جديرة بمنصب الخلافة؟

الجواب: ان الامام علياً كان حرياً ومؤهلاً للقيام بمهمات جسام تفوق اهمية السياسة والحكم، اذ لو كان التوفيق تاماً له في السياسة والحكم لما كان يحرز لقب "سيد الاولياء" بجدارة تامة، ذلك المقام المعنوي الذيهو أهل له بحق. فظفر بسلطنة معنوية وبحكم معنوي أرقى بكثير من خلافة سياسية ظاهرية. حيث اصبح بمثابة استاذ الجميع، وغدا حكمه المعنوي سارياً وماضياً الى يوم القيامة.

m أما ما وقع من حرب بين الامـام علي رضـي الله عنـه وسيـدنا معاوية رضـي الله عنه وانصاره في واقعة ((صفين)) فهي حرب بين الخلافة والسلطنة - الملك الدنيوي - أي أن الامام علياً رضي الله عنه قد اتخذ احكام الدين وحقائق الاسلام والآخرة اساساً، فكان يضحي بقسم من قوانين الحكم والسلطنة وما تقتضيه السياسة من امور فيها اجحاف في سبيل الحقائق والاحكام. أما سيدنا معاوية ومَن معه، فقد التزموا الرخصة الشرعية وتركوا الاخذ بالعزيمة،لاجل اسناد الحياة الاجتماعية الاسلامية بسياسات الحكم والدولة. فعدّوا انفسهم مضطرين في الأخذ بهذا المسلك في عالم السياسة. لذا رجحوا الرخصة على العزيمة، فوقعوا في الخطأ.

m أما مقاومة الحسن والحسين رضي الله عـنهـما للامويـين، فهي في حقـيقـتها صراع بين الدين والقومية، اذ اعتمد الامويون على جنس العرب في تقوية الدولة الاسلامية، وقدّموهم على غيرهم، اي فضّلوا رابطة القومية على رابطة الاسلام فاضروا من جهتين:

الاولى: آذوا الاقوام الاخرى بنظرتهم هذه، فوّلدوا فيهم الكراهية والنفور.

الثانية: ان الاسس المتبعة في القومية والعنصرية اسس ظالمة لا تتبع العدالة ولا توافق الحق، اذ لا تسير تلك الاسس على وفق العدالة، لأن الحاكم العنصري يفضل من هم بنو جنسه على غيرهم، فأنَّى له أن يبلغ العدالة! بينما ((الاسلام يجبّ ما قبله))(1) من عصبية جاهلية، لا فرق بين عبد حبشي وسيد قرشي اذا أسلما(2) فلا يمكن اقامة رابطة القومية بدلاً من رابطة الدين في ضوء هذا الأمر الجازم. اذ لا تكون هناك عدالة قطٍ وانما تهدر الحقوق ويضيع الانصاف.

وهكذا فان سيدنا الحسين رضي الله عنه قد تمسّكَ برابطة الدين، وهو محق في ذلك، لذا قاوم الامويين حتى رزق مرتبةالشهادة.

o واذا قيل:

لِمَ لم ينجح سيدنا الحسين رضي الله عنه في مسعاه رغم انه كان على حق وصواب؟ وكيف سمحت الرحمة الإلهية والقدر الإلهي ان تكون عاقبته وعاقبة آل بيته فاجعة أليمة؟

الجواب: اذا استثنينا المقربين من سيدنا الحسين رضي الله عنه، نجد ان الاقوام المختلفة الذين التحقوا بهم هم ممن اُصيب غرورهم القومي بجروح بيد العرب المسلمين، فهم يضمرون ثأراً تجاههم، مما كّدر صفاء النية ونقاءها التي كان يتحلى بها مسلك الحسين ومن معه، وادّى تعكـُّر ذلك الصفاء وخفوت سطوع ذلك النهج القويم الى تقهقرهم امام اولئك.

m اما حكمة تلك الحادثة المؤلمة من زاوية نظر القدر الإلهي فهي:

ان الحسن والحسين رضي الله عنهما وذويهما ونسلهما كانوا مرشحين لسلطنة معنوية ومؤهلين لتسنم مرتبة سامية معنوية.و لما كان الجمع بين سلطنة الدنيا وتلك السلطنة المعنوية من الصعوبة بمكان، لذا جعلهم القدر الإلهي يُعرضون عن الدنيا، وأظهر لهم وجه الدنيا الدميم، لئلا تبقى لهم علاقة قلبية مع الدنيا، ودفعهم الى أن ينفضوا ايديهم من سلطنة صورية دنيوية مؤقتة زائلة، بينما عيّنهم لتسنم الامور لدى سلطنة معنوية سامية دائمة، فاصبحوا مرجِعاً لأقطاب الاولياء بدلاً من ان يكونوا مرجعاً للولاة الاعتياديين.

o أما سؤالكم الثالث الذي هو:

ما الحكمة في المصيبة الاليمة والمعاملة الظالمة التي اصابت اولئك الطاهرين الميامين؟.

الجواب: لقد بينا سابقاً ان هناك ثلاثة اسس كان معارضو سيدنا الحسين رضي الله عنه وهم الامويون يسيرون عليها والتي ادت الى ارتكاب تلك المظالم والمعاملات القاسية:

الأول: هو دستور السياسة الظالم ومؤداه؛ ان الاشخاص يضحى بهم في سبيل الحفاظ على الدولة واستتباب النظام في البلاد.

الثاني:كانت دولتهم تستند الى القومية والعنصرية، وكان الحاكم المهيمن على الامور قانون القومية الظالم وهو: ((كل شئ يضحى في سبيل الحفاظ على سلامة الامة)).

الثالث: تأصل عرق المنافسة لدى الامويين منذ مدة طويلة تجاه الهاشميين، فظهر في يزيد وامثاله، مما سبب تفجّر استعدادات ظالمة قاسية لا رحمة فيها ولا رأفة.

وهناك سبب رابع وهو الذي يخص الذين انضموا الى صف سيدنا الحسين رضي الله عنه، وهو ان اعتماد الامويين على قومية العرب وحدهم في ادارة شؤون الدولة، ونظرتهم المتعالية على سائر الأقوام كأنهم عبيد لديهم وتسميتهم بالموالي، اصاب غرور اولئك، مما دفعهم الى الالتحاق بصف سيدنا الحسين، وهم يحملون نية غير خالصة لله. وهي نيّة اساسها دافع الثأر. هذا الأمر هيّج العصبية القومية لدى الأمويين فأدى بهم الأمر الى ارتكاب تلك الفاجعة الأليمة التي لا تجد فيها رحمة ولا عطفاً ولا رأفة.

هذه الأسباب الاربعة المذكورة:هي اسباب ظاهرية. الاّ اننا اذا نظرنا الى الأمر من زاوية القدر الإلهي نجد أن سيدنا الحسين وذويه رضي الله عنهم قد احرزوا نتائج اخروية وسلطنة روحية ورقياً معنوياً، من جراء تلك الفاجعة الاليمة، بحيث تكون تلك الآلام والصعوبات التي لاقوها في تلك الحادثة الأليمة زهيدة ويسيرة تجاه تلك المنازل الرفيعة التي حظوا بها.فمثلاً:

ان الذي يستشهد نتيجة تعذيب يستغرق ساعة يغنم من المراتب العالية والدرجات السامية للشهادة مالا يمكن ان يحصل عليها من يسعى بجهد متواصل خلال عشر سنين. فلوسئل ذلك الشهيد بعد فوزه بدرجة الشهادة عن ذلك التعذيب لأجاب: لقد فزت كثيراً جداً بشئ يسير جداً.

o فحوى سؤالكم الرابع:

ان الاكثرية المطلقة من الناس يدخلون الدين الحق بعد قتل سيدنا عيسى عليه السلام الدجالَ في آخر الزمان، بينما وردت في روايات اخرى: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض: الله.. الله..))(1) فكيف يسقط الناس بهذه الكثرة في هاوية الكفر بعد أن دخلوا بكثرة مطلقة في حظيرة الايمان؟

الجواب: ان ضعاف الايمان يستبعدون ما جاء في الحديث الصحيح من نزول سيدنا عيسى عليه السلام وقتله الدجال وعمله بالشريعة الاسلامية ولكن لو وضحت حقيقة الرواية لا يبقى موضع للاستبعاد قط. وذلك.

ان المعنى الذي يفيده ذلك الحديث والروايات الواردة حول المهدي والسفياني(1) هو الآتي:

ان تيارين للالحاد سيشتدان ويتقويان في آخر الزمان:

الاول: ان شخصاً رهيباً يقال له ((السفياني)) سينكر الرسالة الأحمدية (نبوة محمد e ) متستراً بالنفاق، ويتولى قيادة المنافقين، ويسعى لتدمير الشريعة الاسلامية، وسيقابله شخص نوراني من آل البيت يسمى محمد المهدي يتولى قيادة اهل الولاية واهل الكمال المرتبطين بالسلالة النورانية لآل البيت، ويقتل تيار النفاق الذي يمثل شخص السفياني المعنوي ويدمّره تدميراً.

أما التيار الثاني: فهو التيار الطاغي المتمرد، المتولد من فلسفة الطبيعيين والماديين، هذا التيار ينتشر ويتقوى تدريجياً بوساطة الفلسفة المادية في آخر الزمان حتى يبلغ به الأمر الى انكار الإلوهية ويمنح افراد هذا التيار المنكرين لله سبحانه انفسَهم نوعاً من الربوبية كأنهم نماردة صغار، مثلما يمنح الجاهل بالسلطان غير المعترف بجنوده وضباطه نوعاً من السلطنة وشكلاً من الحاكمية الى كل جندي. اما الدجال وهو كبيرهم الذي يتولاهم فيؤتى من الخوارق ما يشبه اعمال السحر والتنويم المغناطيسي، ويتمادى كثيراً حتى يضفى على حكومته الجبارة ظاهراً نوعاً من الربوبية، ويعلن الوهيته. ولا ريب ان ادعاء انسان عاجز الالوهيةَ، والذي يقهره ذباب ويعجز حتى عن خلق جناحها، حماقة ما بعدها حماقة، تستحق منتهى الهزء والسخرية.

وهكذا ففي مثل هذه الفترة، وحينما يبدو ذلك التيار قوياً شديداً يظهر الدين الحق الذي اتى به عيسى عليه السلام، والذي هو الشخصية المعنوية لسيدنا عيسى عليه السلام، اي ينزل من سماء الرحمة الإلهية، فتتصفى النصرانية الحاضرة تجاه تلك الحقيقة وتتجرد من الخرافات والتحريفات وتتحد مع حقائق الاسلام، اي ان النصرانية ستنقلب معنى الى نوع من الاسلام، فذلك الشخص المعنوي للنصرانية يكون تابعاً، باقتدائه بالقرآن الكريم ويظل الاسلام في مقام الامام المتبوع، ويجد الدين الحق نتيجة هذا الالتحاق قوة عظمى، اذ في الوقت الذي كان الاسلام والنصرانية منفردين - كل على حدة - غير قادرين على صدّ تيار الإلحاد يكونان بفضل الاتحاد بينهما على استعداد لتدمير تيار الالحاد تدميراً كاملاً. ففي هذه الاثناء يتولى شخص عيسى عليه السلام الموجود بجسمه البشري في عالم السموات قيادة تيار ذلك الدين الحق. اخبر بهذا مخبر صادق استناداً الى وعد من لدن قدير على كل شئ، واذ هو قد أخبر، فالأمر حق لا ريب فيه. واذ وعد به القدير على كل شئ، فلاشك أنه سينجزه.

نعم ان الذي يرسل الملائكة تترى من السموات الى الارض ويجعلهم احياناً في صورة انسان (كما جعل سيدنا جبريل عليه السلام في صورة الصحابي دحية الكلبي) ويرسل الروحانيين من عالم الارواح، ويجعلهم يتمثلون في صور بشرية، بل يرسل حتى ارواح كثير من الاولياءالمتوفين في اجسادهم المثالية الى الدنيا..لا يستبعد من حكمة هذا الحكيم ذي الجلال ان يرسل عيسى عليه السلام الموجود حياً بجسده في سماء الدنيا الى الدنيا، بل حتى لو كان ذاهباً الى اقصى نواحي عالم الآخرة، وكان ميتاً حقاً فانه سبحانه قادر وتقتضي حكمته ان يلبسه جسداً من جديد، ويرسله الى الدنيا لأجل هذه النتيجة الجليلة العظيمة، وليكون مسك الختام والنهاية الجليلة للدين الذي اتى به عيسى عليه السلام. وقد وعد بهذا سبحانه وتعالى لإقتضاء حكمته الجليلة. واذ قد وعد فانه سيرسله حتماً. ولا يلزم ان يعرف كل أحدٍ انه عيسى عليه السلام بذاته اثناء نزوله الى الدنيا، وانما يعرفه خواصه والمقربون منه بنور الايمان، اذ لا يعرفه الناس كلهم بدرجة البداهة.

o سؤال:

لقد جاء في الروايات: ان للدجال جنة كاذبة يلقى فيها اتباعه، وله جهنم كاذبة يلقى فيها من لا يتبعه، حتى انه جعل احد اُذني دابته كالجنة والاخرى كجهنم(1)، وله جسم عظيم طوله كذا وكذا وغيرها من الاوصاف التي يعرف بها. فالسؤال: ما المراد من هذه الروايات؟.

الجواب: ان الشخص الظاهري للدجال هو كالانسان، فهو انسان دساس، شيطان احمق مغرور، تفرعن وطغى ونسى الله تعالى حتى اطلق على حاكميته الجبارة ظاهراً اسم الالوهية.

أما شخصه المعنوي الذي هو تيار الالحاد الطاغي فهو شخص جسيم جداً. وما ورد من روايات في اوصافه الدالة على الضخامة يشير الى ذلك الشخص المعنوي. كما صوّر في وقت ما القائد العام للقوات اليابانية تصوير انسان واضع احدى قدميه في البحر المحيط الهادي والاخرى في قلعة (بورت آرثر) التي تبعد عن الاولى مسافة عشرة ايام. فهذا التصوير لذلك القائد الصغير اظهر ومثّل الشخص المعنوي العظيم لجيشه.

اما الجنة الكاذبة للدجال، فهي ملاهي الحضارة وزخارفها الفاتنة.

أما دابته فهي واسطة نقل شبيهة بالقطار، في رأسه موقد النار يرمى فيها احياناً من لا يتبعه. والاذن الاخرى لتلك الدابة، اي رأسها الآخر مفروش بفرش وثيرة كالجنة اعدّها لجلوس اتباعه.

وحقاً ان القطار دابة مهمة للحضارة السفيهة الظالمة. اذ يأتي بجنة كاذبة لأهل السفاهة والدنيا، الاّ انه بيد المدنية الحاضرة يكون كزبانية جهنم يأتي بالهلاك والاسر والذل لأهل الدين والاسلام المساكين.

وعلى الرغم من نشر الدين الحقيقي الذي اتى به عيسى عليه السلام نورَه على الاكثرية المطلقة من الناس وذلك بظهوره وانقلابه الى الاسلام، الاّ انه عند قرب قيام الساعة يبرز تيار إلحاد مرة اخرى ويتغلب، فلا يبقى على وجه الارض - بالاكثرية العظمى - من يقول: الله.. الله.. اي لا تتولى جماعة مهمة لها شأنها موقعاً مهماً على الكرة الارضية..

ولا يعنى الحديث انه لا يبقى اهل الحق والداعين له على وجه الارض، بل سيبقى اهل الحق الذين يظلون في الأقلية ازاء الالحاد أو يُغلَبون على أمرهم، سيبقون الى يوم القيامة، الاّ أنه اثناء قيامها تُقبض ارواح اهل الايمان اولاً رحمة منه سبحانه بهم لئلا يروا اهوال القيامة، وتقوم القيامة على رؤوس الكفار.

o فحوى سؤالكم الخامس: هل تتأثر الارواح الباقية باهوال القيامة؟

الجواب: نعم تتأثر حسب درجاتها، كما تتأثر الملائكة تأثراً خاصاً بهم بالتجليات القهرية، اذ كما لو إطّلع من كان في مكان دافئ على اناس يرتجفون في الثلوج يتأثر ويتألم لحالهم لما يحمل من عقل ووجدان، كذلك الارواح الباقية التي لها شعور ذات علاقة مع الكون، تتأثر بالحوادث العظيمة التي تجري فيه. كلٌ حسب درجته، والاشارات القرآنية تبين تأثر الارواح بألم ان كانت من اهل العذاب، وإن كانت من اهل السعادة فانها تتأثر بالاستحسان والإعجاب، بل بنوع من الاستبشار. ولما كان القرآن الحكيم يذكر عجائب اهوال القيامة في اسلوب تهديد وزجر قائلاً : } لَتَرونّها{ بينما الذين سيرون تلك الاهوال بأجسامهم الانسانية هم الذين يبلغون قيام الساعة من الناس، اذن الارواح التي رُمّت اجسادها في القبور لها نصيبها من هذا التهديد القرآني ايضاً.

o فحوى سؤالكم السادس:

أتشمل هذه الآية الكريمة: } كلّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ (القصص:88) الآخرة والجنة وجهنم واهليها، ام لا؟

الجواب: لقد صارت هذه المسألة موضع بحث كثير جداً من العلماء المحققين واصحاب الكشف والاولياء الصالحين، فالقول قولهم في هذه المسألة فضلاً عن أن لهذه الآية الكريمة سعة عظيمة جداً مع تضمنها لمراتب كثيرة جداً. فقد قال القسم الاعظم من المحققين: لا تشمل هذه الآية عالم البقاء. في حين قال اخرون: ان تلك العوالم تتعرض ايضاً لنوع من الهلاك في زمن قصير جداً بحيث يعدّ آناً، وهو زمان قصير الى درجة لا يُشعر بذهابها الى الفناء والعودة منه.

أما ما يحكم به بعض اصحاب الكشف المفرطين في افكارهم من حدوث الفناء المطلق، فليس حقيقة ولا صواباً، لأن ذات الله سبحانه وتعالى دائمى وسرمدي، فلابد أن صفاته واسماءه ايضاً دائمية وسرمدية. ولما كانت صفاته واسماؤه دائمية فلابد أن أهل البقاء والباقيات الموجودة في عالم البقاء - التي هي مراياها وجلواتها ونقوشها ومظاهرها - لا تذهب بالضرورة الى الفناء المطلق قطعاً.

وحالياً وردت نقطتان من فيض القرآن الحكيم الى البال نكتبها اجمالاً:

اولاها: ان قدرة الله جل وعلا لا حدود لها، حتى أن الوجود والعدم بالنسبة الى قدرته وارادته تعالى كمنزلَين، يرسل اليهما الاشياء ويجلبها منهما بكل يسر وسهولة، فان شاء يجلبها في يوم واحد أو في آن واحد.



ثم ان العدم المطلق لا وجود له اصلاً لوجود العلم المحيط، علماً انه لا شئ خارج دائرة العلم الإلهي، كي يُلقى اليه شئ. والعدم الموجود ضمن دائرة العلم هو عدم خارجي، وعنوان صار ستاراً على الوجود العلمي، حتى حدا ببعض العلماء المحققين التعبير عن هذه الموجودات العلمية أنها ((اعيان ثابتة)). لذا فالذهاب الى الفناء، انما هو نزع الاشياء لألبستها الخارجية مؤقتاً، ودخولها في وجود معنوي وعلمي، اي أن الهالكات والفانيات تترك الوجود الخارجي وتلبس ماهياتها وجوداً معنوياً وتخرج من دائرة القدرة داخلة في دائرة العلم.

النقطة الثانية: لقد اوضحنا في كثير من ((الكلمات)): ان كل شئ فانٍ بمعناه الاسمي، وبالوجه الناظر الى ذاته، فليس له وجود مستقل ثابت بذاته، وليست له حقيقة قائمة بذاتها وحدها. ولكن الشئ في الوجه الناظر الى الله سبحانه - اي اذا صار بالمعنى الحرفي - فليس فانياً، لأن فيه جلوات ظاهرة لأسماء باقية فلا يكون معدوماً، لانه يحمل ظلاً لوجود سرمدي، وله حقيقة ثابتة وهي حقيقة سامية لأنها نالت نوعاً من ظل ثابت لإسم باقٍ.

ثم ان قوله تعالى } كلُّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ سيفٌ ليقطع يد الانسان عمّا سوى الله تعالى، حيث ان الآية تقطع العلائق مع الاشياء الفانية، في دنيا فانية، في غير سبيل الله. فحكم الآية الكريمة اذاً تنظر الى الفانيات في الدنيا، بمعنى أن الشئ ان كان في سبيل الله، اي ان كان بالمعنى الحرفي، اي ان كان لوجه الله، فلا يدخل ضمن ما سواه تعالى اي لا يضرب عنقه بسيف الآية الكريمة } كل شيء هالك الاّ وجهه{ .

حاصل الكلام: اذا كان الأمر لله، ووجد الله، فلا غير اذن، حتى يُقطع رأسه، ولكن ان لم يجد الله، ولم ينظر في سبيل الله فكل شئ غيرٌ. فعليه أن يسلّ سيف } كلّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ ويمزّق الحجاب حتى يجده سبحانه تعالى.



الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 02:00 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب السادس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

} الذين قالَ لَهُم الناسُ ان الناسَ قد جَمَعوا لكم فاخْشَوهُم فَزَادَهُم إيماناً وقالوا حَسْبُنا الله ونِعمَ الوَكيل{ (آل عمران: 173)



لقد نـال هذا المكـتوب سراً من اسرار الآيـة الكريمة: } فقولا له قولاً ليناً{ (طه:44) فلم يكتب بلهجة شديدة.

وهو جواب عن سؤال يورده الكثيرون صراحة أو ضمناً.

انني لا ارغب قط في ان اسجل هذه الإجابة، ولا ارتاح اليها. فلقد فوّضت أمري كله الى المولى القدير، وتوكلت عليه وحده، ولكني لا اُترك وشأني لأجد الراحة في عالمي، فيلفتون نظري الى الدنيا، لذا اقول مضطراً لا بلسان سعيد الجديد بل بلسان سعيد القديم، ولا اقول إنقاذاً لشخصي بالذات، بل انقاذاً لاصدقائي و ((الكلمات)) من شبهات ينثرها اهل الدنيا ومن أذاهم. فاذكر واقع حالي على حقيقته الى اصدقائي والى أهل الدنيا والى المسؤولين في الحكم، وذلك في خمس نقاط.



o النقطة الاولى:

قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب اليها قط؟.

الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها. فذهبت محاولته ادراج الرياح، اذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها. وان التدخل فيها فضول ـ بالنسبة اليّ - فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب. وهي ذات خطورة. وان اغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون ان يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما ان يكون موافقاً لسياسة الدولة او معارضاً لها، فان كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة اليّ فضول ولا يعنيني بشئ، حيث انني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى - عندئذٍ - لممارستي الامور السياسية وهم ليسوا بحاجة اليّ لأتدخل فيها. واذا دخلت ضمن المعارضة او السياسة المخالفة للدولة، فلابد ان اتدخل إما عن طريق الفكر او عن طريق القوة. فان كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة اليّ ايضاً، لان الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي الى الثرثرة. وان كان التدخل بالقوة، اي بأن اظهر المعارضة باحداث المشاكل لاجل الوصول الى هدف مشكوك فيه. فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والاوزار، حيث يبتلي الكثيرون بجريرة شخص واحد. فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام والقاء الابرياء فيها بناء على احتمال او احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة.

والشاهد الصادق القاطع على هذا: انني منذ ثماني سنوات لم اقرأ جريدة واحدة ولم استمع اليها من احد قط، فليبرز احدهم ويدّعى انني قد قرأت أو استمعت الى جريدة من احد. بينما كان سعيد القديم يقرأ حوالي ثماني جرائد يومياً قبل ثماني سنوات.

ثم انه منذ خمس سنوات تراقَب احوالي بدقائقها. فليدّع أحد انه قد بدر مني ما يشم منه شئ من السياسة. علماً ان شخصاً ذا اعصاب متوفزة مثلي، ولا علاقة له مع أحد، ويجد اعظم الحيل في ترك الحيلة حسب القاعدة ((انما الحيلة في ترك الحيل)) فمن كان حاله هكذا لا يمكن ان يستر فكره ثمانية ايام، وليست ثمانية اعوام. اذ لو كانت له رغبة ولهفة في السياسة لكانت تدوي دوي المدافع، ولا تدع حاجة الى تحريات أو تدقيقات.

o النقطة الثانية:

لِمَ يتجنب سعيد الجديد تجنباً شديداً والى هذا الحد من السياسة؟

الجواب: لئلا يضحى بسعيه وفوزه لاكثر من مليارات من السنين لحياة خالدة، من جراء تدخل فضولي لا يستغرق سنة أو سنتين من حياة دنيوية مشكوك فيها. ثم انه يفر فراراً شديداً من السياسة، خدمةً للقرآن والايمان والتي هي اجلّ خدمة وألزمها وأخلصها وأحقّها. لأنه يقول:

انني اتقدم في الشيب، ولا علم لي كم سأعيش بعد هذا العمر. لذا فالأولى لي العمل لحياة ابدية. وهذا هو الالزم. وحيث أن الايمان وسيلة الفوز بالحياة الابدية ومفتاح السعادة الخالدة، فينبغي اذاً السعي لأجله. بيد أني عالم ديني، مكلف شرعاً بافادة الناس، لذا اريد أن اخدمهم من هذه الناحية ايضاً. الاّ أن هذه الخدمة تعود بالنفع الى الحياة الاجتماعية والدنيوية، وهذه ما لا اقدر عليها، فضلاً عن انه يتعذر القيام بعمل سليم صحيح في زمن عاصف، لذا تخليت عن هذه الجهة وفضّلت عليها العمل في خدمة الايمان التي هي اهم خدمة والزمها وأسلمها. وقد تركت الباب مفتوحاً ليصل الى الآخرين ما كسبته لنفسي من حقائق الايمان وما جربته في نفسي من ادوية معنوية. لعلّ الله يقبل هذه الخدمة ويجعلها كفّارة لذنوب سابقة.

وليس لأحد سوى الشيطان الرجيم ان يعترض على هذه الخدمة، سواءً كان مؤمناً أو كافراً او صدّيقاً او زنديقاً. لأن عدم الايمان لا يشبهه أمر، فلربما توجد لذة شيطانية منحوسة في ارتكاب الظلم والفسق والكبائر الاّ ان عدم الايمان لا لذة فيه اطلاقاً، بل هو ألم في الم، وعذاب في عذاب، وظلمات بعضها فوق بعض.

وهكذا فان ترك السعي لحياة ابدية، وترك العمل لنور الايمان المقدس، والدخول في ألاعيب السياسة الخطرة وغير الضرورية، في زمن الشيخوخة انما هو خلاف للعقل ومجانبة للحكمة لشخص مثلي لا صلة له مع أحد، ويعيش منفرداً، ومضطر الى التحري عن كفارات لذنوبه السابقة. بل يعدّ ذلك جنوناً وبلاهة، بل حتى البلهاء يفهمون ذلك.

o أما ان قلت: كيف تمنعك خدمة القرآن والايمان عن السياسة؟

فأقول: ان الحقائق الايمانية والقرآنية ثمينة غالية كغلاء جواهر الالماس، فلو انشغلت بالسياسة، لخطر بفكر العوام: أيريد هذا ان يجعلنا منحازين الى جهة سياسية؟ أليس الذي يدعو اليه دعاية سياسية لجلب الاتباع؟ بمعنى انهم ينظرون الى تلك الجواهر النفيسة انها قطع زجاجية تافهة، وحينها أكون قد ظلمت تلك الحقائق النفيسة، وبخست قيمتها الثمينة، بتدخلي في السياسة.

فيا أهل الدنيا! لِمَ لا تدعوني وشأني، وتضايقونني بطرق شتى؟

o وان قلتم:

يتدخل شيوخ الصوفية احياناً في امورنا، والناس يطلقون عليك في بعض الاحيان اسم الشيخ!

اقول: ايها السادة! انني لست شيخاً صوفياً، وانما انا عالم ديني. والدليل على هذا، انني لو كنت قد علّمت احداً من الناس الطريقة الصوفية، طوال هذه السنوات الاربع التي قضيتها هنا، لكان لكم الحق في الارتياب والوقوع في الشكوك. ولكني لم اقل لمن اتاني الاّ أن الزمان ليس زمان الطريقة. الايمان ضروري، والاسلام ضروري.

o وان قلتم:

يطلقون عليك اسم ((سعيد الكردي)) فلربما تحمل فكر العنصرية والدعوة اليها. وهذا ما لا يتفق وشأننا ولا طائل لنا به.

وانا اقول: ايها السادة! ان ما كتبه سعيد القديم وسعيد الجديد في متناول اليد. ابيّنه شاهداً ولقد نظرت - منذ السابق - الى القومية السلبية والدعوة الى العنصرية نظرة السم القاتل، لأنها مرض اوروبي خبيث سار. وذلك حسب الأمر النبوي الجازم بان الاسلام يجب العصبية الجاهلية. ولقد ألقت اوروبا بذلك المرض الوبيل بين المسلمين ليمزقهم ويفرّقهم شذر مذر ليسهل عليها ابتلاعهم قطعاً متناثرة. ولقد بذلت ما وسعني الجهد لعلاج هذا الداء الخبيث، ويشهد طلابي ومن له علاقة معي بذلك.

ولما كان الأمر هكذا، فيا ايها السادة! ما الداعي وراء التشبث بكل حادثة لإيذائي والتضييق عليّ؟ والذي هو من قبيل ادانة جندي في الغرب لخطأ ارتكبه جندي في الشرق - لكونهما جنديين - أو اخذ حانوتي في بغداد - لأنه حانوتي - بجريرة حانوتي في استانبول! فهذا هو شانكم في كل حادثة دنيوية تتخذونها وسيلة للتضييق عليّ. ايّ وجدان يحكم بهذا؟ واية مصلحة تقتضيه؟

o النقطة الثالثة:

ان اصدقائي واحبابي الذين يلاحظون راحتي واحوالي، يستغربون من ايثاري الصمت وتجملي بالصبر تجاه كل مصيبة تنزل بي، فيتساءلون: كيف تتحمل الضيق والمشاق التي تنزل بك؟ فلقد كنتَ من قبل شديد الغضب، لا ترضى ان يمسّ أحد عزتك. وكنتَ لا تتحمل ادنى اهانة؟

الجواب: استمعوا الى هاتين الحادثتين والحكايتين. وخذوا الجواب منهما!

الحكاية الاولى:

قبل سنتين ذكر مدير مسؤول في غيابي كلمات ملفقة فيها اهانة وتحقير لي، دون سبب ومبرر. ونُقل الكلام اليّ، تألمت ما يقرب من ساعة باحاسيس سعيد القديم. ثم وردت برحمته سبحانه وتعالى الى القلب حقيقة أزالت ذلك الضيق، ودفعتني لأصفح عن ذلك الشخص. والحقيقة هي:

قلت لنفسي: ان كان تحقيره وما أورده من نقائص تخص شخصي ونفسي بالذات، فليرض الله عنه اذ اطلعني على عيوب نفسي. فان كان صادقاً، فسوف يسوقني اعتراضه الى تربية نفسي الامارة وتأديبها، فهو اذاً يعاونني في النجاة من الغرور. وان كان كاذباً، فهو عون لي ايضاً للخلاص من الرياء، ومن الشهرة الكاذبة التي هي اساس الرياء.نعم! انني لم اصالح نفسي قط؛ لانني لم اربّها. فان نبهني أحدٌ على وجود عقرب في أي جزء من جسمي، عليّ ان ارضى عنه، لا امتعض منه.

اما ان كانت اهاناته تعود لصفة كوني خادماً للايمان والقرآن، فتلك لا تعود لي، فاحيل ذلك الشخص الى صاحب القرآن الذي استخدمني في هذه المهمة، فهو عزيز حكيم.

وان كان كلامه لأجل تحقيري واهانة شخصي بالذات والحط من شأني، فهذا ايضاً لا يخصني، لأنني أسير مكبل وغريب في هذا البلد، فالدفاع عن كرامتي ليس لي فيه نصيب، بل يخص من يحكم هذه القرية ثم القضاء ثم المحافظة التي انا ضيف لديهم. اذ إن اهانة اسير تعود الى مالكه، فهو الذي يدافع عنه.

فاطمأن القلب بهذه الحقيقة، وتلوتُ: } واُفوّضُ أمري الى الله إنّ الله بَصيرٌ بالعباد{ (غافر: 44) واهملت الحادثة واعتبرتها لم تقع ، ونسيتها. ولكن تبين بعدئذٍ - مع الأسف - ان القرآن لم يتجاوز عنه، فعاقبه.

الحكاية الثانية:

طرق سمعي في هذه السنة ان حادثة وقعت، وقد سمعتها بعد وقوعها اجمالاً فحسب، لكني لقيت معاملة كأنني ذو علاقة قوية بالحادثة. علماً انني ما كنت اراسل احداً، وما كنت اكتب رسالة الاّ نادراً الى صديق وحول مسألة ايمانية، بل لم اكتب حتى لشقيقي الاّ رسالة واحدة خلال اربع سنوات. فكنت أمنع نفسي عن مخالطة الناس والاتصال بهم، فضلاً عن ان اهل الدنيا كانوا يمنعونني عن ذلك. فما كنت ألقى الاّ واحداً أو اثنين من الأحباب خلال اسبوع، مرة أو مرتين. أما الضيوف القادمون الى القرية، وهم آحاد لا يزيدون عن واحد او اثنين فكانوا يلقونني دقيقة او دقيقتين، خلال شهر، ولمسألة اخروية.. كنت على هذه الحالة من الاغتراب، وقد مُنعت عن كل الناس، عن كل شئ، وبقيت وحيداً غريباً، لا قريب لي، في قرية ليس فيها ما يلائم مكسب نفقتي. حتى انني قبل اربع سنوات، عمّرت مسجداً خرباً وقمت فيه بالامامة لاربع سنوات (نسأل الله القبول) حيث أحمل شهادة الامامة والوعظ، من بلدي. ومع هذا لم استطع الذهاب الى المسجد في شهر رمضان الفائت. فصليت احياناً منفرداً وحُرمت من ثواب الجماعة البالغ خمساً وعشرين ضعفاً.

فتجاه هاتين الحادثتين اللتين مرتا بي اظهرتُ صبراً وتحملاً مثلما اظهرتُه قبل سنتين ازاء معاملة ذلك المسؤول. وسأستمر على هذا الصبر والتحمل باذن الله.

والذي يدور في خلدي واريد أن اقوله هو:

ان العنت الذي يذيقني اياه اهل الدنيا. والاذى والتضييق عليّ منهم، ان كان تجاه نفسي القاصرة الملطخة بالعيوب فاني اعفو عنهم، لعلّ نفسي تصلح من شأنها بهذا التعذيب فيكون كفارة لذنوبها. فلئن قاسيت من اذى في هذه الدنيا المضيفة، فانا شاكر ربي، اذ قد رأيت بهجتها ومتعتها.

ولكن ان كان اهل الدنيا يذيقونني العذاب لقيامي بخدمة الايمان والقرآن، فالدفاع عن هذا ليس من شأني وانما احيله الى العزيز الجبار.

وان كان المراد من ذلك التضييق افساد توجّه الناس اليّ والحيلولة دون اقبالهم عليّ، اي للحد من الشهرة الكاذبة التي لا اساس لها، بل هي السبب في الرياء

وافساد الاخلاص.. فعليهم اذاً رحمة الله وبركاته؛ لأني اعتقد ان كسب الشهرة واقبال الناس ضار لأشخاص مثلي. والذين لهم علاقة معي يعرفونني جيداً: انني لا اقبل الاحترام لنفسي، بل انفر منه، حتى ان صديقاً فاضلاً عزيزاً عليّ قد نهرته اكثر من خمسين مرة لشدة احترامه لي.

ولكن ان كان قصدهم من التهوين من شأني واسقاطي في اعين الناس يخص الحقائق الايمانية والقرآنية التي اقوم بتبليغها، فعبثاً يحاولون لأن نجوم القرآن لا تسدل بشئ. فمن يغمض عينه يجعل نهاره ليلاً لا نهار غيره.

o النقطة الرابعة: جواب عن بضعة اسئلة مريبة.

السؤال الأول المريب: يسأل أهل الدنيا ويقولون لي: بماذا تعيش؟ وكيف تدار معيشتك دون عمل؟ نحن لا نقبل في بلادنا المتقاعدين الكسالى الذين يقتاتون على سعي الآخرين وعملهم؟

الجواب: انني أعيش بالاقتصاد والبركة. لا أقبل من غير رزاقي الله منّة من أحد، وقررت أن لا أقبلها طوال حياتي.

نعم، ان الذي يعيش بمائة ثارة(1) بل بأربعين بارة يأبى ان يدخل تحت منة الآخرين.

انني ما كنت أرغب مطلقاً أن اوضح هذه المسألة خشية الإشعار بالغرور والأنانية، واكره أن ابوح بها فهي ثقيلة علي، ولكن لأن أهل الدنيا تدور الاوهام والشبهات في نفوسهم لدى سؤالهم هذا، فأقول:

- ان دستور حياتي كلها هو عدم قبول شئ من الآخرين، فمنذ نعومة اظفاري لم أقبل شيئاً من أحد حتى لو كان زكاة أموالهم.

ثم ان رفضي للمرتّب الحكومي - الا ما عينته الدولة لي لسنتين حينما كنت في دار الحكمة الاسلامية وبعد الحاح اصدقائي واصرارهم اضطررت الى قبوله - وان عدم قبولي لمنّة الآخرين في دفع ضرورات المعيشة الحياتية.. كل ذلك يبين دستور حياتي. فالناس في مدينتي وكل من يعرفني في المدن الاخرى يعرفون هذا مني جيداً. ولقد حاول أصدقاء كثيرون بمحاولات شتى ان أقبل هداياهم في غضون هذه السنوات الخمس التي مرت بالنفي، الا انني رفضت.

o فاذا قيل: فكيف اذن تعيش؟

أقول: أعيش بالبركة والاكرام الإلهي. فان نفسي الامارة مع انها تستحق كل اهانة وتحقير، الا انني - في الإرزاق - احظى بالبركة التي هي إكرام إلهي يمنح كرامة من كرامات خدمة القرآن.

سأورد نماذج منها، وذلك قياماً باداء الشكر المعنوي تجاه تلك النعم التي اكرمني الله بها وعملا بالآية الكريمة } وأما بنعمة ربك فحدّث{ (الضحى:11) ولكني رغم هذا أخشى ان يداخل هذا الشكر المعنوي شئ من الرياء والغرور فتمحق تلك البركة الربانية الطيبة، اذ ان اظهار البركة المخفية بافتخار مدعاة لانقطاعها. ولكن ما حيلتي فاني اضطررت الى ذكر تلك البركة اضطراراً.

فالاول: لقد كفاني في هذه الشهور الستة الماضية ستة وثلاثون رغيفاً قد خبز من كيلة(1) من الحنطة، ولا زال الخبز باقيا، ولا أعرف متى ينفد(2).

ثانيها: في هذا الشهر المبارك شهر رمضان لم يأتني طعام الا من بيتين اثنين، وقد أمرضاني كلاهما. ففهمت من هذا انه ممنوع عليّ طعام الآخرين!. ولقد كفتني أوقية واحدة(3) من الرز وثلاثة ارغفة من الخبز بقية أيام شهر رمضان. فالصديق الصادق ((عبد الله ضاويش))(4) صاحب البيت المبارك الذي يهئ لي الطعام يشهد بهذا ويخبر به، بل ان الرز قد استمر خمسة عشر يوماً آخر بعد شهر رمضان.

ثالثها: لقد كفتنا أنا وضيوفي الكرام أوقية واحدة من الزبد رغم تناوله يومياً مع الخبز طوال ثلاثة أشهر في الجبل. حتى كان لي ضيف مبارك وهو ((سليمان)) وقد أوشك خبزنا على النفاد، وكنا في يوم الاربعاء، فقلت له: اذهب الى القرية وآت بالخبز، اذ ليس حوالينا أحد حتى مسافة ساعتين لنبتاع منه. فقال: اني أرغب ان أبيت معك ليلة الجمعة المباركة على قمة هذا الجبل، لأتضرع معك الى الله.

فقلت: توكلنا على الله. اذن ابق معي.

ثم بدأنا بالسير معاً حتى صعدنا قمة جبل رغم انه لا داعي ولا مناسبة لذلك. وكان لدينا قليل من الماء مع شئ من الشاي والسكر.

قلت:يا أخي أعمل لنا قليلاً من الشاي. وبدأ بالعمل.

وجلست أنا تحت شجرة قطران أتأمل في مشاهدة واد عميق، وافكر بأسف وأسى: ليس لدينا الا كسرة من خبز متعفن ربما يكفينا كلينا هذا المساء. ولكن كيف باليومين التاليين. فماذا أقول لهذا الرجل الطيب النقي السريرة!

وبينما انا غارق في هذا اذا برأسي كأنه يدار الى الشجرة فالتفت واذا بي أرى رغيفاً كبيراً فوق شجرة القطران ينظر الينا بين اغصانها، قلت: أبشر يا سليمان فقد انعم الله سبحانه علينا برزق. فأخذنا الخبز من الشجرة وفتشنا عن أثر من آثار الحيوانات والطيور عليه. واذا به سالم من اي تعرض كان من الحيوانات. فضلاً عن انه لم يصعد هذا الجبل منذ ثلاثين يوماً أحد من الناس. فكفانا ذلك الرغيف يومين. وما أن أوشك على النفاد اذا بالرجل الصادق ((سليمان))(1) الذي كان صديقاً صادقاً طوال أربع سنوات يصعد الجبل متوجهاً نحونا آتياً لنا بالخبز.

رابعها: ان هذه السترة (الجاكيت) قد اشتريتها مستعملة قبل سبع سنوات. وكفت أربع ليرات ونصف الليرة: لمصاريف خمس سنوات مضت للملابس والحذاء والجوارب، فلقد كفتني البركة والاقتصاد والرحمة الإلهية.

وهناك أمثلة كثيرة شبيهة بهذا، اذ ان للبركة الإلهية جهات شتى. وان اهالي هذه القرية يعرفون كثيراً من أمثلة البركة. ولكن حذار حذار أن يذهب بكم الظن انني اذكر هذه الامثلة افتخاراً، وانما اضطررت الى ذكرها اضطراراً. ولا يردنّ في خاطركم انها امثلة تدل على صلاحي، وانما هذه البركات هي احسان إلهي الى أصدقائي الضيوف المخلصين القادمين الي. أو انها اكرام إلهي لخدمة القرآن الكريم، أو انها منافع مباركة للالتزام بالاقتصاد، أو انها رزق للقطط الأربع التي تلازمني هنا وهي التي تذكر في هريرها: يا رحيم يا رحيم يا رحيم.. فهي أرزاقها تأتيها على صورة بركة، وانا بدوري استفيد منها.

نعم! اذا أنصتّ الى هريرها الحزين تدرك جيداً انها تذكر: يا رحيم يا رحيم يا رحيم.

وعلى ذكر القطط يرد بالبال ذكر الدجاج.

كانت لي دجاجة تجلب لي من خزينة الرحمة الإلهية بيضة واحدة يومياً في هذا الشتاء بانقطاع قليل جداً. وذات يوم وضعت بيضتين معاً، فاحترت منها، واستفسرت عن احبابي:

هل يحدث مثل هذا في هذا الشتاء؟ قالوا: ربما هي احسان إلهي.

كان لهذه الدجاجة فرخ في الصيف. بدأ الفرخ بوضع البيض بداية شهر رمضان المبارك، واستمر الوضع طوال أربعين يوماً. فلم تبق لدي شبهة ولا لدى اخوتي الذين يقومون بخدمتي من أن هذا الوضع المبارك للبيض في هذا الشتاء ومن فرخ صغير، في شهر رمضان، انما هو إكرام إلهي ليس الاّ. ثم ان الفرخ بدأ بالوضع حالما قطعته الأم. فلم يدعني دون بيضة والحمد لله.

السؤال الثاني المريب: يقول اهل الدنيا: كيف نثق بك ونطمئن اليك بانك لا تتدخل في امور دنيانا؟ فلربما لو أطلقنا سراحك تتدخل في امورها؟ ثم كيف نعرف انك لا تخدعنا ولا تكيد بنا، اذ تظهر نفسك بمظهر التارك للدنيا الذي لا يأخذ اموال الناس ظاهراً، وربما يأخذها خفية، فكيف نعرف ان ذلك ليس مكراً؟

الجواب: ان احوالي قبل عشرين سنة في المحكمة العسكرية العرفية، واطواري قبل اعلان الدستور(1) ، وفي الدفاع الذي صدر في كتاب ((شهادة مدرستي المصيبة)) معروفة لدى الذين يعرفونني.. كل ذلك يبين بياناً شافياً: انني قد أمضيت حياتي لم اتنازل الى شئ من الخديعة بل حتى الى أدنى حيلة، فلو كانت ثمة حيل لحصلت المراجعة واللجوء اليكم مع تزلّف وتملق خلال هذه السنوات الخمس. اذ المحتال يحاول ان يحبب نفسه الى الناس دوماً بل يسعى الى اغفالهم وخداعهم، وليس من شأنه تجنبهم والابتعاد عنهم. والحال انني لم اتنازل الى التذلل للآخرين على الرغم من جميع الهجمات النازلة بي والانتقادات الموجهة اليّ، بل اعرضت عن اهل الدنيا متوكلاً على المولى القدير وحده. ثم ان الذي عرف حقيقة الآخرة وكشف عن حقيقية الدنيا لا يندم ابداً، ان كان ذا لب. ولا يتشبث بالعودة الى الدنيا مرة اخرى. ثم ان من كان وحيداً فريداً لا علاقة له مع أحد، لا يضحى بحياته الابدية لثرثرة دنيوية وتهريجاتها بعد قضاء خمسين سنة من العمر. بل لو ضحى بها، لا يكون حيالاً بل مجنوناً، وماذا عسى ان يفعل المجنونُ حتى يُهتم به؟

اما الشبهة الواردة حول كوني طالباً للدنيا باطناً وعازفاً عنها ظاهراً. فاقول:

بمضمون الآية الكريمة: } وَمَآ اُبَرِّئُ نَفْسي اِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ{ (يوسف:53)

انني ما ابرئ نفسي ابداً، انها تروم كل فساد. ولكن خسران حياة دائمة وسعادة خالدة لأجل لذة قليلة، في هذه الدنيا الفانية، في هذا المضيف المؤقت، في زمن الشيخوخة، في عمر قصير.. ليس من شأن العقلاء ولا يليق بذوي الشعور؛ لذا انقادت نفسي الأمارة - شاءت أم أبت - للعقل ورضخت له.

السؤال الثالث المريب: يقول اهل الدنيا: أتحبنا؟ أترضى عنا وتعجب بنا؟ فان كنت تحبنا فلماذا اذن اعرضت عنا ولا تخالطنا، وان لم تكن تعجب ولا ترضى عنا فانت اذن تعارضنا، ونحن نسحق معارضينا!

الجواب: انني لو كنت محباً لدنياكم، فضلاً عنكم لما انسحبت منها وأعرضت عنها. فانا لا اعجب بكم ولا بدنياكم، ولكن لا اتدخل ايضاً بها ولا اخالطكم. لانني اصبو الى قصد غير قصدكم، فقد ملأت قلبي امور لم تُبق موضعاً لغيرها كي افكر فيها. وانتم مأمورون بالحكم على ظاهر الحال لا على باطن القلب. لانكم تريدون ادامة النظام وارساء الحكم، وحيث اني لا اتدخل بهما، فليس لكم ان تقولوا: ليحبنا القلب كذلك، فأنتم لستم اهلاً لذلك الحب أصلاً.

وان تدخلتم في أمر القلب، أقول:

كما انني اتمنى مجئ الربيع وسط هذا الشتاء، ولكني لا استطيع اتيانه، كذلك أتمنى صلاح احوال العالم وادعو لذلك، وأسأل الله أن يصلح اهل الدنيا، ولكن ذلك فوق ارادتي ووسعي فلا استطيع عليه. لذا لا أتدخل فعلاً، فهي ليست من وظيفتي ولا ضمن اقتداري وطاقتي.

السؤال الرابع المريب: يقول اهل الدنيا: لقينا بلايا ونزلت بنا مصائب، فلم نعد نثق بأحد من الناس، فكيف نثق بك؟ ولو سنحت لك الفرصة ألا تتدخل في امورنا بالشكل الذي يروق لك؟

الجواب: ان النقاط المذكورة سابقاً رغم انها كافية لإقناعكم وبث الاطمئنان في نفوسكم الاّ انني اقول:

في الوقت الذي لم اتدخل في دنياكم وانا في مدينتي وحولي طلابي واقربائي، واعيش في وسط من يصغي اليّ ويستشيرني، بل لم اتدخل في دنياكم حتى في خضم تلك الحوادث المثيرة، أفيمكن ان يتدخل فيها من هو في دار الغربة، وهو وحيد منفرد وضعيف عاجز، متوجه بكل وسعه للآخرة، منقطع عن الاختلاط والمراسلات، ولم يجد الاّ بضع اصدقاء في طريق الآخرة، وهو الغريب عن الناس، كما ان الناس اصبحوا غرباء عنه، بل ينظر اليهم هكذا.. هذا الانسان اذا تدخل في دنياكم العقيمة والخطرة ينبغي له أن يكون مجنوناً مضاعفاً.

o النقطة الخامسة: تخص خمس مسائل صغيرة:

اولاها: يقول لي اهل الدنيا: لِمَ لا تطبّق على نفسك اصول مدنيتنا وآدابها، ولا تعيش على وفق طراز حياتنا، ولا تلبس هيئة ملابسنا؟ بمعنى انك معارض لنا؟.

وأنا أقول: ايها السادة! بأي حق تكلفونني ان اطبق آداب مدنيتكم؟ فانتم قد اجبرتموني على الاقامة ظلماً في قرية طوال خمس سنوات، ومنعتموني حتى عن المراسلات والاختلاط مع الناس، وكأنكم قد أسقطتموني من الحقوق المدنية، فضلاً عن انكم جردتموني - بغير سبب - من كل شئ، ولم تسمحوا لي أن اقابل اهل مدينتي - سوى واحد أو اثنين - علماً انكم قد اطلقتم سراح جميع المنفيين، وسمحتم لهم بالاقامة بين اهليهم وذويهم في المدن ومنحتموهم شهادات ترخيص بذلك.. فهذه المعاملات تعني انكم لا تعدونني من افراد الامة ولا من رعايا هذا الوطن، فكيف اذن تكلفونني تطبيق قوانين مدنيتكم؟

وانتم قد ضيقتم عليّ الدنيا على سعتها وجعلتموها لي سجناً، أفيكلف من هو في السجن بمثل هذه الامور؟.

وانتم قد اقفلتم عليّ باب الدنيا، وانا بدوري طرقت باب الآخرة، ففتحته الرحمة الإلهية، فكيف يطالَب من هو واقف في باب الاخرة أن يطبق عادات اهل الدنيا وادابها المشوشة؟

فمتى ما اطلقتموني حراً، واعدتموني الى مدينتي وموطني، واعطيتموني حقوقي كاملة، فلكم عندها أن تطالبوا بتطبيق ادابكم!

المسألة الثانية: يقول أهل الدنيا: لدينا مؤسسة حكومية، تقوم بتعليم أحكام الدين وحقائق الاسلام، فبأي صلاحية تقوم انت بنشر رسائل دينية؟ فلا يحق لك مزاولة مثل هذه الامور وانت محكوم بالنفي.

الجواب: ان الحق والحقيقة لا تقيّدان بشئ ولا تنحصران (في مكان وزمان معينين) فكيف ينحصر الايمان ويتقيد القرآن في مؤسسة رسمية؟ فانتم تستطيعون ان تحصروا تطبيق قوانينكم وادابكم (في مؤسساتكم) أما الحقائق الايمانية والاسس القرآنية فلا تُقحمان في المعاملات الدنيوية، ولا تحصران في مؤسسة رسمية يؤدى فيها العمل بأجرة. بل ان تلك الاسرار والفيوضات التي هي موهبة إلهية، لا تتأتى الا بوساطة النية الخالصة والتجرد من الدنيا والعزوف عن حظوظ النفس.

هذا فضلاً عن ان دائرتكم الرسمية قد قبلتني واعظاً وانا في مدينتي، وعينتني في تلك الوظيفة، وقد قمت بتلك الوظيفة، وظيفة الوعظ. الاّ انني تركت مرتّبها، محتفظاً لدي بشهادتها. اي أنا استطيع أن اؤدي بتلك الشهادة مهمة الوعظ والامامة في اي مكان كان، لان نفيي ظلم واضح.

ثم ان المنفيين قد اعيدوا الى اهليهم، فشهادتي السابقة اذن سارىة المفعول.

ثانياً: ان الحقائق الايمانية التي كتبتها، خاطبت بها نفسي مباشرة، ولا ادعو اليها الناس جميعاً،بل الذين ارواحهم محتاجة وقلوبهم مجروحة يتحرون عن تلك الادوية القرآنية، فيجدونها. يستثني من هذا تكليفي أحد الافاضل بطبع رسالتي التي تخص الحشر، قبل تنفيذ الحروف الحديثة، وذلك لكسب قوتي وتأمين معيشتي، ولكن الوالي السابق الظالم تجاهي دقق تلك الرسالة، وعندما لم يجد ما ينتقده لم يتعرض لها.

المسألة الثالثة: ان بعض اصدقائي يتبرأون مني ظاهراً، بل ينتقدونني، ليحببوا أنفسهم الى اهل الدنيا المرتابين مني؛ بينما اهل الدنيا وهم الدساسون قد حملوا تبرئة هؤلاء واجتنابهم مني محمل الرياء وانعدام الوجدان بدلاً من ان يحملوها محمل الحب والاخلاص لهم. لذا بدأوا ينظرون اليهم نظر الريب.

وانا اقول يا رفقائي في الآخرة!

لا تهربوا من خدمتي للقرآن العظيم؛ لأنه لا يلحقكم ضررٌ مني باذن الله.حتى لو وقع عليَّ الظلم، وأتت المصيبة، فلا يمكنكم أن تنجوا منها بالتبرئة مني، بل تستأهلون اكثر لأن تنزل بكم مصيبة أو تداهمكم لطمة تأديب.. ثم ماذا حدث حتى تنتابكم الريوب والاوهام؟.

المسألة الرابعة: في ايام منفاي هذه.. أرى أناساً ممن سقطوا في حمأة السياسة وابتلوا بالاعجاب بالنفس، ينظرون اليّ نظرة تتسم بالمنافسة والانحياز الى جهة. وكأنني مثلهم ذو علاقة مع تيارات دنيوية.

فيا أيها السادة! اعلموا انني في صف الايمان وفي تياره وحده، ويواجهني تيار الالحاد. ولا علاقة لي اصلاً بأي تيار آخر.

فالذي يتخذ وضع المنافس والمخالف لي، ويتعرض لي ويسبب ايلامي، ان كان ممن يعمل لقاء اجرة، ربما يجد شيئاً من العذر في تصرفاته هذه. ولكن الذي لا يعمل لقاء اجرة، وانما يقوم بمثل هذه المعاملات باسم الغيرة والحمية، فليعلم انه يرتكب خطأ ايّما خطأ، لأنه - كما اثبتناه سابقاً - لا علاقة لي قطعاً بالسياسة الجارية في الدنيا، فلقد نذرت حياتي وحصرت وقتي كله لنشر حقائق الايمان والقرآن، لذا فليفكر جيداً من يتعرض لي ويتخذ موقف المنافس، انه في حكم المتعرض للايمان في سبيل الزندقة والالحاد.

المسألة الخامسة: لما كانت الدنيا فانيةً.. والعمر قصيراً.. والواجبات كثيرة.. وان الحياة الأبدية تُكسب هنا، في الدنيا.. وهي ليست بلا مولى.. فللمضيف ربٌ كريم حكيم.. لا يضيّع جزاء السيئة ولا الحسنة.. ولا يكلّف نفساً الاّ وسعها.. وحيث ان السبيل السوي وما فيه اذى لا يستويان.. ولا يجاوز باب القبر اخلاء الدنيا وجاهها..

فلابد ان اسعد انسان هو مَن: لا ينسى الآخرة لأجل الدنيا.. ولا يضحي بآخرته للدنيا.. ولا يفسد حياته الابدية لاجل حياة دنيوية.. ولا يهدر عمره بما لا يعنيه.. ينقاد للأوامر انقياد الضيف للمضيّف. ليفتح باب القبر بأمان.. ويدخل دار السعادة بسلام(1).





ذيـل

المكتوب السادس عشر



باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

ان اصحاب الدنيا المتكالبين على متاعها الزائف قد توهموا عبثاً ان رجلاً عاجزاً غريباً في هذه الدنيا مثلي له من القوة ما لآلاف الرجال. وقد دفعهم هذا الوهم الى وضعي تحت قيود صارمة مشددة؛ فلم يسمحوا لي مثلاً بالاقامة ليلة او ليلتين في ((بدرة)) وهي كحي من أحياء ((بارلا)) او حتى على جبل من الجبال القريبة منها. وقد سمعتهم يقولون: ((ان لسعيد من القوة ما لخمسين ألف رجل لذا فلا يمكننا إطلاق سراحه))!

وأنا أقول: يا طلاب الدنيا التعساء! مع انكم تعملون للدنيا بكل ما أوتيتم من قوة وجهد فلِمَ لا تعلمون شؤونها ايضاً فتحكمون كالمجانين. فاذا كان خوفَكم من شخصي الفاني، فهوخوف زائف، لا مبرر له اطلاقاً، اذ يستطيع اي انسان - وليس خمسين ألفاً - ان يعمل ضعف عملي خمسين مرة. يستطيع في الأقل ان يقف على باب غرفتي ويقول: ((لن تخرج)).. فينتهي الأمر. أما اذا كان خوفكم من مهنتي التي هي الدعوة الى القرآن، ومن قوة الايمان التي اتسلح بها. ألا فلتعلموا جيداً بأنني لست في قوة خمسين ألف رجل.. كلا.. انكم مخطؤون. انني بفضل الايمان وبحكم مهنتي في قوة خمسين مليون شخص! انني بقوة القرآن الكريم اتحدى اوروبا كلها بما في ذلك ملاحدتكم.. لقد اقتحمت قلاعهم الحصينة التي يسمونها ((العلوم الطبيعية او الحديثة)).. وذلك بفضل ما نشرت من الحقائق الايمانية والبراهين القرآنية الدامغة التي أنزلتُ بها اكبر فلاسفتهم الى رتبة هي أدنى مائة مرة من رتبة الانعام! ولو اجتمعت اوروبا باسرها بما في ذلك ملاحدتكم، فلن تستطيع ان تحول دون مسألة واحدة من مسائل مهنتي ولا ان تغلبني باذن الله وتوفيقه.

ومجمل الكلام: فكما لا أتدخل في شؤون دنياكم لا يحق لكم ان تتدخلوا في شؤون أُخراي كذلك.. ولا تحاولوا.. اما اذا ركبتم راسكم وحاولتم التدخل، الا فلتعلموا يقيناً بانكم لن تجنوا من وراء ذلك شيئاً، وسيكون سعيكم عبثاً.

قوةُ العضد لا ترد تقدير الله

وشمعة اوقدها المولى لا تطفئها الأفواه

ان اهل الدنيا تدور شكوكهم واوهامهم حولي بوجه خاص وكأنهم يتوجسون مني خيفة، اذ يتخيلون وجود امور لا املكها - بل لو وجدت فلا تكون موضع ريوب سياسية واتهامات - كالمشيخة، والرئاسة، والحسب والنسب، والنفوذ في العشيرة، وكثرة الاتباع، واللقاء مع المواطنين، والتعلق بامور الدنيا، بل حتى يتصورون وجود الدخول في امور السياسة بل حتى المعارضة للدولة.. وامثالها من الامور التي ليست موجودة عندي، فيقعون في شكوك وأوهام من جراء تخيلاتهم. حتى انهم حرموني من كل شئ عندما تذاكروا امور العفو، لمن في السجن أو في خارجه، اي مَن لايشملهم العفو في نظرهم.

هناك كلام جميل خالد قاله رجل فاسد فانٍ:

ان كان للظلم مدفع وبندقية وقلعة

فللحق ساعد لا ينثني ووجه لا يتراجع.

وانا اقول:

ان كان لأهل الدنيا حكم وسطوة وقوة..

ففي خادمه بفيض القرآن:

علم لا يلتبس، وكلام لا يسكت، وقلب لا ينخدع، ونور لا ينطفئ.

لقد سألني الآمر العسكري المسؤول عن مراقبتي، وكثير من الاصدقاء هذا السؤال مكرراً: لِمَ لا تراجع الجهات الرسمية؟ ولِمَ لا تقدم طلباً للحصول على شهادة ووثيقة رخصة؟.

الجواب: هناك اسباب عدة تحول بيني وبين مراجعتهم، بل تجعلني لا استطيع مراجعتهم.



السبب الاول: انني لم اتدخل في شؤون اهل الدنيا ولا في دنياهم، كي اكون محكوماً من قبلهم، ومن ثم اراجعهم في هذا الشأن، بل اراجع القدر الإلهي، لأنه هو الذي حكم عليِّ لتقصيراتي تجاهه.

السبب الثاني: لقد تيقنت ان هذه الدنيا دار ضيافة، تتبدل بسرعة وتتغير على الدوام، فهي ليست دار قرار ولا موطناً حقيقياً، لذا فان نواحيها كافة على حد سواء. فما دمت لا اظل في موطني، ولا قرار لي فيه، فان محاولة الرجوع اليه عبث لا طائل وراءه، ولا يعني شيئاً الذهاب اليه. وما دام كل ناحية من نواحي الدنيا دار ضيافة.فإن كل انسان صديق وكل مكان نافع ومفيد ان كانت رحمة صاحب الدار ورحمة رب البيت رفيقة لك، والاّ فكل انسان عدو وكل مكان حمل ثقيل وضيق شديد.

السبب الثالث: المراجعة انما تكون ضمن نطاق القانون، بينما المعاملة التي اعامل بها طوال هذه السنوات الست معاملة اعتباطية وغير قانونية، اذ لم يعاملوني معاملة قانونية على وفق قانون المنفيين، بل نظروا الىّ نظرة الساقط من الحقوق المدنية، بل حتى من الحقوق الدنيوية، فلا معنى اذن من مراجعة قانونية لمن يُعامل معاملة غير قانونية.

السبب الرابع: راجع احدهم باسمي هذه السنة مدير هذه الناحية ((بارلا)) للسماح لي بالذهاب الى قرية ((بدرة)) القريبة جداً منها - حتى تعدّ احد أحيائها - لقضاء بضعة ايام للفسحة هناك، ولم يسمح لي بذلك. فكيف يراجع هؤلاء الذين يرفضون مثل هذه الحاجة البسيطة التي أشعر بها؟ فمراجعتهم اذن ليس إلا تذلل وخنوع غيرمجدٍ.

السبب الخامس: ان طلب الحق من مدّعي الحق زوراً ومراجعتهم ظلمٌ وبخس للحق وقلة توقير له، فلا اريد ان ارتكب هذا الظلم، ولا هذا التهوين من شأن الحق. والسلام.

السبب السادس: ان مضايقة اهل الدنيا لي، ليست ناشئة من انشغالي بالسياسة، لأنهم يعرفون جيداً انني لا اتدخل في الامور السياسية، بل انفر منها، فهم يعذبونني بسبب ارتباطي بالدين وتمسكي باهدابه، اي انهم بعذبونني - بشعور وبغير شعور - ارضاءً للزندقة. لذا فان مراجعتهم تعني ابداء الندامة عن الدين وملاطفة لمسلك الزندقة، فضلاً عن ان القدر الإلهي العادل سيعذبني بايديهم الاثيمة إن التجأتُ اليهم أو راجعتهم، لانهم يضايقونني لتمسكي بالدين، بينما القدر الإلهي يضايقني لنقائصي وقصوري في التقوى والاخلاص ولتزلفي احياناً الى اهل الدنيا. فلا نجاة لي اذن من هذه المضايقات في الوقت الحاضر. اذ لو راجعت اهل الدنيا لقال القدر: ايها المرائي! ذق جزاء مراجعتك هذه. وان لم اراجع اهل الدنيا لقالوا: انك لا تعترف بنا، فلازم المضايقات.

السبب السابع: من المعلوم ان وظيفة اي موظف كان هي الأخذ على يد مَن يلحق الضرر بالمجتمع ومعاونة النافعين لهم. فعند ما كنت اوضح ذوقاً لطيفاً في كلمة ((لا إله الاّ الله)) لشيخ هرم اقترب من باب القبر، أتاني الموظف المسؤول عن مراقبتي وكأنه يريد القبض عليّ وانا متلبّس بجريمة نكراء. علماً انه ما كان يأتيني في اغلب الاحيان، ولكنه حضر في ذلك الوقت وكأنني اقترف جريمة، فحرم ذلك المستمع الى الموضوع باخلاص، وأثار غضبي. علماً انه ما كان يلتفت الى اشخاص في القرية بل بدأ يلاطف ويقدّر اولئك الذين يعربدون ويبثون سموماً في المجتمع.

ومن المعلوم كذلك لو ان مجرماً، ارتكب مائة جريمة، يستطيع ان يقابل مسؤوليه في السجن سواءً أكانوا من الجنود أو الضباط أو الآخرين. بينما المسؤول عن مراقبتي، واثنان من ذوي الشأن لدى الحكومة، لم يسألوا عن حالي ولم يقابلوني قطعاً طوال سنة من الزمان، رغم انهم مرّوا مراراً امام غرفتي. فقد كنت اظن انهم لا يتقربون مني بسبب العداء، ولكن تحقق - بالتالي - ان ذلك نابع مما كان يساورهم من شكوك وريوب، فهم يفرّون مني وكأنني سابتلعهم.

فمراجعة حكومة، رجالها وموظفوها امثال هؤلاء ليس من العقل في شئ، بل ما هي الاّ ذلة وخنوع لا طائل وراءه.

فلو كان سعيد القديم موجوداً لقال مثلما قال عنترة:

ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنم وجهنم بالعزّ أفخرُ منزلي

ولكن لا وجود لسعيد القديم. أما سعيد الجديد فيرى انه لا معنى حتى في التكلم مع اهل الدنيا. فليهلكهم الله بدنياهم، وليقضوا ما يقضون، سنتحاكم في المحكمة الكبرى باذن الله.

هذا ما يقوله سعيد الجديد، ثم يسكت.

ومن الاسباب الداعية لعدم مراجعتي:

السبب الثامن: ان القدر الإلهي يعذبني بالايدي الظالمة لأهل الدنيا هؤلاء. وذلك بسبب مالا يستحقونه من ميلي اليهم، وفق القاعدة: ((ان نتيجة محبة غير مشروعة عداوة ظالمة)). وقد كنت اؤثر الصمت، لعلمي اني استحق هذا العذاب، حيث انني قد خدمت بصفة قائد للمتطوعين في الحرب العالمية الاولى، وخضت المعارك، وضحيت بخيرة طلابي واحبّائي مع نيل تقدير القائد العام للجيش، انور باشا. وسقطت جريحاً، واُسرت. وبعد مجيئي من الأسر القيت بنفسي في المهالك، بتأليفي كتاب ((الخطوات الست)) الذي تحديت به الانكليز وهم يحتلون استانبول. فعاونت هؤلاء الاصدقاء الذين ألقوني في عذاب الاسر بغير سبب. وكان هذا جزائي نظير معاونتي لهم، فاذاقني هؤلاء من المصاعب والمتاعب في ثلاثة شهور ما يفوق المصاعب والمتاعب التي قاسيت منها في روسيا طوال ثلاث سنوات.

وعلى الرغم من ان الروس كانوا ينظرون اليّ بصفة قائد للمتطوعين الاكراد والظالم الذي يذبح الاسرى والقازاق، الاّ انهم لم يمنعوني من القاء الدروس. فكنت القيها على معظم زملائي الاسرى من الضباط البالغ عددهم تسعين ضابطاً، حتى ان القائد الروسي استمع مرة الى الدرس، فحسبه درساً سياسياً، لجهله باللغة التركية، ومنعني مرة واحدة فقط ولكنه سمح لي بعد ذلك. ثم اننا جعلنا غرفة في الثكنة التي كنا فيها مسجداً لأداء الصلاة جماعةً، وكنت ائم الجماعة، ولم يتدخلوا في ذلك قط. ولم يمنعونا من الاختلاط والاتصال بعضنا مع البعض ولم يقطعوا عنا المراسلات.

بينما ارى هؤلاء الذين يفترض فيهم انهم اخواني في الدين وفي الوطن يمنعونني من الدرس بغير سبب مع انني احاول ان افيدهم في الايمان، وهم يعلمون انني قد قطعت علاقتي مع الدنيا والسياسة. حتى انهم وضعوني في الأسر طوال ست سنوات - وليس ثلاث سنوات - بل في اسر مشدّد، اذ منعوني عن الاختلاط بالناس، ومن

القاء الدروس، بل حتى من القاء الدروس الخاصة في غرفتي الخاصة. علماً انني احمل شهادة في ذلك، وحالوا بيني وبين المراسلات، بل منعوني حتى عن الامامة في المسجد الذي عمّرته بنفسي، والذي كنت ائم الجماعة فيه طوال اربع سنوات. فحرموني من ثواب الجماعة، بل منعوني عن ان ائم جماعة متكونة من ثلاثة اخوة في الآخرة كنت ائمهم دوماً. فضلاً عن ذلك لو ذكرني احدهم بخير، يغضب الموظف المراقب عليّ، ويحاول بشتى الوسائل ان يهوّن من شأني، ويشدّد من المضايقات كي يحصل على تكريم من آمريه وإلتفاتهم اليه.

فقل لي بنفسك واحكم بما شئت ايها الأخ السائل: ان من كان هذا وضعه، هل يراجع غير الله سبحانه وتعالى؟ فلمن يقدّم الشكوى إن كان الحاكم هو المدّعي؟ ثم قل ما شئت أن تقوله في هذه الاحوال المحيطة بنا.

ولكني اقول: ان كثيراً من المنافقين قد اندسوا بين اصدقائي هؤلاء. وحيث أن المنافق اشد من الكافر واخبث منه، فلهذا يذيقونني من العذاب ما لم يذقني اياه كفار الروس.

ايها التعساء! ماذا فعلت بكم، وما الذي افعله بحقكم؟ انني اسعى لانقاذ ايمانكم وابلاغكم السعادة الابدية. يبدو أن خدمتي لم تخلُص بعدُ لله، لذا يولد خلاف المأمول. وانتم نظير ذلك تؤذونني في كل فرصة سانحة. فلا ريب اننا سنتحاكم في المحكمة الكبرى.. اقول:

حسبنا الله ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 02:00 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب السادس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

} الذين قالَ لَهُم الناسُ ان الناسَ قد جَمَعوا لكم فاخْشَوهُم فَزَادَهُم إيماناً وقالوا حَسْبُنا الله ونِعمَ الوَكيل{ (آل عمران: 173)



لقد نـال هذا المكـتوب سراً من اسرار الآيـة الكريمة: } فقولا له قولاً ليناً{ (طه:44) فلم يكتب بلهجة شديدة.

وهو جواب عن سؤال يورده الكثيرون صراحة أو ضمناً.

انني لا ارغب قط في ان اسجل هذه الإجابة، ولا ارتاح اليها. فلقد فوّضت أمري كله الى المولى القدير، وتوكلت عليه وحده، ولكني لا اُترك وشأني لأجد الراحة في عالمي، فيلفتون نظري الى الدنيا، لذا اقول مضطراً لا بلسان سعيد الجديد بل بلسان سعيد القديم، ولا اقول إنقاذاً لشخصي بالذات، بل انقاذاً لاصدقائي و ((الكلمات)) من شبهات ينثرها اهل الدنيا ومن أذاهم. فاذكر واقع حالي على حقيقته الى اصدقائي والى أهل الدنيا والى المسؤولين في الحكم، وذلك في خمس نقاط.



o النقطة الاولى:

قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب اليها قط؟.

الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها. فذهبت محاولته ادراج الرياح، اذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها. وان التدخل فيها فضول ـ بالنسبة اليّ - فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب. وهي ذات خطورة. وان اغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون ان يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما ان يكون موافقاً لسياسة الدولة او معارضاً لها، فان كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة اليّ فضول ولا يعنيني بشئ، حيث انني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى - عندئذٍ - لممارستي الامور السياسية وهم ليسوا بحاجة اليّ لأتدخل فيها. واذا دخلت ضمن المعارضة او السياسة المخالفة للدولة، فلابد ان اتدخل إما عن طريق الفكر او عن طريق القوة. فان كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة اليّ ايضاً، لان الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي الى الثرثرة. وان كان التدخل بالقوة، اي بأن اظهر المعارضة باحداث المشاكل لاجل الوصول الى هدف مشكوك فيه. فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والاوزار، حيث يبتلي الكثيرون بجريرة شخص واحد. فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام والقاء الابرياء فيها بناء على احتمال او احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة.

والشاهد الصادق القاطع على هذا: انني منذ ثماني سنوات لم اقرأ جريدة واحدة ولم استمع اليها من احد قط، فليبرز احدهم ويدّعى انني قد قرأت أو استمعت الى جريدة من احد. بينما كان سعيد القديم يقرأ حوالي ثماني جرائد يومياً قبل ثماني سنوات.

ثم انه منذ خمس سنوات تراقَب احوالي بدقائقها. فليدّع أحد انه قد بدر مني ما يشم منه شئ من السياسة. علماً ان شخصاً ذا اعصاب متوفزة مثلي، ولا علاقة له مع أحد، ويجد اعظم الحيل في ترك الحيلة حسب القاعدة ((انما الحيلة في ترك الحيل)) فمن كان حاله هكذا لا يمكن ان يستر فكره ثمانية ايام، وليست ثمانية اعوام. اذ لو كانت له رغبة ولهفة في السياسة لكانت تدوي دوي المدافع، ولا تدع حاجة الى تحريات أو تدقيقات.

o النقطة الثانية:

لِمَ يتجنب سعيد الجديد تجنباً شديداً والى هذا الحد من السياسة؟

الجواب: لئلا يضحى بسعيه وفوزه لاكثر من مليارات من السنين لحياة خالدة، من جراء تدخل فضولي لا يستغرق سنة أو سنتين من حياة دنيوية مشكوك فيها. ثم انه يفر فراراً شديداً من السياسة، خدمةً للقرآن والايمان والتي هي اجلّ خدمة وألزمها وأخلصها وأحقّها. لأنه يقول:

انني اتقدم في الشيب، ولا علم لي كم سأعيش بعد هذا العمر. لذا فالأولى لي العمل لحياة ابدية. وهذا هو الالزم. وحيث أن الايمان وسيلة الفوز بالحياة الابدية ومفتاح السعادة الخالدة، فينبغي اذاً السعي لأجله. بيد أني عالم ديني، مكلف شرعاً بافادة الناس، لذا اريد أن اخدمهم من هذه الناحية ايضاً. الاّ أن هذه الخدمة تعود بالنفع الى الحياة الاجتماعية والدنيوية، وهذه ما لا اقدر عليها، فضلاً عن انه يتعذر القيام بعمل سليم صحيح في زمن عاصف، لذا تخليت عن هذه الجهة وفضّلت عليها العمل في خدمة الايمان التي هي اهم خدمة والزمها وأسلمها. وقد تركت الباب مفتوحاً ليصل الى الآخرين ما كسبته لنفسي من حقائق الايمان وما جربته في نفسي من ادوية معنوية. لعلّ الله يقبل هذه الخدمة ويجعلها كفّارة لذنوب سابقة.

وليس لأحد سوى الشيطان الرجيم ان يعترض على هذه الخدمة، سواءً كان مؤمناً أو كافراً او صدّيقاً او زنديقاً. لأن عدم الايمان لا يشبهه أمر، فلربما توجد لذة شيطانية منحوسة في ارتكاب الظلم والفسق والكبائر الاّ ان عدم الايمان لا لذة فيه اطلاقاً، بل هو ألم في الم، وعذاب في عذاب، وظلمات بعضها فوق بعض.

وهكذا فان ترك السعي لحياة ابدية، وترك العمل لنور الايمان المقدس، والدخول في ألاعيب السياسة الخطرة وغير الضرورية، في زمن الشيخوخة انما هو خلاف للعقل ومجانبة للحكمة لشخص مثلي لا صلة له مع أحد، ويعيش منفرداً، ومضطر الى التحري عن كفارات لذنوبه السابقة. بل يعدّ ذلك جنوناً وبلاهة، بل حتى البلهاء يفهمون ذلك.

o أما ان قلت: كيف تمنعك خدمة القرآن والايمان عن السياسة؟

فأقول: ان الحقائق الايمانية والقرآنية ثمينة غالية كغلاء جواهر الالماس، فلو انشغلت بالسياسة، لخطر بفكر العوام: أيريد هذا ان يجعلنا منحازين الى جهة سياسية؟ أليس الذي يدعو اليه دعاية سياسية لجلب الاتباع؟ بمعنى انهم ينظرون الى تلك الجواهر النفيسة انها قطع زجاجية تافهة، وحينها أكون قد ظلمت تلك الحقائق النفيسة، وبخست قيمتها الثمينة، بتدخلي في السياسة.

فيا أهل الدنيا! لِمَ لا تدعوني وشأني، وتضايقونني بطرق شتى؟

o وان قلتم:

يتدخل شيوخ الصوفية احياناً في امورنا، والناس يطلقون عليك في بعض الاحيان اسم الشيخ!

اقول: ايها السادة! انني لست شيخاً صوفياً، وانما انا عالم ديني. والدليل على هذا، انني لو كنت قد علّمت احداً من الناس الطريقة الصوفية، طوال هذه السنوات الاربع التي قضيتها هنا، لكان لكم الحق في الارتياب والوقوع في الشكوك. ولكني لم اقل لمن اتاني الاّ أن الزمان ليس زمان الطريقة. الايمان ضروري، والاسلام ضروري.

o وان قلتم:

يطلقون عليك اسم ((سعيد الكردي)) فلربما تحمل فكر العنصرية والدعوة اليها. وهذا ما لا يتفق وشأننا ولا طائل لنا به.

وانا اقول: ايها السادة! ان ما كتبه سعيد القديم وسعيد الجديد في متناول اليد. ابيّنه شاهداً ولقد نظرت - منذ السابق - الى القومية السلبية والدعوة الى العنصرية نظرة السم القاتل، لأنها مرض اوروبي خبيث سار. وذلك حسب الأمر النبوي الجازم بان الاسلام يجب العصبية الجاهلية. ولقد ألقت اوروبا بذلك المرض الوبيل بين المسلمين ليمزقهم ويفرّقهم شذر مذر ليسهل عليها ابتلاعهم قطعاً متناثرة. ولقد بذلت ما وسعني الجهد لعلاج هذا الداء الخبيث، ويشهد طلابي ومن له علاقة معي بذلك.

ولما كان الأمر هكذا، فيا ايها السادة! ما الداعي وراء التشبث بكل حادثة لإيذائي والتضييق عليّ؟ والذي هو من قبيل ادانة جندي في الغرب لخطأ ارتكبه جندي في الشرق - لكونهما جنديين - أو اخذ حانوتي في بغداد - لأنه حانوتي - بجريرة حانوتي في استانبول! فهذا هو شانكم في كل حادثة دنيوية تتخذونها وسيلة للتضييق عليّ. ايّ وجدان يحكم بهذا؟ واية مصلحة تقتضيه؟

o النقطة الثالثة:

ان اصدقائي واحبابي الذين يلاحظون راحتي واحوالي، يستغربون من ايثاري الصمت وتجملي بالصبر تجاه كل مصيبة تنزل بي، فيتساءلون: كيف تتحمل الضيق والمشاق التي تنزل بك؟ فلقد كنتَ من قبل شديد الغضب، لا ترضى ان يمسّ أحد عزتك. وكنتَ لا تتحمل ادنى اهانة؟

الجواب: استمعوا الى هاتين الحادثتين والحكايتين. وخذوا الجواب منهما!

الحكاية الاولى:

قبل سنتين ذكر مدير مسؤول في غيابي كلمات ملفقة فيها اهانة وتحقير لي، دون سبب ومبرر. ونُقل الكلام اليّ، تألمت ما يقرب من ساعة باحاسيس سعيد القديم. ثم وردت برحمته سبحانه وتعالى الى القلب حقيقة أزالت ذلك الضيق، ودفعتني لأصفح عن ذلك الشخص. والحقيقة هي:

قلت لنفسي: ان كان تحقيره وما أورده من نقائص تخص شخصي ونفسي بالذات، فليرض الله عنه اذ اطلعني على عيوب نفسي. فان كان صادقاً، فسوف يسوقني اعتراضه الى تربية نفسي الامارة وتأديبها، فهو اذاً يعاونني في النجاة من الغرور. وان كان كاذباً، فهو عون لي ايضاً للخلاص من الرياء، ومن الشهرة الكاذبة التي هي اساس الرياء.نعم! انني لم اصالح نفسي قط؛ لانني لم اربّها. فان نبهني أحدٌ على وجود عقرب في أي جزء من جسمي، عليّ ان ارضى عنه، لا امتعض منه.

اما ان كانت اهاناته تعود لصفة كوني خادماً للايمان والقرآن، فتلك لا تعود لي، فاحيل ذلك الشخص الى صاحب القرآن الذي استخدمني في هذه المهمة، فهو عزيز حكيم.

وان كان كلامه لأجل تحقيري واهانة شخصي بالذات والحط من شأني، فهذا ايضاً لا يخصني، لأنني أسير مكبل وغريب في هذا البلد، فالدفاع عن كرامتي ليس لي فيه نصيب، بل يخص من يحكم هذه القرية ثم القضاء ثم المحافظة التي انا ضيف لديهم. اذ إن اهانة اسير تعود الى مالكه، فهو الذي يدافع عنه.

فاطمأن القلب بهذه الحقيقة، وتلوتُ: } واُفوّضُ أمري الى الله إنّ الله بَصيرٌ بالعباد{ (غافر: 44) واهملت الحادثة واعتبرتها لم تقع ، ونسيتها. ولكن تبين بعدئذٍ - مع الأسف - ان القرآن لم يتجاوز عنه، فعاقبه.

الحكاية الثانية:

طرق سمعي في هذه السنة ان حادثة وقعت، وقد سمعتها بعد وقوعها اجمالاً فحسب، لكني لقيت معاملة كأنني ذو علاقة قوية بالحادثة. علماً انني ما كنت اراسل احداً، وما كنت اكتب رسالة الاّ نادراً الى صديق وحول مسألة ايمانية، بل لم اكتب حتى لشقيقي الاّ رسالة واحدة خلال اربع سنوات. فكنت أمنع نفسي عن مخالطة الناس والاتصال بهم، فضلاً عن ان اهل الدنيا كانوا يمنعونني عن ذلك. فما كنت ألقى الاّ واحداً أو اثنين من الأحباب خلال اسبوع، مرة أو مرتين. أما الضيوف القادمون الى القرية، وهم آحاد لا يزيدون عن واحد او اثنين فكانوا يلقونني دقيقة او دقيقتين، خلال شهر، ولمسألة اخروية.. كنت على هذه الحالة من الاغتراب، وقد مُنعت عن كل الناس، عن كل شئ، وبقيت وحيداً غريباً، لا قريب لي، في قرية ليس فيها ما يلائم مكسب نفقتي. حتى انني قبل اربع سنوات، عمّرت مسجداً خرباً وقمت فيه بالامامة لاربع سنوات (نسأل الله القبول) حيث أحمل شهادة الامامة والوعظ، من بلدي. ومع هذا لم استطع الذهاب الى المسجد في شهر رمضان الفائت. فصليت احياناً منفرداً وحُرمت من ثواب الجماعة البالغ خمساً وعشرين ضعفاً.

فتجاه هاتين الحادثتين اللتين مرتا بي اظهرتُ صبراً وتحملاً مثلما اظهرتُه قبل سنتين ازاء معاملة ذلك المسؤول. وسأستمر على هذا الصبر والتحمل باذن الله.

والذي يدور في خلدي واريد أن اقوله هو:

ان العنت الذي يذيقني اياه اهل الدنيا. والاذى والتضييق عليّ منهم، ان كان تجاه نفسي القاصرة الملطخة بالعيوب فاني اعفو عنهم، لعلّ نفسي تصلح من شأنها بهذا التعذيب فيكون كفارة لذنوبها. فلئن قاسيت من اذى في هذه الدنيا المضيفة، فانا شاكر ربي، اذ قد رأيت بهجتها ومتعتها.

ولكن ان كان اهل الدنيا يذيقونني العذاب لقيامي بخدمة الايمان والقرآن، فالدفاع عن هذا ليس من شأني وانما احيله الى العزيز الجبار.

وان كان المراد من ذلك التضييق افساد توجّه الناس اليّ والحيلولة دون اقبالهم عليّ، اي للحد من الشهرة الكاذبة التي لا اساس لها، بل هي السبب في الرياء

وافساد الاخلاص.. فعليهم اذاً رحمة الله وبركاته؛ لأني اعتقد ان كسب الشهرة واقبال الناس ضار لأشخاص مثلي. والذين لهم علاقة معي يعرفونني جيداً: انني لا اقبل الاحترام لنفسي، بل انفر منه، حتى ان صديقاً فاضلاً عزيزاً عليّ قد نهرته اكثر من خمسين مرة لشدة احترامه لي.

ولكن ان كان قصدهم من التهوين من شأني واسقاطي في اعين الناس يخص الحقائق الايمانية والقرآنية التي اقوم بتبليغها، فعبثاً يحاولون لأن نجوم القرآن لا تسدل بشئ. فمن يغمض عينه يجعل نهاره ليلاً لا نهار غيره.

o النقطة الرابعة: جواب عن بضعة اسئلة مريبة.

السؤال الأول المريب: يسأل أهل الدنيا ويقولون لي: بماذا تعيش؟ وكيف تدار معيشتك دون عمل؟ نحن لا نقبل في بلادنا المتقاعدين الكسالى الذين يقتاتون على سعي الآخرين وعملهم؟

الجواب: انني أعيش بالاقتصاد والبركة. لا أقبل من غير رزاقي الله منّة من أحد، وقررت أن لا أقبلها طوال حياتي.

نعم، ان الذي يعيش بمائة ثارة(1) بل بأربعين بارة يأبى ان يدخل تحت منة الآخرين.

انني ما كنت أرغب مطلقاً أن اوضح هذه المسألة خشية الإشعار بالغرور والأنانية، واكره أن ابوح بها فهي ثقيلة علي، ولكن لأن أهل الدنيا تدور الاوهام والشبهات في نفوسهم لدى سؤالهم هذا، فأقول:

- ان دستور حياتي كلها هو عدم قبول شئ من الآخرين، فمنذ نعومة اظفاري لم أقبل شيئاً من أحد حتى لو كان زكاة أموالهم.

ثم ان رفضي للمرتّب الحكومي - الا ما عينته الدولة لي لسنتين حينما كنت في دار الحكمة الاسلامية وبعد الحاح اصدقائي واصرارهم اضطررت الى قبوله - وان عدم قبولي لمنّة الآخرين في دفع ضرورات المعيشة الحياتية.. كل ذلك يبين دستور حياتي. فالناس في مدينتي وكل من يعرفني في المدن الاخرى يعرفون هذا مني جيداً. ولقد حاول أصدقاء كثيرون بمحاولات شتى ان أقبل هداياهم في غضون هذه السنوات الخمس التي مرت بالنفي، الا انني رفضت.

o فاذا قيل: فكيف اذن تعيش؟

أقول: أعيش بالبركة والاكرام الإلهي. فان نفسي الامارة مع انها تستحق كل اهانة وتحقير، الا انني - في الإرزاق - احظى بالبركة التي هي إكرام إلهي يمنح كرامة من كرامات خدمة القرآن.

سأورد نماذج منها، وذلك قياماً باداء الشكر المعنوي تجاه تلك النعم التي اكرمني الله بها وعملا بالآية الكريمة } وأما بنعمة ربك فحدّث{ (الضحى:11) ولكني رغم هذا أخشى ان يداخل هذا الشكر المعنوي شئ من الرياء والغرور فتمحق تلك البركة الربانية الطيبة، اذ ان اظهار البركة المخفية بافتخار مدعاة لانقطاعها. ولكن ما حيلتي فاني اضطررت الى ذكر تلك البركة اضطراراً.

فالاول: لقد كفاني في هذه الشهور الستة الماضية ستة وثلاثون رغيفاً قد خبز من كيلة(1) من الحنطة، ولا زال الخبز باقيا، ولا أعرف متى ينفد(2).

ثانيها: في هذا الشهر المبارك شهر رمضان لم يأتني طعام الا من بيتين اثنين، وقد أمرضاني كلاهما. ففهمت من هذا انه ممنوع عليّ طعام الآخرين!. ولقد كفتني أوقية واحدة(3) من الرز وثلاثة ارغفة من الخبز بقية أيام شهر رمضان. فالصديق الصادق ((عبد الله ضاويش))(4) صاحب البيت المبارك الذي يهئ لي الطعام يشهد بهذا ويخبر به، بل ان الرز قد استمر خمسة عشر يوماً آخر بعد شهر رمضان.

ثالثها: لقد كفتنا أنا وضيوفي الكرام أوقية واحدة من الزبد رغم تناوله يومياً مع الخبز طوال ثلاثة أشهر في الجبل. حتى كان لي ضيف مبارك وهو ((سليمان)) وقد أوشك خبزنا على النفاد، وكنا في يوم الاربعاء، فقلت له: اذهب الى القرية وآت بالخبز، اذ ليس حوالينا أحد حتى مسافة ساعتين لنبتاع منه. فقال: اني أرغب ان أبيت معك ليلة الجمعة المباركة على قمة هذا الجبل، لأتضرع معك الى الله.

فقلت: توكلنا على الله. اذن ابق معي.

ثم بدأنا بالسير معاً حتى صعدنا قمة جبل رغم انه لا داعي ولا مناسبة لذلك. وكان لدينا قليل من الماء مع شئ من الشاي والسكر.

قلت:يا أخي أعمل لنا قليلاً من الشاي. وبدأ بالعمل.

وجلست أنا تحت شجرة قطران أتأمل في مشاهدة واد عميق، وافكر بأسف وأسى: ليس لدينا الا كسرة من خبز متعفن ربما يكفينا كلينا هذا المساء. ولكن كيف باليومين التاليين. فماذا أقول لهذا الرجل الطيب النقي السريرة!

وبينما انا غارق في هذا اذا برأسي كأنه يدار الى الشجرة فالتفت واذا بي أرى رغيفاً كبيراً فوق شجرة القطران ينظر الينا بين اغصانها، قلت: أبشر يا سليمان فقد انعم الله سبحانه علينا برزق. فأخذنا الخبز من الشجرة وفتشنا عن أثر من آثار الحيوانات والطيور عليه. واذا به سالم من اي تعرض كان من الحيوانات. فضلاً عن انه لم يصعد هذا الجبل منذ ثلاثين يوماً أحد من الناس. فكفانا ذلك الرغيف يومين. وما أن أوشك على النفاد اذا بالرجل الصادق ((سليمان))(1) الذي كان صديقاً صادقاً طوال أربع سنوات يصعد الجبل متوجهاً نحونا آتياً لنا بالخبز.

رابعها: ان هذه السترة (الجاكيت) قد اشتريتها مستعملة قبل سبع سنوات. وكفت أربع ليرات ونصف الليرة: لمصاريف خمس سنوات مضت للملابس والحذاء والجوارب، فلقد كفتني البركة والاقتصاد والرحمة الإلهية.

وهناك أمثلة كثيرة شبيهة بهذا، اذ ان للبركة الإلهية جهات شتى. وان اهالي هذه القرية يعرفون كثيراً من أمثلة البركة. ولكن حذار حذار أن يذهب بكم الظن انني اذكر هذه الامثلة افتخاراً، وانما اضطررت الى ذكرها اضطراراً. ولا يردنّ في خاطركم انها امثلة تدل على صلاحي، وانما هذه البركات هي احسان إلهي الى أصدقائي الضيوف المخلصين القادمين الي. أو انها اكرام إلهي لخدمة القرآن الكريم، أو انها منافع مباركة للالتزام بالاقتصاد، أو انها رزق للقطط الأربع التي تلازمني هنا وهي التي تذكر في هريرها: يا رحيم يا رحيم يا رحيم.. فهي أرزاقها تأتيها على صورة بركة، وانا بدوري استفيد منها.

نعم! اذا أنصتّ الى هريرها الحزين تدرك جيداً انها تذكر: يا رحيم يا رحيم يا رحيم.

وعلى ذكر القطط يرد بالبال ذكر الدجاج.

كانت لي دجاجة تجلب لي من خزينة الرحمة الإلهية بيضة واحدة يومياً في هذا الشتاء بانقطاع قليل جداً. وذات يوم وضعت بيضتين معاً، فاحترت منها، واستفسرت عن احبابي:

هل يحدث مثل هذا في هذا الشتاء؟ قالوا: ربما هي احسان إلهي.

كان لهذه الدجاجة فرخ في الصيف. بدأ الفرخ بوضع البيض بداية شهر رمضان المبارك، واستمر الوضع طوال أربعين يوماً. فلم تبق لدي شبهة ولا لدى اخوتي الذين يقومون بخدمتي من أن هذا الوضع المبارك للبيض في هذا الشتاء ومن فرخ صغير، في شهر رمضان، انما هو إكرام إلهي ليس الاّ. ثم ان الفرخ بدأ بالوضع حالما قطعته الأم. فلم يدعني دون بيضة والحمد لله.

السؤال الثاني المريب: يقول اهل الدنيا: كيف نثق بك ونطمئن اليك بانك لا تتدخل في امور دنيانا؟ فلربما لو أطلقنا سراحك تتدخل في امورها؟ ثم كيف نعرف انك لا تخدعنا ولا تكيد بنا، اذ تظهر نفسك بمظهر التارك للدنيا الذي لا يأخذ اموال الناس ظاهراً، وربما يأخذها خفية، فكيف نعرف ان ذلك ليس مكراً؟

الجواب: ان احوالي قبل عشرين سنة في المحكمة العسكرية العرفية، واطواري قبل اعلان الدستور(1) ، وفي الدفاع الذي صدر في كتاب ((شهادة مدرستي المصيبة)) معروفة لدى الذين يعرفونني.. كل ذلك يبين بياناً شافياً: انني قد أمضيت حياتي لم اتنازل الى شئ من الخديعة بل حتى الى أدنى حيلة، فلو كانت ثمة حيل لحصلت المراجعة واللجوء اليكم مع تزلّف وتملق خلال هذه السنوات الخمس. اذ المحتال يحاول ان يحبب نفسه الى الناس دوماً بل يسعى الى اغفالهم وخداعهم، وليس من شأنه تجنبهم والابتعاد عنهم. والحال انني لم اتنازل الى التذلل للآخرين على الرغم من جميع الهجمات النازلة بي والانتقادات الموجهة اليّ، بل اعرضت عن اهل الدنيا متوكلاً على المولى القدير وحده. ثم ان الذي عرف حقيقة الآخرة وكشف عن حقيقية الدنيا لا يندم ابداً، ان كان ذا لب. ولا يتشبث بالعودة الى الدنيا مرة اخرى. ثم ان من كان وحيداً فريداً لا علاقة له مع أحد، لا يضحى بحياته الابدية لثرثرة دنيوية وتهريجاتها بعد قضاء خمسين سنة من العمر. بل لو ضحى بها، لا يكون حيالاً بل مجنوناً، وماذا عسى ان يفعل المجنونُ حتى يُهتم به؟

اما الشبهة الواردة حول كوني طالباً للدنيا باطناً وعازفاً عنها ظاهراً. فاقول:

بمضمون الآية الكريمة: } وَمَآ اُبَرِّئُ نَفْسي اِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ{ (يوسف:53)

انني ما ابرئ نفسي ابداً، انها تروم كل فساد. ولكن خسران حياة دائمة وسعادة خالدة لأجل لذة قليلة، في هذه الدنيا الفانية، في هذا المضيف المؤقت، في زمن الشيخوخة، في عمر قصير.. ليس من شأن العقلاء ولا يليق بذوي الشعور؛ لذا انقادت نفسي الأمارة - شاءت أم أبت - للعقل ورضخت له.

السؤال الثالث المريب: يقول اهل الدنيا: أتحبنا؟ أترضى عنا وتعجب بنا؟ فان كنت تحبنا فلماذا اذن اعرضت عنا ولا تخالطنا، وان لم تكن تعجب ولا ترضى عنا فانت اذن تعارضنا، ونحن نسحق معارضينا!

الجواب: انني لو كنت محباً لدنياكم، فضلاً عنكم لما انسحبت منها وأعرضت عنها. فانا لا اعجب بكم ولا بدنياكم، ولكن لا اتدخل ايضاً بها ولا اخالطكم. لانني اصبو الى قصد غير قصدكم، فقد ملأت قلبي امور لم تُبق موضعاً لغيرها كي افكر فيها. وانتم مأمورون بالحكم على ظاهر الحال لا على باطن القلب. لانكم تريدون ادامة النظام وارساء الحكم، وحيث اني لا اتدخل بهما، فليس لكم ان تقولوا: ليحبنا القلب كذلك، فأنتم لستم اهلاً لذلك الحب أصلاً.

وان تدخلتم في أمر القلب، أقول:

كما انني اتمنى مجئ الربيع وسط هذا الشتاء، ولكني لا استطيع اتيانه، كذلك أتمنى صلاح احوال العالم وادعو لذلك، وأسأل الله أن يصلح اهل الدنيا، ولكن ذلك فوق ارادتي ووسعي فلا استطيع عليه. لذا لا أتدخل فعلاً، فهي ليست من وظيفتي ولا ضمن اقتداري وطاقتي.

السؤال الرابع المريب: يقول اهل الدنيا: لقينا بلايا ونزلت بنا مصائب، فلم نعد نثق بأحد من الناس، فكيف نثق بك؟ ولو سنحت لك الفرصة ألا تتدخل في امورنا بالشكل الذي يروق لك؟

الجواب: ان النقاط المذكورة سابقاً رغم انها كافية لإقناعكم وبث الاطمئنان في نفوسكم الاّ انني اقول:

في الوقت الذي لم اتدخل في دنياكم وانا في مدينتي وحولي طلابي واقربائي، واعيش في وسط من يصغي اليّ ويستشيرني، بل لم اتدخل في دنياكم حتى في خضم تلك الحوادث المثيرة، أفيمكن ان يتدخل فيها من هو في دار الغربة، وهو وحيد منفرد وضعيف عاجز، متوجه بكل وسعه للآخرة، منقطع عن الاختلاط والمراسلات، ولم يجد الاّ بضع اصدقاء في طريق الآخرة، وهو الغريب عن الناس، كما ان الناس اصبحوا غرباء عنه، بل ينظر اليهم هكذا.. هذا الانسان اذا تدخل في دنياكم العقيمة والخطرة ينبغي له أن يكون مجنوناً مضاعفاً.

o النقطة الخامسة: تخص خمس مسائل صغيرة:

اولاها: يقول لي اهل الدنيا: لِمَ لا تطبّق على نفسك اصول مدنيتنا وآدابها، ولا تعيش على وفق طراز حياتنا، ولا تلبس هيئة ملابسنا؟ بمعنى انك معارض لنا؟.

وأنا أقول: ايها السادة! بأي حق تكلفونني ان اطبق آداب مدنيتكم؟ فانتم قد اجبرتموني على الاقامة ظلماً في قرية طوال خمس سنوات، ومنعتموني حتى عن المراسلات والاختلاط مع الناس، وكأنكم قد أسقطتموني من الحقوق المدنية، فضلاً عن انكم جردتموني - بغير سبب - من كل شئ، ولم تسمحوا لي أن اقابل اهل مدينتي - سوى واحد أو اثنين - علماً انكم قد اطلقتم سراح جميع المنفيين، وسمحتم لهم بالاقامة بين اهليهم وذويهم في المدن ومنحتموهم شهادات ترخيص بذلك.. فهذه المعاملات تعني انكم لا تعدونني من افراد الامة ولا من رعايا هذا الوطن، فكيف اذن تكلفونني تطبيق قوانين مدنيتكم؟

وانتم قد ضيقتم عليّ الدنيا على سعتها وجعلتموها لي سجناً، أفيكلف من هو في السجن بمثل هذه الامور؟.

وانتم قد اقفلتم عليّ باب الدنيا، وانا بدوري طرقت باب الآخرة، ففتحته الرحمة الإلهية، فكيف يطالَب من هو واقف في باب الاخرة أن يطبق عادات اهل الدنيا وادابها المشوشة؟

فمتى ما اطلقتموني حراً، واعدتموني الى مدينتي وموطني، واعطيتموني حقوقي كاملة، فلكم عندها أن تطالبوا بتطبيق ادابكم!

المسألة الثانية: يقول أهل الدنيا: لدينا مؤسسة حكومية، تقوم بتعليم أحكام الدين وحقائق الاسلام، فبأي صلاحية تقوم انت بنشر رسائل دينية؟ فلا يحق لك مزاولة مثل هذه الامور وانت محكوم بالنفي.

الجواب: ان الحق والحقيقة لا تقيّدان بشئ ولا تنحصران (في مكان وزمان معينين) فكيف ينحصر الايمان ويتقيد القرآن في مؤسسة رسمية؟ فانتم تستطيعون ان تحصروا تطبيق قوانينكم وادابكم (في مؤسساتكم) أما الحقائق الايمانية والاسس القرآنية فلا تُقحمان في المعاملات الدنيوية، ولا تحصران في مؤسسة رسمية يؤدى فيها العمل بأجرة. بل ان تلك الاسرار والفيوضات التي هي موهبة إلهية، لا تتأتى الا بوساطة النية الخالصة والتجرد من الدنيا والعزوف عن حظوظ النفس.

هذا فضلاً عن ان دائرتكم الرسمية قد قبلتني واعظاً وانا في مدينتي، وعينتني في تلك الوظيفة، وقد قمت بتلك الوظيفة، وظيفة الوعظ. الاّ انني تركت مرتّبها، محتفظاً لدي بشهادتها. اي أنا استطيع أن اؤدي بتلك الشهادة مهمة الوعظ والامامة في اي مكان كان، لان نفيي ظلم واضح.

ثم ان المنفيين قد اعيدوا الى اهليهم، فشهادتي السابقة اذن سارىة المفعول.

ثانياً: ان الحقائق الايمانية التي كتبتها، خاطبت بها نفسي مباشرة، ولا ادعو اليها الناس جميعاً،بل الذين ارواحهم محتاجة وقلوبهم مجروحة يتحرون عن تلك الادوية القرآنية، فيجدونها. يستثني من هذا تكليفي أحد الافاضل بطبع رسالتي التي تخص الحشر، قبل تنفيذ الحروف الحديثة، وذلك لكسب قوتي وتأمين معيشتي، ولكن الوالي السابق الظالم تجاهي دقق تلك الرسالة، وعندما لم يجد ما ينتقده لم يتعرض لها.

المسألة الثالثة: ان بعض اصدقائي يتبرأون مني ظاهراً، بل ينتقدونني، ليحببوا أنفسهم الى اهل الدنيا المرتابين مني؛ بينما اهل الدنيا وهم الدساسون قد حملوا تبرئة هؤلاء واجتنابهم مني محمل الرياء وانعدام الوجدان بدلاً من ان يحملوها محمل الحب والاخلاص لهم. لذا بدأوا ينظرون اليهم نظر الريب.

وانا اقول يا رفقائي في الآخرة!

لا تهربوا من خدمتي للقرآن العظيم؛ لأنه لا يلحقكم ضررٌ مني باذن الله.حتى لو وقع عليَّ الظلم، وأتت المصيبة، فلا يمكنكم أن تنجوا منها بالتبرئة مني، بل تستأهلون اكثر لأن تنزل بكم مصيبة أو تداهمكم لطمة تأديب.. ثم ماذا حدث حتى تنتابكم الريوب والاوهام؟.

المسألة الرابعة: في ايام منفاي هذه.. أرى أناساً ممن سقطوا في حمأة السياسة وابتلوا بالاعجاب بالنفس، ينظرون اليّ نظرة تتسم بالمنافسة والانحياز الى جهة. وكأنني مثلهم ذو علاقة مع تيارات دنيوية.

فيا أيها السادة! اعلموا انني في صف الايمان وفي تياره وحده، ويواجهني تيار الالحاد. ولا علاقة لي اصلاً بأي تيار آخر.

فالذي يتخذ وضع المنافس والمخالف لي، ويتعرض لي ويسبب ايلامي، ان كان ممن يعمل لقاء اجرة، ربما يجد شيئاً من العذر في تصرفاته هذه. ولكن الذي لا يعمل لقاء اجرة، وانما يقوم بمثل هذه المعاملات باسم الغيرة والحمية، فليعلم انه يرتكب خطأ ايّما خطأ، لأنه - كما اثبتناه سابقاً - لا علاقة لي قطعاً بالسياسة الجارية في الدنيا، فلقد نذرت حياتي وحصرت وقتي كله لنشر حقائق الايمان والقرآن، لذا فليفكر جيداً من يتعرض لي ويتخذ موقف المنافس، انه في حكم المتعرض للايمان في سبيل الزندقة والالحاد.

المسألة الخامسة: لما كانت الدنيا فانيةً.. والعمر قصيراً.. والواجبات كثيرة.. وان الحياة الأبدية تُكسب هنا، في الدنيا.. وهي ليست بلا مولى.. فللمضيف ربٌ كريم حكيم.. لا يضيّع جزاء السيئة ولا الحسنة.. ولا يكلّف نفساً الاّ وسعها.. وحيث ان السبيل السوي وما فيه اذى لا يستويان.. ولا يجاوز باب القبر اخلاء الدنيا وجاهها..

فلابد ان اسعد انسان هو مَن: لا ينسى الآخرة لأجل الدنيا.. ولا يضحي بآخرته للدنيا.. ولا يفسد حياته الابدية لاجل حياة دنيوية.. ولا يهدر عمره بما لا يعنيه.. ينقاد للأوامر انقياد الضيف للمضيّف. ليفتح باب القبر بأمان.. ويدخل دار السعادة بسلام(1).





ذيـل

المكتوب السادس عشر



باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

ان اصحاب الدنيا المتكالبين على متاعها الزائف قد توهموا عبثاً ان رجلاً عاجزاً غريباً في هذه الدنيا مثلي له من القوة ما لآلاف الرجال. وقد دفعهم هذا الوهم الى وضعي تحت قيود صارمة مشددة؛ فلم يسمحوا لي مثلاً بالاقامة ليلة او ليلتين في ((بدرة)) وهي كحي من أحياء ((بارلا)) او حتى على جبل من الجبال القريبة منها. وقد سمعتهم يقولون: ((ان لسعيد من القوة ما لخمسين ألف رجل لذا فلا يمكننا إطلاق سراحه))!

وأنا أقول: يا طلاب الدنيا التعساء! مع انكم تعملون للدنيا بكل ما أوتيتم من قوة وجهد فلِمَ لا تعلمون شؤونها ايضاً فتحكمون كالمجانين. فاذا كان خوفَكم من شخصي الفاني، فهوخوف زائف، لا مبرر له اطلاقاً، اذ يستطيع اي انسان - وليس خمسين ألفاً - ان يعمل ضعف عملي خمسين مرة. يستطيع في الأقل ان يقف على باب غرفتي ويقول: ((لن تخرج)).. فينتهي الأمر. أما اذا كان خوفكم من مهنتي التي هي الدعوة الى القرآن، ومن قوة الايمان التي اتسلح بها. ألا فلتعلموا جيداً بأنني لست في قوة خمسين ألف رجل.. كلا.. انكم مخطؤون. انني بفضل الايمان وبحكم مهنتي في قوة خمسين مليون شخص! انني بقوة القرآن الكريم اتحدى اوروبا كلها بما في ذلك ملاحدتكم.. لقد اقتحمت قلاعهم الحصينة التي يسمونها ((العلوم الطبيعية او الحديثة)).. وذلك بفضل ما نشرت من الحقائق الايمانية والبراهين القرآنية الدامغة التي أنزلتُ بها اكبر فلاسفتهم الى رتبة هي أدنى مائة مرة من رتبة الانعام! ولو اجتمعت اوروبا باسرها بما في ذلك ملاحدتكم، فلن تستطيع ان تحول دون مسألة واحدة من مسائل مهنتي ولا ان تغلبني باذن الله وتوفيقه.

ومجمل الكلام: فكما لا أتدخل في شؤون دنياكم لا يحق لكم ان تتدخلوا في شؤون أُخراي كذلك.. ولا تحاولوا.. اما اذا ركبتم راسكم وحاولتم التدخل، الا فلتعلموا يقيناً بانكم لن تجنوا من وراء ذلك شيئاً، وسيكون سعيكم عبثاً.

قوةُ العضد لا ترد تقدير الله

وشمعة اوقدها المولى لا تطفئها الأفواه

ان اهل الدنيا تدور شكوكهم واوهامهم حولي بوجه خاص وكأنهم يتوجسون مني خيفة، اذ يتخيلون وجود امور لا املكها - بل لو وجدت فلا تكون موضع ريوب سياسية واتهامات - كالمشيخة، والرئاسة، والحسب والنسب، والنفوذ في العشيرة، وكثرة الاتباع، واللقاء مع المواطنين، والتعلق بامور الدنيا، بل حتى يتصورون وجود الدخول في امور السياسة بل حتى المعارضة للدولة.. وامثالها من الامور التي ليست موجودة عندي، فيقعون في شكوك وأوهام من جراء تخيلاتهم. حتى انهم حرموني من كل شئ عندما تذاكروا امور العفو، لمن في السجن أو في خارجه، اي مَن لايشملهم العفو في نظرهم.

هناك كلام جميل خالد قاله رجل فاسد فانٍ:

ان كان للظلم مدفع وبندقية وقلعة

فللحق ساعد لا ينثني ووجه لا يتراجع.

وانا اقول:

ان كان لأهل الدنيا حكم وسطوة وقوة..

ففي خادمه بفيض القرآن:

علم لا يلتبس، وكلام لا يسكت، وقلب لا ينخدع، ونور لا ينطفئ.

لقد سألني الآمر العسكري المسؤول عن مراقبتي، وكثير من الاصدقاء هذا السؤال مكرراً: لِمَ لا تراجع الجهات الرسمية؟ ولِمَ لا تقدم طلباً للحصول على شهادة ووثيقة رخصة؟.

الجواب: هناك اسباب عدة تحول بيني وبين مراجعتهم، بل تجعلني لا استطيع مراجعتهم.



السبب الاول: انني لم اتدخل في شؤون اهل الدنيا ولا في دنياهم، كي اكون محكوماً من قبلهم، ومن ثم اراجعهم في هذا الشأن، بل اراجع القدر الإلهي، لأنه هو الذي حكم عليِّ لتقصيراتي تجاهه.

السبب الثاني: لقد تيقنت ان هذه الدنيا دار ضيافة، تتبدل بسرعة وتتغير على الدوام، فهي ليست دار قرار ولا موطناً حقيقياً، لذا فان نواحيها كافة على حد سواء. فما دمت لا اظل في موطني، ولا قرار لي فيه، فان محاولة الرجوع اليه عبث لا طائل وراءه، ولا يعني شيئاً الذهاب اليه. وما دام كل ناحية من نواحي الدنيا دار ضيافة.فإن كل انسان صديق وكل مكان نافع ومفيد ان كانت رحمة صاحب الدار ورحمة رب البيت رفيقة لك، والاّ فكل انسان عدو وكل مكان حمل ثقيل وضيق شديد.

السبب الثالث: المراجعة انما تكون ضمن نطاق القانون، بينما المعاملة التي اعامل بها طوال هذه السنوات الست معاملة اعتباطية وغير قانونية، اذ لم يعاملوني معاملة قانونية على وفق قانون المنفيين، بل نظروا الىّ نظرة الساقط من الحقوق المدنية، بل حتى من الحقوق الدنيوية، فلا معنى اذن من مراجعة قانونية لمن يُعامل معاملة غير قانونية.

السبب الرابع: راجع احدهم باسمي هذه السنة مدير هذه الناحية ((بارلا)) للسماح لي بالذهاب الى قرية ((بدرة)) القريبة جداً منها - حتى تعدّ احد أحيائها - لقضاء بضعة ايام للفسحة هناك، ولم يسمح لي بذلك. فكيف يراجع هؤلاء الذين يرفضون مثل هذه الحاجة البسيطة التي أشعر بها؟ فمراجعتهم اذن ليس إلا تذلل وخنوع غيرمجدٍ.

السبب الخامس: ان طلب الحق من مدّعي الحق زوراً ومراجعتهم ظلمٌ وبخس للحق وقلة توقير له، فلا اريد ان ارتكب هذا الظلم، ولا هذا التهوين من شأن الحق. والسلام.

السبب السادس: ان مضايقة اهل الدنيا لي، ليست ناشئة من انشغالي بالسياسة، لأنهم يعرفون جيداً انني لا اتدخل في الامور السياسية، بل انفر منها، فهم يعذبونني بسبب ارتباطي بالدين وتمسكي باهدابه، اي انهم بعذبونني - بشعور وبغير شعور - ارضاءً للزندقة. لذا فان مراجعتهم تعني ابداء الندامة عن الدين وملاطفة لمسلك الزندقة، فضلاً عن ان القدر الإلهي العادل سيعذبني بايديهم الاثيمة إن التجأتُ اليهم أو راجعتهم، لانهم يضايقونني لتمسكي بالدين، بينما القدر الإلهي يضايقني لنقائصي وقصوري في التقوى والاخلاص ولتزلفي احياناً الى اهل الدنيا. فلا نجاة لي اذن من هذه المضايقات في الوقت الحاضر. اذ لو راجعت اهل الدنيا لقال القدر: ايها المرائي! ذق جزاء مراجعتك هذه. وان لم اراجع اهل الدنيا لقالوا: انك لا تعترف بنا، فلازم المضايقات.

السبب السابع: من المعلوم ان وظيفة اي موظف كان هي الأخذ على يد مَن يلحق الضرر بالمجتمع ومعاونة النافعين لهم. فعند ما كنت اوضح ذوقاً لطيفاً في كلمة ((لا إله الاّ الله)) لشيخ هرم اقترب من باب القبر، أتاني الموظف المسؤول عن مراقبتي وكأنه يريد القبض عليّ وانا متلبّس بجريمة نكراء. علماً انه ما كان يأتيني في اغلب الاحيان، ولكنه حضر في ذلك الوقت وكأنني اقترف جريمة، فحرم ذلك المستمع الى الموضوع باخلاص، وأثار غضبي. علماً انه ما كان يلتفت الى اشخاص في القرية بل بدأ يلاطف ويقدّر اولئك الذين يعربدون ويبثون سموماً في المجتمع.

ومن المعلوم كذلك لو ان مجرماً، ارتكب مائة جريمة، يستطيع ان يقابل مسؤوليه في السجن سواءً أكانوا من الجنود أو الضباط أو الآخرين. بينما المسؤول عن مراقبتي، واثنان من ذوي الشأن لدى الحكومة، لم يسألوا عن حالي ولم يقابلوني قطعاً طوال سنة من الزمان، رغم انهم مرّوا مراراً امام غرفتي. فقد كنت اظن انهم لا يتقربون مني بسبب العداء، ولكن تحقق - بالتالي - ان ذلك نابع مما كان يساورهم من شكوك وريوب، فهم يفرّون مني وكأنني سابتلعهم.

فمراجعة حكومة، رجالها وموظفوها امثال هؤلاء ليس من العقل في شئ، بل ما هي الاّ ذلة وخنوع لا طائل وراءه.

فلو كان سعيد القديم موجوداً لقال مثلما قال عنترة:

ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنم وجهنم بالعزّ أفخرُ منزلي

ولكن لا وجود لسعيد القديم. أما سعيد الجديد فيرى انه لا معنى حتى في التكلم مع اهل الدنيا. فليهلكهم الله بدنياهم، وليقضوا ما يقضون، سنتحاكم في المحكمة الكبرى باذن الله.

هذا ما يقوله سعيد الجديد، ثم يسكت.

ومن الاسباب الداعية لعدم مراجعتي:

السبب الثامن: ان القدر الإلهي يعذبني بالايدي الظالمة لأهل الدنيا هؤلاء. وذلك بسبب مالا يستحقونه من ميلي اليهم، وفق القاعدة: ((ان نتيجة محبة غير مشروعة عداوة ظالمة)). وقد كنت اؤثر الصمت، لعلمي اني استحق هذا العذاب، حيث انني قد خدمت بصفة قائد للمتطوعين في الحرب العالمية الاولى، وخضت المعارك، وضحيت بخيرة طلابي واحبّائي مع نيل تقدير القائد العام للجيش، انور باشا. وسقطت جريحاً، واُسرت. وبعد مجيئي من الأسر القيت بنفسي في المهالك، بتأليفي كتاب ((الخطوات الست)) الذي تحديت به الانكليز وهم يحتلون استانبول. فعاونت هؤلاء الاصدقاء الذين ألقوني في عذاب الاسر بغير سبب. وكان هذا جزائي نظير معاونتي لهم، فاذاقني هؤلاء من المصاعب والمتاعب في ثلاثة شهور ما يفوق المصاعب والمتاعب التي قاسيت منها في روسيا طوال ثلاث سنوات.

وعلى الرغم من ان الروس كانوا ينظرون اليّ بصفة قائد للمتطوعين الاكراد والظالم الذي يذبح الاسرى والقازاق، الاّ انهم لم يمنعوني من القاء الدروس. فكنت القيها على معظم زملائي الاسرى من الضباط البالغ عددهم تسعين ضابطاً، حتى ان القائد الروسي استمع مرة الى الدرس، فحسبه درساً سياسياً، لجهله باللغة التركية، ومنعني مرة واحدة فقط ولكنه سمح لي بعد ذلك. ثم اننا جعلنا غرفة في الثكنة التي كنا فيها مسجداً لأداء الصلاة جماعةً، وكنت ائم الجماعة، ولم يتدخلوا في ذلك قط. ولم يمنعونا من الاختلاط والاتصال بعضنا مع البعض ولم يقطعوا عنا المراسلات.

بينما ارى هؤلاء الذين يفترض فيهم انهم اخواني في الدين وفي الوطن يمنعونني من الدرس بغير سبب مع انني احاول ان افيدهم في الايمان، وهم يعلمون انني قد قطعت علاقتي مع الدنيا والسياسة. حتى انهم وضعوني في الأسر طوال ست سنوات - وليس ثلاث سنوات - بل في اسر مشدّد، اذ منعوني عن الاختلاط بالناس، ومن

القاء الدروس، بل حتى من القاء الدروس الخاصة في غرفتي الخاصة. علماً انني احمل شهادة في ذلك، وحالوا بيني وبين المراسلات، بل منعوني حتى عن الامامة في المسجد الذي عمّرته بنفسي، والذي كنت ائم الجماعة فيه طوال اربع سنوات. فحرموني من ثواب الجماعة، بل منعوني عن ان ائم جماعة متكونة من ثلاثة اخوة في الآخرة كنت ائمهم دوماً. فضلاً عن ذلك لو ذكرني احدهم بخير، يغضب الموظف المراقب عليّ، ويحاول بشتى الوسائل ان يهوّن من شأني، ويشدّد من المضايقات كي يحصل على تكريم من آمريه وإلتفاتهم اليه.

فقل لي بنفسك واحكم بما شئت ايها الأخ السائل: ان من كان هذا وضعه، هل يراجع غير الله سبحانه وتعالى؟ فلمن يقدّم الشكوى إن كان الحاكم هو المدّعي؟ ثم قل ما شئت أن تقوله في هذه الاحوال المحيطة بنا.

ولكني اقول: ان كثيراً من المنافقين قد اندسوا بين اصدقائي هؤلاء. وحيث أن المنافق اشد من الكافر واخبث منه، فلهذا يذيقونني من العذاب ما لم يذقني اياه كفار الروس.

ايها التعساء! ماذا فعلت بكم، وما الذي افعله بحقكم؟ انني اسعى لانقاذ ايمانكم وابلاغكم السعادة الابدية. يبدو أن خدمتي لم تخلُص بعدُ لله، لذا يولد خلاف المأمول. وانتم نظير ذلك تؤذونني في كل فرصة سانحة. فلا ريب اننا سنتحاكم في المحكمة الكبرى.. اقول:

حسبنا الله ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 02:01 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب السابع عشر

ذيل اللمعة الخامسة والعشرين

عزاء بطفل

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السيد الحافظ ((خالد)) يا اخا الآخرة العزيز!

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَبـَشِّر الصابرين ` الذين اذا اَصابَتْهُم مُصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون{ (البقرة: 155ــ 156)

أخي! لقد آلمني كثيراً نبأ وفاة طفلكم، ولكن الحكم لله، فالرضاء بقضائه والتسليم بقدره شعار الاسلام. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقكم الصبر الجميل، وأن يجعل لكم المرحوم ذخراً للآخرة، وشفيعاً يوم القيامة.

وسنبيّن لكم ولأمثالكم من المؤمنين المتقين ((خمس نقاط)) تشع بشرى سارة وتقطر سلواناً حقيقياً لكم.

النقطة الاولى:

ان معنى الآية الكريمة } وِلْدانٌ مُخَلَّدون{ وسرها هو هكذا:

إن أولاد المؤمنين المتوفين قبل البلوع سيخلَّدون في الجنة أطفالاً محبوبين بما يليق بالجنة.. وسيكونون مبعث سرور أبدي في احضان آبائهم وأمهاتهم الذين مضوا الى الجنة.. وسيكونون مداراً لتحقيق ألطف الاذواق الابدية للوالدين وهو حب الاطفال وملاطفة الاولاد.

وحيث أن كل شئ لذيذ موجود في الجنة، فلا صحة لقول مَن يقول: ((لا وجود لمحبة الاطفال ومداعبتهم في الجنة لخلوها من التكاثر والتناسل)). بل هناك الفوز العظيم بمحبة الاطفال وملاعبتهم بصفاء تام ولذة كاملة طوال ملايين السنين، من دون أن يشوبها ألمٌ ولا كدرٌ، بدلاً من محبتهم وملاعبتهم في عشر سنوات دنيوية قصيرة فانية مشوبة بالآلام. كل هذا تحققه الآية الكريمة بجملة } وِلْدانٌ مُخَلَّدون{ فتصبح اكبر مدار لسعادة المؤمنين وتزفّ أعظم بشرى لهم.

النقطة الثانية:

كان هناك - ذات يوم - رجل كريم في السجن.. ألُحق به ولده الحبيب أيضاً. فكان يتألم كثيراً بمشقات عجزه عن تأمين راحة إبنه فضلاً عن مقاساته آلامه الشخصية.

بعث اليه الحاكم الرحيم احداً ليبلّغه: ((أن هذا الطفل وإن كان إبنك إلاّ أنه واحد من رعيتي وأحد أفراد امتي، سآخذه منك لأربيه في قصر جميل فخم)).. بدأ الرجل بالبكاء والحسرة والتأوه، وقال: ((لا. لا اعطي ولدي ولا اسلّمه، إنه مدار سلواني!)).

انبرى له اصدقاؤه في السجن: يا هذا لا داعي لأحزانك ولا معنى لتألمك. إن كنت تتألم لأجل الطفل فهو سيمضي الى قصر باذخ رحيب بدلاً من أن يبقى في هذا السجن الملوّث المتعفن الضيق. وان كنت متألماً لذات نفسك وتبحث عن نفعك الخاص، فان الطفل سيعاني مشقات كثيرة مع ضيق وألم شديدين فيما إذا بقي هنا لأجل أن تحصل على نفع مؤقت ومشكوك فيه! اما اذا ذهب الى هناك فسيكون وسيلة لألف نفع وفائدة لك، ذلك لأنه سيكون سبباً لدرّ رحمة الحاكم لك، وسيصبح لك في حكم الشفيع. ولابد أن الحاكم سيرغب يوماً في أن يسعده باللقاء معك، ولا جرم أنه لن يرسله اليك في السجن، بل سيأخذك اليه ويخرجك من السجن ويبعثك الى ذلك القصر لتحظى باللقاء مع الطفل، فيما اذا كنت ذا طاعة له وثقة به.



وفي ضوء هذا المثال - يا أخي العزيز - ينبغي أن يتفكر فيه أمثالُك من المؤمنين عندما يتوفى أطفالهم، ويقولوا: إن هذا الطفل برئ، وان خالقه رحيم وكريم، فبدلاً من رقتي القاصرة عليه، وبدلاً من تربيتي الناقصة له، فقد احتضَنَتْه الرحمة الآلهية وضمته العناية الآلهية الى كنفها العظيم، وأخرجته من سجن المشقات والمصائب والآلام الدنيوية وارسلته الى ظلال جنة فردوسه العظيم. فهنيئاً لذلك الطفل!

ومَن يدري ماذا كان يعمل وكيف كان يتصرف لو ظل في هذه الدنيا؟ لذا فأنا لست متألما عليه، بل أراه سعيداً محظوظاً.. اما تألمي لنفسي بالذات فلا أتألم لها ألماً شديداً، فيما يخص متعتي الخاصة. اذ لو كان باقياً في الدنيا لكان يضمن لي محبّة الاولاد وملاعبتهم المؤقتة زهاء عشرة أعوام وهي مشوبة بالآلام، ولربما لو كان صالحاً بارّاً، وكان ذا قدرة في أمور الدنيا كان يمكنه أن يعينني ويتعاون معي، الا انه بوفاته فقد ضمن لي محبة الاولاد ولعشرة ملايين من السنين وفي الجنة الخالدة، وأصبح مشفّعاً لي للدخول الى السعادة الابدية، فلا أكون اذن شديدَ التألم عليه حتى على حساب نفسي كذلك. لان مَن غابت عنه منفعة عاجلة مشكوك فيها، وربح ألف منفعة آجلة محققة الحصول، لن يظهر الاحزان الأليمة، ولن ينوح يائساً أبداً!

النقطة الثالثة:

إن الطفل المتوفى.. ما كان إلا مخلوقاً لخالق رحيم، وعبداً له، وبكل كيانه مصنوعاً من مصنوعاته سبحانه، وصديقاً مودعاً من لدنه عند الوالدين ليبقى مؤقتاً تحت رعايتهما، وقد جعل سبحانه أمه وأباه خادمَين أمينين له، ومنح كلاً منهما شفقة ملذّة، أجرةً عاجلة أزاء ما يقومان به من خدمة.

والآن. إن ذلك الخالق الرحيم الذي هو المالك الحقيقي للطفل - وله فيه تسع وتسعون وتسعمائة حصة ولوالده حصة واحدة - اذا ما أخذ بمقتضى رحمته وحكمته ذلك الطفل منك مُنهياً خدماتك له، فلا يليق بأهل الايمان أن يحزنوا يائسين ويبكوا صارخين بما يومئ الى الشكوى أمام مولاهم الحق صاحب الحصص الالف، مقابل حصة صورية. وانما هذا شأن أهل الغفلة والضلالة.





النقطة الرابعة:

لو كانت الدنيا أبدية أبد الآباد، ولو كان الانسان فيها خالداً مخلداً، أو لو كان الفراق أبدياً، إذن لكان للحزن الأليم والأسف اليائس معنىً ما. ولكن ما دامت الدنيا دار ضيافة فاينما ذهب الطفل المتوفى فكلنا - نحن وأنتم كذلك - الى هناك راحلون لا مناص.

ثم ان هذه الوفاة ليست خاصة به هو وحده، بل هي طريق يسلكه الجميع.

ولما لم يكن الفراق أبدياً كذلك، بل سيتم اللقاء في الأيام المقبلة في البرزخ وفي الجنة. لذلك ينبغي القول: الحكم لله.. إن لله ما اخذ وما أعطى، مع الاحتساب والصبر الجميل والشكر قائلين: الحمد لله على كل حال.

النقطة الخامسة:

إن الشفقة التي هي ألطف تجليات الرحمة الآلهية وأجملها وأطيبها واحلاها.. لهي أكسير نوراني، وهي أنفذ من العشق بكثير، وهي أسرع وسيلة للوصول الى الحق تبارك وتعالى.

نعم، مثلما أن العشق المجازي والعشق الدنيوي - بمشكلات كثيرة جداً - ينقلبان الى ((العشق الحقيقي)) فيجد صاحبه الله جل جلاله، كذلك الشفقة - ولكن بلا مشكلات - تربط القلب بالله سبحانه ليوصل صاحبَه الى الله جل وعلا بأقصر طريق وأصفى شكل.

والوالد أو الوالدة على السواء يحبان ولدهما بملء الدنيا كلها، فعندما يؤخذ الولد من اي منهما فانه - إن كان سعيداً ومن أهل الايمان - يعرض وجهه عن الدنيا ويدير لها ظهره فيجد المنعم الحقيقي حاضراً فيقول: ما دامت الدنيا فانية زائلة فلا تستحق اذن ربط القلب بها، فيجد إزاء ما مضى اليه ولده علاقة وثيقة ويغنم حالة معنوية سامية.

إن أهل الغفلة والضلالة لمحرومون من سعادة هذه الحقائق الخمس وبُشَرياتها. فقيسوا على ما يأتي مدى ما هم فيه من أحوال أليمة؛ عندما تُشاهد والدة عجوز طفلها الوحيد الذي تحبه حباً خالصاً، يتقلّب في السكرات، يذهب فكرها حالاً الى رقوده في تراب القبر بدل فراشه الناعم الوثير، لما تتصور الموت عدماً وفراقاً أبدياً، لتوهمها الخلود في الدنيا ونتيجة الغفلة والضلالة، لذا لا يخطر على بالها رحمة الرحمن الرحيم ولا جنته ولا نعمة فردوسه المقيم.. فأنت تستطيع أن تقيس من هذا مدى ما يعانيه أهل الضلالة والغفلة من ألم وحزن يائس بلا بصيص من أمل.

بينما الايمان والاسلام وهما وسيلتا سعادة الدارين يقولان للمؤمن:

إن هذا الطفل الذي يعاني ما يعاني من سكرات الموت سيرسله خالقه الرحيم الى قدس جنته بعدما يخرجه من هذه الدنيا القذرة، زد على ذلك أنه سيجعله لك مشفّعاً، كما سيجعله لك أيضاً ولداً أبدياً... فلا تقلق إذن ولا تغتم. فالفراق مؤقت، واصبر قائلاً: الحكم لله } انا لله وِاِنا اليه راجعون{ .

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 02:02 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثامن عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

(هذا المكتوب يتضمن ثلاث مسائل مهمة)

l المسألة المهمة الاولى:

سؤال:

ان أولياء مشهورين امثال الشيخ محي الدين بن عربي(1) (قدس سره) صاحب كتاب ((الفتوحات المكية)) والشيخ عبد الكريم الجيلي(2) (قدس سره) صاحب كتاب ((الانسان الكامل)) يبحثون في طبقات الارض السبع، وفي الارض البيضاء خلف جبل قاف، وفي امور عجيبة كالمشمشية - كما في الفتوحات - ويقولون: لقد رأينا! فهل ما يقولونه صدق وصواب؟ فان كان هكذا فليس في ارضنا مثل ما يقولون! والجغرافية والعلوم الحاضرة تنكر ما يقولونه! وان لم تكن اقوالهم صواباً فكيف اصبحوا اولياء صالحين، اذ كيف يكون من ينطق بمثل هذه الاقوال المخالفة للواقع المشاهد والمحسوس والمنافية للحقيقة، من اهل الحق والحقيقة!.

الجواب: انهم من اهل الحق والحقيقة، وهم ايضاً اهل ولاية وشهود، فما شاهدوه فقد رأوه حقاً، ولكن يقع الخطأ في قسم من احكامهم، في مشاهداتهم في حالة الشهود التي لا ضوابط لها ولا حدود، وفي تعبير رؤيتهم الشبيهة بالرؤى التي لا حق لهم في التعبير عنها.

اذ كما لا يحق لصاحب الرؤيا التعبير عن رؤياه بنفسه، فذلك القسم من اهل الشهود والكشف ليس لهم الحق ان يعبروا عن مشاهداتهم في تلك الحالة، حالة الشهود. فالذي يحق له التعبير عن تلك المشاهدات انما هم ورثة الانبياء من العلماء المحققين المعروفين بالاصفياء. ولا ريب أن اهل الشهود هؤلاء عندما يرقون الى مقام الاصفياء سيدركون خطأهم بأنفسهم بارشاد الكتاب والسنة ويصححونها. وقد صححها فعلاً قسم منهم.

فاستمع الى هذه الحكاية التمثيلية لتوضيح هذه الحقيقة، وهي:

اصطحب راعيان من اهل القلب والصلاح فحلبا من غنمهما اللبن ووضعاه في اناء خشبي ووضعا الناي القصبي فوق حافتي الصحن. ثم شعر أحدهما بالنعاس، وما فتئ ان غلبه النوم، فنام واستغرق في نومه.

أما الثاني فقد ظل مستيقظاً يرقب صاحبه، واذا به يرى وكأن شيئاً صغيراً - كالذبابة - يخرج من أنف صاحبه النائم، ثم يمرق سريعاً ويقف على حافة الاناء ناظراً في اللبن ثم يدخل من فوهة الناي من احد طرفيه ويخرج من فوهة الطرف الآخر، ثم يمضي ويدخل في ثقب صغير تحت شجيرة مشوكة كانت بالقرب من المكان.

ثم يعود ذلك الشئ بعد مدة ويمضي في الناي أيضاً ويخرج من الطرف الآخر منه، ثم يأتي الى ذلك النائم ويدخل في أنفه.. وهنا يستيقظ النائم من نومه، ويصحو قائلاً لصديقه:

- لقد رأيت يا صديقي في غفوتي هذه رؤيا عجيبة!

- اللّهم ارنا خيراً وأسمعنا خيراً.. قل يا صديقي ماذا رأيت؟

- رأيت - وأنا نائم - بحراً من لبن، وقد مد عليه جسر عجيب، وكان الجسر مسقفاً، ولسقفه نوافذ، مررت من ذلك الجسر، ورأيت في نهاية الطرف الثاني منه غابة كثيفة ذات اشجار مدببة. وبينما انا انظر اليها متعجباً رأيت كهفاً تحت الاشجار فسرعان ما دخلت فيه، ورأيت كنزاً عظيماً من ذهب خالص.

فقل لي يا صديقي، ما ترى في رؤياي هذه، وكيف تعبّرها لي؟ أجابه صديقه الصاحي:

- ان ما رأيته من بحر اللبن هو هذا اللبن في هذا الاناء، وذلك الجسر الذي فوقه هو الناي الموضوع فوق حافتيه، والغابة هي هذه الشجيرة المشوكة، وذلك الكهف الكبير هو هذا الثقب الصغير، تحت هذه النبتة القريبة منا. فهات يا صديقي المعوَل لأريك الكنز بنفسي. فيأتي صديقه بالمعوَل ويبدآن الحفر تحت تلك الشجيرة، ولم يلبثا حتى ينكشف لهما ما يسعدهما في الدنيا من كنز ذهبي.

وهكذا فان ما رآه النائم في نومه صواب وصحيح، وقد رأى ما رأى حقيقة وصدقاً، ولكن لأنه مستغرق في عالم الرؤيا، وعالم الرؤيا لا ضوابط له ولا حدود، فلا يحق للرائي تعبير رؤياه، فضلاً عن أنه لا يميز بين العالم المادي والمعنوي، لذا يكون قسم من حكمه خطأ. حتى أنه يقول لصاحبه صادقاً: لقد رأيت بنفسي بحراً من لبن. ولكن صديقه الذي ظل صاحياً يستطيع ان يميز بسهولة العالم المثالي ويفرزه عن العالم المادي، فله حق تعبير الرؤيا حيث يخاطب صديقه قائلاً:

- ان ما رأيته يا صديقي حق وصدق، ولكن البحر الذي رأيته ليس بحراً حقيقياً، بل قد صار اناء اللبن الخشبي هذا في رؤياك كأنه البحر، وصار الناي كالجسر.. وهكذا..

وبناء على هذا المثال ينبغي التمييز بين العالم المادي والعالم الروحاني، فلو مزجا معاً، تأتي احكامهما خطأ ولا نصيب لها من الصحة.

ومثال آخر:

هب ان لك غرفة ضيقة، وضعت في جدرانها الاربعة مرايا كبيرة، تغطي كل مرآة الجدار كله، فعندما تدخل غرفتك ترى ان الغرفة الضيقة قد اتسعت واصبحت كالساحة الفسيحة، فاذا قلت:

- انني أرى غرفتي كساحة واسعة.. فانك لا شك صادق في قولك.

ولكن اذا حكمت وقلت:

- غرفتي واسعة سعة الساحة فعلاً.. فقد اخطأت في حكمك، لأنك قد مزجت عالم المثال - وهو هنا عالم المرايا - بعالم الواقع والحقيقة، وهو هنا عالم غرفتك كما هي فعلاً.

وهكذا تبين ان ماجاء على ألسنة بعض أهل الكشف، أو ما ورد في كتبهم حول الطبقات السبع للكرة الارضية من تصويرات من دون أن يزِنوا بياناتهم بموازين الكتاب والسنة لا تقتصر على الوضع المادي والجغرافي للارض. اذ قالوا:

ان طبقة من طبقات الارض خاصة بالجن والعفاريت ولها سعة مسيرة ألوف السنين. والحال ان الكرة الارضية التي يمكن قطعها في بضع سنين لا تنطوي على تلك الطبقات العجيبة الهائلة السعة.

ولكن لو فرضنا ان كرتنا الارضية كبذرة صنوبر في عالم المعنى وعالم المثال وفي عالم البرزخ وعالم الارواح، فان شجرتها المثالية التي ستنبثق منها وتتمثل في تلك العوالم ستكون كشجرة صنوبر ضخمة جداً بالنسبة لتلك البذرة. لذا فان قسماً من أهل الشهود يرون أثناء سيرهم الروحاني طبقات الارض في عالم المثال واسعة سعة مهولة جداً، فيشاهدونها بسعة مسيرة ألوف السنين. فما يرونه صدق وحقيقة. ولكن لأن عالم المثال شبيه صورة بالعالم المادي، فهم يرونهما - أي العالمين كليهما - ممزوجين معاً. فيعبّرون عما يشاهدون كما هو. ولكن لأن مشهوداتهم غير موزونة بموازين الكتاب والسنة ويسجلونها كما هي في كتبهم عندما يعودون الى عالم الصحو، فان الناس يتلقونها خلاف الحقيقة. اذ كما ان الوجود المثالي لقصر عظيم وحديقة فيحاء تستوعبه مرآة صغيرة، كذلك سعة الوف السنين من العالم المثالي، والحقائق المعنوية تستوعبها مسافة سنة من العالم المادي.













خاتمة

يُفهم من هذه المسألة:

ان درجة الشهود أوطأ بكثير من درجة الايمان بالغيب. أي ان الكشفيات التي لا ضوابط لها لقسم من الاولياء المستندين الى شهودهم فقط، لا تبلغ أحكام الاصفياء والمحققين من ورثة الانبياء الذين لا يستندون الى الشهود بل الى القرآن والوحي، فيصدرون احكامهم حول الحقائق الايمانية السديدة. فهي حقائق غيبية الا انها صافية لا شائبة فيها. وهي محددة بضوابط، وموزونة بموازين.

اذن فميزان جميع الاحوال الروحية والكشفيات والاذواق والمشاهدات انما هو: دساتير الكتاب والسنة السامية، وقوانين الاصفياء والمحققين الحدسية.

l المسألة الثانية المهمة:

سؤال:

يعتبر الكثيرون ((وحدة الوجود)) من أرفع المقامات، بينما لا نشاهد لها أثراً عند الذين لهم الولاية الكبرى، وهم الصحابة الكرام وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، ولا عند ائمة آل البيت وفي مقدمتهم الخمسة المعروفون بآل العباء، ولا عند المجتهدين وفي مقدمتهم الأئمة الاربعة، ولا عند التابعين، فهل الذين أتوا من بعد هؤلاء اكتشفوا طريقاً أسمى وارفع من طريقهم؟ وهل سبقوهم في هذا المضمار؟!

الجواب: كلا.. وحاش لله أن يكون الامر كذلك، فليس في مقدور أحد كائناً من كان ان يصل الى مستوى أولئك الأصفياء الذين كانو أقرب النجوم اللامعة الى شمس الرسالة والوارثين السابقين الى كنوز النبوة فضلاً عن أن يسبقوهم. فالصراط المستقيم انما هو طريقهم والمنهج القويم انما هو منهجهم.

أما وحدة الوجود فهي مشرب ونزعة وحال وهي مرتبة ناقصة، ولكن لكونها مشرّبة بلذة وجدانية ونشوة روحية فان معظم الذين يحملونها أو يدخلون اليها لا يرغبون في مغادرتها فيبقون فيها، ظانين أنها هي المرتبة الأخيرة التي لا تسمو فوقها مرتبة ولا يطالها أفق.

لذلك فان صاحب هذا المشرب، ان كان ذا روح متجردة من المادة ومن وسائلها ومزقت ستار الأسباب وتحررت من قيودها ونالت شهوداً في لجة الاستغراق الكلي، فان مثل هذا الشخص قد يصل الى وحدة وجود حالي لا علمي، ناشئة من وحدة شهود وليس من وحدة الوجود، فتحقق لصاحبها كمالاً ومقاماً خاصاً به، بل قد توصله الى انكار وجود الكون عند تركيز انتباهه في وجود الله.

أما ان كان صاحب هذا المشرب من الذين اغرقتهم المادة وأسبابها. فان ادعاءه لوحدة الوجود قد تؤدي به الى انكار وجود الله سبحانه لكون انتباهه منحصراً على وجود الكون.

نعم! أن الصراط المستقيم لهو طريق الصحابة والتابعين والأصفياء الذين يرون أن ((حقائق الاشياء ثابتة)) وهي القاعدة الكلية لديهم، وهم الذين يعلمون أن الأدب اللائق بحق الله سبحانه وتعالى هو قوله تعالى: } ليس كمثله شيء{ (الشورى:11) أي انه منزّه عن الشبيه والتحيز والتجزؤ. وان علاقته بالموجودات علاقة الخالق بالمخلوقات، فالموجودات ليست أوهاماً كما يدعي أصحاب وحدة الوجود، بل هذه الاشياء الظاهرة هي من آثار الله سبحانه وتعالى.

اذن فليس صحيحاً قولهم ((همه اوست)) اي ((لا موجود الا هو)) وانما الصحيح ((همه از اوست)) اي ((لا موجود الا منه)) ذلك لأن الحادثات لا يمكن ان تكون القديم نفسه، أي ازلية.

ويمكن تقريب الموضوع الى الأذهان بمثالين:

الأول: لنفرض ان هناك سلطاناً، وان لهذا السلطان دائرة عدل، فهذه الدائرة تكون ممثلة لاسم ((السلطان العادل)). وان هذا السلطان في الوقت نفسه هو ((خليفة)) اذن فان له دائرة تعكس فيها ذلك الاسم. كما أن هذا السلطان يحمل أسم ((القائد العام للجيش)) لذا ستكون له دائرة عسكرية تظهر ذلك الاسم. فالجيش مظهر لهذا الاسم. والآن اذا قيل بأن هذا السلطان هو ((السلطان العادل)) فقط وانه لا توجد سوى دائرة العدل التي تعكس اسم السلطان الاعظم، ففي هذه الحالة تظهر بالضرورة بين موظفي دائرة العدل صفة اعتبارية - غير حقيقية - لأوصاف علماء دائرة الشؤون الدينية وأحوالهم، أي ينبغي ان يتصور صفة ظلية وتابعة وغير حقيقية لدائرة الشؤون الدينية بين موظفي دائرة العدل. وكذلك الحال بالنسبة للدائرة العسكرية، اذ لابد أن تظهر أحوالها ومعاملاتها بشكل ظلي وفرضي وغير حقيقي بين موظفي دائرة العدل وهكذا.

اذن ففي هذه الحالة فان اسم السلطان الحقيقي وصفة حاكميته الحقيقية ((الحاكم العادل)) وحاكميته في دائرة العدل، أما صفاته الاخرى مثل ((الخليفة)) و ((القائد العام للجيش))...الخ، فتبقى نسبية وغير حقيقية، بينما ماهية السلطان وحقيقة السلطنة تقتضيان هذه الاسماء جميعاً بصورة حقيقية، وان الأسماء الحقيقية تتطلب هي الاخرى دوائر حقيقية وتقتضيها.

وهكذا فان سلطنة الألوهية تقتضي وجود أسماء حسنى حقيقية متعددة لها، أمثال: الرحمن، الرزاق، الوهاب، الخلاق، الفعال، الكريم، الرحيم، وهذه الاسماء والصفات تقتضي كذلك وجود مرايا حقيقية لها.

والآن ما دام أصحاب وحدة الوجود يقولون ((لا موجود الا هو)) وينزلون الموجودات منزلة العدم والخيال فان اسماء الله تعالى أمثال: واجب الوجود، الموجود، الأحد، الواحد، تجد لها تجلياتها الحقيقية ودوائرها الحقيقية، وحتى ان لم تكن دوائر هذه الاسماء ومراياها حقيقية - واصبحت خيالية وعدمية - فلا تضر تلك الاسماء شيئاً، بل ربما يكون الوجود الحقيقي اصفى وألمع ان لم يكن في مرآته لون الوجود. ولكن في هذه الحالة لا تجد اسماء الله الحسنى الاخرى أمثال: الرحمن، الرزاق، القهار، الجبار، الخلاق، تجلياتها الحقيقية. بل تصبح اعتبارية ونسبية، بينما هذه الاسماء هي أسماء حقيقية كأسم ((الموجود)) ولا يمكن ان تكون ظلاً، وهي أصلية لا يمكن ان تكون تابعة.

وهكذا فان الصحابة والمجتهدين والأصفياء وأئمة أهل البيت عندما يشيرون الى أن ((حقائق الأشياء ثابتة)) يقرون بأن لأسماء الله تعالى تجليات حقيقية وان لجميع الأشياء وجوداً عرضياً أسبغه الله عليها بالخلق والايجاد، ومع أن هذا الوجود يعتبر وجوداً عرضياً وضعيفاً وظلاً غير دائم بالنسبة لوجود ((واجب الوجود)) الا أنه ليس وهماً وليس خيالاً، فان الله سبحانه وتعالى قد أسبغ على الاشياء صفة الوجود بتجلي اسمه ((الخلاق)) وهو يديم هذا الوجود.

المثال الثاني: لنفرض أن في هذه الغرفة أربع مرايا جدارية كبيرة موضوعة على جدرانها الاربعة، فصورة الغرفة ترتسم على كل مرآة من هذه المرايا، ولكن كل مرآة تعكس صورة الاشياء بالشكل الذي يناسب صفتها ولونها، أي ان كل مرآة ستعكس منظراً خاصاً للغرفة. فاذا دخل رجلان الى الغرفة واطلع أحدهما على احدى هذه المرايا فانه يعتقد بأنه يرى جميع الأشياء مرتسمة فيها، وعندما يسمع بوجود مرايا اخرى وما فيها من صور فانه يعتقد بأنها صور المرايا التي تنعكس على مرآته نفسها والتي لا تشغل الا حيزاً صغيراً منها، بعد أن تضاءلت صورتها مرتين وتغيرت حقيقتها فيقول:

انني أرى الصورة هكذا. اذن فهذه هي الحقيقة.

فيقول له الرجل الثاني: نعم انك ترى ذلك وما تراه صحيح، ولكن ليس هو في الواقع صورة الحقيقة نفسها، فهناك مرايا أخرى غير المرآة التي تحدق فيها، وتلك المرايا ليست صغيرة وضئيلة ومنعكسة من الظلال كما تراها في مرآتك!

وهكذا فان كل اسم من أسماء الله الحسنى يتطلب مرآة خاصة به كل على حدة. فمثلاً: ان الاسماء الحسنى أمثال: ((الرحمن، الرزاق)) لما كانت أسماء حقيقية وأصلية فانها تقتضي موجودات لائقة بها ومخلوقات محتاجة الى مثل هذا الرزق ومثل هذه الرحمة.

فكما يقتضي اسم ((الرحمن)) مخلوقات حية محتاجة الى الرزق في عالم حقيقي، فان اسم ((الرحيم)) يستدعي جنة حقيقية كذلك. لذا فان اعتبار أسماء معينة من أسماء الله الحسنى أمثال ((الموجود، الواحد، الأحد، واجب الوجود)) هي الاسماء الحقيقية فقط وتوهم الأسماء الحسنى الاخرى تابعة وظلاً لها حكم غير عادل وتنكّب عن واجب الاحترام لهذه الاسماء الحسنى كما ينبغي.

اذن فالصراط المستقيم، بل صراط الولاية الكبرى ان هو الا طريق الصحابة والأصفياء والتابعين وائمة اهل البيت والائمة المجتهدين وهو الطريق الذي سلكه التلاميذ الأوَل للقرآن الكريم.



} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب{

اللّهم صل على من ارسلته رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين



l المسألة الثالثة:

وهي المسألة المهمة التي لا يمكن حلها بالعقل ولا كشفها بالحكمة والفلسفة.

قال تعالى: } كلّ يومٍٍ هو في شأن{ (الرحمن:29)

} فعّالٌ لما يُريد{ (البروج:16)

سؤال:

ما سر هذه الفعالية المحيرة للالباب الجارية في الكائنات وما حكمتها؟ ولِمَ لا تستقر هذه الموجودات الدائبة في الحركة، بل تتجدد وتتغير؟

الجواب: ان ايضاح هذه الحكمة يحتاج الى الف صحيفة، فندع الايضاح جانباً ونحصر الجواب في غاية الاختصار في صحيفتين اثنتين فنقول:

ان شخصاً ما اذا ادى وظيفة فطرية، أو قام بمهمة اجتماعية، وسعى في انجازها سعياً حثيثاً، فلاشك أن المشاهد يدرك أنه لا يقوم بهذا العمل الاّ بدافعين:

الاول: هو المصالح والثمرات والفوائد التي تترتب على تلك الوظيفة والمهمة وهي التي تسمى بــ ((العلة الغائية)).

الثاني: ان هناك محبة، وشوقاً، ولذة يشعر بها الانسان اثناء ادائه لتلك الوظيفة، مما يدفعه الى القيام بها بحرارة وشوق، وهذا ما يسمى بـ ((الداعي والمقتضي)).

مثال ذلك: ان الاكل وظيفة فطرية يشتاق الانسان الى القيام بها بدافع من لذة ناشئة من الشهية، ومن بعدها فهناك انماء الجسم وادامة الحياة كنتيجة للاكل وثمرة له.

(ولله المثل الاعلى) فان الفعالية الجارية في هذا الكون الواسع التي تحير الالباب وتجعل العقول في غمرة اندهاش واعجاب انما تستند الى قسمين من الاسماء، وتجري نتيجة اظهار حكمتين اثنتين واسعتين بحيث ان كلا منهما لا يحدها حدود.

الحكمة الاولى:

ان اسماء الله الحسنى لها تجليات لا تحد ولا تحصر، فتنوع المخلوقات الى انواع لا تحصر ناشئ من تنوع تلك التجليات غير المحصورة. والاسماء بحد ذاتها لابد لها من الظهور اي تستدعي اظهار نقوشها، اي تقتضي مشاهدة تجليات جمالها في مرايا نقوشها واشهادها. بمعنى ان تلك الاسماء تقضى بتجدد كتاب الكون، اي تجدد الموجودات آناً فآناً، باستمرار دون توقف، اي ان تلك الاسماء تقتضي كتابة الموجودات مجدداً وببلاغة حكيمة ومغزى دقيق بحيث يظهر كل مكتوب نفسه امام نظر الخالق جل وعلا وامام انظار المطالعين من الموجودات المالكة للشعور ويدفعهم لقراءته.

السبب الثاني والحكمة الثانية:

كما ان الفعالية الموجودة في المخلوقات قاطبة نابعة من لذة ومن شهية ومن شوق، بل ان في كل فعالية منها لذة، بل كل فعالية هي بحد ذاتها نوع من اللذة.

(ولله المثل الاعلى) فهناك شفقة مقدسة مطلقة ومحبة مقدسة مطلقة تليقان به سبحانه وتلائمان غناه المطلق وتعاليه وتقدسه وتوافقان كماله المطلق. ثم ان هناك شوقاً مقدساً مطلقاً يليق به آت من تلك الشفقة المقدسة والمحبة المقدسة، وهناك سرور مقدس ناشئ من ذلك الشوق المقدس وهناك لذة مقدسة لائقة به - ان جاز التعبير - ناشئة من ذلك السرور المقدس، ثم ان الرحمة المطلقة النابعة من تلك اللذة المقدسة، وما ينشأ من المخلوقات قاطبة من رضى عام وكمال شامل من انطلاق استعداداتها من القوة الى الفعل وتكمّلها، ضمن فعالية القدرة.. فما ينشأ من كل هذا من رضى مقدس مطلق - ان جاز التعبير - وافتخار مقدس مطلق.. كل ذلك بما يليق ويخص الرحمن الرحيم سبحانه يقتضى فعالية مطلقة وبصورة لا تحد.

وحيث أن الفلسفة والعلم تجهلان هذه الحكمة الدقيقة في الفعالية الجارية في الوجود، خلط اصحابها الطبيعة الصماء والمصادفة العشواء والاسباب الجامدة في غمرة هذه الفعالية البصيرة العليمة الحكيمة، فما اهتدوا الى نور الحقيقة بل ضلوا ضلالاً بعيداً.

} قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون{

} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب{

اللّهم صل وسلم على كاشف طلسم كائناتك بعدد ذرات الموجودات وعلى آله وصحبه ما دام الارض والسموات.



الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 02:03 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب التاسع عشر

تبيّن هذه الرسالة اكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزات الرسول الاكرم e الدالة على صدق رسالته، وهي في الوقت الذي تبيّنها تعلن عن نفسها ايضاً بأنها كرامة من كرامات تلك المعجزات، وعطية من عطياتها، فاصبحت هي بذاتها خارقة واضحة باكثر من ثلاثة وجوه:

الاول: ان تأليفها حَدَثٌ خارق بلا شك، حيث اُلـّفت من دون مراجعة لمصدر، اعتماداً على الذاكرة فقط رغم ما تشتمل عليه من روايات للاحاديث الشريفة في أكثر من مائة صحيفة. علاوة على أنها كُتبت في زوايا الجبال وبواطن الوديان والبساتين، خلال ما يقرب من اربعة ايام وبمعدل ثلاث ساعات يومياً، أي في اثنتي عشرة ساعة!.

الثاني: ان مستنسخها لا يملّ من استنساخها مهما استنسخ منها، ومداومة القراءة فيها لا تُذهب بحلاوتها رغم طولها؛ لذا فقد اثارت همم الكسالى من المستنسخين، فكتبوا - حوالينا - ما يقارب السبعين نسخة، خلال سنة واحدة، في هذا الوقت العصيب، مما اعطى للمطلعين على ظروفنا قناعة كافية بأن هذه الرسالة هي واحدةٌ من كرامات تلك المعجزات.

الثالث: ان كلمة ((الرسول الاكرم)) e في الرسالة كلها، ولفظ ((القرآن الكريم)) في القطعة الخامسة منها، قد توافقت عند أحد المستنسخين دون أن يكون له علم بالتوافق، وحصل التوافق نفسه لدى المستنسخين الثمانية الآخرين دون ان يلتقى هؤلاء بعضهم ببعض وقبل ان ينكشف التوافق المذكور حتى بالنسبة لنا. فمن كان على شئ من الانصاف لا يحمل هذا على المصادفة البتة، بل حَكَم كلُ مَن اطلع عليه أن هذا سرٌ من اسرار الغيب، وان الرسالة كرامة من كرامات المعجزة الأحمدية على صاحبها افضل الصلاة والسلام.

هذا وان الاسس التي تتصدر الرسالة مهمة جداً، وان الاحاديث الواردة فيها فضلاً عن كونها صحيحة ومقبولة لدى ائمة الحديث، فهي تبين الاكثر ثبوتاً وقطعية من الروايات.

فلو اردنا تبيان مزايا هذه الرسالة لاحتجنا الى رسالة اخرى مثلها، لذا نهيب بالمشتاقين اليها قراءتها ولو مرة واحدة كي يلمسوا بأنفسهم تلك المزايا.

سعيد النورسي

تنبيه

لقد أوردتُ احاديث شريفة كثيرة في هذه الرسالة، ولم يكن لديّ شئ من كتب الحديث، فإن أخطأت في لفظ الاحاديث الواردة فليُصحح أو ليُحمل على الرواية بالمعنى، اذ القول الراجح: انه تجوز رواية الحديث الشريف بمعناه، اي أن يذكر الراوي معنى الحديث بلفظٍ من عنده، فما وجد في هذه الرسالة من اخطاء في الالفاظ، فلينظر اليها باعتبارها ((رواية بالمعنى)).Y

سعيد النورسي

المعجزات الأحمدية

على صاحبها افضل الصلاة وأتم التسليم

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بسم الله الرحمن الرحيم

} هو الذي ارسل رسولَه بالهُدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً ` محمدٌ رسولُ الله والذين معه اشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم تريهم ركّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السُجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرجَ شطئَه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجبُ الزرّاع ليغيظ بهم الكفارَ وعَد الله الذين آمَنُوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة ًواجراً عظيماً{ (الفتح: 28ــ 29)



[نظراً لقيام الكلمتين التاسعة عشرة والحادية والثلاثين الخاصتين بالرسالة الاحمدية اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بدلائل قاطعة، نحيل اليهما قضية الاثبات ونبيّن هنا – تتمةً لهما – لمعاتٍ من تلك الحقيقة الكبرى ضمن ((تسع عشرة اشارة بليغة ذات مغزى))].





الاشارة البليغة الاولى

لا ريب ان مالك هذا الكون وربّه يخلق ما يخلق عن علمٍ ويتصرف في شؤونه عن حكمة، ويدير كل جهة عن رؤية ومشاهدة، ويربي كل شئ عن علم وبصيرة، ويدبّر الأمر قاصداً اظهار الحِكمَ والغايات والمصالح التي تتراءى من كل شئ.

فما دام الخالق يعلم، فالعالِمُ يتكلم. وحيث انه سيتكلم، فسيكون كلامه حتماً مع مَن يفهمه من ذوي الشعور والفكر والادراك، بل مع الانسان الذي هو افضل انواع ذوي المشاعر والفهم وأجمعهم لتلك الصفات. ومادام كلامه سيكون مع نوع الانسان، فسيتكلم، اذاً مع مَن هو أهل للخطاب من الكاملين من بني الانسان الذين يملكون أعلى استعداد وأرفع أخلاق والذين هم أهلٌ لأن يكونوا قدوة للجنس البشري وأئمة له. فلا ريب انه سيتكلم مع محمد صلى الله عليه وسلم الذي شهد بحقه الاولياء والخصماء بأنه صاحب أسمى أخلاق وأفضل استعداد، والذي اقتدى به خُمس العالم، وانضم تحت لوائه المعنوي نصف الارض، واستضاء المستقبل بالنور الذي بُعث به طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان، والذي يصلّي عليه أهل الايمان والنورانيون من الناس دوماً ويدعون له بالرحمة والسعادة والثناء والحب، ويجددون معه البيعة خمس مرات يومياً وقد تكلم معه فعلاً. وسيجعله رسوله حتماً وقد جعله فعلاً. وسيجعله قدوة وإماماً للناس كافة وقد جعله فعلاً.





الاشارة البليغة الثانية

لقد اعلن الرسول الكريم e النبوة، وقدّم برهاناً عليها، وهو القرآن الكريم، واظهر نحو الفٍ من المعجزات الباهرة، كما هو ثابت لدى اهل التحقيق من العلماء(1). هذه المعجزات بمجموعها الكلي ثابتة قطعية كقطعية ثبوت دعوى النبوة، حتى ان اسناد المعجزات الى السحر الذي يورده القرآن الكريم في مواضع كثيرة على لسان الكفار الألداء ليشير الى انهم لم ينكروا وقوع المعجزات ولم يسعهم ذلك، وانما اسندوها الى السحر خداعاً لأنفسهم وتغريراً باتباعهم.

نعم، أن للمعجزات الأحمدية قطعية تامة تبلغ قوة مائة تواتر، فلا سبيل الى انكارها قط.

والمعجزة بحد ذاتها تصديقٌ من رب العالمين لدعوى رسوله الكريم، أي كأن المعجزة تقوم مقام قول الله: صدق عبدي فأطيعوه.

مثال للتوضيح:

لو كنتَ في حضرة سلطان أو في ديوانه، وقلتَ لمن حولك: لقد عينني السلطان عاملاً في الأمر الفلاني، وحينما طلبوا منك دليلاً على ادعائك أومأ السلطان بنفسه: أنْ نعم، اني جعلته عاملاً. ألا يكون ذلك شهادة صدق لك؟. فكيف اذا خرق السلطان - لأجلك - عاداته وبدّل قوانينه لرجاء منك؟ أفلا يكون ذلك تصديقاً أقوى لدعواك وأثبت من قول: نعم؟

وكذلك كانت دعوى الرسول e ، اذ قال: انني رسول من رب العالمين. وأما دليلي فهو انه سبحانه يبدّل قوانينه المعتادة بالتجائي ودعائي وتوسلي اليه. وهاكم انظروا الى أصابعي، انه يفجّر منها الماء كما يتفجّر من خمس عيون.. وانظروا الى القمر، انه يشقّه لي شقين باشارة من اصبعي.. وانظروا الى تلك الشجرة كيف تأتي اليّ لتصدقني وتشهد لي.. وانظروا الى هذه الحفنة من الطعام كيف انها تُشبع مائتين أو ثلاثمائة رجلٍ! وهكذا أظهر صلى الله عليه وسلم مئات من المعجزات أمثال هذه.

واعلم، ان دلائل صدق الرسول e وبراهين نبوته لا تنحصر في معجزاته، بل يرى المدققون ان جميع حركاته وافعاله وأحواله وأقواله وأخلاقه وأطواره وسيرته وصورته، كل ذلك يثبت اخلاصَه وصدقَه. حتى آمن به كثير من علماء بني اسرائيل بمجرد النظر الى طلعته البهية، أمثال: عبد الله بن سلام الذي قال: ((فلما اسْتَبنتُ وجهَهُ عرفتُ ان وجهه ليس بوجه كاذب))(1).

وعلى الرغم من ان العلماء المحققين قد ذكروا ما يقارب الألف من دلائل نبوته ومعجزاته فان هناك ألوفاً منها، بل مئات الألوف. ولقد صدّق بنبوته مئات الألوف من الناس المتباينين في الفكر بمئات الألوف من الطرق. والقرآن الكريم وحده يظهر ألفاً من البراهين على نبوته e ، عدا اعجازه البالغ أربعين وجهاً.

ولما كانت النبوة محققة وثابتة في الجنس البشري، وان مئات الألوف(1) من البشر جاءوا فاعلنوا النبوة، وقدّموا المعجزات برهاناً وتأييداً لها، فلا شك ان نبوة محمد e تكون اثبت واكد من الجميع، لأن مدار نبوة الانبياء وكيفية معاملاتهم مع اممهم والدلائل والمزايا والأوضاع التي دلت على نبوة عامة الرسل أمثال موسى وعيسى عليهما السلام توجد بأتم صورها وأفضل معانيها لدى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وحيث ان علة حكم النبوة وسببها أكمل وجوداً في ذاته e ، فان حكم النبوة لا محالة ثابت له بقطعية اوضح من سائر الانبياء عليهم السلام.

الاشارة البليغة الثالثة

ان معجزات الرسول e كثيرة جداً ومتنوعة جداً، وذلك لأن رسالته عامة وشاملة لجميع الكائنات؛ لذا فله في أغلب أنواع الكائنات معجزات تشهد له، ولنوضح ذلك بمثال:

لو قَدِم سفير كريم من لدن سلطان عظيم لزيارة مدينة عامرة بأقوام شتى، حاملاً لهم هدايا ثمينة متنوعة، فان كل طائفة منهم ستُوفد في هذه الحال ممثلاً عنها لاستقباله بأسمها والترحيب به بلسانها.

كذلك لما شرَّف العالَم السفيُر الأعظم صلى الله عليه وسلم لملك الأزل والأبد، ونوَّره بقدومه، مبعوثاً من لدن رب العالمين الى أهل الأرض جميعاً، حاملاً معه هدايا معنوية وحقائق نيّرة تتعلق بحقائق الكائنات كلها، جاءه من كل طائفة مَن يرحب بمقدمه ويهنؤه بلسانه الخاص، ويقدِّم بين يديه معجزة طائفته تصديقاً بنبوته، وترحيباً بها، ابتداء من الحجر والماء والشجر والانسان، وانتهاء بالقمر والشمس والنجوم، فكأن كلاً منها يردد بلسان الحال: أهلاً ومرحباً بمبعثك.

ان بحث تلك المعجزات كلها يحتاج الى مجلدات لكثرتها وتنوعها، وقد ألّف العلماء الأصفياء مجلدات ضخمة حول تفاصيل دلائل النبوة والمعجزات، إلاّ أننا هنا نكتفي باشارات مجملة الى ما هو قطعي الثبوت والمتواتر معنىً من الأنواع الكلية لتلك المعجزات.

ان دلائل نبوة الرسول e قسمان:

الأول: الحالات التي سُميت بالأرهاصات، وهي الحوادث الخارقة التي وقعت قبل النبوة ووقت الولادة.

الثاني: دلائل النبوة الاخرى وهذا ينقسم الى قسمين:

أحدهما: الخوارق التي ظهرت بعده صلى الله عليه وسلم تصديقاً لنبوته.

ثانيهما: الخوارق التي ظهرت في فترة حياته المباركة e . وهذا ايضاً قسمان:

الأول: ما ظهر من دلائل النبوة في شخصه وسيرته وصورته وأخلاقه وكمال عقله.

الثاني: ما ظهر منها في أمور خارجة عن ذاته الشريفة، أي في الآفاق والكون. وهذا أيضاً قسمان:

قسم معنوي وقرآني. وقسم مادي وكوني. وهذا الأخير قسمان أيضاً:

القسم الأول: المعجزات التي ظهرت خلال فترة الدعوة النبوية، وهي إما لكسر عناد الكفار أو لتقوية أيمان المؤمنين؛ كانشقاق القمر، ونبعان الماء من بين أصابعه الشريفة، وإشباع الكثيرين بطعام قليل، وتكلم الحيوان والشجر والحجر.. وأمثالها من المعجزات التي تبلغ عشرين نوعاً، كل نوع منها بدرجة المتواتر المعنوي، ولكل نوع منها نماذج عدة مكررة.

القسم الثاني: الحوادث التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها - بما علّمه الله سبحانه - وظهرت تلك الحوادث وتحققت كما أخبر.

ونحن الآن نستهل بهذا القسم الأخير للوصول الى فهرس متسلسل عام(1).





الاشارة البليغة الرابعة

ان ما أنبأ به الرسول الكريم e من أنباء الغيب بتعليم من الله علام الغيوب كثيرٌ لا يعد ولا يحصى، وقد أشرنا الى أنواعه في ((الكلمة الخامسة والعشرين)) الخاصة باعجاز القرآن، وسقنا هناك براهينه؛ لذا فالأخبار الغيبية المتعلقة بالأزمنة السالفة والأنبياء السابقين وحقائق الألوهية وحقائق الكون، وحقائق الآخرة يُراجع في شأنها تلك الكلمة.

أما هنا فسنورد بضعة أمثلة من اخبار غيبية صادقة تتعلق بالحوادث التي ستصيب الآل والاصحاب - رضوان الله عليهم أجمعين - من بعده صلى الله عليه وسلم وما ستلقاه أمته في مُقبل أيامها.

ولأجل الوصول الى ادراك هذه الحقيقة ادراكاً كاملاً نبين بين يديها أسساً ستة مقدّمة لها.

l الاساس الاول

ان جميع احوال الرسول الكريم e وأطواره يمكن ان تكون دليلاً على صدقه وشاهداً على نبوته، الاّ ان هذا لا يعني ان تكون جميع احواله وافعاله خارقة للعادة؛ ذلك لأن الله سبحانه قد أرسله بشراً رسولاً، ليكون باعماله وحركاته كلها إماماً ومرشداً للبشر كافة، وفي احوالهم كافة، ليحقق لهم بها سعادة الدنيا والآخرة وليبيّن لهم خوارق الصنعة الربانية وتصرف القدرة الإلهية في الأمور المعتادة، تلك الامور التي هي بحد ذاتها معجزات.

فلو كان صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله خارقاً للعادة، خارجاً عن طور البشر، لما تسنّى له ان يكون أسوةً يُقتدى به، وما وَسِعه ان يكون بأفعاله وأحواله وأطواره إماماً للآخرين؛ لذا ما كان يلجأ الى اظهار المعجزات الاّ بين حين وآخر، عند الحاجة، اقراراً لنبوته أمام الكفار المعاندين. ولما كان الابتلاء والاختبار من مقتضيات التكليف الإلهي، فلم تعد المعجزة مُرغِمةً على التصديق - اي سواء أراد الانسان أم لم يرد - لأن سر الامتحان وحكمة التكليف يقتضيان معاً فتح مجال الاختيار أمام العقل من دون سلب الارادة منه. فلو ظهرت المعجزة ظهوراً بديهياً ملزماً للعقل كما هو شأن البديهيات لما بقي للعقل ثمة إختيار، ولصدَّق ابو جهل كما صدّق أبو بكر الصديق - رضى الله عنه ـ ولأنتفت الفائدة من التكليف والغاية من الامتحان، ولتساوى الفحم الخسيس مع الألماس النفيس!

بيد ان الذي يثير الدهشة والحيرة؛ انه في الوقت الذي آمن ألوف من أجناس مختلفة من الناس بمعجزة منه e أو بكلام منه أو بالنظر الى طلعته البهية، أو ما شابهها من دلائل صدق نبوته e ، وآمن به ألوف العلماء المدققين والمفكرين المحققين بما نُقِل اليهم من صدق أخباره وجميل آثاره نقلاً صحيحاً متواتراً، أقول: أفلا يدعو الى العجب ان يرى أشقياء هذا العصر جميع هذه الدلائل الواضحة كأنها غير وافية لايمانهم وتصديقهم فتراهم ينزلقون الى هاوية الضلال؟

l الاساس الثاني

ان الرسول الكريم e بشر، فهو يتعامل مع الناس انطلاقاً من بشريته هذه. وهو كذلك رسول، وبمقتضى الرسالة هو ناطق أمين باسم الله تعالى ومبلّغ صادق لأوامره سبحانه، فرسالته تستند الى حقيقة الوحي. والوحي قسمان:

الأول: الوحي الصريح كالقرآن الكريم وبعض الأحاديث القدسية. فالرسول e في هذا مبلّغ محض لا غير، من دون أن يكون له تصرف أو تدخل في شئ منه.

الثاني: الوحي الضمني، وهو الذي يستند في خلاصته ومُجمَله الى الوحي والالهام، الاّ انه في تفصيله وتصويره يعود الى الرسول صلى الله عليه وسلم. فتفصيل الحادثة الآتية مُجملةً من هذا الوحي وتصويرها إما يبينه الرسول e أحياناً استناداً الى الالهام أو الى الوحي، أو يبينه بفراسته الشخصية. وهذه التفاصيل التي يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده الذاتي. اما أنه يبينها بما يتمتع به من قوة قدسية عليا، بمقتضى الرسالة، أو يبينها بخصائصه البشرية وبمستوى عرف الناس وعاداتهم وافكارهم.

وهكذا لا يُنظر الى جميع تفاصيل كل حديث شريف بمنظار الوحي المحض. ولا يُتحرى عن الآثار السامية للرسالة في معاملاته e وافكاره التي تجري بمقتضيات البشرية.

وحيث أن بعض الحوادث يوحى اليه وحياً مجملاً ومطلقاً وهو بدوره يصوّره بفراسته الشخصية أو حسب نظر العرف العام، لذا يلزم أحياناً التفسير وربما التعبير لهذه المتشابهات والمشكلات التي ينطوي عليها ذلك التصوير. مثال ذلك:

سمع الناس - ذات مرة - وهم جلوس عند الرسول صلى الله عليه وسلم دوياً هائلاً فقال الرسول e موضحاً الحدث: ((ان هذا صوت حجر ظل يتدحرج سبعين عاماً حتى وصل الآن الى قعر جهنم))(1)... ولم تمض ساعة حتى جاء الجواب، اذ أتى أحدهم يقول: ان المنافق المشهور الذي ناهز السبعين من عمره قد مات وولّى الى جهنم وبئس المصير، فكان هذا تأويلاً للتشبيه البليغ الذي ذكره الرسول e .

l الاساس الثالث

ان الآثار المنقولة إن كانت متواترة فهي قطعية الثبوت وتفيد اليقين. والتواتر قسمان:

الأول: التواتر الصريح، أو التواتر اللفظي.

الثاني: التواتر المعنوي وهذا قسمان:

الأول: سكوتي؛ أي ابداء الرضا بالسكوت عنه. مثال ذلك:

لو أخبر شخصٌ جماعته عن حادثة وقعت أمامهم ولم يكذّبوه في خبره بل قابلوه بالسكوت، فان ذلك يعني قبولهم لوقوعها، ولاسيما اذا كانت الحادثة المروية ذات علاقة بالجماعة، والجماعة مستعدة للانتقاد والرد والتجريح، وممن لا يقبلون بالخطأ أصلاً، بل يرون الكذب أمراً قبيحاً بشعاً، فان سكوتهم عنها يدل على وقوع تلك الحادثة دلالة قاطعة.

القسم الثاني من التواتر المعنوي: هو اتفاقهم على القدر المشترك بين أخبارهم وان كانت الروايات متنوعة. مثال ذلك:

اذا قيل ان أوقية من الطعام أشبعت مائتي رجل. فالذين حدّثوا بهذا يروونه في صور متنوعة وبعبارات مختلفة متباينة. فهذا ذكر مائة رجل وذاك ثلاثمائة رجل والآخر أوقيتين من الطعام وهكذا. فترى ان الجميع متفقون على وقوع الحادثة، وهو ان الطعام القليل أشبع أناساً كثيرين. فالحادثة اذن بشكلها المطلق متواترة معنىً، وهي تفيد اليقين، ولا تضرّ بها صور الاختلاف. وفي بعض الاحيان يفيد خبر الآحاد ضمن بعض الشروط حكم القطعي كقطعية التواتر، وقد يفيد القطعية احياناً تحت امارات خارجية.

وهكذا، فالقسم الأعظم مما نقل الينا من دلائل النبوة ومعجزات الرسول e هو: بالتواتر الصريح أو المعنوي أو السكوتي، وقسم منها بخبر الآحاد، الاّ انه ضمن شروط معينة ممحّصة اُخذ وقُبل من قبل أئمة الجرح والتعديل من أهل الحديث النبوي فاصبحت دلالته قطعية كالتواتر. ولاشك اذا ما قبل بصحة خبر الآحاد محدِّثون محققون من أصحاب الصحاح الستة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم وهم الحفاظ الجهابذة الذين كانوا يحفظون ما لا يقل عن مائة ألف حديث، واذا ما رضى به ألوف من الأئمة العلماء المتقين، ممن يصلون صلاة الفجر بوضوء العشاء زهاء خمسين سنة من عمرهم. أقول: اذا ما قَبِل هؤلاء بصحة خبر الآحاد، فلا ريب اذاً في قطعيته ولا يقلّ حكمُه عن التواتر نفسه.

نعم، ان علماء علم الحديث ونقّاده قد تخصصوا في هذا الفن الى درجة انهم اكتسبوا مَلَكَةً في معرفة سمو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وبلاغة تعابيره، وطراز افادته، فاصبحوا قادرين على تمييزه عن غيره، بحيث لو رأوا حديثاً موضوعاً بين مائةٍ من الأحاديث لرفضوه قائلين: هذا موضوع!. هذا لا يمكن ان يكون حديثاً شريفاً! فقد أصبحوا كالصيارفة الـبـارعين الأصـلاء يـعرفون جوهـر الحديث النــبوي من الدخيل فيه.

بيد ان قسماً من المحققين قد أفرط في نقد الحديث كابن الجوزي الذي حكم على أحاديث صحيحة بالوضع(1). علماً أن ((الموضوع)) يعني: ان هذا الكلام ليس بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعني انه باطل وكلام فاسد.

سؤال: ما فائدة السند الطويل: عن فلان.. عن فلان.. عن فلان.. حيث لا جدوى من ذكرهم في حادثة معلومة؟.

الجواب: فوائده كثيرة، اذ ان ذكر هذا السند الطويل يبين نوعاً من الاجماع فيمن هم في السند من الموثوقين الصادقين من الرواة الذين يعتّد بهم، فيظهر لنا نوعاً من الأتصال والاتفاق لأهل العلم المحققين في ذلك السند، فكأنما كلّ أمامٍ وعلامة في السند يوقّع على حكم ذلك الحديث الشريف ويختم على صحته بختمه.

سؤال: لماذا لم تُنقل ((المعجزات)) باهتمام بالغ مثلما نُقلَت الأحكام الشرعية الضرورية الأخرى نقلاً متواتراً وبطرق متعددة؟.

الجواب: لأن معظم الناس في أغلب الأوقات محتاجون حاجة ماسة الى الاحكام الشرعية، فهي ((كفروض عين)) لهم، لما لها من علاقة بكل شخص. بينما المعجزات لا يحتاجها كل انسان كل حين. حتى لو فرضنا الحاجة اليها، فيكفي سماعها مرة واحدة، فهي ((كفروض كفاية)) اذ يكفي ان يعلم بها عادةً قسمٌ من الناس.

ولهذا السبب قد يحدث ان نرى وقوع أحدى المعجزات ثابتاً بقطعيةٍ أقوى من قطعية ثبوت حكم شرعي أضعافاً مضاعفة، الاّ ان راويها شخص واحد أو شخصان، بينما يكون عدد رواة ذلك الحكم الشرعي عشرة أو عشرين.

l الاساس الرابع

ان قسماً من حوادث المستقبل الذي أخبر عنه الرسول e هو حوادث كليّة، تتكرر في أوقات مختلفة، وليس بحادثة جزئية مفردة. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يُخبر عن تلك الحادثة الكلية بصورة جزئية مبيناً بعض حالاتها، حيث ان لمثل هذه الحادثة الكلية وجوهاً كثيرة، فيبين صلى الله عليه وسلم في كل مرة وجهاً من وجوهها. ولكن لدى جمع هذه الوجوه من قبل راوي الحديث في موضع واحد، يبدو هناك ما يشبه الخلاف للواقع. مثال ذلك:

هناك روايات مختلقة حول ((المهدي)) تتباين فيها التفاصيل والتصويرات. وقد أخبر الرسول e عن ظهور المهدي مستنداً الى الوحي، ليصون قوة أهل الأيمان المعنوية في كل عصر، وليحول دون سقوطهم في اليأس والقنوط ازاء ما يرونه من حوادث مهولة، وليربط الأمة ربطاً معنوياً بالسلسلة النورانية لآل البيت. وقد أثبتنا ذلك في أحد اغصان الكلمة الرابعة والعشرين. ومن هنا ترى أن كل عصر من العصور قد وجد نوعاً من ((المهدي)) من آل البيت كالذي يظهر في آخر الزمان، بل مهديين، حتى وجد في المهدي العباسي - الذي يعدّ من آل البيت - كثيراً من أوصاف ذلك المهدي الكبير.

وهكذا، فاوصاف الذين يسبقون المهدي الكبير ممن يمثّلونه في عهودهم - كالخلفاء المهديين والأقطاب المهديين - اختلطت وتداخلت مع أوصاف ذلك المهدي الكبير. فوقع الاختلاف في الروايات(1).

l الاساس الخامس

لم يكن الرسول الأعظم e يعلم الغيب ما لم يُعلّمه الله سبحانه، اذ لا يعلم الغيب الاّ الله فهو e يبلغ الناس ما علـّمه الله اياه. وحيث ان الله حكيم ورحيم، فحكمته ورحمته تقتضيان ستر أغلب الأمور الغيبية وابقاءها في طي الخفاء والابهام، لأن ما لا يسرّ الانسان من حوادث في هذه الدنيا هو اكثر مما يسره، فمعرفته تلك الحوادث قبل وقوعها أليم جداً.

فلأجل هذه الحكمة ظل الموت والأجل مبهَمَين مستورين عن علم الانسان، وبقي ما سيصيب الانسان من مصائب ونكبات محجوباً في ثنايا الغيب، فكان من مقتضى هذه الحكمة الربانية والرحمة الإلهية الاّ يُطلع سبحانه نبيَّه e اطلاعاً كلياً ومفصلاً على ما سيلقاه آلُه وصحبه وامته من بعده من حوادث مؤلمة ومصائب مفجعة، بل أخبره سبحانه عن بعضٍ من الحوادث المهمة - بناء على حِكَم معينة - إخباراً غير مفجع، رفقاً بما يحمله من رحمة عظيمة ورأفة شديدة نحو أمته وتجاه آله واصحابه. كما انه سبحانه قد بشّره بحوادث مفرحة أيضاً بشارةً مجملة لبعضها ومفصلةً للاخرى(1) فأخبر e أمته بما علّمه ربُّه ونقله المحدّثون الصادقون العدول بروايات صحيحة الينا، اولئك الذين كانوا أشد تقوى وخشية من ان يصيبهم الزجر المخيف في قوله e : ((مَن كَذب عليَّ مُتعمـّداً فَلْيَتبوأ مَقعدَه من النار))(2) والذين كانوا يهربون خوفاً من ان تنالهم الآية الكريمة: } فَمَنْ أظْلمُ ممّن كَذَبَ على الله{ (الزمر:32).



l الاساس السادس

ان احوال الرسول e واوصافه قد بُيّنت على شكل سيرة وتاريخ. الا ان اغلب تلك الاحوال والاوصاف تعكس بشريته فحسب، اذ ان الشخصية المعنوية لتلك الذات النبوية المباركة رفيعة جداً وماهيته المقدسة نورانية الى حدّ لا يرقى ما ذُكر في التاريخ والسيرة من اوصاف واحوال الى ذلك المقام السامي والدرجة الرفيعة العالية، لأنه e في ضوء قاعدة ((السبب كالفاعل)) تضاف يومياً - حتى الآن - الى صحيفة كمالاته عبادةٌ عظيمة بقدر عبادات امته بأكملها. وكماينال باستعداد غير متناه نفحات الرحمة الإلهية غير المتناهية بشكل غير متناهٍ وبقدرة غير متناهية، كذلك ينال يومياً دعاءً غير محدود ممن لا تحد من امته.

هذا النبي المبارك e الذي هو انبل نتائج الكائنات واكمل ثمراتها والمبلّغ عن خالق الكون، وحبيب رب العالمين، لا تبلغ احوالُه واطوارهُ البشرية التي ذكرَتْها كتب السيرة والتاريخ الاحاطة بماهيته الكاملة ولا تصل الى حقيقة كمالاته. فأنّى لهذه الشخصية المباركة الذي كان كلُّ من جبرائيل وميكائيل مرافقين امينين(1) له في غزوة بدر ان تنحصر في حالة ظاهرية أو ان تظهرها بجلاء حادثة بشرية كالتي وقعت مع صاحب الفرس الذي ابتاع e الفرس منه ولكنه أنكر هذا البيع وطلب من الرسول الكريم شاهداً يصدّقه فتقدم الصحابي الجليل ((خزيمة)) بالشهادة له(2).

فلئلا يقع أحدٌ في غائلة الخطأ يلزم من يسمع اوصافه e البشرية الاعتيادية ان يرفع بصره دوماً عالياً لينظر الى ماهيته الحقيقية، والى شخصيته المعنوية النورانية الشامخة في قمة مرتبة الرسالة، وإلاّ أساء الادب، ووقع في الشبهة والوهم.

ولإيضاح هذه المسألة تأمل في هذا المثال:

نواة للتمر وضعت تحت التراب فانفلقت عن نخلة مثمرة باسقة، وهي في توسع ونمو مطرد، أو بيضة للطاووس فقست عن فرخ الطاووس بعدما سلطت عليها الحرارة، وكلما نما وكبر اصبح اجمل وازهى، بما زيّن قلمُ القدرة على كل جهاته من نقوش بديعة رائعة.

فهناك صفات وحالات خاصة تعود لكل من تلك النواة ولتلك البيضة، ويحوي كل منهما مواد دقيقة لطيفة جداً. والنخلة والطاووس كذلك لهما صفات عالية وكيفيات واوضاع راقية بالنسبة لصفات البذرة والبـيضة. فعندما تُربط اوصاف النواة والبيضة بأوصاف النخل والطير وتُذكران معاً، يلزم ان يرفع العقل الانساني بصره عن النواة الى النخلة وينظر اليها، وان يتوجه من البيضة الى الطاووس ويمعن فيه، كي يقبل تلك الاوصاف التي يسمعها. وبخلافه ينساق الى التكذيب حين يسمع احدهم يقول: ((لقد اخذتُ طناً من التمر من حفنة من النوى، او هذه البيضة هي سلطان الطيور)).

وهكذا فان بشرية الرسول الاكرم e تشبه تلك النواة أو البيضة ((في المثال)) وماهيته المشعة بمهمة الرسالة مثلُها كمثل شجرة طوبى الجنة وطير الجنة في سمو ورقي.

لذا في الوقت الذي نفكر في النزاع الذي حصل في السوق مع البدوي، يلزم ان نرفع عين الخيال عالياً ونتصور الذات النورانية الممتطية الرفرف ((البُراق)) والمنطلقة سعياً الى قاب قوسين أو أدنى، تاركة خلفها جبريل عليه السلام. وإلاّ فان النفس الامارة بالسوء إما ستسئ الادب وتنحط الى درك قلة التوقير والاحترام، أو تزل قدماها الى عدم التصديق.

الاشارة البليغة الخامسة

وهي تخص الحوادث المتعلقة بامور غيبية، نذكر منها بضعة أمثلة:

المثال الاول:

T قال رسول الله e في خطبةٍ بين جمع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ونقل الينا الحديث نقلاً صحيحاً ومتواتراً: ((ان إبني هذا سَيّدٌ ولَعلّ الله انْ يُصلحَ به بين فِئَتين من المسلمين))(1) وفي رواية ((عظيمتين)). وبعد مرور أربعين سنة التقى جيشان عظيمان للمسلمين، فصالح الحسنُ معاوية رضى الله عنهما، وصدَّق بهذا الصلح المعجزةَ الغيبية لجدِّه الأمجد e .

المثال الثاني:

T ثبت بنقل صحيح انه e قال لعلي رضى الله عنه:ستقاتل الناكثين(2) والقاسطين والمارقين(3). فأخبر عن وقعة الجمل وصفين وعن الخوارج.

T وقال e للزبير: ((لتقاتلُنَّه وانتَ ظالمٌ له))(4) عندما رآه وعلياً يتحابّان.





T وقال e لأزواجه الطاهرات: ((كيف بأحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب))(1) ((يُقتَل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة..))(2).

وبعد ثلاثين سنة تحققت هذه الأحاديث الصحيحة فعلاً، وذلك في وقعة الجمل التي جرت بين عليّ وعائشة ومعها الطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، كما تحققت في وقعة صفين التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقد تحققت في وقعة حروراء ونهروان التي كانت بين عليّ رضي الله عنه والخوارج.

T وأخبر e علياً عن الذي يقتله فقال: ((الذي يضربك يا عليّ على هذه حتى تبلّ منها هذه))(3) اي تبلّ لحيته من دم رأسهِ وكان عليّ يعرفه، وهو عبدالرحمن بن ملجم الخارجي.

T وأخبر كذلك عن ذي الثُدية بعلامة فارقة فيه، انه سيكون بين قتلى الخوارج وفعلاً كان ذو الثدية فيهم وهو ((رجل أسود أحدى عضدية مثل ثدي المرأة)) فجعله عليٌّ حجةً على انه المُحِقُّ، وأعلن عن معجزة الرسول الاكرم e .(4)

T وأخبر e برواية صحيحة عن أم سلمة وغيرها: ان الحسين يُقتَل بالطَّفْ(1) أي في كربلاء. وبعد خمسين سنة وقعت تلك الفاجعة الأليمة، فصدّقت ذلك الاخبار الغيبي.

T وأخبر e : ((ان أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً))(2)، فكان كما أخبر.

T T T

هنا يرد سؤال مهم:

يُقال: ان علياً رضي الله عنه كان أحرى بالخلافة وأولى بها، فهو ذو قرابة مع النبي e ، وذو شجاعة نادرة خارقة، وذو علم غزير.. فلماذا لم يُقدَّموه في الخلافة؟ ولماذا اضطربت أحوال المسلمين في عهده؟.

الجواب: لقد قال قطب عظيم من آل البيت: كان الرسول e قد تمنّى ان يكون عليّ هو الخليفة، ولكن اُعلِم من الغيب أن إرادة الله غير هذا، فتخلى عن رغبته تبعاً لما يريده الله سبحانه وتعالى.

وفيما يأتي حكمةٌ واحدة مما تنطوي عليه ارادة الله تعالى في هذا الأمر:

كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أحوج الى الاتفاق والاتحاد بعدما ارتحل النبي e الى الرفيق الأعلى، فلو كان عليّ رضي الله عنه قد تولّى الخلافة، لكان هناك احتمال قوي ان تثير اطواره المتسمة بعدم مسايرة الآخرين واستقلالية آرائه مع زهده الشديد وبسالته النادرة واستغنائه عن الناس فضلاً عن شجاعته الفائقة، فتحرِّك - هذه المزايا - عرق المنافسة لدى كثير من الأشخاص والقبائل، فتنجم الفرقة بين صفوف المسلمين، مثلما حدث في عهد خلافته من حوادث وفتن.

أما سبب تأخر خلافة عليّ رضي الله عنه فان احد أسبابه هو ما يأتي:

لقد هبّت أعاصير الفتن في أوساط أمة الاسلام التي تضم أقواماً متباينة في الفكر والتي يحمل كلٌّ منها بذور الفرقة الى ثلاث وسبعين فرقة - مثلما أخبر بذلك الرسول e (1) - فكان ينبغي وجود شخصية قوية فذة، مهيبة الجانب، ذات شجاعة فائقة وفراسة نافذة ونسب عريق أصيل من أهل البيت ومن بني هاشم، كي يَثْبُت أمام هذه الفتن. فمثل هذه الشخصية الفذة، كانت تتمثل في علّي رضي الله عنه، فثبت فعلاً أمام تلك الأعاصير الهوجاء.. ولقد أخبره الرسول e بذلك أنه سيحارب في سبيل تأويل القرآن كما حارب هو e في سبيل نزوله(2). ثم انه لولا علي رضي الله عنه لربما كانت سلطنة الدنيا تعصف بالأمويين وتفتنهم كلياً، وتزلّهم عن الصراط السوى، ولكن لأنهم كانوا يرون ازاءهم علياً وآل البيت، فقد حاولوا ان يبلغوا شأوهم ويوازوهم في مكانتهم لئلا يفقدوا منزلتهم في نظر الأمة، فاضطر أغلبُ رؤساء الدولة الأموية الى حضّ اتباعهم على القيام بحفظ حقائق الايمان ونشرها وصيانة أحكام القرآن والإسلام رغم أنهم لم يفعلوا شيئاً بأنفسهم، لذا نشأت في ظل دولتهم مئات الألوف من العلماء المحققين المجتهدين وائمة الحديث والأولياء الصالحين والأصفياء والعاملين، فلولا كمالات يتصف بها آل البيت وصلاحهم وولايتهم لله لزلّ الأمويون وابتعدوا كلياً عن طريق الصواب، كما آل اليه أمرهم في أواخر أيامهم، وكما حدث في أواخر أيام العباسيين.

واذا قيل:

لماذا لم تستقر الخلافة في آل البيت، علماً انهم كانوا أحق بها؟

الجواب: ان سلطنة الدنيا خدّاعة، بينما أهل البيت مكلفون بالحفاظ على حقائق الإسلام واحكام القرآن. وينبغي لمن يتسلم زمام الخلافة الاّ تغره الدنيا، كأن يكون معصوماً كالنبي، أو يكون عظيم التقوى عظيم الزهد كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز والمهدي العباسي لئلا يغتر. فسلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت، اذ تنسيهم وظيفَتهم الاساس؛ وهي المحافظة على الدين وخدمة الاسلام. وخلافة الدولة الفاطمية التي قامت باسم آل البيت في مصر، وحكومة الموحدين في أفريقيا، والدولة الصفوية في إيران، كل منها غدت حجة على ان سلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت. بينما نراهم متى ما تركوا السلطنة، فقد سعوا سعياً حثيثاً وبذلوا جهداً منقطع النظير في خدمة الإسلام ورفع راية القرآن.

فان شئت فتأمل في الأقطاب الذين أتوا من سلالة الحسن رضي الله عنه، ولا سيما الأقطاب الأربعة، وبخاصة الشيخ الكيلاني. وان شئت فتأمل في الأئمة الذين جاءوا من سلالة الحسين رضي الله عنه، ولا سيما زين العابدين وجعفر الصادق وأمثالهم..

فكلٌ من هؤلاء قد أصبح بمثابة مهدي معنوي، بدّدوا الظلم والظلمات المعنوية بنشرهم أنوار القرآن وحقائق الأيمان، واثبتوا حقاً أنهم وارثو جدهم الأمجد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فان قيل: ما حكمة تلك الفتنة الدموية الرهيبة التي اصابت الأمة الاسلامية في عصر الراشدين وخير القرون، حيث لا يليق باولئك الابرار القهر ونزول المصائب وأين يكمن وجه الرحمة الإلهية فيها؟

الجواب: كما ان الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف في الربيع تثير كوامن قابليات كل طائفة من طوائف النباتات وتكشفها فتنثر البذور وتطلق النوى، فتتفتح أزهارها الخاصة بها، ويتسلم كلٌّ منها مهمته الفطرية، كذلك الفتنة التي أبتلي بها الصحابةُ الكرام والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين، أثارت بذور مواهبهم المختلفة، وحفّزت نوى قابلياتهم المتنوعة، فانذَرتْ كلَّ طائفةٍ منهم وأخافتهم من أن الخطر مُحدقٌ بالاسلام، وان النار ستنشب في صفوف المسلمين؛ مما جعل كلَّ طائفة تهرع الى حفظ الدين والذود عن حياض الإيمان، فأخذ كلٌ منهم على عهدته مهمةً من مهمات حفظ الايمان وجمع شمل الاسلام، كلٌ حسب قابليته، فانطلق بكل جدٍ واخلاص في هذا السبيل. فمنهم من قام بحفظ الحديث النبوي الشريف، ومنهم من قام بحفظ فقه الشريعة الغراء، ومنهم من قام بحفظ العقائد والحقائق الايمانية، ومنهم من قام بحفظ القرآن الكريم.. وهكذا انضوت كلُّ طائفة تحت مهمةٍ وواجب من الواجبات التي يفرضها حفظ الايمان وصيانة الأسلام، وسَعَتْ في سبيل اداء مهمتها سعياً حثيثاً، فتفتحت من البذور التي نشرتها تلك الأعاصير الهوجاء العنيفة في الارجاء، زهورٌ بهيجة بالوان زاهية شتى في عالم الاسلام، حتى غدا العالم الاسلامي رياضاً يانعة بالورود والرياحين. الاّ انه - للأسف - ظهرت بين تلك الرياض البديعة أشواكُ اهل البدع ايضاً. وكأن يد القدرة الإلهية قد خضَّتْ ذلك العصر بجلال وهيبة، وادارته بشدة وعنف، فأثارت الهمم وألهَبت المشاعر لدى أهل الهمة والغيرة، فبعثت تلك الحركة المنطلقة عن المركز؛ كثيراً من أئمة المجتهدين والمحدّثين والحفاظ والأصفياء والأقطاب الأولياء الى أنحاء العالم الأسلامي وألجأتهم الى الهجرة. وهيّجت المسلمين شرقاً وغرباً وفتحت بصيرتهم ليغنموا من كنوز القرآن وخزائنه. والآن لنرجع الى ما نحن بصدده.

ان ما أخبر عنه الرسول e من امور الغيب ووقع فعلاً كما أخبر، يبلغ الألوف بل يزيد، الاّ اننا نشير الى امثلة منها فقط، تلك التي اتفق على صحتها أصحاب الكتب الستة الصحيحة، وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، حتى ان كثيراً منها نقلت نقلاً متواتراً من حيث المعنى، واتفق العلماء وأهل التحقيق على صحة بعضها انه بمثابة التواتر الصريح.

T .. خرَّج أهلُ الصحيح والأئمة: ما أعلَمَ به e أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه وفتح مكة(1) وبيت المقدس(2) واليمن والشام والعراق(3).. وتُفتح خيبر وأخبر(1) عن ((قسمَتِهم كنوز كسرى وقيصر))(2) أكبر دولتين في العالم في ذلك العهد. ثم أنه e حينما كان يخبر بهذا الخبر الغيبي لم يقل: أظن، أحسب، ربما.. وانما أخبر عن علم يقيني كأنه واقع يراه.. وقد وقع كما أخبر، علماً انه عندما أخبر بهذا الخبر كان مأموراً بالهجرة، واصحابه قليلون، والعالم كله ومَن حول المدينة أعداء يحدقون من كل جانب.

T وفي رواية صحيحة، أخبر الرسول e مراراً: ((اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر))(3) فأفاد بهذا ان ابا بكر وعمر سيعمران بعده، وسيكونان خليفتين، وسيؤديان الخلافة حقها كاملاً بما يرضي الله سبحانه ورسوله. ثم ان ابابكر سيتولى الخلافة لفترة قصيرة، بينما عمر سيتولاها لمدة أطول، فضلاً عن انه سيقوم بكثير من الفتوحات.

T وقال الرسول e : ((ان الله زوى ليَ الأرضَ فرأيت مشارقها ومغاربها وان أمتي سيبلُغ مُلكاً ما زوي لي منها))(4)، وكان كما قال.

T واخبر e قبل غزوة بدر - في رواية صحيحة(5) - عن مصارع الكفار في بدر وأشار الى محال قتلهم ومصارع رؤسائهم: هذا مصرع ابي جهل، هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع أميّة، هذا مصرع فلان وفلان ((واعلم بانه سيقتل اُبي بن خلف))(6)، وكان كما أعلم.

T وثبت في الصحيح انه قال كمن يشاهد أصحابه وينظر اليهم في غزوة مؤتة، وهي على بُعدِ مسيرة شهر من حدود الشام: ((أخذ الرايةَ زيدٌ فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان.. حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))(1)، وبعد مرور بضعة أسابيع عاد يعلى بن مُنبّه من ساحة المعركة، وقبل ان يخبر عما جرى هناك بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دار في المعركة مفصلاً. فأقسم يعلى، وقال: ((والذي بعثك بالحق ما تركتَ من حديثهم حرفاً واحداً))(2).

T وفي رواية صحيحة انه e أخبر عن ان الخلافة بعده ثلاثون عاماً ثم تصير ملكاً عضوضاً(3)؛ ((وان هذا الامر بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم يكون ملكاً عضوضاً، ثم يكون عتواً وجبروتاً وفساداً في الأمة))(4)، فأخبر e عن مدة الخلافة الراشدة وهي؛ ثلاثون سنة، وتكمل هذه المدة بالأشهر الستة لخلافة الحسن رضي الله عنه، ثم تتعاقب السلطنة والجبروت وفساد الأمة، وفعلاً تحقق مثلما قال.

T وثبت برواية صحيحة ان سيدنا عثمان رضي الله عنه يُقتل وهو يقرأ المصحف(5)، وان الرسول e قد قال: ((ان الله عسى ان يلبسه قميصاً وانهم يريدون خلعه))(1) فكان كما قال.

T وفي رواية صحيحة أخرى أنه؛ عندما احتجم الرسول e شَرب عبد الله بن الزبير دمه الطاهر تبركاً، ولم يسكبه فقال له: ((ويلٌ للناس منك وويلٌ لك من الناس))(2) فأخبر بأن عبد الله سيتولى أمر الناس بشجاعة فائقة، وسيكون هدفاً لهجوم عنيف وستنزل بالناس بسببه نوائبٌ ومصائبٌ. وفعلاً وقع كما قال؛ حيث أعلن عبد الله بن الزبير الخلافة في مكة في عهد الأمويين وحاصره الحجاج بن يوسف الظالم بجيش عظيم في مكة، وبعد قتال عنيف وبسالة نادرة ومعارك دامية سقط شهيداً.

T وأخبر e ((بمُلك بني أمية))(3) أي بظهور الدولة الأموية ((وولاية معاوية، ووصّاه)) لما قال له: اذا ملكت فاسجح أو فأنصح(4) وأخبر عن ((اتخاذ بني أمية مال الله دولاً))(5) وسيكون ملوكها ورؤساؤها ظلمة، وسيظهر منهم أشخاص أمثال يزيد(6) والوليد.

T كما أخبر e عن ((خروج وَلد العباس بالرايات السُّود ومُلْكِهم أضعاف ما مَلكوا))(1) من ان الدولة العباسية ستظهر بعد الأمويين، وسيظلون في الحكم مدة أطول. وتحقق كل ذلك فعلاً كما أخبرe .

T وثبت في الصحيح أنه قال: ((ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتَرب))(2) فأخبر بفتن جنكيزخان وهولاكو، وتدميرهم الدولة العباسية العربية، وقد تحقق فعلاً كما قالe .

T وقال لسعد بن أبي وقاص في رواية صحيحة، حينما كان في مرض شديد: ((لعلك تُخلـِّفُ حتى ينتَفعَ بكَ أقوامٌ، ويستضرَّ بك آخرون))(3) فأخبر e أنه سيكون قائداً عظيماً، وسيفتح الله بيده بلداناً وينتفع به أقوام كثيرة بدخولهم حظيرة الاسلام، ويتضرر به آخرون حيث تنقرض دولتهم. وقد كان كما قال؛ اذ أصبح سعد قائداً للجيش الأسلامي ودمّر دولة الفرس وصار سبباً في دخول كثير من الأقوام والملل في حوزة الأسلام.

T وثبت كذلك أنه e ((نعى النجاشي(4) في اليوم الذي مات فيه))، في السنة السابعة من الهجرة، وصلّى عليه، وبعد مرور اسبوع جاء الخبر بأنه توفي في اليوم الذي أخبر فيه الرسول e .

T وقال e : ((اُثبت فانما عليك نبي وصديق وشهيد))(5) عندما كان e مع

صفوة من الصحابة الكرام على جبل اُحد - أو على حراء(1) - واهتزّ الجبل من تحتهم، فأفاد أن عمر وعثمان وعلي سيستشهدون، فكان كما قال.



T T T



أيها الضعيف ويا من مات قلبه ويا أيها الشقي!.

لعلك تقول ان محمداً e كان عبقرياً، فعرف بعبقريته هذه الأمور الغيبية وتغمض عينك عن حقيقة النبوة الساطعة كالشمس!.

أيها المسكين! ان ما سمعتَه ليس الاّ جزء من خمسة عشر نوعاً من الأنواع الكلية لمعجزاته e وقد علمتَ انها جميعاً ثابتة بروايات صحيحة وبتواتر معنوي. وانت لم تسمع بعدُ الاّ نبذةً يسيرة مما يتعلق بالامور الغيبية.. أفبعد ما يسمع الانسان هذه المعجزات يقول لصاحبها: انه عبقري يكشف المستقبل بفراسته؟.

هب اننا قلنا مثلك: انه عبقري! أفيمكن ان تلتبس الرؤية على من يملك مئات الأضعاف من الذكاء المقدس والعبقرية السامية؟ وهل يمكن لمثل هذه الشخصية السامية ان تهبط من سموها الصادق فيخبر أخباراً عارية عن الصحة؟ أليس جنوناً وبلاهةً ما بعدها بلاهة الاعراضُ عما تخبر به هذه العبقرية الفذة حول سعادة الدارين!؟.

الاشارة البليغة السادسة

T ثبت انه e أخبر فاطمة: أنها ((أول أهله لحوقاً به))(1).. أي أول من يموت بعده e فيتبعه من أهل البيت. وبعد ستة أشهر وقع ما قال.

T وثبت أيضاً أنه e : ((اخبر أبا ذر رضي الله عنه بتطريده)) أي من المدينة المنورة ((وبعيشه وحده وبموته وحده))(2)، وبعد عشرين سنة وقع الأمر كما أخبر.

T وأيضاً انه e استيقظ من النوم في بيت أم حرام (خالة أنس بن مالك فتبسم قائلاً: ((ناسٌ من امتي عرضوا عليّ غزاةً في سبيل الله يركبون ثَبجَ هذا البحر(3) ملوكاً على الأسرَّة، فقالت: ادع يا رسول الله ان اكون معهم، فدعا لها))(4). وبعد أربعين سنة اصطحبت زوجها عُبادة بن الصامت لفتح قبرص وتوفيت هناك. وقبرها الآن هناك معروف يزار.

T وثبث انه e قال: ((ان في ثقيف كذّاباً ومُبيراً))(5) فاخبر عن المختار المشهور الذي إدّعى النبوة، وسفاك الدماء الحجاج الظالم الذي قتل مائة ألف نفس(1).

T وثبت ايضاً انه e قال: (( لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش))(2) فأفاد بهذا انه ستَفتح مدينة استانبول بيد المسلمين، وسيكون لمحمد الفاتح مرتبة عالية: ((نِعمَ الأمير)). وظهر الأمر كما قال.

T و ثبت كذلك أنه e قال: ((ان الدِّين لو كان منوطاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارس))(3) مشيراً الى الذين أنجبتهم بلاد فارس من العلماء والأولياء أمثال الأمام ابي حنيفة النعمان.

T وقال e أيضاً: ((عالمُ قريش يَملأ طباق الأرض علماً))(4)، مشيراً بذلك الى الامام الشافعي.

T وأخبر e : ((أن الأمة ستفترق الى ثلاث وسبعين فرقة وان الناجية منها أهل السنة والجماعة))(5).

T وقال e : ((القَدَرية مجوس هذه الأمة))(6)، مشيراً بذلك الى طائفة القدرية المنكرين للقَدر، والتي هي منقسمة الى شعب وفرق كثيرة.

T وكذا أخبر عن فرق كثيرة، اذ ثبت انه قال لعلي ما معناه: ان مثلك مثل عيسى عليه السلام، ستكون سبباً في هلاك فئتين من الناس: احداهما من فرط المحبة والاخرى من فرط العداوة(1). حيث افرط النصارى في حب عيسى عليه السلام حتى تجاوزوا الحد المشروع فيهلكون وقالوا: انه ابن الله ــ حاش لله ـ واليهود أيضاً أفرطوا في العداوة له فانكروا نبوته ومنزلته الرفيعة. وكذلك سيفرط فريق من الناس في الحب لك ويتعدّون الحدّ المشروع فيهلكون، اذ قال e في حقهم: ((لهم نبزٌ يُقال لهم الرافضة))(2)، وفريق آخر سيفرطون في العداء لك وهم (الخوارج وقسم من المغالين في موالاة الأمويين وهم (الناصبة ).

فان قيل:

ان القرآن الكريم يأمر بحب آل البيت، وقد حث النبي e على ذلك، فلربما يشكّل هذا الحب عذراً، حيث ان أهل الحب أهل انتشاء وسكر ـ أي ذاهلون ـ فَلِمَ لا تَنتفع الشّيعة ولا سيما الرّافضة من هذا الحب ولا ينقذهم من العذاب، بل نرى العكس من ذلك فانهم يدانون من فرط الحب كما أشار اليه الحديث الشريف؟!.

الجواب: ان الحب قسمان

أحدهما: حب (بالمعنى الحرفي) وهو حب عليّ والحسن والحسين وآل البيت محبة لله وللرسول وفي سبيلهما. فهذا الحب يزيد حب الرسول e ويكون وسيلة لحب الله عز وجل فهذا الحب مشروع، لا يضر افراطُه، لانه لا يتجاوز الحدود ولا يستدعي ذم الغير وعداوته.

وثانيهما: حب (بالمعنى الاسمي) وهو حبهم حباً ذاتياً، ولأجلهم، اي حب عليّ من أجل شجاعته وكماله، وحب الحسن والحسين من أجل فضائلهما ومزاياهما الكاملة فحسب، من غير تذكّر للنبي e ، حتى ان منهم من يحبهم ولو لم يعرف الله ورسوله. فهذا الحب لا يكون وسيلةً لحب الله ورسوله. واذا ما كان في هذا الحب افراط فانه سيفضي الى ذم الغير وعداوته.

وهكذا أفرط منهم ـ كما ذكر في الحديث الشريف ـ في الحب لعليّ وتبرأوا من أبي بكر وعمر، فوقعوا في خسارة عظيمة. فكان هذا الحب السلبي ـ غير الايجابي ـ سبباً لخسارتهم .

T ونقل نقلاً صحيحاً انه e حذّر الأمة من أنهم ((اذا مشوا المُطَيطاء(1) وخَدَمَتْهم بناتُ فارس والروم ردَّ الله بأسَهُم بينهم وسلّط شِرارَهم على خِيارِهم))(2). وبعد ثلاثين سنة وقع الأمر كما قال.

T وثبت كذلك انه e أعلَمَ أصحابه: ((بفتح خيبر على يَدي عليّ))(3). وفي غد يومه وقعت المعجزة النبوية ـ فوق ما كان يُتوقع ـ فأخذ عليّ باب القلعة بيده وجعله ترساً. ولما تم أمر الفتح رماه في الأرض، وكان الباب عظيماً، حتى انه لم يستطع ثمانية رجال ـ وفي رواية اربعون رجلاً ـ رفعه من الارض(4).

T وقال e : ((لا تقومُ الساعةُ حتى تَقتَتِلَ فئتان عظيمتان دعواهُما واحدة))(1) فأخبر عن الحرب التي وقعت في صفين بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما.

ومما أخبر به e : ((ان عماراً تَقتُلُه الفئةُ الباغية"))(2)، وبعد ذلك قُتل في حرب صفين. فاحتج علي به من ان الموالين لمعاوية هم الفئة الباغية، ولكن معاوية أوّل الحديث. وقال عمرو بن العاص: البغاة هم قاتلوه فقط، ولسنا جميعاً بغاة.

وقال e أيضاً: ((ان الفتنَ لا تَظهر ما دام عمر حياً))(3). فكان الأمر كما أخبر.

T ((ولما اُسِرَ سُهيل بن عمرو ـ قبل اسلامه ـ يوم بدر قال عمر: يا رسول الله انه رجل مفوّه فَدَْعني انتزع ثنيتيه السفليتين، فلا يقوم خطيباً عليك بعد اليوم))، فقال رسول الله e : ((وعسى ان يقومَ مقاماً يَسرُّك يا عمر))(4). فكان كذلك اذ حينما وقعت وفاة النبي e ، تلك الحادثة العظمى التي كلَّ الصبرُ فيها، قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه مُعزّياً المسلمين في المدينة المنورة ومثبّتاً قلوبَ الصحابة فخطب فيهم خطبة بليغة. وقام سهيل أيضاً في مكة المكرمة يحذو حذو أبي بكر، فالقى خطبة شبيهة بخطبة أبي بكر، حتى ان كلمات الخطبتين تواردت على معنى واحد، الى حدٍ ما.

T وقال الرسول e لسُراقة: ((كيف بك اذا اُلبستَ سوارَيْ كسرى))(5) وفي عهد عمر رضي الله عنه سقطت دولة كسرى وجاءت زينة كسرى وحليه فألبسها عمرُ سراقةَ وقال: ((الحمد)) الذي سَلَبهما كِسرى والْبَسهما سُراقةَ(1) وصدّق ما أخبر به النبي e .

T وقال أيضاً e : ((اذا هَلكَ كسرى فلا كسرى بعدَه(2))) فكان الأمر كما أخبر.

T وأخبر e رسولَ كسرى: ((ان الله سلّط على كسرى ابنَه شهَرَوَيه فقَتَله في وقت كذا..))(3) فلما حقق ذلك الرسول وقتَ مقتل كسرى، ايقنَ ان قتلَه كان في نفس الوقت الذي أخبر عنه e فأسلم بسبب ذلك. واسمُ ذلك الرسول ((فيروز)) كما ورد في بعض الروايات

T وأخبر عن كتاب حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسله سراً الى كفار قريش. فأرسلe علياً والمقداد رضي الله عنهما بأن في الموضع الفلاني جارية معها رسالة. فأتوني بها، فذهبا واتيا بالرسالة في المكان الذي وصفه الرسول e ، واستدعى حاطباً وقال له: ما الذي حَمَلك على هذا؟ فابدى عذره فقَبِل منه(4). وهذه رواية صحيحة ثابتة.

T وثبت أيضاً انه e قال في عتبة ابن أبي لهب: ((يأكله كلبُ الله))(5) فأخبر عن عاقبته المفجعة، وبعد مدة من الزمن ذهب عتبة متوجهاً نحو اليمن فجاءه سبع وأكله. فصدّق دعاءه عليه.

T ونقل نقلاً صحيحاً: ((ان الرسول e لما فتح مكة أمر بلالاً رضي الله عنه بأن يعلو ظهر الكعبة ويؤذن عليها. وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وهم رؤساء قريش جلوس في فناء الكعبة. فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً اذ لم ير هذا اليوم. وقال الحارث: أما وَجَد محمدٌ مؤذناً غير هذا الغراب الأسود!

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، ولو تكلمتُ لأخْبَرَتْه هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي e وقال: لقد علمتُ الذي قلتُم وذكرَ مقالتهم.

فقال الحارث وعتاب: نشهدُ انكَ رسولُ الله، ما اطّلع على هذا أحدٌ كان معنا فنقول به))(1).

فيامن لا يؤمن بهذا النبي الكريم ويا أيها الملحد!

تأمل في هذين العنيدين من رؤساء قريش كيف رأيا نفسيهما مضطرَّين الى الايمان، بما سَمِعاه من أخبارٍ غيبي واحد. فما أفسد قلبك وانتَ تسمع ألوفَ المعجزات من امثالها وكلها ثابتة بطرق التواتر المعنوي ومع ذلك لا يطمئن قلبُك... فلنرجع الى الصدد.

T وثبت أيضاً انه e ((أخبر بالمال الذي تركه عمُّه العباس رضي الله عنه عند أم الفضل (زوجه) بعد أن كتمه))(2) ((فلما أسر ببدر وطُلبَ منه الفداء فقال: لا مال لي)). فقال له e : ما صنع المال الذي وضعتَه عند أم الفضل. فقال: ((ما عَلِمَه غيري وغيرُها. فأسلَمَ))(3).

T وثبت أيضاً: ان الساحر الخبيث لبيد اليهودي عمل سحراً ليؤذي النبي e فشدّ الشعر على مشط، ودسّه في بئر، فأمر الرسول الأكرم e علياً والصحابة؛ أن يذهبوا الى البئر الفلانية ويأتوا بأدوات السحر، فذهبوا وأتوا بها، وكان كلما انحلَّت منه عقدةٌ وَجَد الرسول e شيئاً من الخفة(4).

T وثبت أيضاً، ان الرسول الأكرم e قال لجماعة فيها أبو هريرة وحذيفة: ((ضرسُ احدكم في النار مثلُ اُحد))(1)، فأخبر عن ردّة واحدةمن تلك الجماعة وبيّن عاقبته الوخيمة. قال أبو هريرة: ((فذهب القوم ــ يعني ماتوا ــ وبقيتُ أنا ورجل، فقُتِل مرتداً يومَ اليَمامة))(2). وظهرت حقيقة خبر النبي e .

T وثبت أيضاً ((بقضية عُمَير مع صفوان حين سارَّه وشارَطَه على قتل النبي e )) مقابل مبلغٍ عظيمٍ من المال ((فلما جاء عُمير النبي e قاصداً لقتله، وأطْلَعَه رسول الله e على الأمر والسر ــ ووضع يده على صدره ــ أسلم))(3).

هذا وقد وقع كثيرٌ من أمثال هذه الأنباءات الغيبية الصادقة، وذكرتها كتب الصحاح الستة المعروفة مع أسانيدها. واغلب ما ذكر في هذه الرسالة من الحوادث انما هو في حكم المتواتر المعنوي، وهي قطعية الثبوت ويقينية، وقد نقلها البخاري ومسلم في صحيحَيهما اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن الكريم، على ما هو عليه أهل العلم والتحقيق، علماً أنها بُيّنَت في كتب السنن الصحيحة الأخرى كالترمذي والنسائي وابي داود ومستدرك الحاكم ومسند أحمد بن حنبل ودلائل البيهقي مع اسانيدها.

فيا أيها الملحد الغافل! لا تلق الكلام جزافاً فتقول:

ان محمداً e رجل عاقل ذكي! ثم تَدع الامر هكذا وتنصرف، فهذه الاخبار الصادقة التي تمس الامور الغيبية لا تخلو من أمرين اثنين؛ اما انك تقول: ان هذا الرجل له نظرٌ ثاقب وعبقرية واسعة جداً، أي له عينٌ بصيرة ترى الماضي والمستقبل معاً والعالم أجمع، فيعلم بها كل شيء وكل حادث، فاقطار الارض والعالم كله شرقاً وغرباً تحت نظر شهوده، وله من الدهاء العظيم ما يمكنه ان يكشف جميع أمور الماضي والمستقبل.! فهذه الحالة لا يمكن كما ترى ان تكون في بشر قط. واذا ما وقعت في اي فردٍ فهو اذاً خارق للعادة وله موهبة رفيعة منحها له ربُّ العالمين.. وهذا الامر بحد ذاته معجزة عظمى.. أو ينبغي لك أن تؤمن بأن ذلك الشخص الكريم مأمور وتلميذ يتلقى الارشاد والتعليمات ممن يرى كل شئ، وله القدرة بالتصرف في كل شئ في الكون كله والازمان جميعاً، فكل شيء مكتوب في لوحه المحفوظ، يعلّم منه تلميذه ما شاء متى شاء. فثبت اذاً ان محمداً e يتلقى الدرسَ من معلمه الأزلي سبحانه ويبلّغه كذلك.

T وثبت ايضاً انه e حينما بعث خالداً بن الوليد ليحارب اكيدر ـ رئيس دومة الجندل(1) ـ قال له: ((انك سَتَجده يَصيد البَقَر))(2) ـ اي البقر الوحشي ـ وأخبره بأنه سيأتي به أسيراً من غير مقاومة منه. وذهب خالد ورآه كما وصفه الرسول الكريم e فأخذه أسيراً وأتى به.

T وثبت أيضاً انه e أعلم ((قريشاً بأكل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها على بني هاشم وقطعوا بها رحمهم، وانها أبْقَت فيها كل اسمٍ لله، فوجدوها كما قال))(3)، وهي معلقة على الكعبة.

T وثبت أيضاً انه e أخبر عن ظهور الطاعون عند فتح بيت المقدس. ففي عهد عمر انتشر وباء الطاعون انتشاراً فظيعاً بحيث ان عدد الذين توفوا نتيجة الأمراض سبعون الف شخص خلال ثلاثة أيام(4).

T وثبت أيضا انه e أخبر عن وجود البصرة(1) وبغداد(2) قبل ان تعمُرا، وأخبر عن جبي خزائن الارض الى مدينة بغداد.

T وأخبرهم e عن ((قتالهم الترك))(3) والأمم التي حول بحر الخزر ثم بعد ذلك يدخل اكثر هؤلاء الامم في دين الاسلام، وسيحكمون العرب بينهم حيث قال: ((يوشَكُ ان يَكثُر فيكم العَجَم يأكلون فيئَكُم ويضربون رِقَابكم))(4).

T وقال e : ((هلاكُ أمتي على يدي اُغيلمةٍ من قريش))(5) فأخبر عن يزيد والوليد وأمثالهم من الرؤساء الأشرار في الأمويين.

T وأخبر e عن وقوع ردّة في بعض الاماكن كاليمامة(6).

T وقال في غزوة الخندق: ((ان قريشاً والأحزاب لا يغزونني أبداً وانا أغزوهم))(7) وكان الأمر كما أخبر.

T وثبت كذلك انه e أخبر قبل وفاته بشهرين: ((بأن عبداً خُيِّرَ فاختار ما عند الله))(8).

T وقال في حق زيد بن صوحان: ((يَسبقُهُ عضوٌ الى الجنة، فقُطعت يدهُ في الجهاد))(1) وأصبحت شهيدة، يوم نهاوند، فسبقته الى الجنة.



T T T



وهكذا فان جميع ما بحثناه من أمور الغيب انما هو نوع واحد فقط من بين عشرة أنواع من معجزاته e ، فنحن لم نعرف بعدُ عُشر معشار هذا النوع، وقد بينّا اجمالاً أربعة أنواع من الاخبار الغيبي في الكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن.

فتأمل الآن في هذا النوع، وضمّه الى الانواع الاربعة الاخرى التي أخبر عنهاe بلسان القرآن، وانظر كيف يشكل برهاناً قاطعاً لامعاً على الرسالة بحيث يذعن مَن لم يختل عقلُه وقلبُه ويصدّق بأن هذا النبي الكريم e انما هو رسول يخبر عن الغيب من لدن خالق كل شئ وعلام الغيوب.

عبدالرزاق 02-03-2011 02:03 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب التاسع عشر

تبيّن هذه الرسالة اكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزات الرسول الاكرم e الدالة على صدق رسالته، وهي في الوقت الذي تبيّنها تعلن عن نفسها ايضاً بأنها كرامة من كرامات تلك المعجزات، وعطية من عطياتها، فاصبحت هي بذاتها خارقة واضحة باكثر من ثلاثة وجوه:

الاول: ان تأليفها حَدَثٌ خارق بلا شك، حيث اُلـّفت من دون مراجعة لمصدر، اعتماداً على الذاكرة فقط رغم ما تشتمل عليه من روايات للاحاديث الشريفة في أكثر من مائة صحيفة. علاوة على أنها كُتبت في زوايا الجبال وبواطن الوديان والبساتين، خلال ما يقرب من اربعة ايام وبمعدل ثلاث ساعات يومياً، أي في اثنتي عشرة ساعة!.

الثاني: ان مستنسخها لا يملّ من استنساخها مهما استنسخ منها، ومداومة القراءة فيها لا تُذهب بحلاوتها رغم طولها؛ لذا فقد اثارت همم الكسالى من المستنسخين، فكتبوا - حوالينا - ما يقارب السبعين نسخة، خلال سنة واحدة، في هذا الوقت العصيب، مما اعطى للمطلعين على ظروفنا قناعة كافية بأن هذه الرسالة هي واحدةٌ من كرامات تلك المعجزات.

الثالث: ان كلمة ((الرسول الاكرم)) e في الرسالة كلها، ولفظ ((القرآن الكريم)) في القطعة الخامسة منها، قد توافقت عند أحد المستنسخين دون أن يكون له علم بالتوافق، وحصل التوافق نفسه لدى المستنسخين الثمانية الآخرين دون ان يلتقى هؤلاء بعضهم ببعض وقبل ان ينكشف التوافق المذكور حتى بالنسبة لنا. فمن كان على شئ من الانصاف لا يحمل هذا على المصادفة البتة، بل حَكَم كلُ مَن اطلع عليه أن هذا سرٌ من اسرار الغيب، وان الرسالة كرامة من كرامات المعجزة الأحمدية على صاحبها افضل الصلاة والسلام.

هذا وان الاسس التي تتصدر الرسالة مهمة جداً، وان الاحاديث الواردة فيها فضلاً عن كونها صحيحة ومقبولة لدى ائمة الحديث، فهي تبين الاكثر ثبوتاً وقطعية من الروايات.

فلو اردنا تبيان مزايا هذه الرسالة لاحتجنا الى رسالة اخرى مثلها، لذا نهيب بالمشتاقين اليها قراءتها ولو مرة واحدة كي يلمسوا بأنفسهم تلك المزايا.

سعيد النورسي

تنبيه

لقد أوردتُ احاديث شريفة كثيرة في هذه الرسالة، ولم يكن لديّ شئ من كتب الحديث، فإن أخطأت في لفظ الاحاديث الواردة فليُصحح أو ليُحمل على الرواية بالمعنى، اذ القول الراجح: انه تجوز رواية الحديث الشريف بمعناه، اي أن يذكر الراوي معنى الحديث بلفظٍ من عنده، فما وجد في هذه الرسالة من اخطاء في الالفاظ، فلينظر اليها باعتبارها ((رواية بالمعنى)).Y

سعيد النورسي

المعجزات الأحمدية

على صاحبها افضل الصلاة وأتم التسليم

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بسم الله الرحمن الرحيم

} هو الذي ارسل رسولَه بالهُدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً ` محمدٌ رسولُ الله والذين معه اشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم تريهم ركّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السُجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرجَ شطئَه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجبُ الزرّاع ليغيظ بهم الكفارَ وعَد الله الذين آمَنُوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة ًواجراً عظيماً{ (الفتح: 28ــ 29)



[نظراً لقيام الكلمتين التاسعة عشرة والحادية والثلاثين الخاصتين بالرسالة الاحمدية اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بدلائل قاطعة، نحيل اليهما قضية الاثبات ونبيّن هنا – تتمةً لهما – لمعاتٍ من تلك الحقيقة الكبرى ضمن ((تسع عشرة اشارة بليغة ذات مغزى))].





الاشارة البليغة الاولى

لا ريب ان مالك هذا الكون وربّه يخلق ما يخلق عن علمٍ ويتصرف في شؤونه عن حكمة، ويدير كل جهة عن رؤية ومشاهدة، ويربي كل شئ عن علم وبصيرة، ويدبّر الأمر قاصداً اظهار الحِكمَ والغايات والمصالح التي تتراءى من كل شئ.

فما دام الخالق يعلم، فالعالِمُ يتكلم. وحيث انه سيتكلم، فسيكون كلامه حتماً مع مَن يفهمه من ذوي الشعور والفكر والادراك، بل مع الانسان الذي هو افضل انواع ذوي المشاعر والفهم وأجمعهم لتلك الصفات. ومادام كلامه سيكون مع نوع الانسان، فسيتكلم، اذاً مع مَن هو أهل للخطاب من الكاملين من بني الانسان الذين يملكون أعلى استعداد وأرفع أخلاق والذين هم أهلٌ لأن يكونوا قدوة للجنس البشري وأئمة له. فلا ريب انه سيتكلم مع محمد صلى الله عليه وسلم الذي شهد بحقه الاولياء والخصماء بأنه صاحب أسمى أخلاق وأفضل استعداد، والذي اقتدى به خُمس العالم، وانضم تحت لوائه المعنوي نصف الارض، واستضاء المستقبل بالنور الذي بُعث به طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان، والذي يصلّي عليه أهل الايمان والنورانيون من الناس دوماً ويدعون له بالرحمة والسعادة والثناء والحب، ويجددون معه البيعة خمس مرات يومياً وقد تكلم معه فعلاً. وسيجعله رسوله حتماً وقد جعله فعلاً. وسيجعله قدوة وإماماً للناس كافة وقد جعله فعلاً.





الاشارة البليغة الثانية

لقد اعلن الرسول الكريم e النبوة، وقدّم برهاناً عليها، وهو القرآن الكريم، واظهر نحو الفٍ من المعجزات الباهرة، كما هو ثابت لدى اهل التحقيق من العلماء(1). هذه المعجزات بمجموعها الكلي ثابتة قطعية كقطعية ثبوت دعوى النبوة، حتى ان اسناد المعجزات الى السحر الذي يورده القرآن الكريم في مواضع كثيرة على لسان الكفار الألداء ليشير الى انهم لم ينكروا وقوع المعجزات ولم يسعهم ذلك، وانما اسندوها الى السحر خداعاً لأنفسهم وتغريراً باتباعهم.

نعم، أن للمعجزات الأحمدية قطعية تامة تبلغ قوة مائة تواتر، فلا سبيل الى انكارها قط.

والمعجزة بحد ذاتها تصديقٌ من رب العالمين لدعوى رسوله الكريم، أي كأن المعجزة تقوم مقام قول الله: صدق عبدي فأطيعوه.

مثال للتوضيح:

لو كنتَ في حضرة سلطان أو في ديوانه، وقلتَ لمن حولك: لقد عينني السلطان عاملاً في الأمر الفلاني، وحينما طلبوا منك دليلاً على ادعائك أومأ السلطان بنفسه: أنْ نعم، اني جعلته عاملاً. ألا يكون ذلك شهادة صدق لك؟. فكيف اذا خرق السلطان - لأجلك - عاداته وبدّل قوانينه لرجاء منك؟ أفلا يكون ذلك تصديقاً أقوى لدعواك وأثبت من قول: نعم؟

وكذلك كانت دعوى الرسول e ، اذ قال: انني رسول من رب العالمين. وأما دليلي فهو انه سبحانه يبدّل قوانينه المعتادة بالتجائي ودعائي وتوسلي اليه. وهاكم انظروا الى أصابعي، انه يفجّر منها الماء كما يتفجّر من خمس عيون.. وانظروا الى القمر، انه يشقّه لي شقين باشارة من اصبعي.. وانظروا الى تلك الشجرة كيف تأتي اليّ لتصدقني وتشهد لي.. وانظروا الى هذه الحفنة من الطعام كيف انها تُشبع مائتين أو ثلاثمائة رجلٍ! وهكذا أظهر صلى الله عليه وسلم مئات من المعجزات أمثال هذه.

واعلم، ان دلائل صدق الرسول e وبراهين نبوته لا تنحصر في معجزاته، بل يرى المدققون ان جميع حركاته وافعاله وأحواله وأقواله وأخلاقه وأطواره وسيرته وصورته، كل ذلك يثبت اخلاصَه وصدقَه. حتى آمن به كثير من علماء بني اسرائيل بمجرد النظر الى طلعته البهية، أمثال: عبد الله بن سلام الذي قال: ((فلما اسْتَبنتُ وجهَهُ عرفتُ ان وجهه ليس بوجه كاذب))(1).

وعلى الرغم من ان العلماء المحققين قد ذكروا ما يقارب الألف من دلائل نبوته ومعجزاته فان هناك ألوفاً منها، بل مئات الألوف. ولقد صدّق بنبوته مئات الألوف من الناس المتباينين في الفكر بمئات الألوف من الطرق. والقرآن الكريم وحده يظهر ألفاً من البراهين على نبوته e ، عدا اعجازه البالغ أربعين وجهاً.

ولما كانت النبوة محققة وثابتة في الجنس البشري، وان مئات الألوف(1) من البشر جاءوا فاعلنوا النبوة، وقدّموا المعجزات برهاناً وتأييداً لها، فلا شك ان نبوة محمد e تكون اثبت واكد من الجميع، لأن مدار نبوة الانبياء وكيفية معاملاتهم مع اممهم والدلائل والمزايا والأوضاع التي دلت على نبوة عامة الرسل أمثال موسى وعيسى عليهما السلام توجد بأتم صورها وأفضل معانيها لدى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وحيث ان علة حكم النبوة وسببها أكمل وجوداً في ذاته e ، فان حكم النبوة لا محالة ثابت له بقطعية اوضح من سائر الانبياء عليهم السلام.

الاشارة البليغة الثالثة

ان معجزات الرسول e كثيرة جداً ومتنوعة جداً، وذلك لأن رسالته عامة وشاملة لجميع الكائنات؛ لذا فله في أغلب أنواع الكائنات معجزات تشهد له، ولنوضح ذلك بمثال:

لو قَدِم سفير كريم من لدن سلطان عظيم لزيارة مدينة عامرة بأقوام شتى، حاملاً لهم هدايا ثمينة متنوعة، فان كل طائفة منهم ستُوفد في هذه الحال ممثلاً عنها لاستقباله بأسمها والترحيب به بلسانها.

كذلك لما شرَّف العالَم السفيُر الأعظم صلى الله عليه وسلم لملك الأزل والأبد، ونوَّره بقدومه، مبعوثاً من لدن رب العالمين الى أهل الأرض جميعاً، حاملاً معه هدايا معنوية وحقائق نيّرة تتعلق بحقائق الكائنات كلها، جاءه من كل طائفة مَن يرحب بمقدمه ويهنؤه بلسانه الخاص، ويقدِّم بين يديه معجزة طائفته تصديقاً بنبوته، وترحيباً بها، ابتداء من الحجر والماء والشجر والانسان، وانتهاء بالقمر والشمس والنجوم، فكأن كلاً منها يردد بلسان الحال: أهلاً ومرحباً بمبعثك.

ان بحث تلك المعجزات كلها يحتاج الى مجلدات لكثرتها وتنوعها، وقد ألّف العلماء الأصفياء مجلدات ضخمة حول تفاصيل دلائل النبوة والمعجزات، إلاّ أننا هنا نكتفي باشارات مجملة الى ما هو قطعي الثبوت والمتواتر معنىً من الأنواع الكلية لتلك المعجزات.

ان دلائل نبوة الرسول e قسمان:

الأول: الحالات التي سُميت بالأرهاصات، وهي الحوادث الخارقة التي وقعت قبل النبوة ووقت الولادة.

الثاني: دلائل النبوة الاخرى وهذا ينقسم الى قسمين:

أحدهما: الخوارق التي ظهرت بعده صلى الله عليه وسلم تصديقاً لنبوته.

ثانيهما: الخوارق التي ظهرت في فترة حياته المباركة e . وهذا ايضاً قسمان:

الأول: ما ظهر من دلائل النبوة في شخصه وسيرته وصورته وأخلاقه وكمال عقله.

الثاني: ما ظهر منها في أمور خارجة عن ذاته الشريفة، أي في الآفاق والكون. وهذا أيضاً قسمان:

قسم معنوي وقرآني. وقسم مادي وكوني. وهذا الأخير قسمان أيضاً:

القسم الأول: المعجزات التي ظهرت خلال فترة الدعوة النبوية، وهي إما لكسر عناد الكفار أو لتقوية أيمان المؤمنين؛ كانشقاق القمر، ونبعان الماء من بين أصابعه الشريفة، وإشباع الكثيرين بطعام قليل، وتكلم الحيوان والشجر والحجر.. وأمثالها من المعجزات التي تبلغ عشرين نوعاً، كل نوع منها بدرجة المتواتر المعنوي، ولكل نوع منها نماذج عدة مكررة.

القسم الثاني: الحوادث التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها - بما علّمه الله سبحانه - وظهرت تلك الحوادث وتحققت كما أخبر.

ونحن الآن نستهل بهذا القسم الأخير للوصول الى فهرس متسلسل عام(1).





الاشارة البليغة الرابعة

ان ما أنبأ به الرسول الكريم e من أنباء الغيب بتعليم من الله علام الغيوب كثيرٌ لا يعد ولا يحصى، وقد أشرنا الى أنواعه في ((الكلمة الخامسة والعشرين)) الخاصة باعجاز القرآن، وسقنا هناك براهينه؛ لذا فالأخبار الغيبية المتعلقة بالأزمنة السالفة والأنبياء السابقين وحقائق الألوهية وحقائق الكون، وحقائق الآخرة يُراجع في شأنها تلك الكلمة.

أما هنا فسنورد بضعة أمثلة من اخبار غيبية صادقة تتعلق بالحوادث التي ستصيب الآل والاصحاب - رضوان الله عليهم أجمعين - من بعده صلى الله عليه وسلم وما ستلقاه أمته في مُقبل أيامها.

ولأجل الوصول الى ادراك هذه الحقيقة ادراكاً كاملاً نبين بين يديها أسساً ستة مقدّمة لها.

l الاساس الاول

ان جميع احوال الرسول الكريم e وأطواره يمكن ان تكون دليلاً على صدقه وشاهداً على نبوته، الاّ ان هذا لا يعني ان تكون جميع احواله وافعاله خارقة للعادة؛ ذلك لأن الله سبحانه قد أرسله بشراً رسولاً، ليكون باعماله وحركاته كلها إماماً ومرشداً للبشر كافة، وفي احوالهم كافة، ليحقق لهم بها سعادة الدنيا والآخرة وليبيّن لهم خوارق الصنعة الربانية وتصرف القدرة الإلهية في الأمور المعتادة، تلك الامور التي هي بحد ذاتها معجزات.

فلو كان صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله خارقاً للعادة، خارجاً عن طور البشر، لما تسنّى له ان يكون أسوةً يُقتدى به، وما وَسِعه ان يكون بأفعاله وأحواله وأطواره إماماً للآخرين؛ لذا ما كان يلجأ الى اظهار المعجزات الاّ بين حين وآخر، عند الحاجة، اقراراً لنبوته أمام الكفار المعاندين. ولما كان الابتلاء والاختبار من مقتضيات التكليف الإلهي، فلم تعد المعجزة مُرغِمةً على التصديق - اي سواء أراد الانسان أم لم يرد - لأن سر الامتحان وحكمة التكليف يقتضيان معاً فتح مجال الاختيار أمام العقل من دون سلب الارادة منه. فلو ظهرت المعجزة ظهوراً بديهياً ملزماً للعقل كما هو شأن البديهيات لما بقي للعقل ثمة إختيار، ولصدَّق ابو جهل كما صدّق أبو بكر الصديق - رضى الله عنه ـ ولأنتفت الفائدة من التكليف والغاية من الامتحان، ولتساوى الفحم الخسيس مع الألماس النفيس!

بيد ان الذي يثير الدهشة والحيرة؛ انه في الوقت الذي آمن ألوف من أجناس مختلفة من الناس بمعجزة منه e أو بكلام منه أو بالنظر الى طلعته البهية، أو ما شابهها من دلائل صدق نبوته e ، وآمن به ألوف العلماء المدققين والمفكرين المحققين بما نُقِل اليهم من صدق أخباره وجميل آثاره نقلاً صحيحاً متواتراً، أقول: أفلا يدعو الى العجب ان يرى أشقياء هذا العصر جميع هذه الدلائل الواضحة كأنها غير وافية لايمانهم وتصديقهم فتراهم ينزلقون الى هاوية الضلال؟

l الاساس الثاني

ان الرسول الكريم e بشر، فهو يتعامل مع الناس انطلاقاً من بشريته هذه. وهو كذلك رسول، وبمقتضى الرسالة هو ناطق أمين باسم الله تعالى ومبلّغ صادق لأوامره سبحانه، فرسالته تستند الى حقيقة الوحي. والوحي قسمان:

الأول: الوحي الصريح كالقرآن الكريم وبعض الأحاديث القدسية. فالرسول e في هذا مبلّغ محض لا غير، من دون أن يكون له تصرف أو تدخل في شئ منه.

الثاني: الوحي الضمني، وهو الذي يستند في خلاصته ومُجمَله الى الوحي والالهام، الاّ انه في تفصيله وتصويره يعود الى الرسول صلى الله عليه وسلم. فتفصيل الحادثة الآتية مُجملةً من هذا الوحي وتصويرها إما يبينه الرسول e أحياناً استناداً الى الالهام أو الى الوحي، أو يبينه بفراسته الشخصية. وهذه التفاصيل التي يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده الذاتي. اما أنه يبينها بما يتمتع به من قوة قدسية عليا، بمقتضى الرسالة، أو يبينها بخصائصه البشرية وبمستوى عرف الناس وعاداتهم وافكارهم.

وهكذا لا يُنظر الى جميع تفاصيل كل حديث شريف بمنظار الوحي المحض. ولا يُتحرى عن الآثار السامية للرسالة في معاملاته e وافكاره التي تجري بمقتضيات البشرية.

وحيث أن بعض الحوادث يوحى اليه وحياً مجملاً ومطلقاً وهو بدوره يصوّره بفراسته الشخصية أو حسب نظر العرف العام، لذا يلزم أحياناً التفسير وربما التعبير لهذه المتشابهات والمشكلات التي ينطوي عليها ذلك التصوير. مثال ذلك:

سمع الناس - ذات مرة - وهم جلوس عند الرسول صلى الله عليه وسلم دوياً هائلاً فقال الرسول e موضحاً الحدث: ((ان هذا صوت حجر ظل يتدحرج سبعين عاماً حتى وصل الآن الى قعر جهنم))(1)... ولم تمض ساعة حتى جاء الجواب، اذ أتى أحدهم يقول: ان المنافق المشهور الذي ناهز السبعين من عمره قد مات وولّى الى جهنم وبئس المصير، فكان هذا تأويلاً للتشبيه البليغ الذي ذكره الرسول e .

l الاساس الثالث

ان الآثار المنقولة إن كانت متواترة فهي قطعية الثبوت وتفيد اليقين. والتواتر قسمان:

الأول: التواتر الصريح، أو التواتر اللفظي.

الثاني: التواتر المعنوي وهذا قسمان:

الأول: سكوتي؛ أي ابداء الرضا بالسكوت عنه. مثال ذلك:

لو أخبر شخصٌ جماعته عن حادثة وقعت أمامهم ولم يكذّبوه في خبره بل قابلوه بالسكوت، فان ذلك يعني قبولهم لوقوعها، ولاسيما اذا كانت الحادثة المروية ذات علاقة بالجماعة، والجماعة مستعدة للانتقاد والرد والتجريح، وممن لا يقبلون بالخطأ أصلاً، بل يرون الكذب أمراً قبيحاً بشعاً، فان سكوتهم عنها يدل على وقوع تلك الحادثة دلالة قاطعة.

القسم الثاني من التواتر المعنوي: هو اتفاقهم على القدر المشترك بين أخبارهم وان كانت الروايات متنوعة. مثال ذلك:

اذا قيل ان أوقية من الطعام أشبعت مائتي رجل. فالذين حدّثوا بهذا يروونه في صور متنوعة وبعبارات مختلفة متباينة. فهذا ذكر مائة رجل وذاك ثلاثمائة رجل والآخر أوقيتين من الطعام وهكذا. فترى ان الجميع متفقون على وقوع الحادثة، وهو ان الطعام القليل أشبع أناساً كثيرين. فالحادثة اذن بشكلها المطلق متواترة معنىً، وهي تفيد اليقين، ولا تضرّ بها صور الاختلاف. وفي بعض الاحيان يفيد خبر الآحاد ضمن بعض الشروط حكم القطعي كقطعية التواتر، وقد يفيد القطعية احياناً تحت امارات خارجية.

وهكذا، فالقسم الأعظم مما نقل الينا من دلائل النبوة ومعجزات الرسول e هو: بالتواتر الصريح أو المعنوي أو السكوتي، وقسم منها بخبر الآحاد، الاّ انه ضمن شروط معينة ممحّصة اُخذ وقُبل من قبل أئمة الجرح والتعديل من أهل الحديث النبوي فاصبحت دلالته قطعية كالتواتر. ولاشك اذا ما قبل بصحة خبر الآحاد محدِّثون محققون من أصحاب الصحاح الستة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم وهم الحفاظ الجهابذة الذين كانوا يحفظون ما لا يقل عن مائة ألف حديث، واذا ما رضى به ألوف من الأئمة العلماء المتقين، ممن يصلون صلاة الفجر بوضوء العشاء زهاء خمسين سنة من عمرهم. أقول: اذا ما قَبِل هؤلاء بصحة خبر الآحاد، فلا ريب اذاً في قطعيته ولا يقلّ حكمُه عن التواتر نفسه.

نعم، ان علماء علم الحديث ونقّاده قد تخصصوا في هذا الفن الى درجة انهم اكتسبوا مَلَكَةً في معرفة سمو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وبلاغة تعابيره، وطراز افادته، فاصبحوا قادرين على تمييزه عن غيره، بحيث لو رأوا حديثاً موضوعاً بين مائةٍ من الأحاديث لرفضوه قائلين: هذا موضوع!. هذا لا يمكن ان يكون حديثاً شريفاً! فقد أصبحوا كالصيارفة الـبـارعين الأصـلاء يـعرفون جوهـر الحديث النــبوي من الدخيل فيه.

بيد ان قسماً من المحققين قد أفرط في نقد الحديث كابن الجوزي الذي حكم على أحاديث صحيحة بالوضع(1). علماً أن ((الموضوع)) يعني: ان هذا الكلام ليس بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعني انه باطل وكلام فاسد.

سؤال: ما فائدة السند الطويل: عن فلان.. عن فلان.. عن فلان.. حيث لا جدوى من ذكرهم في حادثة معلومة؟.

الجواب: فوائده كثيرة، اذ ان ذكر هذا السند الطويل يبين نوعاً من الاجماع فيمن هم في السند من الموثوقين الصادقين من الرواة الذين يعتّد بهم، فيظهر لنا نوعاً من الأتصال والاتفاق لأهل العلم المحققين في ذلك السند، فكأنما كلّ أمامٍ وعلامة في السند يوقّع على حكم ذلك الحديث الشريف ويختم على صحته بختمه.

سؤال: لماذا لم تُنقل ((المعجزات)) باهتمام بالغ مثلما نُقلَت الأحكام الشرعية الضرورية الأخرى نقلاً متواتراً وبطرق متعددة؟.

الجواب: لأن معظم الناس في أغلب الأوقات محتاجون حاجة ماسة الى الاحكام الشرعية، فهي ((كفروض عين)) لهم، لما لها من علاقة بكل شخص. بينما المعجزات لا يحتاجها كل انسان كل حين. حتى لو فرضنا الحاجة اليها، فيكفي سماعها مرة واحدة، فهي ((كفروض كفاية)) اذ يكفي ان يعلم بها عادةً قسمٌ من الناس.

ولهذا السبب قد يحدث ان نرى وقوع أحدى المعجزات ثابتاً بقطعيةٍ أقوى من قطعية ثبوت حكم شرعي أضعافاً مضاعفة، الاّ ان راويها شخص واحد أو شخصان، بينما يكون عدد رواة ذلك الحكم الشرعي عشرة أو عشرين.

l الاساس الرابع

ان قسماً من حوادث المستقبل الذي أخبر عنه الرسول e هو حوادث كليّة، تتكرر في أوقات مختلفة، وليس بحادثة جزئية مفردة. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يُخبر عن تلك الحادثة الكلية بصورة جزئية مبيناً بعض حالاتها، حيث ان لمثل هذه الحادثة الكلية وجوهاً كثيرة، فيبين صلى الله عليه وسلم في كل مرة وجهاً من وجوهها. ولكن لدى جمع هذه الوجوه من قبل راوي الحديث في موضع واحد، يبدو هناك ما يشبه الخلاف للواقع. مثال ذلك:

هناك روايات مختلقة حول ((المهدي)) تتباين فيها التفاصيل والتصويرات. وقد أخبر الرسول e عن ظهور المهدي مستنداً الى الوحي، ليصون قوة أهل الأيمان المعنوية في كل عصر، وليحول دون سقوطهم في اليأس والقنوط ازاء ما يرونه من حوادث مهولة، وليربط الأمة ربطاً معنوياً بالسلسلة النورانية لآل البيت. وقد أثبتنا ذلك في أحد اغصان الكلمة الرابعة والعشرين. ومن هنا ترى أن كل عصر من العصور قد وجد نوعاً من ((المهدي)) من آل البيت كالذي يظهر في آخر الزمان، بل مهديين، حتى وجد في المهدي العباسي - الذي يعدّ من آل البيت - كثيراً من أوصاف ذلك المهدي الكبير.

وهكذا، فاوصاف الذين يسبقون المهدي الكبير ممن يمثّلونه في عهودهم - كالخلفاء المهديين والأقطاب المهديين - اختلطت وتداخلت مع أوصاف ذلك المهدي الكبير. فوقع الاختلاف في الروايات(1).

l الاساس الخامس

لم يكن الرسول الأعظم e يعلم الغيب ما لم يُعلّمه الله سبحانه، اذ لا يعلم الغيب الاّ الله فهو e يبلغ الناس ما علـّمه الله اياه. وحيث ان الله حكيم ورحيم، فحكمته ورحمته تقتضيان ستر أغلب الأمور الغيبية وابقاءها في طي الخفاء والابهام، لأن ما لا يسرّ الانسان من حوادث في هذه الدنيا هو اكثر مما يسره، فمعرفته تلك الحوادث قبل وقوعها أليم جداً.

فلأجل هذه الحكمة ظل الموت والأجل مبهَمَين مستورين عن علم الانسان، وبقي ما سيصيب الانسان من مصائب ونكبات محجوباً في ثنايا الغيب، فكان من مقتضى هذه الحكمة الربانية والرحمة الإلهية الاّ يُطلع سبحانه نبيَّه e اطلاعاً كلياً ومفصلاً على ما سيلقاه آلُه وصحبه وامته من بعده من حوادث مؤلمة ومصائب مفجعة، بل أخبره سبحانه عن بعضٍ من الحوادث المهمة - بناء على حِكَم معينة - إخباراً غير مفجع، رفقاً بما يحمله من رحمة عظيمة ورأفة شديدة نحو أمته وتجاه آله واصحابه. كما انه سبحانه قد بشّره بحوادث مفرحة أيضاً بشارةً مجملة لبعضها ومفصلةً للاخرى(1) فأخبر e أمته بما علّمه ربُّه ونقله المحدّثون الصادقون العدول بروايات صحيحة الينا، اولئك الذين كانوا أشد تقوى وخشية من ان يصيبهم الزجر المخيف في قوله e : ((مَن كَذب عليَّ مُتعمـّداً فَلْيَتبوأ مَقعدَه من النار))(2) والذين كانوا يهربون خوفاً من ان تنالهم الآية الكريمة: } فَمَنْ أظْلمُ ممّن كَذَبَ على الله{ (الزمر:32).



l الاساس السادس

ان احوال الرسول e واوصافه قد بُيّنت على شكل سيرة وتاريخ. الا ان اغلب تلك الاحوال والاوصاف تعكس بشريته فحسب، اذ ان الشخصية المعنوية لتلك الذات النبوية المباركة رفيعة جداً وماهيته المقدسة نورانية الى حدّ لا يرقى ما ذُكر في التاريخ والسيرة من اوصاف واحوال الى ذلك المقام السامي والدرجة الرفيعة العالية، لأنه e في ضوء قاعدة ((السبب كالفاعل)) تضاف يومياً - حتى الآن - الى صحيفة كمالاته عبادةٌ عظيمة بقدر عبادات امته بأكملها. وكماينال باستعداد غير متناه نفحات الرحمة الإلهية غير المتناهية بشكل غير متناهٍ وبقدرة غير متناهية، كذلك ينال يومياً دعاءً غير محدود ممن لا تحد من امته.

هذا النبي المبارك e الذي هو انبل نتائج الكائنات واكمل ثمراتها والمبلّغ عن خالق الكون، وحبيب رب العالمين، لا تبلغ احوالُه واطوارهُ البشرية التي ذكرَتْها كتب السيرة والتاريخ الاحاطة بماهيته الكاملة ولا تصل الى حقيقة كمالاته. فأنّى لهذه الشخصية المباركة الذي كان كلُّ من جبرائيل وميكائيل مرافقين امينين(1) له في غزوة بدر ان تنحصر في حالة ظاهرية أو ان تظهرها بجلاء حادثة بشرية كالتي وقعت مع صاحب الفرس الذي ابتاع e الفرس منه ولكنه أنكر هذا البيع وطلب من الرسول الكريم شاهداً يصدّقه فتقدم الصحابي الجليل ((خزيمة)) بالشهادة له(2).

فلئلا يقع أحدٌ في غائلة الخطأ يلزم من يسمع اوصافه e البشرية الاعتيادية ان يرفع بصره دوماً عالياً لينظر الى ماهيته الحقيقية، والى شخصيته المعنوية النورانية الشامخة في قمة مرتبة الرسالة، وإلاّ أساء الادب، ووقع في الشبهة والوهم.

ولإيضاح هذه المسألة تأمل في هذا المثال:

نواة للتمر وضعت تحت التراب فانفلقت عن نخلة مثمرة باسقة، وهي في توسع ونمو مطرد، أو بيضة للطاووس فقست عن فرخ الطاووس بعدما سلطت عليها الحرارة، وكلما نما وكبر اصبح اجمل وازهى، بما زيّن قلمُ القدرة على كل جهاته من نقوش بديعة رائعة.

فهناك صفات وحالات خاصة تعود لكل من تلك النواة ولتلك البيضة، ويحوي كل منهما مواد دقيقة لطيفة جداً. والنخلة والطاووس كذلك لهما صفات عالية وكيفيات واوضاع راقية بالنسبة لصفات البذرة والبـيضة. فعندما تُربط اوصاف النواة والبيضة بأوصاف النخل والطير وتُذكران معاً، يلزم ان يرفع العقل الانساني بصره عن النواة الى النخلة وينظر اليها، وان يتوجه من البيضة الى الطاووس ويمعن فيه، كي يقبل تلك الاوصاف التي يسمعها. وبخلافه ينساق الى التكذيب حين يسمع احدهم يقول: ((لقد اخذتُ طناً من التمر من حفنة من النوى، او هذه البيضة هي سلطان الطيور)).

وهكذا فان بشرية الرسول الاكرم e تشبه تلك النواة أو البيضة ((في المثال)) وماهيته المشعة بمهمة الرسالة مثلُها كمثل شجرة طوبى الجنة وطير الجنة في سمو ورقي.

لذا في الوقت الذي نفكر في النزاع الذي حصل في السوق مع البدوي، يلزم ان نرفع عين الخيال عالياً ونتصور الذات النورانية الممتطية الرفرف ((البُراق)) والمنطلقة سعياً الى قاب قوسين أو أدنى، تاركة خلفها جبريل عليه السلام. وإلاّ فان النفس الامارة بالسوء إما ستسئ الادب وتنحط الى درك قلة التوقير والاحترام، أو تزل قدماها الى عدم التصديق.

الاشارة البليغة الخامسة

وهي تخص الحوادث المتعلقة بامور غيبية، نذكر منها بضعة أمثلة:

المثال الاول:

T قال رسول الله e في خطبةٍ بين جمع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ونقل الينا الحديث نقلاً صحيحاً ومتواتراً: ((ان إبني هذا سَيّدٌ ولَعلّ الله انْ يُصلحَ به بين فِئَتين من المسلمين))(1) وفي رواية ((عظيمتين)). وبعد مرور أربعين سنة التقى جيشان عظيمان للمسلمين، فصالح الحسنُ معاوية رضى الله عنهما، وصدَّق بهذا الصلح المعجزةَ الغيبية لجدِّه الأمجد e .

المثال الثاني:

T ثبت بنقل صحيح انه e قال لعلي رضى الله عنه:ستقاتل الناكثين(2) والقاسطين والمارقين(3). فأخبر عن وقعة الجمل وصفين وعن الخوارج.

T وقال e للزبير: ((لتقاتلُنَّه وانتَ ظالمٌ له))(4) عندما رآه وعلياً يتحابّان.





T وقال e لأزواجه الطاهرات: ((كيف بأحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب))(1) ((يُقتَل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة..))(2).

وبعد ثلاثين سنة تحققت هذه الأحاديث الصحيحة فعلاً، وذلك في وقعة الجمل التي جرت بين عليّ وعائشة ومعها الطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، كما تحققت في وقعة صفين التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقد تحققت في وقعة حروراء ونهروان التي كانت بين عليّ رضي الله عنه والخوارج.

T وأخبر e علياً عن الذي يقتله فقال: ((الذي يضربك يا عليّ على هذه حتى تبلّ منها هذه))(3) اي تبلّ لحيته من دم رأسهِ وكان عليّ يعرفه، وهو عبدالرحمن بن ملجم الخارجي.

T وأخبر كذلك عن ذي الثُدية بعلامة فارقة فيه، انه سيكون بين قتلى الخوارج وفعلاً كان ذو الثدية فيهم وهو ((رجل أسود أحدى عضدية مثل ثدي المرأة)) فجعله عليٌّ حجةً على انه المُحِقُّ، وأعلن عن معجزة الرسول الاكرم e .(4)

T وأخبر e برواية صحيحة عن أم سلمة وغيرها: ان الحسين يُقتَل بالطَّفْ(1) أي في كربلاء. وبعد خمسين سنة وقعت تلك الفاجعة الأليمة، فصدّقت ذلك الاخبار الغيبي.

T وأخبر e : ((ان أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً))(2)، فكان كما أخبر.

T T T

هنا يرد سؤال مهم:

يُقال: ان علياً رضي الله عنه كان أحرى بالخلافة وأولى بها، فهو ذو قرابة مع النبي e ، وذو شجاعة نادرة خارقة، وذو علم غزير.. فلماذا لم يُقدَّموه في الخلافة؟ ولماذا اضطربت أحوال المسلمين في عهده؟.

الجواب: لقد قال قطب عظيم من آل البيت: كان الرسول e قد تمنّى ان يكون عليّ هو الخليفة، ولكن اُعلِم من الغيب أن إرادة الله غير هذا، فتخلى عن رغبته تبعاً لما يريده الله سبحانه وتعالى.

وفيما يأتي حكمةٌ واحدة مما تنطوي عليه ارادة الله تعالى في هذا الأمر:

كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أحوج الى الاتفاق والاتحاد بعدما ارتحل النبي e الى الرفيق الأعلى، فلو كان عليّ رضي الله عنه قد تولّى الخلافة، لكان هناك احتمال قوي ان تثير اطواره المتسمة بعدم مسايرة الآخرين واستقلالية آرائه مع زهده الشديد وبسالته النادرة واستغنائه عن الناس فضلاً عن شجاعته الفائقة، فتحرِّك - هذه المزايا - عرق المنافسة لدى كثير من الأشخاص والقبائل، فتنجم الفرقة بين صفوف المسلمين، مثلما حدث في عهد خلافته من حوادث وفتن.

أما سبب تأخر خلافة عليّ رضي الله عنه فان احد أسبابه هو ما يأتي:

لقد هبّت أعاصير الفتن في أوساط أمة الاسلام التي تضم أقواماً متباينة في الفكر والتي يحمل كلٌّ منها بذور الفرقة الى ثلاث وسبعين فرقة - مثلما أخبر بذلك الرسول e (1) - فكان ينبغي وجود شخصية قوية فذة، مهيبة الجانب، ذات شجاعة فائقة وفراسة نافذة ونسب عريق أصيل من أهل البيت ومن بني هاشم، كي يَثْبُت أمام هذه الفتن. فمثل هذه الشخصية الفذة، كانت تتمثل في علّي رضي الله عنه، فثبت فعلاً أمام تلك الأعاصير الهوجاء.. ولقد أخبره الرسول e بذلك أنه سيحارب في سبيل تأويل القرآن كما حارب هو e في سبيل نزوله(2). ثم انه لولا علي رضي الله عنه لربما كانت سلطنة الدنيا تعصف بالأمويين وتفتنهم كلياً، وتزلّهم عن الصراط السوى، ولكن لأنهم كانوا يرون ازاءهم علياً وآل البيت، فقد حاولوا ان يبلغوا شأوهم ويوازوهم في مكانتهم لئلا يفقدوا منزلتهم في نظر الأمة، فاضطر أغلبُ رؤساء الدولة الأموية الى حضّ اتباعهم على القيام بحفظ حقائق الايمان ونشرها وصيانة أحكام القرآن والإسلام رغم أنهم لم يفعلوا شيئاً بأنفسهم، لذا نشأت في ظل دولتهم مئات الألوف من العلماء المحققين المجتهدين وائمة الحديث والأولياء الصالحين والأصفياء والعاملين، فلولا كمالات يتصف بها آل البيت وصلاحهم وولايتهم لله لزلّ الأمويون وابتعدوا كلياً عن طريق الصواب، كما آل اليه أمرهم في أواخر أيامهم، وكما حدث في أواخر أيام العباسيين.

واذا قيل:

لماذا لم تستقر الخلافة في آل البيت، علماً انهم كانوا أحق بها؟

الجواب: ان سلطنة الدنيا خدّاعة، بينما أهل البيت مكلفون بالحفاظ على حقائق الإسلام واحكام القرآن. وينبغي لمن يتسلم زمام الخلافة الاّ تغره الدنيا، كأن يكون معصوماً كالنبي، أو يكون عظيم التقوى عظيم الزهد كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز والمهدي العباسي لئلا يغتر. فسلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت، اذ تنسيهم وظيفَتهم الاساس؛ وهي المحافظة على الدين وخدمة الاسلام. وخلافة الدولة الفاطمية التي قامت باسم آل البيت في مصر، وحكومة الموحدين في أفريقيا، والدولة الصفوية في إيران، كل منها غدت حجة على ان سلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت. بينما نراهم متى ما تركوا السلطنة، فقد سعوا سعياً حثيثاً وبذلوا جهداً منقطع النظير في خدمة الإسلام ورفع راية القرآن.

فان شئت فتأمل في الأقطاب الذين أتوا من سلالة الحسن رضي الله عنه، ولا سيما الأقطاب الأربعة، وبخاصة الشيخ الكيلاني. وان شئت فتأمل في الأئمة الذين جاءوا من سلالة الحسين رضي الله عنه، ولا سيما زين العابدين وجعفر الصادق وأمثالهم..

فكلٌ من هؤلاء قد أصبح بمثابة مهدي معنوي، بدّدوا الظلم والظلمات المعنوية بنشرهم أنوار القرآن وحقائق الأيمان، واثبتوا حقاً أنهم وارثو جدهم الأمجد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فان قيل: ما حكمة تلك الفتنة الدموية الرهيبة التي اصابت الأمة الاسلامية في عصر الراشدين وخير القرون، حيث لا يليق باولئك الابرار القهر ونزول المصائب وأين يكمن وجه الرحمة الإلهية فيها؟

الجواب: كما ان الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف في الربيع تثير كوامن قابليات كل طائفة من طوائف النباتات وتكشفها فتنثر البذور وتطلق النوى، فتتفتح أزهارها الخاصة بها، ويتسلم كلٌّ منها مهمته الفطرية، كذلك الفتنة التي أبتلي بها الصحابةُ الكرام والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين، أثارت بذور مواهبهم المختلفة، وحفّزت نوى قابلياتهم المتنوعة، فانذَرتْ كلَّ طائفةٍ منهم وأخافتهم من أن الخطر مُحدقٌ بالاسلام، وان النار ستنشب في صفوف المسلمين؛ مما جعل كلَّ طائفة تهرع الى حفظ الدين والذود عن حياض الإيمان، فأخذ كلٌ منهم على عهدته مهمةً من مهمات حفظ الايمان وجمع شمل الاسلام، كلٌ حسب قابليته، فانطلق بكل جدٍ واخلاص في هذا السبيل. فمنهم من قام بحفظ الحديث النبوي الشريف، ومنهم من قام بحفظ فقه الشريعة الغراء، ومنهم من قام بحفظ العقائد والحقائق الايمانية، ومنهم من قام بحفظ القرآن الكريم.. وهكذا انضوت كلُّ طائفة تحت مهمةٍ وواجب من الواجبات التي يفرضها حفظ الايمان وصيانة الأسلام، وسَعَتْ في سبيل اداء مهمتها سعياً حثيثاً، فتفتحت من البذور التي نشرتها تلك الأعاصير الهوجاء العنيفة في الارجاء، زهورٌ بهيجة بالوان زاهية شتى في عالم الاسلام، حتى غدا العالم الاسلامي رياضاً يانعة بالورود والرياحين. الاّ انه - للأسف - ظهرت بين تلك الرياض البديعة أشواكُ اهل البدع ايضاً. وكأن يد القدرة الإلهية قد خضَّتْ ذلك العصر بجلال وهيبة، وادارته بشدة وعنف، فأثارت الهمم وألهَبت المشاعر لدى أهل الهمة والغيرة، فبعثت تلك الحركة المنطلقة عن المركز؛ كثيراً من أئمة المجتهدين والمحدّثين والحفاظ والأصفياء والأقطاب الأولياء الى أنحاء العالم الأسلامي وألجأتهم الى الهجرة. وهيّجت المسلمين شرقاً وغرباً وفتحت بصيرتهم ليغنموا من كنوز القرآن وخزائنه. والآن لنرجع الى ما نحن بصدده.

ان ما أخبر عنه الرسول e من امور الغيب ووقع فعلاً كما أخبر، يبلغ الألوف بل يزيد، الاّ اننا نشير الى امثلة منها فقط، تلك التي اتفق على صحتها أصحاب الكتب الستة الصحيحة، وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، حتى ان كثيراً منها نقلت نقلاً متواتراً من حيث المعنى، واتفق العلماء وأهل التحقيق على صحة بعضها انه بمثابة التواتر الصريح.

T .. خرَّج أهلُ الصحيح والأئمة: ما أعلَمَ به e أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه وفتح مكة(1) وبيت المقدس(2) واليمن والشام والعراق(3).. وتُفتح خيبر وأخبر(1) عن ((قسمَتِهم كنوز كسرى وقيصر))(2) أكبر دولتين في العالم في ذلك العهد. ثم أنه e حينما كان يخبر بهذا الخبر الغيبي لم يقل: أظن، أحسب، ربما.. وانما أخبر عن علم يقيني كأنه واقع يراه.. وقد وقع كما أخبر، علماً انه عندما أخبر بهذا الخبر كان مأموراً بالهجرة، واصحابه قليلون، والعالم كله ومَن حول المدينة أعداء يحدقون من كل جانب.

T وفي رواية صحيحة، أخبر الرسول e مراراً: ((اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر))(3) فأفاد بهذا ان ابا بكر وعمر سيعمران بعده، وسيكونان خليفتين، وسيؤديان الخلافة حقها كاملاً بما يرضي الله سبحانه ورسوله. ثم ان ابابكر سيتولى الخلافة لفترة قصيرة، بينما عمر سيتولاها لمدة أطول، فضلاً عن انه سيقوم بكثير من الفتوحات.

T وقال الرسول e : ((ان الله زوى ليَ الأرضَ فرأيت مشارقها ومغاربها وان أمتي سيبلُغ مُلكاً ما زوي لي منها))(4)، وكان كما قال.

T واخبر e قبل غزوة بدر - في رواية صحيحة(5) - عن مصارع الكفار في بدر وأشار الى محال قتلهم ومصارع رؤسائهم: هذا مصرع ابي جهل، هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع أميّة، هذا مصرع فلان وفلان ((واعلم بانه سيقتل اُبي بن خلف))(6)، وكان كما أعلم.

T وثبت في الصحيح انه قال كمن يشاهد أصحابه وينظر اليهم في غزوة مؤتة، وهي على بُعدِ مسيرة شهر من حدود الشام: ((أخذ الرايةَ زيدٌ فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان.. حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))(1)، وبعد مرور بضعة أسابيع عاد يعلى بن مُنبّه من ساحة المعركة، وقبل ان يخبر عما جرى هناك بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دار في المعركة مفصلاً. فأقسم يعلى، وقال: ((والذي بعثك بالحق ما تركتَ من حديثهم حرفاً واحداً))(2).

T وفي رواية صحيحة انه e أخبر عن ان الخلافة بعده ثلاثون عاماً ثم تصير ملكاً عضوضاً(3)؛ ((وان هذا الامر بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم يكون ملكاً عضوضاً، ثم يكون عتواً وجبروتاً وفساداً في الأمة))(4)، فأخبر e عن مدة الخلافة الراشدة وهي؛ ثلاثون سنة، وتكمل هذه المدة بالأشهر الستة لخلافة الحسن رضي الله عنه، ثم تتعاقب السلطنة والجبروت وفساد الأمة، وفعلاً تحقق مثلما قال.

T وثبت برواية صحيحة ان سيدنا عثمان رضي الله عنه يُقتل وهو يقرأ المصحف(5)، وان الرسول e قد قال: ((ان الله عسى ان يلبسه قميصاً وانهم يريدون خلعه))(1) فكان كما قال.

T وفي رواية صحيحة أخرى أنه؛ عندما احتجم الرسول e شَرب عبد الله بن الزبير دمه الطاهر تبركاً، ولم يسكبه فقال له: ((ويلٌ للناس منك وويلٌ لك من الناس))(2) فأخبر بأن عبد الله سيتولى أمر الناس بشجاعة فائقة، وسيكون هدفاً لهجوم عنيف وستنزل بالناس بسببه نوائبٌ ومصائبٌ. وفعلاً وقع كما قال؛ حيث أعلن عبد الله بن الزبير الخلافة في مكة في عهد الأمويين وحاصره الحجاج بن يوسف الظالم بجيش عظيم في مكة، وبعد قتال عنيف وبسالة نادرة ومعارك دامية سقط شهيداً.

T وأخبر e ((بمُلك بني أمية))(3) أي بظهور الدولة الأموية ((وولاية معاوية، ووصّاه)) لما قال له: اذا ملكت فاسجح أو فأنصح(4) وأخبر عن ((اتخاذ بني أمية مال الله دولاً))(5) وسيكون ملوكها ورؤساؤها ظلمة، وسيظهر منهم أشخاص أمثال يزيد(6) والوليد.

T كما أخبر e عن ((خروج وَلد العباس بالرايات السُّود ومُلْكِهم أضعاف ما مَلكوا))(1) من ان الدولة العباسية ستظهر بعد الأمويين، وسيظلون في الحكم مدة أطول. وتحقق كل ذلك فعلاً كما أخبرe .

T وثبت في الصحيح أنه قال: ((ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتَرب))(2) فأخبر بفتن جنكيزخان وهولاكو، وتدميرهم الدولة العباسية العربية، وقد تحقق فعلاً كما قالe .

T وقال لسعد بن أبي وقاص في رواية صحيحة، حينما كان في مرض شديد: ((لعلك تُخلـِّفُ حتى ينتَفعَ بكَ أقوامٌ، ويستضرَّ بك آخرون))(3) فأخبر e أنه سيكون قائداً عظيماً، وسيفتح الله بيده بلداناً وينتفع به أقوام كثيرة بدخولهم حظيرة الاسلام، ويتضرر به آخرون حيث تنقرض دولتهم. وقد كان كما قال؛ اذ أصبح سعد قائداً للجيش الأسلامي ودمّر دولة الفرس وصار سبباً في دخول كثير من الأقوام والملل في حوزة الأسلام.

T وثبت كذلك أنه e ((نعى النجاشي(4) في اليوم الذي مات فيه))، في السنة السابعة من الهجرة، وصلّى عليه، وبعد مرور اسبوع جاء الخبر بأنه توفي في اليوم الذي أخبر فيه الرسول e .

T وقال e : ((اُثبت فانما عليك نبي وصديق وشهيد))(5) عندما كان e مع

صفوة من الصحابة الكرام على جبل اُحد - أو على حراء(1) - واهتزّ الجبل من تحتهم، فأفاد أن عمر وعثمان وعلي سيستشهدون، فكان كما قال.



T T T



أيها الضعيف ويا من مات قلبه ويا أيها الشقي!.

لعلك تقول ان محمداً e كان عبقرياً، فعرف بعبقريته هذه الأمور الغيبية وتغمض عينك عن حقيقة النبوة الساطعة كالشمس!.

أيها المسكين! ان ما سمعتَه ليس الاّ جزء من خمسة عشر نوعاً من الأنواع الكلية لمعجزاته e وقد علمتَ انها جميعاً ثابتة بروايات صحيحة وبتواتر معنوي. وانت لم تسمع بعدُ الاّ نبذةً يسيرة مما يتعلق بالامور الغيبية.. أفبعد ما يسمع الانسان هذه المعجزات يقول لصاحبها: انه عبقري يكشف المستقبل بفراسته؟.

هب اننا قلنا مثلك: انه عبقري! أفيمكن ان تلتبس الرؤية على من يملك مئات الأضعاف من الذكاء المقدس والعبقرية السامية؟ وهل يمكن لمثل هذه الشخصية السامية ان تهبط من سموها الصادق فيخبر أخباراً عارية عن الصحة؟ أليس جنوناً وبلاهةً ما بعدها بلاهة الاعراضُ عما تخبر به هذه العبقرية الفذة حول سعادة الدارين!؟.

الاشارة البليغة السادسة

T ثبت انه e أخبر فاطمة: أنها ((أول أهله لحوقاً به))(1).. أي أول من يموت بعده e فيتبعه من أهل البيت. وبعد ستة أشهر وقع ما قال.

T وثبت أيضاً أنه e : ((اخبر أبا ذر رضي الله عنه بتطريده)) أي من المدينة المنورة ((وبعيشه وحده وبموته وحده))(2)، وبعد عشرين سنة وقع الأمر كما أخبر.

T وأيضاً انه e استيقظ من النوم في بيت أم حرام (خالة أنس بن مالك فتبسم قائلاً: ((ناسٌ من امتي عرضوا عليّ غزاةً في سبيل الله يركبون ثَبجَ هذا البحر(3) ملوكاً على الأسرَّة، فقالت: ادع يا رسول الله ان اكون معهم، فدعا لها))(4). وبعد أربعين سنة اصطحبت زوجها عُبادة بن الصامت لفتح قبرص وتوفيت هناك. وقبرها الآن هناك معروف يزار.

T وثبث انه e قال: ((ان في ثقيف كذّاباً ومُبيراً))(5) فاخبر عن المختار المشهور الذي إدّعى النبوة، وسفاك الدماء الحجاج الظالم الذي قتل مائة ألف نفس(1).

T وثبت ايضاً انه e قال: (( لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش))(2) فأفاد بهذا انه ستَفتح مدينة استانبول بيد المسلمين، وسيكون لمحمد الفاتح مرتبة عالية: ((نِعمَ الأمير)). وظهر الأمر كما قال.

T و ثبت كذلك أنه e قال: ((ان الدِّين لو كان منوطاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارس))(3) مشيراً الى الذين أنجبتهم بلاد فارس من العلماء والأولياء أمثال الأمام ابي حنيفة النعمان.

T وقال e أيضاً: ((عالمُ قريش يَملأ طباق الأرض علماً))(4)، مشيراً بذلك الى الامام الشافعي.

T وأخبر e : ((أن الأمة ستفترق الى ثلاث وسبعين فرقة وان الناجية منها أهل السنة والجماعة))(5).

T وقال e : ((القَدَرية مجوس هذه الأمة))(6)، مشيراً بذلك الى طائفة القدرية المنكرين للقَدر، والتي هي منقسمة الى شعب وفرق كثيرة.

T وكذا أخبر عن فرق كثيرة، اذ ثبت انه قال لعلي ما معناه: ان مثلك مثل عيسى عليه السلام، ستكون سبباً في هلاك فئتين من الناس: احداهما من فرط المحبة والاخرى من فرط العداوة(1). حيث افرط النصارى في حب عيسى عليه السلام حتى تجاوزوا الحد المشروع فيهلكون وقالوا: انه ابن الله ــ حاش لله ـ واليهود أيضاً أفرطوا في العداوة له فانكروا نبوته ومنزلته الرفيعة. وكذلك سيفرط فريق من الناس في الحب لك ويتعدّون الحدّ المشروع فيهلكون، اذ قال e في حقهم: ((لهم نبزٌ يُقال لهم الرافضة))(2)، وفريق آخر سيفرطون في العداء لك وهم (الخوارج وقسم من المغالين في موالاة الأمويين وهم (الناصبة ).

فان قيل:

ان القرآن الكريم يأمر بحب آل البيت، وقد حث النبي e على ذلك، فلربما يشكّل هذا الحب عذراً، حيث ان أهل الحب أهل انتشاء وسكر ـ أي ذاهلون ـ فَلِمَ لا تَنتفع الشّيعة ولا سيما الرّافضة من هذا الحب ولا ينقذهم من العذاب، بل نرى العكس من ذلك فانهم يدانون من فرط الحب كما أشار اليه الحديث الشريف؟!.

الجواب: ان الحب قسمان

أحدهما: حب (بالمعنى الحرفي) وهو حب عليّ والحسن والحسين وآل البيت محبة لله وللرسول وفي سبيلهما. فهذا الحب يزيد حب الرسول e ويكون وسيلة لحب الله عز وجل فهذا الحب مشروع، لا يضر افراطُه، لانه لا يتجاوز الحدود ولا يستدعي ذم الغير وعداوته.

وثانيهما: حب (بالمعنى الاسمي) وهو حبهم حباً ذاتياً، ولأجلهم، اي حب عليّ من أجل شجاعته وكماله، وحب الحسن والحسين من أجل فضائلهما ومزاياهما الكاملة فحسب، من غير تذكّر للنبي e ، حتى ان منهم من يحبهم ولو لم يعرف الله ورسوله. فهذا الحب لا يكون وسيلةً لحب الله ورسوله. واذا ما كان في هذا الحب افراط فانه سيفضي الى ذم الغير وعداوته.

وهكذا أفرط منهم ـ كما ذكر في الحديث الشريف ـ في الحب لعليّ وتبرأوا من أبي بكر وعمر، فوقعوا في خسارة عظيمة. فكان هذا الحب السلبي ـ غير الايجابي ـ سبباً لخسارتهم .

T ونقل نقلاً صحيحاً انه e حذّر الأمة من أنهم ((اذا مشوا المُطَيطاء(1) وخَدَمَتْهم بناتُ فارس والروم ردَّ الله بأسَهُم بينهم وسلّط شِرارَهم على خِيارِهم))(2). وبعد ثلاثين سنة وقع الأمر كما قال.

T وثبت كذلك انه e أعلَمَ أصحابه: ((بفتح خيبر على يَدي عليّ))(3). وفي غد يومه وقعت المعجزة النبوية ـ فوق ما كان يُتوقع ـ فأخذ عليّ باب القلعة بيده وجعله ترساً. ولما تم أمر الفتح رماه في الأرض، وكان الباب عظيماً، حتى انه لم يستطع ثمانية رجال ـ وفي رواية اربعون رجلاً ـ رفعه من الارض(4).

T وقال e : ((لا تقومُ الساعةُ حتى تَقتَتِلَ فئتان عظيمتان دعواهُما واحدة))(1) فأخبر عن الحرب التي وقعت في صفين بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما.

ومما أخبر به e : ((ان عماراً تَقتُلُه الفئةُ الباغية"))(2)، وبعد ذلك قُتل في حرب صفين. فاحتج علي به من ان الموالين لمعاوية هم الفئة الباغية، ولكن معاوية أوّل الحديث. وقال عمرو بن العاص: البغاة هم قاتلوه فقط، ولسنا جميعاً بغاة.

وقال e أيضاً: ((ان الفتنَ لا تَظهر ما دام عمر حياً))(3). فكان الأمر كما أخبر.

T ((ولما اُسِرَ سُهيل بن عمرو ـ قبل اسلامه ـ يوم بدر قال عمر: يا رسول الله انه رجل مفوّه فَدَْعني انتزع ثنيتيه السفليتين، فلا يقوم خطيباً عليك بعد اليوم))، فقال رسول الله e : ((وعسى ان يقومَ مقاماً يَسرُّك يا عمر))(4). فكان كذلك اذ حينما وقعت وفاة النبي e ، تلك الحادثة العظمى التي كلَّ الصبرُ فيها، قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه مُعزّياً المسلمين في المدينة المنورة ومثبّتاً قلوبَ الصحابة فخطب فيهم خطبة بليغة. وقام سهيل أيضاً في مكة المكرمة يحذو حذو أبي بكر، فالقى خطبة شبيهة بخطبة أبي بكر، حتى ان كلمات الخطبتين تواردت على معنى واحد، الى حدٍ ما.

T وقال الرسول e لسُراقة: ((كيف بك اذا اُلبستَ سوارَيْ كسرى))(5) وفي عهد عمر رضي الله عنه سقطت دولة كسرى وجاءت زينة كسرى وحليه فألبسها عمرُ سراقةَ وقال: ((الحمد)) الذي سَلَبهما كِسرى والْبَسهما سُراقةَ(1) وصدّق ما أخبر به النبي e .

T وقال أيضاً e : ((اذا هَلكَ كسرى فلا كسرى بعدَه(2))) فكان الأمر كما أخبر.

T وأخبر e رسولَ كسرى: ((ان الله سلّط على كسرى ابنَه شهَرَوَيه فقَتَله في وقت كذا..))(3) فلما حقق ذلك الرسول وقتَ مقتل كسرى، ايقنَ ان قتلَه كان في نفس الوقت الذي أخبر عنه e فأسلم بسبب ذلك. واسمُ ذلك الرسول ((فيروز)) كما ورد في بعض الروايات

T وأخبر عن كتاب حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسله سراً الى كفار قريش. فأرسلe علياً والمقداد رضي الله عنهما بأن في الموضع الفلاني جارية معها رسالة. فأتوني بها، فذهبا واتيا بالرسالة في المكان الذي وصفه الرسول e ، واستدعى حاطباً وقال له: ما الذي حَمَلك على هذا؟ فابدى عذره فقَبِل منه(4). وهذه رواية صحيحة ثابتة.

T وثبت أيضاً انه e قال في عتبة ابن أبي لهب: ((يأكله كلبُ الله))(5) فأخبر عن عاقبته المفجعة، وبعد مدة من الزمن ذهب عتبة متوجهاً نحو اليمن فجاءه سبع وأكله. فصدّق دعاءه عليه.

T ونقل نقلاً صحيحاً: ((ان الرسول e لما فتح مكة أمر بلالاً رضي الله عنه بأن يعلو ظهر الكعبة ويؤذن عليها. وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وهم رؤساء قريش جلوس في فناء الكعبة. فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً اذ لم ير هذا اليوم. وقال الحارث: أما وَجَد محمدٌ مؤذناً غير هذا الغراب الأسود!

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، ولو تكلمتُ لأخْبَرَتْه هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي e وقال: لقد علمتُ الذي قلتُم وذكرَ مقالتهم.

فقال الحارث وعتاب: نشهدُ انكَ رسولُ الله، ما اطّلع على هذا أحدٌ كان معنا فنقول به))(1).

فيامن لا يؤمن بهذا النبي الكريم ويا أيها الملحد!

تأمل في هذين العنيدين من رؤساء قريش كيف رأيا نفسيهما مضطرَّين الى الايمان، بما سَمِعاه من أخبارٍ غيبي واحد. فما أفسد قلبك وانتَ تسمع ألوفَ المعجزات من امثالها وكلها ثابتة بطرق التواتر المعنوي ومع ذلك لا يطمئن قلبُك... فلنرجع الى الصدد.

T وثبت أيضاً انه e ((أخبر بالمال الذي تركه عمُّه العباس رضي الله عنه عند أم الفضل (زوجه) بعد أن كتمه))(2) ((فلما أسر ببدر وطُلبَ منه الفداء فقال: لا مال لي)). فقال له e : ما صنع المال الذي وضعتَه عند أم الفضل. فقال: ((ما عَلِمَه غيري وغيرُها. فأسلَمَ))(3).

T وثبت أيضاً: ان الساحر الخبيث لبيد اليهودي عمل سحراً ليؤذي النبي e فشدّ الشعر على مشط، ودسّه في بئر، فأمر الرسول الأكرم e علياً والصحابة؛ أن يذهبوا الى البئر الفلانية ويأتوا بأدوات السحر، فذهبوا وأتوا بها، وكان كلما انحلَّت منه عقدةٌ وَجَد الرسول e شيئاً من الخفة(4).

T وثبت أيضاً، ان الرسول الأكرم e قال لجماعة فيها أبو هريرة وحذيفة: ((ضرسُ احدكم في النار مثلُ اُحد))(1)، فأخبر عن ردّة واحدةمن تلك الجماعة وبيّن عاقبته الوخيمة. قال أبو هريرة: ((فذهب القوم ــ يعني ماتوا ــ وبقيتُ أنا ورجل، فقُتِل مرتداً يومَ اليَمامة))(2). وظهرت حقيقة خبر النبي e .

T وثبت أيضاً ((بقضية عُمَير مع صفوان حين سارَّه وشارَطَه على قتل النبي e )) مقابل مبلغٍ عظيمٍ من المال ((فلما جاء عُمير النبي e قاصداً لقتله، وأطْلَعَه رسول الله e على الأمر والسر ــ ووضع يده على صدره ــ أسلم))(3).

هذا وقد وقع كثيرٌ من أمثال هذه الأنباءات الغيبية الصادقة، وذكرتها كتب الصحاح الستة المعروفة مع أسانيدها. واغلب ما ذكر في هذه الرسالة من الحوادث انما هو في حكم المتواتر المعنوي، وهي قطعية الثبوت ويقينية، وقد نقلها البخاري ومسلم في صحيحَيهما اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن الكريم، على ما هو عليه أهل العلم والتحقيق، علماً أنها بُيّنَت في كتب السنن الصحيحة الأخرى كالترمذي والنسائي وابي داود ومستدرك الحاكم ومسند أحمد بن حنبل ودلائل البيهقي مع اسانيدها.

فيا أيها الملحد الغافل! لا تلق الكلام جزافاً فتقول:

ان محمداً e رجل عاقل ذكي! ثم تَدع الامر هكذا وتنصرف، فهذه الاخبار الصادقة التي تمس الامور الغيبية لا تخلو من أمرين اثنين؛ اما انك تقول: ان هذا الرجل له نظرٌ ثاقب وعبقرية واسعة جداً، أي له عينٌ بصيرة ترى الماضي والمستقبل معاً والعالم أجمع، فيعلم بها كل شيء وكل حادث، فاقطار الارض والعالم كله شرقاً وغرباً تحت نظر شهوده، وله من الدهاء العظيم ما يمكنه ان يكشف جميع أمور الماضي والمستقبل.! فهذه الحالة لا يمكن كما ترى ان تكون في بشر قط. واذا ما وقعت في اي فردٍ فهو اذاً خارق للعادة وله موهبة رفيعة منحها له ربُّ العالمين.. وهذا الامر بحد ذاته معجزة عظمى.. أو ينبغي لك أن تؤمن بأن ذلك الشخص الكريم مأمور وتلميذ يتلقى الارشاد والتعليمات ممن يرى كل شئ، وله القدرة بالتصرف في كل شئ في الكون كله والازمان جميعاً، فكل شيء مكتوب في لوحه المحفوظ، يعلّم منه تلميذه ما شاء متى شاء. فثبت اذاً ان محمداً e يتلقى الدرسَ من معلمه الأزلي سبحانه ويبلّغه كذلك.

T وثبت ايضاً انه e حينما بعث خالداً بن الوليد ليحارب اكيدر ـ رئيس دومة الجندل(1) ـ قال له: ((انك سَتَجده يَصيد البَقَر))(2) ـ اي البقر الوحشي ـ وأخبره بأنه سيأتي به أسيراً من غير مقاومة منه. وذهب خالد ورآه كما وصفه الرسول الكريم e فأخذه أسيراً وأتى به.

T وثبت أيضاً انه e أعلم ((قريشاً بأكل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها على بني هاشم وقطعوا بها رحمهم، وانها أبْقَت فيها كل اسمٍ لله، فوجدوها كما قال))(3)، وهي معلقة على الكعبة.

T وثبت أيضاً انه e أخبر عن ظهور الطاعون عند فتح بيت المقدس. ففي عهد عمر انتشر وباء الطاعون انتشاراً فظيعاً بحيث ان عدد الذين توفوا نتيجة الأمراض سبعون الف شخص خلال ثلاثة أيام(4).

T وثبت أيضا انه e أخبر عن وجود البصرة(1) وبغداد(2) قبل ان تعمُرا، وأخبر عن جبي خزائن الارض الى مدينة بغداد.

T وأخبرهم e عن ((قتالهم الترك))(3) والأمم التي حول بحر الخزر ثم بعد ذلك يدخل اكثر هؤلاء الامم في دين الاسلام، وسيحكمون العرب بينهم حيث قال: ((يوشَكُ ان يَكثُر فيكم العَجَم يأكلون فيئَكُم ويضربون رِقَابكم))(4).

T وقال e : ((هلاكُ أمتي على يدي اُغيلمةٍ من قريش))(5) فأخبر عن يزيد والوليد وأمثالهم من الرؤساء الأشرار في الأمويين.

T وأخبر e عن وقوع ردّة في بعض الاماكن كاليمامة(6).

T وقال في غزوة الخندق: ((ان قريشاً والأحزاب لا يغزونني أبداً وانا أغزوهم))(7) وكان الأمر كما أخبر.

T وثبت كذلك انه e أخبر قبل وفاته بشهرين: ((بأن عبداً خُيِّرَ فاختار ما عند الله))(8).

T وقال في حق زيد بن صوحان: ((يَسبقُهُ عضوٌ الى الجنة، فقُطعت يدهُ في الجهاد))(1) وأصبحت شهيدة، يوم نهاوند، فسبقته الى الجنة.



T T T



وهكذا فان جميع ما بحثناه من أمور الغيب انما هو نوع واحد فقط من بين عشرة أنواع من معجزاته e ، فنحن لم نعرف بعدُ عُشر معشار هذا النوع، وقد بينّا اجمالاً أربعة أنواع من الاخبار الغيبي في الكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن.

فتأمل الآن في هذا النوع، وضمّه الى الانواع الاربعة الاخرى التي أخبر عنهاe بلسان القرآن، وانظر كيف يشكل برهاناً قاطعاً لامعاً على الرسالة بحيث يذعن مَن لم يختل عقلُه وقلبُه ويصدّق بأن هذا النبي الكريم e انما هو رسول يخبر عن الغيب من لدن خالق كل شئ وعلام الغيوب.

عبدالرزاق 02-03-2011 02:05 AM

رد: المكتوبات
 
الاشارة البليغة السابعة

نشير الى بضع امثلة من المعجزات النبوية التي تخص بركة الطعام وثبتت بروايات صحيحة قاطعة وبالتواتر المعنوي. ونرى من الأنسب ان نقدّم بين يديها مقدمة.

المـقدمة

ان الامثلة التي سترد حول معجزة بركة الطعام كل منها قد روي بطرق متعددة، بل ان قسماً منها روي بستة عشر طريقاً، وقد وقع معظم هذه الامثلة امام جماعة غفيرة من الصحابة الكرام المنزّهين عن الكذب والذين لهم المنزلة الرفيعة في الصدق والامانة.

مثال للتوضيح:

يروي احدهم انه: اكل سبعون رجلاً من صاعٍ(1) وشبعوا جميعاً. فالرجال السبعون يسمعون هذه الرواية التي يحكيها احدهم، ثم لا يخالفونه ولا ينكرون عليه، اي أنهم يصدّقونه بسكوتهم.

فالصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم اجمعين كانوا في ذروة الصدق والحق حيث انهم عاشوا في خير القرون وهم محفوظون من الاغضاء على الباطل، فلو كان يرى احدهم شيئاً ولو يسيراً من الكذب في اي كلام كان لما وسعه السكوت عليه قطعاً، بل كان يردّه حتماً.

لذا فالروايات التي نذكرها فضلاً عن انها رويت بطرق متعددة فقد سكت عنها الآخرون تصديقاً بها، اي كأن الجماعة قد رووها فالساكت منهم كالناطق بها فهي اذن تفيد القطعية كالمتواتر المعنوي.

ويشهد التأريخ ـ والسيرة خاصة ـ أن الصحابة الكرام قد وقفوا أنفسهم بعد حفظ القرآن الكريم لحفظ الحديث الشريف، أي حفظ احواله e وافعاله واقواله، سواء منها المتعلقة بالاحكام الشرعية أم بالمعجزات، ولم يهملوا ـ جزاهم الله خيراً ـ اية حركة مهما كانت صغيرة من سيرته المباركة، بل اعتنوا بها وبروايتها، ودوّنوها في مدوّنات لديهم، ولا سيما العبادلة السبعة وبخاصة ترجمـان القرآن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهكذا حُفظت الاحاديث في عهد الصحابة الكرام حتى جاء كبار التابعين بعد ثلاثين أو أربعين سنة فتسلّموها غضةً طريةً منهم وحفظوها بكل امانة واخلاص، فكتبوها ونقلها عنهم بعد ذلك الائمة المجتهدون وألوف المحققين والمحدّثين وحفظوها بالكتابة والتدوين، ثم تسلّمها ـ بعد مضي مائتي سنة من الهجرة ـ اصحاب الكتب الستة الصحيحة المعروفة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، ثم جاء دور النقّاد واهل الجرح والتعديل، وبرز منهم متشددون ـ امثال ابن الجوزي ـ فميّزوا الاحاديث الموضوعة التي دسّها بعض الملاحدة وجهلة الناس على الاحاديث الصحيحة. ثم اعقبهم علماء أفاضل ذوو تقوى وورع امثال جلال الدين السيوطي وهو العلاّمة الامام الذي تشرف بمحاورة الرسول e فتمثل له في اليقظة سبعين مرة ــ كما يصدّقه أهل الكشف من الاولياء الصالحين ـ فميّزوا جواهر الاحاديث الصحيحة من سائر الكلام والموضوعات.

وهكذا ترى ان الاحاديث ـ والمعجزات التي سنبحث عنها ــ قد انتقلت الينا سليمة صحيحة بعد ان تسلّمها مالا يعد ولا يحصى من الأيدي الأمينة ((فالحمدلله، هذا من فضل ربي)).

وعليه فلا ينبغي أن يخطر بالبال: كيف نعرف أن هذه الحوادث التي حدثت منذ مدة سحيقة قد ظلت مصونة سالمة من يد العبث؟

أمثلة حول معجزات بركة الطعام:

المثال الأول:

T اتفقت الصحاح الستة، وفي مقدمتها البخاري ومسلم في حديث أنس رضي الله عنه ((قال: كان النبي e عروساً بزينب، فعَمِدَتْ أمي أمّ سُلَيم الى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور(1) فقالت: يا أنس! اذهب بهذا الى رسول الله e فقل بعثتْ بهذا اليكَ امي، وهي تقرئك السلام، وتقول: ان هذا لك منّا قليل يا رسول الله! فذهبت فقلت))، فقال: ((ضعْهُ)) ثم قال: ((اذهب فادعُ لي فلاناً)) وفلانا وفلاناً رجالاً سمّاهم ((وادعُ مَن لقيتَ)) فدعوتُ مَن سمّى ومَن لقيتُ فرجعتُ فاذا البيت غاص باهله، قيل لأنس: عددكم كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمئة. فرأيت النبيe وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلُّ رجل مما يليه)) قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى اكلوا كلهم قال لي: ((يا أنس! ارفع)) فرفعتُ، فما ادرى حين وضعتُ كان اكثر ام حين رفعتُ(1).

المثال الثاني:

T نزل النبي e ضيفاً عند ابي ايوب الانصاري فذات يوم ((صنعَ لرسول الله e ولابي بكر رضي الله عنه من الطعام زُهاء ما يكفيهما. فقال له النبي e : ادعُ ثلاثين من أشرافِ الانصار! فدعاهم فأكلوا حتى تركوا. ثم قال: ادعُ ستين، فكان مثلُ ذلك، ثم قال: ادعُ سبعين فاكلوا حتى تركوه، وما خرج منهم أحدٌ حتى اسلم وبايع، قال ابو ايوب: فأكل من طعامي مئة وثمانون رجلاً))(2).

المثال الثالث:

T ((حديث سلمة بن الاكوع، وابو هريرة، وعمر بن الخطاب (وابو عمرة الانصاري رضي الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبي e في بعض مغازيه، فدعا ببقية الازواد(3)، فجاء الرجل بالحَثْية من الطعام، وفوق ذلك ، واعلاهم الذي اتي بالصاع من التمر، فَجَمعه على نطْعٍ. قال سلمة: فحرزته، كَربضةِ العنز، ثم دعا الناس باوعيتهم، فما بقي في الجيش وعاء الاّ ملأوه، وبقي منه قدر ما جُعل واكثر، ولو ورده أهلُ الارض لكفاهم))(4).





المثال الرابع:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم أن عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق قال: ((كنا مع النبي e ثلاثين ومئة)) في سفر ((وذكر في الحديث أنه عُجن صاعٌ من طعام، وصُنعَت شاةٌ فشويَ سواد بطنها قال: وايم الله ما من الثلاثين ومئة الاّ وقد حزَّ لهُ حزّةً من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فاكلنا اجمعون، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير))(1).

المثال الخامس:

ثبت في الصحاح أيضاً:

T ((حديث جابر في اطعامه e يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق(2) وقال جابر: فاُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وان بُرمَتنا لتَغُط كما هي وان عجيننا ليخبز))(3) وكان الرسول الأكرم e قد وضع في ذلك العجين والقدر من ماء فيه المبارك ودعا بالبركة. فيعلن جابر مقسماً بالله معجزة البركة هذه في حضور الف من الصحابة مُظهراً علاقتهم بها.

فهذه الرواية قطعية وكأن الف رجل قد رواها.

المثال السادس:

T وثبت في الصحاح أن ابا طلحة عمَّ خادم النبي e أنس رضي الله عنه يقول:

ان الرسول الاكرم e اطعَمَ مما أتى به أنسُ تحت ابطه من قليل خبز شعير زهاء ثمانين رجلاً حتى شبعوا. وكان e أمر بأن يجعل ذلك الخبز ارباً ارباً، ودعا بالبركة، وان البيت ضاق بهم فكانوا يأكلون عشرة عشرة، ورجعوا كلهم شباعاً(4).

المثال السابع:

T ثبت في صحيح مسلم والشفا وغيرهما ان جابراً الانصاري يقول: ((ان رجلاً اتى النبي e يستطعمه، فاطعَمَه شطر وَسْق شعير، فما زال يأكل منه هو وأمراتُه وضيفه حتى كالَه)) ليعرفوا ما نقصَ منه، فرأوا أنه زالت منه البركة، وصار ينقص شيئاً فشيئاً. فأتى النبي e فأخبره فقال e : ((لو لم تَكِلْهُ لأكلتم منه ولقام بكم))(1).

المثال الثامن:

T تبين الصحاح كالترمذي والنسائي والبيهقي وكتاب الشفاء ((عن سمرة بن جندب: أتى النبي e بقصعةٍ فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون))(2).

وبناء على ما ذكرناه في المقدمة، هذه الواقعة الواردة في البركة ليست رواية سمرة فقط، بل كأنه ممثلٌ عن تلك الجماعات التي أكلت من ذلك الطعام. فيعلن هذه الرواية بدلاً منهم.

المثال التاسع:

T يروى رجال ثقاة كصاحب الشفاء وابن أبي شيبة والطبراني بسند جيد وعلماء محققون: ((عن ابي هريرة: أمرني النبي e ان ادعوَ له اهلَ الصفة)) وهم فقراء المهاجرين الذين كان ينوف عددهم على مائة. والذين كانوا قد اتخذوا الصفّة في المسجد مأوىً لهم (( فتتبَّعتُهم حتى جمعتُهم. فوُضعَت بين ايدينا صفحةٌ، فأكلنا ما شئنا، وفرغنا، وهي مثلها حين وُضعت، الاَّ أن فيها أثر الاصابع))(3).

فابو هريرة يدلي بهذا الخبر باسم اصحاب الصفة مستنداً الى تصديقهم. فهي رواية قطعية اذاً وكأن جميع أهل الصفة رووها. فهل يمكن ان يكون هذا الخبر خلاف الحق والصواب ثم لا ينكر عليه اولئك الصادقون الكاملون ولا يردّونه؟.

المثال العاشر:

T ثبت برواية صحيحة أن الامام علياً رضي الله عنه قال: ((جمع رسول الله e يوماً بني عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قومٌ يأكلون الجدعة ويشربون الفرق)) اي منهم من يأكل فرع الجمل ويشرب اربع اوقيات من الحليب ((فصنع لهم مُدّاً من طعامٍ فأكلوا حتى شبعوا وبقي كما هو، ثم دعا بعسّ)) اي اناء من خشب حليباً يكفى لثلاثة أو اربعة ((فشربوا حتى رووا. وبقي كأنه لم يشرب))(1).

فهذا مثال واحد لمعجزة بركة الطعام وهو بقطعية شجاعة علي رضي الله عنه وصدقه.

المثال الحادي عشر:

T ثبت برواية صحيحة ((في انكاح النبي e لعلي فاطمة أن النبي e أمر بلالاً بقصعة من اربعة امدادٍ أو خمسة ويذبح جزوراً(2) لوليمتها. قال: فاتيته بذلك فطعن في رأسها، ثم ادخل الناس رُفقة رفقة يأكلون منها، حتى فرغوا، وبقيت منها فضلةٌ، فبرّك فيها وأمر بحملها الى ازواجه، وقال: ((كلن واطعمن مَن غشيكن))(3) حقاً! ان مثل هذا الزواج الميمون لحريٌّ بمثل هذه المعجزة في البركة.

المثال الثاني عشر:

T روى جعفر الصادق عن ابيه محمد الباقر عن ابيه زين العابدين عن علي رضي الله عنه: ((ان فاطمة طبخت قدراً لغذائهما ووجّهت علياً الى النبي e ليتغذى معهما، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحة ثم له e ولعلي ثم لها ثم رفعت القدر وانها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله))(1).

فعجباً من أمرك ايها الانسان لِمَ لا تصدّق بهذه المعجزة الباهرة تصديق شهود بعد ما سمعت ان رواتها من السلسلة الطاهرة، حتى الشيطان نفسه لا يجد سبيلاً لأنكارها!

المثال الثالث عشر:

T روى الائمة امثال ابي داود وأحمد ابن حنبل والبيهقي عن دُكَين الأحمسي بن سعيد المزين، وعن الصحابي الذي تشرف هو واخوته الستة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نعمان بن مقرن الأحمسي المزين، ومن رواية جرير ومن طرق متعددة ان الرسول الأكرم e : ((أمر عمر بن الخطاب ان يزود اربعمائة راكب من أحمس. فقال: يا رسول الله ما هي الاّ أصوع(2) قال: اذهب، فذهب فزوَّدهم منه. وكان قدر الفصيل الرابض من التمر، وبقي بحاله))(3).

هكذا وقعت معجزة البركة هذه، وهي تتعلق باربعمائة رجل، لا سيما بعمر رضي الله عنه. فهؤلاء جميعاً هم الرواة لأن سكوتهم حتماً تصديق للرواية. فلا تقل انها خبر آحاد ثم تمضي الى شأنك فأمثال هذه الحوادث وان كانت خبر آحاد، الاّ انها تورث الطمأنينة في القلب لانها بمثابة التواتر المعنوي.

المثال الرابع عشر:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم حديث جابر رضي الله عنه ((في دَين أبيه، وقد كان بَذَل لغرماء أبيه أصلَ مالِهِ ليقبلوه ولم يكن في ثمرها سنتين كفافُ دَينهم، فجاءه النبي e بعد أن أمره بجدِّها ــ أي قطعها ــ وجعلها بيادر في أصولها، فمشى فيها ودعا، فأوفي منه جابر غُرماء ابيه وفَضَل مثل ما كانوا يجدُّون كل سنة، وفي رواية مثل ما اعطاهم، قال: وكان الغرماء يهودَ فعجبوا من ذلك))(1).

وهكذا فهذه المعجزة الباهرة في بركة الطعام ليست برواية يرويها جابر واشخاص معدودون فقط وانما هي متواترة من حيث المعنى يرويها جميع هؤلاء الرواة ممثلين لكلّ من تتعلق به هذه الرواية.

المثال الخامس عشر:

T يروى العلماء المحققون رواية صحيحة، وفي مقدمتهم الأمام الترمذي والبيهقي، عن ابي هريرة رضى الله عنه انه قال: أصاب الناس مخمصةٌ في احدى الغزوات ــ وفي رواية في غزوة تبوك ـ ((فقال لي رسول الله e : هل من شئ؟ قلتُ: نعم شئٌ من التمر في المزود(2))) وفي رواية خمس عشرة تمرة ((قال فأتني به، فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة. ثم قال ادعُ عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبَّه، فقبضتُ على أكثر مما جئتُ به، فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله e وحياة ابي بكر وعمر الى أن قُتل عثمان فانتهبَ مني فذهب. وفي رواية فقد حملتُ من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله))(3).

وهكذا، فان معجزة البركة التي يرويها ابو هريرة، وهو الذي تتلمذ على معلم الكون وسيده محمد e ولازم مدرسة الصفة وبزّ فيها بالحفظ بدعاء النبي له، فهذا الصحابي الجليل يروي هذه الرواية في مجمع من الناس ــ كغزوة تبوك ــ فلا بد ان تكون هذه الرواية متواترة من حيث المعنى، وقوية متينة بقوة الجيش كله اي كما لو كان الجيش كله يرويها.

المثال السادس عشر:

T ثبت في صحيح البخاري والصحاح الاخرى: ان الجوع اصاب ابا هريرة، ((فاستَتَبعَه النبي e ، فوجد لبناً في قدح أهدي اليه، وأمره أن يدعو أهل الصفة. قال: فقلتُ ما هذا اللبن فيهم، كنت أحقَّ أن اصيب منه شربةً أتقوى بها، فدعوتُهم))، وكانوا ينوفون على المائة، فأمر e أن اسقيهم ((فجعلتُ اُعطي الرجل فيشرب حتى يروى. ثم يأخذه الآخر حتى رَوِى جميعهم قال: فأخذ النبي e القدحَ وقال: بقيتُ انا وانت، اقعد فاشرب. فشربت ثم قال: اشرب. وما زال يقولها وأشربُ حتى قُلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح وحمد الله وسمّى وشرب الفضلة))(1). فهنيئاً لك مائة الف مرة يا رسول الله.

فهذه المعجزة السليمة من شوائب الشك والخالصة اللطيفة كاللبن قد روتها كتب الصحاح وفي مقدمتها صحيح الامام البخاري الذي كان حافظاً لخمسمائة الف حديث. فهي اذن رواية لا ريب فيها قط وصادقة وثابتة كأنها مشهودة رأي العين، مثلما رواها تلميذ المدرسة الأحمدية المقدسة، مدرسة الصفّة، ذلك التلميذ الموثوق الحافظ ابو هريرة، رواها باسم اصحاب الصفة جميعهم وأشهدهم عليها.

فالذي لا يتلقى هذا الخبر تلقياً كأنه يشاهده، فهو إما فاسد القلب أو فاقد العقل.

تُرى هل من الممكن أن صحابياً جليلاً مثل ابي هريرة الصادق الذي بذل حياته في حفظ الحديث النبوي، أن يحط من قيمة ما حفظه من الاحاديث النبوية فيورد ما يثير الشك والشبهة ويقول ما يخالف الحق والواقع، وهو الذي سمع قول النبي e : ((مَنْ كَذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) حاشاه عن ذلك.

فيارب بحرمة بركة هذا الرسول الكريم e هب لنا البركة فيما منحتنا من ارزاق مادية ومعنوية.



نكتة مهمة

بديهي انه كلما اجتمعت اشياء واهية ضعيفة تقوّت. واذا اُبرمت خيوط رفيعة واتحدت صارت عروة وثقى لا تنفصم. وقد اوردنا هنا ستة عشر مثالاً لقسمٍ من خمسة عشر قسماً من نوع معجزة البركة التي تمثل نوعاً من خمسة عشر نوعاً من انواع المعجزات، وكل مثال اوردناه قويٌ في حد ذاته وكاف وحده لإثبات النبوة. ولو فرضنا ــ فرضاً محالاً ــ بأن بعضاً منها ضعيف غير قوي في ذاته، فلا يجوز الحكم عليه بأن المثال لا يقوى دليلاً على المعجزة لأنه يتقوى بأتفاقه مع القوي.

ثم ان اجتماع هذه الامثلة الستة عشر التي هي في درجة التواتر المعنوي يدل على معجزة كبرى قوية، ولو مُزجَت هذه المعجزة مع سائر الاقسام الاربعة عشر من معجزاته e حول البركة التي لم تذكر هنا، لغدت معجزة هائلة كالحبال المتحدة التي لا انفصام لها. ثم انك لو اضفت هذه المعجزة الهائلة القوية الى سائر انواع المعجـزات الاربع عشرة لرأيـت برهـاناً قوياً لا يـتزلـزل، برهـاناً باهراً على النـبوة الصادقة.

وهكذا فعماد النبوة الأحمدية عماد كالطود الاشم تتشكل من مجموعة هذه المعجزات.

ولا شك انك ادركت الآن مدى سخافة وبلاهة مَن يرى هذا البناء الشامخ العامر للنبوة ثم يظن أنها تهوى بشبهات واهية ترد الى ظنه من جزئيات الامثلة.

نعم! ان تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام تدل دلالة قاطعة على نبوة محمد e وانه مأمور محبوب لدى ذلك الرحيم الكريم الذي يمنح الرزق ويخلقه. وهو عبد كريم لديه بحيث يبعث له مستضافات مملوءة بانواع من الرزق ـ خلافاً للمعتاد ـ من العدم ومن خزائن الغيب التي لا تنفد.

ومعلوم أن الجزيرة العربية شحيحة بالماء والزراعة بحيث ان اهاليها ـ لا سيما في صدر الاسلام ـ كانوا في ضيق من المعيشة وشدة منها وشحة من الماء والتعرض للعطش. فبناء على هذه الحكمة، فقد ظهرت اهم المعجزات الاحمدية الباهرة ظهوراً في الطعام والماء.

فهذه المعجزات انما هي بمثابة اكرام رباني، واحسان الهي، وضيافة رحمانية للرسول الكريم e ، يكرمه حسب الحاجة، فهي اكرام اكثر من ان تكون دليلاً على النبوة. لأن الذين رأوا هذه المعجزات، كانوا مؤمنين ايماناً قوياً بالنبوة. فالمعجزة كلما ظهرت يتزايد الايمان ويتقوى، وهكذا تزيدهم هذه المعجزات نوراً على نور ايمانهم.

الاشارة البليغة الثامنة

تبين قسماً من المعجزات التي تتعلق بالماء.

المـقــدمة

ان الحوادث التي تقع بين اظهر الناس، اذا ما نُقلت بطريق الآحاد ولم تُكذَّب فهي دلالة على صدق وقوعها، لان فطرة الانسان مجبولة على ان يفضح الكذب ويرفضه. ولا سيما اولئك الذين لا يسكتون على الكذب وهم الصحب الكرام، وبخاصة اذا كانت الاحداث تتعلق بالرسول الاكرم e ، وبالاخص ان الرواة هم من مشاهير الصحابة. فيكون راوي ذلك الخبر الواحد حينذاك كأنه ممثل لتلك الجماعة التي شاهَدَتْه شهود عيان. علماً ان كل مثال من امثلة المعجزات المتعقلة بالماء التي سنبحث عنها قد رُوي بطرق متعددة، عن كثير من الصحابة الكرام وتناوله ائمة التابعين وعلماؤهم بالحفظ وسلّموا كل رواية منها بأمانة بالغة الى الذين يأتون من بعدهم في العصور الاخرى. فتلقاه العصر الذي بعدهم بجدّ وامانة ونقلوه بدورهم الى علماء العصر التالي، وهكذا تعاقبت عليه الوف العلماء الأجلاء في كل عصر وكل طبقة، حتى وصل الى يومنا هذا، فضلاً عن ان كتباً للاحاديث قد دوّنت في عصر النبوة وسُلّمت من يد الى يد حتى وصلت الى ايدي ائمة الحديث من امثال البخاري ومسلم فَوعوها وعياً كاملاً، وميّزوا هذه الروايات حسب مراتبها، وقاموا بجمع كل ما هو صحيح خالٍ من شائبة الشبهة في صحاحهم، فارشدونا الى الصواب.. جزاهم الله خيراً.

مثال: ان فوران الماء من اصابع الرسول e ، وسقيه كثيراً من الناس، حادث متواتر. نقلته جماعة غفيرة لا يمكن تواطؤهم على الكذب بل محال كذبهم. فهذه المعجزة اذاً ثابتة قطعاً، فضلاً عن انها قد تكررت ثلاث مرات امام ثلاث جماعات عظيمة.

فقد روت الحادثة برواية صحيحة جماعة من مشاهير الصحابة، وفي مقدمتهم أنس ((خادم الرسول e )) وجابر وابن مسعود ونقلها الينا ـ بسلسلة من الطرق ـ ائمةُ الحديث امثال البخاري ومسلم والامام مالك وابن شُعيب وقتادة رضوان الله تعالى عليهم اجمعين.

وسنذكر تسعة امثلة فحسب من المعجزات المتعلقة بالماء.

المثال الاول:

T ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما: ((عن انس بن مالك قال رأيت رسول الله e وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه)). ((قال: اُتي النبيُّ e باناء وهو بالزوراء(1)، فوضع يده في الاناء، فجعل الماء ينبع من بين اصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة، قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة))(2).

فأنت ترى ان انساً رضي الله عنه يخبر عن هذه الحادثة بوصفه ممثلاً عن ثلاثمائة رجل. فهل يمكن الاّ يشترك اولئك الثلاثمائة في هذا الخبر معنىً وهل يمكن ألاّ يكذبوه ـ حاشاه ـ إن لم تكن هذه الحادثة قد حدثت فعلاً؟.

المثال الثاني:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم: ((عن سالم بن ابي الجعد عن جابر بن عبد الله الانصاري رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي e بين يديه ركوةٌ(3)، فتوضأ، فجهش الناس نحوهُ فقال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب، الاّ ما بين يديك. قال جابر: فوضع النبي e يده في الركوة فجعل الماء يثور من بين اصابعه، كامثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قال سالم: قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة الف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة))(4) فترى ان رواة هذه المعجزة يبلغون الفاً وخمسمائة رجل من حيث المعنى لأن الانسان مفطور على ان يفضح الكذب ويقول للكذب هذا كذب، فكيف بهؤلاء الصحابة الكرام الذين ضحوا بارواحهم واموالهم وآبائهم وابنائهم واقوامهم وقبائلهم في سبيل الحق والصدق؟ فضلاً عن انه محال ان يسكتوا على الكذب بعدما سمعوا التهديد المرعب في الحديث الشريف (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار . فماداموا لم يعترضوا على الخبر بل قبلوه ورضوا به، فقد أصبحوا اذاً مشتركين في الرواية ومصدِّقين لها من حيث المعنى.

المثال الثالث:

T تروى الكتب الصحاح ((ومنها البخاري ومسلم))(1) في ذكر غزوة (بُواطٍ)(2) أن جابراً قال: ((قال لي رسولُ الله e : يا جابر نادِ الوضوء)) فقيلَ لا يوجد لدينا الماء. فأراد ماء يسيراً. ((فأُتي به النبي e فغمزه(3)، وتكلّم بشئ لا ادري ما هو. وقال: نادِ بجفنة الركب، فاتيتُ فوضعتها بين يديه، وذكر ان النبيe بَسَط يده في الجفنة وفرّق اصابعه. وصبّ جابرٌ عليه وقال: بسم الله! قال: فرأيت الماء يفور من بين اصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا. فقلت هل بقي احدٌ له حاجة؟ فرفع رسول الله e يده من الجفنة وهي ملأى)).

فهذه المعجزة الباهرة متواترة من حيث المعنى، لأن جابراً كان في مقدمة المشاهدين فمن حقه اذاً ان يتكلم هو فيها، ويعلنها على لسان القوم حيث كان يخدم الرسول e آنذاك.

T وفي رواية ابن مسعود في الصحيح: ((ولقد رأيتُ الماء ينبعُ من بين اصابع رسول الله e ))(4).

يا ترى اذا روى صحابة ثقاة اجلاء من امثال انس وجابر وابن مسعود وقال كل منهم: ((رأيت))، أمن الممكن عدم رؤيتهم؟

وبعد؛ وَحِّد هذه الامثلة معاً، لترى مدى قوة هذه المعجزة الباهرة، لأن الطرق الثلاثة اذا ما توحدت فستثبت الرواية اثباتاً قاطعاً بالتواتر المعنوي، من ان الماء كان يفور من أصابعه e فهذه المعجزة أعظم وأسمى من تفجير موسى عليه السلام الماء من اثنتي عشر عيناً من الحجر لأن انفجار الماء من الحجر شئ ممكن له نظيره حسب العادة، ولكن لا نظير لفوران الماء من اللحم والعظم كالكوثر السلسبيل.

المثال الرابع:

T روى الامام مالك في كتابه القيّم (الموطأ(1)) عن أجلة الصحابة ((عن معاذ بن جبل في قصة غزوة (تبوك) انهم وردوا العين وهي تبض بشئ من ماء(2) مثل الشراك)) فأمر رسول الله e أن : اجمعوا من مائها ((فغرفوا من العين بايديهم حتى اجتمع في شئ. ثم غسل رسول الله e فيه وجهه ويديه واعاده فيها فَجَرت بماء كثير فاستقى الناس)) حتى قال في حديث ابن اسحاق ((فانخرق من الماء مالَه حِسّ كحس الصواعق. ثم قال: يوشِك يا معاذ إن طالت بك حياةٌ ان ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً)) وكذلك كان.

المثال الخامس:

T روى البخاري عن البراء، ومسلم عن سلمة بن الاكوع، وعن طرق اخرى في كتب الصحاح الاخرى ((كنا يوم الحديبية اربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها، حتى لم نترك فيها قطرة فجلس النبي e على شفير البئر فدعا بماء فمضمض ومجّ في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استسقينا حتى روينا ورَوَت أو صَدَرَت ركائبنا))(3) قال البراء: فأمر e بدلو من مائها، فأتينا بها، فألقى ريقه من فمه المبارك ودعا، ثم بعد ذلك أفرغ الدلو في البئر ففارت وارتفعت ملء فمها فأرووا انفسهم وركابهم.

المثال السادس

T روى ائمة الحديث، امثال مسلم وابن جرير الطبري وغيرهما عن ابي قتادة انه قال: ((ان النبي e خرج بهم ممدّاً لأهل مؤتة عندما بلغه قَتْل الامراء))(4) وكانت لديّ مِيضأة. فقال الرسول e : ((احفظ على مِيضأتك فانه سيكون لها نبأ)) وبعد ذلك أخذ العطش يشتد بنا وكنا اثنين وسبعين ـ وفي رواية الطبري كنا زهاء ثلاثمائة ـ فقال الرسول الكريم e : ((ائت ميضأتك. فأتيتُها فأخَذَها ووضع فمه في فمها ولم ادر أتنفسَ فيها أم لا؟ ثم بعد ذلك جاء أثنان وسبعون رجلاً فشربوا منها وملأوا اوعيتهم ثم بعد ذلك أخذتها ـ أي الميضأة(1) ـ فبقيت مثل ما كان))(2) فتأمل في هذه المعجزة الباهرة وقل:

اللّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله بعدد قطرات الماء.

المثال السابع:

T روى البخاري ومسلم عن عمران بن حُصين حين اصاب النبي e وأصحابه عطشٌ في بعض اسفارهم ((كنا في سفر مع النبي e ... فاشتكى اليه الناس من العطش فنزل... ودعا عليا فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فتلقيا أمرأة بين مُزادتين... فجاءا بها الى النبي e ... ودعا النبي e باناء ففرّغ فيه من افواه المزادتين، ونودي في الناس اسقوا فاستقوا... وانه ليُخيّل الينا انها اشدّ ملأة منها حين ابتدأ فيها)).

وقال النبي e : ((اجمعوا لها فجمعوا لها... حتى جمعوا لها طعاماً فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها... قال لها: تعلمين ما رُزئنا من مائكِ شيئاً ولكن الله هو الذي أسقانا... الى اخر الحديث))(3).

المثال الثامن:

T روى ابن خزيمة حديث ((عمر رضي الله عنه في جيش العسرة، وذكر ما اصابهم من العطش حتى ان الرجل لينحُر بعيرَه فيـعـصر فَرْثَه فيشـرَبُه، فرغـب ابو بكر رضي الله عنه الى النبي e في الدعاء. فرفع يديه فلم يُرجعهما حتى قالت(4) السماء فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية ولم تجاوز العسكر))(5).

فهذه معجزة احمدية محضة لا دخل للمصادفة فيها قط.

المثال التاسع:

T عن عمرو بن شعيب (حفيد عبد الله بن عمرو بن العاص ) الذي وثّقه الائمة الاربعة من اصحاب السنن في تخريجه الاحاديث: ((أن ابا طالب قال للنبيe وهو رَديفُه بذي المجاز: عطشتُ وليس عندي ماء. فنزل النبي e وضرب بقدمه الارض فخرج الماء، فقال اشرب))(1).

قال احد العلماء المحققين: هذه الحادثة كانـت قبـل النبوة لذا فهي من الارهاصات. وتفجر عينُ عرَفَه بعد مضي الف سنة يُعدّ من الاكرامات الإلـهية للرسول الكريم e .

وهكذا فالمعجزات المتعلقة بالماء، وان لم تبلغ تسعين مثالاً من امثال هذه التسعة الاّ انها رويت بتسعين وجهاً.

والامثلة السبعة الاولى قوية، وقطعية، كالتواتر المعنوي. اما المثالان الاخيران ــ وان لم تكن طرقهما قوية ومتعددة ورواتهما كثيرة الاّ ان اصحاب الحديث كالامام البيهقي والحاكم رووا عن عمر رضي الله عنه معجزة ثانية حول السحاب تأييداً للمعجزة في المثال الثامن التي رواها سيدنا عمر. والرواية هي أنه: ((اصاب الناس في بعض مغازيه e عطش فسأله عمر الدعاء، فدعا، فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم ثم اقلعت))(2) وكأن السحاب كان مأموراً لأن يروى الجيش وحده ـ حيث امطر حسب الحاجة ــ فكما تؤيد هذه الحادثة المثال الثامن وتقويّه، وتبينه رواية ثابتة قاطعة. فان ابن الجوزي ــ الذي يتشدد ويرّد حتى بعض الاحاديث الصحيحة ويجعلها في عداد الموضوعات ــ يقول: ان هذه الحادثة وقعت في غزوة بدر ونزلت في حقها الآية الكريمة: } ويُنزِّلُ عَليكُم مِن السّماء ماء لِيُطَهّركُم بِه{ (الانفال: 11).

فما دامت هذه الآية قد نزلت في حقها وبيَّنتها بوضوح، فلاشك اذاً في وقوعها.

وقد تكرر كثيراً نزول المطر بدعاء النبي e قبل ان تنزل يداه المرفوعتان وهي معجزة مستقلة بحد ذاتها. وقد استسقى النبي e احياناً وهو على المنبر، ونزلت الامطار قبل ان يخفض يده. وقد ثبت هذا عن طريق متواتر.

الاشارة البليغة التاسعة

ان أحد أنواع معجزات الرسول الاكرم e هو امتثال الأشجار لأوامره كامتثال البشر، وانخلاعها من اماكنها ومجيئها اليه. فهذه المعجزة المتعلقة بالاشجار هي متواترةٌ من حيث المعنى كفوران الماء من اصابعه المباركة ولها صور متعددة وقد رُويت بطرق كثيرة.

نعم! يصح ان يقال ان خبر انخلاع الشجرة من موضعها ومجيئها ممتثلة لأمر الرسول الاكرم e متواتر تواتراً صريحاً(1)، حيث قد رويت هذه الرواية من قبل صحابة كرام صادقين معروفين، امثال: علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ويعلى بن مرة وجابر وانس بن مالك، وبُريدة واسامة بن زيد وغيلان بن سلمة، وغيرهم فأخبر كلٌ منهم عن هذه المعجزة المتعلقة بالاشجار إخباراً ثابتاً قاطعاً. ونقلها عنهم مئات من ائمة التابعين بطرق مختلفة، في بداية كل طريق صحابي جليل، اي كأنها نقلت الينا نقلاً متواتراً مضاعفاً؛ لذا فلا يداخل هذه المعجزة ريبٌ ولا شبهة قط، فهي في حكم المتواتر المعنوي المقطوع به.

فهذه المعجزة وإن تكررت مرات عدة، الاّ اننا سنبين عدداً من صورها الصحيحة الكثيرة، ونوردها في بضعة امثلة:

المثال الاول:

T روى ابن ماجة والدارمي والبيهقي عن انس بن مالك وعلي، وروى البزار والبيهقي عن عمر، ان ثلاثة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين قالوا: كان الرسول الاكرم e قد حزن حزناً شديداً من تكذيب الكفار له ((قال: اللّهم! أرني آية لا أبالي من كذّبني بعدها)). وفي رواية أنس ((ان جبريل عليه السلام قال للنبي e ورآه حزيناً: أتحب ان أريك آية. قال: نعم! فنظر رسول الله e الى شجرةٍ من وراء الوادي، فقال: أدعُ تلك الشجرة، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: مُرها فلترجع، فعادت الى مكانها))(2).

المثال الثاني:

T روى القاضي عياض ـ علاّمة المغرب ـ في كتابه (الشفاء) بسند عال صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:

((كنا مع رسول الله e في سفر، فدنا منه اعرابي، فقال: يا اعرابي: اين تريد؟ قال: الى اهلي. قال: هل لك الى خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد ان لا إله الاّ الله وحده لا شريك له وان محمداً عبدهُ ورسوله. قال: مَن يشهد لك على ما تقول؟ قال: هذه الشجرةُ السَّمُرة(1)، وهي بشاطيء الوادي، فاقبلت تخدّ الارض، حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فَشهِدت أنه كما قال. ثم رجعت الى مكانها))(2).

وعن بُريْدَة عن طريق ابن صاحب الاسلمي بنقل صحيح: ((سأل اعرابي النبي e آية، فقال له: قل لتلك الشجرة، رسول الله يدعوك. قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقُها، ثم جاءت تَخدّ الارض تَجرُّ عروقها(3) مُغيّرة حتى وقفت بين يدي رسول الله e . فقالت: السلام عليك يا رسول الله قال الاعرابي: مُرها فلترجع الى منبتها، فَرَجَعَت فدلّت عروقها فاستوت. فقال الاعرابي: ائذن لي أسجُد لك. قال: لو امرتُ احداً أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها، قال: فأذنْ لي أن أقبِّلَ يديك ورجليك، فأذن له))(4).

المثال الثالث:

T روى مسلم واصحاب الكتب الصحاح الاخرى عن جابر رضي الله عنه: أنه قال: كنا في سفر مع رسول الله e ، ((ذهب رسول الله يقضي حاجته، فلم يَرَ شيئاً يستتر به، فاذا بشجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله e الى احداهما، فأخذ بغصنٍ من اغصانها، فقال: انقادي عليّ بأذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، وذكر انه فعل بالاخرى مثل ذلك حتى اذا كان بالمنصف(1) بينهما، قال: التئما عليّ باذن الله. فالتأمتا))(2) فجلس خلفها، وبعد ان قضى حاجته، أمر أن يعود كل منهما الى مكانها.

T ((وفي رواية أخرى، فقال: يا جابر! قل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله إلحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما. فزحفت حتى لحقت بصاحبتها. فجلس خلفهما، فخرجتُ أحضر، وجلستُ احدّث نفسي، فالتفتُّ فإذا رسول الله e مقبلاً، والشجرتان قد أفترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله e وقفةً فقال برأسه هكذا يميناً وشمالاً))(3).

المثال الرابع:

T روى اسامة بن زيد ـ احد قواد رسول الله e وخادمه الايمن ـ : كنا في سفر مع رسول الله e ، ولم يكن لقضاء الحاجة مكان خالٍ يستر عن أعين الناس، فقال: ((هل ترى من نخلٍ أو حجارة؟ قلت: أرى نخلات متقاربات، قال: انطلق وقل لهُن إن رسول الله e يأمركن أن تأتين لمخرج(4) رسول الله e وقل للحجارة مثل ذلك. فقلت ذلك لهن، فوالذي بعثُه بالحق لقد رأيتُ النخلات يتقاربن حتى اجتمعن والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته، قال لي: قل لهن يفترقن، فوالذي نفسي بيده لرأيتهن والحجارةُ يفترقن حتى عُدن الى مواضعهن))(5).

وقد روى هاتين الحادثتين اللتين رواهما جابر واسامة كل من يعلى بن مرة، وغيلان بن سلمة الثقفي، وابن مسعود في غزوة حنين.

المثال الخامس:

T ذكر علامة عصره الامام ابن فورك ـ الذي كان يسمى بالشافعي الثاني كناية عن اجتهاده الكامل وفضله ـ: ((انه e سار في غزوة الطائف ليلاً وهو وَسِنٌ، فاعتَرضهُ سدرةٌ(1)، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين الى وقتنا))(2).

المثال السادس:

T ذكر يعلى بن سيابه(3): (( أن طلحة أو سَمُرة جاءت فاطافت به ثم رجعت الى منبتها فقال رسول الله e : انها استأذنت ان تسلّم عليّ)). اي استأذنت من رب العالمين.

المثال السابع:

T روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: ((آذنَت(4) النبي e بالجن ليلة استمعوا له شجرةٌ)) وذلك حينما جاء جن نصيبين في بطن النخل الى النبي e للاسلام، فأعلَمَت شجرةٌ خبر مجيئهم النبي.

((وعن مجاهد عن ابن مسعود في هذا الحديث: ان الجن قالوا مَن يَشهَدُ لك؟ قال: هذه الشجرة)) فأمر الشجرَة ((تعالى يا شجرة! فجاءت تجرُّ عروقَها لها قعاقع))(5).

وهكذا، فقد كفت معجزة واحدة طائفة الجن. أفلا يكون مَن يسمع الف معجزة ومعجزة من امثالها ثم يكابر ولا يؤمن اضلَّ من ذلك الشيطان الذي حدّث القرآن عنه بقول الجن: } يقولُ سَفيهُنا على الله شططاً{ ) (الجن: 4) ؟

المثال الثامن:

T روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ((انه e قال لاعرابي: أرأيتَ إن دعوتُ هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد اني رسول الله؟ قال: نعم! فدعاه فجعل ينقز حتى أتاه. فقال: ارجع، فعاد الى مكانه))(1).



T T T



وهكذا، فهناك امثلة غزيرة كالتي ذكرناها روُيت كلها بطرق عديدة، ومن المعلوم انه اذا اتحدت بضعة خيوط رفيعة صارت حبلاً قوياً.. فمثل هذه المعجزة المتعلقة بالشجرة وقد رويت بطرق متعددة، وعن مشاهير الصحابة الكرام لابد انها في قوة التواتر المعنوي، بل انها متواترة تواتراً حقيقياً. ولا ريب أنها حينما انتقلت الى التابعين اخذت طابع التواتر، لا سيما الطرق التي سلكها اصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم وابن حبان والترمذي وغيرهم، انما هي طريق صحيحة لا شائبة فيها. بل أن رؤية اي حديث كان في البخاري انما هو كاستماعه من الصحابة الكرام بعينهم.

تُرى اذا عَرفت الاشجار رسول الله e وعرَّفَته وصدَّقَتْ رسالته وسلّمت عليه، وزارته، وامتثلت أمره ـ كما رأينا في الامثلة المذكورة آنفاً ـ فكيف لا يَعرف ولا يؤمن به ذلك البليد الجماد الذي يسمي نفسَه إنساناً؟ أليس هو عارٍ عن العقل والقلب؟ أفلا يكون أدنى من الشجر اليابس وأتفه من الحطب الذي لا يستحق الاّ إلقاءه في النار؟.

الاشارة البليغة العاشرة

ان الذي يؤيد هذه المعجزات المتعلقة بالشجرة هو معجزة حنين الجذع المنقولة نقلاً متواتراً.

نعم! ان حنين الجذع اليابس الموجود في المسجد النبوي الى رسول الله e لفراقه عنه - راقاً مؤقتاً - أنينَه امام جماعة غفيرة من الصحب الكرام يؤيد الأمثلة التي اوردناها في المعجزات المتعقلة بالاشجار ويقوّيها. لأن الجذع من جنس الاشجار، فالجنس واحد، الاّ ان هذه المعجزة متواترة بالذات، بينما الاقسام الاخرى متواترة نوعاً، اذ ان اكثر جزئياتها وامثلتها لا يرقى الى مستوى التواتر الصريح.

كان المسجد النبوي مسقوفاً على جذوع نخل فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنِع له المنبر، وكان عليه، سمع لذلك الجذع صوت كصوت العشار(1) وهو يئن ويبكي، حتى جاءه النبي e ووضع يده عليه، وتكلم معه وعزّاه وسلاّه، فسكت الجذع.

نُقلت هذه المعجزة بطرق كثيرة جداً نقلاً متواتراً.

نعم! ان معجزة حنين الجذع مشهورة ومنتشرة، والخبر بها من المتواتر الصريح(2) فقد رواها مئات من ائمة التابعين بخمسة عشر طريقاً عن جماعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهكذا نقلوها الى مَن خلفهم. وممن رواها من علماء الصحابة: انس بن مالك ـ خادم النبي ـ وجابر بن عبد الله الانصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وابو سعيد الخدري، وابي بن كعب، وبُريدة، وام المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليهم وكلٌ من هؤلاء على رأس طريق من طرق رواة الحديث.

فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من اصحاب الصحاح هذه المعجزة الكبرى المتواترة ونقلوها الينا.

عن جابر رضي الله عنه، يقول: ((كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخلٍ فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار حتى جاء النبي e فوضع يده عليها فسكت))(1) لم يتحمل الجذع فراقه e .

وعن انس:(2) ((حتى ارتجّ المسجد لخواره)).

وعن سهل بن سعد:(3) ((وكَثُر بكاء الناس لما رأوا به من بكاء وحنين)).

وعن اُبَي بن كعب:(4) ((حتى تصدّع وانشق)) لشدة بكائه.

زاد غيره: فقال النبي e : ((ان هذا بكى لما فقد من الذكر))(5) وزاد غيره: ((والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا الى يوم القيامة)) تحزناً على رسول الله e (6) وفي حديث بُريدة: لما بكى الجذع وضع الرسول يده الشريفة عليه وقال: ((ان شئت اردَّك الى الحائط(7) الذي كنت فيه، ينبت لك عروقك ويكمل خلقُك ويجدّد لك خوص وثمرةٌ. وان شئت اغرسك في الجنة فيأكل اولياء الله من ثمرك. ثم اصغى له النبي e يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني اولياء الله واكون في مكان لا ابلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبي e : قد فعلتُ. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء))(1).

قال الامام ابو اسحاق الاسفرائني ـ وهو من ائمة علماء الكلام ـ ان الرسول الاكرم e لم يذهب الى الجذع بل ((دعاه الى نفسه فجاءه يخرق الارض فالتزم. ثم امره فعاد الى مكانه))(2).

يقول اُبَي بن كعب: وبعد ظهور هذه المعجزة: ((أمر النبي e به فدفن تحت المنبر))، ((فكان اذا صلى النبي e صلى اليه. فلما هدم المسجد لتجديده اخذه اُبَى فكان عنده الى ان اكلته الأرض وعاد رفاتاً))(3).

وحينما كان الحسن البصري يحدّث بهذا الى طلابه يبكي ويقول:

((يا عباد الله! الخشبةُ تحنّ الى رسول الله e شوقاً اليه لمكانه فانتم أحق ان تشتاقوا الى لقائه))(4).

ونحن نقول: نعم! ان الاشتياق اليه ومحبته انما هو باتباع سنته السنية وشريعته الغراء.



o نكتة مهمة:

فان قيل: لِمَ لم تشتهر تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام والتي اشبعت الفاً من الناس في غزوة الخندق بصاع من طعام، ولا تلك المعجزات التي تخص الماء التي اروت الفاً من الناس بما فار من الماء من اصابع الرسول المباركة e . لِمَ لم تنقلا بطرق كثيرة مثلما اشتهرت معجزة حنين الجذع ونقلت. مع ان كلاً من تلك الجماعتين - لتي وقعت المعجزة امامهما - كثر من جماعة معجزة حنين الجذع؟

الجواب:

ان المعجزات التي ظهرت قسمان:

احدهما: ما يظهر على يد النبي e لتصديق دعوى النبوة، ويكون حجة لها، فيزيد ايمان المؤمنين ويسوق اهل النفاق الى الاخلاص والايمان، ويدعو اهل الكفر الى حظيرة الايمان. ومعجزة حنين الجذع من هذا القبيل، لذلك رآها العوام والخواص واعتُني بنشرها اكثر من غيرها.

اما معجزة الطعام ومعجزة الماء، فهي كرامة اكثر من كونها معجزة، بل اكرام إلهي اكثر من الكرامة، بل ضيافة رحمانية ـ حسب ما دعت اليه الحاجة ـ اكثر من إكرام إلهي. فهما وان كانتا دليلين على دعوى النبوة، ومعجزتين لها، الاّ ان الغاية الاساس هي:

ان الجيش الذي يبلغ قوامه زهاء الف رجل، كان في حاجة ماسة الى الطعام والشراب فأمدّهم الله سبحانه وتعالى من خزائن الغيب بأن اشبع من صاع من طعام ألفَ رجلٍ كما يخلق سبحانه من نواةٍ واحدة ألف رطل من التمر، كذلك أروى زهاء الف من المجاهدين في سبيل الله ، حينما اصابهم العطش، ارواهم بماء مبارك كالكوثر، اذ اجراه سبحانه من اصابع قائدهم الاعظم صلوات الله وسلامه عليه. لذلك لم تصل درجة معجزة الطعام والماء الى درجة حنين الجذع. الاّ ان جنس تينك المعجزتين ونوعهما بحسب الكلية متواتر كتواتر حنين الجذع.

ثم ان كل فرد قد لا يرى بركة الطعام وفوران الماء من الاصابع بالذات بل يرى أثره، ولكن كل من كان في المسجد النبوي قد سمع بكاء الجذع، لذا ذاع اكثر..



فان قيل:

ان الصحابة الكرام رضي الله عنهم اهتموا اهتماماً بالغاً بملاحظة جميع احوالهe وحركاته ونقلوها بأمانة واعتناء، فلِمَ رُويت امثال هذه المعجزة العظيمة بعشرين طريقاً فقط ولم ترو ــ في الاقل ــ بمائة طريق؟ ولِمَ تأتي اكثر الروايات عن أنس وجابر وابي هريرة، ولم يأتِ عن طريق ابي بكر وعمر الاّ القليل منها.

الجواب: الشق الاول من السؤال مضى جوابه في الاساس الثالث من الاشارة الرابعة.

أما جواب الشق الثاني فهو: ان الانسان اذا احتاج الى الدواء يراجع الطبيب، واذا احتاج الى بناء يراجع المهندس واذا احتاج الى تعلم الشريعة يأتي المفتى ويستفتيه.. وهكذا فقد كانت مهمة بعض علماء الصحابة منحصرة في حمل الحديث ونشره ونقله الى العصور الأخرى. فكانوا يسعون بكل ما آتاهم الله من قوة في هذه الغاية. فابو هريرة رضي الله عنه كرّس جميع حياته لحفظ الحديث النبوي في الوقت الذي كان عمر رضي الله عنه منهمكاً في حمل اعباء الخلافة وسياسة الدولة. لذا اعتمد على هؤلاء الصحابة: ابي هريرة وانس وجابر وامثالهم في نقل الحديث الشريف الى الامة، فندرت الرواية عنه. ثم ان الراوي الصادق المصدَّق من قبل الجميع يُكتفى بروايته ولا داعي الى رواية غيره، ولذلك ينقل بعض الحوادث المهمة بطريقين او ثلاث.

الاشارة الحادي عشرة

تبين هذه الاشارة المعجزة النبوية في الاحجار والجبال من الجمادات كما اشارت ((الاشارة العاشرة)) الى المعجزة النبوية في الاشجار، نذكر من بين امثلتها الكثيرة ثمانية امثلة:

المثال الاول:

T روى البخاري وعلاّمة المغرب القاضي عياض عن ابن مسعود - خادم e - انه قال: ((لقد كُنّا نَسْمعُ تَسبيحَ الطعامِ وهو يُؤكَل))(1).

المثال الثاني:

T وثبت كذلك عن انس وابي ذر رضي الله عنهما، قال أنس(2) ((أخذ النبيe كفاً من حصىً فسبّحن في يد رسول الله e حتى سمعنا التسبيحَ، ثم صبَّهن في يد ابي بكر رضي الله عنه فسبّحن، ثم في ايدينا فما سبّحن)).

T وروى مثله ابو ذر رضي الله عنه(3) وذكر انهن سبّحن في كف عمر رضي الله عنه ثم وضعهن على الارض فخرسن، ثم اخذهن ووضعهن في كف عثمان، فسبّحن ثم وضعهن في ايدينا فخرسن.

المثال الثالث:

T ثبت بنقل صحيح عن علي وجابر وعائشة رضي الله عنهم انه ما كان يمر النبي e بجبل ولا حجر الاّ وقال:السلام عليك يا رسول الله، ففي رواية علي رضي الله عنه قال: ((كنا بمكة مع رسول الله e فخرج الى بعض نواحيها، فما استَقبلَهُ شجرةٌ ولا جبلٌ الاّ قال له: السلام عليك يا رسول الله))(1).

T وفي رواية جابر رضي الله عنه قال: ((لم يكن النبي e يمرّ بحجر ولا شجرٍ الاّ سجد له))(2) اي: كل منهما ينقاد له ويقول: السلام عليك يا رسول الله.

T وفي رواية أخرى ((عن جابر بن سمرة رضي الله عنه(3): عنه e : اني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليّ)) اي قبل ان ابعث ((قيل: انه اشارة الى الحجر الاسود)).

T ((وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي e : لما استقبلني جبريل بالرسالة جعلتُ لا امرُّ بحجرٍ ولا شجرٍ الا قال: السلام عليك يا رسول الله))(4).

المثال الرابع:

T ((وفي حديث العباس رضي الله عنه(5) اذ اشتمل عليه النبي e وعلى بنيه)) وهم عبدالله وعبيد الله والفضل وقثم ((بملاءة(6) ودعا لهم السّتر من النار)) اذ قال: يا رب هذا عمي صنو ابي وهؤلاء بنوه فاسترهم من النار كستري اياهم بملاءتي. ((فأمّنت أسكُفَة الباب وحوائط البيت: آمين آمين)) واشتركن في الدعاء.

المثال الخامس:

T روت الكتب الصحاح متفقة وفي المقدمة البخاري وابن حبان وابو داود والترمذي عن أنس(1) وابي هريرة(2) وعن عثمان ذي النورين(3) وسعيد بن زيد(4) احد العشرة المبشرين بالجنة انه: ((صعد النبي e وابو بكر وعمر وعثمان اُحُداً، فرجف بهم)) من مهابتهم أو من سروره وفرحه، ((فقال: أثبت اُحُد فانما عليك نبي وصدّيق وشهيدان)).

فبهذا الحديث ينبئ e عن شهادة عمر وعثمان إخباراً غيبياً.

T وقد نقل - تتمة لهذا المثال - انه لما هاجر الرسول e من مكة وطلبته كفار قريش صعد على جبل ثُبير، ((قال له ثبير(5): اهبط يا رسول الله فانّى اخاف ان يقتلوك على ظهري فيعذّبني الله. فقال له حراء: اليّ يا رسول الله)).

من هذا يستشعر أهلُ القلب والصلاح الخوف في ثبير والأمن والاطمئنان في حراء.

يفهم من مجموع هذه الامثلة ان الجبال العظيمة مأمورة ومنقادة كأي فرد من الافراد وهي كأي عبدٍ مخلوق يسبّح الله تعالى وله وظيفة خاصة به، وانه يعرف النبي e ويحبّه.. فما خُلقت الجبال باطلاً.





المثال السادس:

T ((وروى ابن عمر رضي الله عنهما(1) ان النبي e قرأ على المنبر: } وما قَدَروا الله حق قدره{ (الانعام:91) ثم قال: يمجِّد الجبارُ نفسه يقول: انا الجبار انا الجبار انا الكبير المتعال. فَرجَف المنبرُ حتى قلنا ليخرنَّ عنه)).

المثال السابع:

T عن حبر الامة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، وعن ابن مسعود(2) - من علماء الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين، انه قال: ((كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل بالرصاص في الحجارة فلما دخل رسولُ الله e المسجدَ عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده اليها ولا يمسّها. ويقول: } جَاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كانَ زَهُوقاً{ (3) (الاسراء:81) فما اشار الى وجه صنمٍ الاّ وقع لقفاه ولا لقفاه الاّ وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم))(4).

المثال الثامن:

T هو قصة بحيراء الراهب المشهورة(5) وهي: ان النبي e خرج قبل البعثة مع عمه ابي طالب وجماعة من قريش الى نواحي الشام. ولما وصلوا الى جوار كنيسة الراهب جلسوا هناك ((وكان الراهب لا يخرج الى أحَد فخرج وجعل يتخللهم حتى اخذ بيد رسول الله e فقال: (هذا سيد العالمين يبعثه الله رحمةً للعالمين) فقال له أشياخ من قريش: ما عِلمُك؟ فقال: انه لم يبق شجر ولا حجر الاّ خرّ ساجداً له ولا يسجد الاّ لنبي)). ((ثم قال واقبل e وعليه غمامةٌ تظلّه فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه الى فئ الشجرة فلما جلس مالَ الفئ اليه))(1).



T T T



وهكذا فهناك ثمانون مثالاً كهذه الامثلة الثمانية.

فاذا وحَّدْتَ هذه الامثلة الثمانية لأصبحت قوية لا يمكن ان تنال منها شبهة مهما كانت.

فهذا النوع من المعجزات (اي تكلم الجمادات) يشكّل دليلاً جازماً على اثبات دعوى النبوة، وهو في حكم التواتر من حيث المعنى. فكل مثال يستمد قوة اخرى من قوة الجميع تفوق قوته الفردية. مَثَله في هذا، مثل رجل ضعيف انخرط في سلك الجيش، فيتقوى حتى يستطيع ان يتحدى الفاً من الرجال، او كعمود ضعيف لو ضم مع اعمدة قوية يتقوى.

فكيف اذا كانت الروايات كلها صحيحة ورصينة؟.

الاشارة الثاني عشرة

أمثلة ثلاثة مهمة ترتبط بالاشارة الحادية عشرة.

المثال الاول:

T تصرّح الآية الكريمة } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ (الانفال:17) بنصها القاطع وبتحقيق عموم المفسرين العلماء وائمة الحديث: ان الرسول e أخذ في غزوة بدر قبضة من تراب وحصيات ورماها في وجوه جيش الكفار وقال: ((شاهت الوجوه))(1). فدخلت تلك القبضة من التراب الى اعين كل المشركين، مثلما وصلت كلمة ((شاهت الوجوه)) الى آذان كلٍ منهم فصاروا يعالجون عيونهم من التراب، ففرّوا بعدما كانوا في حالة كرٍّ على المسلمين.

T ويروي الامام مسلم(2): ان الكفار في غزوة حنين عندما كانوا يصولون على المسلمين، أخذ النبي e قبضة من تراب ورمى بها في وجوه المشركين وقال: ((شاهت الوجوه)) فما من أحدٍ منهم الاّ ملأ عينيه - باذن الله - تراباً كما سمعت اذنُه هذه الكلمة فولّوا مدبرين.

فهذه الحادثة الخارقة للعادة قد وقعت في بدر وحنين، فهي حادثة تفوق طاقة البشر، كما انها لا يمكن اسنادها الى الاسباب العادية، لذا قال تعالى } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ اي انها حادثة نابعة من قدرة الهية محضة.

المثال الثاني:

T تذكر كتب ائمة الحديث وفي مقدمتها البخاري ومسلم ((ان يهودية - واسمها زينب بنت الحرث - اهدت للنبي e بخيبر شاة مصليّة(3) سمَّتْها، فأكل رسول اللهe منها ، وأكل القوم، فقال: ارفعوا ايديكم، فانها اخبرتني انها مسمومة، فرفع الجميع ايديهم، إلاّ ان بشر بن البراء مات من اثر السم، فدعا e اليهودية وقال لها: ما حَمَلكِ على ما صنعتِ؟ قالت: إن كنت نبياً لم يضرّك الذي صنعتُ، وان كنتَ مَلِكاً أرَحْتُ الناسَ منك. فأمر بها فقُتلت))(1)، وفي بعض الروايات انه لم يأمر بقتلها. قال العلماء المحققون: لم يأمر بقتلها بل دفعها لأولياء بشر بن البراء، فقتلوها(2).

فاستمع الآن الى هذه النقاط الثلاثة لبيان اعجاز هذه الحادثة.

النقطة الاولى: جاء في احدى الروايات: ان عدداً من الصحابة سمعوا قولَها حينما أخبرتْ الشاة عن انها مسمومة(3).

النقطة الثانية: وفي رواية اخرى انه بعدما أخبر الرسول e عن القضية قال: قولوا بسم الله ثم كلوا، فانه لا يضر السم بعدَه. هذه الرواية وان لم يقبلها ابن حجر العسقلاني الاّ ان علماء آخرين قبلوها.

النقطة الثالثة: لقد اطمأن كلُ من سمع كلامه e : ((انها اخبرتني بأني مسمومة)) وكأنه سمعه بنفسه، اذ لم يُسْمَع منه e قولٌ مخالف للواقع قط، وهذه واحدة منه، فبينما يبيّت اليهود الكيد لينزلوا ضربتهم القاضية بالرسول الكريم e وصحبه الكرام رضوان الله عليهم اذا بالمؤامرة تنكشف على اثر خبرٍِ من الغيب وتبطل الدسيسة والمكر السئ، ويقع الخبر كما أخبر عنه e .

المثال الثالث:

هو معجزة الرسول e في ثلاث حوادث تشبه معجزة سيدنا موسى عليه السلام، في معجزة يده البيضاء وعصاه.

الحادثة الاولى:

T اخرج الامام احمد الحديث الصحيح، عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه(1):

ان الرسول e ((اعطى قتادة بن نعمان - وصلى معه العشاء - في ليلةٍ مظلمة مطِرة عُرجوناً. وقال: انطلق به فانه سيضئ لك من بين يديك عشراً ومن خلفك عشراً. فاذا دخلتَ بيتك فسترى سواداً فاضربه حتى يخرج فانه الشيطان، فانطلق، فاضاء له العرجون(2)، حتى دخل بيته ووجد السواد فضربه حتى خرج)).

الحادثة الثانية:

T انقطع سيف عكاشة بن محصن الاسدي وهو يقاتل به في غزوة بدر الكبرى - تلك المعركة التي هي منبع الغرائب - فاعطاه رسول الله e جذلاً من حطب ـ أي عوداً غليظاً – ((وقال: اضرب به فعاد في يده سيفاً صارماً طويل القامة ابيض شديد المتن، فقاتل به، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف الى ان استشهد في قتال اهل الردة))(3) في اليمامة.

هذه الحادثة ثابتة قطعاً، وكان عكاشة يفتخر بذلك السيف طوال حياته، وكان السيف يسمى بــ ((العَوْن))، فاشتهار السيف بـ ((العون)) وافتخار عكاشة به حجتان ايضاً على ثبوت الحادثة.

الحادثة الثالثة:

T روى ابن عبد البر(4) وهو من اعلام عصره من بين العلماء المحققين: ان عبد الله بن جحش - ابن عمة رسول الله e - ((وقد ذهب سيفُه)) في غزوة أحد وهو يحارب، فاعطاه رسول الله e ((عسيب(5) نخل فرجع في يده سيفاً)).

يقول ابن سيد الناس في ((سيره)): فبقي هذا السيف مدّة ولم يزل يتناقل حتى بيع الى شخص يُدعى بغاء التركي بمائتي دينار(1).

فهذان السيفان معجزتان كمعجزة عصا موسى، الاّ انه لم يبق وجه الاعجاز لعصا موسى بعد وفاته عليه السلام، وبقي هذان السيفان معجزتان بعد وفاته e .

الاشارة الثالثة عشرة

ومن معجزاته e : شفاء المرضى والجرحى بنفثه المبارك. وهذ النوع من المعجزات متواتر معنوي - من حيث النوع - أما جزئياتها فقسم منها بحكم المتواتر المعنوي وقسم آخر آحادي، الاّ انه يورث القناعة العلمية والاطمئنان وذلك لتوثيق العلماء له وتصحيح ائمة الحديث.

سنذكر من امثلة هذا النوع من المعجزات بضعة امثلة فقط من بين امثلتها الغزيرة.

المثال الاول:

T يروي القاضي عياض(1) عن سعد بن ابي وقاص وهو من العشرة المبشرين بالجنة وتولى خدمة النبي e واصبح أحد قواده، وقاد جيش الاسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انه قال: ((ان رسول الله e لَيُناوِلني السهمَ لا نَصْلَ لَهُ، فيقول: إرمِ به، وقد رمى رسول الله e يومئذٍ عن قوسه حتى اندقّت)) كان ذلك في غزوة اُحد، وكانت السهام التي لا نصلَ لها تَمرقُ كالمرّيشة وتثبت في جسد الكفار.

T وقال ايضاً(2): ((واصيب يومئذٍ عين قتادة (بن النعمان) حتى وقعت على وجنته، فرّدها رسول الله e )) بيده المباركة الشافية ((فكانت أحسنَ عَينيه)) واشتهرت هذه الحادثة حتى ان أحد احفاد قتادة حينما جاء الى عمر بن عبد العزيز عرّف نفسَه بانشاده الابيات الآتية:ـ



انا ابن الذي سالَت على الخدِّ عينُه

فرُدَّتْ بكفِّ المصطفى أحسنَ الردّ

فعــادت كمـا كانت لأول أمرهـا

فيا حُسنَ ما عـينٍ ويا حُســنَ ما ردّ

T وثبت ايضاً: انه جعل ريقَه على جراحة: ((أثر سهمٍ في وجه ابي قتادة في يوم ذي قرد(1) قال: فما ضرب عليّ ولا قاح))(2) اذ مسحه رسول الله e بيده المباركة.

المثال الثاني:

T روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن الرسول e اعطى الراية علياً يوم خيبر، وكان رمداً، فلما تفل في عينه اصبح ترياقاً لعينه فبرئت بأذن الله(3).

ولما جاء الغد أخذ علي باب القلعة وهو من حديد وكأنه ترس في يده، وفتح القلعة.

T ((ونفث على ضربةٍ بساق سلمة بن الاكوع يوم خيبر فبرئت))(4).

المثال الثالث:

T ((روى النسائي(5) عن عثمان بن حُنَيف: ان اعمى اتى الى رسول الله e ، فقال: يا رسول الله ادعُ الله ان يكشف لي عن بصري. قال: أوَ أدعك؟ قال: يا رسول الله انه قد شقّ عليّ ذهاب بصري. قال: فانطلق فتوضأ ثم صلِّ ركعتين ثم قل: اللهم اني اسألك واتوجه اليك بنبيي محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إني اتوجه الى ربك بك، ان يكشف لي عن بصري، اللّهم شفّعه فيّ، وشفّعني في نفسي. فرجع وقد كشف الله عن بصره)).

المثال الرابع:

T ((قطع ابوجهل يوم بدر يد معوَّذ بن عفراء)) أحد الاربعة عشر الذين استشهدوا في بدر ((فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله e والصقها فلصقت، رواه ابن وهب))(1)- وهو من ائمة الحديث - ثم عاد الى القتال فقاتل حتى استشهد.

T ((ومن روايته ايضاً: أن خُبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله e ، بضربةٍ على عاتقه حتى مال شقه، فردّه رسول الله e ، ونفث عليه حتى صحّ))(2).

فهاتان الحادثتان وان كانتا آحادية الاّ ان تصحيح الامام الجليل ابن وهب لهما، وكون وقوعهما في منبع المعجزات، بدر، ولوجود شواهد كثيرة من امثالهما يجعلهما لا يشك أحدٌ في وقوعهما.

وهكذا هناك الف مثال ومثال قد ثبت بالاحاديث الصحيحة، من ان يد الرسول الاعظم e اصبحت شفاء ودواء لذوي العاهات والمرضى.

لو سطرت هذه القطعة بماء الذهب

ورصّعت بالالماس لكانت جديرة

حقاً! وكما مرّ سابقاً:

ان تسبيح الحصى وخشوعه في كفه e ..

وتحول التراب والحصيات فيها كقذائف في وجوه الاعداء حتى ولّوا مدبرين بقوله تعالى: } وما رَميْتَ اذ رَميْتَ ولكن الله رمى{ .

وانفلاق القمر فلقتين بأصبع من الكف نفسها كما هو نص القرآن الكريم:} وانشقّ القَمَر{ ..

وفوران الماء كعينٍ جارية من بين الاصابع العشرة وارتواء الجيش منه...

وكون تلك اليد بلسماً للجرحى وشفاء للمرضى..

ليبيّن بجلاء:

مدى بركة تلك اليد الشريفة..

ومدى كونها معجزة قدرة إلهية عظيمة.

لكأن كف تلك اليد:

زاوية ذكر سبحانية صغيرة بين الأحباب، لو دخلها الحصى لسبّح وذكر..

وترسانة ربانية صغيرة تجاه الاعداء، لو دخلها التراب لتطاير تطاير القنابل..

وتعود صيدلية رحمانية صغيرة للمرضى والجرحى، لو لامست داء لغدت له شفاء..

وحينما تنهض تلك اليد تنهض بجلال فتشق القمر شقين باصبع منها.

واذا التفتت التفاتة جمال فجّرت ينبوع رحمة يَدفُق من عشر عيون تجري كالكوثر السلسبيل

فلئن كانت يد هذا النبي الكريم e موضع معجزات باهرة الى هذا الحد.. ألا يدرك بداهةً:

مدى حظوته عند ربه

مبلغ صدقه في دعوته

ومدى سعادة اولئك الذين بايعوا تلك اليد المباركة ؟.

سؤال: انك تقول في كثير من الروايات انها متواترة، بينما لم نسمع بها الاّ الآن فهل يُجهل التواتر الى هذا الحد؟.

الجواب: هناك امور كثيرة متواترة لدى علماء الشرع بينما هي مجهولة لدى غيرهم فلدى علماء الحديث من الاحاديث المتواترة ما لا يعرف الاّ بالاحاد لدى سواهم.. وهكذا، فبديهيات ونظريات كل علم انما تُبيَّن حسب ما تواضع عليه اهل اختصاص ذلك العلم، أما بقية الناس فهم يعتمدون عليهم في ذلك العلم. فإما أنهم يستسلمون لقولهم، أو يعكفون على دراسة ذلك العلم فيجدون ما وجدوه.

فما أخبرنا عنه من المتواتر الحقيقي أو المعنوي، أو ما هو بحكم المتواتر من الحوادث، قد بيّن حكمَها رجالُ الحديث، وعلماء الشريعة وعلماء الاصول، واغلب العلماء الاخرين. فاذا جَهِلَه العوام الغافلون، أو مَن يغمض عينه عن العلم من الجهال، فلا يقع اللومُ الاّ عليهم.

المثال الخامس:

T أخرج الامام البغوي:(1) اصابت ((ساق علي بن الحكم يوم الخندق اذ انكسرت)) فمسحها رسول الله e (( فبرىء مكانه، وما نزل عن فرسه)).

المثال السادس:

T روى البيهقي وغيره ((اشتكى علي بن ابي طالب، فجعل يدعو، فقال النبي e : اللّهم اشفه أو عافه ثم ضربه برجله، فما اشتكى ذلك الوجع بعدُ))(2).





المثال السابع:

T ((كانت في كف شرحبيل الجعفي سلعةٌ (1) تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي e ، فما زال يطحنها(2) بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثرٌ))(3).

المثال الثامن:

ستة من الاطـفال نالوا – كلٌ على حـدة - معــجزة مـن معــجزات الرسول الأكرم e .

الأول:

T روى ابن ابي شيبة - وهو من ائمة الحديث - أنه: ((اتَتْه e أمرأةٌ من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتي بماء، فمضمض فاهُ وغسل يديه، ثم اعطاها إياه، وأمرها بسقيه ومسّه به، فبرأ الغلام وعقل عقلاً يفضُلُ عقول الناس))(4).

الثاني:

T ((وعن ابن عباس: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح e صدرَه فثعَّ ثعَّة فخرج من جوفه مثل الجرو الاسود))(5)- شئ اسود كالخيار الصغير - فشفي.

الثالث:

T روى الامام البيهقي والنسائي(6): ((انكفأت(7) القدر على ذراع محمد بن حاطب، وهو طفل فمسح عليه e ودعا له)) ونفخ نفخاً فيه ريقه الشريف فبرأ لحينه.

الرابع:

T ((ان النبي e اُتي بصبّي قد شبّ)) أي كَبُر ((لم يتكلم قط، فقال: من أنا؟ فقال: رسول الله))(1) فانطقه الله.

الخامس:

T اخرج امام العصر جلال الدين السيوطي - الذي تشرّف في اليقظة برؤية النبي e مراراً - أنه: جاء رسول الله e رجلٌ من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله e : يا غلام من أنا؟. فقال: انت رسول الله. قال: صدقت بارك الله فيك. ثم ان الغلام لم يتكلم حتى شبّ فكان يسمى بمبارك اليمامة لدعاء النبي e له بالبركة(2).

السادس:

T ((ودعا على صبي)) خشن الطبع ((قطع عليه الصلاة ان يقطع الله أثره فاُقْعِد))(3) ونال جزاء فظاظته.

السابع:

T ((سألتْه جارية طعاماً وهو يأكل، فناولها من بين يديه، وكانت قليلة الحياء، فقالت: انما أريد من الذي في فيك، فناولها ما في فيه، ولم يكن يُسأل شيئاً فيمنعه. فلما استقرّ في جوفها اُلقي عليها من الحياء ما لم تكن أمرأةٌ بالمدينة أشدّ حياء منها))(4).



T T T



وهكذا هناك امثلة غزيرة تربو على الثمانمائة مثال كالتي ذكرناها، وقد بيّنت كتب الاحاديث والسير معظمها.

نعم، لما كانت اليد المباركة للرسول الكريم e كصيدلية لقمان الحكيم، وبصاقه كماء عين الحياة لخضر عليه السلام، ونفثه كنفث عيسى عليه السلام في الشفاء، وان بني البشر يتعرضون للمصائب والبلايا، فلا ريب انه قد أتى اليه مالا يحد من المرضى والصبيان والمجانين ولا شك انهم قد شفوا جميعاً من امراضهم وعاهاتهم. حتى ان طاووساً اليماني وهو من ائمة التابعين المشهور بزهده وتقواه إذ حج اربعين مرة وصلى صلاة الصبح بوضوء العشاء اربعين سنة، ولقي كثيراً من الصحابة الكرام، هذا العالم الجليل يخبر جازماً فيقول: ما من مجنون جاء الى النبيe ووضع يده الشريفة على صدره الاّ شفي من جنونه.

فإذا اخبر امام كالطاووس اليماني - الذي ادرك الصحابة الكرام - هذا الخبر الجازم فلا ريب أنه قد جاء الى النبي e كثير جداً من المرضى، ربما يبلغ الالوف وكلهم شفوا من امراضهم.

عبدالرزاق 02-03-2011 02:05 AM

رد: المكتوبات
 
الاشارة البليغة السابعة

نشير الى بضع امثلة من المعجزات النبوية التي تخص بركة الطعام وثبتت بروايات صحيحة قاطعة وبالتواتر المعنوي. ونرى من الأنسب ان نقدّم بين يديها مقدمة.

المـقدمة

ان الامثلة التي سترد حول معجزة بركة الطعام كل منها قد روي بطرق متعددة، بل ان قسماً منها روي بستة عشر طريقاً، وقد وقع معظم هذه الامثلة امام جماعة غفيرة من الصحابة الكرام المنزّهين عن الكذب والذين لهم المنزلة الرفيعة في الصدق والامانة.

مثال للتوضيح:

يروي احدهم انه: اكل سبعون رجلاً من صاعٍ(1) وشبعوا جميعاً. فالرجال السبعون يسمعون هذه الرواية التي يحكيها احدهم، ثم لا يخالفونه ولا ينكرون عليه، اي أنهم يصدّقونه بسكوتهم.

فالصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم اجمعين كانوا في ذروة الصدق والحق حيث انهم عاشوا في خير القرون وهم محفوظون من الاغضاء على الباطل، فلو كان يرى احدهم شيئاً ولو يسيراً من الكذب في اي كلام كان لما وسعه السكوت عليه قطعاً، بل كان يردّه حتماً.

لذا فالروايات التي نذكرها فضلاً عن انها رويت بطرق متعددة فقد سكت عنها الآخرون تصديقاً بها، اي كأن الجماعة قد رووها فالساكت منهم كالناطق بها فهي اذن تفيد القطعية كالمتواتر المعنوي.

ويشهد التأريخ ـ والسيرة خاصة ـ أن الصحابة الكرام قد وقفوا أنفسهم بعد حفظ القرآن الكريم لحفظ الحديث الشريف، أي حفظ احواله e وافعاله واقواله، سواء منها المتعلقة بالاحكام الشرعية أم بالمعجزات، ولم يهملوا ـ جزاهم الله خيراً ـ اية حركة مهما كانت صغيرة من سيرته المباركة، بل اعتنوا بها وبروايتها، ودوّنوها في مدوّنات لديهم، ولا سيما العبادلة السبعة وبخاصة ترجمـان القرآن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهكذا حُفظت الاحاديث في عهد الصحابة الكرام حتى جاء كبار التابعين بعد ثلاثين أو أربعين سنة فتسلّموها غضةً طريةً منهم وحفظوها بكل امانة واخلاص، فكتبوها ونقلها عنهم بعد ذلك الائمة المجتهدون وألوف المحققين والمحدّثين وحفظوها بالكتابة والتدوين، ثم تسلّمها ـ بعد مضي مائتي سنة من الهجرة ـ اصحاب الكتب الستة الصحيحة المعروفة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، ثم جاء دور النقّاد واهل الجرح والتعديل، وبرز منهم متشددون ـ امثال ابن الجوزي ـ فميّزوا الاحاديث الموضوعة التي دسّها بعض الملاحدة وجهلة الناس على الاحاديث الصحيحة. ثم اعقبهم علماء أفاضل ذوو تقوى وورع امثال جلال الدين السيوطي وهو العلاّمة الامام الذي تشرف بمحاورة الرسول e فتمثل له في اليقظة سبعين مرة ــ كما يصدّقه أهل الكشف من الاولياء الصالحين ـ فميّزوا جواهر الاحاديث الصحيحة من سائر الكلام والموضوعات.

وهكذا ترى ان الاحاديث ـ والمعجزات التي سنبحث عنها ــ قد انتقلت الينا سليمة صحيحة بعد ان تسلّمها مالا يعد ولا يحصى من الأيدي الأمينة ((فالحمدلله، هذا من فضل ربي)).

وعليه فلا ينبغي أن يخطر بالبال: كيف نعرف أن هذه الحوادث التي حدثت منذ مدة سحيقة قد ظلت مصونة سالمة من يد العبث؟

أمثلة حول معجزات بركة الطعام:

المثال الأول:

T اتفقت الصحاح الستة، وفي مقدمتها البخاري ومسلم في حديث أنس رضي الله عنه ((قال: كان النبي e عروساً بزينب، فعَمِدَتْ أمي أمّ سُلَيم الى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور(1) فقالت: يا أنس! اذهب بهذا الى رسول الله e فقل بعثتْ بهذا اليكَ امي، وهي تقرئك السلام، وتقول: ان هذا لك منّا قليل يا رسول الله! فذهبت فقلت))، فقال: ((ضعْهُ)) ثم قال: ((اذهب فادعُ لي فلاناً)) وفلانا وفلاناً رجالاً سمّاهم ((وادعُ مَن لقيتَ)) فدعوتُ مَن سمّى ومَن لقيتُ فرجعتُ فاذا البيت غاص باهله، قيل لأنس: عددكم كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمئة. فرأيت النبيe وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلُّ رجل مما يليه)) قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى اكلوا كلهم قال لي: ((يا أنس! ارفع)) فرفعتُ، فما ادرى حين وضعتُ كان اكثر ام حين رفعتُ(1).

المثال الثاني:

T نزل النبي e ضيفاً عند ابي ايوب الانصاري فذات يوم ((صنعَ لرسول الله e ولابي بكر رضي الله عنه من الطعام زُهاء ما يكفيهما. فقال له النبي e : ادعُ ثلاثين من أشرافِ الانصار! فدعاهم فأكلوا حتى تركوا. ثم قال: ادعُ ستين، فكان مثلُ ذلك، ثم قال: ادعُ سبعين فاكلوا حتى تركوه، وما خرج منهم أحدٌ حتى اسلم وبايع، قال ابو ايوب: فأكل من طعامي مئة وثمانون رجلاً))(2).

المثال الثالث:

T ((حديث سلمة بن الاكوع، وابو هريرة، وعمر بن الخطاب (وابو عمرة الانصاري رضي الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبي e في بعض مغازيه، فدعا ببقية الازواد(3)، فجاء الرجل بالحَثْية من الطعام، وفوق ذلك ، واعلاهم الذي اتي بالصاع من التمر، فَجَمعه على نطْعٍ. قال سلمة: فحرزته، كَربضةِ العنز، ثم دعا الناس باوعيتهم، فما بقي في الجيش وعاء الاّ ملأوه، وبقي منه قدر ما جُعل واكثر، ولو ورده أهلُ الارض لكفاهم))(4).





المثال الرابع:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم أن عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق قال: ((كنا مع النبي e ثلاثين ومئة)) في سفر ((وذكر في الحديث أنه عُجن صاعٌ من طعام، وصُنعَت شاةٌ فشويَ سواد بطنها قال: وايم الله ما من الثلاثين ومئة الاّ وقد حزَّ لهُ حزّةً من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فاكلنا اجمعون، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير))(1).

المثال الخامس:

ثبت في الصحاح أيضاً:

T ((حديث جابر في اطعامه e يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق(2) وقال جابر: فاُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وان بُرمَتنا لتَغُط كما هي وان عجيننا ليخبز))(3) وكان الرسول الأكرم e قد وضع في ذلك العجين والقدر من ماء فيه المبارك ودعا بالبركة. فيعلن جابر مقسماً بالله معجزة البركة هذه في حضور الف من الصحابة مُظهراً علاقتهم بها.

فهذه الرواية قطعية وكأن الف رجل قد رواها.

المثال السادس:

T وثبت في الصحاح أن ابا طلحة عمَّ خادم النبي e أنس رضي الله عنه يقول:

ان الرسول الاكرم e اطعَمَ مما أتى به أنسُ تحت ابطه من قليل خبز شعير زهاء ثمانين رجلاً حتى شبعوا. وكان e أمر بأن يجعل ذلك الخبز ارباً ارباً، ودعا بالبركة، وان البيت ضاق بهم فكانوا يأكلون عشرة عشرة، ورجعوا كلهم شباعاً(4).

المثال السابع:

T ثبت في صحيح مسلم والشفا وغيرهما ان جابراً الانصاري يقول: ((ان رجلاً اتى النبي e يستطعمه، فاطعَمَه شطر وَسْق شعير، فما زال يأكل منه هو وأمراتُه وضيفه حتى كالَه)) ليعرفوا ما نقصَ منه، فرأوا أنه زالت منه البركة، وصار ينقص شيئاً فشيئاً. فأتى النبي e فأخبره فقال e : ((لو لم تَكِلْهُ لأكلتم منه ولقام بكم))(1).

المثال الثامن:

T تبين الصحاح كالترمذي والنسائي والبيهقي وكتاب الشفاء ((عن سمرة بن جندب: أتى النبي e بقصعةٍ فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون))(2).

وبناء على ما ذكرناه في المقدمة، هذه الواقعة الواردة في البركة ليست رواية سمرة فقط، بل كأنه ممثلٌ عن تلك الجماعات التي أكلت من ذلك الطعام. فيعلن هذه الرواية بدلاً منهم.

المثال التاسع:

T يروى رجال ثقاة كصاحب الشفاء وابن أبي شيبة والطبراني بسند جيد وعلماء محققون: ((عن ابي هريرة: أمرني النبي e ان ادعوَ له اهلَ الصفة)) وهم فقراء المهاجرين الذين كان ينوف عددهم على مائة. والذين كانوا قد اتخذوا الصفّة في المسجد مأوىً لهم (( فتتبَّعتُهم حتى جمعتُهم. فوُضعَت بين ايدينا صفحةٌ، فأكلنا ما شئنا، وفرغنا، وهي مثلها حين وُضعت، الاَّ أن فيها أثر الاصابع))(3).

فابو هريرة يدلي بهذا الخبر باسم اصحاب الصفة مستنداً الى تصديقهم. فهي رواية قطعية اذاً وكأن جميع أهل الصفة رووها. فهل يمكن ان يكون هذا الخبر خلاف الحق والصواب ثم لا ينكر عليه اولئك الصادقون الكاملون ولا يردّونه؟.

المثال العاشر:

T ثبت برواية صحيحة أن الامام علياً رضي الله عنه قال: ((جمع رسول الله e يوماً بني عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قومٌ يأكلون الجدعة ويشربون الفرق)) اي منهم من يأكل فرع الجمل ويشرب اربع اوقيات من الحليب ((فصنع لهم مُدّاً من طعامٍ فأكلوا حتى شبعوا وبقي كما هو، ثم دعا بعسّ)) اي اناء من خشب حليباً يكفى لثلاثة أو اربعة ((فشربوا حتى رووا. وبقي كأنه لم يشرب))(1).

فهذا مثال واحد لمعجزة بركة الطعام وهو بقطعية شجاعة علي رضي الله عنه وصدقه.

المثال الحادي عشر:

T ثبت برواية صحيحة ((في انكاح النبي e لعلي فاطمة أن النبي e أمر بلالاً بقصعة من اربعة امدادٍ أو خمسة ويذبح جزوراً(2) لوليمتها. قال: فاتيته بذلك فطعن في رأسها، ثم ادخل الناس رُفقة رفقة يأكلون منها، حتى فرغوا، وبقيت منها فضلةٌ، فبرّك فيها وأمر بحملها الى ازواجه، وقال: ((كلن واطعمن مَن غشيكن))(3) حقاً! ان مثل هذا الزواج الميمون لحريٌّ بمثل هذه المعجزة في البركة.

المثال الثاني عشر:

T روى جعفر الصادق عن ابيه محمد الباقر عن ابيه زين العابدين عن علي رضي الله عنه: ((ان فاطمة طبخت قدراً لغذائهما ووجّهت علياً الى النبي e ليتغذى معهما، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحة ثم له e ولعلي ثم لها ثم رفعت القدر وانها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله))(1).

فعجباً من أمرك ايها الانسان لِمَ لا تصدّق بهذه المعجزة الباهرة تصديق شهود بعد ما سمعت ان رواتها من السلسلة الطاهرة، حتى الشيطان نفسه لا يجد سبيلاً لأنكارها!

المثال الثالث عشر:

T روى الائمة امثال ابي داود وأحمد ابن حنبل والبيهقي عن دُكَين الأحمسي بن سعيد المزين، وعن الصحابي الذي تشرف هو واخوته الستة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نعمان بن مقرن الأحمسي المزين، ومن رواية جرير ومن طرق متعددة ان الرسول الأكرم e : ((أمر عمر بن الخطاب ان يزود اربعمائة راكب من أحمس. فقال: يا رسول الله ما هي الاّ أصوع(2) قال: اذهب، فذهب فزوَّدهم منه. وكان قدر الفصيل الرابض من التمر، وبقي بحاله))(3).

هكذا وقعت معجزة البركة هذه، وهي تتعلق باربعمائة رجل، لا سيما بعمر رضي الله عنه. فهؤلاء جميعاً هم الرواة لأن سكوتهم حتماً تصديق للرواية. فلا تقل انها خبر آحاد ثم تمضي الى شأنك فأمثال هذه الحوادث وان كانت خبر آحاد، الاّ انها تورث الطمأنينة في القلب لانها بمثابة التواتر المعنوي.

المثال الرابع عشر:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم حديث جابر رضي الله عنه ((في دَين أبيه، وقد كان بَذَل لغرماء أبيه أصلَ مالِهِ ليقبلوه ولم يكن في ثمرها سنتين كفافُ دَينهم، فجاءه النبي e بعد أن أمره بجدِّها ــ أي قطعها ــ وجعلها بيادر في أصولها، فمشى فيها ودعا، فأوفي منه جابر غُرماء ابيه وفَضَل مثل ما كانوا يجدُّون كل سنة، وفي رواية مثل ما اعطاهم، قال: وكان الغرماء يهودَ فعجبوا من ذلك))(1).

وهكذا فهذه المعجزة الباهرة في بركة الطعام ليست برواية يرويها جابر واشخاص معدودون فقط وانما هي متواترة من حيث المعنى يرويها جميع هؤلاء الرواة ممثلين لكلّ من تتعلق به هذه الرواية.

المثال الخامس عشر:

T يروى العلماء المحققون رواية صحيحة، وفي مقدمتهم الأمام الترمذي والبيهقي، عن ابي هريرة رضى الله عنه انه قال: أصاب الناس مخمصةٌ في احدى الغزوات ــ وفي رواية في غزوة تبوك ـ ((فقال لي رسول الله e : هل من شئ؟ قلتُ: نعم شئٌ من التمر في المزود(2))) وفي رواية خمس عشرة تمرة ((قال فأتني به، فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة. ثم قال ادعُ عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبَّه، فقبضتُ على أكثر مما جئتُ به، فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله e وحياة ابي بكر وعمر الى أن قُتل عثمان فانتهبَ مني فذهب. وفي رواية فقد حملتُ من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله))(3).

وهكذا، فان معجزة البركة التي يرويها ابو هريرة، وهو الذي تتلمذ على معلم الكون وسيده محمد e ولازم مدرسة الصفة وبزّ فيها بالحفظ بدعاء النبي له، فهذا الصحابي الجليل يروي هذه الرواية في مجمع من الناس ــ كغزوة تبوك ــ فلا بد ان تكون هذه الرواية متواترة من حيث المعنى، وقوية متينة بقوة الجيش كله اي كما لو كان الجيش كله يرويها.

المثال السادس عشر:

T ثبت في صحيح البخاري والصحاح الاخرى: ان الجوع اصاب ابا هريرة، ((فاستَتَبعَه النبي e ، فوجد لبناً في قدح أهدي اليه، وأمره أن يدعو أهل الصفة. قال: فقلتُ ما هذا اللبن فيهم، كنت أحقَّ أن اصيب منه شربةً أتقوى بها، فدعوتُهم))، وكانوا ينوفون على المائة، فأمر e أن اسقيهم ((فجعلتُ اُعطي الرجل فيشرب حتى يروى. ثم يأخذه الآخر حتى رَوِى جميعهم قال: فأخذ النبي e القدحَ وقال: بقيتُ انا وانت، اقعد فاشرب. فشربت ثم قال: اشرب. وما زال يقولها وأشربُ حتى قُلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح وحمد الله وسمّى وشرب الفضلة))(1). فهنيئاً لك مائة الف مرة يا رسول الله.

فهذه المعجزة السليمة من شوائب الشك والخالصة اللطيفة كاللبن قد روتها كتب الصحاح وفي مقدمتها صحيح الامام البخاري الذي كان حافظاً لخمسمائة الف حديث. فهي اذن رواية لا ريب فيها قط وصادقة وثابتة كأنها مشهودة رأي العين، مثلما رواها تلميذ المدرسة الأحمدية المقدسة، مدرسة الصفّة، ذلك التلميذ الموثوق الحافظ ابو هريرة، رواها باسم اصحاب الصفة جميعهم وأشهدهم عليها.

فالذي لا يتلقى هذا الخبر تلقياً كأنه يشاهده، فهو إما فاسد القلب أو فاقد العقل.

تُرى هل من الممكن أن صحابياً جليلاً مثل ابي هريرة الصادق الذي بذل حياته في حفظ الحديث النبوي، أن يحط من قيمة ما حفظه من الاحاديث النبوية فيورد ما يثير الشك والشبهة ويقول ما يخالف الحق والواقع، وهو الذي سمع قول النبي e : ((مَنْ كَذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) حاشاه عن ذلك.

فيارب بحرمة بركة هذا الرسول الكريم e هب لنا البركة فيما منحتنا من ارزاق مادية ومعنوية.



نكتة مهمة

بديهي انه كلما اجتمعت اشياء واهية ضعيفة تقوّت. واذا اُبرمت خيوط رفيعة واتحدت صارت عروة وثقى لا تنفصم. وقد اوردنا هنا ستة عشر مثالاً لقسمٍ من خمسة عشر قسماً من نوع معجزة البركة التي تمثل نوعاً من خمسة عشر نوعاً من انواع المعجزات، وكل مثال اوردناه قويٌ في حد ذاته وكاف وحده لإثبات النبوة. ولو فرضنا ــ فرضاً محالاً ــ بأن بعضاً منها ضعيف غير قوي في ذاته، فلا يجوز الحكم عليه بأن المثال لا يقوى دليلاً على المعجزة لأنه يتقوى بأتفاقه مع القوي.

ثم ان اجتماع هذه الامثلة الستة عشر التي هي في درجة التواتر المعنوي يدل على معجزة كبرى قوية، ولو مُزجَت هذه المعجزة مع سائر الاقسام الاربعة عشر من معجزاته e حول البركة التي لم تذكر هنا، لغدت معجزة هائلة كالحبال المتحدة التي لا انفصام لها. ثم انك لو اضفت هذه المعجزة الهائلة القوية الى سائر انواع المعجـزات الاربع عشرة لرأيـت برهـاناً قوياً لا يـتزلـزل، برهـاناً باهراً على النـبوة الصادقة.

وهكذا فعماد النبوة الأحمدية عماد كالطود الاشم تتشكل من مجموعة هذه المعجزات.

ولا شك انك ادركت الآن مدى سخافة وبلاهة مَن يرى هذا البناء الشامخ العامر للنبوة ثم يظن أنها تهوى بشبهات واهية ترد الى ظنه من جزئيات الامثلة.

نعم! ان تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام تدل دلالة قاطعة على نبوة محمد e وانه مأمور محبوب لدى ذلك الرحيم الكريم الذي يمنح الرزق ويخلقه. وهو عبد كريم لديه بحيث يبعث له مستضافات مملوءة بانواع من الرزق ـ خلافاً للمعتاد ـ من العدم ومن خزائن الغيب التي لا تنفد.

ومعلوم أن الجزيرة العربية شحيحة بالماء والزراعة بحيث ان اهاليها ـ لا سيما في صدر الاسلام ـ كانوا في ضيق من المعيشة وشدة منها وشحة من الماء والتعرض للعطش. فبناء على هذه الحكمة، فقد ظهرت اهم المعجزات الاحمدية الباهرة ظهوراً في الطعام والماء.

فهذه المعجزات انما هي بمثابة اكرام رباني، واحسان الهي، وضيافة رحمانية للرسول الكريم e ، يكرمه حسب الحاجة، فهي اكرام اكثر من ان تكون دليلاً على النبوة. لأن الذين رأوا هذه المعجزات، كانوا مؤمنين ايماناً قوياً بالنبوة. فالمعجزة كلما ظهرت يتزايد الايمان ويتقوى، وهكذا تزيدهم هذه المعجزات نوراً على نور ايمانهم.

الاشارة البليغة الثامنة

تبين قسماً من المعجزات التي تتعلق بالماء.

المـقــدمة

ان الحوادث التي تقع بين اظهر الناس، اذا ما نُقلت بطريق الآحاد ولم تُكذَّب فهي دلالة على صدق وقوعها، لان فطرة الانسان مجبولة على ان يفضح الكذب ويرفضه. ولا سيما اولئك الذين لا يسكتون على الكذب وهم الصحب الكرام، وبخاصة اذا كانت الاحداث تتعلق بالرسول الاكرم e ، وبالاخص ان الرواة هم من مشاهير الصحابة. فيكون راوي ذلك الخبر الواحد حينذاك كأنه ممثل لتلك الجماعة التي شاهَدَتْه شهود عيان. علماً ان كل مثال من امثلة المعجزات المتعقلة بالماء التي سنبحث عنها قد رُوي بطرق متعددة، عن كثير من الصحابة الكرام وتناوله ائمة التابعين وعلماؤهم بالحفظ وسلّموا كل رواية منها بأمانة بالغة الى الذين يأتون من بعدهم في العصور الاخرى. فتلقاه العصر الذي بعدهم بجدّ وامانة ونقلوه بدورهم الى علماء العصر التالي، وهكذا تعاقبت عليه الوف العلماء الأجلاء في كل عصر وكل طبقة، حتى وصل الى يومنا هذا، فضلاً عن ان كتباً للاحاديث قد دوّنت في عصر النبوة وسُلّمت من يد الى يد حتى وصلت الى ايدي ائمة الحديث من امثال البخاري ومسلم فَوعوها وعياً كاملاً، وميّزوا هذه الروايات حسب مراتبها، وقاموا بجمع كل ما هو صحيح خالٍ من شائبة الشبهة في صحاحهم، فارشدونا الى الصواب.. جزاهم الله خيراً.

مثال: ان فوران الماء من اصابع الرسول e ، وسقيه كثيراً من الناس، حادث متواتر. نقلته جماعة غفيرة لا يمكن تواطؤهم على الكذب بل محال كذبهم. فهذه المعجزة اذاً ثابتة قطعاً، فضلاً عن انها قد تكررت ثلاث مرات امام ثلاث جماعات عظيمة.

فقد روت الحادثة برواية صحيحة جماعة من مشاهير الصحابة، وفي مقدمتهم أنس ((خادم الرسول e )) وجابر وابن مسعود ونقلها الينا ـ بسلسلة من الطرق ـ ائمةُ الحديث امثال البخاري ومسلم والامام مالك وابن شُعيب وقتادة رضوان الله تعالى عليهم اجمعين.

وسنذكر تسعة امثلة فحسب من المعجزات المتعلقة بالماء.

المثال الاول:

T ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما: ((عن انس بن مالك قال رأيت رسول الله e وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه)). ((قال: اُتي النبيُّ e باناء وهو بالزوراء(1)، فوضع يده في الاناء، فجعل الماء ينبع من بين اصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة، قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة))(2).

فأنت ترى ان انساً رضي الله عنه يخبر عن هذه الحادثة بوصفه ممثلاً عن ثلاثمائة رجل. فهل يمكن الاّ يشترك اولئك الثلاثمائة في هذا الخبر معنىً وهل يمكن ألاّ يكذبوه ـ حاشاه ـ إن لم تكن هذه الحادثة قد حدثت فعلاً؟.

المثال الثاني:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم: ((عن سالم بن ابي الجعد عن جابر بن عبد الله الانصاري رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي e بين يديه ركوةٌ(3)، فتوضأ، فجهش الناس نحوهُ فقال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب، الاّ ما بين يديك. قال جابر: فوضع النبي e يده في الركوة فجعل الماء يثور من بين اصابعه، كامثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قال سالم: قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة الف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة))(4) فترى ان رواة هذه المعجزة يبلغون الفاً وخمسمائة رجل من حيث المعنى لأن الانسان مفطور على ان يفضح الكذب ويقول للكذب هذا كذب، فكيف بهؤلاء الصحابة الكرام الذين ضحوا بارواحهم واموالهم وآبائهم وابنائهم واقوامهم وقبائلهم في سبيل الحق والصدق؟ فضلاً عن انه محال ان يسكتوا على الكذب بعدما سمعوا التهديد المرعب في الحديث الشريف (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار . فماداموا لم يعترضوا على الخبر بل قبلوه ورضوا به، فقد أصبحوا اذاً مشتركين في الرواية ومصدِّقين لها من حيث المعنى.

المثال الثالث:

T تروى الكتب الصحاح ((ومنها البخاري ومسلم))(1) في ذكر غزوة (بُواطٍ)(2) أن جابراً قال: ((قال لي رسولُ الله e : يا جابر نادِ الوضوء)) فقيلَ لا يوجد لدينا الماء. فأراد ماء يسيراً. ((فأُتي به النبي e فغمزه(3)، وتكلّم بشئ لا ادري ما هو. وقال: نادِ بجفنة الركب، فاتيتُ فوضعتها بين يديه، وذكر ان النبيe بَسَط يده في الجفنة وفرّق اصابعه. وصبّ جابرٌ عليه وقال: بسم الله! قال: فرأيت الماء يفور من بين اصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا. فقلت هل بقي احدٌ له حاجة؟ فرفع رسول الله e يده من الجفنة وهي ملأى)).

فهذه المعجزة الباهرة متواترة من حيث المعنى، لأن جابراً كان في مقدمة المشاهدين فمن حقه اذاً ان يتكلم هو فيها، ويعلنها على لسان القوم حيث كان يخدم الرسول e آنذاك.

T وفي رواية ابن مسعود في الصحيح: ((ولقد رأيتُ الماء ينبعُ من بين اصابع رسول الله e ))(4).

يا ترى اذا روى صحابة ثقاة اجلاء من امثال انس وجابر وابن مسعود وقال كل منهم: ((رأيت))، أمن الممكن عدم رؤيتهم؟

وبعد؛ وَحِّد هذه الامثلة معاً، لترى مدى قوة هذه المعجزة الباهرة، لأن الطرق الثلاثة اذا ما توحدت فستثبت الرواية اثباتاً قاطعاً بالتواتر المعنوي، من ان الماء كان يفور من أصابعه e فهذه المعجزة أعظم وأسمى من تفجير موسى عليه السلام الماء من اثنتي عشر عيناً من الحجر لأن انفجار الماء من الحجر شئ ممكن له نظيره حسب العادة، ولكن لا نظير لفوران الماء من اللحم والعظم كالكوثر السلسبيل.

المثال الرابع:

T روى الامام مالك في كتابه القيّم (الموطأ(1)) عن أجلة الصحابة ((عن معاذ بن جبل في قصة غزوة (تبوك) انهم وردوا العين وهي تبض بشئ من ماء(2) مثل الشراك)) فأمر رسول الله e أن : اجمعوا من مائها ((فغرفوا من العين بايديهم حتى اجتمع في شئ. ثم غسل رسول الله e فيه وجهه ويديه واعاده فيها فَجَرت بماء كثير فاستقى الناس)) حتى قال في حديث ابن اسحاق ((فانخرق من الماء مالَه حِسّ كحس الصواعق. ثم قال: يوشِك يا معاذ إن طالت بك حياةٌ ان ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً)) وكذلك كان.

المثال الخامس:

T روى البخاري عن البراء، ومسلم عن سلمة بن الاكوع، وعن طرق اخرى في كتب الصحاح الاخرى ((كنا يوم الحديبية اربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها، حتى لم نترك فيها قطرة فجلس النبي e على شفير البئر فدعا بماء فمضمض ومجّ في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استسقينا حتى روينا ورَوَت أو صَدَرَت ركائبنا))(3) قال البراء: فأمر e بدلو من مائها، فأتينا بها، فألقى ريقه من فمه المبارك ودعا، ثم بعد ذلك أفرغ الدلو في البئر ففارت وارتفعت ملء فمها فأرووا انفسهم وركابهم.

المثال السادس

T روى ائمة الحديث، امثال مسلم وابن جرير الطبري وغيرهما عن ابي قتادة انه قال: ((ان النبي e خرج بهم ممدّاً لأهل مؤتة عندما بلغه قَتْل الامراء))(4) وكانت لديّ مِيضأة. فقال الرسول e : ((احفظ على مِيضأتك فانه سيكون لها نبأ)) وبعد ذلك أخذ العطش يشتد بنا وكنا اثنين وسبعين ـ وفي رواية الطبري كنا زهاء ثلاثمائة ـ فقال الرسول الكريم e : ((ائت ميضأتك. فأتيتُها فأخَذَها ووضع فمه في فمها ولم ادر أتنفسَ فيها أم لا؟ ثم بعد ذلك جاء أثنان وسبعون رجلاً فشربوا منها وملأوا اوعيتهم ثم بعد ذلك أخذتها ـ أي الميضأة(1) ـ فبقيت مثل ما كان))(2) فتأمل في هذه المعجزة الباهرة وقل:

اللّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله بعدد قطرات الماء.

المثال السابع:

T روى البخاري ومسلم عن عمران بن حُصين حين اصاب النبي e وأصحابه عطشٌ في بعض اسفارهم ((كنا في سفر مع النبي e ... فاشتكى اليه الناس من العطش فنزل... ودعا عليا فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فتلقيا أمرأة بين مُزادتين... فجاءا بها الى النبي e ... ودعا النبي e باناء ففرّغ فيه من افواه المزادتين، ونودي في الناس اسقوا فاستقوا... وانه ليُخيّل الينا انها اشدّ ملأة منها حين ابتدأ فيها)).

وقال النبي e : ((اجمعوا لها فجمعوا لها... حتى جمعوا لها طعاماً فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها... قال لها: تعلمين ما رُزئنا من مائكِ شيئاً ولكن الله هو الذي أسقانا... الى اخر الحديث))(3).

المثال الثامن:

T روى ابن خزيمة حديث ((عمر رضي الله عنه في جيش العسرة، وذكر ما اصابهم من العطش حتى ان الرجل لينحُر بعيرَه فيـعـصر فَرْثَه فيشـرَبُه، فرغـب ابو بكر رضي الله عنه الى النبي e في الدعاء. فرفع يديه فلم يُرجعهما حتى قالت(4) السماء فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية ولم تجاوز العسكر))(5).

فهذه معجزة احمدية محضة لا دخل للمصادفة فيها قط.

المثال التاسع:

T عن عمرو بن شعيب (حفيد عبد الله بن عمرو بن العاص ) الذي وثّقه الائمة الاربعة من اصحاب السنن في تخريجه الاحاديث: ((أن ابا طالب قال للنبيe وهو رَديفُه بذي المجاز: عطشتُ وليس عندي ماء. فنزل النبي e وضرب بقدمه الارض فخرج الماء، فقال اشرب))(1).

قال احد العلماء المحققين: هذه الحادثة كانـت قبـل النبوة لذا فهي من الارهاصات. وتفجر عينُ عرَفَه بعد مضي الف سنة يُعدّ من الاكرامات الإلـهية للرسول الكريم e .

وهكذا فالمعجزات المتعلقة بالماء، وان لم تبلغ تسعين مثالاً من امثال هذه التسعة الاّ انها رويت بتسعين وجهاً.

والامثلة السبعة الاولى قوية، وقطعية، كالتواتر المعنوي. اما المثالان الاخيران ــ وان لم تكن طرقهما قوية ومتعددة ورواتهما كثيرة الاّ ان اصحاب الحديث كالامام البيهقي والحاكم رووا عن عمر رضي الله عنه معجزة ثانية حول السحاب تأييداً للمعجزة في المثال الثامن التي رواها سيدنا عمر. والرواية هي أنه: ((اصاب الناس في بعض مغازيه e عطش فسأله عمر الدعاء، فدعا، فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم ثم اقلعت))(2) وكأن السحاب كان مأموراً لأن يروى الجيش وحده ـ حيث امطر حسب الحاجة ــ فكما تؤيد هذه الحادثة المثال الثامن وتقويّه، وتبينه رواية ثابتة قاطعة. فان ابن الجوزي ــ الذي يتشدد ويرّد حتى بعض الاحاديث الصحيحة ويجعلها في عداد الموضوعات ــ يقول: ان هذه الحادثة وقعت في غزوة بدر ونزلت في حقها الآية الكريمة: } ويُنزِّلُ عَليكُم مِن السّماء ماء لِيُطَهّركُم بِه{ (الانفال: 11).

فما دامت هذه الآية قد نزلت في حقها وبيَّنتها بوضوح، فلاشك اذاً في وقوعها.

وقد تكرر كثيراً نزول المطر بدعاء النبي e قبل ان تنزل يداه المرفوعتان وهي معجزة مستقلة بحد ذاتها. وقد استسقى النبي e احياناً وهو على المنبر، ونزلت الامطار قبل ان يخفض يده. وقد ثبت هذا عن طريق متواتر.

الاشارة البليغة التاسعة

ان أحد أنواع معجزات الرسول الاكرم e هو امتثال الأشجار لأوامره كامتثال البشر، وانخلاعها من اماكنها ومجيئها اليه. فهذه المعجزة المتعلقة بالاشجار هي متواترةٌ من حيث المعنى كفوران الماء من اصابعه المباركة ولها صور متعددة وقد رُويت بطرق كثيرة.

نعم! يصح ان يقال ان خبر انخلاع الشجرة من موضعها ومجيئها ممتثلة لأمر الرسول الاكرم e متواتر تواتراً صريحاً(1)، حيث قد رويت هذه الرواية من قبل صحابة كرام صادقين معروفين، امثال: علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ويعلى بن مرة وجابر وانس بن مالك، وبُريدة واسامة بن زيد وغيلان بن سلمة، وغيرهم فأخبر كلٌ منهم عن هذه المعجزة المتعلقة بالاشجار إخباراً ثابتاً قاطعاً. ونقلها عنهم مئات من ائمة التابعين بطرق مختلفة، في بداية كل طريق صحابي جليل، اي كأنها نقلت الينا نقلاً متواتراً مضاعفاً؛ لذا فلا يداخل هذه المعجزة ريبٌ ولا شبهة قط، فهي في حكم المتواتر المعنوي المقطوع به.

فهذه المعجزة وإن تكررت مرات عدة، الاّ اننا سنبين عدداً من صورها الصحيحة الكثيرة، ونوردها في بضعة امثلة:

المثال الاول:

T روى ابن ماجة والدارمي والبيهقي عن انس بن مالك وعلي، وروى البزار والبيهقي عن عمر، ان ثلاثة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين قالوا: كان الرسول الاكرم e قد حزن حزناً شديداً من تكذيب الكفار له ((قال: اللّهم! أرني آية لا أبالي من كذّبني بعدها)). وفي رواية أنس ((ان جبريل عليه السلام قال للنبي e ورآه حزيناً: أتحب ان أريك آية. قال: نعم! فنظر رسول الله e الى شجرةٍ من وراء الوادي، فقال: أدعُ تلك الشجرة، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: مُرها فلترجع، فعادت الى مكانها))(2).

المثال الثاني:

T روى القاضي عياض ـ علاّمة المغرب ـ في كتابه (الشفاء) بسند عال صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:

((كنا مع رسول الله e في سفر، فدنا منه اعرابي، فقال: يا اعرابي: اين تريد؟ قال: الى اهلي. قال: هل لك الى خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد ان لا إله الاّ الله وحده لا شريك له وان محمداً عبدهُ ورسوله. قال: مَن يشهد لك على ما تقول؟ قال: هذه الشجرةُ السَّمُرة(1)، وهي بشاطيء الوادي، فاقبلت تخدّ الارض، حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فَشهِدت أنه كما قال. ثم رجعت الى مكانها))(2).

وعن بُريْدَة عن طريق ابن صاحب الاسلمي بنقل صحيح: ((سأل اعرابي النبي e آية، فقال له: قل لتلك الشجرة، رسول الله يدعوك. قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقُها، ثم جاءت تَخدّ الارض تَجرُّ عروقها(3) مُغيّرة حتى وقفت بين يدي رسول الله e . فقالت: السلام عليك يا رسول الله قال الاعرابي: مُرها فلترجع الى منبتها، فَرَجَعَت فدلّت عروقها فاستوت. فقال الاعرابي: ائذن لي أسجُد لك. قال: لو امرتُ احداً أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها، قال: فأذنْ لي أن أقبِّلَ يديك ورجليك، فأذن له))(4).

المثال الثالث:

T روى مسلم واصحاب الكتب الصحاح الاخرى عن جابر رضي الله عنه: أنه قال: كنا في سفر مع رسول الله e ، ((ذهب رسول الله يقضي حاجته، فلم يَرَ شيئاً يستتر به، فاذا بشجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله e الى احداهما، فأخذ بغصنٍ من اغصانها، فقال: انقادي عليّ بأذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، وذكر انه فعل بالاخرى مثل ذلك حتى اذا كان بالمنصف(1) بينهما، قال: التئما عليّ باذن الله. فالتأمتا))(2) فجلس خلفها، وبعد ان قضى حاجته، أمر أن يعود كل منهما الى مكانها.

T ((وفي رواية أخرى، فقال: يا جابر! قل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله إلحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما. فزحفت حتى لحقت بصاحبتها. فجلس خلفهما، فخرجتُ أحضر، وجلستُ احدّث نفسي، فالتفتُّ فإذا رسول الله e مقبلاً، والشجرتان قد أفترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله e وقفةً فقال برأسه هكذا يميناً وشمالاً))(3).

المثال الرابع:

T روى اسامة بن زيد ـ احد قواد رسول الله e وخادمه الايمن ـ : كنا في سفر مع رسول الله e ، ولم يكن لقضاء الحاجة مكان خالٍ يستر عن أعين الناس، فقال: ((هل ترى من نخلٍ أو حجارة؟ قلت: أرى نخلات متقاربات، قال: انطلق وقل لهُن إن رسول الله e يأمركن أن تأتين لمخرج(4) رسول الله e وقل للحجارة مثل ذلك. فقلت ذلك لهن، فوالذي بعثُه بالحق لقد رأيتُ النخلات يتقاربن حتى اجتمعن والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته، قال لي: قل لهن يفترقن، فوالذي نفسي بيده لرأيتهن والحجارةُ يفترقن حتى عُدن الى مواضعهن))(5).

وقد روى هاتين الحادثتين اللتين رواهما جابر واسامة كل من يعلى بن مرة، وغيلان بن سلمة الثقفي، وابن مسعود في غزوة حنين.

المثال الخامس:

T ذكر علامة عصره الامام ابن فورك ـ الذي كان يسمى بالشافعي الثاني كناية عن اجتهاده الكامل وفضله ـ: ((انه e سار في غزوة الطائف ليلاً وهو وَسِنٌ، فاعتَرضهُ سدرةٌ(1)، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين الى وقتنا))(2).

المثال السادس:

T ذكر يعلى بن سيابه(3): (( أن طلحة أو سَمُرة جاءت فاطافت به ثم رجعت الى منبتها فقال رسول الله e : انها استأذنت ان تسلّم عليّ)). اي استأذنت من رب العالمين.

المثال السابع:

T روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: ((آذنَت(4) النبي e بالجن ليلة استمعوا له شجرةٌ)) وذلك حينما جاء جن نصيبين في بطن النخل الى النبي e للاسلام، فأعلَمَت شجرةٌ خبر مجيئهم النبي.

((وعن مجاهد عن ابن مسعود في هذا الحديث: ان الجن قالوا مَن يَشهَدُ لك؟ قال: هذه الشجرة)) فأمر الشجرَة ((تعالى يا شجرة! فجاءت تجرُّ عروقَها لها قعاقع))(5).

وهكذا، فقد كفت معجزة واحدة طائفة الجن. أفلا يكون مَن يسمع الف معجزة ومعجزة من امثالها ثم يكابر ولا يؤمن اضلَّ من ذلك الشيطان الذي حدّث القرآن عنه بقول الجن: } يقولُ سَفيهُنا على الله شططاً{ ) (الجن: 4) ؟

المثال الثامن:

T روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ((انه e قال لاعرابي: أرأيتَ إن دعوتُ هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد اني رسول الله؟ قال: نعم! فدعاه فجعل ينقز حتى أتاه. فقال: ارجع، فعاد الى مكانه))(1).



T T T



وهكذا، فهناك امثلة غزيرة كالتي ذكرناها روُيت كلها بطرق عديدة، ومن المعلوم انه اذا اتحدت بضعة خيوط رفيعة صارت حبلاً قوياً.. فمثل هذه المعجزة المتعلقة بالشجرة وقد رويت بطرق متعددة، وعن مشاهير الصحابة الكرام لابد انها في قوة التواتر المعنوي، بل انها متواترة تواتراً حقيقياً. ولا ريب أنها حينما انتقلت الى التابعين اخذت طابع التواتر، لا سيما الطرق التي سلكها اصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم وابن حبان والترمذي وغيرهم، انما هي طريق صحيحة لا شائبة فيها. بل أن رؤية اي حديث كان في البخاري انما هو كاستماعه من الصحابة الكرام بعينهم.

تُرى اذا عَرفت الاشجار رسول الله e وعرَّفَته وصدَّقَتْ رسالته وسلّمت عليه، وزارته، وامتثلت أمره ـ كما رأينا في الامثلة المذكورة آنفاً ـ فكيف لا يَعرف ولا يؤمن به ذلك البليد الجماد الذي يسمي نفسَه إنساناً؟ أليس هو عارٍ عن العقل والقلب؟ أفلا يكون أدنى من الشجر اليابس وأتفه من الحطب الذي لا يستحق الاّ إلقاءه في النار؟.

الاشارة البليغة العاشرة

ان الذي يؤيد هذه المعجزات المتعلقة بالشجرة هو معجزة حنين الجذع المنقولة نقلاً متواتراً.

نعم! ان حنين الجذع اليابس الموجود في المسجد النبوي الى رسول الله e لفراقه عنه - راقاً مؤقتاً - أنينَه امام جماعة غفيرة من الصحب الكرام يؤيد الأمثلة التي اوردناها في المعجزات المتعقلة بالاشجار ويقوّيها. لأن الجذع من جنس الاشجار، فالجنس واحد، الاّ ان هذه المعجزة متواترة بالذات، بينما الاقسام الاخرى متواترة نوعاً، اذ ان اكثر جزئياتها وامثلتها لا يرقى الى مستوى التواتر الصريح.

كان المسجد النبوي مسقوفاً على جذوع نخل فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنِع له المنبر، وكان عليه، سمع لذلك الجذع صوت كصوت العشار(1) وهو يئن ويبكي، حتى جاءه النبي e ووضع يده عليه، وتكلم معه وعزّاه وسلاّه، فسكت الجذع.

نُقلت هذه المعجزة بطرق كثيرة جداً نقلاً متواتراً.

نعم! ان معجزة حنين الجذع مشهورة ومنتشرة، والخبر بها من المتواتر الصريح(2) فقد رواها مئات من ائمة التابعين بخمسة عشر طريقاً عن جماعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهكذا نقلوها الى مَن خلفهم. وممن رواها من علماء الصحابة: انس بن مالك ـ خادم النبي ـ وجابر بن عبد الله الانصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وابو سعيد الخدري، وابي بن كعب، وبُريدة، وام المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليهم وكلٌ من هؤلاء على رأس طريق من طرق رواة الحديث.

فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من اصحاب الصحاح هذه المعجزة الكبرى المتواترة ونقلوها الينا.

عن جابر رضي الله عنه، يقول: ((كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخلٍ فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار حتى جاء النبي e فوضع يده عليها فسكت))(1) لم يتحمل الجذع فراقه e .

وعن انس:(2) ((حتى ارتجّ المسجد لخواره)).

وعن سهل بن سعد:(3) ((وكَثُر بكاء الناس لما رأوا به من بكاء وحنين)).

وعن اُبَي بن كعب:(4) ((حتى تصدّع وانشق)) لشدة بكائه.

زاد غيره: فقال النبي e : ((ان هذا بكى لما فقد من الذكر))(5) وزاد غيره: ((والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا الى يوم القيامة)) تحزناً على رسول الله e (6) وفي حديث بُريدة: لما بكى الجذع وضع الرسول يده الشريفة عليه وقال: ((ان شئت اردَّك الى الحائط(7) الذي كنت فيه، ينبت لك عروقك ويكمل خلقُك ويجدّد لك خوص وثمرةٌ. وان شئت اغرسك في الجنة فيأكل اولياء الله من ثمرك. ثم اصغى له النبي e يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني اولياء الله واكون في مكان لا ابلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبي e : قد فعلتُ. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء))(1).

قال الامام ابو اسحاق الاسفرائني ـ وهو من ائمة علماء الكلام ـ ان الرسول الاكرم e لم يذهب الى الجذع بل ((دعاه الى نفسه فجاءه يخرق الارض فالتزم. ثم امره فعاد الى مكانه))(2).

يقول اُبَي بن كعب: وبعد ظهور هذه المعجزة: ((أمر النبي e به فدفن تحت المنبر))، ((فكان اذا صلى النبي e صلى اليه. فلما هدم المسجد لتجديده اخذه اُبَى فكان عنده الى ان اكلته الأرض وعاد رفاتاً))(3).

وحينما كان الحسن البصري يحدّث بهذا الى طلابه يبكي ويقول:

((يا عباد الله! الخشبةُ تحنّ الى رسول الله e شوقاً اليه لمكانه فانتم أحق ان تشتاقوا الى لقائه))(4).

ونحن نقول: نعم! ان الاشتياق اليه ومحبته انما هو باتباع سنته السنية وشريعته الغراء.



o نكتة مهمة:

فان قيل: لِمَ لم تشتهر تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام والتي اشبعت الفاً من الناس في غزوة الخندق بصاع من طعام، ولا تلك المعجزات التي تخص الماء التي اروت الفاً من الناس بما فار من الماء من اصابع الرسول المباركة e . لِمَ لم تنقلا بطرق كثيرة مثلما اشتهرت معجزة حنين الجذع ونقلت. مع ان كلاً من تلك الجماعتين - لتي وقعت المعجزة امامهما - كثر من جماعة معجزة حنين الجذع؟

الجواب:

ان المعجزات التي ظهرت قسمان:

احدهما: ما يظهر على يد النبي e لتصديق دعوى النبوة، ويكون حجة لها، فيزيد ايمان المؤمنين ويسوق اهل النفاق الى الاخلاص والايمان، ويدعو اهل الكفر الى حظيرة الايمان. ومعجزة حنين الجذع من هذا القبيل، لذلك رآها العوام والخواص واعتُني بنشرها اكثر من غيرها.

اما معجزة الطعام ومعجزة الماء، فهي كرامة اكثر من كونها معجزة، بل اكرام إلهي اكثر من الكرامة، بل ضيافة رحمانية ـ حسب ما دعت اليه الحاجة ـ اكثر من إكرام إلهي. فهما وان كانتا دليلين على دعوى النبوة، ومعجزتين لها، الاّ ان الغاية الاساس هي:

ان الجيش الذي يبلغ قوامه زهاء الف رجل، كان في حاجة ماسة الى الطعام والشراب فأمدّهم الله سبحانه وتعالى من خزائن الغيب بأن اشبع من صاع من طعام ألفَ رجلٍ كما يخلق سبحانه من نواةٍ واحدة ألف رطل من التمر، كذلك أروى زهاء الف من المجاهدين في سبيل الله ، حينما اصابهم العطش، ارواهم بماء مبارك كالكوثر، اذ اجراه سبحانه من اصابع قائدهم الاعظم صلوات الله وسلامه عليه. لذلك لم تصل درجة معجزة الطعام والماء الى درجة حنين الجذع. الاّ ان جنس تينك المعجزتين ونوعهما بحسب الكلية متواتر كتواتر حنين الجذع.

ثم ان كل فرد قد لا يرى بركة الطعام وفوران الماء من الاصابع بالذات بل يرى أثره، ولكن كل من كان في المسجد النبوي قد سمع بكاء الجذع، لذا ذاع اكثر..



فان قيل:

ان الصحابة الكرام رضي الله عنهم اهتموا اهتماماً بالغاً بملاحظة جميع احوالهe وحركاته ونقلوها بأمانة واعتناء، فلِمَ رُويت امثال هذه المعجزة العظيمة بعشرين طريقاً فقط ولم ترو ــ في الاقل ــ بمائة طريق؟ ولِمَ تأتي اكثر الروايات عن أنس وجابر وابي هريرة، ولم يأتِ عن طريق ابي بكر وعمر الاّ القليل منها.

الجواب: الشق الاول من السؤال مضى جوابه في الاساس الثالث من الاشارة الرابعة.

أما جواب الشق الثاني فهو: ان الانسان اذا احتاج الى الدواء يراجع الطبيب، واذا احتاج الى بناء يراجع المهندس واذا احتاج الى تعلم الشريعة يأتي المفتى ويستفتيه.. وهكذا فقد كانت مهمة بعض علماء الصحابة منحصرة في حمل الحديث ونشره ونقله الى العصور الأخرى. فكانوا يسعون بكل ما آتاهم الله من قوة في هذه الغاية. فابو هريرة رضي الله عنه كرّس جميع حياته لحفظ الحديث النبوي في الوقت الذي كان عمر رضي الله عنه منهمكاً في حمل اعباء الخلافة وسياسة الدولة. لذا اعتمد على هؤلاء الصحابة: ابي هريرة وانس وجابر وامثالهم في نقل الحديث الشريف الى الامة، فندرت الرواية عنه. ثم ان الراوي الصادق المصدَّق من قبل الجميع يُكتفى بروايته ولا داعي الى رواية غيره، ولذلك ينقل بعض الحوادث المهمة بطريقين او ثلاث.

الاشارة الحادي عشرة

تبين هذه الاشارة المعجزة النبوية في الاحجار والجبال من الجمادات كما اشارت ((الاشارة العاشرة)) الى المعجزة النبوية في الاشجار، نذكر من بين امثلتها الكثيرة ثمانية امثلة:

المثال الاول:

T روى البخاري وعلاّمة المغرب القاضي عياض عن ابن مسعود - خادم e - انه قال: ((لقد كُنّا نَسْمعُ تَسبيحَ الطعامِ وهو يُؤكَل))(1).

المثال الثاني:

T وثبت كذلك عن انس وابي ذر رضي الله عنهما، قال أنس(2) ((أخذ النبيe كفاً من حصىً فسبّحن في يد رسول الله e حتى سمعنا التسبيحَ، ثم صبَّهن في يد ابي بكر رضي الله عنه فسبّحن، ثم في ايدينا فما سبّحن)).

T وروى مثله ابو ذر رضي الله عنه(3) وذكر انهن سبّحن في كف عمر رضي الله عنه ثم وضعهن على الارض فخرسن، ثم اخذهن ووضعهن في كف عثمان، فسبّحن ثم وضعهن في ايدينا فخرسن.

المثال الثالث:

T ثبت بنقل صحيح عن علي وجابر وعائشة رضي الله عنهم انه ما كان يمر النبي e بجبل ولا حجر الاّ وقال:السلام عليك يا رسول الله، ففي رواية علي رضي الله عنه قال: ((كنا بمكة مع رسول الله e فخرج الى بعض نواحيها، فما استَقبلَهُ شجرةٌ ولا جبلٌ الاّ قال له: السلام عليك يا رسول الله))(1).

T وفي رواية جابر رضي الله عنه قال: ((لم يكن النبي e يمرّ بحجر ولا شجرٍ الاّ سجد له))(2) اي: كل منهما ينقاد له ويقول: السلام عليك يا رسول الله.

T وفي رواية أخرى ((عن جابر بن سمرة رضي الله عنه(3): عنه e : اني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليّ)) اي قبل ان ابعث ((قيل: انه اشارة الى الحجر الاسود)).

T ((وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي e : لما استقبلني جبريل بالرسالة جعلتُ لا امرُّ بحجرٍ ولا شجرٍ الا قال: السلام عليك يا رسول الله))(4).

المثال الرابع:

T ((وفي حديث العباس رضي الله عنه(5) اذ اشتمل عليه النبي e وعلى بنيه)) وهم عبدالله وعبيد الله والفضل وقثم ((بملاءة(6) ودعا لهم السّتر من النار)) اذ قال: يا رب هذا عمي صنو ابي وهؤلاء بنوه فاسترهم من النار كستري اياهم بملاءتي. ((فأمّنت أسكُفَة الباب وحوائط البيت: آمين آمين)) واشتركن في الدعاء.

المثال الخامس:

T روت الكتب الصحاح متفقة وفي المقدمة البخاري وابن حبان وابو داود والترمذي عن أنس(1) وابي هريرة(2) وعن عثمان ذي النورين(3) وسعيد بن زيد(4) احد العشرة المبشرين بالجنة انه: ((صعد النبي e وابو بكر وعمر وعثمان اُحُداً، فرجف بهم)) من مهابتهم أو من سروره وفرحه، ((فقال: أثبت اُحُد فانما عليك نبي وصدّيق وشهيدان)).

فبهذا الحديث ينبئ e عن شهادة عمر وعثمان إخباراً غيبياً.

T وقد نقل - تتمة لهذا المثال - انه لما هاجر الرسول e من مكة وطلبته كفار قريش صعد على جبل ثُبير، ((قال له ثبير(5): اهبط يا رسول الله فانّى اخاف ان يقتلوك على ظهري فيعذّبني الله. فقال له حراء: اليّ يا رسول الله)).

من هذا يستشعر أهلُ القلب والصلاح الخوف في ثبير والأمن والاطمئنان في حراء.

يفهم من مجموع هذه الامثلة ان الجبال العظيمة مأمورة ومنقادة كأي فرد من الافراد وهي كأي عبدٍ مخلوق يسبّح الله تعالى وله وظيفة خاصة به، وانه يعرف النبي e ويحبّه.. فما خُلقت الجبال باطلاً.





المثال السادس:

T ((وروى ابن عمر رضي الله عنهما(1) ان النبي e قرأ على المنبر: } وما قَدَروا الله حق قدره{ (الانعام:91) ثم قال: يمجِّد الجبارُ نفسه يقول: انا الجبار انا الجبار انا الكبير المتعال. فَرجَف المنبرُ حتى قلنا ليخرنَّ عنه)).

المثال السابع:

T عن حبر الامة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، وعن ابن مسعود(2) - من علماء الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين، انه قال: ((كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل بالرصاص في الحجارة فلما دخل رسولُ الله e المسجدَ عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده اليها ولا يمسّها. ويقول: } جَاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كانَ زَهُوقاً{ (3) (الاسراء:81) فما اشار الى وجه صنمٍ الاّ وقع لقفاه ولا لقفاه الاّ وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم))(4).

المثال الثامن:

T هو قصة بحيراء الراهب المشهورة(5) وهي: ان النبي e خرج قبل البعثة مع عمه ابي طالب وجماعة من قريش الى نواحي الشام. ولما وصلوا الى جوار كنيسة الراهب جلسوا هناك ((وكان الراهب لا يخرج الى أحَد فخرج وجعل يتخللهم حتى اخذ بيد رسول الله e فقال: (هذا سيد العالمين يبعثه الله رحمةً للعالمين) فقال له أشياخ من قريش: ما عِلمُك؟ فقال: انه لم يبق شجر ولا حجر الاّ خرّ ساجداً له ولا يسجد الاّ لنبي)). ((ثم قال واقبل e وعليه غمامةٌ تظلّه فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه الى فئ الشجرة فلما جلس مالَ الفئ اليه))(1).



T T T



وهكذا فهناك ثمانون مثالاً كهذه الامثلة الثمانية.

فاذا وحَّدْتَ هذه الامثلة الثمانية لأصبحت قوية لا يمكن ان تنال منها شبهة مهما كانت.

فهذا النوع من المعجزات (اي تكلم الجمادات) يشكّل دليلاً جازماً على اثبات دعوى النبوة، وهو في حكم التواتر من حيث المعنى. فكل مثال يستمد قوة اخرى من قوة الجميع تفوق قوته الفردية. مَثَله في هذا، مثل رجل ضعيف انخرط في سلك الجيش، فيتقوى حتى يستطيع ان يتحدى الفاً من الرجال، او كعمود ضعيف لو ضم مع اعمدة قوية يتقوى.

فكيف اذا كانت الروايات كلها صحيحة ورصينة؟.

الاشارة الثاني عشرة

أمثلة ثلاثة مهمة ترتبط بالاشارة الحادية عشرة.

المثال الاول:

T تصرّح الآية الكريمة } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ (الانفال:17) بنصها القاطع وبتحقيق عموم المفسرين العلماء وائمة الحديث: ان الرسول e أخذ في غزوة بدر قبضة من تراب وحصيات ورماها في وجوه جيش الكفار وقال: ((شاهت الوجوه))(1). فدخلت تلك القبضة من التراب الى اعين كل المشركين، مثلما وصلت كلمة ((شاهت الوجوه)) الى آذان كلٍ منهم فصاروا يعالجون عيونهم من التراب، ففرّوا بعدما كانوا في حالة كرٍّ على المسلمين.

T ويروي الامام مسلم(2): ان الكفار في غزوة حنين عندما كانوا يصولون على المسلمين، أخذ النبي e قبضة من تراب ورمى بها في وجوه المشركين وقال: ((شاهت الوجوه)) فما من أحدٍ منهم الاّ ملأ عينيه - باذن الله - تراباً كما سمعت اذنُه هذه الكلمة فولّوا مدبرين.

فهذه الحادثة الخارقة للعادة قد وقعت في بدر وحنين، فهي حادثة تفوق طاقة البشر، كما انها لا يمكن اسنادها الى الاسباب العادية، لذا قال تعالى } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ اي انها حادثة نابعة من قدرة الهية محضة.

المثال الثاني:

T تذكر كتب ائمة الحديث وفي مقدمتها البخاري ومسلم ((ان يهودية - واسمها زينب بنت الحرث - اهدت للنبي e بخيبر شاة مصليّة(3) سمَّتْها، فأكل رسول اللهe منها ، وأكل القوم، فقال: ارفعوا ايديكم، فانها اخبرتني انها مسمومة، فرفع الجميع ايديهم، إلاّ ان بشر بن البراء مات من اثر السم، فدعا e اليهودية وقال لها: ما حَمَلكِ على ما صنعتِ؟ قالت: إن كنت نبياً لم يضرّك الذي صنعتُ، وان كنتَ مَلِكاً أرَحْتُ الناسَ منك. فأمر بها فقُتلت))(1)، وفي بعض الروايات انه لم يأمر بقتلها. قال العلماء المحققون: لم يأمر بقتلها بل دفعها لأولياء بشر بن البراء، فقتلوها(2).

فاستمع الآن الى هذه النقاط الثلاثة لبيان اعجاز هذه الحادثة.

النقطة الاولى: جاء في احدى الروايات: ان عدداً من الصحابة سمعوا قولَها حينما أخبرتْ الشاة عن انها مسمومة(3).

النقطة الثانية: وفي رواية اخرى انه بعدما أخبر الرسول e عن القضية قال: قولوا بسم الله ثم كلوا، فانه لا يضر السم بعدَه. هذه الرواية وان لم يقبلها ابن حجر العسقلاني الاّ ان علماء آخرين قبلوها.

النقطة الثالثة: لقد اطمأن كلُ من سمع كلامه e : ((انها اخبرتني بأني مسمومة)) وكأنه سمعه بنفسه، اذ لم يُسْمَع منه e قولٌ مخالف للواقع قط، وهذه واحدة منه، فبينما يبيّت اليهود الكيد لينزلوا ضربتهم القاضية بالرسول الكريم e وصحبه الكرام رضوان الله عليهم اذا بالمؤامرة تنكشف على اثر خبرٍِ من الغيب وتبطل الدسيسة والمكر السئ، ويقع الخبر كما أخبر عنه e .

المثال الثالث:

هو معجزة الرسول e في ثلاث حوادث تشبه معجزة سيدنا موسى عليه السلام، في معجزة يده البيضاء وعصاه.

الحادثة الاولى:

T اخرج الامام احمد الحديث الصحيح، عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه(1):

ان الرسول e ((اعطى قتادة بن نعمان - وصلى معه العشاء - في ليلةٍ مظلمة مطِرة عُرجوناً. وقال: انطلق به فانه سيضئ لك من بين يديك عشراً ومن خلفك عشراً. فاذا دخلتَ بيتك فسترى سواداً فاضربه حتى يخرج فانه الشيطان، فانطلق، فاضاء له العرجون(2)، حتى دخل بيته ووجد السواد فضربه حتى خرج)).

الحادثة الثانية:

T انقطع سيف عكاشة بن محصن الاسدي وهو يقاتل به في غزوة بدر الكبرى - تلك المعركة التي هي منبع الغرائب - فاعطاه رسول الله e جذلاً من حطب ـ أي عوداً غليظاً – ((وقال: اضرب به فعاد في يده سيفاً صارماً طويل القامة ابيض شديد المتن، فقاتل به، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف الى ان استشهد في قتال اهل الردة))(3) في اليمامة.

هذه الحادثة ثابتة قطعاً، وكان عكاشة يفتخر بذلك السيف طوال حياته، وكان السيف يسمى بــ ((العَوْن))، فاشتهار السيف بـ ((العون)) وافتخار عكاشة به حجتان ايضاً على ثبوت الحادثة.

الحادثة الثالثة:

T روى ابن عبد البر(4) وهو من اعلام عصره من بين العلماء المحققين: ان عبد الله بن جحش - ابن عمة رسول الله e - ((وقد ذهب سيفُه)) في غزوة أحد وهو يحارب، فاعطاه رسول الله e ((عسيب(5) نخل فرجع في يده سيفاً)).

يقول ابن سيد الناس في ((سيره)): فبقي هذا السيف مدّة ولم يزل يتناقل حتى بيع الى شخص يُدعى بغاء التركي بمائتي دينار(1).

فهذان السيفان معجزتان كمعجزة عصا موسى، الاّ انه لم يبق وجه الاعجاز لعصا موسى بعد وفاته عليه السلام، وبقي هذان السيفان معجزتان بعد وفاته e .

الاشارة الثالثة عشرة

ومن معجزاته e : شفاء المرضى والجرحى بنفثه المبارك. وهذ النوع من المعجزات متواتر معنوي - من حيث النوع - أما جزئياتها فقسم منها بحكم المتواتر المعنوي وقسم آخر آحادي، الاّ انه يورث القناعة العلمية والاطمئنان وذلك لتوثيق العلماء له وتصحيح ائمة الحديث.

سنذكر من امثلة هذا النوع من المعجزات بضعة امثلة فقط من بين امثلتها الغزيرة.

المثال الاول:

T يروي القاضي عياض(1) عن سعد بن ابي وقاص وهو من العشرة المبشرين بالجنة وتولى خدمة النبي e واصبح أحد قواده، وقاد جيش الاسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انه قال: ((ان رسول الله e لَيُناوِلني السهمَ لا نَصْلَ لَهُ، فيقول: إرمِ به، وقد رمى رسول الله e يومئذٍ عن قوسه حتى اندقّت)) كان ذلك في غزوة اُحد، وكانت السهام التي لا نصلَ لها تَمرقُ كالمرّيشة وتثبت في جسد الكفار.

T وقال ايضاً(2): ((واصيب يومئذٍ عين قتادة (بن النعمان) حتى وقعت على وجنته، فرّدها رسول الله e )) بيده المباركة الشافية ((فكانت أحسنَ عَينيه)) واشتهرت هذه الحادثة حتى ان أحد احفاد قتادة حينما جاء الى عمر بن عبد العزيز عرّف نفسَه بانشاده الابيات الآتية:ـ



انا ابن الذي سالَت على الخدِّ عينُه

فرُدَّتْ بكفِّ المصطفى أحسنَ الردّ

فعــادت كمـا كانت لأول أمرهـا

فيا حُسنَ ما عـينٍ ويا حُســنَ ما ردّ

T وثبت ايضاً: انه جعل ريقَه على جراحة: ((أثر سهمٍ في وجه ابي قتادة في يوم ذي قرد(1) قال: فما ضرب عليّ ولا قاح))(2) اذ مسحه رسول الله e بيده المباركة.

المثال الثاني:

T روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن الرسول e اعطى الراية علياً يوم خيبر، وكان رمداً، فلما تفل في عينه اصبح ترياقاً لعينه فبرئت بأذن الله(3).

ولما جاء الغد أخذ علي باب القلعة وهو من حديد وكأنه ترس في يده، وفتح القلعة.

T ((ونفث على ضربةٍ بساق سلمة بن الاكوع يوم خيبر فبرئت))(4).

المثال الثالث:

T ((روى النسائي(5) عن عثمان بن حُنَيف: ان اعمى اتى الى رسول الله e ، فقال: يا رسول الله ادعُ الله ان يكشف لي عن بصري. قال: أوَ أدعك؟ قال: يا رسول الله انه قد شقّ عليّ ذهاب بصري. قال: فانطلق فتوضأ ثم صلِّ ركعتين ثم قل: اللهم اني اسألك واتوجه اليك بنبيي محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إني اتوجه الى ربك بك، ان يكشف لي عن بصري، اللّهم شفّعه فيّ، وشفّعني في نفسي. فرجع وقد كشف الله عن بصره)).

المثال الرابع:

T ((قطع ابوجهل يوم بدر يد معوَّذ بن عفراء)) أحد الاربعة عشر الذين استشهدوا في بدر ((فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله e والصقها فلصقت، رواه ابن وهب))(1)- وهو من ائمة الحديث - ثم عاد الى القتال فقاتل حتى استشهد.

T ((ومن روايته ايضاً: أن خُبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله e ، بضربةٍ على عاتقه حتى مال شقه، فردّه رسول الله e ، ونفث عليه حتى صحّ))(2).

فهاتان الحادثتان وان كانتا آحادية الاّ ان تصحيح الامام الجليل ابن وهب لهما، وكون وقوعهما في منبع المعجزات، بدر، ولوجود شواهد كثيرة من امثالهما يجعلهما لا يشك أحدٌ في وقوعهما.

وهكذا هناك الف مثال ومثال قد ثبت بالاحاديث الصحيحة، من ان يد الرسول الاعظم e اصبحت شفاء ودواء لذوي العاهات والمرضى.

لو سطرت هذه القطعة بماء الذهب

ورصّعت بالالماس لكانت جديرة

حقاً! وكما مرّ سابقاً:

ان تسبيح الحصى وخشوعه في كفه e ..

وتحول التراب والحصيات فيها كقذائف في وجوه الاعداء حتى ولّوا مدبرين بقوله تعالى: } وما رَميْتَ اذ رَميْتَ ولكن الله رمى{ .

وانفلاق القمر فلقتين بأصبع من الكف نفسها كما هو نص القرآن الكريم:} وانشقّ القَمَر{ ..

وفوران الماء كعينٍ جارية من بين الاصابع العشرة وارتواء الجيش منه...

وكون تلك اليد بلسماً للجرحى وشفاء للمرضى..

ليبيّن بجلاء:

مدى بركة تلك اليد الشريفة..

ومدى كونها معجزة قدرة إلهية عظيمة.

لكأن كف تلك اليد:

زاوية ذكر سبحانية صغيرة بين الأحباب، لو دخلها الحصى لسبّح وذكر..

وترسانة ربانية صغيرة تجاه الاعداء، لو دخلها التراب لتطاير تطاير القنابل..

وتعود صيدلية رحمانية صغيرة للمرضى والجرحى، لو لامست داء لغدت له شفاء..

وحينما تنهض تلك اليد تنهض بجلال فتشق القمر شقين باصبع منها.

واذا التفتت التفاتة جمال فجّرت ينبوع رحمة يَدفُق من عشر عيون تجري كالكوثر السلسبيل

فلئن كانت يد هذا النبي الكريم e موضع معجزات باهرة الى هذا الحد.. ألا يدرك بداهةً:

مدى حظوته عند ربه

مبلغ صدقه في دعوته

ومدى سعادة اولئك الذين بايعوا تلك اليد المباركة ؟.

سؤال: انك تقول في كثير من الروايات انها متواترة، بينما لم نسمع بها الاّ الآن فهل يُجهل التواتر الى هذا الحد؟.

الجواب: هناك امور كثيرة متواترة لدى علماء الشرع بينما هي مجهولة لدى غيرهم فلدى علماء الحديث من الاحاديث المتواترة ما لا يعرف الاّ بالاحاد لدى سواهم.. وهكذا، فبديهيات ونظريات كل علم انما تُبيَّن حسب ما تواضع عليه اهل اختصاص ذلك العلم، أما بقية الناس فهم يعتمدون عليهم في ذلك العلم. فإما أنهم يستسلمون لقولهم، أو يعكفون على دراسة ذلك العلم فيجدون ما وجدوه.

فما أخبرنا عنه من المتواتر الحقيقي أو المعنوي، أو ما هو بحكم المتواتر من الحوادث، قد بيّن حكمَها رجالُ الحديث، وعلماء الشريعة وعلماء الاصول، واغلب العلماء الاخرين. فاذا جَهِلَه العوام الغافلون، أو مَن يغمض عينه عن العلم من الجهال، فلا يقع اللومُ الاّ عليهم.

المثال الخامس:

T أخرج الامام البغوي:(1) اصابت ((ساق علي بن الحكم يوم الخندق اذ انكسرت)) فمسحها رسول الله e (( فبرىء مكانه، وما نزل عن فرسه)).

المثال السادس:

T روى البيهقي وغيره ((اشتكى علي بن ابي طالب، فجعل يدعو، فقال النبي e : اللّهم اشفه أو عافه ثم ضربه برجله، فما اشتكى ذلك الوجع بعدُ))(2).





المثال السابع:

T ((كانت في كف شرحبيل الجعفي سلعةٌ (1) تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي e ، فما زال يطحنها(2) بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثرٌ))(3).

المثال الثامن:

ستة من الاطـفال نالوا – كلٌ على حـدة - معــجزة مـن معــجزات الرسول الأكرم e .

الأول:

T روى ابن ابي شيبة - وهو من ائمة الحديث - أنه: ((اتَتْه e أمرأةٌ من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتي بماء، فمضمض فاهُ وغسل يديه، ثم اعطاها إياه، وأمرها بسقيه ومسّه به، فبرأ الغلام وعقل عقلاً يفضُلُ عقول الناس))(4).

الثاني:

T ((وعن ابن عباس: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح e صدرَه فثعَّ ثعَّة فخرج من جوفه مثل الجرو الاسود))(5)- شئ اسود كالخيار الصغير - فشفي.

الثالث:

T روى الامام البيهقي والنسائي(6): ((انكفأت(7) القدر على ذراع محمد بن حاطب، وهو طفل فمسح عليه e ودعا له)) ونفخ نفخاً فيه ريقه الشريف فبرأ لحينه.

الرابع:

T ((ان النبي e اُتي بصبّي قد شبّ)) أي كَبُر ((لم يتكلم قط، فقال: من أنا؟ فقال: رسول الله))(1) فانطقه الله.

الخامس:

T اخرج امام العصر جلال الدين السيوطي - الذي تشرّف في اليقظة برؤية النبي e مراراً - أنه: جاء رسول الله e رجلٌ من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله e : يا غلام من أنا؟. فقال: انت رسول الله. قال: صدقت بارك الله فيك. ثم ان الغلام لم يتكلم حتى شبّ فكان يسمى بمبارك اليمامة لدعاء النبي e له بالبركة(2).

السادس:

T ((ودعا على صبي)) خشن الطبع ((قطع عليه الصلاة ان يقطع الله أثره فاُقْعِد))(3) ونال جزاء فظاظته.

السابع:

T ((سألتْه جارية طعاماً وهو يأكل، فناولها من بين يديه، وكانت قليلة الحياء، فقالت: انما أريد من الذي في فيك، فناولها ما في فيه، ولم يكن يُسأل شيئاً فيمنعه. فلما استقرّ في جوفها اُلقي عليها من الحياء ما لم تكن أمرأةٌ بالمدينة أشدّ حياء منها))(4).



T T T



وهكذا هناك امثلة غزيرة تربو على الثمانمائة مثال كالتي ذكرناها، وقد بيّنت كتب الاحاديث والسير معظمها.

نعم، لما كانت اليد المباركة للرسول الكريم e كصيدلية لقمان الحكيم، وبصاقه كماء عين الحياة لخضر عليه السلام، ونفثه كنفث عيسى عليه السلام في الشفاء، وان بني البشر يتعرضون للمصائب والبلايا، فلا ريب انه قد أتى اليه مالا يحد من المرضى والصبيان والمجانين ولا شك انهم قد شفوا جميعاً من امراضهم وعاهاتهم. حتى ان طاووساً اليماني وهو من ائمة التابعين المشهور بزهده وتقواه إذ حج اربعين مرة وصلى صلاة الصبح بوضوء العشاء اربعين سنة، ولقي كثيراً من الصحابة الكرام، هذا العالم الجليل يخبر جازماً فيقول: ما من مجنون جاء الى النبيe ووضع يده الشريفة على صدره الاّ شفي من جنونه.

فإذا اخبر امام كالطاووس اليماني - الذي ادرك الصحابة الكرام - هذا الخبر الجازم فلا ريب أنه قد جاء الى النبي e كثير جداً من المرضى، ربما يبلغ الالوف وكلهم شفوا من امراضهم.

عبدالرزاق 02-03-2011 02:06 AM

رد: المكتوبات
 
الاشارة الرابعة عشرة

ومن انواع معجزاته e نوع عظيم، وهو الخوارق التي ظهرت بدعائه. فهذا النوع لاشك فيه ومتواتر تواتراً حقيقياً، وامثلتها وجزئياتها وفيرة جداً لا تحصر، وقد بلغ كثير من امثلتها درجة المتواتر، بل صارت مشهورة قريبة من التواتر، ومنها ما نقله ائمة عظام بحيث يفيد القطعية فيه كالمتواتر المشهور.

ونحن هنا نذكر على سبيل المثال بعضاً من امثلتها الكثيرة جداً التي هي قريبة من المتواتر، أو التي هي بدرجة المشهور، كما سنذكر جزئياتٍ من كل مثال:

المثال الاول:

T روى ائمة الحديث وفي مقدمتهم البخاري ومسلم ان دعاء النبي e للاستسقاء كان يستجاب في الحال، وحدث ذلك مراراً كثيرة، حتى انه كان يرفع يديه احياناً للاستسقاء وهو على المنبر، فيستجاب له قبل ان ينزل، وهذه الروايات ثابتة بلغت حد التواتر. وقد ذكرنا آنفاً: انه اصاب الناس عطش في السفر، فكان السحاب يتراكم في كل مرة يحتاجون الى الماء فيسقوا ثم يقلع.

T بل كان دعاؤه e يستجاب حتى قبل النبوة، فكان عبد المطلب جد النبيe يستسقى بوجهه الكريم في صباه، فكان المطر ينزل، وقد اشتهرت هذه الحادثة حتى ذكرها عبد المطلب في بعض اشعاره.

T ولقد استسقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس عم النبي بعد وفاتهe فقال: ((اللّهم إنا كنا نتوسل اليك بنبينا فتسقينا وانّا نتوسل اليك بعم نبينا فاسقنا، قال فيسقون))(1).

T وروى الشيخان ان الرسول e سئل ان يغيثهم الله بالمطر ((فدعا e في الاستسقاء فسقوا ثم شكوا اليه المطر فدعا فصحوا))(2).

المثال الثاني:

T وردت رواية مشهورة قريبة من التواتر انه e حينما كان المؤمنون قلة ويكتمون ايمانهم وعبادتهم ((دعا بعزّ الاسلام بعمر رضي الله عنه أو بابي جهل فاستجيب له في عمر)) اذ قال: ((اللّهم اعزّ الاسلام بابي جهل بن هشام او بعمر بن الخطاب، فأصبح فغدا عمر على رسول الله e فأسلم))(1) فكان سبباً لعزّ الاسلام ولذلك دُعي بالفاروق.

المثال الثالث:

ولقد دعا النبي الكريم e لبعض الصحابة لمقاصد شتى فاستجيب له استجابةً خارقة، حتى وصلت كرامة تلك الادعية درجة الاعجاز.

T من ذلك ما روى البخاري ومسلم وغيرهما أنه: ((دعا لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل))(2) فَسُمّي بعدُ الحبر وترجمان القرآن حتى كان عمر رضي الله عنه يأذن لابن عباس - مع حداثة سنّه - ان يجلس في مجلس اكابر الصحابة الاجلاء(3).

T وروى البخاري وغيره ((عن انس رضي الله عنه قال: قالت امي: يا رسول الله خادمك أنس ادعُ الله له. قال: اللّهم أكثر ماله وولَده وبارك له فيما آتيته، وفي رواية عكرمة قال انس: فوالله ان مالي لكثير وان وَلَدي وولد ولدى ليعادّون اليوم على نحو المائة. وفي رواية فما اعلم أحداً اصاب من رخاء العيش ما اصبتُ، ولقد دفنتُ بيديّ هاتين مائة من ولدي لا اقول سقطاً ولا ولد ولد))(1) وكان كل ذلك ببركة دعاء النبي e .

T وروى الامام البيهقي وغيره من ائمة الحديث انه e ((دعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة)) وهو احد العشرة المبشرين بالجنة فاصاب مالاً وفيراً ببركة ذلك الدعاء حتى أنه ((تصدّق مرّةً بعَير فيها سبعمائة بَعير وَرَدَتْ عليه تحمل من كل شئ فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها واحلاسها))(2) فما شاء الله في هذه البركة وتبارك الله.

T وروى البخاري وغيره انه e دعا لعروة بن ابي الجعد بالبركة في تجارة له. فقال: ((فلقد كنت اقوم بالكناسة(3) فما أرجع حتى أربح أربعين الفاً. وقال البخاري في حديثه، فكان لو اشترى التراب ربح فيه))(4).

T ((ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه فما اشترى شيئاً الاّ ربح فيه))(5) حتى اشتهر في زمانه بالثروة والمال بمثل ما اشتهر بالكرم والسخاء.

ولهذا النوع امثلة كثيرة جداً اوردنا هذه الاربعة على سبيل المثال.





T وروى الامام الترمذي: انه e دعا لسعد بن ابي وقاص فقال: اللّهم استجب لسعد اذا دعاك(1). فكان مستجاب الدعوة يرهب الناس من دعائه عليهم.

T ((وقال لابي قتادة: افلح وجهُك، اللّهم بارك له في شَعره وَبَشَره. فمات وهو ابن سبعين سنة وكأنه ابن خمس عشرة سنة))(2). وقد اشتهرت هذه الرواية الثابتة.

T وعندما أنشد الشاعر المشهور النابغة بين يديه e :

بَلَغنا السما في مجدنا وسَنائِنا وإنّا نريد فوق ذلك مظهراً

قال له الرسول e : الى اين يا أبا ليلى؟ قال: الى الجنة يا رسول الله.

ثم أنشد قصيدة اخرى تحمل معاني جليلة، فقال الرسول e : ((لا يَفْضُض الله فاك)) ((فما سقطت له سن، وكان احسن الناس ثغراً، اذا سقطت له سنٌ نبتت له اخرى. وعاش عشرين ومائة. وقيل اكثر من هذا))(3).

T وفي رواية صحيحة انه e دعا لعلي رضي الله عنه، فقال: اللّهم اكفه الحر والقر، فكان ببركة هذا الدعاء ((يلبس في الشتاء ثياب الصيف، وفي الصيف ثياب الشتاء ولا يصيبه حرّ ولا برد))(4).

T ((ودعا لابنته فاطمة الاّ يجيعها الله. قالت: فما جعتُ بعد))(1).

T ((وسأله الطفيل بن عمرو آيةً لقومه، فقال: اللّهم نوِّر له. فسطع له نورٌ بين عينيه، فقال: يا رب اخاف ان يقولوا: مُثْلَة، فتحول الى طرف سوطه، فكان يضئ في الليلة المظلمة، فسمي ذا النور))(2).

فهذه الحوادث لا ريب في رواياتها قط.

T ((عن ابي هريرة قال: قلت: يا رسول الله انى اسمع منك حديثاً كثيراً أنساه. قال: ابسط رداءك فبسطتُه. قال: فغرف بيديه، ثم قال: ضمه، فضممته، فما نسيتُ شيئاً بعده))(3).

فهذه الحوادث من الاحاديث المشهورة.

المثال الرابع:

نبين عدة امثلة في صدد استجابة ادعيةٍ دعا بها النبي e على بعض من الناس.

T الأول: جاء الخبر الى النبي e بتمزيق ملك الفرس المسمى بَرْويز كتابَ النبيe فقال: اللّهم مَزّقه. فمُزِّق كلَّ ممزق اذ قتل شيرويه ابن الملك اباه بالخنجر، ومزَّق سعد بن ابي وقاص مُلكه ((فلم تبق له باقية ولا بقيت لفارس رياسة في اقطار الدنيا))(4) بينما ظل مُلك قيصر وسائر الملوك لاحترامهم كتب الرسول e اليهم.

T الثاني: ثبت بالحديث المشهور القريب من المتواتر - وبما ترمز اليه الآية الكريمة - انه اجتمع رؤساء قريش في المسجد الحرام وعاملوا النبي e معاملة سيئة فدعا عليهم، وسمّاهم. قال ابن مسعود: ((فلقد رأيتُهم قُتلوا يوم بدر))(1).

T الثالث: ودعا على مضر وهي قبيلة عظيمة، بما كذبته، ((فأُقحطوا حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسُقوا))(2) هذه الرواية قريبة من التواتر.

المثال الخامس:

هو استجابة دعاء النبي e الذي دعا به على رجال معينين، نذكر على سبيل المثال ثلاثة من بين امثلته الكثيرة.

T الاول: دعا على عتبة بن ابي لهب، وقال: ((اللّهم سلّط عليه كلباً من كلابك))(3). فسافر عتبة بعد ذلك فجاء اسد يبحث عنه، فاخذه من بين القافلة وأكله. هذه الحادثة مشهورة نقلها ائمة الحديث وصححوها.

T الثاني: بعث الرسول e سرية وعلى رأسها عامر بن الأضبط ، وكان محلـِّم بن جثَّامة في معيته، فاغتاله محلـِّم غدراً، فلما جاء الخبر الى النبي e غضب وقال: اللّهم لا تغفر لمحلِّم، فمات محلـِّم بعد سبعة أيام. ((فلفظته الارض ثم وورى فلفظته مرات، فالقوه بين صُدِّين وضموا عليه بالحجارة - الصُّدُّ جانب الوادي))(1).

T الثالث: ((وقال لرجل رآه يأكل بشماله: كل بيمينك، قال: لا استطيع فقال: لا استطعت، فلم يرفعها الى فيه))(2).

المثال السادس:

سنذكر عدة خوارق ثابتة ثبوتاً قطعياً من تلك التي ظهرت بدعاء النبي e وبلمسه.

T الاول: ان النبي e اعطى شعرات من شعره الى خالد بن الوليد (سيف الله) ودعا له بالنصر، فوضعها خالد في قلنسوته ((فلم يشهد بها قتالاً الاّ رُزق النصر))(3).

T الثاني: ان سلمان الفارسي كان عبداً لليهود، فكاتبه ((مواليه على ثلاثمائة ودية يغرسها لهم كلها تَعْلَقُ وتُطعم وعلى اربعين اوقية من ذهب، فقام e وغرسها له بيده الاّ واحدةً غرسها غيره، فأخذت كلها الاّ تلك الواحدة فقلعها النبي e وردّها فأخذت - وفي كتاب البزار - فاطعم النخلُ من عامه الاّ الواحدة فقلعها رسول الله e وغرسها فاطعمت من عامها. واعطاه مثل بيضة الدجاجة من ذهب بعد أن ادارها على لسانه، فوزن منها لمواليه اربعين اُوقية وبقي عنده مثل ما اعطاهم))(4) هذه الحادثة هي من الخوارق المهمة التي مرت بحياة سلمان الفارسي رضي الله عنه، رواها الائمة الثقات.

T الثالث: ((كان لأم مالك الصحابية عكةٌ(1) تُهدي فيها للنبي e سمناً فأمرها النبي e أن لا تعصرها ثم دفعها اليها، فاذا هي مملوءة سمناً فيأتيها بنوها يسألونها الأدْمَ وليس عندهم شئ، فتعمد اليها، فتجد فيها سمناً، فكانت تقيم إدمَها حتى عصرتها))(2) فلم يجدوا فيها شيئاً بعد ذلك.

المثال السابع:

ان المياه المرة تتحول الى عذبة حلوة وتفوح منها رائحة طيبة ببركة دعاء النبيe ولمسه لها. نسوق بضعة امثلة فقط:

T الاول: روى البيهقي وائمة الحديث ان بئر ((قبا)) كانت تنزف في بعضالاحيان ((وسكب من فضل وضوئه في بئر قبا فما نَزَفَت بعد))(3).

T الثاني: روى ابو نعيم في دلائلالنبوة، ورجال الحديث. انه كان في دار أنس بئر فبزق e فيها ودعا ((فلم يكن في المدينة اعذب منها))(4).

T الثالث: روى ابن ماجه انه ((اُتي بدلو من ماء زمزم فمجّ فيه فصار اطيب من المسك))(5).

T الرابع: روى الامام احمد بن حنبل أنه e اُتي بدلو من بئر فمجّ فيه ثم افرغ فيها فصارت اطيب من المسك(6).

T الخامس: روى حماد بن سلمة وهو من الرجال الموثوقين الذين يروي عنهم الامام مسلم، أنه e ملأ ((سقاء ماء بعد أن أوكاه ودعا فيه)) وأعطاه لصحابة كرام وأمرهم ألاّ يحلّوه الاّ للوضوء. ((فلما حضرتهم الصلاة نزلوا فحلّوه فاذا به لبن طيب وزبدة في فمه))(1).

هذه الامثلة الخمسة الجزئية مشهورة بعضها، وينقلها ائمة اعلام. فهذه والتي لم نذكرها هنا بمجموعها تحقق بالتواتر المعنوي هذه المعجزة تحققاً كاملاً.

المثال الثامن

الشياه التي درّ ضرعها باللبن ببركة دعاء النبي e ولمسه إياه بعد أن كان قد جفّ. هناك امثلة كثيرة جداً لهذا الاّ اننا نذكر ثلاثة منها مشهورة وثابتة.

T الاول: روت جميع كتب السير الموثوق بها أن الرسول الاكرم e لما هاجر ومعه ابو بكر الصديق مرّ على خباء عاتكة بنت خالد الخزاعي المدعوة بأم معبد، فنزل عندها وكان لها شاة عجفاء لا لبن فيها. فقال لها: أليس بها لبن؟ فقالت أم معبد: ليس فيها دم فمن اين اللبن؟. فمسّ e ظهرها ومسح ضرعها، ثم قال: ائتوا باناء واحلبوها، فحلبوها فشرب e هو وابو بكر الصديق وبقيت في الاناء بقية فشرب مَن كان في الخباء الى ان شبعوا جميعاً. وهكذا بقيت تلك الشاة مباركة قوية(2).

T الثاني: قصة شاة ابن مسعود رضي الله عنه وهي:

((عن ابن مسعود قال: كنت ارعى غنماً لعقبة بن ابي معيط، فمر بي رسول الله e وابو بكر، فقال: يا غلام هل من لبن؟ قال: قلت: نعم ولكني مؤتمن. قال: فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟. فأتيته بشاة فمسح ضرعها، فنزل لبن فحلبه في اناء، فشرب وسقى ابا بكر…))(3) وكان هذا سبب اسلام ابن مسعود رضي الله عنه.

T الثالث: قصة ((غنم حليمة السعدية(1) مرضعته e ))، وهي قصة مشهورة حيث كان في تلك السنة قحطٌ اصاب أرض قومها، فكانت الأغنام عجافة، جافاً الضروع، لم ترع حتى الشبع. فلما اُرسل الرسول e الى حليمة السعدية صارت اغنامها تأتي المرعى وقد رعت كثيراً ودرّ لبنـها، وغــنم قومـها على خلاف ذلك. وما ذاك الاّ ببركته e .

وهـنـاك امثلة كثيرة اخرى في كتب السير، والـتـي اوردنـاها تكـفي ما نـحن بصدده.

المثال التاسع:

نذكر بضعة امثلة من الامثلة الكثيرة المشهورة للخوارق التي ظهرت عند مسح الرسول e رؤوس بعضهم ووجوههم بيده ودعائه لهم:

T الاول: ((مسح على رأس عُمير بن سعد وبرّك، فمات وهو ابن ثمانين، فما شاب))(1).

T الثاني: ((ومسح على رأس قيس بن زيد الجذامى ودعا له، فهلك وهو ابن مائة سنة، ورأسه أبيض وموضع كف النبي e وما مرّت يدُه عليه من شعره أسود، فكان يُدعى الأغر))(2).

T الثالث: ((ومسح رأس عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو صغير، وكان دميماً ودعا له بالبركة فَفَرَع الرجال طولاً وتماماً))(3).

T الرابع: ((سَلَت(4) الدم عن وجه عائذٍ بن عمرو وكان جُرحَ يوم حُنين ودعا له فكان له غرّة كغُرة الفرس))(5).

T الخامس: ((مسح وجه قتادة بن مِلحان فكان لوجهه بريقٌ حتى كان يُنظَر في وجهه كما يُنظَر في المرآة))(6).

T السادس: ((نضح في وجه زينب (وهي صغيرة) بنت ام سلمة نضحة من ماء)) كان يتوضأ به ((فما يُعرف كان في وجه امرأة من الجمال مابها))(7).

وهناك امثلة كثيرة كهذه الجزئيات التي اوردناها رواها ائمة الحديث فهي بمجموعها تفيد التواتر المعنوي وتبين وقوع المعجزة الاحمدية المطلقة. فحتى لو فرضنا كل واحد من هذه الامثلة خبراً آحادياً، وضعيفاً، فان مجموعها يكون بحكم المتواتر المعنوي، لانه لو نقلت حادثة ما في صور متباينة وروايات مختلفة، فهذا يعني ان الحادثة واقعة لا شك فيها الا ان رواياتها وصورها مختلفة او ضعيفة.

فمثلاً: اذا سُمع في مجلس دويّ، فقال بعضهم: انهدم بيت فلان، وقال آخر: انهدم بيت شخص آخر. وقال آخر: بيت فلان.. وهكذا فكل رواية من هذه الروايات مع انها آحادية وضعيفة أو مخالفة للواقع الا ان الحادثة الاصلية لاشك في وقوعها، وهي انهدام بيت. فالروايات بمجموعها تفيد قطعية وقوع الحادثة وهي متفقة في الاصل. بينما الامثلة الجزئية التي ذكرناها روايات صحيحة كلها، حتى أن بعضاً منها بلغ درجة المشهور. فلو فرضنا كلاً منها ضعيفة لكانت دلالة مجموعها ايضاً دلالة قطعية على وجود المعجزة الاحمدية مثلما دلت الروايات في المثال على انهدام بيت من البيوت .

وهكذا فكل نوع من انواع المعجزات الاحمدية الباهرة ثابت لا ريب فيه. وما جزئياتها الا نماذج وصور مختلفة لتلك المعجزة المطلقة.

وكما ان يده e واصابعه وريقه ونفثه واقواله - اي دعاءه - منشأ لكثيرمن المعجزات، فان جميع لطائفه الاخرى وحواسه واجهزته مدار لكثيرمن الخوارق ايضاً. وقد بينت كتب السيرة والتاريخ تلك الخوارق واوضحت كثيراً من دلائل النبوة التي هي في سيرته وصورته وجوارحه ومشاعره e .

الاشارة الخامسة عشرة

ان الحيوانات والأموات والجن والملائكة تعرف ذلك النبي الكريم e ، فتبرز كل طائفة منها بعضاً من معجزاتها تصديقاً لنبوته واعلاناً عنها مثلما أظهرتها الأحجار والاشجار والقمر والشمس، وبيّنت انها تعرف النبي e وتصدق نبوته.

هذه الاشارة الخامسة عشرة تتضمن ثلاث شعب:

الشعبة الاولى

هي معرفة جنس الحيوان للنبي e واظهاره معجزاته. لهذه الشعبة أمثلة كثيرة نذكر هنا بعض ما هو مشهور ومقطوع به بالتواتر المعنوي من الحوادث، أو ما هو مقبول لدى ائمة العلم، أو تلقته الأمة بالقبول.

الحادثة الاولى:

T حادثة الغار المشهورة الى حدّ التواتر المعنوي، وهي ان الرسول الاكرم e ، عندما تحصّن في الغار مع ابي بكر الصديق نجاةً من طلب قريش له، ((أمر الله حمامتين فوقفتا بفم الغار وفي حديث آخر؛ ان العنكبوت نسجت على بابه(1)))حتى ان اُبي بن خلف – وهو من صناديد قريش، وقد قتله الرسول الكريم e يوم بدر – حين طلب منه كفرة قريش دخول الغار، قال: ((ما أربُكم(2) فيه، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى انه قبل ان يولد محمد)) ووقفت حمامتان على فم الغار، فقالت قريش ((لو كان فيه أحد لم تكن الحمامتان ببابه والنبي e يسمع كلامهم، فانصرفوا))(1).

T ((وروى ابن وهب، ان حمام مكة، أظلّت النبي e ، يوم فتحها، فدعا لها بالبركة))(2).

T ((وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان عندنا داجن(3)، فاذا كان عندنا رسول الله e قرّ وثبت مكانه، فلم يجئ ولم يذهب واذا خرج رسول الله e جاء وذهب))(4). اي ان ذلك الحمام كان يوقر النبي e فيهدأ ويسكن في حضوره.

الحادثة الثانية

T وهي قصة الذئب المشهورة، وقد رويت بطرق كثيرة حتى أخذت حكم التواتر، وقد نقلت هذه القصة العجيبة بطرق كثيرة عن مشاهير الصحابة الكرام رضي الله عنهم، منهم: أبو سعيد الخدري، وسلمة بن الاكوع، وابن ابي وهب، وأبو هريرة، وصاحب القصة: الراعي اُهبان.

فقد روى هؤلاء بطرق عديدة أنه:

((بينا راعٍ يرعى غنماً له، عرض الذئب لشاةٍ منها، فأخذها منه، فاقعى(5) الذئب، وقال للراعي: ألا تتقي الله، حُلْتَ بيني وبين رزقي، قال الراعي: العجب من ذئب يتكلم بكلام الأنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ رسول الله بين الحرتين يحدِّث الناس بأنباء ما سبق)) ((قد فتحت له ابواب الجنة)) ((ويدعوكم اليها)).

ومع ان كل الطرق مجمعةٌ على تكلم الذئب، الا ان اقواها هو الحديث الذي رواه ابو هريرة رضي الله عنه ففيه: ((قال الراعي: مَن لي بغنمي؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل اليه غنمه ومضى، وذكر قصته، واسلامه، ووجودَه النبي e يقاتل))(1) فرجع فوجد الذئب راعياً أميناً، ولا نقص في الاغنام ((وذبح للذئب شاةً منها)) جزاء إرشاده له.

T وفي طريق آخر ((انه جرى لأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية مع ذئب وجداه أخذ ظبياً فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك، فقال الذئب: أعجبُ من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم الى الجنة)) ((فقال ابو سفيان: واللات والعزّى لئن ذكرتَ هذا بمكة لتتركنها خلوفاً))(2)(3).

نحصل من هذا: ان قصة الذئب تورث قناعة واطمئناناً كالمتواتر المعنوي.

الحادثة الثالثة:

T هي قصة الجمل المروية بخمسة او ستة طرق عن مشاهير الصحابة: أبو هريرة، وثعلبة بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن أبي أوفى، وأمثالهم، فهؤلاء جميعاً متفقون على ان: الجمل قد جاء النبي e وسجد بين يديه سجدة تعظيم واكرام وتكلـّم معه. ويخبرون بطرق اخرى؛ أن ذلك الجمل قد ثار في بستان ((وكان لا يدخل أحدٌ الحائط الاّ شدّ عليه الجمل، فلما دخل عليه النبي e دعاه فوضع مِشْفَره(1) على الارض وبَرك بين يديه فخطمه))(2).

((وفي خبر آخر في حديث الجمل ان النبي e سألهم عن شأنه فأخبروا انهم أرادوا ذبحه))(3).

((وفي رواية: انه شكى اليَّ أنكم أردتم ذبحه بعد ان استعملتموه في شاق العمل من صغره، فقالوا: نعم)).

T وأيضاً ان ناقة النبي e المسماة بالعضباء ((لم تأكل ولم تشرب بعد موته e حتى ماتت))(4) وذكر أبو اسحاق الاسفرائني ((من قصة العضباء وكلامها للنبي e )) في أمر مهم.

وثبت في الصحيح(5) ان جمل جابر بن عبد الله الأنصاري أعيى في سفر فلم يمكن له ان يدوم على المسير فنخسه النبي e نخسة خفيفة ((فنشط حتى كان لا يملك زمامه)) وذلك بما رأى من لطف معاملته e .

الحادثة الرابعة:

T روى البخاري وأئمة الحديث: ((لقد فزع أهل المدينة ليلةً فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت فتلقاهم رسول الله e راجعاً قد سَبَقَهم الى الصوت وقد استبرأ الخبر على فرسٍ لأبي طلحة عُريٍ والسيف في عنقه وهو يقول: لن تُراعوا))(6)(7) وقال لأبي طلحة: وجدنا فرسك بحراً وكان به قطاف، أي يبطئ. فاصبح بعد تلك الليلة لا يجارى.

T وثبت برواية صحيحة انه ((قال لفرسه - عليه السلام - وقد قام الى الصلاة في بعض أسفاره: لا تبرح بارك الله فيك حتى نَفْرغَ من صلاتنا. وجعله قبلته، فما حرّك عضواً حتى صلّى e ))(1).

الحادثة الخامسة:

T هي ((تسخير الأسد لسفينة - مولى رسول الله e -(2) اذ وجهه الى مُعاذ باليمن فلقي الأسد فعرّفه: أنه مولى رسول الله e ومعه كتابَهُ فَهَمْهَمَ وتنحّى عن الطريق. وذكر في منصرفه مثل ذلك)) وفي رواية أخرى عنه: ان سفينة ضل الطريق في العودة فرأى الأسد، قال: ((جعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق)).

T ((وروى عن عمر ان رسول الله e كان في محفل من أصحابه اذ جاء اعرابي قد صاد ضباً، فقال: من هذا؟ قالوا: نبي الله، فقال واللات والعزّى لا آمنتُ بك أو يؤمن بك هذا الضب وطرحه بين يدي النبي e فقال النبي e له: يا ضب، فأجابه بلسان بيّن يسمعه القوم جميعاً: لبيك وسعديك…))(3) فآمن الأعرابي.

T ((وعن أم سلمة: كان النبي e في صحراء، فنادته ظبية: يا رسول الله)) الى آخر الحديث ((فخرجت تجري وهي تقول: اشهد ان لا اله الاّ الله وانك رسول الله))(1).

وهكذا فهناك امثال هذه النماذج كثيرة جداً. لم نبين الاّ ما اشتهر من الأمثلة القاطعة. فيا أيها الانسان ويا من لا يعرف هذا الرسول الكريم e ولا يطيعه، اعتبر! واسع لئلا تتردّى في ما هو أدنى من الذئب والاسد، فهذه الحيوانات تعرف الرسول الكريم وتطيعه.

الشعبة الثانية

هي معرفة الموتى والجن والملائكة الرسول الكريم e ، ولها وقائع كثيرة جداً سنذكر منها على سبيل المثال بضعة أمثلة مشهورة نقلها الأئمة الثقات.. سنذكر أولاً أمثلة الموتى، أما الجن والملائكة فأمثلتها متواترة وكثيرة جداً.

المثال الاول:

T روى الامام الحسن البصري ـ وهو امام علماء الظاهر والباطن(2) ومن اصدق تلاميذ الامام علي كرم الله وجهه في عهد التابعين: ((أتى رجل النبي e ، فذكر له أنه طرح بُنيَّةً له في وادي كذا)) فرقّ عليه رسول الله e ((فانَطلق معه الى الوادي وناداها باسمها: يا فلانة أجيبي باذن الله تعالى، فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك: فقال لها:ان ابويك قد أسلما – فان أحببت – ان أردّك عليهما. قالت: لا حاجة لي فيهما، وجدتُ الله خيراً لي منهما))(3).

المثال الثاني:

T روى الامام البيهقي والامام ابن عَدي - مسنداً – ((عن أنس ان شاباً من الأنصار توفي، وله أمٌ عجوز عمياء - وهو وحيدها - فسجيناه، وعزّيناها، فقالت: ابني! قلنا: نعم. قالت: اللّهم ان كنتَ تعلم اني هاجرتُ اليك والى نبيك رجاء ان تعينني على كل شدة، فلا تحملن عليّ هذه المصيبة. فما برحنا ان كشف الثوبَ عن وجهه، فطعم وطعمنا))(1).

وقد أشار الى هذه الحادثة العجيبة الامام البوصيري في قصيدته ((بردة المديح)) قائلاً:

لــو ناسَبـَــتْ قَدْرَه آيــاته عِظــماً احيى اسمُه حين يُدعى دارس الرمم

الحادثة الثالثة:

T روى الامام البيهقي وغيره عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري: ((كنت فيمن دفن ثابت بن قيس، وكان قُتل في اليمامة، فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق وعمر الشهيد، عثمان البرُّ الرحيم. فنظرنا اليه فاذا هو ميت))(2) فأخبر عن استشهاد عمر قبل توليه الخلافة.

الحادثة الرابعة:

T ((ذكر عن النعمان بن بشير أن زيد بن خارجة خرّ ميتاً في بعض أزقة المدينة فرفع وسُجّي، اذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن حوله يقول: انصتوا انصتوا، فَحسر عن وجهه، فقال: محمد رسول الله...)).. ((ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثم عاد ميتاً كما كان))(3).

فاذا كان الموتى الذين لا حياة لهم يصدّقون رسالته e فكيف إن لم يصدّقه من له حياة؟

T T T

أليس هؤلاء الأحياء الاشقياء هم أكثر فقداً للحياة من أولئك الموتى؟

اما خدمة الملائكة للنبي e وظهورهم له وايمان الجن به وطاعتهم له، فهو ثابت بالتواتر، وقد صرّح القرآن الكريم بذلك في كثير من اياته الكريمة، وكانت خمسة آلاف من الملائكة طوع أمره - كالصحابة الكرام - في غزوة بدر كما ورد في القرآن الكريم، حتى ان اولئك الملائكة نالوا - بين الملائكة الآخرين - شرف الاشتراك في المعركة كما ناله اصحاب بدر(1).

في هذه المسألة جهتان:

الأولى: وجود الجن والملائكة وعلاقاتهم معنا. فهذا ثابت ثبوتاً قاطعاً كوجود الحيوان والانسان الذي لا يشك فيه أحد. وقد أثبتنا هذا بيقين جازم في ((الكلمة التاسعة والعشرين)) فنحيل الاثبات الى تلك الكلمة.

الجهة الثانية: هي رؤية افراد الأمة وتكلمهم مع الملائكة والجن بما حازوا من شرف الانتساب الى الرسول الكريم e واظهاراً لأثر من آثار معجزاته.

T فقد روى البخاري ومسلم وائمة الحديث بالاتفاق(2): ((عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله e ذات يوم اذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحدٌ حتى جلس الى النبي e )).. فسأله عن الاسلام والايمان والاحسان وقد عرّف له الرسول e كلاً مما سأل. ((ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: فانه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)).

T وثبت بروايات صحيحة مقطوع بها وفي درجة التواتر المعنوي يرويها أئمة الحديث: ان الصحابة كثيراً ما كانوا يرون جبريل عليه السلام عند النبي e في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه صاحب الحسن والجمال(3)، منهم عمر وابن عباس واسامة وحارث وعائشة الصديقة وأم سلمة رضي الله عنهم فيقولون: إنا نرى جبريل عند النبي e في صورة دحية الكلبي في كثير من الأحيان. أفيمكن ان يقول هؤلاء لشئ: نرى، وهم لم يروه؟!.

T وثبت باسناد صحيح عن سعد بن ابي وقاص – أحد المبشَّرين بالجنة وفاتح فارس – قال: اننا رأينا في غزوة اُحد ان الرسول e ((على يمينه ويساره جبريل وميكائيل في صورة رجلين عليهما ثياب بيض))(1) وهما على هىئة حارسين محافظين له. فاذا قال بطل من أبطال الأسلام مثل سعد: رأينا، فهل يمكن أن يحدث الخلاف؟.

T ثم ان أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب – ابن عم الرسول e - رأى يوم بدر ((رجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ(2) بين السماء والأرض))(3).

T ((وارى النبي e لحمزة جبريل في الكعبة فخرّ مغشياً عليه))(4).

فأمثلة رؤية الملائكة هذه كثيرة جداً، وجميع هذه الوقائع تظهر نوعاً من المعجزات الأحمدية وتدل على ان الملائكة تحوم كالفراش حول نور نبوته.

T T T

أما اللقاء مع الجن ومشاهدتهم، فيقع كثيراً جداً حتى مع عامة الناس، فكيف بالصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، الاّ ان أئمة الحديث ينقلون الينا أصح الأخبار وأثبتها.

T ((رأى عبد الله بن مسعود الجن ليلة الجن - أي اهتدائهم - وسمع كلامهم وشبّههم برجال الزط))(5) وهم قوم من السودان طوال.

T ثم ان حادثة مشهورة ينقلها ويخرّجها أئمة الحديث ويقبلون بها وهي ((قتل خالد بن الوليد - عند هدمه العُزّى (1)- للسوداء التي خرجت له ناشرة شعرها عريانة فجزَلَها بسيفه واعْلَم النبي e فقال: تلك العزّى))(2)، فكان الناس يعبدونها وهي في صنم العزى. ولن تُعبد أبداً.

T ((وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انه قال: بينا نحن جلوس مع النبيe اذ أقبل شيخٌ بيده عصاً فسلّم على النبي e فردّ عليه. وقال e : نغمة الجن، مَن انت؟ قال: أنا هامه)). ((في حديث طويل وأن النبي e علّمه سوراً من القرآن))(3) فهذه الحادثة رغم انها انتقدت من قبل رجال الحديث(4) الاّ ان ائمة آخرين قد حكموا بصحتها... وعلى كل حال فلا نرى ضرورة في الاسهاب، فالامثلة في هذا الباب كثيرة جداً.

ونقول ايضاً:

ان الذين تنوروا بنور النبي e وتربوا بتعاليمه واقتفوا أثره وهم يربون على الألوف من أمثال الشيخ الكيلاني من الأولياء الأقطاب والعلماء الأصفياء قد التقوا الملائكة والجن وتكلموا معهم، فالروايات متواترة وموفورة وقطعية(5).

نعم ان لقاء الأمة المحمدية الملائكة والجن وتكلمهم معهم انما هو أثر من آثار التربية النبوية وهدايتها الخارقة.

الشعبة الثالثة

ان عصمة الله تعالى للرسول الكريم e وحفظه له من اذى الناس معجزة باهرة وحقيقة جلية نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: } والله يَعْصمُكَ مِن النّاس{ (المائدة: 67).

ففي هذه الآية الكريمة معجزات كثيرة. اذ لما أعلن الرسول الكريم e نبوته فانه لم يتحدَّ طائفة واحدة ولا قوماً ولا ساسة ولا حكاماً معينين ولا مجتمعه بل تحدى جميع السلاطين وجميع أهل الأديان، تحداهم جميعاً ولا عاصم له الا الله، وحتى عمه قد ناصبه العداء وقومه وقبيلته كانوا اعداء له، ومع هذا ظل ثلاثاً وعشرين سنة من غير حارس يحرسه، رغم تعرّضه لمخاطر ومهالك كثيرة، ولقد عصمه الله من الناس وحفظه حتى انتقل الى الملأ الأعلى باطمئنان كامل. مما يدلنا دلالة الشمس في وضح النهار مدى رصانة الحقيقة التي تنطوي عليها الآية الكريمة: } والله يَعْصِمُكَ مِنَ النّاس{ ومدى كونها نقطة استناد له e .

وسنذكر بضعاً من الحوادث التي هي ثابتة ثبوتاً قطعياً ونسوقها على سبيل المثال:

الحادثة الأولى:

T يروي أهل السيرة والحديث متفقين على انه: عندما اجتمعت قريش على قتله e جاءهم ابليس في هيئة شيخ ودلّهم على ان يؤخذ من كل قبيلة فتىً - لئلا يَقع النزاع بينهم - فسار ما يناهز مائتي رجل بقيادة أبي جهل وأبي لهب نحو بيت النبي e وكان عنده علي رضي الله عنه فأمره ان ينام على فراشه وانتظرهم الرسول e حتى أتت قريش وحاصروا البيت ((فخرج عليهم e من بيته فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله تعالى على أبصارهم وذرّ التراب على رؤوسهم، وخَلَصَ منهم))(1).

T وأيضاً ((حمايته عن رؤيتهم في الغار بما هيأ الله من الآيات ومن العنكبوت الذي نسج عليه.. ووقفت حمامتان على فم الغار))(1).

الحادثة الثانية:

وهي قصة سراقة بن مالك(2) ((حين الهجرة، وقد جعلتْ قريش فيه - e - في ابي بكر الجعائل(3) فأنذر به، فركب فرسه واتبعه حتى اذا قرُب منه دعا عليه النبي e فساخت قوائم فرسه فخرّ عنها... ثم ركب ودنا حتى سمع قراءَة النبي e وهو لا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يلتفت وقال للنبي e أوتينا، فقال: لا تحزن ان الله معنا)) كما قاله في الغار ((فساخت ثانية الى ركبتيها وخرّ عنها فزجرها فنهضت ولقوائمها مثلُ الدخان، فناداهم بالأمان، فكتب له النبي e أماناً... وأمره النبي e ان لا يترك أحداً يلحق بهم. فانصرف)).

T ((وفي خبر آخر ان راعياً عرف خبرهما، فخرج يشتد يُعلمُ قريشاً فلما ورد مكة ضُرب على قلبه، فمايدري ما يصنع واُنسيَ ما خرج له حتى رجع الى موضعه))(4) ثم عرف انه قد اُنسي.

الحادثة الثالثة:

T يروي ائمة الحديث بطرق متعددة أنه في غزوة (غطفان) و (أنمار) اراد رئيس قبيلته وهو ((غورث بن الحارث المحاربي ان يفتك بالنبي e فلم يَشعرُ به -e الاّ وهو قائم على رأسه منتضياً سيفه فقال: اللـّهم اكفنيه بما شئت فانكب لوجهه من زُلـَّخةٍ زُلـَّخها بين كتفيه وندر(5) سيفه من يده))(6).

T وروى انه e أتاه أعرابي ((فاخترط سيفه ثم قال: مَن يمنعك مني؟ فقال: الله! فارتعدت يدُ الأعرابي وسقط سيفُه))(1) فأخذه النبي e وقال: ومن يمنعك الآن؟ ثم عفا عنه النبي e ((فرجع الى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد حكيت مثل هذه الحكاية أنها جرت له يوم بدر وقد انفرد من اصحابه لقضاء حاجته فتتبعه رجل من المنافقين، وذكر مثله)) انه رفع سيفه ليهوي به على رسول الله e واذا به ينظر اليه فيرتعد المنافق ويسقط السيف من يده.

الحادثة الرابعة:

T روى أئمة الحديث برواية مشهورة قريبة من التواتر، وذكر أكثر علماء التفسير؛ ان سبب نزول الآية الكريمة: } اِنّا جعلنا في أعناقِهِم أغلالاً فهي الى الأذقانِ فَهُم مُقمَحون ` وَجَعلنا من بين أيديهم سَداً ومَِن خَلْفِهم سَداً فأغشيناهم فهم لا يـبصِرون{ (يس8ـ 9) ان أبا جهل أقسم؛ لئن أرى محمداً ساجداً لأضربنّه بهذه الصخرة ((فجاءه بصخرةٍ وهو ساجد وقريش ينظرون، ليطرحها عليه فلزقت بيده ويبسَتْ يداه الى عنقه))(2) وبعد أن أتم الرسول e صلاته انصرف وانطلقت يد أبي جهل. إما بدعائه e أو لأنتفاء الحاجة.

T ان الوليد بن المغيرة ((اتى النبي e ليقتله فطمس الله على بصره فلم ير النبي e ، وسمع قوله فرجع الى اصحابه فلم يرهم حتى نادوه))(3) حتى اذا خرج الرسول e من المسجد عاد بصرُه، لانتفاء الحاجة.

T وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه: بعدما نزلت سورة } تَبّتْ يدا أبي لهب{ أتت ام جميل ، امرأة أبي لهب الملقبة بحمالة الحطب (( رسول الله e وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فِهر(1) من حجارة فلما وقفَتْ عليهما لم تر الاّ ابا بكر وأخذ الله تعالى ببصرها عن نبيه e فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني انه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه))(2).

نعم. لا ترى حطّابة جهنم - بلاشك - سلطاناً عظيماً كهذا الذي خصّه الله بالدرجة الرفيعة.

الحادثة الخامسة:

ثبت بالنقل الصحيح(3) ((خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس حين وفدا على النبي e ، وكان عامر قال له: أنا اُشغل عنك وجه محمد، فاضربه أنت، فلم يره فَعَلَ شيئاً، فلما كلَّمه في ذلك، قال له: والله ما هممتُ أن أضربه الاّ وجدتك بيني وبينه، أفاضربك؟)).

الحادثة السادسة:

T وثبت بالنقل الصحيح أيضاً ((ان شيبة بن عثمان الحجبي أدركه يوم حُنين)) أو اُحد ((وكان حمزة قد قَتَل أباه وعمه، فقال: اليوم أدرك ثأري من محمد، فلما اختلط الناس اتاه من خلفه ورفع سيفه ليصبَّه عليه. قال: وأحس بي النبي e فدعاني فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق اليّ فما رفعها الاّ وهو أحبُّ الخلق اليّ. وقال لي:

ادنُ، فقاتِل، فتقدمتُ أمامه اضرب بسيفي وأقِيه بنفسي، ولو لقيتُ أبي تلك الساعة لأوقعتُ به دونه))(4).

T ((وعن فضالة بن عمرو قال: اردت قتل النبي e ، عام الفتح، وهو يطوف بالبيت، فلما دنوتُ منه قال: أفُضالة؟ قلت: نعم! قال: ما كنتَ تُحدِّث به نفسك؟. قلتُ: لاشئ. فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري، فسكن قلبي، فو الله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئاً أحبّ اليّ منه))(1).

الحادثة السابعة

T ثبت بالنقل الصحيح: ان اليهود تآمروا عليه عندما ((جلس الى جدار.. فانبعث احدهم ليطرح عليه رمىً فقام النبي e فانصرف))(2) فبطل ما كانوا يفعلون بحفظ الله.

وهناك حوادث كثيرة من أمثال هذه الحادثة. فيروي الأمام البخاري ومسلم وائمة الحديث ((عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي e يُحرس حتى نزلت هذه الآية } والله يعصمك من الناس{ فاخرج رسول الله e رأسه من القبة: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني ربي عزّوجل))(3).

T T T

هذه الرسالة توضح منذ البداية الى هنا:

ان كل نوع من أنواع هذه الكائنات، وكل عالم منها، يَعْرف النبي e وله معه رابطة وعلاقة. اذ تظهر معجزاته e من كل نوع من أنواع الكائنات، أي ان هذا النبي الكريم e رسول ومبعوث من قبل الله بوصفه رب العالمين وخالق الكون.

نعم! كما ان موظفاً مرموقاً ومفتشاً ذا منزلة عند السلطان تعرفه كلُ دائرة من دوائر الدولة، واذا ما دخل اياً منها سيلقى ترحاباً حاراً؛ لأنه مأمور من قِبَل السلطان الأعظم، اذ لو فرضنا أنه كان مفتشاً للعدل فحسب، فسوف ترحب به دوائر العدل فقط، ولا تعرفه جيداً الدوائر الأخرى، ولو كان مفتشاً عاماً للجيش فلا تعرفه الدوائر الرسمية الأخرى للدولة.. بينما يُفهم من الأمثلة السابقة ان جميع دوائر السلطنة الإلهية تعرفه e معرفةً جيدة أو يعرّفه الله لهم ابتداءً من الملائكة الى الذباب والعنكبوت. فهو بلا شك خاتم الانبياء ورسول رب العالمين، وان رسالته عامة للكائنات قاطبة لا تختص بأمة دون أمة كغيره من الأنبياء والمرسلين.

الاشارة السادسة عشرة

وهي الارهاصات: اي الخوارق التي ظهرت قبل النبوة، وتُعدّ من دلائل النبوة، لعلاقتها بها، وهي على ثلاثة اقسام:

القسم الاول

ما أخبرت به التوراة والانجيل والزبور وصحف الانبياء عليهم السلام عن نبوة محمد e وهو ثابت بنص القرآن الكريم.

نعم، فما دامت تلك الكتب كتباً سماوية، واصحابها هم انبياء كرام عليهم السلام، فلابد ان اخبارها عمن سيضئ بالنور الذي يأتيه نصف المعمورة، وينسخ الاديان الاخرى، ويغيّر ملامح الكون، اقول لابد ان ذكرها لهذه الذات المباركة ضروري وقطعي. أفيمكن لتلك الكتب التي لا تهمل حوادث جزئية الاّ تذكر اعظم حادثة في تاريخ البشرية تلك هي حادثة البعثة المحمدية؟ واذا كان لابد لها أن تبحث عنها وتذكرها، فهي إما ستكذّبها كي تصون دينها وكتابها من النسخ والتخريب، أو ستصدّقها، أي تصدق ذلك النبي الحق كي تحافظ على دينها وكتابها من تسرب الخرافات وتسلل التحريفات، ولما كان الاصدقاء والاعداء متفقين على عدم وجود اية امارة في تلك الكتب للتكذيب مهما كانت، فهناك اذاً امارات التصديق. فما دام التصديق قائماً بصورة مطلقة، وان هناك علة قاطعة، وسبباً اساساً يقتضي وجود هذا التصديق، فنحن بدورنا سنثبت ذلك التصديق بثلاث حجج قاطعة تدل على وجوده:

الحجة الاولى:

ان الرسول الاعظم e تلى عليهم آيات كريمة يتحداهم بها، وكأنه يقول لهم بلسان القرآن الكريم: ان كتبكم تصدّق ما تشتمل عليه شمائلي واوصافي وتصدّق ما ابلّغه للعالمين.

} قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين{ (آل عمران: 93) } فَقُل تعالوا ندعُ ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لَعْنَتَ الله على الكاذبين{ (آل عمران: 61).

ومع هذا التحدي الواضح لم يتقدم حبر من أحبار اليهود، ولا قس من قسس النصارى الى اظهار خلاف ما يقوله e . فلو كان هناك شئ مهما كان طفيفاً من هذا القبيل لأعلنه اولئك الكفار والمنافقون من اليهود ذوو العناد والحسد، وهم كثيرون في كل مكان وزمان.

فكان التحدي؛ إما ان يجدوا أيّ خلاف كان فيما يبلّغ من اوامر الله سبحانه، أو سيجاهدهم جهاداً لا هوادة فيه، وهم لعجزهم عن الأتيان بخلاف ما يبلّغ آثروا الحرب والدمار والهجرة، اي انهم لم يجدوا شيئاً كي يلزموه. ولو وجدوا خلاف قوله لكان اظهاره أهون عليهم من بذل النفوس والاموال وتخريب الديار.

الحجة الثانية:

لقد خالطت آيات التوراة والانجيل والزبور كلماتٌ غريبة عنها، لتوالي ترجماتها، والتباس كلام المفسرين وتأويلاتهم الخاطئة مع آياتها، حيث ان آياتها ليس فيها الاعجاز الذي في آيات القرآن الكريم، فضلاً عما قام به الجهلاء وذوو الاغراض السيئة من تحريفات في تلك الكتب، فزادت من تلك التحريفات والتغييرات حتى ان العلامة المشهور رحمة الله الهندي(1) ألزم الحجة علماء اليهود والنصارى باظهار الوف من التحريفات في الكتب السابقة.

ومع هذا القدر من التحريفات، فقد استخرج في هذا العصر العالم المشهور حسين الجسر - رحمه الله - مائة وعشرة أدلة على نبوته e من تلك الكتب واثبتها في كتابه المسمى بــ ((الرسالة الحميدية)) وقام المرحوم اسماعيل حقي المناسطري بترجمة الكتاب الى اللغة التركية، فمن اراد فليراجعه.

ثم ان كثيراً من علماء اليهود والنصارى قد أقروا: ان في كتبنا أوصاف النبي محمد e ، منهم هرقل من ملوك الروم الذي اعترف قائلاً: ((ان عيسى عليه السلام

قد بشّر بمحمد e )) كما اعترف صاحب مصر ((المقوقس، وابن صوريا، وابن أخطب واخوه كعب بن أسد والزبير بن باطيا وغيرهم من علماء اليهود)) ورؤسائهم قائلين: ((نعم، ان اوصافه موجودة في كتبنا، ومذكورة فيها)).

كما ان كثيراً من مشاهير علماء اليهود والنصارى قد نبذوا الخصومة والعناد وآمنوا بالاسلام بعدما رأوا أوصاف النبي e في كتبهم، وبيّنوها لغيرهم من العلماء، فألزموهم الحجة. منهم: عبد الله بن سلام، ووهب بن منبه، وابي ياسر، وشامول - صاحب تُبعّ - كما آمن تبّع قبل البعثة غياباً، وإبناسَعْية وهما أسيد وثعَلبة اللذان ناديا في قبيلة بني النضير منددَين بهم عندما حاربت الرسول e قائلَين: ((والله هو الذي عَهِد اليكم فيه ابن هَيْبان)). وابن هيْبان هذا هو الرجل العارف بالله الذي كان قد نزل ضيفاً على بني النضير قبل البعثة، وقال لهم: ((قريبٌ ظهور نبي هذا دار هجرته)) وتوفي هناك، الاّ ان قبيلة بني النضير لم تلق بالاً لهما، فأصابهم ما أصابهم.

كما آمن من علماء اليهود: ابن ياسين، ومخيريق، وكعب الاحبار، وامثالهم كثير ممن رأوا نعت الرسول e في كتبهم وألزموا الحجة من لم يؤمنوا.

وممن اسلم من علماء النصارى بحيراء الراهب - كما مرّ سابقاً - وذلك عندما ذهب e مع عمه ابي طالب الى الشام، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فصنع بحيرا طعاماً لقافلة قريش، اكراماً للنبي e ثم نظر واذا بالغمامة التي تظل القافلة باقية في مكانها، قال فالذي اريده اذاً ما زال باقياً هناك فارسل عليه من يأتي به، وقال لعمه ابي طالب: عُدْ به الى مكة، فاليهود حسّاد يكيدون له، فإنا نجد اوصافه في التوارة.

وقد آمن كل من نسطور الحبشة ومليكها النجاشي، لمّا رأيا اوصاف النبي e في كتابهم. واعلن العالم النصراني المشهور ضغاطر اوصافه e بين الروم، فاستشهد. وقد آمن ايضاً حارث بن ابي شمر الغساني - العالم النصراني المشهور - ورؤساء الروحانيين في الشام، وملوكها اي صاحب ايليا، وهرقل، وابن ناطور، وجارود، وامثالهم، لمّا رأوا اوصافه e في كتبهم. الاّ ان هرقل لم يعلن ايمانه حرصاً على الحكم والسلطة.

وامثال هؤلاء كثير مثل سلمان الفارسي الذي كان نصرانياً، وما ان رأى اوصافه e حتى أخذ يتحرى عنه ولما رآه أسلم. وكذلك تميم وهو عالم جليل، والنجاشي ملك الحبشة المشهور، ونصارى الحبشة، واساقفة نجران.. فهؤلاء كلهم يخبرون بالاتفاق: اننا آمنا لما رأينا اوصافه e في كتبنا.

الحجة الثالثة:

سنذكر على سبيل المثال فحسب، آيات من التوراة والأنجيل والزبور(1) التي تبشر بالرسول e .

الاول: هناك آية في الزبور ما معناه.

((الـّلـّهم ابعث لنا مقيم السنة بعد الفترة)) ومقيم السنة هو من اسمائه e .

وآية الأنجيل:

((قال المسيح اني ذاهب الى أبي وابيكم ليبعث فيكم الفارقليطا))(2) اي ليبعث فيكم أحمد.

وآية اخرى من الانجيل:

((واني اطلب من ربي فيعطيكم فارقليطاً يكون معكم الى الابد))(3).

والفارقليط: الفارق بين الحق والباطل، وهو اسم النبي e في تلك الكتب(4).

وآية التوراة:

((ان الله قال لأبراهيم. إنّ هاجر تلد ويكون من ولدها مَن يدُه فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة اليه بالخشوع))(1).

وآية اخرى في التوراة:

((وقال يا موسى اني مقيم لهم نبياً من بني اخوتهم مثلك وأجري قولي في فمه والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فانا انتقم منه))(2).

وآية ثالثة في التوراة:

((قال موسى: رب اني اجد في التوراة أمة هم خير امة اخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فاجعلهم امتي، قال: تلك امة محمد)).

تنبيه:

لقد عبّرت الكتب عن اسم محمد e باسماء سريانية ضمن اسماء عبرية فمثلاً: (مشفَّح، مُنْحَمنا، حمياطا) وغيرها من الاسماء التي ترد بمعنى محمد في اللغة العربية. أما الاسم الصريح ((محمد)) e فلم يأت الاّ نادراً، وهذا قد حرّفه اليهود لحسدهم وعنادهم، منها آية الزبور:

((يا داود يأتي بعدك نبي يسمى احمد ومحمداً صادقاً سيداً، امته مرحومة)). وقد اعلن عن وجود هذه الآية الآتية في التوراة قبل ان تلعب فيها ايدي التحريف كثيراً، كلٌ من عبد الله بن عمرو بن العاص وهو احد العبادلة السبعة الذين لهم اطلاع واسع على الكتب السابقة، وعبد الله بن سلام وهو من مشاهير علماء اليهود الذي سبق أقرانه في الاسلام، وكعب الاحبار وهو من علماء اليهود. الآية تخاطب سيدنا موسى عليه السلام، ثم تتجه الى النبي الذي سيأتي:

((يا ايها النبي انا ارسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للاميين، أنت عبدي، سمّيتُك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الاسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، بل يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا اله الاّ الله))(3).

وآية اخرى من التوراة:

((محمد رسول الله مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام. وامته الحمّادون)) ولفظ ((محمد)) في هذه الآية قد ورد باسم سرياني يعني محمد.

وايضاً آية اخرى من التوراة:

((انت عبدي ورسولي سميتك المتوكل)). فهذه الآية تخاطب الذي سيبعث بعد موسى عليه السلام من بني اسماعيل الذين هم اخو بني اسحاق(1).

وآية اخرى من التوراة:

((عبدي المختار ليس بفظٍ ولا غليظ))(2) والمختار هو المصطفى وهو اسم من اسماء النبي e .

وقد جاءت تعاريف متنوعة تخص ((رئيس العالم)) الذي بُشّر به بعد عيسى عليه السلام في الانجيل، منها: ((معه قضيب من حديد يقاتل به وامته كذلك)) فقضيبٌ من حديد يعني السيف. اي سيأتي من هو صاحب السيف، وامته مأمورة بالجهاد، كما وصفهم القرآن الكريم في ختام سورة الفتح:

} وَمَثلُهم في الانجيل كَزَرعٍ أخَرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَه فاستَغْلظَ فاستوى على سُوقه يُعجِبُ الزُرّاعَ ليغيظَ بهم الكفّار{ (الفتح: 29)

وهناك آيات كثيرة اخرى مشابهة لهذه في الانجيل(3).

جاءت في الباب الثالث والثلاثين من الكتاب الخامس من التوراة هذه الآية:

((وقال: جاء الرب من سيناء واشرق لنا من ساعيرا ستعلن من جبل فاران ومعه الوف الاطهار في يمينه)).

فهذه الآية مثلما تخبر عن نبوة موسى عليه السلام باقبال الحق من طورسينا، فهي تخبر عن نبوة عيسى عليه السلام بــ ((اشرق لنا من ساعيرا)) وفي الوقت نفسه تخبر عن نبوة محمد e بظهور الحق من فاران التي هي جبال الحجاز بالاتفاق، فالآية تخبر بالضرورة عن نبوته e . أما ((ومعه الوف الأطهار في يمينه)) فهي تصدّق حكم الآية الكريمة في ختام سورة الفتح في: } ذلك مَثَلهُمْ في التوراة{ ... اذ تصف اصحابه e بالاطهار القديسين وهم الاولياء الصالحون.

وجاءت هذه الآية في الباب الثاني والاربعين من كتاب اشعيا:

((ان الحق سبحانه سيبعث صفيه في آخر الزمان وسيرسل اليه الروح الأمين وهو جبرائيل يعلّمه ثم بعد ذلك يعلم الناس كما علّمه جبرائيل، ويحكم بين الناس بالحق، وهو نورٌ سيُخرج الناس من الظلمات الى النور. وقد علمني ربي ما سيقع فاقول لكم)). فهذه الآية تبين بوضوح تام اوصاف الرسول e .

وفي الباب الرابع من كتاب النبي ميخائيل الآية الآتية:

((ستكون في آخر الزمان أمة مرحومة تعبد الحق وتوثر الجبل المقدس، ويجتمع اليها خلق كثير هناك من كل اقليم تعبد الرب ولا تشرك به)).

فهذه الآية تبين ((عَرَفة)) والخلق الكثير هم الحجاج الذين يقصدون ذلك الجبل المقدس ويعبدون الله، وان الامة المرحومة هي امة محمد، حيث ان هذا الوصف شعارهم.

وفي الباب الثاني والسبعين من الزبور هذه الآية:

((انه يملك من البحر الى البحر، ومن الانهار الى اقاصي الارض، وترده الهدايا من اليمن والجزائر، وتسجد له الملوك وتنقاد اليه، ويصلّى عليه كل وقت ويدعى له بالبركة كل يوم. وتشع انواره من المدينة، وسيدوم ذكره ابد الآباد، وان اسمه موجود قبل ان تخلق الشمس، وسيبقى اسمه ما بقيت الشمس)).

فهذه الآية صريحة في وصف النبي e ، فهل جاء بعد نبي الله داود عليه السلام نبيٌ غير محمد e الذي اعلن الدين شرقاً وغرباً، وجعل الملوك يعطون له الجزية صاغرين، وانقاد له الملوك والسلاطين انقياد خضوع ومحبة، وتوهب له الصلوات والادعية يومياً من خمس البشرية، وبزغت انواره من المدينة؟.. فهل هناك غيره؟.

والآية العشرون من الباب الرابع عشر من انجيل يوحنا (المترجم الى التركية) هي: ((لا اتكلم ايضاً معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شئ او ليس له عندي مثيل))(1).

فعبارة سيد العالم هو فخر العالم، وهو عنوان مشهور لسيدنا الرسول e .

والآية السابعة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا:

((لكني اقول لكم الحق انه خير لكم ان انطلق، لأنه ان لم انطلق لا يأتيكم المعزّي))(1) فهل المسلّي بعد عيسى عليه السلام غير محمد e . فهو الذي ينقذ البشرية من حكم الزوال والاعدام الابدي فيسليها، وهو سيد العالمين وفخر الكائنات.

والآية الثامنة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا:

((ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى برٍ وعلى دينونة)) (اي يلزمهم على الخطيئة والصلاح والحكم) فالذي يبدل فساد العالم الى صلاح، وينقذ الناس من الآثام والخطايا والشرك، ويبدل اسس السياسة والحاكمية في الدنيا، من يكون غير محمد e ؟.

والآية الحادية عشرة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا: ((لقد جاء زمان قدوم سيد العالم)) أو ((وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِينْ)). فلابد ان المراد بسيد العالم(2) هو سيد البشرية محمد e .

والآية الثالثة عشرة من الباب الثاني من انجيل يوحنا: ((اذا جاء روح الحق ذاك، فهو الذي يرشدكم الحق كله، لأنه لا ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بالآتي من الامور)).

فهذه الآية صريحة في حق الرسول الكريم e . فمن غيره e دعا الناس جميعاً الى الحق؟ ومن غيره لا ينطق الاّ بالوحي، ويقول ما يسمعه من جبرائيل عليه السلام؟ ومن غيره يخبر عن احداث القيامة والآخرة إخباراً مفصلاً؟

ثم ان في صحف الانبياء اسماء للرسول e تفيد معنى ((محمد)) ((احمد)) ((المختار)) ((مصطفى)) وذلك باللغة السريانية والعبرية:

ففي صحف شعيب عليه السلام؛ هناك: (مشفّح) وهي بمعنى: ((محمد)) كما انه في التوراة اسم (منحمنّا) وهذا بمعنى اسم ((محمد)). كما جاء في الزبور (حمياطا) وهو بمعنى نبي الحرم. وفيه ايضاً (المختار)، وقد جاء في التوراة اسم (الحاتم، الخاتم)، وجاءت كلمة (مقيم السنة) في كل من التوراة والزبور. وفي صحف ابراهيم والتوراة: (مازماز). وفي التوراة ايضاً (أحيد).

وقد قال الرسول e :

((اسمى في القرآن محمد وفي الانجيل أحمد وفي التوراة اُحيد، وانما سميت اُحيِدَ لأني اُحيد عن امتي نار جهنم))(1) ومن الاسماء النبوية التي وردت في الانجيل ((صاحب القضيب والهراوة)) فلا شك انه اعظم نبي بين الانبياء بجهاده وجهاد امته. وكذلك: ((انه صاحب التاج)) فهذه الصفةخاصة به e اذ الامة العربية هم المعروفون بالعمامة والعقال بين الامم والتاج والعمامة بمعنى واحد. فصاحب التاج المذكور في الانجيل ليس الاّ الرسول e . وفيه كذلك: البارقليط أو الفارقليط، ومعناه كما جاء في تفسير الانجيل: انه الفارق بين الحق والباطل، وهو اسم النبيe الذي يدعو الناس الى الحق. وقد قال عيسى عليه السلام في الانجيل: ((ساذهب كي يجئ سيد العالم)) فهل غير محمد e قد جاء بعد عيسى عليه السلام، وترأس العالم وفرّق بين الحق والباطل، وارشد الناس الى الخير والصلاح. اي ان عيسى عليه السلام كان يبشّر دوماً انه سيأتي احدهم بعدي ولا تبقى الحاجة اليّ فانا مقدمة له. كما يصرح بذلك القرآن الكريم: } واذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل اني رسولُالله اليكُم مُصَدقاً لما بين يَديّ من التوراة ومبشّراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمُه احمد{ (الصف: 6).

نعم ان عيسى عليه السلام قد بشّر أمته كثيراً بانه سيجئ سيد العالم(2) ورئيسه ويذكره باسماء مختلفة سواء بالسريانية أو العبرية. فالعلماء المحققون يرون ان هذه الاسماء تعني: أحمد، محمد، الفارق بين الحق والباطل.

سؤال: لِمَ بشّر عيسى عليه السلام بقدوم النبي e اكثر من غيره من الانبياء عليهم السلام بينما اكتفى الآخرون بالاخبار عنه فقط؟

الجواب: لأن الرسول الكريم e قد انقذ عيسى عليه السلام من تكذيب اليهود ومن افتراءاتهم الشنيعة، وانقذ دينه من تحريفات فظيعة، فضلاً عن انه اتى بشريعة سمحاء بدلاً من تلك الشريعة التي ارهقت بني اسرائيل الذين لا يؤمنون بعيسى عليه السلام فهذه الشريعة الغراء جامعة للاحكام مكملة لما هو ناقص في شريعة عيسى عليه السلام. ومن هنا تأتي بشارة عيسى عليه السلام بالرسول الكريم e بأنه سيأتي رئيس العالم..

T T T

وهكذا نرى كيف ان التوراة والانجيل والزبور وسائر صحف الانبياء قد اعتنت بنبي آخر الزمان وتضم آيات كثيرة نعوته، كما بينا نماذج منها. فهو مذكور باسماء ونعوت مختلفة في تلك الكتب. تُرى من يكون نبي آخر الزمان الذي ذكرته جميع كتب الانبياء ذكراً جاداً الى هذا الحد، في آيات مكررة منها، غير محمد e !

القسم الثاني

من الارهاصات ودلائل النبوة هو: اخبار الكهان والاولياء العارفين بالله في عهد ((الفترة)) (اي قبل البعثة النبوية) عن مجيئه e فقد اعلنوا عنه امام الملأ، وتركوا اخبارهم لنا في اشعارهم. هذه الاخبارات كثيرة جداً، فلا نذكر منها الاّ ما هو منتشر ومشهور ومقبول لدى رجال السير والتأريخ.

الاول: ما رآه الملك تُبعّ - من ملوك اليمن - من أوصاف الرسول e في الكتب القديمة، وآمن. واعلن ذلك شعراً:

شــهدتُ عــلى أحـمــد أنه رسولٌ من الله باري النَسَم

فلو مُدَّ عمري الى عمره لكنــتُ وزيـراً له وابــن عــم

اي كنت له كعلي رضي الله عنه.

الثاني: اعلان قس بن ساعدة الشهير بابلغ خطباء العرب والموحـِّد، عن الرسالة الأحمدية شعراً قبل البعثة بالابيات الاتية

ارسـل فيـنا أحمـد خير نـبـي قـد بُعـث

صلى عليه الله ما عجّ له ركبٌ وحُث

الثالث: ما قاله كعب بن لؤي وهو أحد أجداد النبي e . فأُلهم هذا البيت عن الرسالة الأحمدية.

على غفلةٍ يأتي النبي محمد فيخبر اخباراً صدوقاً خبيرها

الرابع: ما رآه سيف بن ذي يزن احد ملوك اليمن في الكتب السابقة من اوصاف الرسول e ، وآمن به واشتاق اليه، وعندما ذهب جدّ النبي e الى اليمن مع قافلة قريش دعاهم الملك سيف بن ذي يزن وقال لهم:

اذا ولد بتهامة (اي: الحجاز) ولدٌ بين كتفيه شامةٌ كانت له الامامة وانك عبدالمطلب لجدّه.

الخامس: عندما نزل الوحي لأول مرة على الرسول الكريم e أخذه الخوف والروع، فانطلقت به خديجة حتى اتت ورقة بن نوفل (ابن عم خديجة) فقالت: ياابن عم اسمع من ابن اخيك. فقال له ورقة: يا ابن اخي ماذا ترى؟ فاخبره رسول الله e ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى ياليتني فيها جدعاً، ليتني اكون حياً اذ يخرجك قومك…(1)

ومما قاله ورقة: بشّر يا محمد إنّي أشهد أنّك أنت النبي المنتظر وبَشَّر بكَ عيسى.

السادس: لما رأى عثكلان الحميري العارف بالله قريشاً قبل البعثة قال لهم: هل فيكم من يدّعي النبوة؟ فأجابوه: لا، ثم سأل السؤال نفسه زمن البعثة، فقالوا: نعم، اِن فينا من يدّعي النبوة، فقال: ان العالم ينتظره.

السابع: اخبر احد علماء النصارى وهو ابن العلا عن النبي e قبل البعثة، ثم جاء بعد البعثة فرأى النبي e وقال له: والذي بعثك بالحق لقد وجدتُ صفتك في الانجيل وبشّر بك ابن البتول.

الثامن: قال النجاشي ملك الحبشة الذي سبق ذكره: ليتَ لي خِدْمَتُه بدلاً عن هذه السلطنة.

T T T

وبعد ما ذكرنا ما تنبأ به هؤلاء العارفون بالهام من الله عن مجئ الرسول e نورد ما قاله الكهان وتنباؤا به من أخبار الغيب بوساطة الارواح والجن، فقد صرّحوا بمجئ النبي e وتنبأوا عن نبوته وهم كثيرون، الاّ اننا سوف لا نذكر الاّ ما هو في حكم المتواتر ومذكور في كتب السيرة والتأريخ ونحيل قصصهم المطولة واقوالهم المسهبة الى كتب السيرة. فلا نذكر هنا الاّ الخلاصة.

الاول: الكاهن الموسوم بــ ((شِق)) الذي كان شق انسان يداً واحدة ورجلاً واحدة وعيناً واحدة. أخبر هذا الكاهن عن النبي e مراراً حتى وصلت اقواله حدّ التواتر.

الثاني: كاهن الشام المسمى بــ ((سطيح)) الذي كان اعجوبة من العجائب حيث كان جسداً لا جوارح له ولا عظم فيه الاّ الرأس ووجهه في صدره، وقد عاش كثيراً، اشتهرت اخباره الغيبية الصادقة كثيراً حتى ان كسرى ملك فارس عندما رأى الرؤيا العجيبة التي هالته - زمن ولادة الرسول e - من انشقاق شرفات ايوانه الأربعة عشرة وسقوطها، بعث عالماً اسمه ((مويزان)) ليسأل سطيحاً عن حكمة هذه الرؤيا، فأرسل الى كسرى كلاماً بهذا المعنى: ((سيحكم فيكم اربعة عشر ملكاً ثم ستُمحى سلطتكم وتُزال دولتكم، وسيأتي من يظهر ديناً جديداً، فيكون سبباً في زوال دينكم ودولتكم)). وهكذا اخبر سطيح خبراً صريحاً عن مجئ نبي آخر الزمان.

وقد اخبر سواد بن قارب الدوسي، وخنافر وأفعى نجران (من ملوكها)، وجذل بن جذل الكندي، وابن خلصة الدوسي، وفاطمة بنت النعمان النجارية وامثالهم من الكهان المشهورين. قد اخبروا جميعاً عن مجئ نبي آخر الزمان وانه محمد e كما ذكرته كتب التاريخ والسيرة مفصلاً.

وان سعد بن بنت كريز وهو من اقارب عثمان رضي الله عنه قد تلقى بطريق الكهانة خبر نبوة محمد e من الغيب، فأشار الى عثمان رضي الله عنه بالايمان في اول ظهور الاسلام قائلاً: انطلق الى محمد وآمن، فآمن عثمان واورده سعد شعراً:

هدى الله عثمان بقولي الى التي بها رُشْدُه والله يَهدِي الى الحق

T T T

واخبرت الهواتف ايضاً كما اخبر الكهان عن مجئ الرسول e . والهاتف هو الصوت العالي الذي يُسمَع ممن لا يُرى شخصه.

منها: سماع ذياب بن الحارث هاتفاً من جني، واصبح سبباً لأسلامه واسلام غيره:

يـا ذيـاب يـا ذياب اسمع العَجَب العُجاب

بُعث محمدٌ بالكتاب يدعو بمكة فلا يُجاب

ومنها: سماع ابن قرة الغطفاني هاتفاً يقول:

جـاء الـحق فـسَطع ودُمـِّر باطـلٌ فانقمع

فكان سبباً في ايمان بعض الناس.

وهكذا فبشارة الكهان والهواتف مشهورة وكثيرة جداً.

T T T

وقد سُمع من جوف الاصنام وذبائح النُصب خبر مجئ النبي e كما سمع من الكهان والهواتف.

منها: ان صنم قبيلة مازن اخبر عن الرسالة الاحمدية اذ نادى فقال: هذا النبي المرسَل جاء بالحق المنزَل.

وكذلك فان سبب اسلام عباس بن مرداس هذه الحادثة المشهورة: انه كان له صنم يسمى بـ ((ضمار)) فقال ذلك الصنم يوماً(1).

اودى ضمار وكان يُعبد قبل البيان من النبي محمد

وقد سمع عمر رضي الله عنه قبل اسلامه صوتاً من عجل قرَّبَه رجلٌ ليذبحه قرباناً لصنم يقول:

يا آل الذبيح، أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا اله إلاّ الله(2).

وهكذا فهناك حوادث مشابهة كثيرة جداً امثال ما ذكرناه قد نقلته الكتب الموثوقة في السيرة والتاريخ.

T T T

وكما ان الكهان والعارفين بالله والهواتف حتى الاصنام والذبائح اخبروا عن الرسالة الأحمدية، واصبح كل حادث سبباً لاسلام قسم من الناس كذلك بعض الاحجار وشواهد القبور وجدت عليها عبارات بالخط القديم ((محمد مصلح أمين)) وقد آمن لسبب ذلك قسم من الناس.

نعم ان عبارة ((محمد مصلح أمين)) حريَّة بالنبي e اذ هو المتصف بالمصلح الامين ولأنه لم يكن قبل ذلك من يتسمى باسم محمد سوى رجال وهم غير حريين بهذا الاسم.

القسم الثالث من الارهاصات

هو الآيات والحوادث التي ظهرت عند مولده e ، فالحوادث التي يرتبط ظهورها بمولده والتي حدثت قبل البعثة يُعدّ كل منها معجزة من معجزاته وهي كثيرة جداً، الاّ اننا سنورد هنا امثلة مشهورة قبلها ائمة الحديث. وثبتت لديهم صحتها.

الأول: ما رأته امه(1) e ((من النور الذي خرج معه عند ولادته)) ورأته ام عثمان بن العاص وام عبد الرحمن بن عوف اللتان باتتا عندها ليلة الولادة. فقد قلن: رأينا نوراً حين الولادة اضاء لنا ما بين المشرق والمغرب...

الثاني: انتكاس معظم الاصنام التي كانت في الكعبة.

الثالث: ((ارتجاج ايوان كسرى وسقوط شرفاته)) الاربعة عشرة.

الرابع: ((غيض بحيرة)) ساوة تلك الليلة وهي التي كانت تقدَّس . ((وخمود نار فارس وكان لها الف عام لم تخْمد))(1) حيث كانت توقد في اصطخراباد ويعبدها المجوس.

فهذه الحوادث الاربعة انما هي اشارات الى أن ذلك المولود الجديد سيحظر عبادة الاصنام وسيدمّر سلطنة فارس، وسيحرم تقديس مالا يأذن به الله.

الخامس: حادثة الفيل: وهي مع انها ليست من حوادث تلك الليلة الاّ انها قريبة الحدوث للولادة، لذا فهي من الارهاصات ايضاً، وقد بينّها القرآن الكريم في قوله تعالى. } ألَمْ تَر كَيفَ فعَلَ ربُّك باصحاب الفيل{ ... الآية. وخلاصة قصتها: ان أبرهة ملك الحبشة اراد هدم الكعبة، فساق امام الجيش فيلاً عظيماً يقال له: محمود، فلما وصل الفيل قرب مكة بَرَك ولم يمض مهما حاولوا معه، فلما عجزوا عادوا، الاّ أن طيور أبابيل لم تتركهم سالمين فرمتهم بحجارة من سجيل واذلتهم فانهزموا شر هزيمة. هذه القصة مشهورة في كتب التاريخ وهي من علائم نبوته e حيث نَجتْ قِبلَتُه واحبّ موطن اليه، الكعبة، من دمار ابرهة نجاة خارقة للعادة.

السادس: اظلال الله له بالغمام في سفره ((وقد روى أن حليمة - السعدية - رأت غمامة تظله وهو عندها))(2) في صباه وشهدها زوجها، فأخبر الناس بذلك فاصبحت حادثة معروفة مشهورة.

((كما رأى الغمام بحيرا الراهب وأراه الناس لما سافر للشام مع عمه وهو في الثانية عشرة من عمره))(3).

((وفي رواية ان خديجة ونساءها رأينه لما قدم)) e من سفره من الشام. ((وملكان يظلانه - كالغمام - فذكرت ذلك لميْسرة)) غلام خديجة ((فأخبرها انه رأى ذلك منذ خرج معه في سفره))(1).

السابع: وثبت بالنقل الصحيح(2) ((انه نزل في بعض اسفاره قبل البعثة تحت شجرة يابسة فاعشوشب ما حولها واينعت هي فأشرقت)) اي نمت وعلت ((وتدلت عليه اغصانها)).

الثامن: ((وانه كان اذا أكل مع عمه ابي طالب وآله وهو صغير شبعوا ورووا واذا غاب، فأكلوا في غيبته لم يشبعوا))(3) وهذه حادثة مشهورة وصحيحة.

وقد قالت أم ايمن - مولاة رسول الله e وحاضنته: ((ما رأيته e شكى جوعاً ولا عطشاً صغيراً ولا كبيراً))(4).

التاسع: البركة التي حصلت في غنم وجمال مرضعته حليمة السعدية خلافاً للقوم. وهذه حادثة مشهورة ولا ريب في صحتها(5).

و ((ان الذباب كان لا يقع على جسده ولا ثيابه))(6) وما كان يؤذيه. ولقد ورث الشيخ عبد القادر الكيلاني (قدس سره) هذا عن جدّه الاعظم e ، اذ كان لا يقع عليه الذباب ايضاً.

العاشر: كثرة الرجم بالشهب السماوية بعد مجئ النبي e للدنيا، ولا سيما ليلة مولده.

ولقد أثبتنا سقوط الشهب السماوية ورجم الشياطين في ((الكلمة الخامسة عشرة))، وبيّنا أن المراد من سقوط الشهب السماوية هو الاشارة الى قطع رصد الشياطين والجن عن السماء ومنعهم من استراق السمع.فما دام الرسول e قد برز بالوحي الى العالم اجمع لزم اذاً ان تمنع اقوال الكهان ومن يتكلم عن الغيب من اقوال الجن الملفقة بالكذب وخلاف الواقع حتى لا يلتبس الوحيُ بغيره ولا تكون هناك اية شبهة كانت في امر الوحي. فلقد كانت الكهانة كثيرة جداً قبل النبوة، ولكن بعد نزول القرآن الكريم حظرت بتاتاً، حتى أن كثيرين منهم آمنوا، لأنهم لم يجدوا مخبريهم من الجن ليتنبأوا لهم الاخبار الغيبية. فسدَّ القرآن الكريم اذاً الطريق عليهم. ولقد ظهر نوع من الكهانة السابقة في اوربا في الوقت الحاضر لدى الوسائط الذين يريدون تحضير الارواح... وعلى كل حال...

الحاصل: لقد ظهرت حوادث كثيرة وأشخاص كثيرون لتأييد نبوة محمد e قبل بعثته.

نعم! ان الذي سيكون سيد العالم(1) معنىً، والذي سيبدل ملامح العالم المعنوية، والذي سيحول الدنيا مزرعة للآخرة، والذي سيعلن عن علو منزلة المخلوقات ونفاستها، والذي سيهدي الجن والانس الى الرشد وطريق السعادة، وينقذهم - وهم الفانون - من العدم المطلق، والذي سيحلّ حكمة الخلق واللغز المحيّر للعالم، والذي سيعلم ويعلّم مقاصد رب العالمين، والذي سيعرف ويعرّف ذلك الخالق العظيم... ان انساناً كهذا لابد ان يكون كل شئ، وكل نوع، وكل طائفة من المخلوقات، مشتاقاً الى مجيئه وسيرقبه بلهفة، ويستعد احتفاءً بمقدمه العظيم، بل سيبشر الاخرين بقدومه - اذا ما أعلمه خالقُه بذلك - كما رأينا مصداق ذلك في الاشارات والامثلة السابقة من ان كل نوع من المخلوقات قد اظهر معجزاته بما يشبه الترحيب به، وكأنه يقول بلسان المعجزة: انت صادق في دعوتك.

الاشارة السابعة عشرة

ان أعظم معجزة للرسول الكريم e بعد القرآن الكريم هو ذاته المباركة، اي ما اجتمع فيه e من الاخلاق السامية والخصال الفاضلة، وقد اتفق الاعداء والاولياء على انه اعلى الناس قدراً واعظمهم محلاً واكملهم محاسن وفضلاً. حتى ان بطل الشجاعة الامام علي رضي e عنه يقول: ((انا كنا اذا حمي البأس - ويروى اشتد البأس - واحمرّت الحدق اتقينا برسول الله e ))... وهكذا كان e في ذروة ما لا يرقى اليها احد غيره من كل خصلة حميدة كما هو في الشجاعة.

نحيل هذه المعجزة الكبرى الى كتاب ((الشفا في حقوق المصطفى)) للقاضي عياض المغربي، فقد اجاد فيه حقاً وفي بيانها ايّما اجادة، واثبتها في اجمل تفصيل.

T T T

ثم ان الشريعة الغراء التي لم يأت ولا يأتي مثلها هي معجزة اخرى عظيمة للرسول الكريم e حتى اتفق الاعداء والاصدقاء عليها..

نحيل تفصيل هذه المعجزة وبيانها الى جميع ما كتبناه من ((الكلمات)) الثلاث والثلاثين، و((المكاتيب)) الثلاثة والثلاثين و((اللمعات)) الاحدى والثلاثين و((الشعاعات)) الثلاثة عشر.

ثم المعجزة العظمى.. تلك هي معجزة ((انشقاق القمر)) التي رويت روايات متواترة وهي ثابتة ثبوتاً قاطعاً لا تقترب منها شبهة. فقد رويت بطرق عديدة وبصورة متواترة عن: ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، والامام علي، وانس، وحذيفة، وامثالهم كثير من الصحابة الاجلاء رضوان الله تعالى عليهم اجمعين. فضلاً عن تأييد القرآن الكريم واعلانه تلك المعجزة في: } اقتربت الساعةُ وانشقّ القمر{ بل لم يسع كفار قريش وهم اهل عناد وتعنت ان ينكروا هذه المعجزة، ولكنهم قالوا: ((انه سحر)) اي ان انشقاق القمر أمر ثابت مقطوع به حتى من قبل الكفار انفسهم الا انهم أوّلوا الحادثة بأنها سحر.

نحيل الى رسالة انشقاق القمر التي هي ذيل ((رسالة المعراج)).

T T T

ثم ان الرسول الكريم e اظهر المعجزة العظمى معجزة ((المعراج)) لأهل السماء كما اظهر لأهل الارض معجزة ((انشقاق القمر)). فنحيل الى رسالة ((المعراج)) وهي الكلمة الحادية والثلاثون، التي اثبتت صدق تلك المعجزة واظهرتها بوضوح، الاّ اننا سنذكر هنا ما هو مقدمةٌ لتلك المعجزة وهي سفره e الى بيت المقدس، وطلب قريش منه وصف بيت المقدس صبيحة المعراج، وما حصل في هذا السفر من معجزة ايضاً.

فعندما اخبر الرسول الكريم صبيحة ليلة المعراج عن سفره، كذّبته قريش وقالوا : ان كنت حقاً قد ذهبت الى بيت المقدس فصف لنا ابوابه وجدرانه واحواله.

قال الرسول الكريم e : ((فكربتُ كرباً ما كربتُ مثله قط، فرفعه الله لي انظر اليه))(1) اي رُفع له بيت المقدس وبدأ يصفه وهو ينظر اليه، فتيقنتْ قريش من الخبر ((وقالوا: متى تجئ)) اي القافلة التي رآها الرسول في الطريق، ((قال يوم الاربعاء. فلما كان ذلك اليوم اشرفت قريش ينتظرون وقد ولّى النهار، ولم تجئ: فدعا رسول الله e ، فزيد له في النهار ساعة وحبست الشمس))(2).

فانت ترى ان الارض تعطّل وظيفتها ساعة من نهار تصديقاً لخبره e ، وتشهد على صدقه الشمس الضخمة.. ترى ما اشقاه ذلك الذي لا يصدق كلام هذا النبي الكريم e الذي عطلت الارض وظيفتها وحبست الشمس نفسها تصديقاً لكلامه. وما اسعد اولئك الذين نالوا شرف امتثال اوامره e ... تأمل في هذا وقل:

الحمد لله على الايمان والاسلام.

الاشارة الثامنة عشرة

ان اعظم معجزة من معجزات الرسول الأكرم e هو القرآن الكريم؛ الذي يضم مئات دلائل النبوة، وقد ثبت اعجازه بأربعين وجهاً كما في الكلمة الخامسة والعشرين، لذا سنحيل بيان هذا الكنز العظيم للمعجزات الى تلك الكلمة، ونكتفي هنا ببيان ثلاث نكات دقيقة.



النكتة الاولى

سؤال:

ان قيل: ان سر اعجاز القرآن الكريم انما هو في بلاغته الفائقة، بينما لا يرقى إلا واحد من الألف من علماء البلاغة الفطاحل الى ادراك هذا السر، مع أنه كان ينبغي ان تكون لكل طبقة من طبقات الناس حظها من هذا الاعجاز؟

الجواب:

ان للقرآن الكريم اعجازاً لكل طبقة من طبقات الناس، الاّ انه يُشعر اعجازه هذا بأسلوب معين وبنمط خاص.

فمثلاً؛ يبيّن اعجازه الباهر في البلاغة (( لأهل البلاغة والفصاحة)).

ومثلاً؛ يبين اسلوبه الرفيع الجميل الفريد ((لأرباب الشعر والخطابة)). هذا الأسلوب مع أنه تستسيغه كل طبقة من الناس الاّ ان أحداً لا يجرأ على تقليده، فلا تخلقه كثرة الرد ولا يبليه مرور الزمان، فهو اسلوب غض طري يحتفظ بفتوته وشبابه ونضارته دائماً، وهو اسلوب يحمل من النثر المنظوم والنظم المنثور ما يجعله رفيعاً عالياً ولذيذاً ممتعاً في الوقت نفسه.

ثم انه يبين اعجازه فيما يخبر من أنباء معجزة عن الغيب فيتحدى به طبقة الكهان ((والذين يدّعون انهم يخبرون اشياء عن الغيب)).

ثم انه يقصّ ((لأهل التاريخ)) والذين يتتبعون أحداث العالم من العلماء ما يشعرهم اعجازه، وذلك بذكره أحداث الأمم الغابرة وأحوالها، وما سيحدث في المستقبل من وقائع، سواء في الحياة الدنيا أو في البرزخ أو في الآخرة، فيتحداهم باعجازه الرائع هذا.

ويعرض ايضاً اعجازه ((لعلماء الإجتماع والسياسة والحكم)) وذلك بعرض ما في الدساتير القرآنية المقدسة من اعجاز.. نعم! ان الشريعة الغراء المنبثقة من القرآن الكريم تظهر اظهاراً تاماً سر ذلك الأعجاز.

ويبين كذلك لأولئك الذين توغلوا في ((المعارف الإلهية والحقائق الكونية)) اعجازاً باهراً في سوقه الحقائق الإلهية السامية المقدسة، أو يشعرهم بوجود هذا الاعجاز.

ولأولئك الذين يسلكون ((طرق الولاية والتصوف)) يبين القرآن الكريم اعجازه لهم بكنوز الأسرار التي ينطوي عليها بحر آياته الزاخرة.

وهكذا تُفتح امام كل طبقة من الطبقات الأربعين للناس نافذة مطلة الى الاعجاز الباهر. بل انه يبين اعجازه حتى لأولئك الذين لا يملكون سوى قدرة الاستماع من دون ان يقدروا على التوغل في الفهم من ((عوام الناس)). فنراهم يصدِّقون اعجازه ويشعرون به بمجرد سماعهم له، اذ يحاور ذلك العامي نفسه ويقول: ((ان اسلوب هذا القرآن يختلف تماماً عن اساليب الكتب الاخرى، فإما أنه في مستوى من الاسلوب هو أدنى منها وهذا محال - بل لم يتفوه به ألد الأعداء وأهل الخصومة - أو هو اسلوب أرقى من الجميع، أي انه معجز)).

فالعامي الذي لا يستطيع الاّ الاستماع، يفهم الاعجاز على هذه الشاكلة، ولأجل ان نساعده شيئاً في ادراكه هذا نوضح ما يلي:

لقد اثار القرآن الكريم لدى الناس من أول ما برز الى ميدان التحدي رغبتين شديدتين:

أولاهما:

رغبة التقليد لدى أوليائه، اي حبّهم الشديد بالتشبه باسلوبه الرفيع، فاشتاقوا الى تشبيه اسلوبهم به.

ثانيتها:

الرغبة في المعارضة والنقد التي تولدت لدى الأعداء والخصماء، أي اتيان اسلوب مثله لدحض دعوى الاعجاز.

فهاتان الرغبتان الشديدتان سببتا ظهور ملايين الكتب العربية الماثلة أمامنا، ولكن لو قارنا أبلغ هذه الكتب وأوضحها قاطبة بالقرآن الكريم، أي لو قرأناهما معاً لقال كل سامع وقارئ بلا تردد، ان القرآن لا يشبه أياً من هذه الأساليب، فهو اذاً ليس بمستوى تلك الكتب، فإما أنه أدنى اسلوباً من الجميع، وهذا محال بلا أدنى ريب، ولم يتفوه به أحد قط بل حتى الشيطان يعجز عن أن يتفوه بهذا(1)، فثبت اذاً ان اسلوب القرآن الكريم فوق الجميع وذلك باعجازه الرائع.

بل ان ((العامي الجاهل)) الذي لا يفهم شيئاً من معاني القرآن الكريم يشعر باعجاز القرآن من عدم سأمه في التلاوة. فيحاور ذلك العامي الجاهل قائلاً: ان الاستمرار على تلاوة هذا القرآن لا يولد السأم قط، بل تزيد كثرة تلاوته حلاوتَه، بينما لو أستمعت الى قصائد جميلة رائعة لمرات عدة فاني اشعر بالملل، لذا فالقرآن ليس بكلام بشر بلا شك.

ثم ان ((الاطفال)) الذين يرغبون في حفظ القرآن الكريم، يظهر لهم اعجازه في قدرتهم على حفظه في عقولهم اللطيفة الصغيرة، على الرغم من وجود مواضع متشابهة تلتبس عليهم، فتراهم يحفظون القرآن الكريم بكل سهولة ويسر بينما يعجزون عن حفظ صحيفة واحدة من غيره.

بل حتى ((المرضى والمحتضرين)) في سكرات الموت ممن يتألمون بأدنى كلام، تراهم يستمعون الى القرآن الكريم وتنزل آياته على اسماعهم كأنه السلسبيل، وبهذا يشعرون باعجازه.

نحصل مما سبق: ان القرآن الكريم لا يدع أحداً محروماً من تذوق اعجازه، فلكل طبقة من أربعين طبقة من الطبقات المتباينة للناس لهم حظهم من هذا الاعجاز أو يشعرهم القرآن باعجازه، حتى انه بيّن نوعاً من اعجازه لأولئك الذين ليس لهم نصيب من العلم ولا يملكون ((سوى الرؤية))(2) من دون القدرة على الاستماع أو الفهم أو الادراك القلبي. وذلك كالاتي:

ان كلمات المصحف المطبوع بخط (الحافظ عثمان) تتقابل وينظر بعضها الى بعض.

فمثلاً: ان كلمة } وثامنُهم كلبُهم{ التي هي في سورة الكهف تناظر كلمة } قطمير{ التي هي في سورة فاطر، فلو ثُقبت الصفحات ابتداءً من الكلمة الأولى لتبينت الكلمة الثانية بانحراف يسير ولَفُهِم اسمُ الكلب.

وكذا كلمة } مُحـضَرون{ المكررة مرتين في سورة يس نرى أحداهما فوق الأخرى. وهما يقابلان كلمة } محضَرونَ{ ، (محضَرينَ) التي في سورة الصافات، فاذا ما ثقبت احداها لظهرت من خلال الصفحات الكلمة نفسها مع انحراف قليل.

وكذا كلمة } مثنى{ التي في آخر سورة سبأ تنظر الى الكلمة نفسها التي هي في مستهل سورة فاطر ، ففي القرآن تتكرر كلمة } مثنى{ ثلاث مرات، وتناظر أثنتين منها ليس موضع المصادفة قطعاً.

ولهذا النوع من التناظر والتقابل أمثلة كثيرة جداً في المصحف الشريف حتى ان الكلمة الواحدة تتكرر في ما يقرب من ست مواضع، فاذا اُوصل بينها بثقب لتراءت الأخريات بانحرافٍ يسير.

ولقد شاهدتُ مصحفاً خُطَّت الجمل المتناظرة في كل صحائفه المتقابلة بخط أحمر، فقلت آنذاك: ((هذه الأوضاع انما هي أمارات لنوع من الاعجاز))، ثم بعد ذلك أخذتُ انظر الى جمل القرآن الكريم فرأيت أن كثيراً منها تتناظر من خلال الصفحات تناظراً ينم عن معنى دقيق.

ولما كان ترتيب القرآن المتداول توقيفياً بارشاد من الرسول e ، وقد خطَّه خطاطون مُلهَمون، فان في نقشه البديع وفي خطه الجميل اشارة الى نوع من علامات الاعجاز، وذلك لأن هذا الوضع لا يمكن أن يكون مصادفة ولا نابعاً من نتاج فكر انسان. فلولا قصور الطبع لطابقت الكلمات المتناظرة مطابقة تامة.

ثم اننا نرى ان في السور المدنية المطولة والمتوسطة تكراراً بديعاً منسقاً للفظ الجلالة (الله)، فهو في الغالب يتكرر باعداد معينة، اما خمس أو ست أو سبع أو ثمان او تسع مرات أو احدى عشرة مرة فضلاً عن انه يبين مناسبة عددية لطيفة على وجهي ورقة المصحف والمتقابلتين(1)(2)(3)(4).

عبدالرزاق 02-03-2011 02:09 AM

رد: المكتوبات
 
النكتة الثانية
كان السحر رائجاً في عهد موسى عليه السلام، فجاءت معجزاته العظيمة بما يشبه السحر، وكان الطب رائجاً في عهد عيسى عليه السلام فجرت اغلب معجزاته من هذا الجنس، كما كانت هناك اربعة اشياء رائجة في الجزيرة العربية زمن بعثة الرسول e :
اولاها: البلاغة والفصاحة.
ثانيتها: الشعر والخطابة.
ثالثتها: الكهانة والانباء عن الغيب.
رابعتها: معرفة الحوادث الماضية والوقائع الكونية.
وجاء القرآن الكريم يتحدّى أرباب هذه المعارف الاربعة.
فجثا البلغاء والفصحاء اولاً مبهوتين أمام بلاغته المعجزة، منصتين اليه في حيرة واعجاب.
وجعل الشعراء والخطباء في ذهول من امرهم، حتى انه حطّ من شأن ما كانوا يعتزون به من ((المعلقات السبع)) التي تمثل افضل نماذج شعرهم، بل كتبوها بماء الذهب وعلقّوها على جدار الكعبة.
وأفقد الكهان والسحرة صوابهم وأنساهم ما كانوا يتكلمون به من انباء الغيب، حيث طرّد جِنَّهم وأسدل الستار على الكهانة وسد ابوابها الى الأبد.
وانقذ قراء تاريخ الامم السالفة وحوادث العالم مما يطرأ عليها من الخرافات والافتراءات والاكاذيب، وارشدهم الى احداث الماضي ووقائع الكون النيرة.
وهكذا جثت على الركب هذه الطبقات الاربعة أمام عظمة القرآن الكريم، والحيرة والاجلال يغمرهم، فشرعوا يتتلمذون على يديه، ويتلقون منه الهداية والرشاد، فلم يظهر قط ان استطاع احدٌ من هؤلاء على القيام بمعارضة القرآن بشئ مهما كان ، ولو بسورة واحدة.
o وان قيل:
كيف نعرف انه لم يبرز احدٌ في ميدان المعارضة، ولم يتمكن احد من الإتيان بمثل القرآن، وكيف نعرف ان إتيان النظير بحد ذاته امرٌ مستحيل؟.
الجواب: لو كانت المعارضة ممكنة، فلا محالة كانوا يحاولونها. وما كان أحد يتوانى في هذا الأمر، اذ الحاجة الى المعارضة كانت ماسة، وذلك للنجاة من خطر التحدي لانقاذ دينهم واموالهم وانفسهم واهليهم؛ لذا لو كانت المعارضة ممكنة لما احجم احدٌ عنها ابداً، ولكان الكفار والمنافقون - وهم الأغلبية - يشيعون خبرها في الاوساط، بل يبثونها في الارجاء كافة مثلما كانوا يبثون كل ما يعادي الاسلام.. ثم لو كانوا ناشرين لها - فيما لو كان الاعتراض ممكناً - لكان المؤرخون يسجلونها في كتبهم العديدة. ولكن ها هو التاريخ وكتبه كلها امامنا، لا نرى فيها شيئاً من معارضة القرآن سوى فقرات تقوّلها مسيلمة الكذاب. علماً ان القرآن الكريم قد تحداهم طوال ثلاث وعشرين سنة، وقرع اسماعهم بآياته المعجزات، وعلى هذا النمط من التحدي:
ها هو القرآن الكريم امامكم، فأتوا بمثله من ((اميّ)) كمحمد الأمين!.
فان كنتم عاجزين عن هذا، فليكن ذلك الشخص ((عالماً)) عظيماً، وليس اميّاً!
وان كنتم عاجزين عن هذا ايضاً، فأتوا بمثله ((مجتمعين)) وليس من فرد واحد! فلتجتمع عليه علماؤكم وبلغاؤكم، وليعاون بعضهم بعضاً، بل ادعوا شهداءكم من دون الله، فليأتوا بمثله.
وان كنتم عاجزين عن كل هذا، فأتوا ((بالكتب السابقة)) البليغة جميعها واستعينوا بها في المعارضة، بل ادعوا ((الاجيال)) المقبلة ايضاً!
وان كنتم عاجزين ايضاً، فليكن المثل ((بعشر سورٍ)) فحسب، وليس ضرورياً ان يكون بالقرآن كله.
وان كنتم عاجزين كذلك فليكن كلاماً بليغاً مثل بلاغة القرآن، ولو كان من ((الحكايات المفتريات)).
وان كنتم عاجزين كذلك فأتوا ((بسورة واحدة)) ولتكن سورة قصيرة...
وان كنتم عاجزين كذلك:
فاديانكم وانفسكم اذن مهددة بالخطر في الدنيا كما هي في الآخرة.
وهكذا تحدى القرآن الكريم بثماني تحديات طبقات الانس والجن، ولم يحصر تحديه في ثلاث وعشرين سنة بل استمر الى الألف وثلاثمائة سنة بل لا يزال يتحدى العالم وسيبقى هكذا الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولهذا فلو كانت المعارضة ممكنة لما اختار اولئك الكفار طريق الحرب والدمار ويلقون أنفسهم واموالهم واهليهم الى التهلكة ويَدَعون طريق المعارضة القصيرة السهلة. اذن فالمعارضة غير ممكنة وليست في طوق البشر. اذ هل يمكن لعاقل فطن - ولا سيما اهل الجزيرة العربية ولا سيما قريش الاذكياء - ان يعرّض نفسه وماله واهله للخطر ويختار طريق الحرب والدمار ان كان باستطاعته سلوك طريق المعارضة ولو بسورة من القرآن من اديب منهم، فينقذ نفسه وماله من التحدي القرآني، ان كان إتيان مثله سهلاً ميسوراً؟
وحاصل الكلام: ما قاله الجاحظ: لمّا لم يمكن المعارضة بالحروف اضطروا الى المقارعة بالسيوف.
o فإن قيل:
لقد قال بعض العلماء المحققين: ((لا يمكن معارضة أية آية من آيات القرآن الكريم ولا جملة منها ولا كلمة منها، فكيف بالسورة؟ ولم يبرز أحد في ميدان المعارضة. أي لم يعارض القرآن اذن)). ونرى ان في هذا الكلام مجازفة ومبالغة لا يقبلها العقل، لأن هناك كثير من الجمل في كلام البشر يشبه جمل القرآن وعباراته. اذن فما معنى هذا القول، وما حكمته؟
الجواب:
هناك مذهبان في بيان اعجاز القرآن:
المذهب الأول: وهو الغالب والراجح وهو مذهب الاكثرية من العلماء وهو ان لطائف بلاغة القرآن ومزايا معانيه هي فوق طاقة البشر.
اما المذهب الثاني: وهو المرجوح فهو ان معارضة سورة واحدة من القرآن ضمن طاقة البشر، إلاّ أن الله سبحانه قد منعها عن الخلق، ليكون القرآن معجزة الرسول e ، ويمكن ان يوضح هذا بمثال:
ان قيام الانسان وقعوده ضمن قدرته ونطاق استطاعته، فاِن قال نبيٌ كريم لشخصٍ ما: لا استطعتَ من القيام، اظهاراً للمعجزة، ولم يستطع الشخص من القيام فعلاً، فقد وقعت المعجزة.
يطلق على هذا المذهب المرجوح: مذهب الصَرفة. اي أن الله سبحانه هو الذي صرف الجن والانس عن القدرة على المعارضة، فلو لم يصرفهم الله سبحانه عن الاتيان بالمثل لكان الجن والانس بمقدورهم الاتيان بمثله.
وهكذا فالعلماء الذين يقولون وفق هذا المذهب: ((لا يمكن معارضة القرآن حتى بكلمة واحدة)) هو كلام حق لا مراء فيه؛ لأن الله سبحانه قد منعهم عن ذلك اظهاراً للاعجاز، فلا يستطيعون اذن ان يتفوهوا بشئ للمعارضة، ولو ارادوا قول شئ ما للمعارضة فلا يقدرون عليه من غير ارادة الله ومشيئته.
أما بالنسبة للمذهب الاول وهو الراجح والذي ارتضاه معظم العلماء، فلهم فيه وجه دقيق:
ان كلمات القرآن الكريم وجُمله ينظر بعضها الى البعض الآخر، فتتواجه وتتناظر الكلمات والجمل، فقد تكون كلمة واحدة متوجهة الى عشرة مواضع، وعندها تجد فيها عشر نكات بلاغية، وعشر علاقات تربطها مع الكلمات الاخرى، وقد ذكرنا هذه العلاقات في تفسيرنا ((اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) سواء في سورة الفاتحة أم في مقدمة سورة البقرة. } الم ` ذلك الكتاب لا ريب فيه{ .
ولنوضح ذلك بمثال:
لو تصورنا قصراً عظيماً جدرانُه منقشة بنقوش بديعة، ومزيّنة بزخارف رائعة، فإنّ وضعَ حجرٍ يحمل العقدة الاساس لتلك الزخارف والنقوش في موضعه اللائق به - بحيث يرتبطمعها جميعاً ويشرف عليها جميعاً - يحتاج الى معرفة كاملة بتلك النقوش جميعها وبتلك الزخارف التي تملأ جدران القصر.
ومثال آخر؛ نأخذه من جسم الانسان: ان وضع بؤبؤ عين الانسان في موضعه اللائق يتوقف على معرفة علاقة العين بالجسم كله، ومعرفة مدى علاقة وارتباط بؤبؤ العين بكل جزء من اجزاء الجسم وبوظيفته.
فقس على هذين المثالين لتعلم كيف بيّن السابقون من اهل الحقيقة ما في كلمات القرآن من الوجوه العديدة والعلاقات والاواصر والارتباطات التي تربطها مع سائر جمله وآياته. ولا سيما علماء علم حروف القرآن، فقد اوغلوا كثيراً في هذا الموضوع، واثبتوا بدلائل: أن في كل حرف من القرآن الكريم اسراراً دقيقة تَسَع صحيفة كاملة من البيان والتوضيح.
نعم، ما دام القرآن الكريم كلام رب العالمين وخالق كل شئ، فكل كلمة من كلماته اذن بمثابة نواة، اي يمكن ان تكون تلك الكلمة نواة تنبت منها شجرة معنوية من الاسرار والمعاني، أو بمثابة قلب تتجسد حوله المعاني والاسرار.
لذلك نقول:
نعم، ان في كلام البشر ما يشبه كلمات القرآن وجمله وآياته، اِلاّ أن تلك الآية الكريمة أو الكلمة والجملة القرآنية قد وضعت في موضعها الملائم لها بحيث روعي في وضعها كثيرٌ جداً من الارتباطات والعلاقات مما يلزم علماً محيطاً كلياً كي يضعها في ذلك الموقع اللائق به.
النكتة الثالثة
لقد انعم الله سبحانه وتعالى عليّ يوماً تفكراً حقيقياً حول مجمل ماهية القرآن الحكيم فادوّن ذلك التفكر كما ورد للقلب - باللغة العربية - ثم اورد معناه.
سبحانَ مَن شَهِدَ على وحدانيتِه وصرَّح بأوصافِ جمالِه وجلالِه وكمالِه: القرآنُ الحكيمُ، المنوَّرُ جهاته الستُّ، الحاوي لسرّ اجماع كلِّ كتب الانبياء والاولياء والموحِّدين المختلفين في الاعصار والمشارب والمسالك، المتفقين بقلوبهم وعقولهم على تصديق اساسات القرآن وكلّيات احكامه على وجه الأجمال، وهو محضٌ الوحي باجماع المُنزلِ والمنزَل والمنزَّل عليه، وعينُ الهداية بالبداهة، ومعدنُ انوار الايمان بالضرورة، ومجمعُ الحقائق باليقين، وموصِلٌ الى السعادة بالعيان، وذو الاثمار الكاملين بالمشاهدة، ومقبولُ المَلَك والأنسِ والجان بالحدس الصادق من تفاريق الامارات، والمؤيَّدُ بالدلائل العقلية باتفاق العقلاء الكاملين، والمصدَّقُ من جهة الفطرة السليمة بشهادة اطمئنان الوجدان، والمعجزةُ الابدية الباقي وجهُ اعجازه على مرّ الزمان بالمشاهدة، والمنبسطُ دائرةُ ارشاده من الملأ الأعلى الى مكتب الصبيان، يستفيد من عَين درسٍ الملائكةُ مع الصّبيين، وكذا هو ذو البصر المطلقِ يرى الاشياء بكمال الوضوح والظهور ويحيط بها ويقلـّبُ العالَمَ في يده ويعرِّفُه لنا كما يُقلـِّب صانعُ الساعةِ الساعةَ في كفّه ويعرّفُ للناس. فهذا القرآنُ العظيمُ الشأن هو الذي يقول مكررَّاً: } الله لا اِله الاّ هو{ } فاعلم أنه لا اِله الاّ الله{ .
أما معنى هذا التفكر فكما يأتي:
ان الجهات الست للقرآن الكريم منوّرة وضّاءة لا تدنو منها الشبهات والاوهام، لأن:
من ورائه العرش الاعظم، يستند اليه، فهناك نور الوحي.
وبين يديه سعادة الدارين، يستهدفها، فقد امتدت ارتباطاته وعلاقته بالأبد والآخرة فهناك نور الجنة ونور السعادة.
ومن فوقه تتلألأ آية الاعجاز وتسطع طغراؤه.
ومن تحته اعمدة البراهين الرصينة والدلائل الدامغة، ففيها الهداية المحضة.
وعن يمينه يقف استنطاق العقول وتصديقها، لكثرة ما فيه ((أفلا يعقلون)).
وعن يساره استشهاد الوجدان حتى ينطق من اعجابه: ((تبارك الله)) بما ينفخ من نفحات روحية للقلب.
فمن اين يمكن يا ترى أن تتسلل اليها الاوهام والشبهات؟
فالقرآن الكريم جامع لسّر اجماع كتب الانبياء والاولياء والموحدين قاطبة، رغم اختلاف عصورهم ومشاربهم ومسالكهم. اي أن جميع ارباب العقول السليمة والقلوب المطمئنة يصدّقون مجمل احكام القرآن الكريم واساس ما يدعو اليه، حيث يذكرونه في كتبهم. فهم اذن بمثابة اصول شجرة القرآن السماوية.
ثم ان القرآن الكريم يستند الى الوحي الإلهي، بل هو وحي محض، لأن الله سبحانه الذي أنزله على قلب محمد e يبينه بمعجزات رسوله الكريم وحياً محضاً. والقرآن النازل من عند الله يبين باعجازه الظاهر انه من العرش الاعظم. وان اطوار المنزل عليه وهو الرسول الكريم e واضطرابه في اول نزول الوحي، واثناء نزوله، وما يظهره من توقير وتبجيل اكثر من كل ما عداه، يبين انه وحي خالص ينزل عليه ضيفاً من الملك الأزلي.
ثم ان ذلك القرآن العظيم وحي محض بالبداهة، لأن خلافه ضلالة وكفر.
ثم انه بالضرورة معدن الانوار الايمانية، فليس خلاف الانوار الاّ الظلمات الدامسة. وقد اثبتنا هذه الحقيقة في كلمات كثيرة.
ثم ان القرآن الكريم مجمع الحقائق يقيناً فالخيال والخرافات بعيدة عنه بعداً مطلقاً، اذ ان ما شكله من عالم الاسلام، وما أتاه من شريعة غراء، وما يبينه من مُثُل سامية، بل حتى عند بحثه عن عالم الغيب - كما هو عند بحثه عن عالم الشهادة - هو عين الحقائق، لا يدنو منه شئ من خلاف للحقيقة ابداً.
ثم ان القرآن الكريم - كما هو واقع - يوصل الى سعادة الدارين بلا ريب، ويسوق البشرية اليها، فمن يساوره الشك فليراجع القرآن مرة واحدة، وليستمع اليه وليرى بعد ذلك ماذا يقول القرآن؟
ثم ان الثمار التي يجنيها الانسان من القرآن الكريم انما هي ثمار يانعة ذات حياة وحيوية. فلا غرو ان جذور شجرة القرآن متوغلة في الحقائق ممتدة في الحياة، وان حياة الثمرة تدل على حياة الشجرة. فإن شئت فانظر كم اعطى القرآن من ثمار الاصفياء المنورين والاولياء الصالحين الكاملين على طول العصور.
ثم ان القرآن الكريم موضع رضى الانس والجن والملائكة وذلك بالحدس الصادق، الناشئ من امارات عديدة، حيث يجتمعون حوله عند تلاوته كالفراش حول النور.
ثم ان القرآن مع أنه وحي الهي فهو مؤيدٌ بالدلائل العقلية، والشاهد على هذا: اتفاق العقلاء الكاملين وفي مقدمتهم ائمة علم الكلام ودهاة الفلسفة امثال ابن سينا وابن رشد، فجميعهم بالاتفاق قد اثبتوا اسس القرآن باصولهم ودلائلهم.
ثم ان القرآن الكريم مصدَّق من قبل الفطرة السليمة - ما لم يعترها عارض أو مرض - حيث ان اطمئنان الوجدان وراحة القلب انما ينشآن من انواره، اي أن الفطرة السليمة تصدّقه باطمئنان الوجدان. نعم! ان الفطرة بلسان حالها تقول للقرآن الكريم: "لا يتحقق كمالُنا من دونك" وقد اثبتنا هذه الحقيقة في مواضع متفرقة من الرسائل.
ثم ان القرآن معجزة دائمة ابدية بالمشاهدة والبداهة، فهو يبين اعجازه كل حين، فلا يخبو نوره - كبقية المعجزات - ولا ينتهى وقته، بل يمتد زمنه الى الأبد.
ثم ان منزلة ارشاد القرآن الكريم لها من السعة والشمول بحيث أن درساً واحداً منه يتلقاه جبريل عليه السلام جنباً الى جنب صبي صغير. ويجثو امامه فلاسفة دهاة - امثال ابن سينا - مع ابسط شخص أمي، يتلقيان الدرس نفسه. بل قد يستفيض ذلك الرجل العامي من القرآن بما يحمل من قوة الايمان وصفائه مالا يستفيضه ابن سينا.
ثم ان في القرآن الكريم عيناً باصرة نافذة بحيث ترى جميع الوجود وتحيط به، وتضع جميع الموجودات امامه، كأنها صحائف كتاب فيوضح طبقاتها وعوالمها. فكما اذا استلم الساعاتي ساعة صغيرة بيده يقلبها، ويعرّفها ويفتحها، كذلك الكون بين يدي القرآن الكريم يعرّفه ويبين اجزاءه.
فهذا القرآن العظيم يثبت الوحدانية بـ} فاعلم أنه لا اله الاّ الله{ (سورة محمد:19)
اللَّهُمَّ اجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً وفي القبر مؤنساً وفي القيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وفي الجنة رفيقاً والى الخيرات كلها دليلاً وإماماً،اللَّهُم نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الايمان والقرآن، ونوّر برهان القرآن بحق وبحرمة مَن اُنزل عليه القرآن، عليه وعلى آله الصلاة والسلام من الرحمن الحنان. آمــين.
الاشارة البليغة التاسعة عشرة
لقد أثبت يقيناً وبدلائل قاطعة، في الاشارات السابقة ان الرسول الاكرم e الذي ثبتت رسالتُه بالوف الدلائل القاطعة لهو برهان باهر للوحدانية الإلهية، ودليل ساطع للسعادة الابدية. وسنعرّف في هذه الاشارة تعريفاً مجملاً بشكل خلاصة الخلاصة لذلك البرهان الصادق والدليل الساطع على الوحدانية؛ لأنه: يلزم معرفة الدليل والاحاطة بوجه دلالته ما دام هو دليلاً الى المعرفة الإلهية.
لذا سنبين هنا باختصار شديد وجه دلالته e على التوحيد ومدى صدقه وصوابه فنقول: ان الرسول الكريم e دليل بذاته على وجود الخالق العظيم وعلى وحدانيته كما يدل عليه اي موجود من موجودات الكون. وقد اعلن e وجه دلالته هذا على التوحيد والوجود مع دلالة الموجودات قاطبة. ومن حيث انه e دليل على التوحيد سنشير الى صدق دلالته وحجيته وصوابه وأحقيته ضمن خمسة عشر اساساً:
الاساس الاول:
ان هذا الدليل الذي يدل على خالق الكون بذاته وبلسانه وبدلالة احواله وبلسان اطواره، لهو صادقٌ مصدَّق من قبل حقائق الكون؛ لأن دلالات جميع الموجودات الى الوحدانية انماهي بمثابة شهادات تصديقٍ لمن ينطق بالوحدانية. اي ان ما يدعو اليه مصدَّقٌ لدى الكون كله. وحيث ان ما يبينه من الوحدانية، التي هي الكمال المطلق، وما يبشرّه من السعادة الابدية التي هي الخير المطلق، مطابقان تماماً للحسن والكمال المتجليين في حقائق العالم. فهو صادق في دعواه قطعاً فالرسول الكريم e اذاً برهان صادق مصدَّق للوحدانية الإلهية والسعادة الابدية.
الاساس الثاني:
ان ذلك الدليل الصادق المصدَّق الذي يملك ألوفاً من المعجزات - اكثر مما لدى الانبياء السابقين - والذي أتى بشريعة سمحة غراء لا تنسخ ولا تُبدل، وبدعوة شاملة للجن والانس، لاشك انه سيد المرسلين عليهم السلام؛ فهو اذن جامع للحِكَم والاسرار التي تنطوي عليها معجزات الانبياء عليهم السلام واتفاقهم. اي ان قوة اجماع الانبــياء كلهـم اذن، وشـهادة معجزاتهم، تـشكل ركيزة لصـدقه وصواب دعوته.
ثم ان الاصفياء والاولياء الصالحين الذين بلغوا من الكمال ما بلغوا انما كان بتربيته السامية وبهدي شريعته الحقة فهو مرشدهم وسيدهم؛ لذا فهو جامعٌ لسر كراماتهم وتصديقهم بالاجماع وقوة دراساتهموتحقيقاتهم، حيث انهم سلكوا طريقاً فتح ابوابه استاذُهم، وتركها مفتوحة، فوجدوا الحقيقة. فجميع كراماتهم وتحقيقاتهم العلمية واجماعهم انما تمثل ركيزة لصدق استاذهم الطاهر وصواب دعوته.
ثم ان ذلك البرهان الباهر للوحدانية - كما تبين في الاشارات السابقة - يملك من المعجزات الباهرة القاطعة اليقينية، والارهاصات الخارقة، ودلائل نبوة لا ريب فيها، كل منها تصدّقه تصديقاً عظيماً، بحيث لو اجتمع الكون كله ليجرح ذلك التصديق لعجز دونه.
الاساس الثالث:
ان ذلك الداعي الى الوحدانية والمبشر بالسعادة الابدية الذي له هذه المعجزات الباهرات يملك من الاخلاق السامية في ذاته المباركة، ومن السجايا الرفيعة في مهمة رسالته، ومن الخصال الفاضلة فيما يبلّغه من شريعة ودين، ما يضطر الى تصديقه ألدّ اعدائه فلا يجد سبيلاً للانكار.
فما دام يملك في ذاته وفي مهمته وفي دينه اسمى الاخلاق واجملها، واكمل السجايا واثمنها، وارفع الخصال وافضلها، فلاريب انه مثال لكمال الموجودات، وممثلٌ لفضائل الاخلاق ومثالها المجسم، والقدوة الحسنة لها؛ ولهذا فالكمالات التي تشع من ذاته ومن مهمته ومن دينه لهي ركيزة قوية عظيمة لصدقه بما لا يمكن ان يزحزحها شئ.
الاساس الرابع:
ان ذلك الداعي الى الوحدانية والسعادة الابدية الذي هو معدن الكمالات ومعلم الاخلاق الفاضلة. لا ينطق عن نفسه وحسب هواه - حاشاه - وانما ينطق بالوحي الإلهي. فهو يستلم الوحي من ربه الجليل ويبلّغ به الاخرين. لأنه قد ثبت بالوف من دلائل النبوة، كما ذُكر في الاسس السابقة ووضح قسم منها:
اِن رب العالمين سبحانه الذي خلق جميع تلك المعجزات واجراها بيد رسولهe ، انما يبين أن رسوله الكريم e ينطق لأجله وفي سبيله ويبلّغ كلامه المبين.
وان القرآن الكريم الذي نزل عليه يبيّن باعجازه الظاهر والباطن انه e مبلّغ عن رب العالمين.
وذاته الشريفة e وما يتحلى به من عظيم الاخلاص والتقوى وجديّة بالغة في تبليغ امر الله، وامانة صادقة فيه، تبين - في جميع احواله واطواره - أنه لا يتكلم باسمه الشخصي، ولا من بنات فكره الذاتي وانما يتكلم باسم الله رب العالمين.
ثم ان الذين استمعوا اليه من اهل الحقيقة قاطبة قد صدّقوا بالكشف والتحقيق العلمي، وآمنوا ايماناً يقينياً بانه لا ينطق عن الهوى إن هو الاّ وحي يوحى، فهو مبلّغ أمين عن رب العالمين، يدعو الناس الى الرشاد بالوحي الإلهي.
وهكذا فان صدق هذا الدليل e وأحقيته يستند الى هذه الاسس الاربعة الثابتة الرصينة.
الاساس الخامس:
ان ذلك المبلغ الأمين لكلام الله الازلي يرى الارواح، ويتكلم مع الملائكة، ويرشد الجن والانس معاً. فلا يتلقى العلم من عوالم الملائكة والارواح التي هي اسمى من عالم الانس والجن بل يتلقى العلم من فوق تلك العوالم كلها، بل يطّلع على ما وراءها من شؤون إلهية، فالمعجزات المذكورة سابقاً، وسيرته الشريفة التي نقلت الينا بالتواتر تثبتان هذه الحقيقة. لذا فلا يتدخل الجن ولا الارواح ولا الملائكة فيما يبلّغه من امور بل لا يتقرب الى تبليغه حتى المقربين من الملائكة سوى جبريل عليه السلام، بل يتقدم احياناً حتى رفيقه جبريل عليه السلام الذي كان يصحبه معظم الاوقات.
الاساس السادس:
ان ذلك الدليل الذي هو سيد المَلَك والجن والانس انما هو أنور ثمار شجرة الكائنات وأكملها، وتمثال الرحمة الإلهية، ومثال المحبة الربانية، والبرهان النير للحق، والسراج الساطع للحقيقة، ومفتاح طلسم الكائنات، وكشاف لغز الخلق، وشارح حكمة العالم والداعي الى سلطان الالوهية. والمرشد البارع لمحاسن الصنعة الربانية، فتلك الذات المباركة، بما تملك من صفات جامعة انما تمثل اكمل نموذج لكمالات الموجودات. لذا فهذه المزايا التي يمتلكها ذلك النبي الكريم e وما يتصف به من شخصية معنوية تظهران بوضوح:
ان ذلك النبي الكريم e هوعلة الكون الغائية، اي أنه موضع نظر خالق الكون.
نـظـر اليه وخلق الـكون، ويصح القول انـه لـو لم يكن قـد أوجـده ما كان يـوجد الكون.
نعم؛ ان ما أتى به هذا النبي الكريم من حقائق القرآن وانوار الايمان الى الانس والجن كافة، وما يشاهَد في ذاته المباركة من اخلاق سامية وكمالات فائقة، شاهد صادق قاطع على هذه الحقيقة.
الاساس السابع:
ان ذلك البرهان الساطع للحق والسراج المنير للحقيقة قد اظهر ديناً قيماً، وابرز شريعة شاملة بحيث تضم من الدساتير الجامعة ما يحقق سعادة الدارين، كما انه بيّن اكمل بيان حقيقة الكون ووظيفته واسماء الخالق الجليل وصفاته. فالذي يمعن النظر في ذلك الاسلام الحنيف والشريعة الغراء الشاملة في طرز تعريفها للكون يدرك يقيناً ان ذلك الدين انما هو نظام خالق هذا الكون الجميل الذي يعرّف ذلك الخالق. اذ كما ان بنّاءً بارعاً لقصر بديع يضع تعريفاً يليق بالقصر، ويكتبه تبياناً لمهارته الفائقة، كذلك هذا الدين العظيم والشريعة السمحة وما فيه من الشمول والاحاطة والسمو يظهر بوضوح ان الذي وضعه على هذه الصورة الرفيعة انما هو واضع الكون ومدبّره. نعم، ان من كان منظِّماً لهذا الكون البديع وبهذا التنظيم الرائع لابد انه هو الذي نظّم هذا الدين الأكمل بهذا النظام الأجمل.
الاساس الثامن:
إن من يتصف بهذه الصفات الجميلة المذكورة، و تستند رسالته الى تلك الادلة والركائز الرصينة، ذلك الرسول الحبيب e ، يتكلم باسم عالم الغيب متوجهاً الى عالم الشهادة، معلناً على رؤوس الأشهاد من الجن والأنس، مخاطباً الاقوام المتراصين وراء العصور المقبلة، فيناديهم جميعاً نداء رفيعاً سامياً يسمعهم قاطبة في جميع الاعصار اينما وجدوا وحيثما كانوا... نعم .. نعم نسمع!.
الاساس التاسع:
ان خطابه هذا رفيع الى حد تسمعه العصور جميعاً.. نعم، ان كل عصر يسمع رجع صدى كلامه.
الاساس العاشر:
اننا نرى في احواله وسيرته المطهرة انه يرى ثم يبلّغ في ضوء ما يرى، لأنه يبلّغ حتى عندما تحدق به المخاطر، بلا تردد ولا اضطراب وبكل ثقة واطمئنان بل قد يتحدى وحده العالم كله.
الاساس الحادي عشر:
انه قد اعلن دعوته بكل ما آتاه الله من قوة اعلنها جهاراً حتى جعل نصف الارض وخمس البشرية يلبون اوامره ويقولون لكل كلمة صدرت منه: سمعنا واطعنا.
الاساس الثاني عشر:
انه يدعو باخلاص كامل وبجدية تامة فيرّبي تربية راسخة، بحيث ان دساتيرها تنقش في جباه العصور وصحائف الاقطار ووجوه الدهور.
الاساس الثالث عشر:
انه يتكلم بكلام ملؤه الثقة والاطمئنان فيبلّغ الاحكام وهو واثق كل الثقة من صدقها وصوابها، ويدعو اليها دعوة صريحة لا لبس فيها بحيث لو اجتمع العالم كله ما صرفه عن دعوته ولا عن حكم من تلك الأحكام. وسيرته المطهرة وتاريخ حياته المباركة أصدق شاهد على هذه الحقيقة.
الاساس الرابع عشر:
انه يدعو باطمئنان بالغ واعتماد تام ويبلّغ بثقة كاملة، بحيث لا يتنازل في دعوته عن شئ، ولا يتردد امام اية مشكلة مهما كانت، فلا يداخله الخوف والدهشة، بل يدعو بصفاء كامل واخلاص تام. وينفذ ما يدعو اليه من الاحكام على نفسه اولاً ويذعن اليه ثم يعلّمه الاخرين. والشاهد على هذا زهده العظيم واستغناؤه عن الناس واعراضه عن زخارف الدنيا الفانية، كما هو معلوم لدى الاصدقاء والاعداء.
الاساس الخامس عشر:
انه كان اخشى الناس لله وأخضعهم لأوامره سبحانه وأعبدهم له واتقاهم عن نواهيه، مما يدلنا على أنه مبلّغ أمين لسلطان الأزل والابد، فهو رسوله الحبيب واخلص عباده، ومبلغ رسالاته.
نخلص من هذه الأسس الخمسة عشرة:
ان هذا الرسول الكريم e الموصوف بتلك الاوصاف المذكورة قد أعلن الوحدانية فنادى بكل ما آتاه الله من قوة، وعلى مدار حياته المباركة كلها:
لاإله الا الله
اللّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله عدد حسنات امته
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
اكرام إلهي واثر عناية ربانية
على أمل ان نحظى بسر الآية الكريمة } وأما بنعمة ربك فحدِّث{ نقول:
ان أثر عناية ربانية ولمسة رحمة إلهية قد ظهر اثناء تأليف هذه الرسالة، اذكره لقرائها الكرام كي يلتفتوا اليها باهتمام بالغ:
كانت الكلمةالحادية والثلاثون و التاسعة عشرة اللتان تبحثان في الرسالة الأحمدية مؤّلفتين؛ لذا لم يرد الى قلبي شئ حول تأليف هذه الرسالة.. فاذا بخاطرة ترد الى القلب مباشرة، تلحّ عليّ بالتأليف في وقت كانت حدّة حافظتي قد كلّت وخبت جذوتها تحت وطأة المصائب والبلايا، فضلاً عن انني لم اسلك في مؤلفاتي – وفق مشربي – سبيل النقل من الكتب (قال فلان.. قيل كذا)، وعلاوة على أنه ما كان لديّ أي مصدر كان من مصادر الحديث الشريف او السيرة المطهرة… ولكن على الرغم من كل هذا قلت: ((توكلت على الله))، وشرعت بتأليف هذه الرسالة متوكلاً عليه وحده، فحصل من التوفيق الإلهي ما جعل حافظتي قوية بحيث كانت تمدني امداداً يفوق بكثير حافظة ((سعيد القديم)) حتى كُتبتْ نحو اربعين صحيفة في سرعة فائقة خلال ما يقرب من اربع ساعات، بل كُتبت خمس عشرة صحيفة في ساعة واحدة. وكانت النقول على الاغلب من كتب الاحاديث كالبخاري ومسلم والبيهقي والترمذي والشفا للقاضي عياض وابو نعيم والطبري وامثالها. وكان قلبي يخفق ويرجف بشدة، اذ لو وقع الخطأ في هذا النقل لترتب عليه الاثم، حيث انه حديث شريف.
ولكن ادركنا يقيناً ان العناية الإلهية معنا وان الحاجة الى هذه الرسالة شديدة. فكُتبت الاحاديث بفضل الله سليمة صحيحة. ومع هذا، فاذا ما ورد في الفاظ الحديث الشريف أو في اسم الراوي خطأ فالرجاء من الاخوة الاعزاء تصحيحه والصفح عن الخطأ.
سعيد النورسي
نعم ! لقد كان الاستاذ يملي علينا ونحن نكتب المسودة، ولم يكن لديه أي مصدر كان، ولم يراجع في كلامه قط. كان كلامه في منتهى السرعة، وكنا نكتب حوالي اربعين صحيفة في ساعتين او ثلاث. فأيقنا نحن ايضاً ان هذا التوفيق الإلهي في التأليف هو كرامة من كرامات المعجزات النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.
(الحافظ توفيق) (الحافظ خالد) (سليمان سامي) (عبدالله جاووش)
كاتب المسودة اخوة في الآخرة خادمه خادمه المقيم
والمبيضة وكاتب المسودة وكاتب المسودة
الذيـل الأول
من رسالة ((المعجزات الأحمدية))
[لمناسبة المقام ضُمت هنا الكلمة (التاسعة عشرة) وهي تخص الرسالة الأحمدية مع ذيلها الذي يبحث في معجزة انشقاق القمر].
بسم الله الرحمن الرحيم
تتضمن هذه الكلمة ((اللمعة الرابعة عشرة)) أربع عشرة رشحة:
o الرشحة الأولى:
إن ما يُعرّف لنا ربَّنا هو ثلاثة معرّفين أدلاّء عظام:
أوله: كتاب الكون، الذي سمعنا شيئاً من شهادته في ثلاث عشرة لمعة (من لمعات المثنوي العربي النوري)(1).
ثانيه: هو الآية الكبرى لهذا الكتاب العظيم، وهو خاتم ديوان النبوة e .
ثالثه: القرآن الحكيم.
فعلينا الآن أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق، وهو خاتم الانبياء وسيد المرسلين e وننصت اليه خاشعين.
إعلم! ان ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة. فإن قلت: ما هو؟ وما ماهيته؟
قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأرض مسجده، ومكةُ محرابه، والمدينة منبره.. وهو امام جميع المؤمنين يأتمون به صافّين خَلْفَه.. وخطيب جميع البشر يبيّن لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيس جميع الأنبياء يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم.. وسيد جميع الأولياء يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرة حلقة ذكر تركّبَت من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأنبياء باساساتهم السماوية، واغصانها الخضرة الطرية وثمراتها اللطيفة النيّرة هي الأولياء بمعارفهم الالهامية. فما من دعوى يدّعيها الاّ ويشهدُ لها جميعُ الأنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوىً من دعاويه خواتمُ جميع الكاملين، اذ بينما تراه قال: (لا إله الا الله) وادّعى التوحيد فاذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفّين النورانيين – أي شموس البشر ونجومه القاعدين في دائرة الذكر – عينَ تلك الكلمة، فيكررونها ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالاجماع: ((صَدَقت وبالحق نطقت)). فأنّى لوهمٍ أن يَمدَّ يده لردِّ دعوىً تأيّدتْ بشهادات مَنْ لا يُحَد من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.
o الرشحة الثانية:
إعلم! إن هذا البُرهان النوراني الذي دلَّ على التوحيد وأرشد البشر اليه، كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحَيه :نبوةً وولايةً من الاجماع والتواتر.. كذلك تصدّقُه مئاتُ إشارات الكتب السماوية من بشارات التوراة والانجيل والزبور وُزُبرِ الأولين(1).. وكذلك تصدِّقُه رموز ألوف الارهاصات الكثيرة المشهودة، وكذا تصدقّه بشارات الهواتف الشائعة المتعددة وشهادات الكهان المتواترة، وكذا تصدِّقُه دلالات معجزاته من أمثال: شق القمر، ونبعان الماء من الأصابع كالكوثر ومجئ الشجر بدعوته، ونزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلّم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر، الى ألفٍ من معجزاته كما بينّه الرواة والمحدثون المحققون.. وكذا تصدِّقه الشريعة الجامعة لسعادات الدارين.
واعلم! أنه كما تصدِّقه هذه الدلائل الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدقّه الدلائل الأنفسية؛ اذ اجتماع اعالي جميع الاخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضل جميع السجايا الغاليةوالخصائل النزيهة.. وكذا قوة إيمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سيره، وكمال جدّيته وكمال متانته، وكذا قوة أمنيته في حركاته بشهادة قوة إطمئنانه.. تصدِّقه كالشمس الساطعة في دعوى تمسّكه بالحق وسلوكه على الحقيقة.
o الرشحة الثالثة:
إعلم! إن للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول. فإن شئت فتعال لنذهب الى خير القرون وعصر السعادة النبوية لنحظى بزيارته الكريمةe - ولو بالخيال - وهو على رأس وظيفته يعمل. فافتح عينيك وانظر! فإنّ أولَ ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارق، له حسنُ صورة فائقة، في حُسن سيرة رائقة. فها هو آخذٌ بيده كتاباً معجِزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً، يبلّغ خطبةً أزليةً ويتلوها على جميع بَني آدم، بل على جميع الجن والانس، بل على جميع الموجودات.
فيا للعجب! ما يقول؟.. نعم! إنه يقول عن أمرٍ جسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم، إذ يشرح ويحل اللغز العجيب في سرِّ خِلْقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سرِّ حكمة الكائنات، ويوضـِّح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقول وأوقعتها في الحيرة، إذ هي الأسئلة التي يسأل عنها كلُّ موجود. وهي: مَنْ أنتَ؟ ومِن أين؟ والى أين؟.
o الرشحة الرابعة:
انظر! الى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نوّاراً، ومن الحق نوراً مضيئاً، حتى صيَّر ليلَ البشر نهاراً وشتاءه ربيعاً؛ فكأن الكائنات تبدَّل شكلُها فصار العالَم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً.. فإذا ما نظرت الى الكائنات خارجَ نور إرشاده؛ ترى في الكائنات مأتماً عمومياً، وترى موجوداتها كالأجانب الغرباء والأعداء، لا يعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه، وترى جامداتها جنائز دهّاشة، وترى حيواناتها واناسيّها أيتاماً باكين بضربات الزوال والفراق.
فهذه هي ماهية الكائنات عند مَنْ لم يدخل في دائرة نوره. فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، الى الكائنات. كيف تراها؟.. فانظر! قد تبدّل شكلُ العالم، فتحوّل بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر ومجلسَ الجذبة والشكر، وتحوّل الأعداءُ الأجانب من الموجودات أحباباً وإخواناً، وتحوّل كلٌ من جامداتها الميتة الصامتة حيّاً مؤنساً مأموراً مسخَّراً ناطقاً بلسان حاله آيات خالقه، وتحوّل ذوو الحياة منها - الأيتام الباكون الشاكون - ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لتسريحهم عن وظائفهم.
o الرشحة الخامسة:
لقد تحوّلت بذلك النور حركاتُ الكائنات وتنوعاتُها وتغيراتُها من العبثية والتفاهة وملعبة المصادفة الى مكاتيب ربانية، وصحائف آياتٍ تكوينية، ومرايا اسماء إلهية . حتى ترقّى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.
وانظر الى الانسان كيف ترقَّى من حضيض الحيوانية الذي هوى اليه بعجزه وفقره وبعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل، ترقّى الى أوج الخلافة بتنور ذلك العقل والعجز والفقر. فانظر كيف صارت أسبابُ سقوطه - من عجز وفقر وعقل - أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني.
فعلى هذا، لو لم يوجد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والأنسان، وكلُ شئ الى درجة العدم؛ لاقيمة ولا أهمية لها. فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة من مثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكن الكائنات، اذ لا معنى لها بالنسبة إلينا.
o الرشحة السادسة:
فان قلت: مَنْ هذا الشخص الذي نراه قد صار شمساً للكون، كاشفاً بدينه عن كمالات الكائنات؟ وما يقول؟.
قيل لك: انظر واستمع الى ما يقول: ها هو يُخبر عن سعادة أبدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعو الناس اليها. وهو دلالُ محاسن سلطنة الربوبية ونَظَّارُها، وكشّافُ مخفيّات كنوز الأسماء الألهية ومعرِّفُها.
فانظر اليه من جهة وظيفته (رسالته)؛ تَرهُ برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة.
ثم انظر اليه من جهة شخصيته (عبوديته)؛ تَرَهُ مثالَ المحبة الرحمانية وتمثالَ الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الأنسانية، وأنورَ أزهرِ ثمرات شجرة الخلقة.
ثم انظر! كيف أحاط نورُهُ ودينُه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب ما يقرُب من نصف الأرض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته، بحيث تفدي له ارواحها. فهل يمكن للنفس والشيطان أن يناقشا بلا مغالطة في مدّعيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي أساس كل مدّعياته، وهو: ((لا إله إلا الله)) بجميع مراتبه؟...
o الرشحة السابعة:
فإن شئت أن تعرف ان ما يحرّكه، إنما هو قوة قدسية، فانظر الى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذا الشخص جميعَ أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة؟ وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيّرهم معلمي العالم الأنساني وأساتيذ الامم المتمدنة.
فانظر! ليست سلطنتُه على الظاهر فقط؛ بل ها هو يفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الأرواح والنفوس، حتى صار محبوبَ القلوب ومعلّمَ العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح.
o الرشحة الثامنة:
من المعلوم أن رفعَ عادةٍ صغيرة - كالتدخين مثلاً - من طائفة صغيرة بالكلية، قد يَعْسَرُ على حاكم عظيم، بهمّةٍ عظيمة، مع انا نرى هذا النبي الكريم e قد رفع بالكلّية، عاداتٍ كثيرة، من أقوام عظيمة، متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسيّاتهم، رفعها بقوةٍ جزئية، وهمّة قليلة في ظاهر الحال، وفي زمان قصير، وغَرَسَ بدَلَها برسوخ تامٍ في سجيتهم عادات عالية، وخصائلَ غالية. فيتراءى لنا من خوارق اجراآته الأساسية ألوف ما رأينا، فمَن لم يَر هذا العصر السعيد نُدخل في عينه هذه الجزيرة ونتحداه. فليجربْ نفسه فيها. فليأخذوا مائةً من فلاسفتهم وليذهبوا اليها وليعملوا مائة سنة هل يتيسر لهم أن يفعلوا جزءاً من مائة جزء مما فعله e في سنة بالنسبة الى ذلك الزمان؟!
o الرشحة التاسعة:
إعلم! إن كنت عارفاً بسجية البشر أنه لا يتيسّر لعاقل أن يدّعي - في دعوىً فيها مناظرة - كذباً يخجل بظهوره، وأن يقوله بلا حرج وبلا تردد وبلا إضطراب يشير الى حيلته، وبلا تصنع وتهيج يوميان الى كذبه، أمام أنظار خصومه النقّادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بمكانة حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدّعيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أنه يحتاج لحماية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، مقابل خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوىً عظيمة؟
وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترض، وبلا تردّد وبلا تحرج وبلا تخوف وبلا إضطراب وبصفوة صميمية، وبجدّية خالصة، وبطرز يثير اعصاب خصومه، بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزتهم، باسلوب شديد علويّ. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص، في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلا! } إن هو إلاّ وحْيٌ يُوحى{ (النجم: 4).
نعم! إن الحق أغنى من أن يَدلس، ونظر الحقيقة أعلى من أن يُدلس عليه! نعم! إن مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرَه النفّاذ منزّهٌ من أن يلتبس عليه الخيالُ بالحقيقة..
o الرشحة العاشرة:
انظر واستمعْ الى ما يقول! ها هو يبحث عن حقائق مدهشة عظيمة، ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، جالبة للعقول الى الدقة والنظر؛ إذ من المعلوم أن شوق كشف حقائق الأشياء قد ساق الكثيرين من أهل حب الاستطلاع واللهفة والاهتمام الى فداء الأرواح. ألا ترى أنه لو قيل لك: إن فديتَ نصفَ عمرك، أو نصفَ مالك؛ لنزل من القمر أو المشتري شخصٌ يُخبرك بغرائب أحوالهما، ويخبرك بحقيقة مستقبل أيامك؟ أظنك ترضى بالفداء. فيا للعجب؟ ترضى لدفع ما تتلهف اليه بنصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هـذا النـبي الـكريم e ويصـدِّقه إجماعُ اهل الشهود وتواتر أهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والمحققين! بينما هو يبحث عن شؤون سلطانٍ، ليس القمر في مملكته إلاّ كذباب يطير حول فراش، وهذا يحوم حول سراج من بين ألوف القناديل التي أسرجها في منزل - من بين ألوف منازله - أعدّه لضيوفه.. وكذا يخبر عن عالمٍ هو محل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، بحيث لو انفلقت الارضُ وتطايرت جبالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار غرائب ذلك الانقلاب. فإن شئت فاستمع من لسانه أمثال السور الجليلة:
} اِذا الشَّمْسُ كُوِّرتْ{ و } اِذا السّمآء انْفَطَرَتْ{ و} اِذا زُلْزِلَت الأرضُ زِلْزَالَها{ و} الْقارعة{ .
وكذا يخبر بصدق عن مستقبل، ليس مستقبل الدنيا بالنسبة اليه إلا كقطرة سراب بلا طائل بالنسبة الى بحر بلا ساحل. وكذا يبشّر عن شهود بسعادة، ليست سعادة الدنيا بالنسبة اليها الاّ كبرقٍ زائلٍ بالنسبة الى شمس سرمدية.
o الرشحة الحادية عشرة:
ان تحت حجاب هذه الكائنات - ذات العجائب والأسرار - تنتظرنا أمورٌ أعجب. ولابدَّ للإخبار عن تلك العجائب والخوارق شخصٌ عجيبٌ خارقٌ يُستَشفّ من أحواله أنه يشاهِد ثم يَشهد، ويَبصُر ثم يُخبر.
نعم! نشاهد من شؤونه واطواره أنه يشاهد ثم يشهَد فيُنذر ويبشر. وكذا يُخبر عن مرضيات رب العالمين - الذي غمرنا بنعمه الظاهرة والباطنة - ومطالبه منا وهكذا...
فيا حسرة على الغافلين! ويا خسارة على الضالين! ويا عجبا من بلاهة اكثر الناس! كيف تعامَوا عن هذا الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة؟ لا يهتمون بكلام هذا النبي الكريم e مع أن من شأن مِثله أن تُفدى له الأرواحُ ويُسرع اليه بترك الدنيا وما فيها؟
o الرشحة الثانية عشرة:
اعلم أن هذا النبي الكريم e المشهود لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية، كما أنه برهانٌ ناطق صادق على الوحدانية، ودليل حقٍ بدرجة حقانية التوحيد، كذلك هو برهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الأبدية؛ بل كما أنه بدعوته وبهدايته سببُ حصول السعادة الأبدية ووسيلة وصولها، كذلك بدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة الأبدية ووسيلة ايجادها ..
فإن شئت فانظر اليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وسعتها صيّرت هذه الجزيرة بل الارض مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر انه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجة كأنه هو امامٌ في محراب عصره واصطفَّ خلفَه، مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم(عليه السلام) الى هذا العصر الى آخر الدنيا في صفوف الاعصار مؤتميّن به ومؤمِّنين على دعائه. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة.. فها هو يدعو لحاجةٍ شديدة عظيمة عامة بحيث تشترك معه في دعائه الأرضُ بل السماء بل كل الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: نعم يا ربنا تقبّل دعاءه؛ فنحن ايضاً بل مع جميع ما تجلّى علينا من أسمائك نطلب حصولَ ما يطلب هو.. ثم انظر الى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرع؛ بافتقار عظيم، في اشتياق شديد، وبحزن عميق، في محبوبية حزينة؛ بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركها في دعائه. ثم انظر لأي مقصد وغاية يتضرع؟ ها هو يدعو لمقصد لولا حصول ذاك المقصد لسقط الانسانُ، بل العالم، بل كل المخلوقات الى أسفل سافلين ، لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقّى الموجودات الى مقامات كمالاتها.. ثم انظر كيف يتضرع باستمداد مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرش والسموات، ويهيّج وَجْدها، حتى كأن العرشَ والسموات يقول: آمين اللّهم آمين.. ثم انظر ممن يطلب مسؤلَه؛ نعم! يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمَع أخفى دعاء من أخفى حيوان في أخفى حاجة؛ إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياةٍ في أدنى غايةٍ، اذ يوصله اليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويكرم ويرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم. لا يبقى ريب في أن هذه التربية والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم.
o الرشحة الثالثة عشرة:
فيا للعجب!.. ما يطلب هذا الذي قام على الأرض، وجَمَع خلفه جميع افاضل بني آدم ورفع يديه متوجهاً الى العرش الاعظم يدعو دعاءً يؤمّن عليه الثقلان. ويُعلَم من شؤونه أنه شرفُ نوع الانسان، وفريدُ الكون والزمان، وفخرُ هذه الكائنات في كل آن، ويستشفع بجميع الاسماء القدسية الإلهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعو وتطلب تلك الأسماء عينَ ما يطلب هو. فاستمع! ها هو يطلب البقاء واللقاء والجنة والرضا. فلو لم يوجد مالا يعد من الأسباب الموجبة لإعطاء السعادة الأبدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات - المتوقف كونها رحمة وعناية وحكمة وعدالة على وجود الآخرة - وكذا جميع الأسماء القدسية أسباباً مقتضية لها، لكفى دعاء هذا الشخص النوراني لأن يبني ربُه له ولأبناء جنسه الجنة، كما يُنشىء لنا في كل ربيع جناناً مزينة بمعجزات مصنوعاته. فكما صارت رسالته سبباً لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سبباً لفتح دار الآخرة للمكافآت والمجازاة.
فهل يمكن أن يتداخل في هذا الانتظام الفائق، وفي هذه الرحمة الواسعة، وفي هذه الصنعة الحسنة بلا قصور، وفي هذا الجمال بلا قبح، بدرجة أنطق أمثال الغزالي بـ ((ليس في الامكان أبدع مما كان)).. وأن تتغير هذه الحقائق بقبح خشين، وبظلم موحش، وبتشوش عظيم، أي بعدم مجئ الآخرة؟ إذ سماع أدنى صوت من أدنى خلق في أدنى حاجة وقبولها بأهمية تامة، مع عدم سماع أرفع صوت ودعاء في أشد حاجة، وعدم قبول أحسن مسؤول، في أجمل أمل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح وقصور لا يساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلاّ.. لا يقبل مثل هذا الجمال المشهود بلا قصور مثل هذا القبح المحض.
فيا رفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك ما رأيت؟ فإن أردت الإحاطة فلا يمكن، بل لو بقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما احطنا ولا مللنا من النظر بجزء واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب اجراآته..
فلنرجع القهقرى، ولننظر عصراً عصراً، كيف اخضرت تلك العصور واستفاضت من فيض هذا العصر؟ نعم، ترى كل عصر نمر عليه قد انفتحت أزاهيرُه بشمس عصر السعادة، وأثمر كلُ عصر من امثال أبي حنيفة والشافعي وأبي يزيد البسطامي وجنيد والشيخ عبد القادر الكيلاني.. والامام الغزالي والشاه النقشبندي والامام الرباني ونظائرهم ألوف ثمراتٍ منوراتٍ من فيض هداية ذلك الشخص النوراني. فلنؤخر تفصيلات مشهوداتنا في رجوعنا الى وقت آخر، ونصلّي ونسلّم على ذلك الذات النوراني الهادي، ذي المعجزات بصلوات وسلام تشير الى قسم من معجزاته:
من اُنزل عليه القرآن الحكيم من الرحمن الرحيم من العرش العظيم.
على سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد حسنات أمته.
على مَن بشّر برسالته التوراة والانجيل والزبور والزبر.
وبشّر بنبوّته الارهاصات وهواتف الجن واولياء الانس وكواهن البشر وانشقّ باشارته القمر.. سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد أنفاس أمته.
على من جاءت لدعوته الشجرُ، ونزل سرعةً بدعائه المطر، واظلّته الغمامة من الحر، وشبع من صاعٍ من طعامه مآتٌ من البشر، ونبع الماء من بين أصابعه ثلاث مرّات كالكوثر، وانطق الله له الـضب والظبي والذئب والجذع والذراع والجمل والجبل والحجر والمدر والشجر..
صاحب المعراج وما زاغ البصر..
سيدنا وشفيعنا محمد ألف ألف صلاة وسلام بعدد كل الحروف المتشكلة في الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول الى آخر الزمان واغفر لنا وأرحمنا يا إلهنا بكل صلاة منها.. آمين.
[إعلم: إن دلائل النبوة الأحمدية لا تعدّ ولا تحدّ، ولقد صنّف في بيانها أعاظم المحققين. وأنا مع عجزي وقصوري قد بينّت شعاعاتٍ من تلك الشمس في رسالة تركية مسّماة بـ((شعاعات من معرفة النبي e )) وفي ((المكتوب التاسع عشر)). وكذا بينت اجمالاً وجوه إعجاز معجزته الكبرى – أي القرآن – وقد اشرتُ بفهمي القاصر الى أربعين وجهاً من وجوه أعجاز القرآن في رسالة ((اللوامع))، وقد بينت من تلك الوجوه واحداً وهو البلاغة الفائقة النظمية في مقدار أربعين صحيفة من تفسيري العربي المسمى بـ ((اشارات الاعجاز)). فإن شئت فارجع الى هذه الكتب الثلاثة..].
o الرشحة الرابعة عشرة:
اعلم! ان القرآن الكريم الذي هو بحر المعجزات والمعجزة الكبرى يثبت النبوة الأحمدية والوحدانية الإلهية إثباتاً، ويقيم حججاً ويسوق براهين ويبرز أدلة تغني عن كل برهان آخر.
فنحن هنا سنشير الى تعريفه، ثم نشير الى لمعاتٍ من اعجازه تلك التي اثارت تساؤلاً لدى البعض.
فالقرآن الحكيم الذي يعرّف ربّنا لنا:
هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّر كتاب العالم.. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والارض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المـُضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينة المخاطبات الازلية السبحانية والالتفاتات الابدية الرحمانية... وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الاسلامي.. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي.. وكذا هو قولٌ شارحٌ وتفسير واضحٌ وبرهان قاطعٌ وترجمان ساطعٌ لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالم الانساني.. وكالماء وكالــضياء للأنسانية الكبرى التي هي الاسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي الى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للأنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر، وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الانسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل. حتى انه ابرز لمشرب كل واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلكِ كل واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل.
فانظر الـى بيان لمعة الاعـجاز في تكرارات القرآن التي يتوهمها القاصرون نقصاً في البلاغة.
اعلم! أن القرآن لأنه كتاب ذكر، وكتاب دعاء، وكتاب دعوة، يكون تكراره أحسن وأبلغ بل ألزم، وليس كما ظنّه القاصرون، إذ الذكر يُكرَّر، والدعاء يردَّد. والدعوة تؤكَّد. إذ في تكرير الذكر تنويرٌ وفي ترديد الدعاء تقريرٌ وفي تكرار الدعوة تأكيدٌ.
واعلم انه لا يمكن لكلِ أحدٍ في كل وقتٍ قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحدٍ في كل وقت. فلهذا أدْرَجَ الحكيمُ الرحيم اكثر المقاصد القرآنية في اكثر سورٍٍ؛ لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كلُ سورة قرآناً صغيراً، فسهّل السبيلَ لكل أحدٍ، دون أن يَحْرُمَ أحداً، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى عليه السلام.
اعلم! أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفةٌ في الأوقات؛ كذلك الحاجات المعنوية الأنسـانية ايضاً مختلفة الأوقـات. فالى قسـمٍ في كل آن كـ(هو الله) للروح - كحاجة الجسم الى الهواء - والى قسم في كل ساعة كـ(بسم الله) وهكذا فقس.
فتكرار الآيات والكلمات اذن للدلالة على تكرّر الاحتياج، وللاشارة الى شدة الاحتياج اليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج الى تلك الأغذية المعنوية.
اعلم! أن القرآن مؤسسٌ لهذا الدين العظيم المتين، وأساسات لهذا العالم الاسلامي، ومقلِّبٌ لاجتماعيات البشر ومحوّلها ومبدّلها. وجواب لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة للبشرية بألسنة الأقوال والأحوال.. ولابدَّ للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد.
اعلم! أن القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب الى الايمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول الى معرفتها. فلابدَّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.
اعلم! ان لكل آيةٍ ظهراً وبطناً وحدّاً ومَطلعاً، ولكل قصةٍ وجوهاً وأحكاماً وفوائد ومقاصد، فتُذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي اُخرى لآخر وهكذا. فعلى هذا لا تكرار إلاّ في الصورة.
اما إجمال القرآن الكريم بعض المسائل الكونية وإبهامه في بعض آخر فهو لمعة اعجاز ساطع وليس كما توهمه أهلُ الألحاد من قصور ومدار نقد.
u فإن قلت:
لأي شئ لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة؟ فَيَدع بعض المسائل مجملاً ويذكر أخرى ذكراً ينسجم مع شعور العوام وافكارهم فلا يمسّها بأذى ولا يرهقها بل يذكرها سلساً بسيطاً في الظاهر؟
نقول جواباً:
لأن الفلسفة عَدِلتْ عن طريق الحقيقة وضلَّت عنها، وقد فهمتَ حتماً من الدروس والكلمات السابقة أن القرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطراداً، للاستدلال على ذات الله وصفاته واسمائه الحسنى، أي يُفهم معاني هذا الكتاب، كتاب الكون العظيم كي يعرِّف خالقه.
أي أن القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها. فضلاً عن أنه يخاطب الجمهور. اما علم الحكمة (الفلسفة) فينظر الى الموجودات لنفسها، ويخاطب اهل العلم والفلسفة.
وعلى هذا، فما دام القرآن يستخدم الموجودات دليلاً وبرهاناً، فمن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظهرَ من النتيجة أمام نظر الجمهور.
ثم إن القرآن مادام مرشداً فمن شأن بلاغة الإرشاد مماشاة نظر العوام، ومراعاة حس العامةِ ومؤانسة فكر الجمهور، لئلا يتوحش نظرُهم بلا طائل ولا يتشوش فكرُهم بلا فائدة، ولا يتشرّد حسُّهم بلا مصلحة، فأبلغُ الخطاب معهم والارشاد أن يكون ظاهراً بسيطاً سهلاً لا يعجزهم، وجيزاً لا يُملّهم، مجملاً فيما لا يلزم تفصيله لهم، ويضرب بالأمثال لتقريب مادقَّ من الأمور الى فهمهم.
فلأن القرآن مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغةُ الارشاد أن لا يذكر ما يوقع الاكثرية في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري، وأن لا يغيّر بلا لزوم ما هو متعارف محسوس عندهم، وان يهمل أو يجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.
فمثلاً: يبحث عن الشمس لا للشمس، ولا عن ماهيتها، بل لِمن نورَّها وجعلها سراجاً، وعن وظيفتها بصيرورتها محوراً لانتظام الصنعة ومركزاً لنظام الخلقة، وما الانتظام والنظام إلاّ مرايا معرفة الصانع الجليل. فيعرّفنا القرانُ باراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالات فاطرها الحكيم وصانعها العليم، فيقول: } والشمسُ تجري{ ويفهـِّم بها وينبه الى تصرفات القدرة الإلهية العظيمة في اختلاف الليل والنهار وتناوب الصيف والشتاء. وفي لفت النظر اليها تنبيه السامع الى عظمة قدرة الصانع وانفراده في ربوبيته. فمهما كانت حقيقة جريان الشمس وبأي صورة كانت لا تؤثر تلك الحقيقة في مقصد القرآن في اراءة الانتظام المشهود والمنسوج معاً.
ويقول أيضاً:
} وَجَعَلَ الشمسَ سراجاً{ (نوح:16) ففي تعبير السراج تصوير العالم بصورة قصر، وتصوير الأشياء الموجودة فيه في صورة لوازم ذلك القصر، ومزيّناته، ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، واحساسٌ أنه قد أحضَرتها لضيوفه وخدّامه يدُ كريمٍ رحيم. وما الشمسُ إلاّ مأمور مسخَّر وسراج منوَّر. ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، وافهامُ إحسانه في سعة رحمته، واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته.
فالآن استمع ماذا يقول الفلسفي الثرثار في الشمس. يقول: ((هي كتلة عظيمة من المائع الناري تدور حول نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه الاجرام العظيمة المختلفة في الجسامة.. ضخامتها كذا.. ماهيتها كذا..)).
فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة غيرَ الحيرة المدهشة والدهشة الموحشة، فلم تُفِدْك كمالاً علمياً ولا ذوقاً روحياً ولا غاية إنسانية ولا فائدة دينية.
فقس على هذا لتقدّر قيمة المسائل الفلسفية التي ظاهرُها مزخرف وباطنُها جهالة فارغة. فلا يغرّنك تشعشع ظاهرها وتُعرِض عن بيان القرآن المعجز.
اللّهم اجعل القرآن شفاءً لنا ولكاتبه وأمثاله من كل داء، ومؤنساً لنا ولهم في حياتنا وبعد موتنا، وفي الدنيا قريناً، وفي القبر مؤنساً، وفي القيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وفي الجنة رفيقاً، والى الخيرات كلها دليلاً وإماماً، بفـضلك وجودك وكرمك ورحمتك يا اكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين آمين.
اللّهم صلِ وسلم على مَن اُنزل عليه الفرقان الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين ..آمين . آمين.
معجزة انشقاق القمر
[ذيل الكلمة التاسعة عشرة والحادية والثلاثين]
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
} اقتَرَبت الساعةُ وانشق القَمَر ` وإنْ يَرَوا آيةً يُعرِضوا ويقولوا سحرٌ مستمرٌ{ (القمر:1ــ 2)
ان فلاسفة ماديين – ومن يقلّدونهم تقليداً اعمى – يريدون ان يطمسوا ويخسفوا معجزة انشقاق القمر الساطع كالبدر، فيثيروا حولها اوهاماً فاسدة، اذ يقولون: ((لو كان الانشقاق قد حدث فعلاً لعرفه العالم، ولذكرته كتب التاريخ كلها!)).
الجواب: ان انشقاق القمر معجزة لإثبات النبوة، وقعت امام الذين سمعوا بدعوى النبوة وانكروها، وحدثت ليلاً، في وقت تسود فيه الغفلة، واُظهِرت آنياً، فضلاً عن ان اختلاف المطالع ووجود السحاب والغمام وامثالها من الموانع تحول دون رؤية القمر، علماً ان اعمال الرصد ووسائل الحضارة لم تكن في ذلك الوقت منتشرة؛ لذا لا يلزم ان يرى الانشقاق كلُ الناس، في كل مكان، ولا يلزم ايضاً ان يدخل كتب التاريخ.
فاستمع الآن الى نقاط خمس فقط من بين الكثير منها، تبدد باذن الله سُحبَ الاوهام التي تلبّدت على وجه هذه المعجزة الباهرة:
ا لنقطة الاولى:
ان تعنت الكفار في ذلك الزمان وذلك المحيط معلوم ومشهور تاريخاً، فعندما أعلن القرآن الكريم } وانشق القَمَر{ وبلغ صداه الآفاق، لم يجرؤ أحد من الكفار - وهم يجحدون القرآن - ان يكذّب بهذه الآية الكريمة. اي ينكر وقوع الحادثة. اذ لو لم تكن الحادثة قد وقعت فعلاً في ذلك الوقت، ولم تكن ثابتة لدى اولئك الكفار، لاندفعوا بشدة ليبطلوا دعوى النبوة، ويكذّبوا الرسول e . بينما لم تنقل كتب التأريخ والسير شيئاً من اقوال الكفار حول انكارهم حدوث الانشقاق، الا ما بيّنته الآية الكريمة } ويقولوا سحرٌ مستمرٌ{ وهو ان الذين شاهدوا المعجزة من الكفار قالوا: هذا سحر فابعثوا الى أهل الآفاق حتى تنظروا أرأوا ذلك أم لا؟. ولما حان الصباح أتت القوافل من اليمن وغيرها فسألوهم، فأخبروهم: انهم رأوا مثل ذلك. فقالوا: إن سحر يتيم ابي طالب قد بلغ السماء!
النقطة الثانية:
لقد قال معظم ائمة علم الكلام، من امثال سعد التفتازاني: ((ان انشقاق القمر متواتر، مثل فوران الماء من بين اصابعه الشريفة e وارتواء الجيش منه، ومثل حنين الجذع من فراقه e الذي كان يستند اليه اثناء الخطبة، وسماع جماعة المسجد لأنينه. اي ان الحادثة نقلته جماعة غفيرة عن جماعة غفيرة يستحيل تواطؤهم على الكذب، فالحادثة متواترة تواتراً قطعياً كظهور المذنب قبل الف سنة وكوجود جزيرة سرنديب التي لم نرها)).
وهكذا ترى أن إثارة الشكوك حول هذه المسألة القاطعة وامثالها من المسائل المشاهدة شهوداً عياناً انما هي بلاهة وحماقة، اذ يكفي فيها انها من الممكنات وليست مستحيلاً.
علماً ان انشقاق القمر ممكن كانفلاق الجبل ببركان.
النقطة الثالثة:
ان المعجزة تأتي لأثبات دعوى النبوة عن طريق اقناع المنكرين، وليس ارغامهم على الايمان. لذا يلزم اظهارها للذين سمعوا دعوى النبوة، بما يوصلهم الى القناعة والاطمئنان الى صدق النبوة. أما أظهارها في جميع الاماكن، أو أظهارها اظهاراً بديهياً بحيث يضطر الناس الى القبول والرضوخ فهو منافٍ لحكمة الله الحكيم ذي الجلال، ومخالف ايضاً لسر التكليف الإلهي. ذلك لأن سر التكليف الإلهي يقتضي فتح المجال امام العقل دون سلب الاختيار منه.
فلو كان الخالق الكريم قد ترك معجزة الانشقاق باقية لساعتين من الزمان، واظهرها للعالم اجمع ودخلت بطون كتب التاريخ كما يريدها الفلاسفة لكان الكفار يقولون انها ظاهرة فلكية معتادة. وما كانت حجة على صدق النبوة، ولا معجزة تخص الرسول الاعظم e . او لكانت تصبح معجزة بديهية ترغم العقل على الايمان وتسلبه من الاختيار وعندئذٍ تتساوى ارواح سافلة كالفحم الخسيس من امثال ابي جهل، مع الارواح العالية الصافية كالالماس من امثال ابي بكر الصديق رضي الله عنه، اي لكان يضيع سر التكليف الإلهي.
ولأجل هذا فقد وقعت المعجزة آنياً، وفي الليل، وحين تسود الغفلة، وغدا اختلاف المطالع والغمام وامثالها حُجباً امام رؤية الناس لها. فلم تدخل بطون كتب التاريخ.
النقطة الرابعة:
ان هذه المعجزة التي وقعت ليلاً، وآنياً، وعلى حين غفلة، لا يراها كل الناس دون شك في كل مكان. بل حتى لو ظهرت لبعضهم، فلا يصدِّق عينه، ولوصدّقها، فان حادثة كهذه مروية من شخص واحد لا تكون ذات قيمة للتاريخ.
ولقد ردّ العلماء المحققون ما زيد في رواية المعجزة من أن القمر بعد انشقاقه قد هبط الى الارض! قالوا: ربما ادخل هذه الزيادة بعض المنافقين ليسقطوا الرواية من قيمتها ويهونوا من شأنها.
ثم ان في ذلك الوقت: كانت سُحب الجهل تغطى سماء انكلترا، والوقت على وشك الغروب في اسبانيا، وامريكا في وضح النهار، والصباح قد تنفس في الصين واليابان.. وفي غيرها من البلدان هناك موانع اخرى للرؤية. فلا تشاهد هذه المعجزة العظيمة فيها.
فاذا علمت هذا فتأمل في كلام الذي يقول: ((ان تأريخ انكلترا والصين واليابان وامريكا وامثالها من البلدان لا تذكر هذه الحادثة، اذن لم تقع!)). اي هذرٍ هذا.. ألا تباً للذين يقتاتون على فتات اوربا..
النقطة الخامسة:
ان انشقاق القمر ليس حادثة حدثت من تلقاء نفسها، بناء على اسباب طبيعية وعن طريق المصادفة! بل أوقعها الخالق الحكيم - رب الشمس والقمر - حدثاً خارقاً للسنن الكونية، تصديقاً لرسالة رسوله الحبيب e ، واعلاناً عن صدق دعوته، فابرزه سبحانه وتعالى وفق حكمته وبمقتضى سر الارشاد والتكليف وحكمة تبليغ الرسالة، وليقيم الحجة على من شاء من المشاهدين له، بينما اخفاه - اقتضاء لحكمته سبحانه ومشيئته - عمن لم تبلغهم دعوة نبيه e من الساكنين في اقطار العالم، وحَجَبه عنهم بالغيوم والسحاب وباختلاف المطالع وعدم طلوع القمر، أو شروق الشمس في بعض البلدان وانجلاء النهار في اخرى وغروب الشمس في غيرها.. وامثالها من الاسباب الداعية الى حَجب رؤية الانشقاق.
فلو اُظهرت المعجزة الى جميع الناس في العالم كله فإما انها كانت تبرز لهم نتيجة اشارة الرسول الاعظم e واظهاراً لمعجزة نبوية، وعندها تصل الى البداهة، اي يضطر الناس كلهم الى التصديق، اي يُسلب منهم الاختيار، فيضيع سر التكليف، بينما الايمان يحافظ على حرية العقل في الاختيار ولا يسلبها منه.. أو أنها تبرز لهم كحادثة سماوية محضة، وعندها تنقطع صلتها بالرسالة الأحمدية ولا تبقى لها مزيّة خاصة.
الخلاصة:
ان انشقاق القمر لا ريب في امكان وقوعه. فلقد أثبت اثباتاً قاطعاً. وسنشير هنا الى وقوعه بستة براهين قاطعة(1) من بين الكثير منها، وهي: اجماع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين وهم العدول. واتفاق العلماء المحققين من المفسرين لدى تفسيرهم } وانشق القَمَر{ ونقل جميع المحدّثين الصادقين في رواياتهم وقوعه بأسانيد كثيرة وبطرق عديدة(2). وشهادة جميع اهل الكشف والالهام من الأولياء الصادقين الصالحين و تصديق ائمة علم الكلام المتبحرين رغم تباين مسالكهم ومشاربهم. وقبول الامة التي لا تجتمع على ضلالة كما نص عليه الحديث الشريف.
كل ذلك يبين انشقاق القمر ويثبته اثباتاً قاطعاً يضاهي الشمس في وضوحها.
حاصل الكلام:
كان البحث الى هنا باسم التحقيق العلمي، إلزاماً للخصم. اما بعد هذا فسيكون الكلام باسم الحقيقة ولأجل الايمان. فقد نطق التحقيق العلمي هكذا. أما الحقيقة فتقول:
ان خاتم ديوان النبوة e وهو القمر المنير لسماء الرسالة، وقد سمَتْ ولايةُ عبوديته الى مرتبة المحبوبية، فاظهرت الكرامة العظمى والمعجزة الكبرى بالمعراج، اي بجولان جسمٍ ارضي في آفاق السموات العلى، وتعريف اهل السموات به، فأثبتت بتلك المعجزة ولايتَه العظمى لله ومحبوبيته الخالصة له وسمّوه على اهل السموات والملأ الاعلى.. كذلك فقد شق سبحانه القمر المعلق في السماء والمرتبط مع الارض باشارة من عبده في الأرض، فاظهر لأهل الارض معجزته هذه، اثباتاً لرسالة ذلك العبد الحبيب، فعرج e الى أوج الكمالات بجناحَي الولاية والرسالة النورانيين كالفلقين المنيرين للقمر حتى بلغ قاب قوسين أو أدنى واصبح فخراً لأهل السموات ولأهل الارض معاً.
عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والتسليمات ملء الارض والسموات.
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
قطعة من ذيل رسالة ((المعجزات الأحمدية))
لِمَ اختُصَّ بهذا المعراج العظيم محمدٌ e ؟
[كُتب هذا البحث – ضمن بحوث دلائل النبوة الأحمدية – جواباً عن سؤال ورد في الإشكال الأول من ثلاثة إشكالات مهمة وردت في نهاية الاساس الثالث من رسالة ((المعراج)) فهو بمثابة فهرس مختصر].
سؤال: لِمَ اختُصَّ بهذا المعراج العظيم محمدُ e ؟
الجواب: ان إشكالكم الاول هذا، قد حُلَّ مفصلاً في الكلمات الثلاثة والثلاثين ضمن كتاب الكلمات، الا اننا نشير هنا مجرد اشارة مجملة على صورة فهرس موجز الى كمالات النبي الكريم e ، ودلائل نبوته، وانه هو الأحرى بهذا المعراج العظيم.
اولاً: ان الكتب المقدسة، التوراة والانجيل والزبور، رغم تعرضها الى التحريفات طوال العصور، وقد استنبط في عصرنا هذا العالم المحقق حسين الجسر عشراً ومائة بشارة منها تخص نبوة الرسول الكريم e ، واثبتها في كتابه الموسوم ((الرسالة الحميدية)).
ثانياً: انه ثابت تاريخياً - ورويت بروايات صحيحة - بشارات كثيرة بشّر بها الكهان من امثال الكاهنين المشهورين: شِق وسطيح، قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم واخبرا انه نبي آخر الزمان.
ثالثاً: ما حدث ليلة مولده e من سقوط الاصنام في الكعبة وانشقاق ايوان كسرى وامثالها من مئات الارهاصات والخوارق المشهورة في كتب التأريخ.
رابعاً: نبعان الماء من بين اصابعه الشريفة وسقيه الجيش به، وانين الجذع في المسجد وانشقاق القمر كما نصت عليه الآية الكريمة } وانشق القمر{ وامثالها من المعجزات الثابتة لدى العلماء المحققين والتي تبلغ الألف قد اثبتتها كتب السير والتأريخ.
خامساً: لقد اتفق الاعداء والاولياء بما لا ريب فيه ان ما يتحلى به e من الاخلاق الفاضلة هو في اسمى الدرجات، وان ما يتصف به من سجايا حميدة في دعوته هو في اعلى المراتب، تشهد بذلك معاملاته وسلوكه مع الناس. وان شريعته الغراء تضم اكمل الخصال الحسنة، تشهد بذلك محاسن الاخلاق في دينه القويم.
سادساً: لقد اشرنا في الاشارة الثانية من الكلمة العاشرة الى ان الرسول الكريم e هو الذي اظهر اعلى مراتب العبودية واسماها بالعبودية العظيمة في دينه تلبية لأرادة الله في ظهور الوهيته بمقتضى الحكمة.
وانه هو كذلك -كما هو بديهي - اكرم دالّ على جمالٍ في كمال مطلق لخالق العالم وافضل معرّف لبّى ارادة الله سبحانه في اظهار ذلك الجمال بوساطة مبعوث كما تقتضيه الحكمة والحقيقة.
وانه هو كذلك - كما هو مشاهد - اعظم دالّ على كمال صنعةٍ في جمال مطلق لصانع العالم، وباعظم دعوة واندى صوت، فلبّى ارادة الله جل وعلا في جلب الانظار الى كمال صنعته والاعلان عنها.
وانه هو كذلك - بالضرورة - اكمل مَن أعلن عن جميع مراتب التوحيد، فلبّى ارادة رب العالمين في اعلان الوحدانية على طبقات كثرة المخلوقات.
وانه هو كذلك - بالضرورة - أجلى مرآة وأصفاها لعكس محاسن جمال مالك العالم ولطائف حُسنه المنزّه - كما تشير اليه آثاره البديعة - وهو أفضل مَن أحبَّه وحببَّه، فلبّى ارادته سبحانه في رؤية ذلك الجمال المقدس واراءته بمقتضى الحقيقة والحكمة.
وأنه هو كذلك - بالبداهة - اعظم مَن عرَّف ما في خزائن الغيب لصانع هذا العالم - تلك الخزائن الملأى بأبدع المعجزات واثمن الجواهر - وهو أفضل مَن اعلن عنها ووصفها، فلبّى ارادته سبحانه في اظهار تلك الكنوز المخفية واعلام كمالاته بها.
وأنه هو كذلك - بالبداهة - اكمل مرشد بالقرآن الكريم للجن والانس بل للروحانيين والملائكة، واعظم مَن بيّن معاني آثار صانع هذه الكائنات التي زيّنها باروع زينة ومكّن فيها ارباب الشعور من مخلوقاته لينعموا بالنظر والتفكر والاعتبار، فلّبى ارادته سبحانه في بيان معاني تلك الآثار وتقدير قيمتها لأهل الفكر والمشاهدة بمقتضى الحكمة.
وانه هو كذلك - بالبداهة - احسن من كشف بحقائق القرآن عن مغزى القصد من تحولات الكائنات والغاية منها، واكمل مَن حلّ اللغز المحير في الموجودات. وهو اسئلة ثلاثة معضلة: مَن انت؟ ومن اين؟ والى اين؟ فلبّى ارادته سبحانه في كشف ذلك الطلسم المغلق لذوي الشعور بوساطة مبعوث.
وانه هو كذلك - بالبداهة - اكمل مَن بيّن المقاصد الإلهية بالقرآن الكريم وأحسن مَن وضح السبيل الى مرضاة رب العالمين، فلبّى ارادته سبحانه في تعريف ما يريده من ذوي الشعور وما يرضاه لهم بوساطة مبعوث، بعدما عرّف نفسه لهم بجميع مصنوعاته البديعة وحببها اليهم بما أسبغ عليهم من نعَمه الغالية.
وانه هو كذلك - بالبداهة - اعظم من استوفى مهمة الرسالة بالقرآن الكريم وادّاها أفضل اداء في اسمى مرتبة وابلغ صورة واحسن طراز، فلبّى ارادة رب العالمين في صرف وجه هذا الانسان من الكثرة الى الوحدة ومن الفاني الى الباقي، بوساطة مرشد ذلك الانسان الذي خلقه سبحانه ثمرةً للعالم ووهب له من الاستعدادات ما يسع العالم كله وهيأه للعبودية الكلية وابتلاه بمشاعر متوجهة الى الكثرة والدنيا.
وحيث ان اشرف الموجودات هم ذوو الحياة، وانبل الأحياء هم ذوو الشعور، واكرم ذوي الشعور هم بنو آدم الحقيقيون الكاملون، لذا فالذي ادّى من بين بني الانسان المكرم تلك الوظائف المذكورة آنفاً وأعطى حقها من الاداء في افضل صورة واعظم مرتبة من مراتب الاداء، لا ريب، انه سيعرج - بالمعراج العظيم - الى قاب قوسين أو أدنى، وسيطرق باب السعادة الابدية وسيفتح خزائن الرحمة الواسعة، وسيرى حقائق الايمان الغيبية رؤية شهود، ومن ذا يكون غير ذلكم النبي الكريم e ؟
سابعاً: يجد المتأمل في هذه المصنوعات المبثوثة في الكون أن فيها فعل التحسين في منتهى الجمال وفعل التزيين في منتهى الروعة، فبديهي أن مثل هذا التحسين والتزيين يدلان على وجود ارادة التحسين وقصد التزيين لدى صانع تلك المصنوعات فتلك الارادة الشديدة تدل بالضرورة على وجود رغبة قوية سامية ومحبة مقدسة لدى ذلك الصانع نحو صنعته...
لذا فمن البديهي أن يكون أحب مخلوق لدى الخالق الكريم الذي يحب مصنوعاته هو مَن يتصف بأجمع تلك الصفات، ومَن يُظهر في ذاته لطائف الصنعة اظهاراً كاملاً، ومن يعرفها ويعرِّفها، ومَن يحبِّب نفسه ويستحسن - باعجاب وتقدير - جمال المصنوعات الاخرى.
فمَن الذي جعل السموات والارض ترن بصدى ((سبحان الله... ما شاء الله... الله اكبر)) من اذكار الاعجاب والتسبيح والتكبير تجاه ما يرصّع المصنوعات من مزايا تزينّها ومحاسن تجمّلها ولطائف وكمالات تنورها؟ ومن الذي هزّ الكائنات بنغمات القرآن الكريم وجعل البر والبحر منجذباً في شوق عارم من الاستحسان والتقدير في تفكر واعلان وتشهير، في ذكر وتهليل؟ من ذا يكون تلك الذات المباركة غير محمد الأمين e ؟.
فمثل هذا النبي الكريم e الذي يضاف الى كفة حسناته في الميزان مثل ما قامت به امتُه من حسنات بسر ((السبب كالفاعل))... والذي تضاف الى كمالاته المعنوية الصلوات التي تؤديها الامة جميعاً.. والذي يُفاض عليه من الرحمة الإلهية ومحبتها ما لا يحدهما حدود فضلاً عما يناله من ثمرات ما اداه من مهمة رسالته من ثواب معنوي عظيم.. نعم، فمثل هذا النبي العظيم e لا ريب أن ذهابه الى الجنة، والى سدرة المنتهى، والى العرش الاعظم، فيكون قاب قوسين أو أدنى، أنما هو عين الحق، وذات الحقيقة ومحض الحكمة(1).
المرتبة السادسة عشرة
من رسالة ((الاية الكبرى))
التي تبحث عن ((الرسالة الأحمدية))
[لمناسبة المقام اُلحقت هذه المرتبة هنا]
ثم خاطب ذلك السائح في الدنيا عقله قائلاً: ما دمت أبحث عن مالكي وخالقي باستنطاق موجودات الكون هذا. فمن الأولى لي أن أزور مَن هو اكمل انسان في الوجود، واعظم من يقود الى الخير - حتى بتصديق أعدائه - وأعلاهم صيتاً وأصدقهم حديثاً وأسماهم منزلة وأنورهم عقلاً، ألا وهو محمد e الذي أضاء بفضائله وبقرآنه أربعة عشر قرناً من الزمان.. ولأجل أن أحظى بزيارته الكريمة واستفسر منه ما أبحث عنه، ينبغي ان نذهب معاً الى خير القرون الى عصر السعادة.. عصر النبوة... فدخل بعقله الى ذلك العصر فرأى:
ان ذلك العصر قد صار به e عصر سعادة للبشرية حقاً. لأنه e قد حوّل في زمن يسير بالنور الذي أتى به قوماً غارقين في أشد أمية، وأعرق بداوة حوّلهم الى أساتذة العالم وسادته.
وكذا خاطب عقله قائلاً: ((علينا قبل كل شئ ان نعرف شيئاً عن عظمة هذه الذات المعجزة، وذلك من أحقية أحاديثه، وصدق أخباره. ثم نستفسر منه عن خالقنا سبحانه)).. فباشر بالبحث. فوجد على صدق نبوته من الأدلة القاطعة الثابتة ما لا يعد ولا يحصى، ولكنه خلص الى تسع منها:
اولها: هو اتصافه e بجميع السجايا الفاضلة والخصال الحميدة، حتى شهد بذلك غرماؤه.. وظهور مئات المعجزات منه؛ كانشقاق القمر الذي انشق الى نصفين باشارة من أصبعه كما نص عليه القرآن } وانشق القمر{ ، وانهزام جيش الاعداء بما دخل أعينهم جميعاً من التراب القليل الذي رماه عليهم بقبضته. كما نصت عليه الاية الكريمة: } وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى{ (الانفال:17) وارتواء أصحابه من الماء النابع كالكوثر من بين أصابعه الخمسة المباركة عندما اشتد بهم العطش.. وغيرها من مئات المعجزات التي ظهرت بين يديه، والمنقولة إلينا نقلاً صحيحاً قاطعاً أو متواتراً، فاستطلعها السائح الى (المكتوب التاسع عشر) أي رسالة ((المعجزات الأحمدية)) تلك الرسالة الخارقة ذات الكرامة المتضمنة لأكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزاته e بدلائلها القاطعة واسانيدها الموثوقة.
ثم حدّث نفسه قائلاً: (ان من كان ذا ((أخلاق حسنة)) بهذا القدر و ((فضائل)) الى هذا الحد، و ((معجزات)) باهرة بهذه الكثرة، فلا جرم انه صاحب أصدق حديث ومن ثم لا يمكن ابداً ـ وحاشاه - ان يتنازل الى الحيلة والكذب والتمويه التي هي دأب الفاسدين).
ثانيها: كون القرآن الذي بيده e معجزاً من سبعة أوجه، ذلك الامر الصادر من مالك الكون الذي يسلّم به ويصدّقه أكثر من ثلاثمائة مليونٍ من البشر في كل عصر. ولما كانت (الكلمة الخامسة والعشرون) اي رسالة ((المعجزات القرآنية)) وهي شمس رسائل النور قد أثبتت بدلائل قوية أن هذا القرآن الكريم معجز من أربعين وجهاً، وانه كلام رب العالمين، لذا أحال السائح ذلك الى تلك الرسالة المشهورة لبيانها المفصل للاعجاز. ثم قال: ان الأمين على كلام الله، والمترجم الفعلي له، والمبلغ لهذا النبأ العظيم الى الناس كافة، وهو الحق بعينه والحقيقة بذاتها، لا يمكن ان يصدر منه كذب قط، ولن يكون موضع شبهة ابداً.
ثالثها: انه e قد بعث بشريعة مطهرة، وبدين فطري، وبعبودية خالصة، وبدعاء خاشع، وبدعوة شاملة، وبايمان راسخ، لا مثيل لما بعث به ولن يكون، وما وجد أكمل منه ولن يوجد.
لأن ((الشريعة)) التي تجلّت من أمّي e وادارت خمس البشرية على اختلافها منذ أربعة عشر قرناً ادارة قائمة على الحق والعدل بقوانينها الدقيقة الغزيرة، لا تقبل مثيلاً أبداً.
وكذا ((الاسلام)) الذي صدر من أفعال مَن هو أمّي e ومن أقواله، ومن أحواله، هو رائد ثلاثمائة مليون من البشر ومرجعهم في كل عصر، ومعلم لعقولهم ومرشد لها، ومنوّر لقلوبهم ومهذّب لها، ومربٍّ لنفوسهم ومزكٍّ لها، ومدار لإنكشاف أرواحهم ومعدن لسموها، لم يأت ولن يأتي له مثيل.
وكذا تفوقه e في جميع انواع ((العبادات)) التي يتضمنها دينه، وتقواه العظيمة أكثر من أي أحد كان، وخشيته الشديدة من الله ومجاهدته المتواصلة ورعايته الفائقة لأدق أسرار العبودية حتى في أشد الأحوال والظروف. وقيامه e بتلك العبودية الخالصة، دون أن يقلد أحداً وبكل معانيها مبتدئاً، وبأكمل صورة، موحداً الابتداء والانتهاء، لا شك لم يُرَ ولن يُرَى له مثيل.
وكذا فانه يصف، بالجوشن الكبير - الذي هو واحد من آلاف أدعيته ومناجاته - يصف ربه بمعرفة ربانية سامية لم يبلغ العارفون والأولياء جميعاً تلك المرتبة من المعرفة، ولا درجة ذلك الوصف منذ القدم مع تلاحق الافكار.. مما يظهر أنه لا مثيل له في ((الدعاء)). ومن ينظر الى الايضاح المختصر لفقرة واحدة من بين تسع وتسعين فقرة للجوشن الكبير، وذلك في مستهل رسالة ((المناجاة)) لا يسعه إلاّ القول انه لا مثيل لهذا الدعاء الرائع (الجوشن) الذي يمثل قمة المعرفة الربانية.
وكذا فان اظهاره في ((تبليغ الرسالة)) وفي دعوته الناس الى الحق من الصلابة والثبات والشجاعة ما لا يقاربها أحد، فلم يداخله - ولو بمقدار ذرة - أيّ أثرٍ للتردد ولا ساوره القلق قط، ولم ينل الخوف منه شيئاً، رغم معاداة الدول الكبرى والاديان العظمى له - وحتى قومه وقبيلته وعمه ناصبوه العداء الشديد - فتحدى وحده الدنيا بأسرها، ونصره الله وأعزّه فكلل هامة الدنيا بتاج الاسلام، فمَن مثل محمد e في تبليغ رسالات الله؟..
وكذا حمله ((ايماناً قوياً راسخاً، ويقيناً جازماً خارقاً، وانكشافاً للفطرة معجزاً، واعتقاداً سامياً ملأ العالم نوراً)) فلم تتمكن أن تؤثر فيه جميع الافكار والعقائد وحكمة الحكماء وعلوم الرؤساء الروحانيين السائدة في ذلك العصر، ولو بشبهة، أو بتردد، أو بضعف، أو بوسوسة. نعم، لم تتمكن ان تؤثر لا في يقينه، ولا في اعتقاده ولا في اعتماده على الله، ولا في اطمئنانه اليه، مع معارضتها له ومخالفته إياه، وانكارها عليه. زد على هذا استلهام جميع الذين ترقوا في المعنويات والمراتب الايمانية من أهل الولاية والصلاح، وفي مقدمتهم الصحابة الكرام، واستفاضتهم دوماً من مرتبته الايمانية، ورؤيتهم له انه في أسمى الدرجات والمراتب. كل ذلك يظهر - بداهة - ان ايمانه e لا مثيل له ايضاً.
ففهم السائح، وصدّق عقله ان منَ كان صاحب هذه الشريعة السمحاء التي لامثيل لها، والاسلام الحنيف الذي لا شبيه له، والعبودية الخالصة التي لا نظير لها، والدعاء البديع الرائع، والدعوى الكونية الشاملة، والايمان المعجز، لن يكون عنده كذب قط، ولن يكون خادعاً ابداً.
الدليل الرابع: اجماع الانبياء عليهم السلام واتفاقهم على الحقائق الايمانية نفسها هو دليل قاطع على وجود الله سبحانه وعلى وحدانيته، وهو شهادة صادقة أيضاً على صدق هذا النبي e وعلى رسالته، ذلك لأن كل ما يدل على صدق نبوة اولئك الأنبياء عليهم السلام، وكل ما هو مدارٌ لنبوتهم من الصفات القدسية، والمعجزات، والمهام التي اضطلعوا بها يوجد مثلها وباكمل منها فيه e ، كما هو مصدّق تاريخاً. فاولئك الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا بلسان المقال - أي بالتوراة والانجيل والزبور والصحف التي بين أيديهم - بمجئ هذه الذات المباركة وبشروا الناس بقدومه e (حتى ان اكثر من عشرين اشارة واضحة ظاهرة من الاشارات المبشّرة لتلك الكتب المقدسة قد بُينت بياناً جلياً وأثبتت في رسالة المعجزات الأحمدية) فكما انهم قد بشروا بمجيئه e فانهميصدّقونه e بلسان حالهم - أي بنبوتهم وبمعجزاتهم - ويختمون بالتأييد على صدق دعوته اذ هو السابق الاكمل في مهمة النبوة والدعوة الى الله. فادرك السائح انهم مثلما يدلّون - أي اولئك الانبياء - بلسان المقال والاجماع على الوحدانية، فانهم يشهدون - بلسان الحال وبالاتفاق كذلك - على صدق هذا النبي الكريم e .
الدليل الخامس: ان وصول آلاف الأولياء الى الحق والحقيقة، وما نالوا من الكمالات والكرامات وما فازوا من الكشفيات والمشاهدات ليس الاّ بالاقتداء بهدي دساتير هذا النبي e ، وبتربيته، وباتباعه، وتعقّب اثره، فمثلما انهم يدلـّون جميعاً على الوحدانية فهم يشهدون بالاجماع والاتفاق على صدق هذا النبي الكريمe - أستاذهم وامامهم - وعلى أحقية رسالته. فرأى السائح ان مشاهدة هؤلاء قسماً مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من عالم الغيب بنور الولاية واعتقادهم به وتصديقهم لجميع ما اخبر به بنور الايمان له - إما بعلم اليقين أو بعين اليقين أو بحق اليقين ـــ انما تُظهر ظهوراً كالشمس: ما أصدق مرشدهم الاعظم وما احق رائدهم الاكبر e .
الدليل السادس: ان ملايين العلماء المدققين الأصفياء، والمحققين الصديقين، ودهاة الحكماء المؤمنين، ممن بلغوا أعلى المراتب بفضل ما درسوا وتتلمذوا على ما جاء به هذا النبي الكريم e - مع كونه أمياً - من الحقائق القدسية، وما نبع منها من العلوم العالية، وما كشفت عنه من المعرفة الإلهية.. ان هؤلاء جميعاً مثلما يثبتون الوحدانية التي هي الاساس لدعوته e ويصدقّونها متفقين ببراهينهم القاطعة فانهم يتفقون كذلك ويشهدون على صدق هذا المعلم الاكبر وصواب هذا الاستاذ الأعظم وعلى أحقية كلامه e . فشهادتهم هذه حجة واضحة كالنهار على صدقه وصواب رسالته، وما رسائل النور بأجزائها التي تزيد على المائة مثلاً الاّ برهان واحد فقط على صدق وصواب هذا النبي الحبيب e .
الدليل السابع: ان الجمع العظيم الذين يطلق عليهم (الآل والأصحاب) الذين هم أشهر بني البشر بعد الأنبياء فراسةً واكثرهم درايةً، واسماهم كمالاتٍ وافضلهم منزلة، واعلاهم صيتاً، واشدهم اعتصاماً بالدين، وأحدّهم نظراً... ان تحريّ هؤلاء وتفتيشهم وتدقيقهم لجميع ما خفي وما ظهر من احوال هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأفكاره وتصرفاته بحثاً بكمال اللهفة والشوق، وبغاية الدقة، وبمنتهى الجدية، ثم تصديقهم بالاتفاق والاجماع انه e هو أصدق مَن في الدنيا حديثاً، واسماهم مكانة واشدهم اعتصاماً بالحق والحقيقة. فتصديقهم هذا الذي لا يتزعزع مع ما يملكون من إيمان عميق، انما هو دليل باهر كدلالة النهار على ضياء الشمس.
الدليل الثامن: ان هذا الكون مثلما يدل على صانعه، وكاتبه، ومصوره الذي أوجده، والذي يديره، ويرتبه، ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ، أو كأنه كتاب كبير، أو كأنه معرض بديع، أو كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجود مَن يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلم ويعلـِّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات. أي يقتضي داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، واستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً. فأدرك السائح: ان الكون – من حيث هذا الاقتضاء – يدل ويشهد على صدق هذا النبي الكريم e وصوابه الذي هو أفضل من أتم هذه الوظائف والمهمات، وعلى كونه أفضل وأصدق مبعوث لرب العالمين.
الدليل التاسع: ما دام هناك وراء الحجاب مَن يُشهر كمال كونه بديعاً متقناً، بمصنوعاته هذه؛ ذات الاتقان والحكمة.. ويعرِّف نفسَه ويودّدها، بمخلوقاته غير المحدودة ذات الزينة والجمال.. ويُوجب الشكر والحمد له، بنعمه التي لا تحصى ذات اللذة والنفاسة.. ويشوّق الخلق الى العبادة نحو ربوبيته بعبودية تتسم بالحب والامتنان والشكر إزاء هذه التربية، والاعاشة العامة، ذات الشفقة والحماية (حتى انه يهيئ أطعمة وضيافات ربانية ما تُطَمئِن أدق أذواق الأفواه وجميع أنواع الاشتهاء)... ويُدين الخلق الى الايمان والتسليم والانقياد والطاعة نحو الوهيته التي يظهرها بتبديل المواسم، وتكوير الليل على النهار، واختلافهما، وأمثالها من التصرفات العظيمة، والاجراءات الجليلة، والفعالية المدهشة والخلاقية الحكيمة... ويُظهر عدالته وانتصافه بحمايته دوماً البرّ والابرار وازالته الشر والاشرار ومحقه الظالمين والمكذبين واهلاكهم بنوازل سماوية.
فلاجرم، ان احب مخلوق لدى ذلك المستتر بالغيب، وأصدق عبدٍ له هو مَن كان عاملاً خالصاً لمقاصده المذكورة آنفاً، ومَن يحل السر الأعظم في خلق الكون ويكشف لغزه، ومن يسعى دوماً باسم خالقه ويستمد القوة منه ويستعين به وحده في كل شئ فينال المدد والتوفيق منه سبحانه. ومن ذا يكون هذا غير محمد القرشي عليه الصلاة والسلام.
ثم خاطب السائح عقله: لَمّا كانت هذه الحقائق التسع شاهدة اثبات على صدق هذا النبي الكريم. فلا ريب اذآً: انه قطب شرف البشرية، ومدار افتخار العالم، وانه حري ولائق تسميته شرف بني آدم، وتلقيبه بفخر العالمين. وان ما في يده من أمر الرحمن وهو القرآن الكريم المهيمن جلال سلطانه المعنوي على نصف الارض مع ما يملك من كمالاته الشخصية وخصاله السامية يظهران: ان اعظم انسان في الوجود هو هذا النبي العظيم، فالقول الفصل اذن بحق خالقنا سبحانه هو قوله e .
فتعال يا عقلى وتأمل: ان أساس جميع دعاوى هذا النبي الكريم e ، وغاية حياته كلها، انما هي الشهادة على وجود واجب الوجود، والدلالة على وحدانيته، وبيان صفاته الجليلة، واظهار اسمائه الحسنى، واثبات كل ذلك، واعلانه، واعلامه؛ استناداً الى ما في دينه من ألوف الحقائق الراسخة الأساس والى قوة ما اظهره الله على يده مئات من معجزاته القاطعة الباهرة.
أي ان الشمس المعنوية التي تضئ هذا الكون والبرهان النيّر على وجود خالقنا سبحانه ووحدانيته، انما هو هذا النبي الكريم الملقب بـ ((حبيب الله)) e ، فهنالك ثلاثة أنواع من الاجماع عظيمة لا تخدع ولا تنخدع، تؤيد شهادته وتصدّقها:
الاجماع الاول:
اجماع الذين اشتهروا، وتميزوا في العالم باسم (آل محمد e ) تلك الجماعة النورانية التي يتقدمها الامام علي رضي الله عنه الذي قال: ((لو رُفع الحجاب ما ازددتُ يقيناً))، وخلفه الاف الأولياء العظام من ذوي البصائر الحادة والنظر الانيس للغيب من أمثال الشيخ الكيلاني (قدس سره) الذي كان ينظر ببصيرته النافذة الى العرش الاعظم واسرافيل بعظمته وهو بعد على الارض.
الاجماع الثاني:
اجماع تلك الجماعة المعروفة بالصحابة الكرام المشهورين في العالم ((رضي الله عنهم أجمعين)) وتصديقهم بالاتفاق وبايمان راسخ قوي لهذا النبي الكريم، حتى ساقهم ذلك الى التضحية والفداء بأرواحهم وأموالهم وآبائهم وعشيرتهم، وهم الذين كانوا قوماً بدواً يقطنون في محيط أمّيٍ خالٍ من مظاهر الحياة الاجتماعية والافكار السياسية، ليس لهم هدى ولا كتاب منير. وكانوا مغمورين في ظلمة عصر ((الفترة))، فصاروا في زمن يسير أساتذة مرشدين وسياسيين وحكاماً عادلين لأرقى الامم حضارة وعلماً واجتماعاً وسياسةً، فحكموا العالم شرقاً وغرباً ورفرفت رايات عدالتهم براً وبحراً.
الاجماع الثالث:
هو تصديق الجماعة العظيمة من العلماء الاجلاء الذين لا يعدون ولا يحصون، المتبحرين في علومهم والمحققين المدققين الذين نشأوا في أمته وسلكوا مسالك شتى ولهم في كل عصر آلاف من الحائزين على قصب السبق - بدهائهم - في كل علم، فتصديق هؤلاء جميعاً له بالاتفاق وبدرجة علم اليقين اجماع أي اجماع!..
فحكم السائح بان شهادة هذا النبي الامي e على الوحدانية ليست شهادة شخصية وجزئية، وانما هي شهادة عامة وكلية راسخة لا تتزعزع، ولن تستطيع أن تجابهها الشياطين كافة في أية جهة ولو اجتمعوا عليها.
وهكذا ذُكرت إشارة مختصرة لما تلقاه ذلك السائح الذي جال بعقله في عصر السعادة جوانب الحياة من تلك المدرسة النورانية في المرتبة السادسة عشرة من المقام الاول كالآتي:
((لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحدُ الأحدُ الذي دلَّ على وجوب وجوده في وحدتِهِ: فخرُ عالمٍ وشرف نوع بني آدم، بعظمةِ سلطنة قرآنِهِِ، وحشمَةِ وسعَة دينه، وكثرة كمالاتِه، وعُلويّةِ اخلاقه، حتى بتصديق أعدائِهِ. وكذا شهد وبرهن بقوةِ مئات المعجزات الظاهرات الباهرات المُصدِّقةِ، وبقوة آلاف حقائق دينه الساطعة القاطعة، باجماع آله ذوي الأنوار، وباتفاق اصحابه ذوي الأبصار، وبتوافق محُققِي أمـِّتهِ ذوي البراهين والبصائِرِ النوّارة)).

عبدالرزاق 02-03-2011 02:10 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب العشرون

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

((لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير))(1)

[ان هذه الجملة التي تلخص التوحيد، عبارة عن احدى عشرة كلمة، ولقراءتها عقب صلاتي الفجر والمغرب فضائل جمة، حتى وردت في احدى الروايات الصحيحة انها تحمل مرتبة ((الاسم الأعظم)). فلا غرو اذن أن تقطر كل كلمة من كلماتها أملاً شافياً وبشرى سارة، وان تحمل مرتبة جليلة من مراتب توحيد الربوبية، وتبين من زاوية الاسم الاعظم كبرياء الوحدانية وكمال التوحيد.

وحيث أن هذه الحقائق الواسعة الرفيعة قد وضحت بجلاء في سائر ((الكلمات)) فنحيل اليها. ونكتفي هنا بوضع فهرس لها - بناء على وعد سابق - على صورة خلاصة مجملة جداً، تتكون من ((مقامين)) و ((مقدمة))].



المقدمة

اعلم يقيناً أن اسمى غاية للخلق، واعظم نتيجة للفطرة الانسانية.. هو ((الايمان بالله)).. واعلم ان أعلى مرتبة للانسانية، وافضل مقام للبشرية.. هو ((معرفة الله)) التي في ذلك الايمان.. واعلم ان أزهى سعادة للانس والجن، وأحلى نعمة.. هو ((محبة الله)) النابعة من تلك المعرفة.. واعلم أن اصفى سرور لروح الانسان، وانقى بهجة لقلبه.. هو ((اللذة الروحية)) المترشحة من تلك المحبة.

أجل! ان جميع انواع السعادة الحقة، والسرور الخالص، والنعمة التي ما بعدها نعمة، واللذة التي لا تفوقها لذة، انما هي في ((معرفة الله)).. في ((محبة الله)). فلا سعادة، ولا مسرة، ولا نعمة حقاً بدونها.

فكل من عرف الله تعالى حق المعرفة، وملأ قلبه من نور محبته، سيكون أهلاً لسعادة لا تنتهي، ولنعمة لا تنضب، ولأنوار واسرار لا تنفد، وسينالها إما فعلاً وواقعاً أو استعداداً وقابلية. بينما الذي لا يعرف خالقه حق المعرفة، ولا يكنّ له ما يليق من حب وود، يصاب بشقاء مادي ومعنوي دائمين، ويظل يعاني من الآلام والأوهام ما لا يحصر.

نعم! ان هذا الانسان البائس الذي يتلوى ألماً من فقده مولاه وحاميه، ويضطرب من تفاهة حياته وعدم جدواها، وهو عاجز وضعيف بين جموع البشرية المنكودة.. ماذا يغنيه عما يعانيه ولو كان سلطان الدنيا كلها!!

فما اشد بؤس هذا الانسان المضطرب في دوامة حياة فانية زائلة وبين جموع سائبة من البشر ان لم يجد مولاه الحق، ولم يعرف مالكه وربه حق المعرفة! ولكن لو وجد ربه وعرف مولاه ومالكه لالتجأ الى كنف رحمته الواسعة، واستند الى جلال قدرته المطلقة.. ولتحولت له الدنيا الموحشة روضة مؤنسة، وسوق تجارة مربحة.

المقام الأول



كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.

u الكلمة الأولى: [لا إله إلا الله]

هذه الكلمة تتقطر بشرى عظيمة واملاً بهيجاً كالآتي:

ان روح الانسان المتلهفة الى حاجات غير محدودة، والمستهدفة من قبل اعداء لا يُعدّون.. هذه الروح المبتلاة بين حاجات لا تنتهي واعداء لا يحصرون، تجد في هذه الكلمة العظيمة منبعاً ثراً من الاستمداد، بما يفتح لها ابواب خزائن رحمة واسعة ترد منها ما يطمئن جميع الحاجات وتضمن جميع المطاليب.. وتجد فيها كذلك مرتكزاً شديداً ومستنداً رضياً يدفع عنها جميع الشرور، ويصرف عنها جميع الاضرار. وذلك بما تري الانسان من قوة مولاه الحق، وترشده الى مالكه القدير، وتدله على خالقه ومعبوده. وبهذه الرؤية السديدة والتعرف على الله الواحد الأحد، تنقذ - هذه الكلمة - قلب الانسان من ظلام الوحشة والاوهام، وتنجي روحه من آلام الحزن والكمد، بل تضمن له فرحاً ابدياً، وسروراً دائماً.

u الكلمة الثانية: [وحده]

هذه الكلمة تشرق املاً وتزف بشرى سارة كالآتي:

ان روح البشر، وقلبه المرهقين بل الغارقين الى حد الاختناق تحت ضغوط ارتباطات شديدة واواصر متينة مع اغلب انواع الكائنات، يجدان في هذه الكلمة ملجأ اميناً، ينقذهما من تلك المهالك والدوامات. أي أن كلمة ((وحده)) تقول معنىً:

ان الله واحد أحد، فلا تتعب نفسك - ايها الانسان - بمراجعة الأغيار. ولا تتذلل لهم، فترزح تحت منتهم وأذاهم.. ولا تحني رأسك امامهم وتتملق لهم.. ولا ترهق نفسك فتلهث وراءهم.. ولا تخف منهم وترتعد أزاءهم.. لأن سلطان الكون واحد، وعنده مفاتيح كل شئ، بيده مقود كل شئ، تنحل عقد كل شئ بأمره، وتنفرج كل شدة باذنه.. فان وجدته فقد ملكت كل شئ، وفزت بما تطلبه، ونجوت من أثقال المن والاذى ومن أسر الخوف والوهم.

u الكلمة الثالثة: [لا شريك له]

اي: كما لاندّ له ولا ضد في الوهيته لأن الله واحد، فان ربوبيته واجراءاته وايجاده الاشياء منزهة كذلك من الشرك. بخلاف سلاطين الأرض، اذ يحدث أن يكون السلطان واحداً متفرداً في سلطنته الاّ انه ليس متفرداً في اجراءاته، حيث أن موظفيه وخدمه يعدّون شركاء له في تسيير الامور وتنفيذ الاجراءات، ويمكنهم ان يحولوا دون مثول الجميع أمامه، ويطلبوا منهم مراجعتهم اولاً! ولكن الحق سبحانه وتعالى وهو سلطان الازل والابد، واحد لا شريك له في سلطنته، فليس له حاجة قط في اجراءات ربوبيته ايضاً الى شركاء ومعينين للتنفيذ، اذ لا يؤثر شئ في شئ الاّ بأمره وحوله وقوته، فيمكن للجميع ان يراجعوه دون وسيط، لعدم وجود شريك أو معين. ولا يقال عندئذٍ للمراجع: لا يجوز لك الدخول في الحضرة الإلهية.

وهكذا تحمل هذه الكلمة في طياتها أملاً باسماً وبشارة بهيجة، فتقول:

ان الانسان الذي استنارت روحه بنور الايمان، ليستطيع عرض حاجاته كلها بلا حاجز ولا مانع بين يدي ذلك الجميل ذي الجلال، ذلك القدير ذي الكمال، ويطلب ما يحقق رغباته، اينما كان هذا الانسان وحيثما حلّ. فيفرش حاجاته ومطاليبه كلها امام ذلك الرحيم الذي يملك خزائن الرحمة الواسعة، مستنداً الى قوته المطلقة، فيمتلى عندئذ فرحاً كاملاً وسروراً غامراً.

u الكلمة الرابعة: fله الملك]

أي ان الملك كله له، دون استثناء.. وانت.. ايضاً ملكه، كما انك عبده ومملوكه، وانت عامل في ملكه..

فهذه الكلمة تفوح املاً وتقطر بشرى شافية، وتقول:

أيها الانسان! لا تحسب انك مالك نفسك.. كلا.. لانك لا تقدر على أن تدير امور نفسك.. وذلك حمل ثقيل، وعبء كبير، ولا يمكنك ان تحافظ عليها، فتنجيها من البلايا والرزايا، وتوفر لها لوازم حياتك.. فلا تجرّع نفسك اذن الآلام سدىً، فتلقي بها في احضان القلق والاضطراب دون جدوى، فالملك ليس لك، وانما لغيرك، وذلك المالك قادر، وهو رحيم. فاستند الى قدرته، ولا تتهم رحمته.. دع ما كدر، خذ ما صفا.. انبذ الصعاب والاوصاب وتنفـس الصعـداء، وحز على الـهـنـاء والسعادة.

وتقول ايضاً:

ان هذا الوجود الذي تهواه معنىً، وتتعلق به، وتتألم لشقائه واضطرابه، وتحس بعجزك عن اصلاحه.. هذا الوجود كله مُلك لقادر رحيم. فسلّم الملك لمولاه، وتخلّ عنه فهو يتولاه، واسعد بمسراته وهنائه، دون أن تكدرك معاناته ومقاساته، فالمولى حكيم ورحيم، يتصرف في ملكه كيف يشاء وفق حكمته ورحمته.

واذا ما اخذك الروع والدهشة، فأطل من النوافذ ولا تقتحمها، وقل كما قال الشاعر ابراهيم حقي(1):

لنرَ المولى ماذا يفعلُ

فما يفعل هو الأجمل.

u الكلمة الخامسة: [له الحمد]

أي أن الحمد والثناء والمدح والمنة خاص به وحده، ولائق به وحده، لأن النعم والآلاء كلها منه وحده، وتفيض من خزائنه الواسعة، والخزائن دائمة لا تنضب.

وهكذا تمنح هذه الكلمة بشرى لطيفة، وتقول:

أيها الانسان! لا تقاسي الالم بزوال النعمة، لأن خزائن الرحمة لا تنفد، ولا تصرخ من زوال اللذة، لأن تلك النعمة ليست الاّ ثمرة رحمة واسعة لا نهاية لها. فالثمار تتعاقب ما دامت الشجرة باقية.

واعلم ايها الانسان انك تستطيع ان تجعل لذة النعمة اطيب واعظم منها بمائة ضعف، وذلك برؤيتك إلتفاتة الرحمة اليك، وتكرمها عليك، وذلك بالشكر والحمد. اذ كما ان ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن اذا ارسل اليك هديةً - ولتكن تفاحة مثلاً - فان هذه الهدية تنطوي على لذة تفوق لذة التفاح المادية باضعاف الاضعاف، تلك هي لذة الالتفات الملكي والتوجّه السلطاني المكلل بالتخصيص والاحسان، كذلك كلمة ((له الحمد)) تفتح امامك باباً واسعاً تتدفق منه لذة معنوية خالصة هي ألذ من تلك النعم نفسها بألف ضعف وضعف، وذلك بالحمد والشكر، أي: بالشعور بالإنعام عن طريق النعمة، أي: بمعرفة المنعم بالتفكر في الإنعام نفسه، أي: بالتفكر والتبصر في التفات رحمته سبحانه وتوجـهه اليك وشـفقته علـيـك، ودوام انـعامه عليك.

u الكلمة السادسة: [يحيى]

أي: هو الذي يهب الحياة، وهو الذي يديمها بالرزق، وهو المتكفل بكل ضروراتها وحاجاتها، وهو الذي يهيئ لوازمها ومقوماتها. فالغايات السامية للحياة تعود اليه، والنتائج المهمة لها تتوجه اليه، وتسع وتسعون بالمائة من ثمراتها ونتائجها تقصده وترجع اليه.

وهكذا فهذه الكلمة تنادى هذا الانسان الفاني العاجز، وتزجي له البشارة، نافخة فيه روح الأمل، وتقول:

ايها الانسان! لا ترهق نفسك بحمل اعباء الحياة الثقيلة على كاهلك الضعيف، ولا تذهب نفسك حسرات على فناء الحياة وانتهائها. ولا تظهر الندم والتذمر من مجيئك الى الحياة كلما ترى زوال نعيمها وتفاهة ثمراتها.. واعلم ان حياتك التي تعمر وجودك انما تعود الى ((الحي القيوم)) فهو المتكفل بكل حاجاتها ولوازمها. فهذه الحياة تعود اليه وحده، بغاياتها الوفيرة، ونتائجها الكثيرة. وما أنت الاّ عامل بسيط في سفينة الحياة. فقم بواجبك أحسن قيام، ثم اقبض اجرتك وتمتع بها، وتذكر دائماً: مدى عِظمَ هذه الحياة التي تمخر عباب الوجود، ومدى جلالة فوائدها، وثمراتها، ومدى كرم صاحبها وسعة رحمة مولاها.. تأمل ذلك واسبح في فضاء السرور، واستبشر به خيراً، وادّ شكر ما عليك تجاه مولاك. واعلم بأنك ان إستقمتَ في اعمالك تسجّل في صحيفتها اولاً نتائج سفينة الحياة هذه، فتوهب لك حياة باقية، وتحيا حياة ابدية.

u الكلمة السابعة: [ويميت]

اي: انه هوالذي يهب الموت، اي: هو الذي يسرّحك من وظيفة الحياة، ويبدل مكانك في الدنيا الفانية، وينقذك من عبء الخدمة، ويحررك من مسؤولية الوظيفة. اي: يأخذك من هذه الحياة الفانية الى الحياة الباقية.

وهكذا فهذه الكلمة تصرخ في اذن الانس والجن الفانين وتقول:

بشراكم.. الموت ليس اعداماً، ولا عبثاً ولا سدى ولا انقراضاً، ولا انطفاءً، ولا فراقاً ابدياً .. كلا فالموت ليس عدماً، ولا مصادفة، ولا انعداماً ذاتيا بلا فاعل.. بل هو تسريح من لدن فعال حكيم رحيم، وتبديل مكان، وتغيير مقام، وسَوق نحو السعادة الخالدة.. حيث الوطن الأصلي.. أي هو باب وصال لعالم البرزخ.. عالم يجمع تسعةً وتسعين بالمائة من الاحباب.

u الكلمة الثامنة: [وهو حي لا يموت]

اي: ان الكمال والحسن والاحسان الظاهر في الموجودات وسيلةً للمحبة.. يتجلى بما لا يمكن وصفه وبما لا يحده حدود وفوق الدرجات العلى من مالك الجمال والكمال والاحسان، فومضةٌ من تجليات جماله سبحانه تعادل جميع محبوبات الدنيا باسرها.. هذا الإله المحبوب المعبود له حياة أبدية دائمة منزهة عن كل شوائب الزوال وظلال الفناء، مبرأة عن كل عوارض النقص والقصور.

اذن فهذه الكلمة تعلن للملأ جميعاً من الجن والانس وارباب المشاعر والفطنة وأهل العشق والمحبة وتقول:

اليكم البشرى.. اليكم نسمة أمل وخير، ان لكم محبوباً ازلياً باقياً، يداوي الجروح المتمخضة من لوعة الفراق الابدي لمحبوبتكم الدنيوية ويمسها ببلسمه الشافي بمرهم رحمته. فما دام هو موجوداً، وما دام هو باقياً فكل شئ يهون.. فلا تقلقوا ولا تبتئسوا. فان الحسن والاحسان والكمال الذي جعلكم مشغوفين باحبائكم ليس الاّ لمحة من ظل ضعيف انشق عن ظلال الحجب والاستار الكثيرة جداً لتجلٍ واحدٍ من تجليات جمال ذلك المحبوب الباقي. فلا يعذبنكم زوال اولئك وفراقهم، لانهم جميعاً ليسوا الاّ نوعاً من مرايا عاكسة، وتبديل المرايا وتغييرها يجدد ويجمّل انعكاسات تجلي الجمال وشعشعته الباهرة، فما دام هو موجوداً، فكل شئ موجود اذن.

u الكلمة التاسعة: [بيده الخير]

أي: ان الخير كله بيده، واعمالكم الخيرة كلها تسجل في سجله، وما تقدموه من صالحات الاعمال جميعها تدرج عنده.

فهذه الكلمة تنادي الجن والانس، وتزف لهم البشرى، وتهب لهم الأمل والشوق فتقول:

ايها المساكين! لا تقولوا عندما تغادرون الدنيا الى المقبرة: ((أواه.. وا اسفاه.. واحسرتاه، لقد ذهبت اموالنا هباءً، وضاع سعينا هدراً، فدخلنا ضيق القبر بعد فسحة الدنيا!.. لا.. لا تصرخوا يائسين، لأن كل ما لديكم محفوظ عنده سبحانه، وكل ما قدمتموه من عمل وجهد قد سجل ودوّن عنده، فلا شئ يضيع ولا جهد ينسى، لأن ذا الجلال الذي بيده الخير كله سيثيبكم على اعمالكم، وسيدعوكم للمثول امامه بعد ان يضعكم في التراب.. مثواكم الموقت.

فما اسعدكم انتم اذن، وقد اتممتم خدماتكم، وانهيتم وظائفكم، برئت ساحتكم.. وانتهت ايام المعاناة والأعباء الثقيلة. فانتم ماضون الآن لقبض الاجور واستلام الارباح.

أجل!. ان القادر الجليل الذي حافظ على البذور والنوى - التي هي صحف اعمال الربيع الماضي ودفاتر خدماته وحجرات وظائفه - ونشرها في هذا الربيع الزاهي وفي أبهى حلة، وفي غاية التألق، وفي اكثر بركة وغزارة، وفي أروع صورة... ان هذا القدير الجليل لا ريب يحافظ ايضاً على نتائج حياتكم ومصائر اعمالكم، وسيجازيكم بها أحسن الجزاء وأجزل الثواب)).

u الكلمة العاشرة: [وهو على كل شئ قدير]

أي: أنه واحد أحد. قادر على كل شئ، لا يشق عليه شئ، ولا يؤوده شئ، ولا يصعب عليه أمر، فخلق ربيع كامل - مثلاً - سهل ويسير عليه كخلق زهرة واحدة. وخلق الجنة عنده كخلق ذلك الربيع وبالسهولة واليسر الكاملين. فالمخلوقات غير المحدودة التي يوجدها ويجددها كل يوم، كل سنة، كل عصر، لتشهد كلها بألسنة غير محدودة على قدرته غير المحدودة.

فهذه الكلمة ايضاً تمنح املاً وبشرى وتقول:

ايها الانسان! ان اعمالك التي اديتها، وعبوديتك التي قمت بها، لا تذهب هباءً منثوراً، فهناك دار جزاء خالدة، ومقام سعادة هانئة قد هئ لك. فأمامك جنة خالدة متلهفة لقدومك، مشتاقة اليك. فثق بوعد خالقك ذي الجلال الذي تخر له ساجداً عابداً، وآمن به واطمئن اليه، فانه محال أن يخلف وعداً قطعه على نفسه، اذ لا تشوب قدرته شائبة أو نقص، ولا يداخل اعماله عجز أو ضعف، فكما خلق لك حديقتك الصغيرة ويحييها، فهو قادر على ان يخلق لك الجنة الواسعة، بل قد خلقها فعلاً، ووعدك بها. ولأنه وعد فسيفي بوعده حتماً ويأخذك الى تلك الجنة.

وما دمنا نرى أنه يحشر وينشر في كل عام على وجه البسيطة اكثر من ثلاثمئة الف نوع من انواع النباتات وامم الحيوانات وبانتظام كامل وميزان دقيق، وفي سرعة فائقة وسهولة تامة.. فلابد أن هذا القادر الجليل، قادر ايضاً على أن يضع وعده موضع التنفيذ.

وما دام القادر المطلق يوجد في كل سنة آلاف النماذج للحشر والجنة وبمختلف الانماط والاشكال.. وما دام أنه يبشّر بالجنة الموعودة، ويعد بالسعادة الابدية في جميع أوامره السماوية.. وما دامت جميع اجراءاته وشؤونه حقاً وحقيقة وصدقاً وصائبة.. وما دامت جميع آثاره تشهد على أن الكمالات قاطبة انما هي دلالات على أنه منزّه عن كل نقص أو قصور.. وما دام نقض العهد وخلاف الوعد والكذب والمماطلة هو من أقبح الصفات فضلاً عن أنه نقص وقصور.. فلابد أن ذلك القدير ذا الجلال، وذلك الحكيم ذا الكمال، وذلك الرحيم ذا الجمال سينفذ وعده حتماً مقضياً، وسيفتح ابواب السعادة الابدية، وسيدخلكم - ايها المؤمنون - الجنة.. موطن ابيكم آدم عليه السلام.

u الكلمة الحادية عشر: [واليه المصير]

أي ان الذين يُرسلون الى دار الدنيا.. دار الامتحان والاختبار للتجارة وانجاز الوظائف، سيرجعون مرة اخرى الى مرسلهم الخالق ذي الجلال، بعد أن ادّوا وظائفهم وأتموا تجارتهم وأنهوا خدماتهم وسيلاقون مولاهم الكريم الذي أرسلهم.. اي: انهم سيتشرفون بالمثول بين يدي ربهم الرحيم، في مقعد صدق عند مليكهم المقتدر، ليس بينهم وبينه حجاب. وقد خلصوا من مخاض الاسباب وظلام الحجب والوسائط وسيجد كل واحد منهم ويعرف معرفة خالصة كاملة خالقه وربه وسيده ومليكه.

فهذه الكلمة تشع املاً وتتألق بشرى تفوق كل تلك الآمال والبشارات اللذيذة، وتقول:

ايها الانسان! هل تعلم الى اين انت سائر؟ والى اين انت تُساق؟

فقد ذكر في ختام الكلمة الثانية والثلاثين:

ان قضاء الف سنة من حياة الدنيا وفي سعادة مرفهة، لا يساوي ساعة واحدة من حياة الجنة! وان قضاء حياة الف سنة وسنة بسرور كامل في نعيم الجنة لا يساوي ساعة من فرحة رؤية جمال الجميل سبحانه.

فأنت اذن ايها الانسان راجع الى ميدان رحمته، صائر الى اعتاب ديوان حضرته. فما الحسن والجمال الذي تراه في احبتك المجازيين - فتشتاق اليهم وتفتن بهم، بل ما الحسن والجمال في جميع موجودات الدنيا الاّ نوع ظلٍ من تجلي جماله سبحانه، وحُسن اسمائه جلّ وعلا. فالجنة بلطائفها ولذائذها وحورها وقصورها ما هي الاّ تجلٍ من تجليات رحمته سبحانه، وجميع انواع الشوق والمحبة والانجذاب والجواذب ما هي الاّ لمعة من محبة ذلك المعبود الباقي وذلك المحبوب القيوم! فانتم ذاهبون اذن الى دائرة حظوته ومقام حضرته الجليلة.. وانتم مدعوون اذن الى دار ضيافته الابدية.. الى الجنة الخالدة.

فلا تحزنوا ولا تبكوا عند دخولكم القبر، بل استبشروا خيراً واستقبلوه بابتسامة وفرح.

وتتابع هذه الكلمة وظيفتها في بث نور الامل والبشرى وتقول:

ايها الانسان! لا تتوهم انك ماضٍ الى الفناء، والعدم، والعبث، والظلمات، والنسيان، والتفسخ، والتحطم، والانهشام، والغرق في الكثرة والانعدام. بل انت ذاهب الى البقاء لا الى الفناء، وانت مسوق الى الوجود الدائم لا الى العدم، وانت ماضٍ الى عالم النور لا الى الظلمات وانت سائر نحو مولاك ومالكك الحق، وانت عائد الى مقر سلطان الكون.. سلطان الوجود.. سترتاح وتنشرح في ميدان التوحيد دون الغرق في الكثرة ابداً، فانت متوجه الى اللقاء والوصال دون البعاد والفراق!.

المقام الثاني



(اشارة مختصرة الى اثبات التوحيد، من حيث الاسم الاعظم )

u الكلمة الاولى: [لا إله الاّ الله]

تتضمن هذه الكلمة، توحيد الالوهية وتوحيد المعبودية، نشير اليهما ببرهان قوي هو:

انه يشاهد على وجه هذا العالم، ولاسيما على صحيفة الارض فعالية منتظمة غاية الانتظام.. ونشاهد خلاقية حكيمة في غاية الحكمة.. ونشاهد بعين اليقين فتاحية في غاية النظام ـ اي إعطاء كل شئ ما يلائمه من شكل وإلباسه مايلائمه من صورة ـ ونشاهد وهّابية واحسانات في غاية الشفقة والكرم والرحمة.

فهذه الاوضاع وهذه الاحوال تثبت بالضرورة وجوب وجود ربّ ذي جلال، فعّال خلاق فتاح وهاب، بل تشعر وحدانيته.

نعم! ان زوال الموجودات دائماً وتجددها باستمرار يبينان: ان تلك الموجودات هي تجليات اسماء لصانع قدير.. وظلال أنوار اسمائه الحسنى.. وآثار أفعاله.. ونقوش قلم قدره وصحائف قدرته.. ومرايا جمال كماله.

وان رب العالمين يبين هذه الحقيقة العظمى، وهذه المرتبة العليا للتوحيد بجميع كتبه وصحفه المقدسة التي أنزلها، كما ان جميع اهل التحقيق العلماء والكاملين من البشر يثبتون مرتبة التوحيد نفسها بتحقيقاتهم العلمية وكشفياتهم.. وكذا الكون مع عجزه وفقره يشير الى مرتبة التوحيد نفسها بما نال من معجزات الصنعة وخوارق القدرة وخزائن الثروة.

بمعنى ان الله سبحانه وتعالى، وهو الشاهد الازلي، بجميع كتبه وصحفه، وأهل الشهود بجميع تحقيقاتهم وكشفياتهم، وعالم الشهادة بجميع شؤونه الحكيمة واحواله المنتظمة، يتفقون بالاجماع على تلك المرتبة التوحيدية.

فمن لايقبل بذلك الواحد الاحد جل وعلا إلهاً ومعبوداً، عليه ان يقبل ما لا نهاية له من الآلهة، او ان ينكر نفسه وينكر الكائنات قاطبة، كالسوفسطائي الاحمق.

u الكلمة الثانية: [وحده]

هذه الكلمة تبين مرتبة توحيد صريحة. نشير الى برهان في غاية القوة يثبت اثباتاً تاماً هذه المرتبة، وهو:

اننا كلما فتحنا اعيننا وصوبنا نظرنا في وجه الكائنات، لفت نظرنا - اول ما يلفت - نظام عام كامل، وميزان دقيق شامل.. فكل شئ في نظام دقيق، وكل شئ يوزن بميزان حساس وكل شئ محسوب حسابه بدقة..

واذا ما دققنا النظر، يلفت نظرنا تنظيم ووزان متجددان، اي: ان واحداً أحداً يغير ذلك النظام بانتظام ويجدّد ذلك الميزان بمقدار.. فيصبح كل شئ نموذجاً ((موديلاً)) تُخلَع عليه صورٌ موزونة منتظمة كثيرة جداً..

واذا ما انعمنا النظر اكثر، نرى ان عدالة وحكمة تشاهدان من تحت ذلك التنظيم والوزان حتى ان كل حركة ونأمة تعقبها حكمة ومصلحة ويردفها حق وفائدة.

واذا ما دققنا النظر بإنعام اكثر؛ تلفت نظر شعورنا، مظاهر قدرة ضمن فعالية حكيمة في غاية الحكمة وجلوات علمٍ محيط بكل شئ. بل محيط بكل شأن من شؤونه.. بمعنى ان هذا النظام والميزان الموجودين في الموجودات كافة، يبينان تنظيماً ووزاناً عامين شاملين لكل الموجودات. وان ذلك التنظيم والوزان يظهران حكمة وعدالة شاملتين، وان تلك الحكمة والعدالة تبينان لأنظارنا قدرة وعلماً. اي ان قديراً على كل شئ وعليماً بكل شئ يُرى للعقل من وراء تلك الحجب.

ثم ننظر الى بداية كل شئ ونهايته، ولاسيما في ذوي الحياة، فنرى ان بداياتها واصولها وجذورها، وكذا ثمراتها ونتائجها على نمط وطراز بحيث كأن تلك النوى والاصول برامج وفهارس وتعاريف تتضمن جميع اجهزة ذلك الموجود، وكذا يتجمع في نتيجة ذلك الموجود وفي ثمرته، ويترشح فيها معنى ذلك الكائن الحي كله، فيودع فيها تاريخ حياته. فكأن نواة ذلك الكائن الحي التي هي اصله، سجل صغير لدساتير إيجاده، اما ثمراته فهي في حكم فهرس لأوامر ايجاده.

ثم ننظر الى ظاهر ذلك الكائن الحي وباطنه، فنشاهد؛ تدبيراً وتصريفاً للامور لقدرة في منتهى الحكمة، وتصويراً وتنظيماً لإرادة في منتهى النفوذ. أي ان قوة وقدرة توجِدان ذلك الشئ وان أمراً وارادة تلبسانه الصورة.

وهكذا كلما دققنا النظر في اول كل موجود وبدايته رأينا ما يدل على علم عليم، وكلما دققنا النظر في آخره شاهدنا برامج صانع، وكلما دققنا في ظاهر الشئ رأينا حلة بديعة في غاية الاتقان لفاعل مختار مريد، وكلما نظرنا الى باطن الشئ شاهدنا جهازاً في غاية الانتظام لصانع قدير.

فهذه الاوضاع والاحوال تعلن بالضرورة والبداهة؛ انه لايمكن ان يكون شئ ولا وقت ولا مكان خارج قبضة الصانع الجليل الواحد الاحد وخارج تدبيره وتصريفه الامور. بل كل شئ وكل شأن من شؤونه يدبّر في قبضة قدير مريد، ويجمّل وينظم بلطف رحمن رحيم، ويحسّن ويزّين برحمة حنّان منّان.

نعم، ان هذا النظام والميزان والتنظيم والوزان في موجودات هذا الكون كله يدل دلالة واضحة على واحدٍ أحدٍ فرد قدير مريد عليم حكيم، ويري مرتبة وحدانية عظمى لكل من كان مالكاً لشعور وبصر.

نعم.. ان في كل شئ توجد وحدة، والوحدة تدل على الواحد. فمثلاً: الشمس التي هي سراج الدنيا واحدة، بمعنى ان مالك الدنيا واحد. والهواء والنار والماء مثلاً ـ وهي الخدَمة لأحياء الارض ـ واحدة، بمعنى ان من يستخدم هذه الاشياء ويسخّرها لنا واحد ايضاً.

u الكلمة الثالثة: [ لاشريك له]

لقد ُاثبتت هذه الكلمة في الموقف الاول من ((الكلمة الثانية والثلاثين)) اثباتاً واضحاً جلياً. لذا نحيل شرحها الى هناك، اذ لابيان يفوق بيانه، ولاداعي الى بيان غيره إذ لايوَضـَّح مثلُه قط.

u الكلمة الرابعة: [ له الملك]

اي ان السموات والارض والدنيا والآخرة وكل موجود، من الفرش الى العرش، من الثرى الى الثريا، من الذرات الى السيارات، من الازل الى الابد هو ملكه. فله سبحانه المرتبة العظمى للمالكية التي تتجلى في اعظم مرتبة للتوحيد.

ولقد اُلقيت الى خاطر هذا العاجز خاطرة لطيفة في وقت لطيف بعبارات عربية اثبتُّها كما هي وابينُها حجةً كبرى لهذه المرتبة العظمى للمالكية والمقام الاعظم للتوحيد:

[له الملك؛ لان ذاك العالمَ الكبيركهذا العالم الصغير، مصنوعُ قدرته، مكتوبُ قدَره.. ابداعُه لذاك صيّره مسجداً، ايجادُه لهذا صيّره ساجداً.. انشاؤه لذاك صيّر ذاك مُلكاً، ايجادُه لهذا صيّره مملوكاً..صنعتُه في ذاك تظاهرت كتاباً، صبغتُه في هذا تزاهرت خطاباً.. قدرته في ذاك تُظهر حشمته، رحمته في هذا تنظِّمُ نعمته..حشمته في ذاك تشهد: هو الواحد، نعمتُه في هذا تعلن: هو الاحد.. سكته في ذاك في الكل والاجزاء، خاتمُه في هذا في الجسم والاعضاء].

الفقرة الاولى (( ذاك العالم الكبير...)) الخ.

ان العالم الاكبر اي الكون كله، والانسان وهو العالم الاصغر ومثاله المصغر، يظهران معاً دلائل الوحدانية المسطّرة في الآفاق والانفس بقلم القدر والقدرة.

نعم! ان في الانسان النموذج المصغر للصنعة المنتظمة المتقنة الموجودة في الكون، واذ تشهد الصنعة التي في تلك الدائرة الكبرى على الصانع الواحد، تشير الصنعة الدقيقة المجهرية الموجودة في الانسان الى ذلك الصانع ايضاً وتدل على وحدته، وكما ان هذا الانسان مكتوبٌ رباني ذو مغزى عميق، وقصيدة منظومة للقدر الإلهي، كذلك الكائنات قصيدة قدرية منظومة دبجت بذلك القلم نفسه، وبمقياس مكبر. فهل يمكن لغير الواحد الاحد أن يتدخل في سكة التوحيد المضروبة على وجه الانسان والمتوجهة بالعلامات الفارقة الى ما لا يحد من الناس، او ان يتدخل في ختم الوحدانية المضروب على الكائنات الجاعل موجوداتها كلها متعاونة متكاتفة؟.

الفقرة الثانية: ((ابداعه لذاك… )) الخ.

ان الصانع الحكيم قد خلق العالم الاكبر خلقاً بديعاً ونقش آيات كبريائه عليه، بحيث جعل الكون على صورة مسجد كبير. وأنشأ سبحانه هذا الانسان في احسن تقويم، واهباً له العقل، بحيث جعله يسجد سجدة اعجاب امام معجزات صنعته وبديع قدرته. واستقرأه ايات كبريائه، حتى صيّره عبداً ساجداً في ذلك المسجد الكبير بما غرز في فطرته من العبودية والخضوع له. فهل من الممكن ان يكون المعبود الحقيقي للساجدين العابدين في هذا المسجد الكبير غير الصانع الواحد الاحد؟.

الفقرة الثالثة: ((انشاؤه لذاك… )) الخ.

ان مالك الملك ذا الجلال قد انشأ العالم الاكبر، ولاسيما وجه الارض، انشاءً كأنها دوائر متداخلة بما لاتعد ولاتحصى، كل دائرة بمثابة مزرعة او حقل يزرع فيها، كل وقت وكل موسم وكل عصر، ويحصد ويحصّل على المحاصيل، وهكذا يُشغل مُلكه باستمرار ويتصرف في اموره كل حين. حتى انه جعل اعظم دائرة من تلك الدوائر وهي دائرة الذرات في الكون مزرعة واسعة يزرع فيها ويحصل منها بقدرته وحكمته محاصيل بقدر الكون، ويرسل تلك المحاصيل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، ومن دائرة القدرة الى دائرة العلم.

وجعل سبحانه سطح الارض الذي هو دائرة متوسطة بمثابة مزرعة كذلك، بحيث يزرع فيها كل موسم وباستمرار عوالم وانواعاً شتى ويحصدها ويحصّل منها محاصيلها كل فصل وموسم محاصيل معنوية يبعثها ايضاً الى عوالمه الغيبية والاخروية والمثالية والمعنوية..

ثم انه سبحانه يملأ بستاناً في الارض ـ وهو دائرة صغيرة ـ يملأه مرات ومرات بل الف مرة بقدرته ويفرغه بحكمته.

ثم انه سبحانه يحصل من الكائن الحي الذي هو دائرة اصغرـ كالشجرة والانسان ـ يحصل منه مائة ضعف وضعف من المحاصيل.

بمعنى: ان ذلك المالك الملك ذا الجلال قد أنشأ كل شئ ـ جزئيه وكليّه، صغيره وكبيره ـ بمثابة ((موديل)) يُلبسه مئات منسوجات صنائعه المنقشة بنقوش متجددة بمئات الاشكال والانماط. مظهراً به تجليات اسمائه الحسنى ومعجزات قدرته. وأنشأ كل شئ في ملكه بمثابة صحيفة يكتب فيها كتاباته البليغة بمئات الاشكال والوجوه، مظهراً بها آياته الحكيمة ويستقرئها اهل الشعور من مخلوقاته.

وكما انه قد أنشأ هذا العالم الاكبر ملكاً له، كذلك خلق هذا الانسان مملوكاً له ومنحه من الاجهزة والجوارح والحواس والمشاعر، ولاسيما النفس الامارة والهوى والحاجة والشهية والحرص والطلب، بحيث جعله في ذلك الملك الواسع مملوكاً وعابداً محتاجاً الى جميع ملكه. فهل من الممكن ان يتصرف في ذلك الملك، ويكون سيداً على ذلك المملوك سوى ذلك المالك للملك الذي جعل الموجودات كلها بدءاً من عالم الذرات ذلك العالم الواسع جداً الى جناح الذباب ملكاً ومَزارِع، وجعل الانسان الصغير ناظراً على ذلك الملك الواسع العظيم ومفتشاً فيه ومزارعاً وتاجراً ودلالاً وعابداً ومملوكاً واتخذه ضيفاً عزيزاً عليه ومخاطباً محبوباً؟

الفقرة الرابعة: ((صنعته في ذاك…)) الخ

ان صنعة الصانع الجليل في العالم الاكبر تحمل من المعاني الغزيرة ما يظهرها كأنها كتاب بديع، مما دفع عقل الانسان الى استلهام حكمة العلوم الحقيقية منه، ويكتب مكتبتها على وفقه. فذلك الكتاب البديع الحكيم موثوق الصلة بالحقيقة، ومستمدٌ منها الى حدّ اُعلن عنه في صورة قرآن حكيم ـ منظور ـ والذي هو نسخة من الكتاب المبين.

ومثلما اتخذت صنعته سبحانه في الكون كله صورة كتاب بليغ، لكمال انتظامها، كذلك تفتحت صبغته ونقش حكمته في الانسان عن زهرة خطاب.. اي ان تلك الصنعة البديعة ذات مغازٍ دقيقة وجميلة بحيث انطقت ما في تلك الماكنة الحية من اجهزة.. وان ما صبغ بها من صبغة ربانية جعلتها في احسن تقويم حتى تفتحت عن زهرة البيان والخطاب، تلك الزهرة الحيوية المعنوية الغيبية في ذلك الرأس المادي الجامد.. فمنح سبحانه وتعالى رأس الانسان من قابلية النطق والبيان حتى انكشف ما فيه من اجهزة سامية معنوية عن مراتب كثيرة وكثيرة جداً اهّلته لموضع خطاب السلطان الازلى الجليل، مما نال رقياً ورفعةً وسمواً.

اي ان الصبغة الربانية التي في فطرة الانسان قد فتّحت زهرة الخطاب الإلهي.

فهل من الممكن أن يتدخل غير الواحد الاحد في الصنعة التي بلغت حد الاتقان والانتظام في الموجودات كلها حتى كأنها كتاب؟ وهل من الممكن أن يتدخل غيره سبحانه في الصبغة التي في فطرة الانسان التي ارتقت به الى مقام الخطاب؟! حاش لله.. وكلا.

الفقرة الخامسة: ((قدرته في ذاك… )) الخ.

ان القدرة الإلهية تُظهر عظمة الربوبية في العالم الاكبر، اما الرحمة الربانية فانها تنظّم النِعم في الانسان، العالم الاصغر. اي ان قدرة الصانع ـ من حيث الكبرياء والجلال ـ أوجدت العالم كله كأنه قصر عظيم، وجعلت الشمس فيه سراجاً وهاجاً، والقمر قنديلاً، والنجوم مصابيح، وجعلت سطح الارض سفرة مبسوطة للطعام، ومزرعة جميلة، وبستاناً زاهياً، وجعلت الجبال مخازن ومستودعات، واوتاداً للتثبيت، وقلاعاً عظيمة.. وهكذا جعلت جميع الاشياء لوازم واثاثاً لذلك القصر المنيف، بمقياس مكبر، واظهرت عظمةربوبيته سبحانه مثلما اسبغت رحمته سبحانه ـ من حيث الجمال ـ صنوف نعمه على كل كائن حي، حتى على اصغره، ونظّمت عليه، فجمّلت الكائنات طراً بالنعم وزيّنتها باللطف والكرم، دافعة هذه الألسنة الصغيرة الناطقة بجمال الرحمة أن تقابل تلك الألسنة العظيمة الناطقة بجلال العظمة، اي ان الاجرام الكبيرة، كالشمس والعرش حينما تنطق بلسان العظمة: ((ياجليل.. ياكبير.. ياعظيم)) تقابلها ألسنة الرحمة في البعوض والسمك والحيوانات الصغيرة بـ((ياجميل.. يارحيم.. ياكريم)).. مكونة بذلك نغمات منسجمة في موسيقى كبرى، تزيدها حلاوة ولذة.

فهل من الممكن ان يتدخل غير ذلك الجليل ذي الجمال، الجميل ذي الجلال في هذا العالم الاكبر والاصغر، من حيث الخلق والايجاد؟ حاشَ لله… وكلا.

الفقرة السادسة: ((حشمته في ذاك… )) الخ.

ان عظمة الربوبية الظاهرة في مجموع الكون، تثبت الوحدانية الإلهية وتدل عليها، كما ان النعمة الربانية التي تعطي الارزاق المقننة حتى لجزئيات ذوي الحياة، تثبت الاحدية الإلهية وتدل عليها.

اما الواحدية فتعني: ان جميع تلك الموجودات ملكٌ لصانع واحد، وتتوجه الى صانع واحد، وكلها ايجاد موجِد واحد.

اما الاحدية فهي: ان اكثر اسماء خالق كل شئ يتجلى في كل شئ.

فمثلاً: ان ضوء الشمس ـ بصفة احاطته بسطح الارض كافة ـ يبين مثال الواحدية، وان وجود ضوء الشمس وألوانه السبعة وحرارتها، وظلاً من ظلالها في كل جزء شفاف وفي كل قطرة ماء يبين مثال الاحدية. وكذا فان تجلي اكثر اسماء ذلك الصانع في كل شئ، ولا سيما في كل كائن حي، وبخاصة في كل إنسان يبين مثال الاحدية.

وهكذا فان هذه الفقرة تشير الى عظمة الربوبية التي تصرّف الامور في العالم والتي جعلت تلك الشمس العظيمة سراجاً وهاجاً وخادمة لاحياء الارض. والكرة الارضية الضخمة مهداً للاحياء ومنزلاً، ومتجراً لها. وجعلت النار طباخة وصديقة مستعدة للقيام بالعمل في كل مكان، والسحاب مصفاة للهواء ومرضعة للاحياء، والجبال مخازن ومستودعات والهواء مروّحاً للانفس والنفوس، والماء مبعثاً للحياة وكالأم الرؤوم للاحياء الجدد. فهذه الربوبية الإلهية تبين الوحدانية الإلهية بوضوح تام.

نعم! من ذا الذي يجعل الشمس مسخرة لسكنة الارض غير الخالق الواحد؟ ومن ذا غير ذلك الواحد الاحد يمسك الهواء ويسخره في وظائف جليلة وعلى سطح الارض كافة؟ ومن غير ذلك الواحد الاحد يقدر على استخدام النار طباخة للاحياء ويجعلها تلتهم اشياء اكبر من حجمها بالاف المرات؟ وهكذا.. فكل شئ وكل عنصر وكل جرم سماوي يدل على الواحد ذي الجلال من حيث تلك الربوبية المهيبة.

فكما تظهر الواحديةُ من حيث الجلال والعظمة، تعلن النعمةُ والاحسانُ الاحديةَ الإلهية من حيث الجمال والرحمة، لان الاحياء ولاسيما الانسان من حيث الصنعة الجامعة المتقنة، يملك من الاجهزة والجوارح بحيث تعرف انواع النعم التي لاتعد ولاتحصى، وتتقبلها وتطلبها. حتى حظي الانسان بتجليات اسماء الله الحسنى كلها كما تتجلى في الكون كله، وكأنه بؤرة تظهر جميع الاسماء الحسنى دفعة واحدة في مرآة ماهيته، فيعلن بذلك الاحدية الإلهية.

الفقرة السابعة: ((سكته في ذاك... ))

اي كما ان للصانع الجليل سكة كبرى وعلامة عظمى على العالم الاكبر كله، كذلك وضع سكة وحدانيته وعلامتها على كل جزء من اجزاء الكون وعلى كل نوع من انواعه ايضاً.. وكما انه وضع ختم الوحدانية على وجه الانسان ـ وهو العالم الاصغر ـ وعلى جسمه كذلك، وضع الختم نفسه على كل عضو من اعضائه.

نعم! ان ذلك القدير ذا الجلال، وضع آية توحيد جلية على كل شئ، على الكلي والجزئي، فالنجوم والذرات، تشهد عليه، ووضع ختم الوحدانية على كل شئ ليدل عليه.

وحيث ان هذه الحقيقة العظيمة قد اثبتت اثباتاً قاطعاً في (الكلمة الثانية والعشرين) و(الكلمة الثانية والثلاثين) و(المكتوب الثالث والثلاثين)، نحيل البحث الى تلك الكلمات ونختمه هنا.

u الكلمة الخامسة: [ له الحمد]

اي: ان الكمالات التي هي سبب المدح والثناء، في الموجودات كافة، تخصّه وحده سبحانه ، ولهذا فالحمد ايضاً له وحده، فكل ماصدر وما يصدر من مدح وثناء من الازل الى الابد، وممن صدر وعلى مَن وقع، يخصُّه وحده. لأن كل ماهو سبب المدح والثناء من كمال وجمال ومن نعم وآلاء وكل ماهو مدار الحمد، هو لله تعالى، يخصه وحده.

نعم! ان ما يصعد اليه سبحانه دوماً من الموجودات جميعاً عبودية وتسبيح وسجود ودعاء وحمد وثناء، يصعد كلها الى تلك الحضرة المقدسة باستمرار. كما يفهم من الاشارات القرآنية. نشير الى برهان عظيم يثبت هذه الحقيقة التوحيدية:

عندما ننظر الى العالم نشاهده كبستان عظيم، سقفه مرصّع بالنجوم، وارضه زيّنت بموجودات جميلة زاهية..فهذه الاجرام العلوية النورانية المنتظمة،والموجودات الارضية الحكيمة المزينة، في هذا البستان العظيم، كل منها يقول بلسانه الخاص، وجميعها تقول معاً:

نحن معجزات قدرة قدير جليل، نشهد على وحدانية خالق حكيم وصانع قدير.

وفي رياض العالم هذا ننظر الى الارض نرى انها كروضة نثرت فيها مئات الالاف من طوائف النباتات ذات الالوان الزاهية والاشكال الجميلة، وانتشرت فيها مئات الآلاف من انواع الحيوانات المتنوعة. فجميع تلك النباتات الزاهية والحيوانات المزينة في روضة الارض، تعلن بصورها المنتظمة وباشكالها الموزونة:

نحن معجزات صانع واحد حكيم وخوارقه وادلاء على وحدانيته وشهداء عليها.

وكذا ننظر الى قمم الاشجار في تلك الروضة البهية نرى أن ثمارها وازاهيرها مخلوقة بمنتهى العلم والحكمة وبغاية الكرم واللطف والجمال.. فكل تلك الثمرات والازاهير الجميلة تعلن باشكالها والوانها المتنوعة، بلسان واحد:

نحن معجزات هدايا رحمن ذي جمال، وخوارق عطايا رحيم ذي كمال.

فما في بستان العالم من اجرام وموجودات ومافي روضة الارض من نباتات وحيوانات، وما على قمم الاشجار من ازاهير وثمرات يشهد، بل يعلن بصوت عالٍ رفيع:

ان خالقنا ومصوّرنا ـ الذي أهدانا اليكم ـ القادر ذو الجمال والحكيم الكريم، قدير على كل شئ، لايصعب عليه شئ، لايخرج عن دائرة قدرته شئ قط. فالنجوم والذرات سواء بالنسبة الى قدرته، والكلي سهلٌ عليها كالجزئي، والجزء نفيس كالكل، واكبر شئ يسيرٌ عليه كأصغره، والصغير متقن الصنع كالكبير، وربما الصغير أبدع اتقاناً من الكبير. فجميع الوقوعات الماضية التي هي عجائب قدرته، تشهد ان ذلك القدير المطلق قادر على عجائب الإمكانات التي ستحدث في المستقبل. فكما ان الذي أتى بالامس قادر على إتيان الغد، فان ذلك القدير الذي انشأ الماضي قادر على ايجاد المستقبل ايضاً، وذلك الصانع الحكيم الذي خلق الدنيا قادر على خلق الآخرة.

نعم؛ كما ان ذلك القادر الجليل هو المعبود الحق، فالمحمود بالحق ايضاً انما هو وحده. وكما ان العبادة خاصة به وحده، فالحمد والثناء ايضاً يخصانه سبحانه.

فهل من الممكن ان الصانع الحكيم الذي خلق السموات والارض يترك هذا الانسان سدىً، وهو الذي خلقه اعظم نتيجة للسموات والارض واكمل ثمرات العالم؟ وهل يمكن ان يحيله الى الاسباب والمصادفات، فيقلب حكمته الباهرة عبثاً؟ حاشَ لله.. وكلا..

وهل يعقل ان الحكيم العليم الذي يرعى الشجرة، ويدبّر امورها بعناية ويربيها في منتهى الحكمة ان يهمل ثمرات تلك الشجرة التي هي غايتها وفائدتها ولايهتم بها، فتتشتت وتتفرق في ايدي السراق وايدي العبث، وتضيع؟ لاشك ان عدم الاهتمام هذا محال قطعاً، اذ الاهتمام بالشجرة انما هي لأجل ثمراتها.

وهكذا فان اكمل ثمرات هذا العالم ونتيجته ذات الشعور وغايته هو الانسان، فهل يمكن أن يعطي صانع هذا العالم الحكيم، الحمد والعبادة والشكر والمحبة التي هي ثمرة الثمار ذات الشعور الى غيره تعالى.. فيضيّع حكمته الباهرة وينزّلها الى دركة العدم.. او يقلب قدرته المطلقة الى عجز.. او يحوّل علمه المحيط الى جهل؟ حاشَ لله وكلا.. الف الف مرة!

فهل من الممكن ان يصل الشكر والعبادة التي يقدّمها ذوو الشعور الذين هم مدار المقاصد الإلهية في بناء قصر الكون ولاسيما الانسان الذي هو افضلهم ازاء النعم التي نالوها، الى غير صانع قصر الكون وان يسمح ذلك الصانع الجليل ان يقدم الشكر والعبادة وهي غاية المقاصد، الى غيره تعالى؟

وهل من الممكن أن مَن يحبب نفسه الى ذوي الشعور بانواع نعمه التي لاتعد ولاتحصى، ويعّرف نفسه اليهم بما لايحد من معجزات صنعته ثم يدع شكرهم وعباداتهم وحمدهم ومحبتهم ومعرفتهم ورضاهم الى الاسباب والطبيعة، ولايهتم بها فيدفعهم الى انكار حكمته المطلقة ويهوّن من شأن سلطان ربوبيته وينزّلها الى دركة العدم؟ كلا حاشلله مائة الف مرة.

وهل يمكن أن يكون شريكاً من يعجز عن خلق الربيع وعن ايجاد الثمرات كلها وعن خلق ثمرة التفاح ـ المتحدة في العلامات ـ على الارض كافة..في الحمد مع المحمود المطلق سبحانه بأن يخلق تفاحة واحدة منها ويقدمها نعمةً الى احدهم، ويحصل على شكره؟ حاشَ لله وكلا.. لأن الذي يخلق التفاحة الواحدة هو خالق ثمرة التفاح في العالم كله. اذ السكة واحدة والعلامة واحدة. ثم ان الذي خلق التفاح كله في العالم هو الذي اوجد الحبوب والثمرات التي هي محور الرزق. بمعنى: ان من ينعم اصغر نعمة جزئية على اصغر كائن حي جزئي، هو خالق العالم، وهو الرزاق الجليل لاغيره، لذا فالحمد والشكر يخصانه وحده. وان حقيقة العالم تقول دائماً بلسان الحق:

له الحمد من كل احدٍ من الازل الى الابد.

u الكلمة السادسة: [ يحيي]

اي انه هو الذي يهب الحياة، فهو اذن وحده خالق كل شئ، لان الحياة هي روح الكون ونوره وخميرته ونتيجته وخلاصته. فمن وهب الحياة واعطاها فهو خالق الكون جميعاً، وهو المحيي الحي القيوم. نشير الى برهان عظيم لمرتبة التوحيد هذه بالآتي:

اننا نشاهد خيماً منصوبة على ارجاء الارض كافة لجيش ذوي الحياة العظيم، ونشاهد ايضاً ان جيشاً حديثاً من جيوش لاتعد ولاتحصى للحي القيوم يأتي من عالم الغيب ويتسلم اعتدته وتجهيزاته كل ربيع.

فاذ نحن نتأمل هذا الجيش الضخم نرى ان طوائف النباتات تربو على مائتي ألف نوع، وامم الحيوانات تنوف على مائة ألف نوع من الانواع المختلفة.كل امة من هذه الامم، وكل طائفة منها تلبس ملابس خاصة بها، ولها ارزاقها المعينة، ولها تدريبات وتعليمات مخصوصة، ولها رُخص تخصها، ومزودة باسلحة واعتدة تلائمها، ومدة خدماتها العسكرية معينة، ولكن مع كل هذا الاختلاف والتباين فان قائداً أعظم بقدرته المطلقة وحكمته المطلقة وعلمه غير المحدود وارادته غير المحدودة ورحمته الواسعة وخزينته التي لاتنضب، لاينسى جندياً قط، ولايلتبس عليه شئ من أمرهم ولايؤخر عنهم اي شئ يحتاجونه، بل كل طائفة من الطوائف والامم التي تزيد على ثلاثمائة ألف من الطوائف والامم يرسل اليها أرزاقها المتباينة وملابسها المختلفة واسلحتها المتغايرة، وتدرّب تدريبات متنوعة وتسرح من وظائفها في اوقات متخالفة، كل ذلك في انتظام كامل وبميزان تام وفي الوقت المناسب. يشاهد هذا كل ذي عين باصرة، ويدركه كل ذي قلب شهيد ادراكاً بعين اليقين، كما اثبتنا ذلك في كلمة اخرى. فهل من الممكن ان يتدخل ويكون له حصة في هذا الاحياء والادارة، وهذه التربية والاعاشة سوى صاحب علم محيط يحيط بكل مايخص ذلك الجيش وبشؤونه كافة، وصاحب قدرة مطلقة تدير اموره بجميع لوازمه؟ حاش لله الف الف مرة.

اذ من المعلوم؛ انه اذا وجد في فوج واحد عشر امم مختلفة، فان تجهيز كل امة باعتدة مميزة، عسير بعشرة اضعاف تجهيـز الفوج كله بالاعتدة نفسها، ومن هنا يلجأ الانسان العاجز الى تجهيزهم بالملابس والاعتدة الموحدة. بينما الحي القيوم سبحانه يجهّز هذا الجيش العظيم الذي تربو طوائفه واممه على ثلاثمائة الـف طـائفة بتجـهـيزات حياتيـة متباينة الواحدة عن الأخرى، وبكل سهولة ويـسر، وبغـيـر عناء، وبانتظام كامل، وفي منتهى الحكمة. حتى يسوق كل فرد من افراد ذلك الجيش للقول بلسان حاله: ((هو الذي يحيي)) بل يجعل تلك الجماعة العظمى تتلو في مسجد الكون العظيم:

} الله لا إله الاّ هوَ الحيُّ القيّوم لاتَأخُذهُ سِنةٌ ولانومٌ لهُ ما في السّموات وما في الارضِ مَن ذا الذي يَشفَعُ عندهُ إلاّ بإذنِهِ يعلمُ ما بينَ ايديهم وما خَلفَهُم ولايُحيطونَ بشَيءٍ من علمهِ الاّ بما شاءَ وسِعَ كُرسيُّهُ السّمواتِ والارض ولايَؤدُهُ حفظُهُما وهو العَليُّ العظيم{ (البقرة :255)

u الكلمة السابعة: [ ويميت]

اي انه هو الذي يهب الموت، اي كما انه واهب الحياة، فهو الذي يسلبها ويمنح الموت كذلك.

نعم؛ الموت ليس تخريباً وانطفاءً كي يسند الى الاسباب، ويحال على الطبيعة، بل الموت مهما يبدو ظاهراً انحلالاً وانطفاءً الاّ انه في الحقيقة مبدأ ومقدمة لحياة باقية للانسان وعنوان لتلك الحياة، مثلما تضمر البذرة تحت الارض وتموت ظاهراً الا انها تمضي باطناً من حياة البذرة الجزئية الى حياة السنبل الكلية.

لذا فان القدير المطلق الذي يهب الحياة ويديرها هو الذي يخلق الموت بلاريب.

نشير الى برهان عظيم لمرتبة التوحيد العظمى التي تتضمنها هذه الكلمة فنقول:

لقد بينا في النافذة الرابعة والعشرين من (المكتوب الثالث والثلاثين ):

ان هذه الموجودات سيالة بالارادة الإلهية.. وان هذه الكائنات سيارة بالامر الرباني..وان هذه المخلوقات تجري باستمرار في نهر الزمان باذن الله، وتُرسل من عالم الغيب ويُخلع عليها الوجود الظاهري في عالم الشهادة، ثم تنزل بانتظام على عالم الغيب. فتأتي دوماً من المستقبل بالامر الإلهي وتمر على الحال الحاضرة وتتنفس فيها ثم تصب في الماضي.. فسيلان هذه المخلوقات في دائرة الرحمة والاحسان يتم باسلوب في منتهى الحكمة، وسيرانها ضمن دائرة الحكمة والانتظام يكون في غاية العلم.. وجريانها ضمن دائرة الشفقة والميزان يكون في رحمة واسعة.

وهكذا تمضي هذه المخلوقات منذ البدء الى النهاية وتكلل بالحِكَم والمصالح والنتائج والغايات الجليلة.

بمعنى ان قديراً ذا جلال وحكيماً ذا كمال يمنح الحياة باستمرار بقدرته المطلقة ويوظّف طوائف الموجودات، وجزئيات كل طائفةٍ، والعوالم المتشكلة من تلك الطوائف.. ثم يسرّحها بحكمة، مُظهراً عليها الموت ويرسلها الى عالم الغيب. اي انه يحوّلها من دائرة القدرة الى دائرة العلم.

فمن لايقدر على ادارة الكون برمته، ولاينفذ حكمه في الازمان كلها، ولاتبلغ قدرته لتمنح العوالم كلها الموت والحياة - كما يمنحها فرداً واحداً - ويعجز عن ان يجعل الربيع كالزهرة الواحدة، يمنحها الحياة، ويضعها على وجه الارض، ثم يقطفها بالموت.. ان الذي لايقدر على هذه الامور لايقدر على الاماتة والإحياء قطعاً.

اي ان موت اي كائن حي - مهما كان جزئياً - لابد ان يكون كحياته، اي يجري بقانون ربّ ذي جلال، بيده حقائق الحياة كلها وانواع الموت جميعها، ويجريها باذنه وبقوته وبعلمه.

u الكلمة الثامنة: [ وهو حي لايموت]

اي ان حياته دائمة، ازلية ابدية. لايعرض عليها الموت والفناء والعدم والزوال قطعاً. لان الحياة ذاتية له، فالذاتي لايزول قط.

نعم، ان الازلي ابدي بلاشك، والقديم باقٍ بلاريب، والذي هو واجب الوجود، سرمدي البتة.

نعم، ان حياة ً.. يكون جميع الوجود بجميع أنواره، ظلاً من ظلالها، كيف يعرض عليها العدم!

نعم، ان حياةً ..يكون الوجود الواجب عنوانها ولازمها، لن يعرض عليها العدم والفناء قطعاً.

نعم، ان حياةً.. يظهر بتجليها جميع انواع الحياة باستمرار، ويستند اليها جميع الحقائق الثابتة للكائنات بل هي قائمة بها، لن يعرض عليها الفناء والزوال قطعاً.

نعم، ان حياةً.. تورث لمعة من تجلٍ منها وحدةً للاشياء الكثيرة المعرضة للفناء والزوال وتجعلها باقية وتنجيها من التشتت والتبعثر وتحفظ وجودها وتجعلها مظهراً لنوع من البقاء ـ اي تمنح الكثرة وحدة وتبقيها، فاذا ولّت تبعثرت الاشياء وفنيت - لاشك ان الزوال والفناء لايدنوان من هذه الحياة الواجبة التي تعد هذه اللمعات الحياتية جلوة من جلواته.

والشاهد القاطع لهذه الحقيقة هو زوال هذه الكائنات وفناؤها، اي ان الكائنات كما تدل وتشهد بانواع وجودها وصنوف حياتها على حياة ذلك الحي الذي لايموت وعلى وجوب وجود تلك الحياة(1) تدل وتشهد بانواع موتها وصنوف زوالها على بقاء تلك الحياة وعلى سرمديتها؛ لان الموجودات بعد زوالها تأتي عقبها امثالُها فتنال الحياة مثلها وتحل محلها، مما يدل على ان حياً دائماً موجودٌ، وهو الذي يجدّد باستمرار تجلي الحياة؛ اذ كما ان الحباب التي تعلو سطح النهر وتقابل الشمس تتلمع ثم تذهب، والتي تعقبها تتلمع ايضاً مثلها، وهكذا.. طائفة إثر طائفة، كلٌ منها تتلمع، ثم تنطفئ وتذهب الى شأنها.. فهذا التعاقب في الإلتماع والانطفاء يدل على شمس دائمة عالية.. كذلك يشهد تبدل الحياة والموت ومناوبتهما في هذه الموجودات السيارة على بقاء حيّ باقٍ وعلى دوامه.

نعم، ان هذه الموجودات مرايا، ولكن مثلما الظلام يكون مرآة للنور بحيث كلما اشتد الظلام ازداد سطوع النور، فالموجودات ايضاً من حيث الضدية ومن جهات كثيرة جداً تقوم مقام المرايا.

فمثلاً: ان الموجودات تؤدي وظيفة المرآة باظهار قدرة الصانع بعجزها، وبيان غناه سبحانه بفقرها، كذلك تدل بفنائها على بقائه سبحانه.

نعم، ان لباس الجوع وجلباب الفقر الذي يلبسه سطح الارض وما عليه من اشجار في موسم الشتاء، وتبدل تلك الملابس بحلل الربيع الزاهية الطافحة بالغنى والثروات، دليل على قدير مطلق القدرة وعلى غني مطلق الغنى، وعلى ان الموجودات مرآة صافية لاظهار قدرته ورحمته سبحانه.

نعم، لكأن جميع الموجودات تقول بلسان حالها وتناجي ربها بمناجاة ((أويس القرني))(1) وتقول:

((يا إلهنا..

انت ربنا، اذ نحن العبيد العاجزون عن تربية انفسنا، فأنت الذي تربينا.

وانت الخالق، اذ نحن مخلوقون، مصنوعون.

وانت الرزاق، اذ نحن المحتاجون الى الرزق، ايدينا قاصرة فانت الذي تخلقنا وترزقنا.

وانت المالك، اذ نحن مملوكون، يتصرف في امورنا غيرنا فانت مالكنا.

وانت العزيز العظيم، اذ نحن الاذلاء، لبسنا ثوب الذل ولكن علينا جلوات عز، فنحن مرايا عزتك.

وانت الغني المطلق، اذ نحن الفقراء يسلـّم الى يد فقرنا غنى يصل الى مالانقدر عليه، فانت الغني وانت الوهاب.

وانت الحي الباقي، اذ نحن نموت، نرى جلوة حياة دائمة في موتنا وحياتنا.

وانت الباقي، اذ نحن فانون ، نرى دوامك وبقاءك في فنائنا وزوالنا.

وانت المجيب وانت المعطي، اذ نحن والموجودات كلها نسأل بألسنة اقوالنا واحوالنا ونصرخ ونتضرع ونستغيث، فتتحقق مطالبنا، وتنفذ رغباتنا، وتوهب مقاصدنا. فانت المجيب يا الهي...)).

وهكذا تناجي جميعُ الموجودات جزئيّها وكليها ربَّها كـ ((أويس القرني)) مناجاة معنوية، وكل منها تؤدي وظيفة المرآة، ويعلن كل موجودبعجزه وفقره وتقصيره قدرة الله وكماله سبحانه.

u الكلمة التاسعة: [ بيده الخير]

اي ان الخيرات كلها بيده، الحسنات كلها في سجله، الآلاء كلها في خزينته، لذا من يريد الخير فليسأله منه، ومن يرغب في الاحسان فليتضرع اليه.

نشير الى امارات دليلٍ واسع جداً ولمعاته من ادلة العلم الإلهي التي لاتحصى، اظهاراً لحقيقة هذه الكلمة بجلاء. فنقول:

ان الصانع الجليل الذي يوجد ويتصرف بأفعاله الظاهرة في هذا الكون، له علم محيط بكل شئ، وان ذلك العلم خاصّة لازمة ضرورية لذاته الجليلة، محال انفكاكه عنها، اذ كما لايتصور وجود ذات الشمس بلا ضياء، كذلك الصانع الجليل الذي اوجد هذه الموجودات بانتظام رائع ـ لا يمكن بالوف المرات ـ ان ينفك علمه عنه.

فهذا العلم المحيط بكل شئ ضروري لتلك الذات الجليلة، فهو ضروري ايضاً لكل شئ من حيث التعلق. اي: لايمكن ان يتستر ويتخفى عنه اي شئ كان بأي حال من الاحوال. اذ كما لايمكن ان لاترى الاشياء المبثوثة على سطح الارض الشمس وهي التي تقابلها دون حجاب، كذلك لايمكن بل محال بالوف المرات ان تتستر الاشياء عن نور علم ذلك العليم الجليل سبحانه. وذلك لوجود الحضور، اي: ان كل شئ ضمن دائرة نظره سبحانه، ويقابله، وضمن دائرة شهوده جلّ وعلا، وان علمه نافذ في كل شئ.

فلئن كان شعاع هذه الشمس الجامدة، ونور هذا الانسان العاجز، وشعاع الاشعة السِّينيّة التي لاتملك شعوراً، وامثالها من الاشعة.. اقول: لئن كانت هذه الاشعة وهي حادثة، ناقصة، عارضة، تشاهد أنوارها كلَّ ما يقابلها وتنفذ فيه، فكيف بنور العلم الازلي، الواجب، المحيط، الذاتي.

اذاً.. لابد ان لايتستر عنه شئ قط ولايبقى شئ خارجه قطعاً.

وفي الكون من العلامات والآيات المبثوثة مالايعد ولايحصى كلها تشير الى هذه الحقيقة، نورد منها ما يأتي:

ان جميع الحِكَم المشاهدة في الموجودات تشير الى ذلك العلم المحيط، لان انجاز العمل بحكمة انما يكون بالعلم.

وكذا العناية والتزيين في الموجودات تشيران ايضاً الى ذلك العلم المحيط، لان الذي يعمل باللطف والعناية، لابد أنه يعلم، وانه يعمل بعلم.

وكذا كل موجود من الموجودات المنتظم الموزون بميزان دقيق، وكل هيئة من هيئاتها الموزونة والمقدّرة ايضاً، تشير الى ذلك العلم المحيط، لان اداء العمل بانتظام يكون بالعلم.

وكذا جميع العنايات والتزيينات تشير الى ذلك العلم. لأن الذي يخلق مصنوعاته بمكيال وميزان وتقدير واتقان، لاشك انه يعمل ما يشاء مستنداً الى علم قوي.

وكذا جميع المقادير المنتظمة المشاهدة في الموجودات كلها، والاشكال التي فصّلت على وفق الحكم والمصالح، والهيئات المنتجة، والاوضاع المثمرة التي نظّمت على وفق دساتير القضاء وضوابط القدر، انما تدل على علم محيط.

نعم، تصوير الاشياء على اختلافها تصويراً منتظماً، وتشكيل كل شئ بشكل مخصوص به وملائم لوجوده ولمصالح حياته، انما يكون بعلم محيط، لاغير.

وكذا ارسال الرزق لجميع ذوي الحياة - من حيث لايحتسب - وفي الوقت المناسب، وبشكل ملائم لكل واحد منها، انما يكون بعلم محيط؛ لان الذي يرزق لاريب انه يعلم حال من يحتاج الى الرزق ويعرفه ويعلم بوقت رزقه ويدرك حاجاته، ثم يرزقه على افضل صورة.

وكذا وفاة جميع ذوي الحياة بآجالها المعقودة بقانون من التعيّن - مع تسترها بعنوان الإبهام - تدل على علم محيط بكل شئ، لان اجل كل طائفة من طوائف ذوي الحياة معيّن في زمن محدود بين حدّين، وان كان لايشاهد ظاهراً وقتٌ معين لحلول آجال افرادها. لذا فالحفاظ على نتاج ذلك الشئ وثمرته ونواته بعد حلول اجله يديم وظيفته عقبه، ويحول تلك الثمرات والنوى الى حياة جديدة، انما يدل على ذلك العلم المحيط ايضاً.

وكذا ألطاف الرحمة السابغة على الموجودات كلها، كل بما يليق به، انما تدل على علم محيط ضمن رحمة واسعة، لان الذي يربّي اطفال ذوي الحياة وصغارها باللبن ويغيث النباتات الارضية المحتاجة الى الماء بالغيث، لابد انه يعرف اولئك الصغار ويعلم بحاجاتهم ويرى تلك النباتات ويدرك ضرورة المطر لها، ومن بعد ذلك يرسله اليها.

وهكذا تدل جلواتٌ لاتحد لرحمته الواسعة سبحانه والمكللة بالعناية والحكمة، على علم محيط.

وكذا ما في اتقان الصنعة للاشياء كلها من اهتمام بالغ وتصوير بديع وتزيين فائق يدل على علم محيط. لان انتقاء وضع منتظم حكيم مزيّن بديع من بين ألوف الاوضاع المختلفة المحتملة انما يكون بعلم نافذ، فهذا النوع من الانتقاء في الاشياء كلها يدل على علم محيط.

وكذا السهولة المطلقة في ايجاد الاشياء وابداعها بيسر تام تدل على علم كامل، لان اليسر في عمل ما والسهولة في ايجاد وضعٍ ما، يتناسبان مع مدى العلم والمهارة، اذ كلما زاد العلم سهُل العمل.

فبناء على هذا السر ننظر الى الموجودات فنرى ان كلاً منها معجزة من معجزات الصنعة والابداع، وانها توجد ايجاداً محيراً للالباب، في منتهى اليسر والسهولة، وبلا تكاليف ولاتكلف وفي اقصر وقت وفي أتم صورة معجزة. بمعنى ان هناك علماً لايحد له حدود بحيث يؤدي الى هذا العمل بسهولة مطلقة.

وهكذا فالامارات المذكورة وامثالها من ألوف العلامات الصادقة تدل على ان الرب الجليل الذي يدبّر شؤون الكون ويصرّف اموره، له علم محيط بكل شئ. فهو الذي يحيط علمه بجميع شؤون الشئ ويأتي عمله فيه وفق ذاك.

وحيث ان رب العالمين له علم كهذا فلابد انه يرى الانسان ايضاً واعمال الانسان كذلك ويعلم مايليق به وما يستحقه فيعامله بمقتضى حكمته ورحمته.

فيا ايها الانسان! عُد الى رشدك، وتدبّر في عظمة من يعلم بحالك ويراقبك. اعلم ذلك وانتبه!.

واذا قيل:

ان العلم وحده لايكفي، فالارادة ضرورية ايضاً، اذ إن لم تكن الارادة موجودة فلايكفي العلم وحده!.

الجـواب: الموجودات كلها تدل على علم محيط وتشهد له، كذلك تدل على الارادة المطلقة لذلك العليم بكل شئ وذلك؛

ان اعطاء تشخص في غاية الانتظام لكل شئ، ولاسيما لكل ذي حياة، باحتمال معين من بين احتمالات كثيرة جداً ومختلطة، بطريق منتج من بين طرق كثيرة جداً وعقيمة، وهو الذي يتردد ضمن امكانات واحتمالات كثيرة، انما يدل على ارادة كلية بجهات غير محدودة. لان اعطاء شكل موزون وتشخص منتظم، المحسوب حسابه بميزان في منتهى الدقة والحساسية، وبمكيال دقيق للغاية، مع انتظام في غاية الدقة والرقة، من بين إمكانات واحتمالات غير محدودة تحيط بوجود كل شئ، وتحفّه طرق عقيمة غير مثمرة لاتحد وفي خضم عناصر جامدة مختلطة تسيل سيلاً دون ميزان.. انما يدل بالبداهة والضرورة بل بالمشاهدة على انه أثر لإرادة كلية. لان انتخاب وضع معين من بين اوضاع غير محدودة، انما يكون بتخصيص وبترجيح، وبقصد وبارادة، ويخصص بطلب وقصد.

فلاشك ان التخصيص يقتضي مخصِّصاً، والترجيح يستلزم مرجِّحاً، وما المخصِّص والمرجِّح الاّ الارادة.

فمثلاً:

ان ايجاد جسم الانسان الشبيه بماكنة مركبة من مئات الاجهزة المتباينة والآلات المختلفة من نطفة، وايجاد الطير الذي يملك مئات الجوارح المختلفة من بيضة بسيطة، وايجاد الشجرة التي لها مئات الفروع والاعضاء المتنوعة من بذرة صغيرة.. هذا الايجاد لاريب انه يدل على القدرة والعلم، كما يشهد شهادة قاطعة وضرورية للارادة الكلية لصانعها الجليل. حيث انه سبحانه بتلك الارادة يخصص كل ما يتطلبه ذلك الشئ، ويعطي شكلاً خاصاً لكل جزء من اجزاء ذلك الشئ ولكل عضو ولكل قسم منه فيلبسه وضعاً معيناً.

حاصل الكلام:

كما ان تشابه الاعضاء المهمة في الاشياء والاحياء - مثلاً - من حيث الاساس والنتائج وتوافقها، واظهارها سكة واحدة - وعلامة واحدة من علامات الوحدة - يدل دلالة قاطعة على ان صانع جميع الحيوانات واحد أحد. كذلك التشخصات المختلفة للحيوانات والتمييز الحكيم والتعيين الدقيق في سيماها - مع اختلافاتها وتخالفها - تدل دلالة واضحة على ان صانعها الواحد فاعل مختار ومريد، يفعل ما يشاء، فما شاء فعل وما لم يشأ لايفعل. فهو يعمل بقصد وارادة.

فهناك اذن دلالات وشهادات على العلم الإلهي والارادة الربانية بعدد الموجودات بل بعدد شؤونها، لذا فان نفي قسم من الفلاسفة للارادة الإلهية، وانكار قسم من اهل البدع للقدر الإلهي، وادعاء قسم من اهل الضلالة عدم اطلاعه سبحانه على الجزئيات، واسناد الطبيعيين لقسم من الموجودات الى الطبيعة والاسباب، كذب مضاعف وافتراء شنيع ترفضه الموجودات بعددها، بل ضلالة وبلاهة اضعاف اضعاف عدد الموجودات وشؤونها.

لان الذي يكذّب شهادات صادقة لاتحد، يفترى كذباً غير محدود.

ومن هنا يمكنك ان تقيس كم هو عِظم الخطأ، وكم هو عِظم البُعد عن الحقيقة وكم هو مناف للصواب واجحاف بالحق، قول البعض عن قصد: ((امر طبيعي)) بدلاً من قوله: ((ان شاء الله.. ان شاء الله)) في الامور التي لاتظهر للوجود الاّ بمشيئته سبحانه!.

u الكلمة العاشرة: [وهو على كل شئ قدير]

اي لايثقل عليه شئ. فما من شئ في دائرة الامكان الاّ وهو قادر على ان يلبسه الوجود بكل سهولة ويسر. فهذا الامر سهل عليه الى حد أنه بمجرد أمره اليه يحصل الشئ بمقتضى قوله تعالى:} انما أمره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون{ (يس:82).

اذ كما ان صناعاً ماهراً جداً، ما أن يكاد تمس يده الشئ الاّ ويبدأ بالعمل كالماكينة. ويقال تعبيراً عن تلك السرعة والمهارة: ان ذلك العمل وتلك الصنعة سهل عليه ومسخّر بيده حتى كأن العمل يتم بمجرد أمره ومسّه، فالاعمال تنجز والمصنوعات توجد.

وكذلك الاشياء ازاء قدرة القدير ذي الجلال مسخّرة في منتهى التسخير، ومنقادة انقياداً تاماً، وان تلك القدرة تعمل الاشياء وتنجزها في منتهى السهولة، وبلا معالجة ولا كلفة حتى عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى } انما أمره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون{ (يس:82).

سنبيّن خمساً من الاسرار غير المحدودة لهذه الحقيقة العظمى وذلك في خمس نكاتٍ:

m اولاها:

ان أعظم شئ سهل ويسير على القدرة الإلهية كأصغر شئ، فايجاد نوع من الاحياء بجميع أفراده سهل كايجاد فرد واحد. وخلق الجنة الواسعة يسير عليها كيسر خلق الربيع. وخلق الربيع سهل كسهولة خلق زهرة واحدة.

ولقد أوضحنا هذا السر في اواخر الكلمة العاشرة، وفي بيان الاساس الثاني من الكلمة التاسعة والعشرين وذلك في ستةٍ من الاسرار التمثيلية، وهي: سر النورانية وسر الشفافية وسر المقابلة وسر الموازنة وسر الانتظام وسر الطاعة وسر التجرد.. واثبتنا هناك؛ بان النجوم والذرات سيّان في السهولة ازاء القدرة الإلهية وانها تخلق افراداً غير محدودين بسهولة خلق الفرد الواحد بلا تكلف ولامعالجة.

ولما كانت هذه الاسرار الستة قد وضحت في تلكما الكلمتين، نختصر الكلام هنا، ونحيل اليهما.

m ثانيتها:

ان الدليل القاطع والبرهان الساطـع على ان كل شـئ سـواء بالنسبة الى القدرة الإلهية، هي اننا نشاهد بأعيننا ان في ايجاد الحيوانات والنباتات منتهى الاتقان وغاية حسن الصنعة ضمن سخاء مطلق وكثرة مطلقة.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى الامتياز والتفريق ضمن منتهى الاختلاط والامتزاج.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى القيمة الراقية في الصنعة وجمال الخلقة ضمن منتهى الوفرة والوسعة.

وتخلق الاشياء في سهولة وسرعة مطلقتين مع حاجتها الى اجهزة كثيرة وزمان مديد لإبراز الصنعة المتقنة. حتى كأن تلك المعجزات للصنعة البديعة تبرز للوجود دفعة من غير شئ.

فما نراه من فعالية القدرة الإلهية الواسعة على سطح الارض كافة وفي كل موسم تدل دلالة قاطعة على ان أكبر شئ ازاء هذه القدرة التي هي منبع هذه الفعالية سهل ويسير كأصغره، وان ايجاد افراد غير محدودين وادارتها يسير عليها كايجاد فرد واحد وادارته.

عبدالرزاق 02-03-2011 02:12 AM

رد: المكتوبات
 
ثانيتها:

ان الدليل القاطع والبرهان الساطـع على ان كل شـئ سـواء بالنسبة الى القدرة الإلهية، هي اننا نشاهد بأعيننا ان في ايجاد الحيوانات والنباتات منتهى الاتقان وغاية حسن الصنعة ضمن سخاء مطلق وكثرة مطلقة.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى الامتياز والتفريق ضمن منتهى الاختلاط والامتزاج.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى القيمة الراقية في الصنعة وجمال الخلقة ضمن منتهى الوفرة والوسعة.

وتخلق الاشياء في سهولة وسرعة مطلقتين مع حاجتها الى اجهزة كثيرة وزمان مديد لإبراز الصنعة المتقنة. حتى كأن تلك المعجزات للصنعة البديعة تبرز للوجود دفعة من غير شئ.

فما نراه من فعالية القدرة الإلهية الواسعة على سطح الارض كافة وفي كل موسم تدل دلالة قاطعة على ان أكبر شئ ازاء هذه القدرة التي هي منبع هذه الفعالية سهل ويسير كأصغره، وان ايجاد افراد غير محدودين وادارتها يسير عليها كايجاد فرد واحد وادارته.

m ثالثتها:

ان اكبـر كلّ ٍ كأصغر جـزءٍ هيّن ازاء قدرة الصانع القـدير الذي يـهيمن بافعاله وتصريفه الامور في الكون وكما هو مشاهد. فايجاد الكلي بكثرة من حيث الافراد سهل كايجاد جزئي واحد. ويمكن اظهار ابداع الصنعة المتقنة في اصغر جزئي اعتيادي.

وينبع سر الحكمة لهذه الحقيقة من ثلاثة منابع:

الاول: امداد الواحدية.

الثاني: يسر الوحدة.

الثالث: تجلي الاحدية.

l المنبع الاول: وهو امداد الواحدية.

اي إن كان كل شئ وكل الاشياء ملكاً لمالك واحد فعندئذ يمكن من حيث الواحدية ان يحشد قوة جميع الاشياء وراء كل شئ، ويدبر امور جميع الاشياء بسهولة ادارة الشئ الواحد.

ولاجل تقريب هذا السر الى الافهام نقول في تمثيل:

بلد يحكمها سلطان واحد يستطيع ان يحشّد قوة معنوية لجيش كامل وراء كل جندي من جنوده وذلك من حيث قانون السلطنة الواحدة. لذا يستطيع ذلك الجندي الفرد ان يأسر القائد الاعظم للعدو بل يمكن ان يسيطر باسم سلطانه على مَن هو فوق ذلك القائد.

ثم ان ذلك السلطان، مثلما يستخدم موظفاً او جندياً، ويدبر امور جميع الموظفين وجميع الجنود ايضاً بسر السلطنة الواحدة، وكأنه يرسل كل شخص وكل شئ بسر سلطنته الواحدة لإمداد اي فرد كان. يمكن ان يستند كل فرد من افراد رعيته الى قوة جميع الافراد، اي يستطيع ان يستمد منها.

ولكن لو حلّت حبال تلك الواحدية للسلطنة، واصبحت السلطنة سائبة وفوضى؛ فان كل جندي عندئذٍ يفقد ـ بالمرة ـ قوة لاتحد، ويهوى من مقام نفوذ رفيع، ويصبح في مستوى انسان اعتيادي. وعندها تنجم مشاكل للادارة والاستخدام بعدد الافراد.

كذلك (ولله المثل الاعلى ) فصانع هذا الكون لكونه واحداً، فانه يحشّد اسماءه المتوجهة الى جميع الاشياء، تجاه كل شئ. فيوجد المصنوع باتقان تام وبصورة رائعة. وان لزم الامر يتوجه بجميع الاشياء الى الشئ الواحد، ويوجهها اليه، ويمدّه بها ويقويه بها.

وانه يخلق جميع الاشياء ايضاً بسر الواحدية، ويتصرف فيها ويدبر امورها كايجاد الشئ الواحد.

ومن هذا السر - سر إمداد الواحدية - تُشاهد في الكائنات نوعيات رفيعة قيمة متقنة جداً ضمن وفرة مطلقة ورخص مطلق.

l المنبع الثاني: الذي هو يسر الوحدة:

اي ان الافعال التي تتم باصول الوحدة ومن مركز واحد بتصرفٍ واحد وبقانون واحد، تورث سهولة مطلقة. بينما ان كانت تدار من مراكز متعددة، وبقوانين متعددة، وبأيدٍ متعددة تنجم مشكلات عويصة.

مثلاً: اذا جهز جميع افراد الجيش بالاعتدة والتجهيزات من مركز واحد، وبقانون واحد، وبأمر قائد عظيم واحد، يكون الامر سهلاً سهولة تجهيز جندي واحد. بينما اذا أحيل التجهيز الى معامل متفرقة، ومراكز متعددة يلزم عندئذٍ لتجهيز جندي واحد جميع المعامل العسكرية التي تزود الجيش بالتجهيزات اللازمة.

بمعنى انه اذا اسند الامر الى الوحدة فان تجهيز الجيش كاملاً يكون سهلاً كتجهيز جندي واحد، ولكن ان لم يسند الى الوحدة فان تزويد جندي واحد بالتجهيزات الاساسية يولد مشاكل بعدد افراد الجيش.

وكذا اذا زودت ثمرات شجرة ما ـ من حيث الوحدة ـ بالمادة الحياتية من مركز واحد وبقانون واحد واستناداً الى جذر واحد. فان ألوف الثمرات تتزود بها بسهولة كسهولة ثمرة واحدة.بينما اذا ربطت كل ثمرة الى مراكز متعددة، وارسلت الى كل منها موادها الحياتية، عندها تنجم مشكلات بقدر عدد ثمرات الشجرة، لان المواد الحياتية التي تلزم شجرة كاملة تلزم كل ثمرة من الثمرات ايضاً.

وهكذا فبمثل هذين التمثيلين (ولله المثل الاعلى) فان صانع هذا الكون لكونه واحداً أحداً، يفعل مايريد بالوحدة. ولأنه يفعل بالوحدة، تسهل جميع الاشياء كالشئ الواحد. فضلاً عن انه يعمل الشئ الواحد باتقان تام كالاشياء جميعاً. ويخلق أفراداً لاحدّ لها في قيمة رفيعة. فيظهر جُوده المطلق بلسان هذا البذل المشاهد والرخص غير المتناهي، ويظهر بها سخاءه المطلق وخلاقيته المطلقة.

l المبع الثلث: وهو تجلي الاحدية؛

أي ان الصانع الجليل منزّه عن الجسم والجسمانية، لذا لا يحصره زمان ولايقيده مكان، ولا يتداخل في حضوره وشهوده الكون والمكان، ولا تحجب الوسائط والاجرام فعله بالحجب. فلا انقسام ولاتجزؤ في توجهه سبحانه ولايمنع شئ شيئاً، يفعل مالايحد من الافعال كالفعل الواحد، ولهذا فانه يدرج معنىً شجرة ضخمة جداً في بذرة صغيرة، ويدرج العالم في فرد واحد، ويدير امور العالم كله بيد قدرته كادارة فرد واحد.

فكما اوضحنا هذا السر في كلمات اخرى نقول ايضاً:

ان ضوء الشمس الذي لاقيد له الى حدٍ ما، يدخل في كل شئ لمـّاع، حيث انه نوراني، فلو واجهتها الوفٌ بل ملايين المرايا، فان صورتها النورانية المثالية تدخل في كل مرآة دون انقسام، كما هي في مرآة واحدة. فلو كانت المرآة ذات قابلية، فان الشمس بعظمتها يمكن أن تُظهر فيها آثارها، فلا يمنع شئ شيئاً. اذ يدخل ـ مثال الشمس ـ في المرآة الواحدة كما في الالوف منها بسهولة تامة، وهي توجد في مكان واحد بسهولة وجودها في الوف الاماكن. وتكون كل مرآة وكل مكان مظهراً لجلوة تلك الشمس كما هي لألوف الاماكن.

(ولله المثل الاعلى) ان لصانع هذا الكون ذي الجلال تجلياً ، بسرّ توجّه الاحدية، بجميع صفاته الجليلة التي هي انوار، وبجميع اسمائه الحسنى التي هي نورانية، فيكون حاضراً ناظراً في كل مكان، ولايحدّه مكان، ولا انقسام في توجهه سبحانه، يفعل مايريد فيما يشاء في كل مكان، في آن واحد ومن دون تكلف ولامعالجة ولامزاحمة.

فبسر امداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الاحدية هذه:

اذا اسندت جميع الموجودات الى الصانع الواحد، فالموجودات كلها تسهل كالموجود الواحد ويكون كل موجود ذا قيمة عالية كالموجودات كلها من حيث الاتقان والابداع. كما ان دقائق الصنعة المتقنة الموجودة في كل موجود رغم الوفرة في الموجودات تبين هذه الحقيقة.

بينما ان لم تسند تلك الموجودات الى الصانع الواحد بالذات فان كل موجود عندئذٍ يكون ذا مشاكل بقدر مشاكل الموجودات كلها. وان قيمة الموجودات كلها تسقط الى قيمة موجود واحد. وفي هذه الحالة لايأتي شئ الى الوجود، او اذا وجد فلا قيمة له ولايساوي شيئاً.

ومن هذا السرّ، تجد السوفسطائيين الموغلين في الفلسفة، السابقين فيها قد نظروا الى طريق الضلالة والكفرمعرضين عن طريق الحق ورأوا أن طريق الشرك عويصة وعسيرة وغير معقولة قطعاً بالوف المرات من طريق التوحيد، طريق الحق؛ لذا اضطروا الى انكار وجود كل شئ وتخلّوا عن العقل.

m النكتة الرابعة:

ان ايجاد الجنة سهل كايجاد الربيع، وايجاد الربيع يسير كايجاد زهرة واحدة بالنسبة الى قدرة رب العالمين الذي يصرّف امور هذا الكون بافعاله الظاهرة المشهودة، ويمكن أن تكون ازاء تلك القدرة قيمة محاسن الصنعة البديعة لزهرة واحدة ولطف خلقتها بقيمة لطافة الربيع الزاهر.

ان سر هذه الحقيقة ثلاثة اشياء:

الاول: الوجوب والتجرد في الصانع الجليل.

الثاني: عدم التقيد مع مباينة ماهيته.

الثالث: عدم التحيز مع عدم التجزء.

السر الاول: ان الوجوب والتجرد يسببان السهولة المطلقة واليسر المطلق.

هذا السر عميق للغاية ودقيق للغاية. وسنقرّبه بتمثيل الى الفهم، وذلك:

ان مراتب الوجود مختلفة، وعوالم الموجودات متباينة، لذا فان ذرة من طبقة وجود ذات رسوخ في الوجود تعدل جبلاً من طبقة وجود اقل منها رسوخاً، وتستوعب ذلك الجبل، فمثلاً:

ان القوة الحافظة الموجودة في الانسان ـ وهي لاتعدل حبة خردل من عالم الشهادة ـ تستوعب وجوداً من عالم المعنى بمقدار مكتبة ضخمة.

وان مرآة صغيرة صغر الاظفر من العالم الخارجي، تضم مدينة عظيمة جداً من طبقة وجود من عالم المثال.

فلو كانت لتلك المرآة ولتلك القوة الحافظة من العالم الخارجي شعور وقوة للايجاد، لأحدثتا تحولات وتصرفات غير محدودة في ذلك الوجود المعنوي والمثالي، رغم ما فيهما من قوة وجود خارجي صغير ضئيل. وهذا يعني انه كلما ترسّخ الوجود ازداد قوة، فالشئ القليل يأخذ حكم الكثير، ولاسيما إن كان الوجود مجرداً عن المادة ولم يدخل تحت ضوابط القيد وكَسبَ الرسوخ التام، فان جلوة جزئية منه تستطيع أن تدير عوالم كثيرة من سائر الطبقات الخفيفة من عالم الوجود.

(ولله المثل الاعلى) ان الصانع الجليل لهذا الكون العظيم هو واجب الوجود. أي أن وجوده ذاتي ازلي، ابدي، عدمه ممتنع، زواله محال، وان وجوده أرسخ طبقة من طبقات الوجود وارساها واقواها واكملها، بينما سائر طبقات الوجود بالنسبة لوجوده سبحانه بمثابة ظلٍ في منتهى الضعف.

وان هذا الوجود، واجب، راسخ، ذو حقيقة، الى حدٍ عظيم. ووجود الممكنات خفيف وضعيف في منتهى الخفة والضعف، بحيث دفع الشيخ محي الدين بن عربي وامثاله الكثيرين من اهل التحقيق ان يُنزلوا سائر طبقات الوجود منزلة الاوهام والخيالات، فقالوا: لاموجود الاّ هو، وقرروا انه لاينبغي ان يقال لما سوى الوجود الواجب وجوداً، اذ لاتستحق هذه الانواع من الوجود عنوان الوجود.

وهكذا فوجود الموجودات التي هي عرضية وحادثة، و ثبوت الممكنات التي لاقرار ولا قوة لها، يسيرٌ في منتهى اليسر أزاء قدرة واجب الوجود الذاتية الواجبة. فاحياء جميع الارواح في الحشر الاعظم ومحاكمتها سهل ويسير على تلك القدرة كسهولة حشر وإحياء الاوراق والازهار والثمار في الربيع بل في حديقة صغيرة بل في شجرة.

السـر الثاني: ان مباينة الماهية مع عدم التقيد يسببان السهولة المطلقة، وذلك: ان صانع الكون جل جلاله ليس من جنس الكون بلاشك، فلا تشبه ماهيته اية ماهية كانت، لذا فان الموانع والقيود التي هي ضمن دائرة الكائنات لاتتمكن قطعاً ان تعترض اجراءاته وتقيّدها، فهو القادر على ادارة الكون كله في آن واحد ويتصرف فيه تصرفاً مباشراً.

فلو احيل تصريف الامور وافعاله الظاهرة في الكون الى الكائنات انفسها، لنجمت من المشكلات والاختلاطات الكثيرة بحيث لايبقى اي انتظام اصلاً ولا أي شئ في الوجود بل لايأتي أصلاً الى الوجود.

فمثلاً: لو احيلت المهارة في بناء القبة الى احجارها، وفوّض ما يخص الضابط في ادارة الفوج الى الجنود انفسهم، فإما لا تحصل تلك النتيجة ولاتأتي الى الوجود أصلاً او يحدث فوضى من عدم الانتظام ومشكلات واختلاط الامور.بينما اذا اسندت المهارة في بناء القبب الى صناع ليس من نوع الحجر، وفوضت ادارة الجنود في الفوج الى ضابط حاز ماهية الضابط ـ من حيث الرتبة ـ فان الصنعة تسهّل والادارة تتيسر، حيث أن الاحجار وكذا الجنود يمنع احدها الآخر. بينما البنّاء والضابط ينظران ويتوجهان ويديران كل نقطة من نقاط البناء او الجنود دون مانع او عائق. (ولله المثل الاعلى) ان الماهية المقدسة لواجب الوجود ليست من جنس ماهية الممكنات. بل جميع حقائق الكائنات ليست الاّ أشعة لإسم "الحق" الذي هو اسم من الاسماء الحسنى لتلك الماهية.

ولما كانت ماهيته المقدسة، واجبة الوجود، ومجرّدة عن المادة، ومخالفة للماهيات كافة، اذ لامثل ولامثال ولامثيل لها، فان ادارة الكون اذاً وتربيته بالنسبة الى قدرة ذلك الرب الجليل الازلية، سهل كادارة الربيع بل كادارة شجرة واحدة، وايجاد الحشر الاعظم والدار الآخرة والجنة وجهنم سهل كاحياء الاشجار مجدداً في الربيع بعد موتها في الخريف.

السر الثالث: ان عدم التحيز وعدم التجزؤ سبب للسهولة المطلقة وذلك:

ان الصانع القدير لما كان منزهاً عن المكان فهو حاضر إذاً بقدرته في كل مكان قطعاً. وحيث لاتجزؤ ولاإنقسام، فيمكن اذاً أن يتوجه الى كل شئ بجميع اسمائه الحسنى.

وحيث أنه حاضر في كل مكان ومتوجه الى كل شئ فان الموجودات والوسائط والاجرام لاتعيق افعاله ولاتمانعها. بل لو افترضت الحاجة الى الاشياء ـ ولا حاجة اليها اصلاً ـ فانها تصبح وسائل تسهيل ووسائط وصول الحياة واسباباً للسرعة في انجاز الافعال كاسلاك الكهرباء واغصان الشجرة واعصاب الانسان. فلاتعويق اذاً ولاتقييد ولاتمانع ولامداخلة قطعاً، اذ كل شئ بمثابة وسيلة تسهيل ووساطة سرعة واداة ايصال، اي لا حاجة الى شئ من حيث الطاعة والانقياد تجاه تصاريف قدرة القدير الجليل، وحتى لو افترضت الحاجة ـ ولاحاجة اصلاً ـ فان الاشياء تكون وسائل تسهيل ووسائط تيسير.



حاصل الكلام: ان الصانع القدير يخلق كل شئ بما يليق به بلا كلفة ولامعالجة ولامباشرة، وفي منتهى السهولة والسرعة، فهو سبحانه يوجد الكليات بسهولة ايجاد الجزئيات ويخلق الجزئيات باتقان الكليات.

نعم! ان خالق الكليات والسموات والارض هو خالق الجزئيات وافراد ذوي الحياة من الجزئيات التي تضمها السموات والارض، وليس غيره. لأن تلك الجزئيات الصغيرة انما هي مثال مصغر لتلك الكليات وثمراتها ونواها.

وان من كان خالقاً لتلك الجزئيات لاشك أنه هو الخالق لما يحيط بها من العناصر والسموات والارض، لاننا نشاهد ان الجزئيات في حكم نوى بالنسبة للكليات ونسخة مصغرة منها، لذا لابد أن تكون العناصر الكلية والسموات والارض في يد خالق تلك الجزئيات كي يمكن أن يدرج خلاصة تلك الموجودات الكلية والمحيطة ومعانيها ونماذجها في تلك الجزئيات التي هي نماذجها المصغرة على وفق دساتير حكمته وموازين علمه.

نعم! ان الجزئيات ليست قاصرة عن الكليات من حيث عجائب الصنعة وغرائب الخلق. فالازهار ليست ادنى جمالاً عن النجوم الزاهرة ولا البذور أحط قيمة من الاشجار اليافعة. بل الشجرة المعنوية المدرجة بنقش القدر في البذرة الصغيرة اعجب من الشجرة المجسمة بنسج القدرة في البستان. وان خلق الانسان اعجب من خلق العالم.

فكما لو كتب قرآن الحكمة بذرات الاثير على جوهر فرد يمكن أن يكون اعظم قيمة من قرآن العظمة المكتوبة على السموات بالنجوم، كذلك هناك كثير جداً من الجزئيات هي ارقى من الكليات من حيث الصنعة.

m النكتة الخامسة:

لقد بينا آنفاً شيئاً من اسرار وحكم ما يُشاهد في ايجاد الاشياء والمخلوقات من منتهى اليسر والسهولة ومنتهى السرعة في انجاز الافعال.

فوجود الاشياء بهذه السهولة غير المحدودة والسرعة المتناهية، يورث قناعة قاطعة لدى اهل الايمان؛ أن ايجاد الجنة ازاء قدرة خالق المخلوقات سهل كايجاد الربيع، والربيع كالبستان والبستان كالزهرة. وان حشر البشر قاطبة وبعثهم سهل كسهولة اماتة فرد وبعثه وذلك مضمون الآية الكريمة :

} ماخلقُكم ولابعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة{ (لقمان:28).

وكذلك فإن احياء جميع الناس يوم الحشر الاعظم يسير كيسر جمع الجنود المتفرقين في الاستراحة بصوت من بوق، وهو مضمون صراحة الآية الكريمة:

} إنْ كانت الاّ صيحةً واحدة فاذا هُم جميعٌ لدينا مُحـضَرون{ (يس:53).

فهذه السرعة غير المتناهية والسهولة غير المحدودة، مع أنها ـ بالبداهة ـ دليل قاطع وبرهان يقيني على كمال قدرة الصانع جل جلاله، وسهولة كل شئ بالنسبة له، الاّ انها اصبحت سبباً للالتباس على اهل الضلالة. فالتبس في نظرهم تشكيل الاشياء وايجادها بقدرة الصانع الجليل الذي هو سهل بدرجة الوجوب ، وتشكّل الاشياء بنفسها والذي هو محال بالف محال.

اذ لأنهم يرون مجئ بعض الاشياء المعتادة الى الوجود في غاية السهولة فيتوهمون انها لاتخلق بل تتشكل بنفسها.

فتأمل في درك الحماقة السحيق حيث يجعلون دليل القدرة المطلقة دليلاً على عدمها، ويفتحون ابواباً لانهاية لها من المحالات. اذ يلزم عندئذٍ أن تعطى كل ذرة من ذرات كل مخلوق اوصاف الكمال التي هي لازمة ذاتية للصانع الجليل كالقدرة المطلقة والعلم المحيط وامثالها حتى تتمكن من تشكيل نفسها بنفسها.

u الكلمة الحادية عشرة: [واليه المصير]

اي اليه المآب من دار الفناء الى دار البقاء، واليه الرجعى في المقر الابدي للقديم الباقي، واليه المساق من دائرة الاسباب الكثيرة الى دائرة قدرة الواحد الاحد، واليه المضي من الدنيا الى الاخرة. اي مرجعكم انما هو ديوانه وملجؤكم انما هو رحمته. وهكذا تفيد هذه الكلمة كثيراً من امثال هذه الحقائق.

أما ما في هذه الحقائق من الحقيقة التي تفيد الرجوع الى الجنة ونيل السعادة الابدية فقد اثبتناها اثباتاً قاطعاً لاتدع حاجة الى بيان آخر، وذلك في البراهين الاثني عشر القاطعة في الكلمة العاشرة وفي الاسس الستة التي تتضمنها الكلمة التاسعة والعشرون ودلائلها الكثيرة القاطعة بقطعية شروق الشمس بعد مغيبها. وقد اثبتت تلكما الكلمتان:

ان الحياة التي هي شمس معنوية لهذه الدنيا ستطلع طلوعاً باقياً صباح الحشر بعد غروبها بخراب الدنيا. وسيفوز قسم من الجن والانس بالسعادة الابدية وينال قسم منهم الشقاء الدائم.

ولما كانت الكلمتان العاشرة والتاسعة والعشرون قد اثبتتا هذه الحقيقة على أتم وجه نحيل الكلام اليهما ونقول:

ان الصانع الحكيم لهذا الكون والخالق الحكيم لهذا الانسان الذي له علم محيط مطلق وارادة كلية مطلقة وقدرة مطلقة ـــ كما اثبتت في التوضيحات السابقة اثباتاً قاطعاً - قد وعد بالجنة والسعادة الابدية للمؤمنين في جميع كتبه وصحفه السماوية. واذ قد وعد فلاشك انه سينجزه. لأن اخلاف الوعد محال عليه، اذ إن عدم ايفاء الوعد نقص مشين. والكامل المطلق منزّه عن النقص ومقدس عنه. وان عدم انجاز الموعود، اما انه ناتج من الجهل او العجز، والحال أنه محال في حق ذلك القدير المطلق والعليم بكل شئ الجهل والعجز قطعاً. فخلف الوعد اذاً محال.

ثم ان جميع الانبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم فخر العالم e وجميع الاولياء وجميع الاصفياء وجميع المؤمنين يسألون دوماً ذلك الرحيم الكريم ماوعده من سعادة ابدية ويتضرعون اليه ويطلبونها منه.

فضلاً عن انهم يسألونها مع جميع اسمائه الحسنى، لأن اسماءه وفي المقدمة رأفته ورحمته وعدالته وحكمته، واسم الرحمن والرحيم واسم العادل والحكيم وربوبيته المطلقة وسلطنته المهيبة واسم الرب واسم الله سبحانه وتعالى، وامثالها من اكثر الاسماء الحسنى تقتضي الآخرة والسعادة الابدية وتستلزمها وتشهد لتحققها وتدل عليها، بل ان جميع الموجودات بجميع حقائقها تشير الى دار الآخرة (كما اثبت في الكلمة العاشرة ).

ثم ان القرآن الحكيم بألوف آياته الجليلة وبيّنات براهينه الصادقة القاطعة تدل على تلك الحقيقة وتعلّمها.

ثم ان الحبيب الكريم e وهو فخر الانسانية قد درّس تلك الحقيقة وعلّمها، مستنداً الى الوف معجزاته الباهرة، طوال حياته المباركة، وبكل ماآتاه الله من قوة واثبتها واعلنها وشاهدها وأشهدها.

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه بعدد انفاس اهل الجنة في الجنة واحشرنا وناشر هذا المكتوب ورفقاءه وصاحبه سعيداً ووالدينا واخواننا واخواتنا تحت لوائه وارزقنا شفاعته وادخلنا الجنة مع آله واصحابه برحمتك يا ارحم الراحمين. آمين.. آمين

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا{

} ربنا لاتُزِغْ قُلوبنا بعد إذ هديتنا وهَب لنا مِنْ لدنكَ رحمةً انك انت الوهّاب{

} رب اشرح لي صدري ` ويسر لي امري `

واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي{

} ربنا تقبّل منا انك انت السميع العليم{

} وتب علينا انك انت التواب الرحيم{

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

ذ يـل

الكلمة العاشرة من المكتوب العشرين

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ألا بذكرِ الله تطمئنُ القلوب{ (الرعد: 28)

} ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سَلَماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل اكثرهم لايعلمون{ (الزمر: 29).



سؤال: لقد ذكرتَ في مواضع عديدة:

ان في الوحدة منتهى السهولة، وفي الكثرة والشرك غاية الصعوبات. وتقول ايضاً: ان في الوحدة سهولة بدرجة الوجوب، وفي الشرك صعوبة بدرجة الامتناع، والحال ان ما بينته من المشكلات والمحالات تجري ايضاً في جهة الوحدة. فمثلاً؛ تقول: ان لم تكن الذرات مأمورات، يلزم ان يكون في كل ذرة إما علم محيط وقدرة مطلقة او مكائن ومطابع معنوية غير محدودة وهذا محال بمائة ضعف،بينما لو اصبحت تلك الذرات مأمورات الهية يلزم ايضاً ان تكون مظهراً لتلك الامور كي تستطيع القيام بالوظائف التي اُنيطت بها وهي وظائف لاتحد.

الجـواب: لقد اثبتنا في (كلمات) كثيرة انه:

اذا أسند ايجاد الموجودات كلها الى صانع واحد يكون الامر سهلاً هيناً بسهولة ايجاد موجود واحد. وان اسند الى الاسباب الكثيرة والطبيعة، فان خلق ذبابة واحدة يكون صعباً كخلق السماوات، ويكون خلق الزهرة عسيراً بقدر خلق الربيع، وكذا الثمرة بقدر البستان.

ولما كانت هذه المسألة قد وضحت واثبتت في كلمات اخرى، نحيل اليها، الاّ اننا نشير هنا بثلاث اشارات في ثلاث تمثيلات تحقق اطمئنان النفس تجاه هذه الحقيقة.

n التمثـيل الاول: ان ذرة صـغيرة شفافة لماعة لاتسـع نـور عـود ثقاب بالـذات، ولاتكون مصدراً له، اذ يمكن ان يكون له نور بالاصالة بقدر جرمه وبمقدار ماهيته كذرة جزئية. ولكن اذا ما انتسبت الى الشمس وفتحت عينها تجاهها ونظرت اليها، فان تلك الذرة الصغيرة يمكن ان تستوعب تلك الشمس بضيائها وألوانها السبعة وحرارتها حتى بمسافتها، وتنال نوعاً من مظاهر تجليها الاعظم. بمعنى ان تلك الذرة ان بقيت سائبة دون انتساب مستندة الى ذاتها، لاتعمل شيئاً إلاّ بقدر الذرة، ولكن ان عُدّت مأمورة لدى الشمس ومنسوبة اليها ومرآة لها، فانها تستطيع ان تظهر قسماً من نماذج جزئية لاجراءات الشمس.

(ولله المثل الاعلى) فان كل موجود، حتى كل ذرة، اذا اسندت الى الكثرة والشرك والى الاسباب والى الطبيعة والى نفسها. فإما ان تكون كل ذرة وكل موجود، مالكة لعلم محيط بكل شئ ولقدرة مطلقة، او تتشكل فيها مطابع ومكائن معنوية لاحدّ لها، كي تؤدي اعمالها التي اودعت فيها. ولكن اذا أسندت تلك الذرات الى الواحد الاحد، فعندئذٍ ينتسب اليه كل مصنوع وكل ذرة ويكون كالموظف المأمور لديه، وانتسابه هذا يجعله ينال تجلياً منه، وبهذه الحظوة والانتساب يستند الى علم مطلق وقدرة مطلقة، فينجز من الاعمال ويؤدي من الوظائف ما يفوق قوته بملايين المرات، وذلك بقوة خالقه وبسر ذلك الاستناد والانتساب.

n التمثيـل الثاني: أخَوان: احدهـما شجاع يعتمد على نفسه ويعتّد بهـا، والآخـر شهم غيور يملك حمية الدفاع عن الوطن. فعند نشوب الحرب، لاينتسب الاول الى الدولة لاعتداده بنفسه. بل يرغب ان يؤدي الاعمال بنفسه مما يضطره هذا الى حمل منابع قوته على ظهره، ويُلجؤه الى نقل تجهيزاته وعتاده بقدرته المحدودة، لذا لايستطيع هذا ان يحارب العدو الاّ بمقدار تلك القوة الشخصية الضئيلة، فتراه لايستطيع ان يجابه الاّ قوة عريف في الجيش، لا أكثر. اما الاخ الآخر، غير المعتد بنفسه بل يعدّ نفسه عاجزاً لاقوة له، فانتسب الى السلطان وانخرط في سلك الجندية، فاصبح جيش الدولة العظيم نقطة استناد له بذلك الانتساب. وخاض غمار الحرب بقوة معنوية عظيمة يمدّها ذلك الانتساب، تعادل قوة جيش عظيم حيث يمكن للسلطان ان يحشّدها له. فحارب العدو حتى جابه مشيراً عظيماً من العدو المغلوب فامسك به اسيراً وجلبه الى معسكره باسم السلطان.

وسر هذه الحالة وحكمتها هي:

ان الشخص الاول السائب لكونه مضطراً الى حمل منابع قوته وتجهيزاته، لم يقدر الاّ على عمل جزئي جداً، اما هذا الموظف فليس مضطراً الى حمل منابع قوته بنفسه بل يحمل عنه ذلك الجيش بأمر السلطان، فيربط نفسه بتلك القوة العظيمة بالانتساب، كمن يربط جهاز هاتفه بسلك بسيط باسلاك هواتف الدولة.

(ولله المثل الاعلى) اذا اسند كل مخلوق وكل ذرة، مباشرة الى الواحد الاحد، وانتسب اليه. فعندئذ، يهدم النمل صرح فرعون ويهلكه، ويصرع البعوض نمرود ويقذفه الى جهنم وبئس المصير، وتُدخل جرثومة صغيرة ظالماً جباراً القبر، وتصبح بذرة الصنوبر الصغيرة بمثابة مصنع لشجرة الصنوبر الضخمة ضخامة الجبل، وتتمكن ذرات الهواء ان تؤدي من اعمال منتظمة مختلفة للازهار والثمرات وتدخل في تشكيلاتها المتنوعة. كل ذلك بحول سيد المخلوق وبقوة ذلك الانتساب. فهذه السهولة المشاهدة كلها نابعةٌ بالبداهة من التوظيف والانتساب، بينما اذا انقلب الامر الى التسيب والفوضى، وترك الحبل على غاربه، وعلى نفس الشئ والاسباب والكثرة، وسُلك طريق الشرك، فعندئذٍ لاينجز الشئ من الاعمال الاّ بقدر جرمه ومقدار شعوره.

n التمثيل الثالث: صـديقان يرغبان في كتـابة بحث يحوي معـلومات احصـائية جغرافية حول بلاد لم يشاهداها اصلاً، فأحدهما ينتسب الى سلطان تلك البلاد ويدخل دائرة البريد والبرق، ويتم معاملات ربط خط هاتفه ببدّالة الدولة لقاء اجرة زهيدة، ويتمكن بهذه الوسيلة ان يتصل مع الجهات ويتسلم منها المعلومات. وهكذا كتب بحثاً فيما يخص الاحصائيات الجغرافية، في غاية الجودة والاتقان والعلمية.

اما الآخر: فإما انه سيسيح دوماً طوال خمسين سنة ويقتحم المصاعب والمهالك ليشاهد تلك الاماكن بنفسه وليسمع الاحداث بنفسه.. او ينفق ملايين الليرات ليمدّ اسلاك الهاتف كما هي للدولة، ويكون مالكاً لأجهزة المخابرة البرقية كما للسلطان كي يكون بحثه قيماً كبحث صاحبه.

(ولله المثل الاعلى) اذا اسندت المخلوقات غير المحدودة والاشياء غير المعدودة الى الواحد الاحد، فكل شئ عندئذٍ يكون ـ بذلك الارتباط ـ قد نال مظهراً من ذلك الانتساب، ويكون موضع تجلٍ من ذلك النور الازلي، فيمدّ علاقات ارتباطه بقوانين حكمته، وبدساتير علمه، وبنواميس قدرته جل وعلا، وعندها يرى كل شئ بحول الله وبقوته، ويحظى بتجلٍ رباني يكون بمثابة بصره الناظر الى كل شئ ووجهه المتوجه الى كل شئ وكلامه النافذ في كل شئ.

واذا قطع ذلك الانتساب، ينقطع ايضاً كل شئ من الاشياء عن ذلك الشئ. وينكمش الشئ بقدر جرمه. وفي هذه الحالة عليه ان يكون صاحب اُلوهية مطلقة ليتمكن ان يجري مايجري في الوضع الاول!!

زبدة الكلام: ان في طريق الوحدة والايمان سهولة مطلقة بدرجة الوجوب، بينما في طريق الشرك والاسباب والكثرة مشكلات وصعوبات بدرجة الامتناع، لان الواحد يعطي وضعاً معيناً لكثير من الاشياء، ويستحصل منها نتيجة معينة دون عناء، بينما لو أحيل اتخاذ ذلك الوضع واستحصال تلك النتيجة الى تلك الاشياء الكثيرة، لما أمكن ذلك الاّ بتكاليف وصعوبات كثيرة جداً وبحركات كثيرة جداً.

فكما ذكر في (المكتوب الثالث): ان جولان جيوش النجوم وجريانها في ميدان السماوات تحت رياسة الشمس والقمر واعطاء كل ليلة وكل سنة منظراً رائعاً بهيجاً، منظراً للذكر والتسبيح، ووضعاً مؤنساً جذّاباً، وتبديل المواسم وايجاد امثالها من المصالح والنتائج الارضية الحكيمة الرفيعة.. اذا اسندت هذه الافعال الى الوحدة فذلك السلطان الازلي يجريها بكل سهولة ويسر كتحريك جندي واحد، مسخراً الارض ـ التي هي كجندي في جيش السماوات ـ ومعيناً اياها قائداً عاماً على الاجرام العلوية. وبعد تسلّمها الامر تنتشي بنشوة التوظيف وتهتز لسماعها كالمولوي في انجذاب واشتياق، فتحصل تلك النتائج المهمة، وذلك الوضع الجميل بتكاليف قليلة جداً.

ولكن اذا قيل للارض: قفي لاتتدخلي في الامر وأُحيل استحصال تلك النتيجة وذلك الوضع الى السموات نفسها، وسُلكت طريق الكثرة والشرك بدل الوحدة، يلزم عندئذٍ ان تقطع ملايين النجوم كل منها اكبر بالوف المرات من الكرة الارضية، ان تقطع كل يوم وكل سنة مسافة مليارات السنين في اربع وعشرين ساعة.

نتيجة الكلام: ان القرآن الكريم يفوض أمر المخلوقات غير المحدودة الى الصانع الواحد، ويسند اليه كل شئ مباشرة، فيسلك طريقاً سهلاً بدرجة الوجوب، ويدعو اليها وكذلك يفعل المؤمنون.

اما اهل الشرك والطغيان فانهم باسنادهم المصنوع الواحد الى اسباب لاحدّ لها يسلكون طريقاً صعباً الى درجة الامتناع، بينما جميع المصنوعات التي هي في مسلك القرآن مساوية لمصنوع واحد في هذا المسلك، بل ان صدور جميع الاشياء من الواحد الاحد اسهل وأهون بكثير من صدور شئ واحد من اشياء لاحدّ لها. حيث ان ضابطاً واحداً يدبّر أمر ألف جندي بسهولة أمر جندي واحد، بينما اذا أحيل تدبير أمر جندي واحد الى ألفٍ من الضباط فالامر يستشكل ويصعب بألف ضعف وضعف وتنشأ الاختلاطات والاضطرابات والمماحكات.

وهكذا تُنزل الآية الكريمة الآتية ضرباتها القوية وصفعاتها على رأس اهل الشرك وتصدّعه:

} ضَربَ الله مثلاً رجلاً فيه شركاءُ متشاكسون ورجُلاً سَلَماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً الحمد لله بل اكثرهم لايعلمون{

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد بعدد ذرات الكائنات وعلى آله وصحبه اجمعين آمين.. والحمد لله رب العالمين.

اللهم ياأحد يا واحد ياصمد يامَن لا إله الاّ هو وحده لاشريك له.. يامَن له الملك وله الحمد.. يامَن يحيي ويميت.. يامَن بيده الخير.. يامَن هو على كل شئ قدير.. يامَن اليه المصير.. بحق اسرار هذه الكلمات اجعل ناشر هذه الرسالة ورفقاءه وصاحبها سعيداً من الموحدين الكاملين ومن الصدّيقين المحققين ومن المؤمنين المتقين. آميـن.

اللهم بحق سرّ أحديتك اجعل ناشر هذا الكتاب ناشراً لأسرار التوحيد وقلبه مظهراً لأنوار الايمان ولسانه ناطقاً بحقائق القرآن.

آمين.. آمين.. آمين.

عبدالرزاق 02-03-2011 11:23 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الحادي والعشرون

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بسم الله الرحمن الرحيم

} وقضى ربُّك الاّ تعبدُوا الاّ ايّاهُ وبالوالِدَين إحساناً إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ اَحَدُهما أو كلاهما فلا تَقُلْ لَهُما اُفٍّ ولا تَنْهَرهُما وَقُل لهما قولاً كريماً` واخفض لهما جناح الذلِّ من الرحمة، وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيراً` ربُّكُم أعلمُ بما في نفوسِكُمْ ان تكونوا صالحين فانه كان للأوابين غفوراً{

(الاسراء:23ـ25)

ايها الغافل، ويا من يسكن في بيته أب شيخ، او أم عجوز، او احد من ذوى قرباه، او اخ في الدين مقعد، او شخص عاجز عليل.. انظر الى هذه الاية الكريمة بدقة وامعان، انظر كيف ان آية واحدة تجلب للوالدين العجوزين خمسة انواع من الرحمة بصور مختلفة واشكال متعددة؟ نعم، ان اسمى حقيقة في الدنيا هي شفقة الامهات والآباء حيال اولادهم، وان أعلى الحقوق كذلك هو حق احترامهم مقابل تلك الشفقة والرأفة؛ ذلك لأنهم يضحّون بحياتهم فدىً لحياة اولادهم بكل لذة وسعادة. ولذلك فان كل ولد ـ ان لم تسقط انسانيته ولم ينقلب بعد الى وحش ـ لا بد ان يوقـّر باخلاص اولئك الاحبة المحترمين، المضحين الصادقين ويقوم بخدمتهم خدمة صادقة، ويسعى لنيل رضاهم وادخال البهجة في قلوبهم. ان العم والعمة هما في حكم الاب، وان الخالة والخال في حكم الام. فاعلم ما اشد انعداماً للضمير استثقال وجود هؤلاء الشيوخ الميامين واسترغاب موتهم! بل ما أشده من دناءة ووضاعة بالمرّة. اعلم هذا.. واصحَ!

أجل افهم، ما اقذره من ظلم وما افظعه من انعدام للضمير ان يتمنى متمنٍ زوال الذي ضحى بحياته كلها في سبيل حياته هو!

ايها الانسان المبتلى بهموم العيش! اعلم ان عمود بركة بيتك ووسيلة الرحمة فيه، ودفع المصيبة عنه، انما هو ذلك الشيخ، او ذلك الاعمى من اقربائك الذي تستثقله. لا تقل ابداً: ان معيشتى ضنك، لا استطيع المداراة فيها!.. ذلك لانه لو لم تكن البركة المقبلة من وجوه اولئك، لكان ضنك معيشتك اكثر قطعاً. فخذ مني هذه الحقيقة، وصدّقها، فانني اعرف لها كثيراً من الادلة القاطعة، واستطيع ان احملك على التصديق بها كذلك. ولكن، لئلا يطول الامر فانني اوجزها. كن واثقاً جداً من كلامي هذا. أقسم بالله ان هذه الحقيقة هي في منتهى القطعية، حتى ان نفسي وشيطاني ايضاً قد استسلما امامها. فلا غرو ان الحقيقة التي اغاظت شيطاني واسكتته وحطمت عناد نفسي الامارة بالسوء لا بد انها تستطيع ان تقنعك ايضاً.

أجل؛ ان الخالق ذا الجلال والاكرام الذي هو الرحمن الرحيم وهو اللطيف الكريم ـ بشهادة ما في الكون اجمع ـ حينما يرسل الاطفال الى الدنيا فانه يرسل ارزاقهم عقبهم مباشرة في منتهى اللطف؛ كانقذاف ما في الاثداء وتفجيره كالينابيع الى افواههم، كذلك فان ارزاق العجزة ـ الذين دخلوا في عداد الاطفال بل هم احق بالمرحمة واحوج الى الرأفة ـ يرسلها لهم سبحانه وتعالى بصورة بَرَكَة، ولا يحمّل الاشحاء من الناس اعاشة هؤلاء ولا يدعها لهم. فالحقيقة التي تفيدها الايات الكريمة: } انّ الله هو الرزّاق ذو القوةِ المتين{ (الذاريات :58). } وكأيّن من دابّةٍ لا تحمِلُ رِزقَها الله يرزُقها واياكم وهو السميع العليم{ .(العنكبوت:60) حقيقة ذات كرم ينطق بها وينادى بلسان حال جميع المخلوقات المتنوعة من الاحياء. وليس الشيوخ الاقرباء وحدهم يأتيهم رزقهم رغداً بصورة بركة بل رزق حتى بعض المخلوقات التي وهبت لمصاحبة الانسان وصداقته كأمثال القطط. فان ارزاقها ترسل ضمن رزق الانسان، وتأتي بصورة بركة ايضاً. ومما يؤيد هذا، ما شاهدته بنفسي من مثال، هو:كانت لي حصة من الغذاء كل يوم ـ كما يعلم احبائي القريبون ـ قبل سنتين او ثلاث وهي نصف رغيف، وكان رغيف تلك القرية صغيراً، وكثيراً ما كان لا يكفيني.. ثم جاءني أربع قطط ضيوفاً، وقد كفاني ذلك الغذاء وكفاهم. بل غالباً كانت تبقى منه فضلة وزيادة.

هذه الحالة قد تكررت عندي بحيث اعطتني قناعة تامة من أننى انا الذي كنت استفيد من بركات تلك القطط! وأنا اعلن اعلاناً قاطعاً الان ان تلك القطط ما كانت حملاً ولا عبئاً عليّ ولم تكن تبقى تحت منتي، وانما انا الذي كنت ابقى تحت منّتها.

ايها الانسان! ان حيواناً شبه مفترس يأتي ضيفاً الى بيت يكون محوراً للبركة، فكيف اذا حلّ في البيت من هو اكرم المخلوقات وهو الانسان؟ ومن هو اكملهم من بين الناس وهو المؤمن؟ ومن هو من العجزة والمعلولين المعمرين من بين اهل الايمان؟ ومن هو اكثر أهلاً للخدمة والمحبة من بين المعلولين والمعمّرين وأولى من يستحقونها وهم الاقربون؟ ومن هم اخلص صديق واصدق محب من بين هؤلاء الاقربين وهم الوالدان؟! كيف بهم اذا حلوا في البيت. فلك ان تقيس، ما اعظمها من وسيلة للبركة، ومن وساطة لجلب الرحمة ومن سبب لدفع المصيبة، كما يتضمنه معنى الحديث الشريف: لولا الشيوخ الركع لصبّ عليكم البلاء صباً(1).

اذن ايها الانسان: تأمل .. واعتبر واعلم انك ان لم تمت فلا مناص من ان تصير شيخاً عجوزاً، فان لم تحترم والديك، فسيأتي عليك يوم لا يوقرك اولادك ولن يحترموك، وذلك بما اودع الله من سر في (( الجزاء من جنس العمل)). لذا.. ان كنت محباً لآخرتك فدونك كنزٌ عظيم الا وهو: اخدمهما ونل رضاهما. وان كنت تحب الدنيا فارضهما كذلك واشكر لهما. حتى تمضي حياتك براحة، وحتى يأتي رزقك ببركة من ورائهم.

والاّ .. فان استثقال هؤلاء وتمني موتهم وتجريح قلوبهم الرقيقة الحساسة يجعلك ممن تنطبق عليه حقيقة الاية الكريمة } خسر الدنيا والاخرة{ .

واذا كنت تريد رحمة الرحمن الرحيم فارحم ودائع ذلك الرحمن، وما استودعك في بيتك من أمانات.

كان لي اخ من اخوان الاخرة وهو ((مصطفى ضاووش))(1) وكنت أراه موفقاً في دينه ودنياه معاً. ولم اكن اعرف السر. ثم علمت سبب ذلك التوفيق وهو: ان هذا الرجل الصالح كان قد علم حقوق امه وابيه، وانه راعى تلك الحقوق حق رعايتها. فكان ان وجد الراحة والرحمة ببركة وجوههم. وارجو ان يكون قد عمّر آخرته كذلك ان شاء الله. فمن اراد ان يكون سعيداً فليقتد به، وليكن مثله.



اللهم صل وسلم على مَن قال:

(الجنةُ تحتَ اقدام الامهات)(2)

وعلى آله وصحبه اجمعين.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

عبدالرزاق 02-03-2011 11:25 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثاني والعشرون

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

هذا المكتوب عبارة عن مبحثين:

المبحث الاول يدعو اهل الايمان الى الاخوة والمحبة.

المبـحث الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} اِنَّمَا الـمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوا بَيْنَ اَخَوَيْكُم{ (الحجرات: 10)

} اِدْفَعْ بِالّتـي هِـيَ اَحْسَـنُ فَاِذَا الَّـذي بَيْنَكَ
وَبَيْـنَـهُ عَدَاوَةٌ كَاَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ{ (فصلت: 34)

} وَالْكَاظِمينَ الْـغَــيْظَ وَالْـعَـافِينَ عَـنِ
النَّاسِ والله يُحِـبُّ الْـمُحْسِنينَ{ (آل عمران: 134)

ان ما يسببه التحايز والعناد والحسد من نفاق وشقاق في اوساط المؤمنين، وما يوغر في صدورهم من حقد وغل وعداء، مرفوض اصلاً. ترفضه الحقيقة والحكمة، ويرفضه الاسلام الذي يمثل روح الانسانية الكبرى. فضلاً عن ان العداء ظلم شنيع يفسد حياة البشر: الشخصية والاجتماعية والمعنوية، بل هو سم زعاف لحياة البشرية قاطبة.

سنبين ((ستة اوجه)) من وجوه كثيرة لهذه الحقيقة.

u الوجه الاول:

ان عداء الانسان لاخيه الانسان ظلم في نظر الحقيقة.

فيا من امتلأ صدره غلاً وعداءً لاخيه المؤمن، ويا عديم المروءة! هب انك في سفينة او في دار ومعك تسعة اشخاص ابرياء ومجرم واحد. ورأيت من يحاول اغراق السفينة او هدم الدار عليكم، فلا مراء انك ـ في هذه الحالة ـ ستصرخ بأعلى صوتك محتجاً على ما يرتكبه من ظلم قبيح، اذ ليس هناك قانون يسوغ اغراق سفينة برمتها تضم مجرمين طالما فيها برئ واحد.

فكما ان هذا ظلم شنيع وغدر فاضح، كذلك انطواؤك على عداء وحقد مع المؤمن الذي هو بناء رباني وسفينة إلهية، لمجرد صفة مجرمة فيه، تستاء منها او تتضرر، مع انه يتحلى بتسع صفات بريئة بل بعشرين منها: كالايمان والاسلام والجوار..الخ.فهذا العداء والحقد يسوقك حتماً الى الرغبة ضمناً في اغراق سفينة وجوده، او حرق بناء كيانه. وما هذا الاّ ظلم شنيع وغدر فاضح.

u الوجه الثاني:

العداء ظلم في نظر الحكمة، اذ العداء والمحبة نقيضان ـ كما لا يخفى ـ فهما كالنور والظلام لا يجتمعان معاً بمعناهما الحقيقي ابداً . فاذا ما اجتمعت دواعي المحبة وترجحت اسبابها فأرست اسسها في القلب، استحالت العداوة الى عداء صوري، بل انقلبت الى صورة العطف والاشفاق، اذ المؤمن يحب اخاه، وعليه ان يوده، فأيما تصّرف مشين يصدر من اخيه يحمله على الاشفاق عليه، وعلى الجد في محاولة اصلاحه باللين والرفق دون اللجوء الى القوة والتحكم. فقد ورد في الحديث الشريف:

(لا يحل لمسلم ان يهجر اخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)(1).

اما اذا تغلبت اسباب العداوة والبغضاء وتمكنت في القلب، فان المحبة تنقلب عندئذ الى محبة شكلية تلبس لبوس التصنع والتملق.



فأعلم اذن ايها الظالم! ما اشده من ظلم ان يحمل المؤمن عداء وحقداً لاخيه! فكما انك اذا استعظمت حصيات تافهة ووصفتها بأنها اسمى من الكعبة المشرفة واعظم من جبل احد، فانك بلا شك ترتكب حماقة مشينة، كذلك هي حماقة مثلها ان استعظمت زلات صدرت من اخيك المؤمن واستهولت هفواته التي هي تافهة تفاهة الحصيات، وفضلت تلك الامور التافهة على سمو الايمان الذي هو بسمو الكعبة، ورجحتها على عظمة الاسلام الذي هو بعظمة جبل اُحد. فتفضيلك ما بدر من اخيك من أمور بسيطة على ما يتحلى به من صفات الاسلام الحميدة ظلم وأي ظلم! يدركه كل من له مسكة من عقل!

نعم! ان الايمان بعقيدة واحدة، يستدعي حتماً توحيد قلوب المؤمنين بها على قلب واحد، ووحدة العقيدة هذه، تقتضي وحدة المجتمع. فأنت تستشعر بنوع من الرابطة مع من يعيش معك في طابور واحد، وبعلاقة صداقة معه ان كنت تعمل معه تحت امرة قائد واحد، بل تشعر بعلاقة اخوة معه لوجودكما في مدينة واحدة، فما بالك بالايمان الذي يهب لك من النور والشعور ما يريك به من علاقات الوحدة الكثيرة، وروابط الاتفاق العديدة، ووشائج الاخوة الوفيرة ما تبلغ عدد الاسماء الحسنى. فيرشدك مثلاً الى:

ان خالقكما واحد، مالككما واحد، معبودكما واحد، رازقكما واحد.. وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ الالف. ثم، ان نبيكما واحد، دينكما واحد، قبلتكما واحدة، وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ المائة. ثم، انكما تعيشان معاً في قرية واحدة، تحت ظل دولة واحدة، في بلاد واحدة.. وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ العشرة.

فلئن كان هناك الى هذا القدر من الروابط التي تستدعي الوحدة والتوحيد والوفاق والاتفاق والمحبة والاخوة، ولها من القوة المعنوية ما يربط اجزاء الكون الهائلة، فما اظلم من يعرض عنها جميعاً ويفضل عليها اسباباً واهية اوهن من بيت العنكبوت، تلك التي تولد الشقاق والنفاق والحقد والعداء. فيوغر صدره عداءً وغلاً حقيقياً مع اخيه المؤمن! أليس هذا اهانة بتلك الروابط التي توحد؟ واستخفافاً بتلك الاسباب التي توجب المحبة؟ واعتسافاً لتلك العلاقات التي تفرض الاخوة؟ فأن لم يكن قلبك ميتاً ولم تنطفئ بعد جذوة عقلك فستدرك هذا جيداً.

u الوجه الثالث:

ان الآية الكريمة: (} وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى{ (الانعام:164) تفيد العدالة المحضة، اي لا يجوز معاقبة انسان بجريرة غيره. فترى القرآن الكريم ومصادر الشريعة الاخرى وآداب اهل الحقيقة والحكمة الاسلامية كلها تنبهك الى:

ان اضمار العداء للمؤمن والحقد عليه ظلم عظيم، لانه ادانة لجميع الصفات البريئة التي يتصف بها المؤمن بجريرة صفة جانية فيه. ولا سيما امتداد العداء الى اقاربه وذويه بسبب صفة تمتعض منها، فهو ظلم اعظم، كما وصفه القرآن الكريم بالصيغة المبالغة: } اِنَّ الاِنْسَانَ لَظَلُومٌ{ (ابراهيم:34) أفبعد هذا تجد لنفسك مبررات وتدعي انك على حق؟

فأعلم! ان المفاسد التي هي سبب العداء والبغضاء كثيفة في نظر الحقيقة، كالتراب والشر نفسه، وشأن الكثيف انه لا يسرى ولا ينعكس الى الغير ـ الا ما يتعلمه الانسان من شر من الآخرين ـ بينما البر والاحسان وغيرهما من اسباب المحبة فهي لطيفة كالنور وكالمحبة نفسها، ومن شأن النور الانعكاس والسريان الى الغير. ومن هنا سار في عداد الامثال: ((صديق الصديق صديق)) وتجد الناس يرددون: (( لاجل عين الف عين تكرم)).

فيا ايها المجحف! ان كنت تروم الحق، فالحقيقة هي هذه، لذا فأن حملك عداء مع اقارب ذلك الذي تكره صفة فيه، وحقدك على ذويه المحبوبين لديه، خلاف للحقيقة واي خلاف!

u الوجه الرابع:

ان عداءك للمؤمـن ظلـم مبين، من حيـث الحيـاة الشخصية. فإن شئت فاستمع الى بضعة دساتير هي اساس هذا الوجه الرابع.

^ الدستور الاول:

عندما تعلم انك على حق في سلوكك وافكارك يجوز لك ان تقول: ((ان مسلكي حق او هو افضل)) ولكن لا يجوز لك ان تقول: ((ان الحق هو مسلكي انا فحسب)). لان نظرك الساخط وفكرك الكليل لن يكونا محكاً ولا حكماً يقضي على بطلان المسالك الاخرى، وقديماً قال الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا(1)

^ الدستور الثاني:

((عليك أن تقول الحق في كل ما تقول، ولكن ليس لك ان تذيع كل الحقائق. وعليك أن تصدق في كل ما تتكلمه، ولكن ليس صواباً ان تقول كل صدق)).

لان من كان على نية غير خالصة ـ مثلك ـ يحتمل ان يثير المقابل بنصائحه فيحصل عكس المراد.

^ الدستور الثالث:

ان كنت تريد ان تعادي احداً فعاد ما في قلبك من العداوة، واجتهد في اطفاء نارها واستئصال شأفتها. وحاول ان تعادي من هو اعدى عدوك واشد ضرراً عليك، تلك هي نفسك التي بين جنبيك. فقاوم هواها، واسع الى اصلاحها، ولا تعاد المؤمنين لاجلها. وان كنت تريد العداء ايضاً فعاد الكفار والزنادقة، فهم كثيرون. واعلم ان صفة المحبة محبوبة بذاتها جديرة بالمحبة، كما ان خصلة العداوة تستحق العداء قبل أي شئ آخر.

وان اردت أن تغلب خصمك فادفع سيئته بالحسنة، فبه تخمد نار الخصومة. اما اذا قابلت اساءته بمثلها فالخصومة تزداد. حتى لو اصبح مغلوباً ـ ظاهراً ـ فقلبه يمتلئ غيظاً عليك، فالعداء يدوم والشحناء تستمر. بينما مقابلته بالاحسان تسوقه الى الندم، وقد يكون صديقاً حميماً لك، اذ ان من شأن المؤمن ان يكون كريماً، فان اكرمته فقد ملكته وجعلته اخاً لك، حتى لو كان لئيماً ـ ظاهراً ـ الا انه كريم من حيث الايمان، وقد قال الشاعر:

اذا انت اكرمت الكريم ملكته وان انت اكرمت اللئيم تمردا(2)

نعم، ان الواقع يشهد: ان مخاطبة الفاسد بقولك له: ((انك صالح، انك فاضل..)). ربما يدفعه الى الصلاح وكذا مخاطبة الصالح: ((انك طالح، انك فاسد...)). ربما يسوقه الى الفساد، لذا استمع بأذن القلب الى قوله تعالى:

} وَاِذَا مَرّوُا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً{ (الفرقان: 72).

} وَاِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتغْفِروُا فَاِنَّ الله غَفُورٌ رَحيمٌ{ (التغابن: 14)

وامثالها من الدساتير القرآنية المقدسة، ففيها التوفيق والنجاح والسعادة والامان.

^ الدستور الرابع:

ان الذين يملأ قلوبهم الحقد والعداوة تجاه اخوانهم المؤمنين انما يظلمون انفسهم اولاً، علاوة على ظلمهم لاخوانهم، وفضلاً عن تجاوزهم حدود الرحمة الإلهية، حيث أنه بالحقد والعداوة يوقع نفسه في عذاب أليم، فيقاسي عذاباً كلما رأى نعمة حلّت بخصمه، ويعاني ألماً من خوفه. وان نشأت العداوة من الحسد فدونه العذاب الأليم، لان الحسد اشد ايلاماً للحاسد من المحسود حيث يحرق صاحبه بلهيبه، اما المحسود فلا يمسه من الحسد شئ، او يتضرر طفيفاً.

وعلاج الحسد هو: ان يلاحظ الحاسد عاقبة ما يحسده، ويتأمل فيها، ليدرك ان ما ناله محسوده من اعراض دنيوية ـ من مال وقوة ومنصب ـ انما هو اعراض زائلة فانية. فائدتها قليلة، مشقتها عظيمة.

اما اذا كان الحسد ناشئاً من دوافع اخروية، فلا حسد اصلاً. ولو تحرك عرق الحسد حتى في هذه الامور، فالحاسد اما انه مراء، يحبط حسناته الاخروية في الدنيا. او انه يسئ الظن بمحسوده فيظلمه.

ثم ان الحاسد في حسده يسخط على قدر الله، لانه يحزن من مجئ فضل من الله ورحمته على محسوده، ويرتاح من نزول المصائب عليه، أي كأنه ينتقد القدر الإلهي ويعترض على رحمته الواسعة. ومعلوم ان من ينتقد القدر كمن يناطح الجبل، ومن يعترض على الرحمة الإلهية يُحرم منها.

ترى هل هناك انصاف يرضى ان يمتلئ صدر المؤمن لسنة كاملة غيظاً وحقداً على اخيه لشئ جزئي تافه لا يساوي العداء عليه ليوم واحد؟! علماً انه لا ينبغي ان تنسب السيئة التي اتتك من اخيك المؤمن اليه وحده وتدينه بها لأن:

اولاً: القدر الإلهي له حظه في الامر، فعليك ان تستقبل حظ القدر هذا بالرضى والتسليم.

ثانياً: ان للشيطان والنفس الامارة بالسوء حظهما كذلك. فاذا ما اخرجتَ هاتين الحصتين لا يبقى امامك الا الاشفاق على اخيك بدلاً من عدائه. لانك تراه مغلوباً على امره امام نفسه وشيطانه. فتنتظر منه بعد ذلك الندم على فعلته وتأمل عودته الى صوابه.

ثالثاً: عليك ان تلاحظ في هذا الامر تقصيرات نفسك، تلك التي لا تراها او لا ترغب ان تراها، فاعزل هذه الحصة ايضاً مع الحصتين السابقتين، تر الباقي حصة ضئيلة جزئية، فاذا استقبلتها بهمة عالية وشهامة رفيعة اي بالعفو والصفح، تنجو من ارتكاب ظلم وتتخلص من ايذاء احد.

بينما اذا قابلت اساءته بحرص شديد على توافه الدنيا ـ كأنك تخلد فيها ـ وبحقد مستديم وعداء لا يفتر، فلا جرم أن تنطبق عليك صفة ((ظلوماً جهولاً)) وتكون اشبه بذلك اليهودي الاحمق الذي صرف اموالاً طائلة لقطع زجاجية لا تساوي شيئاً وبلورات ثلجية لا تلبث ان تزول، ظناً منه انها الماس.

وهكذا فقد بسطنا امامك ما يسببه العداء من اضرار لحياة الانسان الشخصية. فان كنت حقاً تحب نفسك فلا تفسح له مجالاً ليدخل قلبك، وان كان قد دخل فعلاً واستقر فلا تصغ اليه، بل استمع الى حافظ الشيرازي(1) ذي البصيرة النافذة الى الحقيقة. انه يقول:

دنيا نه متاعيستى كه ارزد بنزاعى

أي: ((ان الدنيا كلها لا تساوي متاعاً يستحق النزاع عليه)).

فلئن كانت الدنيا العظيمة وبما فيها تافهة هكذا، فما بالك بجزء صغير منها. واستمع اليه ايضاً حيث يقول:

آسايش دوكيتى تفسير اين دو حرفست

بادوستان مروت با دشمنان مدارا

أي: ((نيل الراحة والسلامة في كلا العالمين توضحه كلمتان:

معاشرة الاصدقاء بالمروءة والانصاف. ومعاملة الاعداء بالصفح والصفاء)).

اذا قلت: ان الامر ليس في طوقي، فالعداء مغروز في كياني، مغمور في فطرتي، فليس لي خيار، فضلاً عن انهم قد جرحوا مشاعري وآذوني، فلا استطيع التجاوز عنهم.

فالجواب: ان الخلق السئ ان لم يجر اثره وحُكمه، وان لم يُعمل بمقتضاه كالغيبة مثلاً، وعَرف صاحبه تقصيره، فلا ضير، ولا ينجم منه ضرر. فما دمت لا تملك الخيار من امرك، ولا تستطيع ان تتخلص من العداء، فان شعورك بأنك مقصر في هذه الخصلة، وادراكك انك لست على حق فيها، ينجيانك ــ باذن الله ــ من شرور العداء الكامن فيك، لان ذلك يعد ندماً معنوياً، وتوبة خفية، واستغفاراً ضمنياً. ونحن ما كتبنا هذا المبحث الا ليضمن هذا الاستغفار المعنوي، فلا يلتبس على المؤمن الحق والباطل، ولا يوصم خصمه المحق بالظلم.

وقد مرت عليَّ حادثة جديرة بالملاحظة:

رأيت ذات يوم رجلاً عليه سيماء العلم يقدح بعالم فاضل، بانحياز مغرض حتى بلغ به الامر الى حد تكفيره، وذلك لخلاف بينهما حول امور سياسية، بينما رأيته قد اثنى ـ في الوقت نفسه ـ على منافق يوافقه في الرأي السياسي!. فاصابتني من هذه الحادثة رعدة شديدة، واستعذت بالله مما آلت اليه السياسة وقلت: ((اعوذ بالله من الشيطان والسياسة)).

ومنذئذٍ انسحبت من ميدان الحياة السياسية.

u الوجه الخامس:

هذا الوجه يبين مدى الضرر البالغ الذي يصيب الحياة الاجتماعية من جراء العناد والتنافر والتفرقة.

فاذا قيل:

لقد ورد في حديث شريف: (اِخْتِلافُ اُمَّتي رَحْمَةٌّ)(1) والاختلاف يقتضى التفرق والتحزب والاعتداد بالرأي.

ولكن داء التفرق والاختلاف هذا فيه وجه من الرحمة لضعفاء الناس من العوام، اذ ينقذهم من تسلط الخواص الظلمة الذين اذا حصل بينهم اتفاق في قرية او قصبة اضطهدوا هؤلاء الضعفاء ولكن اذا كانت ثمة تفرقة بينهم فسيجد المظلوم ملجأ في جهة، فينقذ نفسه.

ثم ان الحقيقة تتظاهر جلية من تصادم الافكار ومناقشة الاراء وتخالف العقول.

الجواب: نقول اجابة عن السؤال الاول:

ان الاختلاف الوارد في الحديث هو الاختلاف الايجابي البنّاء المثبت. ومعناه: ان يسعى كل واحد لترويج مسلكه واظهار صحة وجهته وصواب نظرته، دون أن يحاول هدم مسالك الاخرين او الطعن في وجهة نظرهم وابطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع والاصلاح ما استطاع اليه سبيلاً. اما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الاخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة والعداوة، وهذا النوع من الاختلاف مردود اصلاً في نظر الحديث، حيث المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل ايجابي بناء.

وجواباً عن السؤال الثاني نقول:

ان كان التفرق والتحزب لاجل الحق وبأسمه، فلربما يكون ملاذ اهل الحق، ولكن الذي نشاهده من التفرق انما هو لاغراض شخصية ولهوى النفس الامارة بالسوء. فهو ملجأ ذوي النيات السيئة بل متكأ الظلمة ومرتكزهم، فالظلم واضح في تصرفاتهم، فلو اتى شيطان الى احدهم معاوناً له موافقاً لرأيه تراه يثني عليه ويترحم عليه، بينما اذا كان في الصف المقابل انسان كالملَك تراه يلعنه ويقذفه.

اما عن السؤال الثالث فنقول:

ان تصادم الآراء ومناقشة الافكار لاجل الحق وفي سبيل الوصول الى الحقيقة انما يكون عند اختلاف الوسائل مع ا لاتفاق في الاسس والغايات، فهذا النوع من الاختلاف يستطيع ان يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة واظهار كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح. ولكن ان كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لاجل اغراض شخصية وللتسلط والاستعلاء واشباع شهوات نفوس فرعونية ونيل الشهرة وحب الظهور، فلا تتلمع بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الافكار، بل تتولد شرارة الفتن. فلا تجد بين امثال هؤلاء اتفاقاً في المقصد والغاية، بل ليس على الكرة الارضية نقطة تلاق لافكارهم، ذلك لانه ليس لاجل الحق، فترى فيه الافراط البالغ دون حدود، مما يفضي الى انشقاقات غير قابلة للالتئام. وحاضر العالم شاهد على هذا..

وصفوة القول:

ان لم تكن تصرفات المؤمن وحركاته وفق الدساتير السامية التي وضعها الحديث الشريف: ((الحب في الله والبغض في الله))(1) والاحتكام الى امر الله في الامور كلها، فالنفاق والشقاق يسودان.. نعم، ان الذي لا يستهدي بتلك الدساتير يكون مقترفاً ظلماً في الوقت الذي يروم العدالة.

حادثة ذات عبرة:

في احدى الغزوات الاسلامية، كان الامام علي رضى الله عنه يبارز احد فرسان المشركين فتغلب عليه الامام وصرعه. فلما اراد الامام ان يجهز عليه تفل على وجه الامام. فما كان من الامام الا ان اخلى سبيله وانصرف عنه، فاستغرب المشرك من هذا العمل.

فقال: الى اين؟

قال الامام: كنت اقاتلك في سبيل الله، فلما فعلت ما فعلت خشيت ان يكون قتلي اياك فيه ثأر لنفسي فأطلقتك لله.

فأجابه الكافر: كان الاولى ان تثيرك فعلتي اكثر فتسرع في قتلي! وما دمتم تدينون بدين هو في منتهى السماحة فهو بلا شك دين حق(2).

وحادثة اخرى:

عزل حاكم مسلم قاضيه،لما رأى منه شيئاً من الحدة والغضب اثناء قطعه يد السارق. فما ينبغي لمن ينفذ امر الله ان يحمل شيئاً من حظ نفسه على المحكوم، بل عليه ان يشفق ـ من حيث النفس ـ على حاله دون ان تأخذه رأفة في تنفيذ حكم الله. وحيث ان شيئاً من حظ النفس قد اختلط في الامر وهو مما ينافي العدالة الخالصة فقد عُزل القاضي.

مرض اجتماعي خطر وحالة اجتماعية مؤسفة اصابت الامة الاسلامية يدمي لها القلب:

ان اشد القبائل تأخراً يدركون معنى الخطر الداهم عليهم، فتراهم ينبذون الخلافات الداخلية، وينسون العداوات الجانبية عند اغارة العدو الخارجي عليهم.

واذا تقدّر تلك القبائل المتأخرة مصلحتهم الاجتماعية حق قدرها، فما للذين يتولون خدمة الاسلام ويدعون اليه لا ينسون عداوتهم الجزئية الطفيفة فيمهدون بها سبل اغارة الاعداء الذين لا يحصرهم العد عليهم؟! فلقد تراصف الاعداء حولهم واطبقوا عليهم من كل مكان.. ان هذا الوضع تدهور مخيف، وانحطاط مفجع، وخيانة بحق الاسلام والمسلمين.

واذكر للمناسبة حكاية ذات عبرة: كانت هناك قبيلتان من عشيرة ((حسنان)) و كانت بينهما ثارات دموية، حتى ذهب ضحيتها اكثر من خمسين رجلاً، ولكن ما ان يداهمهما خطر خارجي من قبيلة ((سبكان)) او ((حيدران)) الا تتكاتفان وتتعاونان وتنسيان كلياً الخلافات لحين صد العدوان. فيا معشر المؤمنين، اتدرون كم يبلغ عدد عشائر الاعداء المتأهبين للاغارة على عشيرة الايمان؟ انهم يزيدون على المائة وهم يحيطون بالاسلام والمسلمين كالحلقات المتداخلة. فبينما ينبغي ان يتكاتف المسلمون لصد عدوان واحد من اولئك، يعاند كل واحد وينحاز جانباً سائراً وفق اغراضه الشخصية كأنه يمهد السبيل لفتح الابواب امام اولئك الاعداء ليدخلوا حرم الاسلام الآمن.. فهل يليق هذا بأمة الاسلام؟

وان شئت ان تعدد دوائر الاعداء المحيطة بالاسلام، فهم ابتداء من اهل الضلالة والالحاد وانتهاء الى عالم الكفر ومصائب الدنيا واحوالها المضطربة جميعها، فهي دوائر متداخلة تبلغ السبعين دائرة، كلها تريد ان تصيبكم بسوء، وجميعها حانقة عليكم وحريصة على الانتقام منكم، فليس لكم أمام جميع اولئك الاعداء الالداء إلا ذلك السلاح البتار والخندق الامين والقلعة الحصينة، الا وهي الاخوة الاسلامية. فأفق ايها المسلم! واعلم ان زعزعة قلعة الاسلام الحصينة بحجج تافهة واسباب واهية خلاف للوجدان الحي وأي خلاف ومناف لمصلحة الاسلام كلياً.. فانتبه! ولقد ورد في الاحاديث الشريفة ما مضمونه: ان الدجال والسفياني وامثالهما من الاشخاص الذين يتولون المنافقين ويظهرون في آخر الزمان، يستغلون الشقاق بين الناس والمسلمين ويستفيدون من تكالبهم على حطام الدنيا، فيهلكون البشرية بقوة ضئيلة، وينشرون الهرج والمرج بينها ويسيطرون على امة الاسلام ويأسرونها(1).

ايها المؤمنون!

ان كنتم تريدون حقاً الحياة العزيزة، وترفضون الرضوخ لاغلال الذل والهوان، فأفيقوا من رقدتكم، وعودوا الى رشدكم، وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة: } اِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ{ (الحجرات: 10) وحصنوا انفسكم بها من ايدي اولئك الظلمة الذين يستغلون خلافاتكم الداخلية.. والا تعجزون عن الدفاع عن حقوقكم بل حتى عن الحفاظ على حياتكم، اذ لا يخفى ان طفلاً صغيراً يستطيع ان يضرب بطلين يتصارعان، وان حصاة صغيرة تلعب دوراً في رفع كفة ميزان وخفض الاخرى ولو كان فيهما جبلان متوازنان.

فيا معشر أهل الايمان! ان قوتكم تذهب ادراج الرياح من جراء اغراضكم الشخصية وانانيتكم وتحزبكم، فقوة قليلة جداً تتمكن من ان تذيقكم الذل والهلاك. فان كنتم حقاً مرتبطين بملة الاسلام فاستهدوا بالدستور النبوي العظيم:

(الـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً)(2) وعندها فقط تسلمون من ذل الدنيا وتنجون من شقاء الآخرة.

u الوجه السادس:

ان الاخلاص واسطة الخلاص ووسيلة النجاة من العذاب، فالعداء والعناد يزعزعان حياة المؤمن المعنوية فتتأذى سلامة عبوديته لله، اذ يضيع الاخلاص!. ذلك لان المعاند الذي ينحاز الى رأيه وجماعته يروم التفوق على خصمه حتى في اعمال البر التي يزاولها. فلا يوفق توفيقاً كاملاً الى عمل خالص لوجه الله. ثم انه لا يوفق ايضاً الى العدالة، اذ يرجح الموالين لرأيه الموافقين له في احكامه ومعاملاته على غيرهم.. وهكذا يضيع اساسان مهمان لبناء البر((الاخلاص والعدالة)) بالخصام والعداء.ان بحث هذا الوجه يطول،فلا يتسع هذا المقام اكثر من هذا القدر، فنكتفي به.

المبحث الثاني

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} اِنَّ الله هو الرَّزاقُ ذو القوةِ المتين{ (الذرايات : 58)

} وكأيِّن من دآبةٍ لا تحملُ رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم{

(العنكبوت:60)

أيها المؤمن: لقد ادركتَ مما سبق مدى ما تتركه العداوة والبغضاء من أضرار جسيمة، فاعلم أن الحرص ايضاً داءٌ كالعداء بل هو أضرَّ على الحياة الاسلامية وأدهى عليها. نعم، الحرصُ بذاته سببُ الخيبة والخذلان، وداءٌ وبيل ومهانة وذلة، وهو الذي يجلب الحرمان والدناءة.

ان الشاهد القاطع على هذا الحُكم على الحرص، هو ما اصاب اليهود من الذلة والمسكنة والهوان والسفالة لشدة تهالكهم على حطام الدنيا أكثر من أية أمةٍ أخرى.

والحرص يُظهِر تأثيرَه السئ بدءاً من أوسع دائرة في عالم الاحياء وانتهاء الى أصغر فرد فيه، بينما السعي وراء الرزق المكلل بالتوكل مدارُ الراحة والاطمئنان ويُبرز أثَره النافع في كل مكان.

مثال ذلك: أن النباتات والاشجار المثمرة المفتقرة الى الرزق ـ وهي التي تعدّ نوعاً من الأحياء ـ تُهرع اليها أرزاقُها سريعةً وهي منتصبة في أماكنها متّسمة بالتوكل والقناعة دون أن يبدو منها أثر للحرص، بل تتفوق على الحيوانات في تكاثرها وتربية ما تولّد من ثمرات. أما الحيوانات فلا تحصل على أرزاقها الا بعد جهد ومشقة وبكمية زهيدة ناقصة، ذلك لأنها تلهث وراءها بحرص، وتسعى في البحث عنها حثيثاً. حتى اننا نرى في عالم الحيوان نفسه أن الارزاق تُسبغ على الصغار الذين يعبِّرون عن توكلهم على الله بلسان حالات ضعفهم وعجزهم، فيُرسَل اليهم رزقُهم المشروع اللطيف الكامل من خزينة الرحمة الإلهية. بينما لا تحصل الحيوانات المفترسة التي تنقضّ على فرائسها بحرص شديد الاّ بعد لأيٍ كبير وتحرٍ عظيم.

فهاتان الحالتان تبينان بوضوح: أن الحرص سبب الحرمان، أما التوكل والقناعة فهما وسيلتا الرحمة والاحسان.

ونرى الحال نفسه في عالم الانسان اذ اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة، ويستحبّون الحياةَ الدنيا على الآخرة، بل يعشقونها حب العاشق الولهان حتى سبقوا الامم في هذا المجال، قد ضُربت عليهم الذلة والمهانة، والحقت بهم حملات القتل بيد الامم الاخرى.. كل ذلك مقابل حصولهم بعد عناء طويل على ثروة رَبَوية محرمَّة خبيثة، لا ينفقون منها الا النزر اليسير، وكأن وظيفتهم كنزَها وادخارَها فحسب.. فيبين لنا هذا الحال: ان الحرص معدن الذلة والخسة والخسارة في عالم الانسانية.

وهناك وقائع كثيرة، وحوادث لا تدخل في الحصر بأن الحريص معرَّضٌ دائماً للوقوع في حومة الخسران، حتى جرى ((الحريص خائب خاسر)) مجرى الامثال الشائعة. واتخذه الجميع حقيقة عامة في نظرهم.

فما دام الامر هكذا، ان كنت تحب المال حباً جماً فاطلبه بالقناعة دون الحرص حتى يأتيك وافراً.

ويمكن أن نشبّه القانعين من الناس والحريصين منهم بشخصين يدخلان مضيفاً كبيراً أعدَّه شخص عظيم ذو شأن.. يتمنى أحدهما من أعماقه قائلاً: لو أن صاحب الديوان يأويني مجرد ايواء، وأنجو من شدة البرد الذي في الخارج لكفاني، وحسبي ذلك. ولو سمح لي بأي مقعد متيسّر في أدنى موقع فهو فضل منه وكرم. أما الآخر فيتصرف كأن له حقاً على الآخرين، وكأنهم مضطرون أن يقوموا له بالاحترام والتوقير، لذا يقول في أعماقه بغرور: على صاحب الديوان أن يوفّر لي أرفع مقعد وأحسنه. وهكذا يدخل الديوان وهو يحمل هذا الحرص ويرمق المواقع الرفيعة في المجلس، الا أن صاحب الديوان يرجّعه ويردّه الى أدنى موقع في المجلس،وهو بدوره يمتعض ويستاء ويمتلئ صدره غيظاً على صاحب الديوان. ففي الوقت الذي كان عليه أن يقدّم الشكر الذي يستوجبه، قام بخلاف ما يجب عليه، وأخذ بانتقاد صاحب الديوان، فاستثقله صاحبُ الديوان، بينما رحّب بالشخص الاول الذي دخل الديوان وهو يشعّ تواضعاً يلتمس الجلوس في أدنى مقعد متوفر، إذ سرَّته هذه القناعة البادية منه والتي بعثت في نفسه الانشراح والاستحسان وأخذ يرقيه الى أعلى مقام وأرقاه. وهو بدوره يستزيد من شكره ورضاه وامتنانه كلما صعدت به المراتب.

وهكذا الدنيا، ديوانُ ضيافة الرحمن. ووجه الارض سُفرة الرحمة المبسوطة ومائدة الرحمن المنصوبة. ودرجات الارزاق ومراتب النعمة بمثابة المقاعد المتباينة.

ان سوء تأثير الحرص ووخامة عاقبته يمكن أن يشعر به كل واحد، حتى في أصغر الامور وأدقها جزئية.

فمثلاً: يمكن أن يشعر كل شخص استياءً واستثقالاً في قلبه تجاه متسول يلح عليه بحرص شديد، حتى أنه يردَّه، بينما يشعر اشفاقاً وعطفاً تجاه متسول آخر وقف صامتاً قنوعاً، فيتصدق عليه ما وسعه.

ومثلاً: اذا أردت أن تغفو في ليلة أصبتَ فيها بالأرق.. فانك تهجع رويداً رويداً ان أهملته ولم تبال به. ولكن ان حرصت على النوم وقلقت عليه وأنت تتمتم: تُرى متى أنام؟ أين النوم مني؟.. لتبدَّد النوم ولفقدتَه كلياً.

ومثلاً: تنتظر أحدهم بفارغ الصبر، وأنت حريص على لقائه لأمر مهم، فتشعر بالقلق قائلاً: لِمَ لم يأت.. ما بالُه تأخر؟ وفي النهاية يزيح الحرصُ الصبََر من عندك، ويضطرك الى مغادرة مكان الانتظار يائساً. واذا بالشخص المنتظر يحضر بعد هنيهة، ولكن النتيجة المرجوة قد ضاعت وتلاشت.

ان السر الكامن في أمثال هذه الحوادث وحكمتها هو:

مثلما يترتب وجود الخبز على أعمال تتم في المزرعة، والبيدر، والطاحونة، والفرن، فان ترتب الاشياء كذلك يقترن بحكمة التأنّي والتدرج، ولكن الحريص بسبب حرصه لا يتأنّى في حركاته ولا يراعي الدرجات والمراتب المعنوية الموجودة في ترتب الاشياء. فإما أنه يقفز ويطفر فيسقط، أو يدع احدى المراتب ناقصةً فلا يرتقي لغايته المقصودة.

فيا أيها الاخوة المشدوهون من هموم العيش والهائمون في الحرص على الدنيا! كيف ترضون لأنفسكم الذلة والمهانة في سبيل الحرص ـ مع أن فيه هذه الاضرار والبلايا ـ وتقبلون على كل مالٍ دون أن تعبأوا أهوَ حلال أم حرام؟ وتضحون في سبيل ذلك بأمور جليلة وأشياء قيّمة تستوجبها الحياة الاخروية، حتى أنكم تَدَعون في سبيل الحرص ركناً مهماً من أركان الاسلام ألا وهو ((الزكاة)) علماً أنها باب عظيم تفيض منه البَركة والغنى على كل فرد، وتدفع عنه البلايا والمصائب. فالذين لا يؤدون زكاة أموالهم لا محالة يفقدون أموالاً بقدرها ويبددونها إما في أمور تافهة لا طائل وراءها، أو تلمُّ بهم مصائب تنتزعها منهم انتزاعاً.

ولقد سُئلت في رؤيا خيالية عجيبة ذات حقيقة، وذلك في السنة الخامسة من الحرب العالمية الاولى، والسؤال هو:

ما السر في هذا الفقر والخصاصة التي أصابت الامة الاسلامية، وما السر في التلف الذي أصاب اموالهم وأهدرها، وفي العناء والمشاق التي رزحت تحته أجسادهم؟

وقد أجبت عن السؤال في رؤياي بما يأتي:

ان الله تعالى قد فرض علينا فيما رزقنا من ماله العُشر(1) في قسم من الاموال، وواحداً من أربعين(2) في قسم آخر كي يجعلنا ننال ثوابَ أدعيةٍ خالصة تنطلق من الفقراء، ويصرفنا عما تُوغر في صدورهم من الضغينة والحسد. الا أننا قبضنا أيدينا حرصاً على المال فلم نؤدّ الزكاة. فاسترجع سبحانه وتعالى تلك الزكاة المتراكمة علينا بنسبة ثلاثين من أربعين وبنسبة ثمانية من عشرة.

وطلب سبحانه منا أن نصوم لأجله ونجوع في سبيله جوعاً يتضمن من الفوائد والحكم ما يبلغ السبعين فائدة. طلبه منا أن نقوم به في شهر واحد من كل سنة، فعزَّت علينا أنفسُنا وأخذتنا الرأفة بها عن غير حق، وأبينا أن نطيق جوعاً ممتعاً مؤقتاً، فما كان منه سبحانه الاّ مجازاتنا بنوع من صوم وجوع له من المصائب ما يبلغ السبعين مصيبة، وأرغمنا عليه طوال خمس سنوات متتالية.

وكذا، طلب منا سبحانه نوعاً من تنفيذ الاوامر والتعليمات الربانية الطيبة المباركة السامية النورانية نؤديها في ساعة واحدة من بين أربع وعشرين ساعة. فتقاعسنا عن أداء تلك الصلوات والادعية والاذكار، فأضعنا تلك الساعة الواحدة مع بقية الساعات. فكان منه أن كفَّر عنا سبحانه بما بدا منا من سيئات وتقصيرات، وجعلَنا نُرغَم على أداء نوع من العبادة والصلاة بتلقين التعليمات والتدريب ومن كرّ وفر وعَدْوٍ واغارة وما الى ذلك.. في غضون خمس سنوات متتابعة.

نعم! هكذا قلت في تلك الرؤيا. ثم أفقت منها، وفكرت متأملاً وتوصلت الى حقيقة مهمة جداً تضمنتها تلك الرؤيا الخيالية وهي:

ان هناك كلمتين اثنتين هما منشأ جميع ما آلت اليه البشرية في حياتهم الاجتماعية من تردّ في الاخلاق وانحطاط في القيم، وهما منبع جميع الاضطرابات والقلاقل. وقد بيناهما واثبتناهما في (الكلمة الخامسة والعشرين) عند عقدنا الموازنة بين الحضارة الحديثة واحكام القرآن الكريم. والكلمتان هما:

الكلمة الاولى: إن شبعتُ فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع.

الكلمة الثانية:إكتسب أنت لآكل انا واتعبانت لأستريح انا.

وأن الذي يديم هاتين الكلمتين ويغذّيهما هو: جريان الربا، وعدم أداء الزكاة.

وأن الحل الوحيد والدواء الناجع لهذين المرضين الاجتماعيين هو: تطبيق الزكاة في المجتمع وفرضها فرضاً عاماً. وتحريم الربا كلياً. لأن أهمية الزكاة لا تنحصر في أشخاص وجماعات معينة فقط، بل أنها ركن مهم في بناء سعادة الحياة البشرية ورفاهها جميعاً، بل هي عمود أصيل تتوطد به ادامة الحياة الحقيقية للانسانية، ذلك لأن في البشرية طبقتين: الخواص والعوام. والزكاة تؤمّن الرحمة والاحسان من الخواص تجاه العوام وتضمن الاحترام والطاعة من العوام تجاه الخواص. وإلا ستنهال مطارق الظلم والتسلط على هامات العوام من أولئك الخواص، وينبعث الحقد والعصيان اللذان يضطرمان في أفئدة العوام تجاه الاغنياء الموسرين. وتظل هاتان الطبقتان من الناس في صراع معنوي مستديم، وتخوضان غمار معمعة الاختلافات المتناقضة، حتى يؤول الامر تدريجياً الى الشروع في الاشتباك الفعلي والمجابهة حول العمل ورأس المال كما حدث في روسيا.

فيا أهل الكرم وأصحاب الوجدان، ويا أهل السخاء والاحسان! إن لم تقصدوا بالاحسانات التي تدفعونها نيّةَ الزكاة، ولم تكن باسمها فان لها ثلاثة أضرار، بل قد تتلاشى سدىً دون نفع، ذلك لأنكم ان لم تمنحوها وتحسنوا بها في سبيل الله وباسم الله فانكم بلا شك ستبدون منّةً وتفضلاً ـ معنىً ـ فتجعلون الفقير المسكين تحت أسارة المنَّة وتكبلوه بأغلالها. ومن ثم تظلون محرومين من دعائه الخالص المقبول، فضلاً عن أنكم تكونون جاحدين بالنعمة لما تظنون أنكم أصحاب المال. وفي الحقيقة لستم الا مستخلفين مأمورين تقومون بتوزيع مال الله على عباده. ولكن اذا أدّيتم الاحسان في سبيل الله باسم الزكاة فانكم تنالون ثواباً عظيماً، وتكسبون أجراً عظيما، لأنكم قد أديتموه في سبيل الله. وأنتم بهذا العمل تبدون شكراً للنعم التي أسبغها الله عليكم. فتنالون الدعاء المقبول من ذلك المحتاج المعوز حيث لم يـضطر الى التملّق والتخوف منكم فاحتفظ بكرامته وإبائه فيكون دعاؤه خالصاً.

نعم أين ما تُمنح من أموال بقدر الزكاة بل أكثر منها، والقيام بحسنات بشتى صورها ودفع صدقات مع اكتساب أضرار جسيمة أمثال الرياء والصيت مع المنَّة والاذلال، من أداء الزكاة والقيام بتلك الحسنات بنيتها في سبيل الله، واغتنام فضل القيام بفريضة من فرائض الله، وكسب ثواب منه سبحانه، والظفر بالاخلاص والدعاء المستجاب. ألا شتّان بين العطاءين!

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{

اللهم صل على سيدنا محمد الذي قال:

(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).

وقال: (القناعة كنز لا يفنى)(1).

وعلى آله وصحبه أجمعين..

آمين والحمد لله رب العالمين.

خاتمة

تخص الغيبة

لقد اظهر المثال المذكور ضمن امثلة مقام الذم والزجر في النقطة الخامسة من الشعاع الاول من الشعلة الاولى للكلمة الخامسة والعشرين، وذلك في ذكر آية كريمة واحدة مدى شناعة الغيبة في نظر القرآن، اذ بيّنت الآية باعجاز كيف تنّفر الانسان عن الغيبة في ستة وجوه حتى اغنت عن كل بيان آخر.. نعم لا بيان بعد بيان القرآن ولا حاجة اليه.

ان قوله تعالى: } أيحبُ احدكُم انْ يأكل لحم اخيهِ ميتاً فكرهتُموه{ (الحجرات:12) تذم الذم في ست درجات وتزجر عن الغيبة في ست مراتب على النحو الآتي:

تنهى هذه الآية الكريمة عن الغيبة بست مراتب وتزجر عنها بشدة وعنف، وحيث ان خطاب الآية موجه الى المغتابين، فيكون المعنى كالاتي:

ان الهمزة الموجودة في البداية، للاستفهام الانكاري حيث يسري حكمه ويسيل كالماء الى جميع كلمات الآية، فكل كلمة منها تتضمن حكماً.

ففي الكلمة الاولى تخاطب الآية الكريمة بالهمزة: أليس لكم عقل ـ وهو محل السؤال والجواب ـ ليعي هذا الامر القبيح؟

وفي الكلمة الثانية: ((يحب)) تخاطب الآية بالهمزة: هل فسد قلبكم ـ وهو محل الحب والبغض ـ حتى أصبح يحب اكره الاشياء واشدها تنفيراً.

وفي الكلمة الثالثة: ((احدكم)) تخاطب بالهمزة: ماذا جرى لحياتكم الاجتماعية ـ التي تستمد حيويتها من حيوية الجماعة ــ وما بال مدنيتكم وحضارتكم حتى اصبحت ترضى بما يسمم حياتكم ويعكر صفوكم.

وفي الكلمة الرابعة: ((ان يأكل لحم)) تخاطب بالهمزة: ماذا اصاب انسانيتكم؟ حتى اصبحتم تفترسون صديقكم الحميم. وفي الكلمة الخامسة: ((اخيه)) تخاطب بالهمزة: أليس بكم رأفة ببني جنسكم، أليس لكم صلة رحم تربطكم معهم، حتى اصبحتم تفتكون بمن هو اخوكم من عدة جهات، وتنهشون شخصه المعنوي المظلوم نهشاً قاسياً ، ايملك عقلاً من يعض عضواً من جسمه؟ اوَليس هو بمجنون؟.

وفي الكملة السادسة: ((ميتاً)) تخاطب بالهمزة: اين وجدانكم؟ أفسدت فطرتكم حتى اصبحتم تجترحون ابغض الاشياء وافسدها ـ وهو أكل لحم اخيكم ـ في الوقت الذي هو جدير بكل احترام وتوقير.

يفهم من هذه الآية الكريمة ـ وبما ذكرناه من دلائل مختلفة في كلماتها ـ ان الغيبة مذمومة عقلاً وقلباً وانسانية ووجداناً وفطرة وملةً. فتدبر في هذه الآية الكريمة، وانظر كيف انها تزجر عن جريمة الغيبة باعجاز بالغ وبايجاز شديد في ست مراتب. حقاًً ان الغيبة سلاح دنئ يستعمله المتخاصمون والحسّاد والمعاندون؛ لأن صاحب النفس العزيزة تأبى عليه نفسه ان يستعمل سلاحاً حقيراً كهذا.

وقديماً قال الشاعر:

واكبر نفسي عن جزاء بغيبة فكل اغتياب جهد من لا له جهد(1)

والغيبة هي ذكرك اخاك بما يكره، فان كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته. أي اجترحت اثماً مضاعفاً(2).

الا ان الغيبة وان كانت محرمة فانها تجوز في احوال معينة(3):

منها: التظلم، فالمظلوم يجوز له أن يصف مَنْ ظلمه الى حاكم ليعينه على ازالة ظلم او منكر وقع عليه.

ومنها : الاستفتاء، فاذا ما استشارك احد يريد ان يشترك مع شخص في العمل او غيره، واردت نصيحته خالصاً لله دون ان يداخلها غرض شخصي يجوز لك ان تقول: ((لا تصلح لك معاملته، سوف تخسر وتتضرر)).

ومنها: التعريف من دون ان يكون القصد فيه التنقيص، فتقول مثلاً: ذلك الاعرج او ذلك الفاسق.

ومنها: ان كان فاسقاً مجاهراً بفسقه، لا يتورع من الفساد وربما يفتخر بسيئاته ويتلذذ من ظلم الآخرين.

ففي هذه الحالات المعينة تجوز الغيبة للمصلحة الخالصة دون ان يداخلها حظ النفس والغرض الشخصي، بل تجوز لاجل الوصول الى الحق وحده، والا فالغيبة تحبط الاعمال الصالحة وتأكلها كما تأكل النار الحطب. فاذا ارتكب الانسان الغيبة، او استمع اليها برغبة منه، فعليه ان يدعو: اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ولمِنْ اِغْتَبْنَاهُ(4). ثم يطلب من الذي اغتابه عفوه منها، والابراء منها متى التقاه.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 11:25 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثالث والعشرون

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً بعدد عاشرات دقائق عمرك وذرات وجودك.

اخي العزيز الغيور الجاد ذا الحقيقة الخالص الفطن!

ان أمثالنا من اخوان الحقيقة والآخرة لايمنع اختلاف الزمان والمكان محاورتهم ومؤانستهم، فحتى لو كان أحدهم في الشرق وآخر في الغرب وآخر في الماضي وآخر في المستقبل وآخر في الدنيا وآخر في الآخرة يمكن أن يُعدّوا معاً، ويمكنهم ان يتحاور بعضهُم مع البعض الآخر، ولاسيما ان كانوا مجتمعين على غاية واحدة ويعملون في مهمة واحدة وواجب واحد، بل حتى يكون أحدهم هو في حكم عين الآخر.

انني أتصوركم معي صباح كل يوم، وأهب لكم قسماً من مكاسبي، وهو الثلث (نسأل الله القبول) فأنتم في الدعاء مع عبد المجيد وعبد الرحمن، فتنالون حظكم دوماً ان شاء الله.

ولقد أثّر فيّ بعض مشاكلكم الدنيوية فتألمت لألمكم. ولكن ياأخي لما كانت الدنيا ليست خالدة، وان في مصائبها خيراً، فقد ورد الى قلبي ـ بدلاً عنك ـ عبارة (( كل حال يزول)) وتدبـّرت في ((لاعيش الاّ عيـش الآخـرة ))(1) وتـلـوت:
} ان الله مع الصـابرين{ ، وقلت: } إنا لله وإنا اليه راجعـون{ فوجدت ســـلواناً وعزاءً بدلاً عنـك.

يا أخي! اذا أحـبّ الله عبداً جعل الدنيا تعرض عنه وتجافيه، ويريه الدنيا قبيحة بغيضة، وانـك ان شـاء الله من صـنف اولئـك المحبوبين عند الله. لاتتألم من زيادة الموانع والعوائق التي تحول دون انتشار ((الكلمات)). فان ما قمت به من نشرٍ للرسائل لحد الآن، اذا حظي برحمته سبحانه تتفتح ـ ان شاء الله ـ تلك النوى النورية المباركة جداً أزاهير كثيرة.

انك تسأل عدداً من الاسئلة، ولكن ياأخي العزيز ان معظم ((الكلمات)) وكذا ((المكتوبات)) كانت ترد الى القلب آنياً دون اختيار مني، ولهذا تصبح جميلة لطيفة. ولو كنتُ أجيب عن الاسئلة باختياري وبعد تأمل وتفكر وبقوة علم (سعيد القديم) يرد الجوابُ خافتاً خامداً ناقصاً. ولقد توقف تطلع القلب ـ منذ فترة ـ وخبتْ جذوة الحافظة، ولكن سنكتب جواباً في غاية الاختصار لئلا تبقى دون جواب.

u سؤالكم الاول:

كيف يجب ان يكون أفضل دعاء المؤمن لأخيه المؤمن؟

الجواب:يجب ان يكون ضمن دائرة اسباب القبول؛ لان الدعاء يكون مستجاباً ومقبولاً ضمن بعض الشروط، وتزداد الاستجابة كلما اجتمعت شروط القبول. فمنها؛ الطهور المعنوي؛ أي؛ الاستغفار عند الشروع بالدعاء، ثم ذكر الصلاة على الرسول e ، وهي الدعاء المستجاب، وجعلها شفيعة للدعاء، وذكر الصلاة على الرسول e ايضاً في الختام، لأن دعاءً وسط دعائين مستجابين يكون مستجاباً.

وان يدعو بظهر الغيب.

وان يدعو بالمأثور من ادعية الرسول e ، وما ورد في القرآن الكريم من أدعية.

مثال ذلك:

} ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار{ (البقرة: 201)

(اللهم اني أسألك الـعفو والعـافية لي ولـه في الدين والدنيا والآخـرة).. وامثالها من الادعية المأثورة الجامعة.

وان يدعو بخلوص النية وخشوع القلب وحضوره.

وان يدعو دبر الصلوات ولاسيما دبر صلاة الفجر.

وان يدعو في الاماكن المباركة، ولاسيما في المساجد، وفي ايام الجمع ولاسيما في ساعة الاجابة، وفي الاشهر المباركة ولاسيما في الليالي المشهورة. وفي شهررمضان ولاسيما في ليلة القدر.

فان الدعاء بهذه الشروط يرجى من رحمته تعالى ان يكون مقروناً بالاستجابة.

فذلك الدعاء المستجاب إما أن يُرى أثره بعينه في الدنيا او يستجاب لآخرة المدعو له ولحياته الخالدة.

بمعنى انه إن لم يُرَ المقصود من الدعاء بذاته، فلايقال ان الدعاء لم يستجب بل يُقال ان الدعاء استجيب بأفضل استجابة.

u سؤالكم الثاني:

هل يجوز اطلاق رضي الله عنه على غير الصحابة الكرام.

الجواب: نعم.. لان هذا الدعاء ليس شعاراً خاصاً بالصحابة الكرام كما هو في عبارة (عليه الصلاة والسلام) الخاصة بالرسول e .

بل لابد ان يطلق (رضي الله عنه) على الائمة الأربعة المجتهدين، والشيخ الكيلاني، والامام الرباني والامام الغزالي وامثالهم ممن هم من ورثة الانبياء، وفي مرتبة الولاية الكبرى ونالوا مقام الرضى.

ولكن جرى عرف العلماء بان يقال للصحابة الكرام؛ (رضي الله عنهم) وللتابعين وتابعي التابعين؛ (رحمهم الله) ومن يليهم (غفر الله لهم) وللاولياء؛ (قدس سرّهم).

u سؤالكم الثالث:

ايَّما افضل؛ ائمة المجتهدين العظام أم شيوخ الطرق الحقة وأقطابها؟

الجواب:

ليس المجتهدون كلهم، بل المجتهدون الاربعة ــ وهم ابو حنيفة والشافعي ومالك واحمد بن حنبل ــ هم الافضل، فهم يفوقون الاقطاب وسادة الطرق. ولكن بعض الأقطاب العظام كالكيلاني له مقام اسطع من جهة، في الفضائل الخاصة، الاّ ان الفضيلة الكلية هي للأئمة الكرام.

ثم ان قسماً من سادة الطرق هم من المجتهدين ايضاً، ولهذا لايقال ان المجتهدين عامة هم افضل من الاقطاب، ولكن الائمة الاربعة هم افضل الناس بعد الصحابة الكرام والسيد المهدي رضياللهعنه.

u سؤالكم الرابع:

ما الحكمة من قوله تعالى } ان الله مع الصابرين{ (البقرة 153) وما الغاية منها؟

الجواب:

لقد وضع الله سبحانه وتعالى في وجود الاشياء تدريجاً وترتيباً أشبه مايكون بدرجات السلم، وذلك بمقتضى اسمه الحكيم، فالذي لايتأنى في حركاته، إما انه يطفر الدرجات فيسقط او يتركها ناقصة فلايرقى الى المقصود.

ولهذا فالحرص سبب الحرمان، والصبر يحل المشاكل، حتى غدا من مضرب الامثال: ((الحريص خائب خاسر)) و ((الصبر مفتاح الفرج)). بمعنى: ان عنايته سبحانه وتوفيقه مع الصابرين. اذ الصبر على انواع ثلاثة:

الاول: الصبر عن المعصية وتجنبها، فهذا الصبر هو التقوى، ويجعل صاحبه محظياً بسر قوله تعالى: } إنّ الله مع المتقين{ (البقرة:194).

الثاني: الصبر عند المصيبة، وهذا هو التوكل وتسليم الامر اليه سبحانه، مما يدفع صاحبه الى التشرف بقوله تعالى:} ان الله يحب المتوكلين{ (آل عمران:159) و} والله يحب الصابرين{ (آل عمران:146).

اما عدم الصبر فهو يتضمن الشكوى من اللهالذي ينتج انتقاد أفعاله واتهام رحمته ورفض حكمته.

نعم! ان الانسان الضعيف العاجز يتألم ويبكي من ضربات المصيبة ويشكو، ولكن يجب ان تكون الشكوى اليه لامنه، كمـا قال سـيدنا يعقوب عليه السـلام : (} إنما أشكو بثي وحزني الى الله{ (يوسف :86) اي شكوى المصيبة الى الله وليس الشكوى من الله الى الناس والتأفف والتحسر وقوله: ((ماذا عملت حتى جوزيت بهذه المصيبة)) لإثارة رقة قلوب الناس العاجزين. فهذا ضرر ولامعنى له.

الصبر الثالث: الصبر على العبادة، الذي يمكن ان يبلغ صاحبه مقام المحبوبية، فيسوق الى حيث العبودية الكاملة التي هي أعلى مقام.

u سؤالكم الخامس:

ان الخامس عشر من العمر يعدّ سن التكليف، فكيف كان الرسول e يتعبد قبل النبوة؟.

الجواب:

كان يتعبد بالبقية الباقية من دين سيدنا ابراهيم عليه السلام الذي ظل جارياً في الجزيرة العربية تحت حجب كثيرة. ولكن التعبد هذا لم يكن على صورة الفرض والواجب بل كان تعبداً اختيارياً يُؤدّى ندباً.

هذه الحقيقة طويلة، لتظل الآن مختصرة.

u سؤالكم السادس:

ماحكمة بعثة الرسول e في سن الكمال وهو الاربعون من العمر. وما حكمة انتقاله الى الملأ الاعلى في السن الثالثة والستين من عمره المبارك؟

الجواب:

حِكمها كثيرة. احداها هي:

ان النبوة تكليف ثقيل، وعبء عظيم جداً، لايُحمل الاّ بعد نمو الملكات العقلية ونضوجها وتكامل الاستعدادات القلبية. اما زمن ذلك الكمال فهو الاربعون من العمر.

اما فترة الفتوة والشباب التي هي فترة تهيج النوازع النفسانية ووقت غليان الحرارة الغريزية وأوان فوران الحرص على الدنيا فهي لاتلائم وظائف النبوة التي هي مقدسة وأخروية وخالصة للّه وحده. اذ مهما كان الانسان جاداً وخالصاً قبل الاربعين من العمر، فلربما يرد الى اذهان المتطلعين الى الشهرة ظنٌ بأنه يعمل لجاه الدنيا ونيل مقام فيها، فلا ينجو من اتهاماتهم بسهولة. اما بعد الاربعين فان العمر ينحدر الى باب القبر وتتراءى له الآخرة أكثر من الدنيا، فينجو من ذلك الاتهام بسهولة ويوفّق في حركاته واعماله الاخروية وينجو الناس من سوء الظن وينقَذون.

اما كون عمره المبارك الذي قد قضي في ثلاث وستين سنة، فمن حكمه الكثيرة نذكر واحدة منها:

إن اهل الايمان مكلفون شرعاً بحب الرسول الاعظم e غاية الحب وبتوقيره واحترامه اكثر من اي انسان آخر، وبعدم النفور من اي شئ يخصه، بل رؤية كل حال من احواله جميلة نزيهة. ولهذا فان الله سبحانه وتعالى لايدع حبيبه الاكرم e الى وقت الشيخوخة والهرم، وقت المشقات والمتاعب والتي تكثر بعد الستين من العمر، بل يرسله الى الملأ الاعلى في الثالث والستين من عمره المبارك، والذي هو العمر الغالب لمتوسط اعمار أمته e ويرفعه الى مقام قربه، مظهراً بذلك انه e إمامٌ في كل شئ.

u سؤالكم السابع:

(خير شبابكم من تَشبّهَ بكهولكم وشرُّ كهولكم من تَشبّهَ بشبابكم )(1). هل هذا حديث نبوي؟ واذا كان حديثاً شريفاً فما المقصود منه؟.

الجواب:

لقد سمعته حديثاً نبوياً شريفاً. اما المقصود منه فهو:

((ان خير الشباب هم اولاء الذين لم يتمادوا كثيراً في الغفلة عن الله، بل يتذكرون الموت كتذكر الشيوخ له، فيجدّون لإعمار آخرتهم متحررين من قيود اهواء الشباب ونزواته. وشر شيوخكم هم اولاء الذين غفلوا عناللهفاستهوتهم غفلات الشباب، فقلّدوهم في اهوائهم تقليد الصبيان)).

ان الصورة الصحيحة لما رأيته في القسم الثاني من لوحتك هي:

انني قد علقتُ فوق رأسي لوحةً تتضمن حكمة بليغة، انظر اليها صباح مساء، واتلقى درسي منها وهي:

(( ان كنت تريد ولياً، فكفى باللّه ولياً)). نعم إن كان هو وليّك فكل شئ لك صديق.

(( ان كنت تريد أنيساً، فكفى بالقرآن الكريم أنيساً)). اذ تعيش فيه مع الانبياء والملائكة وحَسُنَ اولئك رفيقاً.

(( ان كنت تريد مالاً، فكفى بالقناعة كنزاً)). نعم، ان القانع يقتصد، والمقتصد يجد البركة.

((ان كنت تريد عدواً، فكفى بالنفس عدواً)). اذ المعجب بنفسه لامحالة يرى المصاعب ويبتلى بالمصائب، بينما الذي لا يعجب بها يجد السرور والراحة والرحمة.

((ان كنت تريد واعظاً، فكفى بالموت واعظاً)). حقاً من يذكر الموت ينجو من حب الدنيا ويسعى لآخرته سعياً حثيثاً.

والآن ياأخي أزيد مسألة ثامنة الى مسائلكم السبعة فأقول:

قبل يومين، تلا أحد الحفاظ الكرام آيات من سورة يوسف (عليه السلام) حتى بلغ } تَوفـَّني مُسلماً وألحقني بالصالحين{ فوردت الى القلب ـ على حين غرة ـ نكتة لطيفة.

ان كل ما يخص القرآن والايمان ثمين جداً مهما بدا في الظاهر صغيراً، اذ هو من حيث القيمة والاهمية ثمين وعظيم.

نعم! ليس صغيراً ما يعين على السعادة الأبدية ً، فلايقال: ان هذه النكتة صغيرة لاتستحق الاهمية.

فلاريب ان ابراهيم خلوصي هو اول من يريد الاستماع الى مثل هذه المسائل فهو الطالب الاول والمخاطب الاول الذي يقدّر النكت القرآنية حق قدرها. ولهذا فاستمع ياأخي!

انها نكتة لطيفة لأحسن القصص.

ان الآيـة الكريمة الـتي تخـبر عـن ختام أحـسن القصـص، قصـة يوسف، وهي:

} تَوفـَّني مُسلماً وألحقني بالصالحين{ (يوسف : 101) تتضمن نكتة بليغة سامية لطيفة تبشر بالخير وهي معجزة في الوقت نفسه. وذلك:

ان الآلام والاحزان التي يتركها الزوال والفراق الذي تنتهي اليهما القصص الاخرى المفرحة والسعيدة، تنغّص اللذائذ الخيالية الممتعة المستفادة من القصة وتكدّرها، ولاسيما عندما يخبر عن الموت والفراق اثناء ذروة الفرح والسرور والسعادة البهيجة، فيكون الألم أشدّ حتى انه يورث الاسف والأسى لدى السامعين.

بينما هذه الآية الكريمة تختم أسطع قسم من قصة يوسف وهو عزيز مصر وأقر الله عينه ولقى والديه وتعارف وتحابّ هو واخوته. واذ تخبر الآية الكريمة عن موت يوسف في هذه الاثناء التي كان يوسف (عليه السلام) في ذروة السعادة والسرور تخبر ان يوسف (عليه السلام) نفسه هو الذي يسأل ربه الجليل وفاته لينال سعادة اعظم من هذه السعادة التي يرفل بها. وتوفي فنال تلك السعادة العظمى. بمعنى ان ما وراء القبر سعادة اكبر وفرحاً اعظم من هذه السعادة التي ينعم بها يوسف وهو الانيس بالحقيقة. اذ طلب الموت المرّ وهو في ذلك الوضع الدنيوي المفرح اللذيذ كي ينال تلك السعادة العظمى هناك.

فتأمل يا أخي في بلاغة القرآن الحكيم هذه، كيف أخبر عن خاتمة قصة يوسف بذلك الخبر الذي لم يثر الالم والأسف لدى السامعين، بل زادهم بشارة وسروراً. فضلاً عن انه يرشد الى الآتي:

اعملوا لما وراء القبر، فان السعادة الحقة واللذة الحقيقية هناك، زد على ذلك بيّن مرتبة الصديقية الرفيعة السامية لسيدنا يوسف (عليه السلام)، اذ يقول:

ان اسطع حالة في الدنيا وأكثرها فرحاً وبهجة وسروراً لم تورثه الغفلة قطعاً ولم تفتره، بل هو دائم الطلب للآخرة.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 11:30 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الرابع والعشرون

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} يفعل الله ما يشاء{ (ابراهيم:27)

} ويحكم ما يريد{ (المائدة:1)

سـؤال:

ان ما يقتضيه اسم الله ((الرحيم)) من تربية شفيقة، واسم الله ((الحكيم)) من تدبير وفق المصالح، واسم الله (( الودود)) من لطف ومحبة.. كيف تلائم مقتضيات هذه الاسماء الحسنى العظام مع ماهو مرعب وموحش كالموت والعدم والزوال والفراق والمصائب والمشقات؟

ولنسلّم ان ما يراه الانسان في طريق الموت لابأس به وهو خير وحسن حيث سيمضي الى السعادة الابدية. ولكن اية رحمة وشفقة تسع، واية حكمة ومصلحة توجد، واي لطف ورحمة في إفناء هذه الانواع من الاشجار والنباتات اللطيفة والازهار الجميلة والحيوانات المؤهلة للوجود والشغوفة بالحياة والتواقة للبقاء، وباستمرار ودون استثناء واعدامها دون امهال احد منها؟ وفي تسخيرها في المشاق وتغييرها بالمصائب دون السماح لأحد منها بالدعة والراحة؟ وفي اماتتها وزوالها وفراقها بلا توقف، دون ان يسمح لأحد بالمكوث قليلاً ودون رضىً من أحد؟

الجـواب: لكي نحل هذا السؤال نحاول أن ننظر الى هذه الحقيقة العظمى من بعيد، فهي حقيقة واسعة جداً وعميقة جداً ورفيعة جداً، لنرى الحقيقة بوضوح. فنبين الداعي والمقتضى لها في خمسة رموز ونبين الغايات والفوائد منها في خمس اشارات.



المقام الاول

وهو في خمسة رموز

l الرمـز الاول

لقد ذكرنا في خواتيم الكلمة السادسة والعشرين: ان صنّاعاً ماهراً، يكلف رجلاً فقيراً لقاء اجرة يستحقها ، ليقوم له بدور النموذج ((الموديل)) ليخيط لباساً راقياً، فاخراً في اجمل زينة واكثرها بهاءً، اظهاراً لمهارته وصنعته. لذا يفصّل على ذلك الرجل اللباس ويقصه ويقصره ويطوله، ويقعد الرجل وينهضه، ويجعله في اوضاع مختلفة.. فهل يحق لهذا الرجل الفقير ان يقول للصنّاع: لِمَ تبدل هذا اللباس الذي يجمّلني؟ ولِمَ تغيره؟ فتقعدني تارة وتنهضني اخرى فتفسد راحتي؟!

وكذلك الصانع الجليل (وله المثل الاعلى) قد اتخذ ماهية كلِ نوع من الموجودات مقياساً ونموذجاً ((موديلاً)) فألبس كل شئ لباساً مرصعاً بالحواس، ونقش عليه نقوشاً بقلم قضائه وقدره، واظهر جلوات اسمائه الحسنى، ابرازاً لكمال صنعته بنقوش اسمائه. فضلاً عن انه سبحانه يمنح كل موجود ايضاً كمالاً ولذة وفيضاً بمثابة اجرة ملائمة له.

فهل يحق لشئ ان يخاطب ذلك الصانع الجليل الذي هو مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ويقول: ((انك تتعبني وتفسد عليّ راحتي))؟ حاش للّه وكلا!

انه ليس للموجودات حق باية جهة كانت ازاء واجب الوجود، وليس لها ان تدّعي باي حقٍ مهما كان، بل حقها القيام بالشكر الدائم والحمد الدائم، اداءً لحق مراتب الوجود التي منحها اياها.لأن جميع مراتب الوجود الممنوحة للموجود انما هي وقوعات تحتاج الى علّة. بينما مراتب الوجود التي لم تمنح هي امكانات، والامكانات عدمٌ، وهي لاتتناهى، والعدم لايحتاج الى علة، فما لانهاية له لاعلة له.

مثلاً: لايحق للمعادن ان تشكو قائلة ً: لِمَ لم نصبح نباتاتٍ؟ بل حقها أن تشكر فاطرها الجليل على ما انعم عليها من نعمة الوجود كمعادن.

وكذا النبات ليس له حق الشكوى، فليس له أن يقول: لِمَ لم اصبح حيواناً؟ بل حقه الشكر لله الذي وهب له الوجود والحياة معاً . وكذا الحيوان ليس له حق الشكوى ويقول: لِمَ لم اكن انساناً؟ بل عليه حق الشكر لما أنعم الله عليه من الوجود، والحياة وجوهر الروح الراقي.. وهكذا فقس.

ايها الانسان الشاكي! انك لم تبق معدوماً، بل لبست نعمة الوجود. وذقت طعم الحياة. ولم تبق جماداً ولم تصبح حيواناً، فقد وجدت نعمة الاسلام، ولم تبق في غياهب الضلال، وتنعمت بنعمة الصحة والأمان.. وهكذا..

ايها الغارق في الكفران! أفبعد هذا تدعّي حقاً لك على ربك، انك لم تشكر ربك بعدُ على ما أنعم عليك من مراتب الوجود التي هي نعم خالصة. بل تشكو منه جل وعلا لما لم ينعم عليك من نعم غالية من انواع الامكانات وانواع العدم ومما لاتقدر عليه ولاتستحقه ،فتشكو بحرص باطل وتكفر بنعمه سبحانه.

ترى لو أن رجلاً أُصعد على قمة منارة عالية ذات درجات وتسلـَّم في كل درجة منها هدية ثمينة ثم وجد نفسه في قمة المنارة، في مكان رفيع، أيحق له أن لايشكر صاحب تلك النعم ويبكي ويتأفف ويتحسر قائلاً: لـِمَ لم اقدر على صعود ما هو أعلى من هذه المنارة..

ترى كم يكون عمله هذا باطلاً لو تصرف هكذا وكم يسقط في هاوية كفران النعمة! وكم هو في ضلالة مقيتة!. حتى البلهاء يدركون هذا.

ايها الانسان الحريص غير القانع! ويا ايها المسرف غير المقتصد! ويا ايها الشاكي بغير حق! ايها الغافل!

اعلم يقيناً: ان القناعة شكران رابح، بينما الحرص كفران خاسر، والاقتصاد توقير للنعمة جميل ونافع، بينما الاسراف استخفاف بالنعمة مضرّ ومشين.

فان كنت راشداً، عوّد نفسك على القناعة وحاول بلوغ الرضى. وان لم تطق ذلك فقل: ياصبور! وتجمّل بالصبر. وارض بحقك ولاتشكُ. واعلم ممن وإلى مَن تشكو! ألزم الصمت. واذا اردت الشكوى لامحالة فاشكُ نفسك الى الله، فان القصور منها.

l الرمز الثانـي:

لقد ذكرنا في ختام المسألة الاخيرة للمكتوب الثامن عشر أنه:

ان حكمةً من حكم تبديل الخالق الجليل للموجودات دوماً وتجديده لها باستمرار تبديلاً وتجديداً محيّراً مذهلاً بفعالية ربوبيته الجليلة هي ان الفعالية والحركة في المخلوقات نابعة من شهية، من اشتياق، من لذة، من محبة، حتى يصح القول:

ان في كل فعالية نوعاً من اللذة، بل ان كل فعالية هي نوع من اللذة، واللذة كذلك متوجهة الى كمال بل هي نوع من الكمال.

ولما كانت الفعالية تشير الى كمال، الى لذة، الى جمال، وان الواجب الوجود سبحانه الذي هو الكمال المطلق والكامل ذو الجلال، جامع في ذاته وصفاته وافعاله لجميع انواع الكمالات، فلا شك أن لذلك الواجب الوجود سبحانه شفقة مقدسة لاحدّ لها ومحبة منزهة لانهاية لها تليق بوجوب وجوده وقدسيته وتوافق تعاليه الذاتي وغناه المطلق وتناسب كماله المطلق وتنزهه الذاتي ولا شك أن له شوقاً مقدساً لاحدّ له، نابعاً من تلك الشفقة المقدسة، ومن تلك المحبة المنزهة، وان له سروراً مقدساً لاحدّ له نابعاً من ذلك الشوق المقدس، وان له لذة مقدسة لاحدّ لها ـ ان جاز التعبير ـ ناشئة من ذلك السرور المقدس. ولاشك ان له مع تلك اللذة المقدسة رضىً مقدساً لاحدّ له وافتخاراً مقدساً لانهاية له ـ ان جاز التعبير ـ ناشئين من رضىً وامتنان مخلوقاته من انطلاق استعداداتها من القوة الى الفعل، حينما تنطلق وتتكامل بفعالية قدرته ضمن رحمته الواسعة.. فذلك الرضى المقدس المطلق والافتخار المطلق يقتضيان هذه الفعالية المطلقة في صورتها المطلقة. وتلك الفعالية ايضاً تقتضي تبديلاً وتغييراً وتحويلاً وتخريباً لاحدّ لهما وذلك التغيير والتبديل غير المحدودين يقتضيان الموت والعدم والزوال والفراق.

ولقد رأيت ـ في وقت ما ـ ان كل ما تبينه حكمة البشر (فلسفته وعلومه ) من فوائد تخص غايات المصنوعات، تافهة لاقيمة لها، وعلمت حينها ان تلك الحكمة تفضي الى العبثية، ومن هنا فان الفيلسوف الراسخ قدمه في الفلسفة: إما أن يضل في ضلالة الطبيعة، او يكون سوفسطائياً او ينكر الارادة والعلم الالهي، او يطلق على الخالق: ((الموجب بالذات)).

وفي ذلك الوقت بعثت الرحمةُ الإلهية اسم الله((الحكيم)) لإغاثتي، فأظهر لي الغايات الجليلة للمصنوعات، اي أن كل مصنوع مكتوب رباني حكيم بحيث يطالعه جميع ذوي الشعور.

كفتني هذه الغاية مدة سنة من الزمن، ثم انكشفت الخوارق البديعة في الصنعة، فلم تعد تلك الغاية كافية وافية. واُظهرتْ لي غاية اخرى أعظم بكثير من الاولى.

اي أن اهم غاية للمصنوع هي النظر الى صانعه الجليل، اي يعرض المصنوع كمالات صنعة صانعه، ونقوش اسمائه الحسنى ومرصعات حكمته القيمة وهدايا رحمته الواسعة امام نظره سبحانه ويكون مرآة لجماله وكماله جل وعلا. هكذا فهمت هذه الغاية، وكفتني مدة مديدة.

ثم ظهرت معجزات القدرة وشؤون الربوبية في التغيير والتبديل السريع جداً، ضمن فعالية محيرة في ايجاد الاشياء واتقانها، حتى بدت تلك الغاية غير وافية، وعلمت ان لابد من داع ٍ عظيم ومقتضى جليل يعادل هذه الغاية العظمى، وعند ذلك اُظهرت لي المقتضيات الموجودة في الرمز الثاني والغايات المذكورة في الاشارات التي ستأتي.

وأُعلمت يقيناً: أن فعالية القدرة في الكون وسير الاشياء وسيلانها، تحمل من المعاني الغزيرة بحيث يُنطق الصانعُ الحكيم انواعَ الكائنات بتلك الفعالية، حتى كأن حركات السموات والارض وحركات موجوداتها هي كلمات ذلك النطق وان سيرها ودورانها تكلّم ونطق، بمعنى أن الحركات والزوال النابعين من الفعالية ما هي الا كلمات تسبيحية، وان الفعالية الموجودة في الكون هي نطق وإنطاق صامت للكون ولما فيه من انواع.

l الرمز الثالث:

ان الاشياء لاتمضي الى العدم، ولاتصير الى الفناء، بل تمضي من دائرة القدرة الى دائرة العلم، وتدخل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، وتتوجه من عالم التغير والفناء الى عالم النور والبقاء، وان الجمال والكمال في الاشياء يعودان الى الاسماء الإلهية والى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة.

وحيث ان تلك الاسماء باقية وتجلياتها دائمة، فلاشك أن نقوشها تتجدد وتتجمل وتتبدل، فلا تذهب الى العدم والفناء، بل تتبدل تعيناتها الاعتبارية. اما حقائقها وماهياتها وهوياتها المثالية التي هي مدار الحسن والجمال ومظهر الفيض والكمال فهي باقية فالحسن والجمال في الاشياء التي لاتملك روحاً يعودان الى الاسماء الإلهية مباشرة فالشرف لها والمدح والثناء لها. إذ الحسن حسنها والمحبة توجه اليها. ولايورث تبدل تلك المرايا ضرراً للاسماء.

وان كانت الاشياء من ذوي الارواح ولكن لم تكن من ذوي العقول، فان فراقها وزوالها ليس فناءً ولاعدماً بل ينجو الشئ الحي من وجود جسماني ومن اضطرابات وظائف الحياة، مودعاً ثمرات وظائفه التي كسبها الى روحه الباقية. فارواح هذه الاشياء تستند ايضاً الى اسماء الهية حسنى. فتدوم وتستمر، وتمضي الى سعادة ملائمة لها.

اما ان كان اولئك الاحياء من ذوي العقول، فانهم اصلاً يمضون الى سعادة ابدية والى عالم البقاء المؤسس على كمالات مادية ومعنوية.

لذا فان فراقهم وزوالهم ليس موتاً وعدماً ولازوالاً وفراقاً حقاً، بل هو وصال مع الكمالات وهو سياحة ممتعة الى عوالم نورانية للصانع الحكيم، عوالم اجمل من الدنيا وازهى منها كعالم البرزخ وعالم المثال وعالم الارواح والى ممالكه الاخرى من منازله سبحانه وتعالى.

حاصل الكلام: ان الله موجود وباق، وان صفاته سرمدية واسماءه دائمة، اذاً لابد أن تجليات تلك الاسماء ونقوشها تتجدد في بقاء معنوي فليس تخريباً ولافناءً ولا اعداماً وزوالاً. اذ من المعلوم ان الانسان ذو علاقة ـ من حيث الانسانية ـ مع اكثر الموجودات، فيتلذذ بسعادتها ويتألم بمصائبها، ولاسيما مع ذوي الحياة، وبخاصة مع الانسان وبالاخص مع من يحبهم ويعجب بهم ويحترمهم من اهل الكمال، فهو اشد تألماً بآلامهم واكثر سعادة بسعادتهم حتى يضحي بسعادته في سبيل اسعادهم كتضحية الوالدة الشفيقة بسعادتها وراحتها من اجل ولدها.

فكل مؤمن يستطيع ان يكون بنور القرآن والايمان سعيداً بسعادة جميع الموجودات وبقائها ونجاتها من العدم وصيرورتها مكاتيب ربانية ويغنم نوراً عظيماً بعظم الدنيا. فكلٌ يستفيد من هذا النور حسب درجته.

اما ان كان من اهل الضلال، فانه يتألم علاوة على آلامه بهلاك الموجودات وبفنائها وباعدامها الظاهري وبآلام ذوي الارواح منها. اي أن كفره يملأ دنياه بالعدم ويفرغها على رأسه، فيمضي الى جهنم (معنوية) قبل أن يساق الى جهنم (في الآخرة).

l الرمز الرابع:

مثلما ذكر في مواضع عدة:ان للسلطان دوائر مختلفة ناشئة من عناوينه المتنوعة، فله اسم السلطان، الخليفة، الحاكم، القائد، وامثالها من العناوين والصفات.

(ولله المثل الاعلى ) فان للاسماء الحسنى تجليات متنوعة لاتحد، فتنوع المخلوقات ناشئ عن تنوع تلك التجليات، وحيث أن صاحب كل جمال وكل كمال يرغب في مشاهدة جماله وكماله واشهادهما. فان تلك الاسماء المختلفة ـ لكونها دائمية وسرمدية ـ تقتضي ظهوراً دائمياً سرمدياً أي تقتضي رؤية نقوشها. اي تقتضي رؤية واراءة جلوة جمالها وانعكاس كمالها في مرايا نقوشها. اي تقتضي تجديد كتاب الكون الكبير، آناً فآناً. اي كتابتها كتابة مجددة ذات مغزى. اي تقتضي كتابة الوف من الرسائل المتنوعة في صحيفة واحدة، واظهار كل رسالة لنظر شهود الذات المقدسة والمسمى الاقدس مع عرضها على مطالعة انظار ذوي الشعور واستقرائهم. تأمل في هذا الشعر الذي يشير الى هذه الحقيقة:

صحائف كتاب العالم.. هذه الانواع غير المعدودة

حروفه وكلماته.. هذه الافراد غير المحدودة

لقد سُطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:

ان كل موجود في العالم لفظ بليغ مجسم

تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الاعلى اليك رسائل

l lلرمز الخامس: عبارة عن نكتتين

النكتة الاولى:

ان الله موجود، فكل شئ موجود اذاً، وحيث أن هناك انتساباً للواجب الوجود، فكل الاشياء اذاً موجودة لكل شئ لأن كل موجود بانتسابه الى واجب الوجود يرتبط بجميع الموجودات، بسر الوحدة بمعنى ان كل موجود يعرف انتسابه الى واجب الوجود او يُعرف انتسابه اليه تعالى، فهو ذو علاقة مع جميع الموجودات المنتسبة الى واجب الوجود، وذلك بسر الوحدة. اي ان كل شئ من نقطة الانتساب ينال انوار وجودٍ غير محدودة بحدود، فلا فراق ولازوال اذاً في تلك النقطة.. لذا يكون العيش في آن سيال واحد مبعث انوار وجود غير محدود. بينما ان لم يكن ذلك الانتساب، ولم يُعرف، فان كل شئ ينال مالايحد من انواع الفراق وصنوف الزوال وانماط العدم، لان الشئ في تلك الحالة له فراق وافتراق وزوال تجاه كل موجود يمكن أن يرتبط به. اي تحمل على وجوده الشخصي انواعاً لاتحد من العدم وصنوفاً لاتحصى من الفراق، فلو ظل في الوجود مليوناً من السنين دون انتساب لما عَدلَ قطعاً آناً من العيش مع الانتساب الذي كان فيه.

ولهذا قال اهل الحقيقة: ان آناً سيالاً من وجود منور يفضل على مليون سنة من وجود أبتر. اي ان آناً من وجود منتسب الى الواجب الوجود مرجّح على مليون سنة من وجود لاانتساب فيه. ولأجل هذا قال اهل التحقيق: ان انوار الوجود هي معرفة واجب الوجود. اي ان الكائنات في تلك الحالة وهي تنعم بانوار الوجود، تكون مملوءة بالملائكة والروحانيات وذوي الشعور. وبخلاف ذلك، اي ان لم تكن هناك معرفة واجب الوجود، فان ظلمات العدم وآلام الفراق واوجاع الزوال تحيط بكل موجود، فالدنيا تكون موحشة خاوية في نظر ذلك الشخص.

نعم، كما ان لكل ثمرة من ثمار شجرة، علاقة مع كل الثمرات التي على تلك الشجرة وتكوّن نوعاً من رابطة الاخوة والصداقة والعلاقات المتينة فيما بينها.. فلها اذن وجودات عرضية بعدد تلك الثمرات.

ولكن متى ما قطفت تلك الثمرة من الشجرة، فان فراقاً وزوالاً يحصلان تجاه كل ثمرة من الثمرات. وتصبح الثمرات بالنسبة للمقطوفة في حكم المعدوم، فيعمها الظلام، ظلام عدم خارجي.

وكذلك فان كل شئ له الاشياء كلها، من نقطة الانتساب الى قدرة الأحد الصمد. وان لم يكن هناك انتساب فان انواعاً من العدم الخارجي بعدد الاشياء كلها تصيب كل شئ.

فانظر من خلال هذا الرمز الى عظمة انوار الايمان، وشاهد الظلمة المخيفة المحيطة بالوجود في الضلال.

فالايمان اذاً هو عنوان الحقيقة السامية التي بينت في هذا الرمز، ولايمكن الاستفادة من تلك الحقيقة الاّ بالايمان، اذ كما ان كل شئ معدوم للاعمى والاصم والابكم والمجنون، كذلك كل شئ معدوم مظلم بانعدام الايمان.

النكتة الثانية:

ان للدنيا وللاشياء ثلاثة وجوه:

الوجه الاول:

ينظر الى الاسماء الإلهية الحسنى، فهو مرآة لها، ولايمكن أن يعرض الزوال والفراق على هذا الوجه، بل فيه التجدد.

الوجه الثاني:

ينظر الى الآخرة، ويرنو الى عالم البقاء، وهو في حكم مزرعتها. ففي هذا الوجه تنضج ثمرات باقيات. فهذا الوجه يخدم البقاء، لأنه يحوّل الفانيات الى حكم الباقيات، وفيه جلوات الحياة والبقاء لا الموت والزوال.

الوجه الثالث:

ينظر الى الفانين، اي ينظر الينا نحن، فهو وجه يعشقه الفانون واهل الهوى، وهو موضع تجارة اهل الشعور، وميدان امتحان الموظفين المأمورين. وهكذا ففي حقيقة هذا الوجه الثالث جلوات اللقاء والحياة تكون مرهماً على جراحات آلام الفناء والزوال والموت والعدم في هذا الوجه للدنيا.

حاصل الكلام:

ان هذه الموجودات السيالة، وهذه المخلوقات السيارة، ما هي الاّ مرايا متحركة، ومظاهر متبدلة لتجديد انوار ايجاد الواجب الوجود .





























المقام الثاني

عبارة عن مقدمة وخمس اشارات

والمقدمة عبارة عن مبحثين:

المقدمة

l المبحث الاول:

ستكتب في هذه الاشارات الخمس الآتية تمثيلات، بمثابة مراصد ومناظير صغيرة وخافتة، لرصد حقيقة شؤون الربوبية، فهذه التمثيلات لاتستوعب قطعاً حقيقة الربوبية، ولايمكن ان تحيط بها، ولا ان تكون مقياساً لها، الاّ انها تمكّن المرء من ان ينظر الى تلك الشؤون البديعة من خلالها.ثم ان التعابير التي لاتناسب شؤون الذات الجليلة في التمثيلات الآتية وفي الرموز السابقة انما هي من قصور التمثيل نفسه. فمثلاً: ان المعاني المعروفة لدينا للـّذة والسرور والرضى والامتنان لايمكن ان تعبّر عن الشؤون المقدسة لله سبحانه، ولكنها مجرد عناوين ملاحظة ليس الاّ، ومراصد تفكر فحسب.

ثم ان هذه التمثيلات تثبت حقيقة قانون رباني عظيم حول شؤون الربوبية باظهارها جزءاً وطرفاً من ذلك القانون في مثال صغير.

فمثلاً؛ لقد ذكر ان الزهرة ترحل من الوجود، الاّ انها تترك الآفاً من انواع الوجود، ثم ترحل. وبهذا المثال يُبيّن قانون عظيم للربوبية حيث يجري هذا القانون في الربيع كله كما يجري في جميع موجودات الدنيا.

نعم، ان الخالق الرحيم، بأي قانون يبدّل لباس طائر وريشه، ويجدّده، يبدل ذلك الصانع الحكيم بالقانون نفسه لباس الكرة الارضية كل سنة، ويبدل بالقانون نفسه صورة الكون قاطبة عند قيام الساعة ويغيرها..وكذا بأي قانون يحرك سبحانه الذرة كالمريد المولوي يدورحول نفسه وحول حلقة الذكر فانه يحرك بالقانون نفسه الكرة الارضية كانجذاب المريد المولوي بالذكر، بل يحرك العوالم بالقانون نفسه، ويسيّر المنظومة الشمسية به.. وكذا بأي قانون يجدد سبحانه ذرات خلايا جسمك ويحللها ويعمّرها، فانه يجدّد بالقانون نفسه، في كل سنة، في كل موسم بستانك مرات ومرات ويجدد بالقانون نفسه سطح الارض في كل ربيع ويبسط بساطاً جديداً.. وكذا، بأي قانون حكيم يحي الصانع القدير ذبابة، فانه سبحانه يحيي بالقانون نفسه شجرة الدلب الضخمة هنا ـ وهي امامنا ـ في كل ربيع، ويحيي الارض بالقانون نفسه في الربيع، ويحيي المخلوقات قاطبة بالقانون نفسه يوم الحشر الاعظم.

ويشير القرآن الحكيم الى هذا بقوله تعالى: } ما خَلقُكم ولابَعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة{ (لقمان: 28).. وهكذا فقس.

فهناك قوانين ربوبية كثيرة جداً امثال هذه تجري من الذرة الى مجموع العالم. فتأمل في عظمة هذه القوانين التي تتضمنها فعالية الربوبية وتدبّر في سعتها وشاهد سرّ الوحدة فيها. واعلم ان كل قانون برهان توحيد بذاته.

نعم! ان كل قانون من هذه القوانين الكثيرة والعظيمة جداً، لكونه قانوناً واحداً ومحيطاً بالوجود في الوقت نفسه فانه يثبت وحدانية الصانع الجليل وعلمه وارادته اثباتاً قاطعاً فضلاً عن انه تجلٍ من تجليات العلم والارادة.

وهكذا فالتمثيلات الواردة في اغلب مباحث (الكلمات) تبين طرفاً وجزءاً من مثل هذه القوانين في مثال جزئي، فهي اذاً تشير الى وجود ذلك القانون نفسه في المدعي. فمادام التمثيل يبيّن تحقق القانون فهو اذاً يثبت المدعي كالبرهان المنطقي. بمعنى ان معظم التمثيلات الموجودة في (الكلمات) كلٌ منها في حكم برهان يقيني، وحجة قاطعة.

l المبحث الثاني:

لقد ذكر في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة: ان لكل ثمرة ولكل زهرة غايات ٍ وحكماً بقدر ثمرات الشجرة وازاهيرها. وتلك الحكم على ثلاثة أقسام:

قسم منها متوجه الى الصانع الجليل؛ يبين نقوش اسمائه.

وقسم آخر يتوجه الى ذوي الشعور، فالموجودات في نظرهم رسائل قيّمة وكلمات بليغة ذات مغزى.

وقسم آخر يتوجه الى الشئ نفسه، والى حياته والى بقائه، وله حِكمٌ حسب منافع الانسان، ان كان مفيداً للانسان.

فعندما كنت أتأمل وجود هذه الغايات الكثيرة لكل موجود. وردت هذه الفقرات باللغة العربية الى خاطري، دوّنتها على صورة ملاحظات على أسس تلك الاشارات الخمس الآتية:

[وهذه الموجودات الجليلة، مظاهر سيالة، ومرايا جوّالة، لتجدّد تجليات انوار ايجاده سبحانه بتبدّل التعيّنات الاعتبارية

اولاً: مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية.

وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية.

وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية.

ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية.

وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية].

ففي هذه الفقرات الخمس اسس الاشارات الآتية التي سنبحثها:

نعم! ان لكل موجود، ولاسيما من ذوي الحياة، خمس طبقات مختلفة من الحكم والغايات المختلفة.

فكما ان شجرة مثمرة، تثمر أغصانها التي يعلو بعضها على بعض، كذلك كل كائن حي له غايات وحكم مختلفة في خمس طبقات.

ايها الانسان الفاني! ان كنت تريد تحويل حقيقتك التي هي كنواة جزئية الى شجرة باقية مثمرة، وتحصل على الطبقات العشر من الثمرات المشار اليها في خمس اشارات وعشرة انواع من الغايات. اغتنم الايمان الحقيقي والاّ تحرم من جميع تلك الغايات والثمرات فضلاً عن انك تضمر وتفسد داخل تلك النواة الصغيرة.

` الاشارة الاولى:

[اولاً: بتبدل التعينات الاعتبارية مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية].

هذه الفقرة تفيد: ان كل موجود، بعد ذهابه من الوجود، يذهب الى العدم والفناء ظاهراً. ولكن تبقى المعاني التي كان قد أفادها وعبّر عنها وتحفظ، وتبقى كذلك هويته

المثالية وصورته وماهيته، في عالم المثال، وفي الالواح المحفوظة التي هي نماذج عالم المثال، وفي القوى الحافظة (الذاكرة) التي هي نماذج الالواح المحفوظة.

بمعنى أن الموجود يفقد وجوداً ظاهرياً صورياً، ويكسب مئات من الوجود المعنوي والعلمي.

مثلاً: تعطى للحروف المطبعية ترتيباً معيناً ووضعاً خاصاً كي تطبع بها صحيفة معينة، فصورة تلك الصحيفة الواحدة وهويتها تعطى الى صحائف مطبوعة متعددة، وتنشر معاني مافيها الى عقول كثيرة، وبعد ذلك تتبدل اوضاع تلك الحروف وتُغير، لانتفاء الحاجة اليها، وللحاجة الى تنضيد صحائف اخرى بتلك الحروف.

وهكذا، فان قلم القدر الالهي يعطي هذه الموجودات الارضية، ولاسيما النباتية منها، ترتيباً معيناً ووضعاً معيناً، والقدرة الالهية توجدها في صحيفة موسم الربيع، فتعبّر عن معانيها الجميلة. وحيث ان صورها وهوياتها تنقل الى سجل عالم الغيب، كعالم المثال، فان الحكمة تقتضي ان يتبدل ذلك الوضع، كي تكتب صحيفة جديدة للربيع المقبل لتعبّر عن معانيها كذلك.

` الاشارة الثانية:

[وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية].

هذه الفقرة تشير الى ان كل شئ، سواء أكان جزئياً أم كلياً، بعد ذهابه من الوجود (ولاسيما ان كان ذا حياة) ينتج حقائق غيبية كثيرة فضلاً عن انه يدع صوراً بعدد أطوار حياته في الالواح المثالية، التي هي في سجلات عالم المثال، فيُكتب تاريخ حياته ذا المغزى من تلك الصور والذي يسمى بالمقدرات الحياتية، ويكون في الوقت نفسه موضع مطالعة الروحانيات، بعد ذهابه من الوجود.

مثال ذلك: ان زهرة ما تذبل ثم ترحل من الوجود، الاّ انها تترك مئات من البذيرات في الوجود وتدع ماهيتها في تلك البذيرات، فضلاً عن انها تترك ألوفاً من صورها في الواح محفوظة صغيرة، وفي القوى الحافظة التي هي نماذج مصغرة للألواح المحفوظة، فتستقرئ ذوي الشعور التسبيحات الربانية ونقوش الاسماء الحسنى التي أدتها في اطوار حياتها. ومن بعد ذلك ترحل عن الوجود.

وهكذا فان موسم الربيع المزدان بالمصنوعات الجميلة على سطح الأرض الشبيه بمزهرة عظيمة، انما هو زهرة ناضرة تزول في الظاهر، وتذهب الى العدم. بيد انه ـ اي الربيع ـ يترك الحقائق الغيبية التي أفادها بعدد بذوره، ويترك الهويات المثالية التي نشرها بعدد الأزاهير، ويدع الحكم الربانية التي أظهرها بعدد الموجودات.

فيترك الربيع كل انواع الوجود هذه، ثم يغيب عن أنظارنا، زد على ذلك فانه يُفرغ المكان لأقرانه من جموع الربيع التي ستأتي الى الوجود لتؤدي وظائفها.

بمعنى ان ذلك الربيع ينزع عنه وجوداً ظاهرياً ويلبس ألفاً من الوجود معنىً.

` الاشارة الثالثة:

[وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية].

هذه الفقرة تفيد: ان الدنيا مزرعة ومعمل ينتج المحاصيل التي تناسب سوق الآخرة.

اذكما ان اعمال الجن والانس ترسل الى سوق الآخرة، كذلك تؤدي بقية الموجودات في الدنيا أعمالاً كثيرة ايضاً في سبيل الآخرة وتنشئ محاصيل وفيرة لها، بل تجري كرة الارض لاجل تلك الاعمال، بل يصح القول:

ان هذه السفينة الربانية تقطع مسافة أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، لتدور حول ميدان الحشر. كما اثبتنا في كلمات كثيرة.

مثلاً: لاشك ان اهل الجنة يرغبون ان يتذاكروا خواطرهم في الدنيا، ويتحاوروا فيما بينهم حول ذكرياتها، وربما يتلهفون لرؤية ألواح (مشاهد) تلك الذكريات والحوادث ومناظرها، اذ يستمتعون كثيراً بمشاهدة تلك الحوادث وتلك الالواح كمن يستمتع بمشاهدة المناظر على شاشة السينما.

فما دام الامر هكذا فالجنة التي هي دار اللذة ومنزل السعادة توجد فيها لامحالة المناظر السرمدية لمحاورات الاحداث الدنيوية ومنـــاظر احداثها. كما تشــير الى ذلك الآيـة الكريمة: } على سررٍ متقابلين{ (الحجر:47).

وهكذا، فان فناء هذه الموجودات الجميلة، بعد ظهورها في آن واحد، وتعاقب بعضها بعضاً يبيّن كأنما هي آلات معمل لتشكيل المناظر السرمدية.

مثال: ان اهل المدنية يلتقطون صور الاوضاع الغريبة والجميلة ويهدونها الى ابناء المستقبل تذكاراً لهم، كما هو على شاشة السينما. فيمنحون نوعاً من البقاء لأوضاع فانية، ويدرجون الزمان الماضي ويظهرونه في الزمان الحالي وفي المستقبل.

كذلك هذه الموجودات الربيعية والدنيوية عامة، بعد قضاء حياة قصيرة، كما يدوّن صانعُها الحكيم غاياتها التي تخص عالم البقاء في ذلك العالم، كذلك يسجل الوظائف الحياتية والمعجزات السبحانية التي ادّوها في اطوار حياتها، في مناظر سرمدية، وذلك بمقتضى اسماللهالحكيم والرحيم والودود.

` الاشارة الرابعة:

[ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية].

هذه الفقرة تفيد: ان الموجودات تؤدي أنواعاً من التسبيحات الربانية في أطوار حياتها، وتظهر ما تستلزمه الاسماء الإلهية وتقتضيها من حالات.

مثلاً: يقتضي اسم الرحيم الاشفاق، ويقتضي اسم الرزاق اعطاء الرزق، ويستلزم اسم اللطيف التلطيف.. وهكذا. فكل اسم من الاسماء الالهية له مقتضى. وكل ذي حياة يبين مقتضى تلك الاسماء، بحياته ووجوده، وهو في الوقت نفسه يسبّح لله الحكيم بعدد أجهزته.

مثلاً: اذا أكل الانسان فواكه طيبة، فانها تتجزأ وتتلاشى في معدته وتهضم وتمحى ظاهراً، الاّ انها تعطى كل خلية من خلايا جسمه، لذة وذوقاً ضمن فعالية، فضلاً عن الفم والمعدة، ويكون مدار حِكَم كثيرة جداً كإنماء الحياة في اقطار الجسم وادامتها، والطعام نفسه يرقى من الوجود النباتي الى مرتبة حياة الانسان.

كذلك عندما تختفي الموجودات وراء ستار الزوال تظل بدلاً عنها تسبيحات باقية كثيرة جداً لكل موجود من الموجودات وتودع نقوش كثير من الاسماء الإلهية ومقتضياتها في يد تلك الاسماء، اي تودعها الى وجودٍ باق. وهكذا تمضي وترحل. تُرى لو بقيت ألوف من انواع الوجود ـ التي نالت نوعاً من البقاء ـ بديلاً عن ذهاب وجود موقت فانٍ، أيمكن أن يُقال: ياحسرة على ذلك الوجود الموقت! او أنه مضى الى عبث! او لِمَ رحل هذا المخلوق اللطيف؟ ! أفيمكن ان يُشتكى على هذه الصورة؟.

بل ان الرحمة والحكمة والمحبة في حق ذلك المخلوق تقتضي هكذا، بل هو هكذا. والاّ يلزم ترك ألوف المنافع للحيلولة دون حدوث ضرر واحد. وعندئذٍ تحدث ألوف الاضرار!.

بمعنى ان الاسماء الحسنى: الرحيم، الحكيم، الودود تستلزم مضي الموجودات وراء استار الزوال والفراق وتقتضيهما ولاتعارضهما.

` الاشارة الخامسة:

[وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية]

تفيد هذه الفقرة: ان الموجودات ـ ولاسيما الاحياء منها ـ بعد ارتحالها من وجودها الظاهري تترك كثيراً من الامور الباقية ثم تمضي الى شأنها.

وقد بينا في الرمز الثاني:

ان في شؤون الربوبية محبة مطلقة وشفقة مطلقة وافتخاراً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ورضى مقدساً مطلقاً وسروراً مقدساً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ولذة مقدسة مطلقة وفرحاً منزهاً مطلقاً بما يليق بذاته الجليلة المقدسة ويوافق تعاليه وتنزهه وتقدسه سبحانه، اذ تُشاهد آثار تلك الشؤون المنزهة، لان ما تقتضيه تلك الشؤون هوسوق الموجودات بسرعة في فعالية محيّرة، ضمن تبديل وتغيير وزوال وفناء، فترسل ـ الموجودات ـ باستمرار من عالم الشهادة الى عالم الغيب. فالمخلوقات ضمن تجليات تلك الشؤون الربانية في سير وسياحة دائمين، في حركة وجولان مستمرين. فهي بهذه السياحة والحركة الدائمتين تملأ آذان اهل الغفلة بنعيات الفراق والزوال، وتشنف اسماع اهل الايمان بنغمات الذكر والتسبيح.

وبناءً على هذا السرّ، فما من موجود يرحل عن الوجود الاّ ويترك في الوجود من المعاني والكيفيات والحالات ما يكون مداراً باقياً لظهور شؤون باقية لواجب الوجود سبحانه.

ثم ان ما قضاه ذلك الموجود من اطوار واحوال، يتركه عندما يرحل وجوداً مفصلاً ـ يمثل وجوده الخارجي ـ في دوائر الوجود العلمي من امثال الإمام المبين والكتاب المبين واللوح المحفوظ، تلك الدوائر التي هي عناوين العلم الازلي.

فكل فانٍ اذاً يترك وجوداً ويكسب لنفسه ولغيره ألوفاً من انواع الوجود.

مثلاً: تلقى مواد اعتيادية الى ماكنة مصنع عظيم، فتحترق تلك المواد وتمحى ظاهراً، ولكن تترسب مواد كيمياوية ثمينة وادوية مهمة في انابيق ذلك المصنع، فضلاً عن قيام قوة بخارها بتحريك دواليب ذلك المعمل مما يؤدي الى نسج الاقمشة من جهة وطبع الكتب من جهة اخرى وانتاج السكر من جهة اخرى مثلاً.

بمعنى؛ ان في احتراق تلك المواد الاعتيادية وفنائها الظاهري تجدألوف الاشياء الوجود.

بمعنى؛ يذهب وجود اعتيادي ويفنى، ولكن يورث انواعاً من وجود رفيع.

فهل يقال في مثل هذه الحالة: ياخسارة على تلك المواد الاعتيادية؟ أفيُشكى هكذا؟ أيُقال: لِمَ لم يرأف صاحب المصنع بحال تلك المواد وحرقها ومحاها؟

(ولله المثل الاعلى) ان الخالق الحكيم والرحيم والودود، يُشغل مصنع الكائنات جاعلاً من كل وجود فانٍ نواة لانواع من الوجود الباقي، ومداراً لاظهار مقاصده الربانية مظهراً به شؤونه السبحانية متخذاً اياه مداداً لقلم قدره، ومكوكاً لنسج قدرته، وذلك بمقتضى الرحمة والحكمة والودودية. فيدفع سبحانه بفعالية قدرته الكائنات لتؤدي مهامها وفعالياتها لاجل كثير مما لانعرفه من عنايات غالية ومقاصد عالية. فتسوق تلك الفعالية الموجودات كلها حتى تجعل الذرات تجول جولاناً، والموجودات تسير سيراناً، والحيوانات تسيل سيلاناً، والسيارات تدور دوراناً. فتجعل الكون يتكلم وينطق ويتلو آيات خالقه بصمت ويستكتبها.

ومن حيث الربوبية قد جعل سبحانه المخلوقات الارضية عروشاً له؛ اذ جعل الهواء نوعاً من عرش لأمره وارادته، وعنصر النور عرشاً آخر لعلمه وحكمته، والماء عرشاً آخر لاحسانه ورحمته، والتراب نوعاً من عرش لحفظه وإحيائه. ويسيّر ثلاثة من تلك العروش فوق المخلوقات الارضية.

فاعلم علماً قاطعاً! ان الحقيقة السامية التي بينت في هذه الرموز الخمسة والاشارات الخمس انما تشاهد بنور القرآن ولاتمتلك الاّ بقوة الايمان، والاّ ستعم ظلمات مرعبة بدلاً من تلك الحقيقة الباقية، وتمتلىء الدنيا لاهل الضلالة بألوان الفراق واصناف الزوال وتطفح بانواع العدم ويصبح الكون بالنسبة له جحيماً معنوياً لايطاق، اذ يحيط بوجود آني بالنسبة له ما لايحدمن العدم كلَّ شئ ، فالماضي والمستقبل جميعاً مملوءان بظلمات العدم. فلايجد الضال الاّ نوراً كئيباً حزيناً في حاله الحاضرة وهي زمان قصير جداً.

ولكن ما ان يأتي سر القرآن ونور الايمان اذا بنور وجود يشاهد من الأزل الى الابد فيتعلق به ويحقق به سعادته الابدية.



خلاصة الكلام:

نقول كما قال (نيازي المصري)(1):

(( لو كان النفَس بحراً زاخراً

وتقطع هذا الصدر إرباً إرباً

اناجي الى ان يبح هذا الصوت))

واقول:

ياحق ياموجود ياحي يامعبود

ياحكيم يامقصود يارحيم ياودود

واقول صارخاً:

لاإله الاّ الله الملك الحق المبين محمد رسول الله صادق الوعد الامين.

واعتقد جازماً واثبت:

ان البعث بعد الموت حقٌ والجنة حَقٌ والنار حَقٌ.. وان السعادة الأبدية حقٌ وان الله رحيم حكيم ودود. وان الرحمة والحكمة والمحبة محيطة بجميع الاشياء وشؤونها.

} وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جاءت رُسُلُ ربنا بالحق{ .

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمِ{

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا{

اللهم صَلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقّه اداءً وعلى آله وصحبه وسلم.



آمين.والحمد لله رب العالمين

سبحان من جعل حديقة ارضه مشهر صنعته.. مَحشر خلقتِهِ.. مظهر قدرتهِ.. مدار حكمته.. مَزهرَ رحمته.. مزرع جنتهِ.. ممرّ المخلوقات.. مسيل الموجودات.. مكيل المصنوعات.

فمزيّنُ الحيوانات، منقّشُ الطيورات..مُثمّرُ الشجرات، مُزَهّرُ النباتات..

معجزاتُ علمه.. خوارقُ صُنعه.. هدايا جُوده.. براهين لطفه..

دلائلُ الوحدة.. لطائف الحكمة.. شواهد الرحمة.

تبسُّم الازهار، من زينة الاثمار،

تسجّعُ الاطيار، في نسمة الاسحار،

تهزّجُ الامطار، على خدود الازهار ،

تزيّنُ الازهار، تبرّجُ الاثمار.. في هذه الجِنان،

ترحّمُ الوالدات على الاطفال الصغار في كل الحيوانات والانسان:

تعرُّفُ ودودٍ

توَدُّدُ رحمن

ترحُّمُ حنّانٍ

تحنــَّنِ مـَنـّانٍ.. للجنِ والانسان، والروح والحيوان والملَكِ والجَان.

الذيل الأول

} قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبّي لوْلا دُعَآؤُكْم{ (الفرفان: 77)

` النكتة الاولى:

اعلم ان الدعاء سر عظيم للعبادة، بل هو مخ العبادة وروحها، والدعاء ـ مثلما ذكرناه في مواضع اخرى كثيرة ـ على انواع ثلاثة.

l النوع الاول من الدعاء:

هو دعاء بلسان الاستعداد والقابلية المودعة في الشئ. فالحبوب والنويات جميعها تسأل فاطرها الحكيم بلسان استعدادها وقابلياتها المودعة فيها قائلة: اللّهم يا خالقنا هئ لنا نمواً نتمكن به من ابراز بدائع اسمائك الحسنى، فنعرضها امام الانظار.. فحوّل اللّهم حقيقتنا الصغيرة الى حقيقة عظيمة.. تلك هي حقيقة الشجرة والسنبل.

وثمة دعاء من هذا النوع ـ اي بلسان الاستعداد ـ هو اجتماع الاسباب. فاجتماع الاسباب دعاء لايجاد المسبب، اي ان الاسباب تتخذ وضعاً معيناً وحالة خاصة بحيث تكون كلسان حال يطلب المسبب من القدير ذي الجلال، فالبذور ــ مثلا ــ تسأل بارءها القدير ان تكون شجرة، وذلك بلسان استعدادها فيتخذ كلٌ من الماء والحرارة والتراب والضوء حالة معينة حول البذرة حتى تكون تلك الحالة كأنها لسان ينطق بالدعاء قائلاً : اللّهم يا خالقنا اجعل هذه البذرة شجرة.

نعم، ان الشجرة التي هي معجزة قدرة الهية خارقة لا يمكن بحال من الاحوال ان يُفوض امرها ويسند خلقها الى تلك المواد البسيطة الجامدة الفاقدة للشعور، بل محال احالتها الى تلك الاسباب.. فاجتماع الاسباب اذاً انما هو نوع من الدعاء.

l النوع الثاني من الدعاء:

هو الدعاء الذي يُسأل بلسان حاجة الفطرة، فالكائنات الحية جميعها تطلب مطاليبها وتسأل حاجاتها ـ الخارجة عن طوقها واختيارها ـ من خالقها الرحيم وتُستجاب لها مطاليبها وحاجاتها في انسب وقت ومن حيث لا تحتسب، اذ ان ايديها قاصرة عن ان تصل الى ما تريد أو دفع حاجة لها، فارسال كل ما تطلبه اذن مما هو خارج عن طوقها واختيارها وفي انسب وقت ومن حيث لا تحتسب انما هو من قبل حكيم رحيم. واغداق هذا الاحسان والانعام ما هو الا استجابة لدعاء فطري.

نحصل من هذا: ان هذا النوع من الدعاء الفطري تنطلق به ألسنة حاجة الفطرة لجميع الكائنات فتسأل الخالق القدير مطاليبها، والتي هي من قبيل الاسباب تسأل القدير العليم المسببات.

l النوع الثالث من الدعاء:

هو الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم. وهذا الدعاء نوعان ايضاً:

فالقسم الاول: مستجاب على الاغلب ان كان قد بلغ درجة الاضطرار، أو كان ذا علاقة قوية مع حاجة الفطرة وموافقة معها، أو كان قريباً من لسان الاستعداد والقابلية، أو كان خالصاً صافياً نابعاً من صميم القلب.

ان ما احرزه الانسان من رقي، وما نال من كشوفات ما هو الا نتيجة هذا النوع من الدعاء، اذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والامور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم ما هو الا ثمرة هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشرية بلسان استعداد خالص فأستجيب لها. فما من دعاء يُسأل بلسان الاستعداد وبلسان حاجة الفطرة الا استجيب ان لم يكن هناك مانع، وكان ضمن شرائطه المعينة.

أما القسم الثاني: فهو الدعاء المعروف لدينا. وهذا ايضاً فرعان:

احدهما فعلي والآخر قولي.

فمثلاً: حرث الارض نوع من دعاء فعلي، يطلب الانسان الرزق من رزاقه الحكيم، يطلبه منه لا من التراب، فالتراب باب لخزينة رحمته الواسعة ليس الا، يطرقه الانسان بالمحراث.

سنطوى تفاصيل الاقسام الاخرى ونذكر بضعة اسرار للدعاء "القولي" وذلك في بضع نكات آتية:

` النكتة الثانية

اعلم ان تأثير الدعاء عظيم، ولا سيما اذا دام واكتسب الكلية، فهذا الدعاء يثمر على الاغلب ويستجاب دائماً. حتى يصح ان يقال: ان سبب خلق العالم انما هو دعاء، حيث ان الدعاء العظيم للرسول الاعظم e وهو يتقدم العالم الاسلامي الذي يدعو الدعاء نفسه، وهم يتقدمون البشرية جمعاء التي تسأل الدعاء نفسه.. ذلك الدعاء هو: السعادة الابدية، وهو سبب من اسباب خلق العالم. اي أن رب العالمين قد علم بعلمه الازلي ان ذلك الرسول الكريم e سيسأله السعادة الابدية والحظوة بتجل من تجليات اسمائه الحسنى، سيسأله باسم البشرية قاطبة بل باسم الموجودات.. فاستجاب سبحانه وتعالى لذلك الدعاء العظيم فخلق هذا العالم.

فما دام الدعاء قد اكتسب هذه الاهمية العظيمة والسعة الشاملة فهل يمكن ألا يستجاب؟ وهل يمكن لدعاء يلهج به مئات الملايين من البشر ـ في الاقل ـ ومنذ الف وثلاث مائة سنة، يدعونه متفقين، في كل حين، بل يدعو معهم كل الطيبين من الجن والملك والروحانيات ممن لا يحصون ولا يعدون.. هل يمكن الا يستجاب هذا الدعاء الذي يدعونه للرسول الكريم e لينال الرحمة الإلهية العظيمة والسعادة الخالدة.

فما دام قد اكتسب هذا الدعاءُ الكليةَ والسعة والدوام الى هذا الحد حتى بلغ درجة لسان الاستعداد وحاجة الفطرة، فلابد ان ذلك الرسول الكريم محمد بن عبد الله e قد اعتلى نتيجة الدعاء ــ مرتبة رفيعة عالية بحيث لو اجتمعت العقول جميعاً للاحاطة بحقيقة تلك المرتبة لعجزت عجزاً تاماً.

فبشراك ايها المسلم! ان لك شفيعاً كريماً في يوم الحشر الاعظم، هو هذا الرسول الحبيب e ... فاسع لنيل شفاعته باتباع سنته المطهرة.

فان قلت: ما حاجة الرسول الكريم e وهو حبيب رب العالمين الى هذه الكثرة من الدعاء والصلوات عليه؟

الجواب: انه e ذو علاقة قوية مع سعادة امته قاطبة، فله حصته مما يناله كل فرد من افراد امته من انواع السعادة، وهو يحزن ايضاً ويتألم لكل مصيبة تصيبهم.

فعلى الرغم من ان مراتب الكمال والسعادة بحقه لا حد لها، فان الذي يرغب رغبة شديدة في ان تنال افراد امته الذين لا يحدون انواعاً لا تحد من السعادة وفي أزمان لا تحد، ويتألم بأنواع لا حد لها من شقائهم ومصائبهم، لابد أنه محتاج وحري به صلوات لا حد لها وأدعية لا حد لها ورحمة لا حد لها.

فان قلت: يُدعى أحياناً بدعاء خالص لأمورتقع قطعاً كالدعاء في صلاة الكسوف والخسوف، وقد يدعى احياناً لامور لا يمكن وقوعها..

الجواب: لقد اوضحنا في كلمات اخرى: ان الدعاء نوع من العبادة، حيث يعلن الانسان عجزه وفقره بالدعاء. أما المقاصد الظاهرية فهي اوقات تلك الادعية والعبادة الدعائية، وهي ليست نتائج الادعية وفوائدها الحقيقية، لان فائدة العبادة وثمرتها متوجهة الى الآخرة، اي يجنيها الداعي في الآخرة، لذا لو لم تحصل المقاصد الدنيوية التي يتضمنها الدعاء فلا يجوز القول: ان الدعاء لم يستجب، وانما يصح القول: انه لم ينقض بعد وقت الدعاء.

فهل يمكن يا ترى ألاّ يستجاب دعاء للسعادة الخالدة، يسألها جميع اهل الايمان في جميع الازمنة، يسألونه بالحاح وخلوص نية وباستمرار. فهل يمكن الا يقبل الرحيم المطلق والكريم المطلق ــ التي تشهد الكائنات لسعة رحمته وشمول كرمه ــ هذا الدعاء، وهل يمكن الا تتحقق تلك السعادة الابدية!؟ كلا ثم كلا..

` النكتة الثالثة:

ان استجابة ((الدعاء القولي الاختياري)) تكون بجهتين: فاما أن يستجاب الدعاء بعينه أو بما هو افضل منه وأولى.

فمثلاً: يدعو احدهم ان يرزقه الله مولوداً ذكراً، فيرزقه الله تعالى مولودة كمريم عليها السلام، فلا يقال عندئذ: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو افضل من دعائه.

ثم ان الانسان قد يدعو لنيل سعادة دنيوية، فيستجيب الله له لسعادة اخروية فلا يقال: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو انفع له... وهكذا.

فنحن اذن ندعوه سبحانه ونسأل منه وحده، وهو يستجيب لنا، الا أنه يتعامل معنا على وفق حكمته لانه حكيم عليم.. فينبغي للمريض الاّ يتهم حكمة الطبيب الذي يعالجه، اذ ربما يطلب منه ان يداويه بالعسل، فلا يعطيه الطبيب ــ لعلمه انه مصاب بالحمى ـ الا دواء مراً علقماً!. فلا يحق للمريض ان يقول: ان الطبيب لا يستجيب لدعائي، بل قد استمع لاناته وصراخه، واجابه فعلاً، وبأفضل منه.

` النكتة الرابعة:

ان اطيب ثمرة حاضرة يجنيها المرء من الدعاء وألذّها، وان اجمل نتيجة آنية يحصل عليها المرء من الدعاء وألطفها هي الآتي:

ان الداعي يعلم يقيناً ان هناك من يسمعه، ويترحم عليه ويسعفه بدوائه، وقدرته تصل الى كل شئ. وعندها يستشعر في نفسه انه ليس وحيداً فريداً في هذه الدنيا الواسعة بل هناك كريم ينظر اليه بنظر الكرم والرحمة، فيدخل الانس الى قلب الداعي، ويتصور انه في كنف الرحيم المقتدر على قضاء حاجاته غير المحدودة ودفع اعدائه غير المعدودة. وفي حضور دائم امامه، فيغمره الفرح والانشراح، ويشعر انه قد القى عن كاهله عبئاً ثقيلاً، فيحمد الله قائلاً: الحمد لله رب العالمين.

` النكتة الخامسة:

ان الدعاء روح العبادة ومخها، وهو نتيجة ايمان خالص، لأن الداعي يُظهر بدعائه أن الذي يهيمن على العالم كله ويطّلع على أخفى أموري ويحيط بكل شئ علماً هو القادر على اغاثتي واسعاف أبعد مقاصدي وهو البصير بجميع احوالي والسميع لندائي، لذا فلا اطلب الا منه وحده فهو يسمع اصوات الموجودات كلها، ولابد انه يسمع صوتي وندائي ايضاً.. وهو الذي يدير الامور كلها فلا انتظر تدبير ادق اموري الا منه وحده.

وهكذا فيا ايها المسلم! تأمل في سعة التوحيد الخالص الذي يهبه الدعاء للمرء، وانظر مدى ما يظهره الدعاء من حلاوة خالصة لنور الايمان وصفائه، وافهم منه حكمة قوله تعالى: } قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم{ (الفرقان: 77) واستمع الى قوله تعالى } وقال ربكم ادعوني استجب لكم{ (غافر:60).. وانه لحق ما قيل: (اَكر نه خواهي داد نه دادى خواه) اي لو لم يرد القضاء ما ألهم الدعاء.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{

اللهم صلّ على سيدنا محمد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله وعلى آله وصحبه وسلم. سلّمنا وسلّم ديننا آمين والحمد لله رب العالمين

الذيل الثاني

(( يخص المعراج النبوي))

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ولقد رآه نزلةً أخرى ^ عند سدرة المنتهى ^ عندها جنة المأوى ^
اذ يغشى السدرة ما يغشى ^ ما زاغ البصر وما طغى ^ لقد رأى من آيات ربّه الكبرى{ (النجم:13ـ 18).

سنبين خمس نكات تدور حول قسم المعراج من قصيدة المولد النبوي.

النكتة الاولى: ان السيد سليمان أفندي(1) الذي كتب قصيدة حول المولد النبوي الشريف، يبين فيها أحداث عشق حزين حول البراق الذي جئ به من الجنة. ولأنه من الأولياء الصالحين ويستند في قصيدته الى روايات في السيرة، لاشك انه يعبّر بتلك الصورة عن حقيقة معينة. والحقيقة هي الآتية:

ان لمخلوقات عالم البقاء علاقة قوية بنور رسول الله e ، اذ بالنور الذي أتى به ستعمّر الجنة ودار الآخرة بالجن والانس، ولولاه لما كانت تلك السعادة الابدية، ولما عمرت الجن والانس الجنة، ولاتنعّموا بجميع انواع مخلوقات الجنة، اي لولاه لبقيت الجنة خاوية وخالية من سكنتها.

ولقد ذكرنا في الغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين:

لقد انتخب من كل نوع من الانواع بلبلاً، خطيباً، يعبّر عن طائفته، وفي مقدمة اولئك الخطباء، البلبل العاشق للورد، الذي يعلن عن حاجات طائفة الحيوانات البالغة حدّ العشق، ازاء قافلة النباتات الآتية من خزينة الرحمة الإلهية والحاملة لأرزاق الحيوانات.. تعلنها هذه البلابل بنغماتها الرقيقة على رؤوس اجمل النباتات تعبيراً عن حسن الاستقبال المفعم بالتسبيح والتهليل.

فالرسول الكريم محمد الامين e الذي هو سبب خلق الافلاك، ووسيلة سعادة الدارين، وحبيب رب العالمين، فكما كان سيدنا جبريل عليه السلام ممثلاً عن نوع الملائكة، في طاعته وخدمته بكمال المحبة مبيناً سر سجود الملائكة وانقيادهم لسيدنا آدم عليه السلام.. فأهل الجنة كذلك، بل حتى حيواناتها لها علاقات بذلك الرسول الكريم e . وقد عبّر السيد سليمان افندي عن هذه الحقيقة بمشاعر الحب والعشق التي اطلقها البراق الذي ركبه الرسول e .

النكتة الثانية: ان أحد أحداث قصيدة المعراج النبوي هو ان السيد سليمان قد عبّر عن المحبة النزيهة لله سبحانه وتعالى تجاه الرسول الكريم e بجملة: ((قد عشقتك)).

فهذه التعابير بمعانيها العرفية لاتليق بقدسيته وتعاليه سبحانه، ولكن لأن السيد سليمان افندي من اهل الولاية واهل الحقيقة، حيث ان قصيدته هذه لقيت القبول والرضى لدى عامة المسلمين، فلاشك ان المعنى الذي أظهره صحيح، وهو هذا:

ان لله سبحانه وتعالى جمالاً وكمالاً مطلقين، وان جميع انواع الجمال والكمال المنقسمة على الكائنات جميعها، هي امارات على جماله وكماله واشارات اليهما وعلامات عليهما.

وحيث ان كل صاحب جمال وكمال، يحب جماله وكماله بالبداهة، فالله سبحانه وتعالى يحب جماله بحبٍ يليق بذاته الجليلة. وانه يحب ايضاً أسماءه التي هي شعاعات جماله جلّ وعلا.

واذ انه يحب أسماءه، فانه يحب إذن صنعته التي تظهر جمال أسمائه.

ويحب اذن مصنوعاته التي هي مرايا لجماله وكماله.

واذ إنه يحب ما يبيّن جماله وكماله، فانه يحب محاسن مخلوقاته التي تشير الى جمال اسمائه وكمالها.

ويشير القرآن الحكيم في آياتها الى هذه الانواع الخمسة من المحبة.

وهكذا فالرسول الكريم e الذي هو اكمل فرد في مصنوعات الله، وابرز شخصية في مخلوقاته.. وهو الذي يقدّر ويعلن عن الصنعة الإلهية بذكرٍ جذاب وتسبيح وتهليل.. وهو الذي فتح بلسان القرآن خزائن جمال الاسماء الحسنى وكمالها.. وهو الذي يبيّن بياناً ساطعاً ـ بلسان القرآن ـ الآيات الكونية الدالة على كمال صانعها.. وهو الذي أدّى وظيفة المرآة للربوبية الإلهية بعبوديته الكلية، حتى حظي بأتم تجليات الاسماء الحسنى كلها، بجامعية ماهيته.

فلاجل ما سبق يصح ان يقال:

ان الجميل ذا الجلال لمحبته جماله يحب محمداً e الذي هو اكمل مرآة ذات شعور لذلك الجمال.

وانه سبحانه لمحبته اسماءه يحب محمداً e الذي هو أجلى مرآة تعكس تلك الاسماء الحسنى. ويحب من يتشبهون بمحمد e ايضاً، كل حسب درجته.

وانه سبحانه لمحبته صنعته يحب محمداً e الذي أعلن عن تلك الصنعة في ارجاء الكون برمته حتى جعله في نشوة وشوق يرن به سمع السماوات ويثير به البر والبحر شوقاً اليه.. ويحب ايضاً من يتبعونه.

وانه سبحانه لمحبته مصنوعاته يحب محمداً e ، اذ هو افضل الناس طراً الذين هم اكمل ذوي الشعور، الذين هم اكمل ذوي الحياة، الذين هم اكمل مصنوعاته سبحانه.

وانه سبحانه لحبه اخلاق مخلوقاته يحب محمداً e ، اذ هو في ذروة الاخلاق الحميدة، كما اتفق عليها الاولياء والاعداء، ويحب كذلك من يتشبهون به في الاخلاق، كل حسب درجته.

بمعنى ان محبة الله قد احاطت بالكون كما احاطت به رحمته، ولهذا فان أعلى مقام في الوجوه الخمسة المذكورة ضمن المحبوبين الذين لاحصر لهم هو مقام خصّ بمحمد e ، ولأجله منح اسم ((حبيب الله)).

ولقد عبّر سليمان افندي عن هذا المقام الرفيع، مقام المحبوبية، بقوله: ((قد عشقتك)) علماً ان هذا التعبير، مرصاد للتفكر ليس الاّ، واشارة الى هذه الحقيقة من بعيد. ومع ذلك فان هذا التعبير لكونه يوهم للخيال معنى لايليق بشأن الربوبية الجليلة، فمن الاولى القول: ((قد رضيت عنك)).

النكتة الثالثة: ان المحاورات الجارية في قصيدة المعراج عاجزة عن التعبير عن تلك الحقائق المقدسة بالمعاني المعروفة لدينا، بل ان تلك المحاورات عناوين تأمل وملاحظة، ومراصد تفكر ليس الاّ، واشارات الى الحقائق السامية العميقة، وتنبيهات الى قسم من حقائق الايمان وكنايات عن بعض المعاني التي لايمكن التعبير عنها.

والاّ، فليست تلك محاورات واحداث كالمحاورات الجارية في القصص كي تكون بالمعاني المعروفة لدينا. اذ نحن لانستطيع ان نستلهم بخيالنا تلك الحقائق، من تلك المحاورات، بل يمكننا ان نستلهم منها بقلوبنا ذوقاً ايمانياً مثيراً، ونشوة روحانية نورانية، لأن الله سبحانه كما لانظير ولاشبيه ولامثيل له في ذاته وصفاته كذلك لامثيل له في شؤون ربوبيته، وكما لاتشبه صفاته تعالى صفات مخلوقاته، كذلك لاتشبه محبته محبة مخلوقاته.

فهذه التعابير الواردة في قصيدة المعراج تعدّ من التعابير المتشابهة. ولهذا نقول:

ان للّه سبحانه شؤوناً ـ كمحبته تعالى ـ تلائم وجوب وجوده وقدسيته، وتناسب غناه الذاتي وكماله المطلق. اي ان القصيدة المذكورة تنبه الى تلك الشؤون بأحداث المعراج.

ولقد اوضحت (( الكلمة الحادية والثلاثون)) الخاصة بالمعراج النبوي، حقائق المعراج ضمن اصول الايمان. لذا نختصر هنا مكتفين بذاك.

النكتة الرابعة:

سؤال: ان عبارة: (( انه e قد رأى ربه وراء سبعين ألف حجاب))(1) تعبّر عن بُعد المكان، والحال ان الله سبحانه منزّه عن المكان، فهو أقرب الى كل شئ من اي شئ كان. فما المراد اذاً من هذه العبارة؟!.

الجواب: لقد وُضّحت تلك الحقيقة في ((الكلمة الحادية والثلاثين)) وبُيّنت بياناً شافياً مفصلاً مدعماً بالبراهين، الاّ اننا نقول هنا:

انا الله سبحانه قريب الينا غاية القرب، ونحن بعيدون عنه غاية البعد.

مثال: ان الشمس قريبة منا بوساطة المرآة التي في ايدينا. بل كل ما هو شفاف يكون نوعاً من عرشٍ للشمس ومنزل لها. فلو ان للشمس شعوراً، لكانت تحاورنا بما في ايدينا من المرآة. ولكننا بعيدون عنها اربعة آلاف سنة.

وهكذا فشمس الازل (بلا تشبيه ولاتمثيل) (ولله المثل الاعلى) اقرب الى كل شئ من اي شئ كان، لانه واجب الوجود، ومنزّه عن المكان، ولايحجبه شئ، بينما كل شئ بعيد عنه بعداً مطلقاً.

ومن هذا تفهم: سر المسافة الطويلة جداً في المعراج مع عدم وجود المسافة التي تعبر عنها الآية الكريمة: } ونحن أقرب اليه من حبل الوريد{ (ق:16).

وكذا ينبع من هذا السر: ذهاب الرسولe وطيّه المسافات الطويلة جداً ومجيئه في آن واحد الى موضعه.

فمعراج الرسول ص هو؛ سيره وسلوكه، وهو عنوان ولايته، اذ كما يعرج الاولياء الى درجة حق اليقين من درجات الايمان رقياً معنوياً بالسير والسلوك الروحاني بدءاً من اربعين يوماً الى اربعين سنة، كذلك الرسول e وهو سلطان جميع الاولياء وسيدهم عرج بجسمه وحواسه ولطائفه جميعاً لابقلبه وروحه وحدهما فاتحاً صراطاً سوياً وجادة كبرى حتى بلغ أعلى مراتب حقائق الايمان واسماها بالمعراج الذي هو كرامة ولايته الكبرى في اربعين دقيقة بدلاً من اربعين سنة، ورقي الى العرش بسلّم المعراج وشاهد ببصره بعين اليقين ـ في مقام قاب قوسين او ادنى ـ اعظم حقائق الايمان، وهو الايمان بالله، والايمان باليوم الآخر، ودخل الجنة وشاهد السعادة الابدية وفتح باب الجادة الكبرى وتركه مفتوحاً ليمضي جميع اولياء امته بالسير والسلوك الروحاني اي بسير روحاني وقلبي في ظل ذلك المعراج كل حسب درجته.



النكتة الخامسة:

ان قراءة المولد النبوي وقصيدة المعراج عادة اسلامية مستحسنة، ونافعة جداً، بل هي مدار مجالسة ومؤانسة لطيفة في الحياة الاجتماعية الاسلامية. وهي درس في غاية اللذة والطيب للتذكير بالحقائق الايمانية. وهي اقوى وسيلة مؤثرة ومهيجة؛ لإظهار أنوار الايمان، وتحريك محبة الله، وعشق الرسول e .

نسأل الله ان يديم هذه العادة الى الابد، ويرحم كاتبها السيد سليمان افندي وامثاله من الكتّاب، ويجعل جنة الفردوس مثواهم.. آمين.

خاتمة

لما كان خالق هذا الكون، يخلق من كل نوع فرداً ممتازاً كاملاً جامعاً، ويجعله مناط فخر وكمال ذلك النوع، فلاشك انه يخلق فرداً ممتازاً وكاملاً ـ بالنسبة للكائنات قاطبة ـ وذلك بتجلي الاسم الاعظم من اسمائه الحسنى. وسيكون في مصنوعاته فرداً أكمل كالاسم الاعظم في اسمائه. فيجمع كمالاته المنتشرة في الكائنات في ذلك الفرد الاكمل، ويجعله محط نظره.

ولاريب ان ذلك الفرد سيكون من ذوي الحياة، لان أكمل انواع الكائنات هم ذوو الحياة، ويكون من ذوي الشعور، لان أكمل انواع ذوي الحياة هم ذوو الشعور، وسيكون ذلك الفرد الفريد من الانسان، لان الانسان هو المؤهل لما لا يحد من الرقي. وسيكون ذلك الفرد حتماً محمداً الامين e ، لأنه لم يظهر أحد في التأريخ كله مثله منذ زمن آدم عليه السلام والى الآن، ولن يظهر. لان ذلك النبي الكريم e قد ضم نصف الكرة الارضية وخمس البشرية ضمن سلطانه المعنوي وحاكميته التي دامت ألفاً وثلاثمائة وخمسين عاماً بكمال هيبتها وعظمتها. واصبح استاذاً لجميع اهل الكمال في جميع انواع الحقائق، ونال أرقى المراتب في السجايا الحميدة باتفاق الاصدقاء والاعداء، وتحدى العالم اجمع وحده ـ في اول أمره ـ وأظهر القرآن الكريم الذي يتلوه اكثر من مائة مليون من الناس في كل دقيقة..

فلابد ان نبياً كريماً كهذا النبي e هو ذلك الفرد الفريد لا احد غيره ابداً. فهو نواة هذا العالم وثمرته. عليه وعلى آله واصحابه الصلاة والسلام بعدد انواع الكائنات وموجوداتها.

واعلم ان الاستماع الى المولود النبوي ومعراجه e اي الاستماع الى مبدأ رقيه ومنتهاه. اي معرفة تأريخ حياته المعنوية.. لذيذ، ونوراني، ومبعث فخر لأمته واعتزاز لهم، ومسامرة علوية رفيعة للمؤمنين الذين اتخذوه رئيساً وسيداً وإماماً وشفيعاً لهم.

يارب

بحرمة الحبيب الاكرم عليه الصلاة والسلام، وبحق الاسم الاعظم..

اجعل قلوب ناشري هذه الرسالة ورفقائهم مظهراً لأنوار الايمان.

واجعل أقلامهم ناشرةً لأسرار القرآن واهدهم الى سواء السبيل.

آمين

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

المكتوب الخامس والعشرون

لم يؤلف

عبدالرزاق 02-03-2011 11:30 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الرابع والعشرون

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} يفعل الله ما يشاء{ (ابراهيم:27)

} ويحكم ما يريد{ (المائدة:1)

سـؤال:

ان ما يقتضيه اسم الله ((الرحيم)) من تربية شفيقة، واسم الله ((الحكيم)) من تدبير وفق المصالح، واسم الله (( الودود)) من لطف ومحبة.. كيف تلائم مقتضيات هذه الاسماء الحسنى العظام مع ماهو مرعب وموحش كالموت والعدم والزوال والفراق والمصائب والمشقات؟

ولنسلّم ان ما يراه الانسان في طريق الموت لابأس به وهو خير وحسن حيث سيمضي الى السعادة الابدية. ولكن اية رحمة وشفقة تسع، واية حكمة ومصلحة توجد، واي لطف ورحمة في إفناء هذه الانواع من الاشجار والنباتات اللطيفة والازهار الجميلة والحيوانات المؤهلة للوجود والشغوفة بالحياة والتواقة للبقاء، وباستمرار ودون استثناء واعدامها دون امهال احد منها؟ وفي تسخيرها في المشاق وتغييرها بالمصائب دون السماح لأحد منها بالدعة والراحة؟ وفي اماتتها وزوالها وفراقها بلا توقف، دون ان يسمح لأحد بالمكوث قليلاً ودون رضىً من أحد؟

الجـواب: لكي نحل هذا السؤال نحاول أن ننظر الى هذه الحقيقة العظمى من بعيد، فهي حقيقة واسعة جداً وعميقة جداً ورفيعة جداً، لنرى الحقيقة بوضوح. فنبين الداعي والمقتضى لها في خمسة رموز ونبين الغايات والفوائد منها في خمس اشارات.



المقام الاول

وهو في خمسة رموز

l الرمـز الاول

لقد ذكرنا في خواتيم الكلمة السادسة والعشرين: ان صنّاعاً ماهراً، يكلف رجلاً فقيراً لقاء اجرة يستحقها ، ليقوم له بدور النموذج ((الموديل)) ليخيط لباساً راقياً، فاخراً في اجمل زينة واكثرها بهاءً، اظهاراً لمهارته وصنعته. لذا يفصّل على ذلك الرجل اللباس ويقصه ويقصره ويطوله، ويقعد الرجل وينهضه، ويجعله في اوضاع مختلفة.. فهل يحق لهذا الرجل الفقير ان يقول للصنّاع: لِمَ تبدل هذا اللباس الذي يجمّلني؟ ولِمَ تغيره؟ فتقعدني تارة وتنهضني اخرى فتفسد راحتي؟!

وكذلك الصانع الجليل (وله المثل الاعلى) قد اتخذ ماهية كلِ نوع من الموجودات مقياساً ونموذجاً ((موديلاً)) فألبس كل شئ لباساً مرصعاً بالحواس، ونقش عليه نقوشاً بقلم قضائه وقدره، واظهر جلوات اسمائه الحسنى، ابرازاً لكمال صنعته بنقوش اسمائه. فضلاً عن انه سبحانه يمنح كل موجود ايضاً كمالاً ولذة وفيضاً بمثابة اجرة ملائمة له.

فهل يحق لشئ ان يخاطب ذلك الصانع الجليل الذي هو مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ويقول: ((انك تتعبني وتفسد عليّ راحتي))؟ حاش للّه وكلا!

انه ليس للموجودات حق باية جهة كانت ازاء واجب الوجود، وليس لها ان تدّعي باي حقٍ مهما كان، بل حقها القيام بالشكر الدائم والحمد الدائم، اداءً لحق مراتب الوجود التي منحها اياها.لأن جميع مراتب الوجود الممنوحة للموجود انما هي وقوعات تحتاج الى علّة. بينما مراتب الوجود التي لم تمنح هي امكانات، والامكانات عدمٌ، وهي لاتتناهى، والعدم لايحتاج الى علة، فما لانهاية له لاعلة له.

مثلاً: لايحق للمعادن ان تشكو قائلة ً: لِمَ لم نصبح نباتاتٍ؟ بل حقها أن تشكر فاطرها الجليل على ما انعم عليها من نعمة الوجود كمعادن.

وكذا النبات ليس له حق الشكوى، فليس له أن يقول: لِمَ لم اصبح حيواناً؟ بل حقه الشكر لله الذي وهب له الوجود والحياة معاً . وكذا الحيوان ليس له حق الشكوى ويقول: لِمَ لم اكن انساناً؟ بل عليه حق الشكر لما أنعم الله عليه من الوجود، والحياة وجوهر الروح الراقي.. وهكذا فقس.

ايها الانسان الشاكي! انك لم تبق معدوماً، بل لبست نعمة الوجود. وذقت طعم الحياة. ولم تبق جماداً ولم تصبح حيواناً، فقد وجدت نعمة الاسلام، ولم تبق في غياهب الضلال، وتنعمت بنعمة الصحة والأمان.. وهكذا..

ايها الغارق في الكفران! أفبعد هذا تدعّي حقاً لك على ربك، انك لم تشكر ربك بعدُ على ما أنعم عليك من مراتب الوجود التي هي نعم خالصة. بل تشكو منه جل وعلا لما لم ينعم عليك من نعم غالية من انواع الامكانات وانواع العدم ومما لاتقدر عليه ولاتستحقه ،فتشكو بحرص باطل وتكفر بنعمه سبحانه.

ترى لو أن رجلاً أُصعد على قمة منارة عالية ذات درجات وتسلـَّم في كل درجة منها هدية ثمينة ثم وجد نفسه في قمة المنارة، في مكان رفيع، أيحق له أن لايشكر صاحب تلك النعم ويبكي ويتأفف ويتحسر قائلاً: لـِمَ لم اقدر على صعود ما هو أعلى من هذه المنارة..

ترى كم يكون عمله هذا باطلاً لو تصرف هكذا وكم يسقط في هاوية كفران النعمة! وكم هو في ضلالة مقيتة!. حتى البلهاء يدركون هذا.

ايها الانسان الحريص غير القانع! ويا ايها المسرف غير المقتصد! ويا ايها الشاكي بغير حق! ايها الغافل!

اعلم يقيناً: ان القناعة شكران رابح، بينما الحرص كفران خاسر، والاقتصاد توقير للنعمة جميل ونافع، بينما الاسراف استخفاف بالنعمة مضرّ ومشين.

فان كنت راشداً، عوّد نفسك على القناعة وحاول بلوغ الرضى. وان لم تطق ذلك فقل: ياصبور! وتجمّل بالصبر. وارض بحقك ولاتشكُ. واعلم ممن وإلى مَن تشكو! ألزم الصمت. واذا اردت الشكوى لامحالة فاشكُ نفسك الى الله، فان القصور منها.

l الرمز الثانـي:

لقد ذكرنا في ختام المسألة الاخيرة للمكتوب الثامن عشر أنه:

ان حكمةً من حكم تبديل الخالق الجليل للموجودات دوماً وتجديده لها باستمرار تبديلاً وتجديداً محيّراً مذهلاً بفعالية ربوبيته الجليلة هي ان الفعالية والحركة في المخلوقات نابعة من شهية، من اشتياق، من لذة، من محبة، حتى يصح القول:

ان في كل فعالية نوعاً من اللذة، بل ان كل فعالية هي نوع من اللذة، واللذة كذلك متوجهة الى كمال بل هي نوع من الكمال.

ولما كانت الفعالية تشير الى كمال، الى لذة، الى جمال، وان الواجب الوجود سبحانه الذي هو الكمال المطلق والكامل ذو الجلال، جامع في ذاته وصفاته وافعاله لجميع انواع الكمالات، فلا شك أن لذلك الواجب الوجود سبحانه شفقة مقدسة لاحدّ لها ومحبة منزهة لانهاية لها تليق بوجوب وجوده وقدسيته وتوافق تعاليه الذاتي وغناه المطلق وتناسب كماله المطلق وتنزهه الذاتي ولا شك أن له شوقاً مقدساً لاحدّ له، نابعاً من تلك الشفقة المقدسة، ومن تلك المحبة المنزهة، وان له سروراً مقدساً لاحدّ له نابعاً من ذلك الشوق المقدس، وان له لذة مقدسة لاحدّ لها ـ ان جاز التعبير ـ ناشئة من ذلك السرور المقدس. ولاشك ان له مع تلك اللذة المقدسة رضىً مقدساً لاحدّ له وافتخاراً مقدساً لانهاية له ـ ان جاز التعبير ـ ناشئين من رضىً وامتنان مخلوقاته من انطلاق استعداداتها من القوة الى الفعل، حينما تنطلق وتتكامل بفعالية قدرته ضمن رحمته الواسعة.. فذلك الرضى المقدس المطلق والافتخار المطلق يقتضيان هذه الفعالية المطلقة في صورتها المطلقة. وتلك الفعالية ايضاً تقتضي تبديلاً وتغييراً وتحويلاً وتخريباً لاحدّ لهما وذلك التغيير والتبديل غير المحدودين يقتضيان الموت والعدم والزوال والفراق.

ولقد رأيت ـ في وقت ما ـ ان كل ما تبينه حكمة البشر (فلسفته وعلومه ) من فوائد تخص غايات المصنوعات، تافهة لاقيمة لها، وعلمت حينها ان تلك الحكمة تفضي الى العبثية، ومن هنا فان الفيلسوف الراسخ قدمه في الفلسفة: إما أن يضل في ضلالة الطبيعة، او يكون سوفسطائياً او ينكر الارادة والعلم الالهي، او يطلق على الخالق: ((الموجب بالذات)).

وفي ذلك الوقت بعثت الرحمةُ الإلهية اسم الله((الحكيم)) لإغاثتي، فأظهر لي الغايات الجليلة للمصنوعات، اي أن كل مصنوع مكتوب رباني حكيم بحيث يطالعه جميع ذوي الشعور.

كفتني هذه الغاية مدة سنة من الزمن، ثم انكشفت الخوارق البديعة في الصنعة، فلم تعد تلك الغاية كافية وافية. واُظهرتْ لي غاية اخرى أعظم بكثير من الاولى.

اي أن اهم غاية للمصنوع هي النظر الى صانعه الجليل، اي يعرض المصنوع كمالات صنعة صانعه، ونقوش اسمائه الحسنى ومرصعات حكمته القيمة وهدايا رحمته الواسعة امام نظره سبحانه ويكون مرآة لجماله وكماله جل وعلا. هكذا فهمت هذه الغاية، وكفتني مدة مديدة.

ثم ظهرت معجزات القدرة وشؤون الربوبية في التغيير والتبديل السريع جداً، ضمن فعالية محيرة في ايجاد الاشياء واتقانها، حتى بدت تلك الغاية غير وافية، وعلمت ان لابد من داع ٍ عظيم ومقتضى جليل يعادل هذه الغاية العظمى، وعند ذلك اُظهرت لي المقتضيات الموجودة في الرمز الثاني والغايات المذكورة في الاشارات التي ستأتي.

وأُعلمت يقيناً: أن فعالية القدرة في الكون وسير الاشياء وسيلانها، تحمل من المعاني الغزيرة بحيث يُنطق الصانعُ الحكيم انواعَ الكائنات بتلك الفعالية، حتى كأن حركات السموات والارض وحركات موجوداتها هي كلمات ذلك النطق وان سيرها ودورانها تكلّم ونطق، بمعنى أن الحركات والزوال النابعين من الفعالية ما هي الا كلمات تسبيحية، وان الفعالية الموجودة في الكون هي نطق وإنطاق صامت للكون ولما فيه من انواع.

l الرمز الثالث:

ان الاشياء لاتمضي الى العدم، ولاتصير الى الفناء، بل تمضي من دائرة القدرة الى دائرة العلم، وتدخل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، وتتوجه من عالم التغير والفناء الى عالم النور والبقاء، وان الجمال والكمال في الاشياء يعودان الى الاسماء الإلهية والى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة.

وحيث ان تلك الاسماء باقية وتجلياتها دائمة، فلاشك أن نقوشها تتجدد وتتجمل وتتبدل، فلا تذهب الى العدم والفناء، بل تتبدل تعيناتها الاعتبارية. اما حقائقها وماهياتها وهوياتها المثالية التي هي مدار الحسن والجمال ومظهر الفيض والكمال فهي باقية فالحسن والجمال في الاشياء التي لاتملك روحاً يعودان الى الاسماء الإلهية مباشرة فالشرف لها والمدح والثناء لها. إذ الحسن حسنها والمحبة توجه اليها. ولايورث تبدل تلك المرايا ضرراً للاسماء.

وان كانت الاشياء من ذوي الارواح ولكن لم تكن من ذوي العقول، فان فراقها وزوالها ليس فناءً ولاعدماً بل ينجو الشئ الحي من وجود جسماني ومن اضطرابات وظائف الحياة، مودعاً ثمرات وظائفه التي كسبها الى روحه الباقية. فارواح هذه الاشياء تستند ايضاً الى اسماء الهية حسنى. فتدوم وتستمر، وتمضي الى سعادة ملائمة لها.

اما ان كان اولئك الاحياء من ذوي العقول، فانهم اصلاً يمضون الى سعادة ابدية والى عالم البقاء المؤسس على كمالات مادية ومعنوية.

لذا فان فراقهم وزوالهم ليس موتاً وعدماً ولازوالاً وفراقاً حقاً، بل هو وصال مع الكمالات وهو سياحة ممتعة الى عوالم نورانية للصانع الحكيم، عوالم اجمل من الدنيا وازهى منها كعالم البرزخ وعالم المثال وعالم الارواح والى ممالكه الاخرى من منازله سبحانه وتعالى.

حاصل الكلام: ان الله موجود وباق، وان صفاته سرمدية واسماءه دائمة، اذاً لابد أن تجليات تلك الاسماء ونقوشها تتجدد في بقاء معنوي فليس تخريباً ولافناءً ولا اعداماً وزوالاً. اذ من المعلوم ان الانسان ذو علاقة ـ من حيث الانسانية ـ مع اكثر الموجودات، فيتلذذ بسعادتها ويتألم بمصائبها، ولاسيما مع ذوي الحياة، وبخاصة مع الانسان وبالاخص مع من يحبهم ويعجب بهم ويحترمهم من اهل الكمال، فهو اشد تألماً بآلامهم واكثر سعادة بسعادتهم حتى يضحي بسعادته في سبيل اسعادهم كتضحية الوالدة الشفيقة بسعادتها وراحتها من اجل ولدها.

فكل مؤمن يستطيع ان يكون بنور القرآن والايمان سعيداً بسعادة جميع الموجودات وبقائها ونجاتها من العدم وصيرورتها مكاتيب ربانية ويغنم نوراً عظيماً بعظم الدنيا. فكلٌ يستفيد من هذا النور حسب درجته.

اما ان كان من اهل الضلال، فانه يتألم علاوة على آلامه بهلاك الموجودات وبفنائها وباعدامها الظاهري وبآلام ذوي الارواح منها. اي أن كفره يملأ دنياه بالعدم ويفرغها على رأسه، فيمضي الى جهنم (معنوية) قبل أن يساق الى جهنم (في الآخرة).

l الرمز الرابع:

مثلما ذكر في مواضع عدة:ان للسلطان دوائر مختلفة ناشئة من عناوينه المتنوعة، فله اسم السلطان، الخليفة، الحاكم، القائد، وامثالها من العناوين والصفات.

(ولله المثل الاعلى ) فان للاسماء الحسنى تجليات متنوعة لاتحد، فتنوع المخلوقات ناشئ عن تنوع تلك التجليات، وحيث أن صاحب كل جمال وكل كمال يرغب في مشاهدة جماله وكماله واشهادهما. فان تلك الاسماء المختلفة ـ لكونها دائمية وسرمدية ـ تقتضي ظهوراً دائمياً سرمدياً أي تقتضي رؤية نقوشها. اي تقتضي رؤية واراءة جلوة جمالها وانعكاس كمالها في مرايا نقوشها. اي تقتضي تجديد كتاب الكون الكبير، آناً فآناً. اي كتابتها كتابة مجددة ذات مغزى. اي تقتضي كتابة الوف من الرسائل المتنوعة في صحيفة واحدة، واظهار كل رسالة لنظر شهود الذات المقدسة والمسمى الاقدس مع عرضها على مطالعة انظار ذوي الشعور واستقرائهم. تأمل في هذا الشعر الذي يشير الى هذه الحقيقة:

صحائف كتاب العالم.. هذه الانواع غير المعدودة

حروفه وكلماته.. هذه الافراد غير المحدودة

لقد سُطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:

ان كل موجود في العالم لفظ بليغ مجسم

تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الاعلى اليك رسائل

l lلرمز الخامس: عبارة عن نكتتين

النكتة الاولى:

ان الله موجود، فكل شئ موجود اذاً، وحيث أن هناك انتساباً للواجب الوجود، فكل الاشياء اذاً موجودة لكل شئ لأن كل موجود بانتسابه الى واجب الوجود يرتبط بجميع الموجودات، بسر الوحدة بمعنى ان كل موجود يعرف انتسابه الى واجب الوجود او يُعرف انتسابه اليه تعالى، فهو ذو علاقة مع جميع الموجودات المنتسبة الى واجب الوجود، وذلك بسر الوحدة. اي ان كل شئ من نقطة الانتساب ينال انوار وجودٍ غير محدودة بحدود، فلا فراق ولازوال اذاً في تلك النقطة.. لذا يكون العيش في آن سيال واحد مبعث انوار وجود غير محدود. بينما ان لم يكن ذلك الانتساب، ولم يُعرف، فان كل شئ ينال مالايحد من انواع الفراق وصنوف الزوال وانماط العدم، لان الشئ في تلك الحالة له فراق وافتراق وزوال تجاه كل موجود يمكن أن يرتبط به. اي تحمل على وجوده الشخصي انواعاً لاتحد من العدم وصنوفاً لاتحصى من الفراق، فلو ظل في الوجود مليوناً من السنين دون انتساب لما عَدلَ قطعاً آناً من العيش مع الانتساب الذي كان فيه.

ولهذا قال اهل الحقيقة: ان آناً سيالاً من وجود منور يفضل على مليون سنة من وجود أبتر. اي ان آناً من وجود منتسب الى الواجب الوجود مرجّح على مليون سنة من وجود لاانتساب فيه. ولأجل هذا قال اهل التحقيق: ان انوار الوجود هي معرفة واجب الوجود. اي ان الكائنات في تلك الحالة وهي تنعم بانوار الوجود، تكون مملوءة بالملائكة والروحانيات وذوي الشعور. وبخلاف ذلك، اي ان لم تكن هناك معرفة واجب الوجود، فان ظلمات العدم وآلام الفراق واوجاع الزوال تحيط بكل موجود، فالدنيا تكون موحشة خاوية في نظر ذلك الشخص.

نعم، كما ان لكل ثمرة من ثمار شجرة، علاقة مع كل الثمرات التي على تلك الشجرة وتكوّن نوعاً من رابطة الاخوة والصداقة والعلاقات المتينة فيما بينها.. فلها اذن وجودات عرضية بعدد تلك الثمرات.

ولكن متى ما قطفت تلك الثمرة من الشجرة، فان فراقاً وزوالاً يحصلان تجاه كل ثمرة من الثمرات. وتصبح الثمرات بالنسبة للمقطوفة في حكم المعدوم، فيعمها الظلام، ظلام عدم خارجي.

وكذلك فان كل شئ له الاشياء كلها، من نقطة الانتساب الى قدرة الأحد الصمد. وان لم يكن هناك انتساب فان انواعاً من العدم الخارجي بعدد الاشياء كلها تصيب كل شئ.

فانظر من خلال هذا الرمز الى عظمة انوار الايمان، وشاهد الظلمة المخيفة المحيطة بالوجود في الضلال.

فالايمان اذاً هو عنوان الحقيقة السامية التي بينت في هذا الرمز، ولايمكن الاستفادة من تلك الحقيقة الاّ بالايمان، اذ كما ان كل شئ معدوم للاعمى والاصم والابكم والمجنون، كذلك كل شئ معدوم مظلم بانعدام الايمان.

النكتة الثانية:

ان للدنيا وللاشياء ثلاثة وجوه:

الوجه الاول:

ينظر الى الاسماء الإلهية الحسنى، فهو مرآة لها، ولايمكن أن يعرض الزوال والفراق على هذا الوجه، بل فيه التجدد.

الوجه الثاني:

ينظر الى الآخرة، ويرنو الى عالم البقاء، وهو في حكم مزرعتها. ففي هذا الوجه تنضج ثمرات باقيات. فهذا الوجه يخدم البقاء، لأنه يحوّل الفانيات الى حكم الباقيات، وفيه جلوات الحياة والبقاء لا الموت والزوال.

الوجه الثالث:

ينظر الى الفانين، اي ينظر الينا نحن، فهو وجه يعشقه الفانون واهل الهوى، وهو موضع تجارة اهل الشعور، وميدان امتحان الموظفين المأمورين. وهكذا ففي حقيقة هذا الوجه الثالث جلوات اللقاء والحياة تكون مرهماً على جراحات آلام الفناء والزوال والموت والعدم في هذا الوجه للدنيا.

حاصل الكلام:

ان هذه الموجودات السيالة، وهذه المخلوقات السيارة، ما هي الاّ مرايا متحركة، ومظاهر متبدلة لتجديد انوار ايجاد الواجب الوجود .





























المقام الثاني

عبارة عن مقدمة وخمس اشارات

والمقدمة عبارة عن مبحثين:

المقدمة

l المبحث الاول:

ستكتب في هذه الاشارات الخمس الآتية تمثيلات، بمثابة مراصد ومناظير صغيرة وخافتة، لرصد حقيقة شؤون الربوبية، فهذه التمثيلات لاتستوعب قطعاً حقيقة الربوبية، ولايمكن ان تحيط بها، ولا ان تكون مقياساً لها، الاّ انها تمكّن المرء من ان ينظر الى تلك الشؤون البديعة من خلالها.ثم ان التعابير التي لاتناسب شؤون الذات الجليلة في التمثيلات الآتية وفي الرموز السابقة انما هي من قصور التمثيل نفسه. فمثلاً: ان المعاني المعروفة لدينا للـّذة والسرور والرضى والامتنان لايمكن ان تعبّر عن الشؤون المقدسة لله سبحانه، ولكنها مجرد عناوين ملاحظة ليس الاّ، ومراصد تفكر فحسب.

ثم ان هذه التمثيلات تثبت حقيقة قانون رباني عظيم حول شؤون الربوبية باظهارها جزءاً وطرفاً من ذلك القانون في مثال صغير.

فمثلاً؛ لقد ذكر ان الزهرة ترحل من الوجود، الاّ انها تترك الآفاً من انواع الوجود، ثم ترحل. وبهذا المثال يُبيّن قانون عظيم للربوبية حيث يجري هذا القانون في الربيع كله كما يجري في جميع موجودات الدنيا.

نعم، ان الخالق الرحيم، بأي قانون يبدّل لباس طائر وريشه، ويجدّده، يبدل ذلك الصانع الحكيم بالقانون نفسه لباس الكرة الارضية كل سنة، ويبدل بالقانون نفسه صورة الكون قاطبة عند قيام الساعة ويغيرها..وكذا بأي قانون يحرك سبحانه الذرة كالمريد المولوي يدورحول نفسه وحول حلقة الذكر فانه يحرك بالقانون نفسه الكرة الارضية كانجذاب المريد المولوي بالذكر، بل يحرك العوالم بالقانون نفسه، ويسيّر المنظومة الشمسية به.. وكذا بأي قانون يجدد سبحانه ذرات خلايا جسمك ويحللها ويعمّرها، فانه يجدّد بالقانون نفسه، في كل سنة، في كل موسم بستانك مرات ومرات ويجدد بالقانون نفسه سطح الارض في كل ربيع ويبسط بساطاً جديداً.. وكذا، بأي قانون حكيم يحي الصانع القدير ذبابة، فانه سبحانه يحيي بالقانون نفسه شجرة الدلب الضخمة هنا ـ وهي امامنا ـ في كل ربيع، ويحيي الارض بالقانون نفسه في الربيع، ويحيي المخلوقات قاطبة بالقانون نفسه يوم الحشر الاعظم.

ويشير القرآن الحكيم الى هذا بقوله تعالى: } ما خَلقُكم ولابَعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة{ (لقمان: 28).. وهكذا فقس.

فهناك قوانين ربوبية كثيرة جداً امثال هذه تجري من الذرة الى مجموع العالم. فتأمل في عظمة هذه القوانين التي تتضمنها فعالية الربوبية وتدبّر في سعتها وشاهد سرّ الوحدة فيها. واعلم ان كل قانون برهان توحيد بذاته.

نعم! ان كل قانون من هذه القوانين الكثيرة والعظيمة جداً، لكونه قانوناً واحداً ومحيطاً بالوجود في الوقت نفسه فانه يثبت وحدانية الصانع الجليل وعلمه وارادته اثباتاً قاطعاً فضلاً عن انه تجلٍ من تجليات العلم والارادة.

وهكذا فالتمثيلات الواردة في اغلب مباحث (الكلمات) تبين طرفاً وجزءاً من مثل هذه القوانين في مثال جزئي، فهي اذاً تشير الى وجود ذلك القانون نفسه في المدعي. فمادام التمثيل يبيّن تحقق القانون فهو اذاً يثبت المدعي كالبرهان المنطقي. بمعنى ان معظم التمثيلات الموجودة في (الكلمات) كلٌ منها في حكم برهان يقيني، وحجة قاطعة.

l المبحث الثاني:

لقد ذكر في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة: ان لكل ثمرة ولكل زهرة غايات ٍ وحكماً بقدر ثمرات الشجرة وازاهيرها. وتلك الحكم على ثلاثة أقسام:

قسم منها متوجه الى الصانع الجليل؛ يبين نقوش اسمائه.

وقسم آخر يتوجه الى ذوي الشعور، فالموجودات في نظرهم رسائل قيّمة وكلمات بليغة ذات مغزى.

وقسم آخر يتوجه الى الشئ نفسه، والى حياته والى بقائه، وله حِكمٌ حسب منافع الانسان، ان كان مفيداً للانسان.

فعندما كنت أتأمل وجود هذه الغايات الكثيرة لكل موجود. وردت هذه الفقرات باللغة العربية الى خاطري، دوّنتها على صورة ملاحظات على أسس تلك الاشارات الخمس الآتية:

[وهذه الموجودات الجليلة، مظاهر سيالة، ومرايا جوّالة، لتجدّد تجليات انوار ايجاده سبحانه بتبدّل التعيّنات الاعتبارية

اولاً: مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية.

وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية.

وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية.

ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية.

وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية].

ففي هذه الفقرات الخمس اسس الاشارات الآتية التي سنبحثها:

نعم! ان لكل موجود، ولاسيما من ذوي الحياة، خمس طبقات مختلفة من الحكم والغايات المختلفة.

فكما ان شجرة مثمرة، تثمر أغصانها التي يعلو بعضها على بعض، كذلك كل كائن حي له غايات وحكم مختلفة في خمس طبقات.

ايها الانسان الفاني! ان كنت تريد تحويل حقيقتك التي هي كنواة جزئية الى شجرة باقية مثمرة، وتحصل على الطبقات العشر من الثمرات المشار اليها في خمس اشارات وعشرة انواع من الغايات. اغتنم الايمان الحقيقي والاّ تحرم من جميع تلك الغايات والثمرات فضلاً عن انك تضمر وتفسد داخل تلك النواة الصغيرة.

` الاشارة الاولى:

[اولاً: بتبدل التعينات الاعتبارية مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية].

هذه الفقرة تفيد: ان كل موجود، بعد ذهابه من الوجود، يذهب الى العدم والفناء ظاهراً. ولكن تبقى المعاني التي كان قد أفادها وعبّر عنها وتحفظ، وتبقى كذلك هويته

المثالية وصورته وماهيته، في عالم المثال، وفي الالواح المحفوظة التي هي نماذج عالم المثال، وفي القوى الحافظة (الذاكرة) التي هي نماذج الالواح المحفوظة.

بمعنى أن الموجود يفقد وجوداً ظاهرياً صورياً، ويكسب مئات من الوجود المعنوي والعلمي.

مثلاً: تعطى للحروف المطبعية ترتيباً معيناً ووضعاً خاصاً كي تطبع بها صحيفة معينة، فصورة تلك الصحيفة الواحدة وهويتها تعطى الى صحائف مطبوعة متعددة، وتنشر معاني مافيها الى عقول كثيرة، وبعد ذلك تتبدل اوضاع تلك الحروف وتُغير، لانتفاء الحاجة اليها، وللحاجة الى تنضيد صحائف اخرى بتلك الحروف.

وهكذا، فان قلم القدر الالهي يعطي هذه الموجودات الارضية، ولاسيما النباتية منها، ترتيباً معيناً ووضعاً معيناً، والقدرة الالهية توجدها في صحيفة موسم الربيع، فتعبّر عن معانيها الجميلة. وحيث ان صورها وهوياتها تنقل الى سجل عالم الغيب، كعالم المثال، فان الحكمة تقتضي ان يتبدل ذلك الوضع، كي تكتب صحيفة جديدة للربيع المقبل لتعبّر عن معانيها كذلك.

` الاشارة الثانية:

[وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية].

هذه الفقرة تشير الى ان كل شئ، سواء أكان جزئياً أم كلياً، بعد ذهابه من الوجود (ولاسيما ان كان ذا حياة) ينتج حقائق غيبية كثيرة فضلاً عن انه يدع صوراً بعدد أطوار حياته في الالواح المثالية، التي هي في سجلات عالم المثال، فيُكتب تاريخ حياته ذا المغزى من تلك الصور والذي يسمى بالمقدرات الحياتية، ويكون في الوقت نفسه موضع مطالعة الروحانيات، بعد ذهابه من الوجود.

مثال ذلك: ان زهرة ما تذبل ثم ترحل من الوجود، الاّ انها تترك مئات من البذيرات في الوجود وتدع ماهيتها في تلك البذيرات، فضلاً عن انها تترك ألوفاً من صورها في الواح محفوظة صغيرة، وفي القوى الحافظة التي هي نماذج مصغرة للألواح المحفوظة، فتستقرئ ذوي الشعور التسبيحات الربانية ونقوش الاسماء الحسنى التي أدتها في اطوار حياتها. ومن بعد ذلك ترحل عن الوجود.

وهكذا فان موسم الربيع المزدان بالمصنوعات الجميلة على سطح الأرض الشبيه بمزهرة عظيمة، انما هو زهرة ناضرة تزول في الظاهر، وتذهب الى العدم. بيد انه ـ اي الربيع ـ يترك الحقائق الغيبية التي أفادها بعدد بذوره، ويترك الهويات المثالية التي نشرها بعدد الأزاهير، ويدع الحكم الربانية التي أظهرها بعدد الموجودات.

فيترك الربيع كل انواع الوجود هذه، ثم يغيب عن أنظارنا، زد على ذلك فانه يُفرغ المكان لأقرانه من جموع الربيع التي ستأتي الى الوجود لتؤدي وظائفها.

بمعنى ان ذلك الربيع ينزع عنه وجوداً ظاهرياً ويلبس ألفاً من الوجود معنىً.

` الاشارة الثالثة:

[وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية].

هذه الفقرة تفيد: ان الدنيا مزرعة ومعمل ينتج المحاصيل التي تناسب سوق الآخرة.

اذكما ان اعمال الجن والانس ترسل الى سوق الآخرة، كذلك تؤدي بقية الموجودات في الدنيا أعمالاً كثيرة ايضاً في سبيل الآخرة وتنشئ محاصيل وفيرة لها، بل تجري كرة الارض لاجل تلك الاعمال، بل يصح القول:

ان هذه السفينة الربانية تقطع مسافة أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، لتدور حول ميدان الحشر. كما اثبتنا في كلمات كثيرة.

مثلاً: لاشك ان اهل الجنة يرغبون ان يتذاكروا خواطرهم في الدنيا، ويتحاوروا فيما بينهم حول ذكرياتها، وربما يتلهفون لرؤية ألواح (مشاهد) تلك الذكريات والحوادث ومناظرها، اذ يستمتعون كثيراً بمشاهدة تلك الحوادث وتلك الالواح كمن يستمتع بمشاهدة المناظر على شاشة السينما.

فما دام الامر هكذا فالجنة التي هي دار اللذة ومنزل السعادة توجد فيها لامحالة المناظر السرمدية لمحاورات الاحداث الدنيوية ومنـــاظر احداثها. كما تشــير الى ذلك الآيـة الكريمة: } على سررٍ متقابلين{ (الحجر:47).

وهكذا، فان فناء هذه الموجودات الجميلة، بعد ظهورها في آن واحد، وتعاقب بعضها بعضاً يبيّن كأنما هي آلات معمل لتشكيل المناظر السرمدية.

مثال: ان اهل المدنية يلتقطون صور الاوضاع الغريبة والجميلة ويهدونها الى ابناء المستقبل تذكاراً لهم، كما هو على شاشة السينما. فيمنحون نوعاً من البقاء لأوضاع فانية، ويدرجون الزمان الماضي ويظهرونه في الزمان الحالي وفي المستقبل.

كذلك هذه الموجودات الربيعية والدنيوية عامة، بعد قضاء حياة قصيرة، كما يدوّن صانعُها الحكيم غاياتها التي تخص عالم البقاء في ذلك العالم، كذلك يسجل الوظائف الحياتية والمعجزات السبحانية التي ادّوها في اطوار حياتها، في مناظر سرمدية، وذلك بمقتضى اسماللهالحكيم والرحيم والودود.

` الاشارة الرابعة:

[ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية].

هذه الفقرة تفيد: ان الموجودات تؤدي أنواعاً من التسبيحات الربانية في أطوار حياتها، وتظهر ما تستلزمه الاسماء الإلهية وتقتضيها من حالات.

مثلاً: يقتضي اسم الرحيم الاشفاق، ويقتضي اسم الرزاق اعطاء الرزق، ويستلزم اسم اللطيف التلطيف.. وهكذا. فكل اسم من الاسماء الالهية له مقتضى. وكل ذي حياة يبين مقتضى تلك الاسماء، بحياته ووجوده، وهو في الوقت نفسه يسبّح لله الحكيم بعدد أجهزته.

مثلاً: اذا أكل الانسان فواكه طيبة، فانها تتجزأ وتتلاشى في معدته وتهضم وتمحى ظاهراً، الاّ انها تعطى كل خلية من خلايا جسمه، لذة وذوقاً ضمن فعالية، فضلاً عن الفم والمعدة، ويكون مدار حِكَم كثيرة جداً كإنماء الحياة في اقطار الجسم وادامتها، والطعام نفسه يرقى من الوجود النباتي الى مرتبة حياة الانسان.

كذلك عندما تختفي الموجودات وراء ستار الزوال تظل بدلاً عنها تسبيحات باقية كثيرة جداً لكل موجود من الموجودات وتودع نقوش كثير من الاسماء الإلهية ومقتضياتها في يد تلك الاسماء، اي تودعها الى وجودٍ باق. وهكذا تمضي وترحل. تُرى لو بقيت ألوف من انواع الوجود ـ التي نالت نوعاً من البقاء ـ بديلاً عن ذهاب وجود موقت فانٍ، أيمكن أن يُقال: ياحسرة على ذلك الوجود الموقت! او أنه مضى الى عبث! او لِمَ رحل هذا المخلوق اللطيف؟ ! أفيمكن ان يُشتكى على هذه الصورة؟.

بل ان الرحمة والحكمة والمحبة في حق ذلك المخلوق تقتضي هكذا، بل هو هكذا. والاّ يلزم ترك ألوف المنافع للحيلولة دون حدوث ضرر واحد. وعندئذٍ تحدث ألوف الاضرار!.

بمعنى ان الاسماء الحسنى: الرحيم، الحكيم، الودود تستلزم مضي الموجودات وراء استار الزوال والفراق وتقتضيهما ولاتعارضهما.

` الاشارة الخامسة:

[وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية]

تفيد هذه الفقرة: ان الموجودات ـ ولاسيما الاحياء منها ـ بعد ارتحالها من وجودها الظاهري تترك كثيراً من الامور الباقية ثم تمضي الى شأنها.

وقد بينا في الرمز الثاني:

ان في شؤون الربوبية محبة مطلقة وشفقة مطلقة وافتخاراً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ورضى مقدساً مطلقاً وسروراً مقدساً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ولذة مقدسة مطلقة وفرحاً منزهاً مطلقاً بما يليق بذاته الجليلة المقدسة ويوافق تعاليه وتنزهه وتقدسه سبحانه، اذ تُشاهد آثار تلك الشؤون المنزهة، لان ما تقتضيه تلك الشؤون هوسوق الموجودات بسرعة في فعالية محيّرة، ضمن تبديل وتغيير وزوال وفناء، فترسل ـ الموجودات ـ باستمرار من عالم الشهادة الى عالم الغيب. فالمخلوقات ضمن تجليات تلك الشؤون الربانية في سير وسياحة دائمين، في حركة وجولان مستمرين. فهي بهذه السياحة والحركة الدائمتين تملأ آذان اهل الغفلة بنعيات الفراق والزوال، وتشنف اسماع اهل الايمان بنغمات الذكر والتسبيح.

وبناءً على هذا السرّ، فما من موجود يرحل عن الوجود الاّ ويترك في الوجود من المعاني والكيفيات والحالات ما يكون مداراً باقياً لظهور شؤون باقية لواجب الوجود سبحانه.

ثم ان ما قضاه ذلك الموجود من اطوار واحوال، يتركه عندما يرحل وجوداً مفصلاً ـ يمثل وجوده الخارجي ـ في دوائر الوجود العلمي من امثال الإمام المبين والكتاب المبين واللوح المحفوظ، تلك الدوائر التي هي عناوين العلم الازلي.

فكل فانٍ اذاً يترك وجوداً ويكسب لنفسه ولغيره ألوفاً من انواع الوجود.

مثلاً: تلقى مواد اعتيادية الى ماكنة مصنع عظيم، فتحترق تلك المواد وتمحى ظاهراً، ولكن تترسب مواد كيمياوية ثمينة وادوية مهمة في انابيق ذلك المصنع، فضلاً عن قيام قوة بخارها بتحريك دواليب ذلك المعمل مما يؤدي الى نسج الاقمشة من جهة وطبع الكتب من جهة اخرى وانتاج السكر من جهة اخرى مثلاً.

بمعنى؛ ان في احتراق تلك المواد الاعتيادية وفنائها الظاهري تجدألوف الاشياء الوجود.

بمعنى؛ يذهب وجود اعتيادي ويفنى، ولكن يورث انواعاً من وجود رفيع.

فهل يقال في مثل هذه الحالة: ياخسارة على تلك المواد الاعتيادية؟ أفيُشكى هكذا؟ أيُقال: لِمَ لم يرأف صاحب المصنع بحال تلك المواد وحرقها ومحاها؟

(ولله المثل الاعلى) ان الخالق الحكيم والرحيم والودود، يُشغل مصنع الكائنات جاعلاً من كل وجود فانٍ نواة لانواع من الوجود الباقي، ومداراً لاظهار مقاصده الربانية مظهراً به شؤونه السبحانية متخذاً اياه مداداً لقلم قدره، ومكوكاً لنسج قدرته، وذلك بمقتضى الرحمة والحكمة والودودية. فيدفع سبحانه بفعالية قدرته الكائنات لتؤدي مهامها وفعالياتها لاجل كثير مما لانعرفه من عنايات غالية ومقاصد عالية. فتسوق تلك الفعالية الموجودات كلها حتى تجعل الذرات تجول جولاناً، والموجودات تسير سيراناً، والحيوانات تسيل سيلاناً، والسيارات تدور دوراناً. فتجعل الكون يتكلم وينطق ويتلو آيات خالقه بصمت ويستكتبها.

ومن حيث الربوبية قد جعل سبحانه المخلوقات الارضية عروشاً له؛ اذ جعل الهواء نوعاً من عرش لأمره وارادته، وعنصر النور عرشاً آخر لعلمه وحكمته، والماء عرشاً آخر لاحسانه ورحمته، والتراب نوعاً من عرش لحفظه وإحيائه. ويسيّر ثلاثة من تلك العروش فوق المخلوقات الارضية.

فاعلم علماً قاطعاً! ان الحقيقة السامية التي بينت في هذه الرموز الخمسة والاشارات الخمس انما تشاهد بنور القرآن ولاتمتلك الاّ بقوة الايمان، والاّ ستعم ظلمات مرعبة بدلاً من تلك الحقيقة الباقية، وتمتلىء الدنيا لاهل الضلالة بألوان الفراق واصناف الزوال وتطفح بانواع العدم ويصبح الكون بالنسبة له جحيماً معنوياً لايطاق، اذ يحيط بوجود آني بالنسبة له ما لايحدمن العدم كلَّ شئ ، فالماضي والمستقبل جميعاً مملوءان بظلمات العدم. فلايجد الضال الاّ نوراً كئيباً حزيناً في حاله الحاضرة وهي زمان قصير جداً.

ولكن ما ان يأتي سر القرآن ونور الايمان اذا بنور وجود يشاهد من الأزل الى الابد فيتعلق به ويحقق به سعادته الابدية.



خلاصة الكلام:

نقول كما قال (نيازي المصري)(1):

(( لو كان النفَس بحراً زاخراً

وتقطع هذا الصدر إرباً إرباً

اناجي الى ان يبح هذا الصوت))

واقول:

ياحق ياموجود ياحي يامعبود

ياحكيم يامقصود يارحيم ياودود

واقول صارخاً:

لاإله الاّ الله الملك الحق المبين محمد رسول الله صادق الوعد الامين.

واعتقد جازماً واثبت:

ان البعث بعد الموت حقٌ والجنة حَقٌ والنار حَقٌ.. وان السعادة الأبدية حقٌ وان الله رحيم حكيم ودود. وان الرحمة والحكمة والمحبة محيطة بجميع الاشياء وشؤونها.

} وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جاءت رُسُلُ ربنا بالحق{ .

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمِ{

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا{

اللهم صَلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقّه اداءً وعلى آله وصحبه وسلم.



آمين.والحمد لله رب العالمين

سبحان من جعل حديقة ارضه مشهر صنعته.. مَحشر خلقتِهِ.. مظهر قدرتهِ.. مدار حكمته.. مَزهرَ رحمته.. مزرع جنتهِ.. ممرّ المخلوقات.. مسيل الموجودات.. مكيل المصنوعات.

فمزيّنُ الحيوانات، منقّشُ الطيورات..مُثمّرُ الشجرات، مُزَهّرُ النباتات..

معجزاتُ علمه.. خوارقُ صُنعه.. هدايا جُوده.. براهين لطفه..

دلائلُ الوحدة.. لطائف الحكمة.. شواهد الرحمة.

تبسُّم الازهار، من زينة الاثمار،

تسجّعُ الاطيار، في نسمة الاسحار،

تهزّجُ الامطار، على خدود الازهار ،

تزيّنُ الازهار، تبرّجُ الاثمار.. في هذه الجِنان،

ترحّمُ الوالدات على الاطفال الصغار في كل الحيوانات والانسان:

تعرُّفُ ودودٍ

توَدُّدُ رحمن

ترحُّمُ حنّانٍ

تحنــَّنِ مـَنـّانٍ.. للجنِ والانسان، والروح والحيوان والملَكِ والجَان.

الذيل الأول

} قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبّي لوْلا دُعَآؤُكْم{ (الفرفان: 77)

` النكتة الاولى:

اعلم ان الدعاء سر عظيم للعبادة، بل هو مخ العبادة وروحها، والدعاء ـ مثلما ذكرناه في مواضع اخرى كثيرة ـ على انواع ثلاثة.

l النوع الاول من الدعاء:

هو دعاء بلسان الاستعداد والقابلية المودعة في الشئ. فالحبوب والنويات جميعها تسأل فاطرها الحكيم بلسان استعدادها وقابلياتها المودعة فيها قائلة: اللّهم يا خالقنا هئ لنا نمواً نتمكن به من ابراز بدائع اسمائك الحسنى، فنعرضها امام الانظار.. فحوّل اللّهم حقيقتنا الصغيرة الى حقيقة عظيمة.. تلك هي حقيقة الشجرة والسنبل.

وثمة دعاء من هذا النوع ـ اي بلسان الاستعداد ـ هو اجتماع الاسباب. فاجتماع الاسباب دعاء لايجاد المسبب، اي ان الاسباب تتخذ وضعاً معيناً وحالة خاصة بحيث تكون كلسان حال يطلب المسبب من القدير ذي الجلال، فالبذور ــ مثلا ــ تسأل بارءها القدير ان تكون شجرة، وذلك بلسان استعدادها فيتخذ كلٌ من الماء والحرارة والتراب والضوء حالة معينة حول البذرة حتى تكون تلك الحالة كأنها لسان ينطق بالدعاء قائلاً : اللّهم يا خالقنا اجعل هذه البذرة شجرة.

نعم، ان الشجرة التي هي معجزة قدرة الهية خارقة لا يمكن بحال من الاحوال ان يُفوض امرها ويسند خلقها الى تلك المواد البسيطة الجامدة الفاقدة للشعور، بل محال احالتها الى تلك الاسباب.. فاجتماع الاسباب اذاً انما هو نوع من الدعاء.

l النوع الثاني من الدعاء:

هو الدعاء الذي يُسأل بلسان حاجة الفطرة، فالكائنات الحية جميعها تطلب مطاليبها وتسأل حاجاتها ـ الخارجة عن طوقها واختيارها ـ من خالقها الرحيم وتُستجاب لها مطاليبها وحاجاتها في انسب وقت ومن حيث لا تحتسب، اذ ان ايديها قاصرة عن ان تصل الى ما تريد أو دفع حاجة لها، فارسال كل ما تطلبه اذن مما هو خارج عن طوقها واختيارها وفي انسب وقت ومن حيث لا تحتسب انما هو من قبل حكيم رحيم. واغداق هذا الاحسان والانعام ما هو الا استجابة لدعاء فطري.

نحصل من هذا: ان هذا النوع من الدعاء الفطري تنطلق به ألسنة حاجة الفطرة لجميع الكائنات فتسأل الخالق القدير مطاليبها، والتي هي من قبيل الاسباب تسأل القدير العليم المسببات.

l النوع الثالث من الدعاء:

هو الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم. وهذا الدعاء نوعان ايضاً:

فالقسم الاول: مستجاب على الاغلب ان كان قد بلغ درجة الاضطرار، أو كان ذا علاقة قوية مع حاجة الفطرة وموافقة معها، أو كان قريباً من لسان الاستعداد والقابلية، أو كان خالصاً صافياً نابعاً من صميم القلب.

ان ما احرزه الانسان من رقي، وما نال من كشوفات ما هو الا نتيجة هذا النوع من الدعاء، اذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والامور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم ما هو الا ثمرة هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشرية بلسان استعداد خالص فأستجيب لها. فما من دعاء يُسأل بلسان الاستعداد وبلسان حاجة الفطرة الا استجيب ان لم يكن هناك مانع، وكان ضمن شرائطه المعينة.

أما القسم الثاني: فهو الدعاء المعروف لدينا. وهذا ايضاً فرعان:

احدهما فعلي والآخر قولي.

فمثلاً: حرث الارض نوع من دعاء فعلي، يطلب الانسان الرزق من رزاقه الحكيم، يطلبه منه لا من التراب، فالتراب باب لخزينة رحمته الواسعة ليس الا، يطرقه الانسان بالمحراث.

سنطوى تفاصيل الاقسام الاخرى ونذكر بضعة اسرار للدعاء "القولي" وذلك في بضع نكات آتية:

` النكتة الثانية

اعلم ان تأثير الدعاء عظيم، ولا سيما اذا دام واكتسب الكلية، فهذا الدعاء يثمر على الاغلب ويستجاب دائماً. حتى يصح ان يقال: ان سبب خلق العالم انما هو دعاء، حيث ان الدعاء العظيم للرسول الاعظم e وهو يتقدم العالم الاسلامي الذي يدعو الدعاء نفسه، وهم يتقدمون البشرية جمعاء التي تسأل الدعاء نفسه.. ذلك الدعاء هو: السعادة الابدية، وهو سبب من اسباب خلق العالم. اي أن رب العالمين قد علم بعلمه الازلي ان ذلك الرسول الكريم e سيسأله السعادة الابدية والحظوة بتجل من تجليات اسمائه الحسنى، سيسأله باسم البشرية قاطبة بل باسم الموجودات.. فاستجاب سبحانه وتعالى لذلك الدعاء العظيم فخلق هذا العالم.

فما دام الدعاء قد اكتسب هذه الاهمية العظيمة والسعة الشاملة فهل يمكن ألا يستجاب؟ وهل يمكن لدعاء يلهج به مئات الملايين من البشر ـ في الاقل ـ ومنذ الف وثلاث مائة سنة، يدعونه متفقين، في كل حين، بل يدعو معهم كل الطيبين من الجن والملك والروحانيات ممن لا يحصون ولا يعدون.. هل يمكن الا يستجاب هذا الدعاء الذي يدعونه للرسول الكريم e لينال الرحمة الإلهية العظيمة والسعادة الخالدة.

فما دام قد اكتسب هذا الدعاءُ الكليةَ والسعة والدوام الى هذا الحد حتى بلغ درجة لسان الاستعداد وحاجة الفطرة، فلابد ان ذلك الرسول الكريم محمد بن عبد الله e قد اعتلى نتيجة الدعاء ــ مرتبة رفيعة عالية بحيث لو اجتمعت العقول جميعاً للاحاطة بحقيقة تلك المرتبة لعجزت عجزاً تاماً.

فبشراك ايها المسلم! ان لك شفيعاً كريماً في يوم الحشر الاعظم، هو هذا الرسول الحبيب e ... فاسع لنيل شفاعته باتباع سنته المطهرة.

فان قلت: ما حاجة الرسول الكريم e وهو حبيب رب العالمين الى هذه الكثرة من الدعاء والصلوات عليه؟

الجواب: انه e ذو علاقة قوية مع سعادة امته قاطبة، فله حصته مما يناله كل فرد من افراد امته من انواع السعادة، وهو يحزن ايضاً ويتألم لكل مصيبة تصيبهم.

فعلى الرغم من ان مراتب الكمال والسعادة بحقه لا حد لها، فان الذي يرغب رغبة شديدة في ان تنال افراد امته الذين لا يحدون انواعاً لا تحد من السعادة وفي أزمان لا تحد، ويتألم بأنواع لا حد لها من شقائهم ومصائبهم، لابد أنه محتاج وحري به صلوات لا حد لها وأدعية لا حد لها ورحمة لا حد لها.

فان قلت: يُدعى أحياناً بدعاء خالص لأمورتقع قطعاً كالدعاء في صلاة الكسوف والخسوف، وقد يدعى احياناً لامور لا يمكن وقوعها..

الجواب: لقد اوضحنا في كلمات اخرى: ان الدعاء نوع من العبادة، حيث يعلن الانسان عجزه وفقره بالدعاء. أما المقاصد الظاهرية فهي اوقات تلك الادعية والعبادة الدعائية، وهي ليست نتائج الادعية وفوائدها الحقيقية، لان فائدة العبادة وثمرتها متوجهة الى الآخرة، اي يجنيها الداعي في الآخرة، لذا لو لم تحصل المقاصد الدنيوية التي يتضمنها الدعاء فلا يجوز القول: ان الدعاء لم يستجب، وانما يصح القول: انه لم ينقض بعد وقت الدعاء.

فهل يمكن يا ترى ألاّ يستجاب دعاء للسعادة الخالدة، يسألها جميع اهل الايمان في جميع الازمنة، يسألونه بالحاح وخلوص نية وباستمرار. فهل يمكن الا يقبل الرحيم المطلق والكريم المطلق ــ التي تشهد الكائنات لسعة رحمته وشمول كرمه ــ هذا الدعاء، وهل يمكن الا تتحقق تلك السعادة الابدية!؟ كلا ثم كلا..

` النكتة الثالثة:

ان استجابة ((الدعاء القولي الاختياري)) تكون بجهتين: فاما أن يستجاب الدعاء بعينه أو بما هو افضل منه وأولى.

فمثلاً: يدعو احدهم ان يرزقه الله مولوداً ذكراً، فيرزقه الله تعالى مولودة كمريم عليها السلام، فلا يقال عندئذ: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو افضل من دعائه.

ثم ان الانسان قد يدعو لنيل سعادة دنيوية، فيستجيب الله له لسعادة اخروية فلا يقال: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو انفع له... وهكذا.

فنحن اذن ندعوه سبحانه ونسأل منه وحده، وهو يستجيب لنا، الا أنه يتعامل معنا على وفق حكمته لانه حكيم عليم.. فينبغي للمريض الاّ يتهم حكمة الطبيب الذي يعالجه، اذ ربما يطلب منه ان يداويه بالعسل، فلا يعطيه الطبيب ــ لعلمه انه مصاب بالحمى ـ الا دواء مراً علقماً!. فلا يحق للمريض ان يقول: ان الطبيب لا يستجيب لدعائي، بل قد استمع لاناته وصراخه، واجابه فعلاً، وبأفضل منه.

` النكتة الرابعة:

ان اطيب ثمرة حاضرة يجنيها المرء من الدعاء وألذّها، وان اجمل نتيجة آنية يحصل عليها المرء من الدعاء وألطفها هي الآتي:

ان الداعي يعلم يقيناً ان هناك من يسمعه، ويترحم عليه ويسعفه بدوائه، وقدرته تصل الى كل شئ. وعندها يستشعر في نفسه انه ليس وحيداً فريداً في هذه الدنيا الواسعة بل هناك كريم ينظر اليه بنظر الكرم والرحمة، فيدخل الانس الى قلب الداعي، ويتصور انه في كنف الرحيم المقتدر على قضاء حاجاته غير المحدودة ودفع اعدائه غير المعدودة. وفي حضور دائم امامه، فيغمره الفرح والانشراح، ويشعر انه قد القى عن كاهله عبئاً ثقيلاً، فيحمد الله قائلاً: الحمد لله رب العالمين.

` النكتة الخامسة:

ان الدعاء روح العبادة ومخها، وهو نتيجة ايمان خالص، لأن الداعي يُظهر بدعائه أن الذي يهيمن على العالم كله ويطّلع على أخفى أموري ويحيط بكل شئ علماً هو القادر على اغاثتي واسعاف أبعد مقاصدي وهو البصير بجميع احوالي والسميع لندائي، لذا فلا اطلب الا منه وحده فهو يسمع اصوات الموجودات كلها، ولابد انه يسمع صوتي وندائي ايضاً.. وهو الذي يدير الامور كلها فلا انتظر تدبير ادق اموري الا منه وحده.

وهكذا فيا ايها المسلم! تأمل في سعة التوحيد الخالص الذي يهبه الدعاء للمرء، وانظر مدى ما يظهره الدعاء من حلاوة خالصة لنور الايمان وصفائه، وافهم منه حكمة قوله تعالى: } قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم{ (الفرقان: 77) واستمع الى قوله تعالى } وقال ربكم ادعوني استجب لكم{ (غافر:60).. وانه لحق ما قيل: (اَكر نه خواهي داد نه دادى خواه) اي لو لم يرد القضاء ما ألهم الدعاء.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{

اللهم صلّ على سيدنا محمد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله وعلى آله وصحبه وسلم. سلّمنا وسلّم ديننا آمين والحمد لله رب العالمين

الذيل الثاني

(( يخص المعراج النبوي))

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ولقد رآه نزلةً أخرى ^ عند سدرة المنتهى ^ عندها جنة المأوى ^
اذ يغشى السدرة ما يغشى ^ ما زاغ البصر وما طغى ^ لقد رأى من آيات ربّه الكبرى{ (النجم:13ـ 18).

سنبين خمس نكات تدور حول قسم المعراج من قصيدة المولد النبوي.

النكتة الاولى: ان السيد سليمان أفندي(1) الذي كتب قصيدة حول المولد النبوي الشريف، يبين فيها أحداث عشق حزين حول البراق الذي جئ به من الجنة. ولأنه من الأولياء الصالحين ويستند في قصيدته الى روايات في السيرة، لاشك انه يعبّر بتلك الصورة عن حقيقة معينة. والحقيقة هي الآتية:

ان لمخلوقات عالم البقاء علاقة قوية بنور رسول الله e ، اذ بالنور الذي أتى به ستعمّر الجنة ودار الآخرة بالجن والانس، ولولاه لما كانت تلك السعادة الابدية، ولما عمرت الجن والانس الجنة، ولاتنعّموا بجميع انواع مخلوقات الجنة، اي لولاه لبقيت الجنة خاوية وخالية من سكنتها.

ولقد ذكرنا في الغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين:

لقد انتخب من كل نوع من الانواع بلبلاً، خطيباً، يعبّر عن طائفته، وفي مقدمة اولئك الخطباء، البلبل العاشق للورد، الذي يعلن عن حاجات طائفة الحيوانات البالغة حدّ العشق، ازاء قافلة النباتات الآتية من خزينة الرحمة الإلهية والحاملة لأرزاق الحيوانات.. تعلنها هذه البلابل بنغماتها الرقيقة على رؤوس اجمل النباتات تعبيراً عن حسن الاستقبال المفعم بالتسبيح والتهليل.

فالرسول الكريم محمد الامين e الذي هو سبب خلق الافلاك، ووسيلة سعادة الدارين، وحبيب رب العالمين، فكما كان سيدنا جبريل عليه السلام ممثلاً عن نوع الملائكة، في طاعته وخدمته بكمال المحبة مبيناً سر سجود الملائكة وانقيادهم لسيدنا آدم عليه السلام.. فأهل الجنة كذلك، بل حتى حيواناتها لها علاقات بذلك الرسول الكريم e . وقد عبّر السيد سليمان افندي عن هذه الحقيقة بمشاعر الحب والعشق التي اطلقها البراق الذي ركبه الرسول e .

النكتة الثانية: ان أحد أحداث قصيدة المعراج النبوي هو ان السيد سليمان قد عبّر عن المحبة النزيهة لله سبحانه وتعالى تجاه الرسول الكريم e بجملة: ((قد عشقتك)).

فهذه التعابير بمعانيها العرفية لاتليق بقدسيته وتعاليه سبحانه، ولكن لأن السيد سليمان افندي من اهل الولاية واهل الحقيقة، حيث ان قصيدته هذه لقيت القبول والرضى لدى عامة المسلمين، فلاشك ان المعنى الذي أظهره صحيح، وهو هذا:

ان لله سبحانه وتعالى جمالاً وكمالاً مطلقين، وان جميع انواع الجمال والكمال المنقسمة على الكائنات جميعها، هي امارات على جماله وكماله واشارات اليهما وعلامات عليهما.

وحيث ان كل صاحب جمال وكمال، يحب جماله وكماله بالبداهة، فالله سبحانه وتعالى يحب جماله بحبٍ يليق بذاته الجليلة. وانه يحب ايضاً أسماءه التي هي شعاعات جماله جلّ وعلا.

واذ انه يحب أسماءه، فانه يحب إذن صنعته التي تظهر جمال أسمائه.

ويحب اذن مصنوعاته التي هي مرايا لجماله وكماله.

واذ إنه يحب ما يبيّن جماله وكماله، فانه يحب محاسن مخلوقاته التي تشير الى جمال اسمائه وكمالها.

ويشير القرآن الحكيم في آياتها الى هذه الانواع الخمسة من المحبة.

وهكذا فالرسول الكريم e الذي هو اكمل فرد في مصنوعات الله، وابرز شخصية في مخلوقاته.. وهو الذي يقدّر ويعلن عن الصنعة الإلهية بذكرٍ جذاب وتسبيح وتهليل.. وهو الذي فتح بلسان القرآن خزائن جمال الاسماء الحسنى وكمالها.. وهو الذي يبيّن بياناً ساطعاً ـ بلسان القرآن ـ الآيات الكونية الدالة على كمال صانعها.. وهو الذي أدّى وظيفة المرآة للربوبية الإلهية بعبوديته الكلية، حتى حظي بأتم تجليات الاسماء الحسنى كلها، بجامعية ماهيته.

فلاجل ما سبق يصح ان يقال:

ان الجميل ذا الجلال لمحبته جماله يحب محمداً e الذي هو اكمل مرآة ذات شعور لذلك الجمال.

وانه سبحانه لمحبته اسماءه يحب محمداً e الذي هو أجلى مرآة تعكس تلك الاسماء الحسنى. ويحب من يتشبهون بمحمد e ايضاً، كل حسب درجته.

وانه سبحانه لمحبته صنعته يحب محمداً e الذي أعلن عن تلك الصنعة في ارجاء الكون برمته حتى جعله في نشوة وشوق يرن به سمع السماوات ويثير به البر والبحر شوقاً اليه.. ويحب ايضاً من يتبعونه.

وانه سبحانه لمحبته مصنوعاته يحب محمداً e ، اذ هو افضل الناس طراً الذين هم اكمل ذوي الشعور، الذين هم اكمل ذوي الحياة، الذين هم اكمل مصنوعاته سبحانه.

وانه سبحانه لحبه اخلاق مخلوقاته يحب محمداً e ، اذ هو في ذروة الاخلاق الحميدة، كما اتفق عليها الاولياء والاعداء، ويحب كذلك من يتشبهون به في الاخلاق، كل حسب درجته.

بمعنى ان محبة الله قد احاطت بالكون كما احاطت به رحمته، ولهذا فان أعلى مقام في الوجوه الخمسة المذكورة ضمن المحبوبين الذين لاحصر لهم هو مقام خصّ بمحمد e ، ولأجله منح اسم ((حبيب الله)).

ولقد عبّر سليمان افندي عن هذا المقام الرفيع، مقام المحبوبية، بقوله: ((قد عشقتك)) علماً ان هذا التعبير، مرصاد للتفكر ليس الاّ، واشارة الى هذه الحقيقة من بعيد. ومع ذلك فان هذا التعبير لكونه يوهم للخيال معنى لايليق بشأن الربوبية الجليلة، فمن الاولى القول: ((قد رضيت عنك)).

النكتة الثالثة: ان المحاورات الجارية في قصيدة المعراج عاجزة عن التعبير عن تلك الحقائق المقدسة بالمعاني المعروفة لدينا، بل ان تلك المحاورات عناوين تأمل وملاحظة، ومراصد تفكر ليس الاّ، واشارات الى الحقائق السامية العميقة، وتنبيهات الى قسم من حقائق الايمان وكنايات عن بعض المعاني التي لايمكن التعبير عنها.

والاّ، فليست تلك محاورات واحداث كالمحاورات الجارية في القصص كي تكون بالمعاني المعروفة لدينا. اذ نحن لانستطيع ان نستلهم بخيالنا تلك الحقائق، من تلك المحاورات، بل يمكننا ان نستلهم منها بقلوبنا ذوقاً ايمانياً مثيراً، ونشوة روحانية نورانية، لأن الله سبحانه كما لانظير ولاشبيه ولامثيل له في ذاته وصفاته كذلك لامثيل له في شؤون ربوبيته، وكما لاتشبه صفاته تعالى صفات مخلوقاته، كذلك لاتشبه محبته محبة مخلوقاته.

فهذه التعابير الواردة في قصيدة المعراج تعدّ من التعابير المتشابهة. ولهذا نقول:

ان للّه سبحانه شؤوناً ـ كمحبته تعالى ـ تلائم وجوب وجوده وقدسيته، وتناسب غناه الذاتي وكماله المطلق. اي ان القصيدة المذكورة تنبه الى تلك الشؤون بأحداث المعراج.

ولقد اوضحت (( الكلمة الحادية والثلاثون)) الخاصة بالمعراج النبوي، حقائق المعراج ضمن اصول الايمان. لذا نختصر هنا مكتفين بذاك.

النكتة الرابعة:

سؤال: ان عبارة: (( انه e قد رأى ربه وراء سبعين ألف حجاب))(1) تعبّر عن بُعد المكان، والحال ان الله سبحانه منزّه عن المكان، فهو أقرب الى كل شئ من اي شئ كان. فما المراد اذاً من هذه العبارة؟!.

الجواب: لقد وُضّحت تلك الحقيقة في ((الكلمة الحادية والثلاثين)) وبُيّنت بياناً شافياً مفصلاً مدعماً بالبراهين، الاّ اننا نقول هنا:

انا الله سبحانه قريب الينا غاية القرب، ونحن بعيدون عنه غاية البعد.

مثال: ان الشمس قريبة منا بوساطة المرآة التي في ايدينا. بل كل ما هو شفاف يكون نوعاً من عرشٍ للشمس ومنزل لها. فلو ان للشمس شعوراً، لكانت تحاورنا بما في ايدينا من المرآة. ولكننا بعيدون عنها اربعة آلاف سنة.

وهكذا فشمس الازل (بلا تشبيه ولاتمثيل) (ولله المثل الاعلى) اقرب الى كل شئ من اي شئ كان، لانه واجب الوجود، ومنزّه عن المكان، ولايحجبه شئ، بينما كل شئ بعيد عنه بعداً مطلقاً.

ومن هذا تفهم: سر المسافة الطويلة جداً في المعراج مع عدم وجود المسافة التي تعبر عنها الآية الكريمة: } ونحن أقرب اليه من حبل الوريد{ (ق:16).

وكذا ينبع من هذا السر: ذهاب الرسولe وطيّه المسافات الطويلة جداً ومجيئه في آن واحد الى موضعه.

فمعراج الرسول ص هو؛ سيره وسلوكه، وهو عنوان ولايته، اذ كما يعرج الاولياء الى درجة حق اليقين من درجات الايمان رقياً معنوياً بالسير والسلوك الروحاني بدءاً من اربعين يوماً الى اربعين سنة، كذلك الرسول e وهو سلطان جميع الاولياء وسيدهم عرج بجسمه وحواسه ولطائفه جميعاً لابقلبه وروحه وحدهما فاتحاً صراطاً سوياً وجادة كبرى حتى بلغ أعلى مراتب حقائق الايمان واسماها بالمعراج الذي هو كرامة ولايته الكبرى في اربعين دقيقة بدلاً من اربعين سنة، ورقي الى العرش بسلّم المعراج وشاهد ببصره بعين اليقين ـ في مقام قاب قوسين او ادنى ـ اعظم حقائق الايمان، وهو الايمان بالله، والايمان باليوم الآخر، ودخل الجنة وشاهد السعادة الابدية وفتح باب الجادة الكبرى وتركه مفتوحاً ليمضي جميع اولياء امته بالسير والسلوك الروحاني اي بسير روحاني وقلبي في ظل ذلك المعراج كل حسب درجته.



النكتة الخامسة:

ان قراءة المولد النبوي وقصيدة المعراج عادة اسلامية مستحسنة، ونافعة جداً، بل هي مدار مجالسة ومؤانسة لطيفة في الحياة الاجتماعية الاسلامية. وهي درس في غاية اللذة والطيب للتذكير بالحقائق الايمانية. وهي اقوى وسيلة مؤثرة ومهيجة؛ لإظهار أنوار الايمان، وتحريك محبة الله، وعشق الرسول e .

نسأل الله ان يديم هذه العادة الى الابد، ويرحم كاتبها السيد سليمان افندي وامثاله من الكتّاب، ويجعل جنة الفردوس مثواهم.. آمين.

خاتمة

لما كان خالق هذا الكون، يخلق من كل نوع فرداً ممتازاً كاملاً جامعاً، ويجعله مناط فخر وكمال ذلك النوع، فلاشك انه يخلق فرداً ممتازاً وكاملاً ـ بالنسبة للكائنات قاطبة ـ وذلك بتجلي الاسم الاعظم من اسمائه الحسنى. وسيكون في مصنوعاته فرداً أكمل كالاسم الاعظم في اسمائه. فيجمع كمالاته المنتشرة في الكائنات في ذلك الفرد الاكمل، ويجعله محط نظره.

ولاريب ان ذلك الفرد سيكون من ذوي الحياة، لان أكمل انواع الكائنات هم ذوو الحياة، ويكون من ذوي الشعور، لان أكمل انواع ذوي الحياة هم ذوو الشعور، وسيكون ذلك الفرد الفريد من الانسان، لان الانسان هو المؤهل لما لا يحد من الرقي. وسيكون ذلك الفرد حتماً محمداً الامين e ، لأنه لم يظهر أحد في التأريخ كله مثله منذ زمن آدم عليه السلام والى الآن، ولن يظهر. لان ذلك النبي الكريم e قد ضم نصف الكرة الارضية وخمس البشرية ضمن سلطانه المعنوي وحاكميته التي دامت ألفاً وثلاثمائة وخمسين عاماً بكمال هيبتها وعظمتها. واصبح استاذاً لجميع اهل الكمال في جميع انواع الحقائق، ونال أرقى المراتب في السجايا الحميدة باتفاق الاصدقاء والاعداء، وتحدى العالم اجمع وحده ـ في اول أمره ـ وأظهر القرآن الكريم الذي يتلوه اكثر من مائة مليون من الناس في كل دقيقة..

فلابد ان نبياً كريماً كهذا النبي e هو ذلك الفرد الفريد لا احد غيره ابداً. فهو نواة هذا العالم وثمرته. عليه وعلى آله واصحابه الصلاة والسلام بعدد انواع الكائنات وموجوداتها.

واعلم ان الاستماع الى المولود النبوي ومعراجه e اي الاستماع الى مبدأ رقيه ومنتهاه. اي معرفة تأريخ حياته المعنوية.. لذيذ، ونوراني، ومبعث فخر لأمته واعتزاز لهم، ومسامرة علوية رفيعة للمؤمنين الذين اتخذوه رئيساً وسيداً وإماماً وشفيعاً لهم.

يارب

بحرمة الحبيب الاكرم عليه الصلاة والسلام، وبحق الاسم الاعظم..

اجعل قلوب ناشري هذه الرسالة ورفقائهم مظهراً لأنوار الايمان.

واجعل أقلامهم ناشرةً لأسرار القرآن واهدهم الى سواء السبيل.

آمين

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

المكتوب الخامس والعشرون

لم يؤلف

عبدالرزاق 02-03-2011 11:33 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب السادس والعشرون



هذا المكتوب السادس والعشرون عبارة عن اربعة مباحث ذات العلاقة البسيطة.



المبحث الاول

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْمِ اِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وإما يَنْزَغنّك من الشيطانِ نَزغٌ فاستَعِذ بالله إنه هو السميعُ العليمُ{

(فصلت:36)

حجة القرآن على الشيطان وحزبه

ان هذا المبحث الاول الذي يُلزم ابليس ويفحم الشيطان ويسكت اهل الطغيان، نتيجة حادثة وقعت فعلاً، ردّاً على دسيسة شيطانية رهيبة، ساقها ضمن محاكمة عقلية حيادية. وقد كتبت تلك الحادثة قبل عشر سنوات كتابة مجملة في كتاب ((اللوامع)) واذكرها الآن:

قبل تأليف هذه الرسالة باحدى عشرة سنة كنت انصت يوماً الى القرآن الكريم من حفاظ كرام في جامع بايزيد باستانبول، وذلك في ايام شهر رمضان المبارك، واذا بي أسمع كأن صوتاً معنوياً، صرف ذهني اليه، دون ان ارى شخصه بالذات، فأعرتُ له السمع خيالاً، ووجدته يقول:

- انك ترى القرآن سامياً جداً ولامعاً جداً، فهلاّ نظرت اليه نظرة حيادية، ووازنته بميزان محاكمة عقلية حيادية. اعنى: افرض القرآن قول بشر، ثم انظر اليه بعد هذا الفرض هل تجد فيه تلك المزايا والمحاسن؟!

اغتررت به - في الحقيقة - فافترضت القرآن قول بشر، ونظرت اليه من تلك الزاوية، واذا بي ارى نفسي في ظلام دامس. فقد انطفأت اضواء القرآن الساطعة، وعمّ الظلام الارجاء كما يعم الجامع كله اذا مس احدهم مفتاح الكهرباء.

فعلمت عندها ان المتكلم معي هو شيطان يريد ان يوقعني في هاوية. فاستعصمت بالقرآن الكريم نفسه، واذا بنور يقذفه ا سبحانه في قلبي، أجد نفسي به، قوياً قادراً على الدفاع. وحينها بدأت المناظرة مع الشيطان على النحو الآتي:

قلت: ايها الشيطان! ان المحاكمة الحيادية، دون انحياز الى احد الطرفين، هي التزام موضع وسط بينهما، بيد أن المحاكمة الحيادية التي تدعو اليها - انت وتلاميذك من الانس - انما هي اِلتزام الطرف المخالف. فهي ليست حيادية، بل خروج عن الدين مؤقتاً، ذلك لأن النظر الى القرآن انه كلام بشر واجراء محاكمة عقلية في ضوء هذا الفرض ما هو إلاّ اتخاذ الطرف المخالف اساساً، والتزام للباطل اصلاً. وليس أمراً حيادياً، بل هو انحياز للباطل وموالاة له.

فقال الشيطان: افرضه كلاماً وسطاً، لا تقل انه كلام ا، ولا كلام بشر.

قلت:

- وهذا ايضاً لا يمكن ان يكون قطعاً. لأنه اذا وجد مالٌ منازع فيه، وكان المدعيان متقاربين اي قريبين بعضهما من بعض مكاناً، حينئذٍ يوضع ذلك المال لدى شخص غيرهما. او في مكان تناله ايديهما. فايّما الطرفين اقام الحجة على الآخر، واثبت دعواه، أخذ المال. ولكن لو كان المدعيان متباعدين، احدهما عن الآخر، غاية البعد، كأن يكون احدهما في المشرق والآخر في المغرب، عندئذٍ يترك المال لدى "ذي اليد" منهما، حسب القاعدة المعروفة. ذلك لأنه لا يمكن ترك المال في موضع وسط بينهما.

وهكذا فالقرآن الكريم، متاع ثمين وبضاعة سامية ومال رفيع لله والبعد بين الطرفين، بعدٌ مطلق لا يحده حد، اذ هو البعد ما بين كلام رب العالمين وكلام بشر. ولهذا لا يمكن وضع المال وسط الطرفين، اذ لا وسط بينهما اطلاقاً. لانهما كالوجود والعدم، فلا وسط بينهما. لذا فان صاحب اليد للقرآن هو الطرف الإلهي. ولهذا ينبغي ان يقبل الأمر هكذا وسَوق الادلة في ضوئها اي انه بيده سبحانه. الاّ اذا استطاع الطرف الآخر دحض جميع البراهين المشيرة الى انه كلام الله، وتفنيدها الواحد تلو الآخر، عندئذٍ يمكنه ان يمدّ يده اليه، والاّ فلا.

هيهات! من ذا يستطيع ان يزحزح تلك الدرة الغالية المثبتة بالعرش الاعظم بآلاف من مثبتات البراهين الدامغة، وانّى لأحد الجرأة على هدم دلائل الاعمدة القائمة، ليسقط تلك الدرّة النفيسة من العرش السامي.

فيا ايها الشيطان! ان اهل الحق والانصاف يحاكمون الامور محاكمة عقلية سليمة على هذه الصورة رغم انفك. بل يزدادون ايماناً بالقرآن باصغر دليل.

أما الطريق الذي تدل عليه انت وتلاميذك، اي لو افترض القرآن كلام بشر، ولو لمرة واحدة، أي لو اسقطت تلك الدرة العظيمة الثابتة بالعرش، الى الارض، فيلزم وجود برهان قوي وعظيم يعلو جميع البراهين ويتسع لجميع الدلائل، كي يقوى على الارتفاع بها من الارض ويثبتها في العرش المعنوي، وبذلك وحده ينجو من ظلمات الكفر واوهامه ويبلغ نور الايمان ويدركه، وهذا أمر عسير قلّما يوفق المرء اليه في هذا الزمان، ومن هنا يفقد الكثيرون في هذا الزمان ايمانهم بدسيستك الملفعة باسم المحاكمة العقلية الحيادية.

انبرى الشيطان قائلاً:

- ان سياق الكلام في القرآن شبيه بكلام البشر، فهو يجري محاوراته في اسلوب محاورة البشر، فاذاً هو كلام بشر! اذ لو كان كلام الله، لكان خارقاً للعادة في كل جهاته، بما يليق بالله، ولا يشبه كلام البشر، مثلما لا تشبه صنعة الله صنعة بشر!

فقلت جواباً:

- ان رسولنا الاعظم e ظل في طور بشريته في افعاله واحواله واطواره كلها - فيما سوى معجزاته وخصائصه - فانقاد انقياد طاعة لسنن الله واوامره التكوينية، كأي انسان آخر. فكان يقاسي البرد ويعاني الالم.. وهكذا لم يوهب له خوارق غير عادية في احواله واطواره كلها، وذلك ليكون قدوة للامة بافعاله، ومرشداً لهم باطواره، وهادياً للناس كافة بحركاته وسكناته. اذ لو كان خارقاً للعادة في كل اطواره لَمَا تسنّى له ان يكون اماماً للناس كافة، وقدوة لهم في جميع شؤونه بالذات، ولَمَا كان مرشداً للناس كافة، ولما كان رحمةً للعالمين في جميع احواله.

كذلك الامر في القرآن الحكيم، اذ هو إمام أرباب الشعور ومرشد الجن والانس وهادي الكاملين ومعلم اهل الحقيقة، فالضرورة تقتضي ان يكون على نمط محاورة البشر واسلوبه، لأن الانس والجن يستلهمون مناجاتهم منه، ويتعلمون دعواتهم منه، ويذكرون مسائلهم بلسانه، ويتعرفون منه اداب معاشرتهم.. وهكذا يتخذه كل مؤمن به، إماماً له ومرجعاً يرجع اليه.

فلو كان القرآن على نمط الكلام الإلهي الذي سمعه سيدنا موسى عليه السلام في ((جبل الطور)) لما اطاق البشر سماعه ولا قَدَر على الانصات اليه، ولا استطاع ان يجعله مرجعاً لشؤونه كافة. فسيدنا موسى عليه السلام، وهو من اولي العزم من الرسل، ما استطاع ان يتحمل الاّ سماع بعضٍ من كلامه سبحانه، حيث قال: أهكذا كلامك؟ قال الله: لي قوة جميع الالسنة(1) ولكن الشيطان عاد قائلاً:

- كثير من الناس يذكرون مسائل دينية شبيهة بما في القرآن، ألا يمكن لبشر ان يأتي بشئ شبيه بالقرآن باسم الدين؟

فقلت مستلهماً من فيض القرآن الكريم.

` اولاً: ان ذا الـدين يبين الحق ويقول: الحق كذا، الحقيقة هكذا، وامر الله هذا.. يقوله بدافع حبه للدين، ولا يتكلم باسم الله حسب هواه، ولا يتجاوز طوره بما لا حدّ له، بأن يدّعي انه يتكلم باسم الله اويتكلم عنه فيقلّده في كلامه سبحانه، بل ترتعد فرائصه امام الدستور الإلهي:

} فمن أظلمُ ممن كَذبَ على الله{ (الزمر: 32).

` ثانياً: انه لا يمكن بحال من الاحوال ان يقوم بشر بهذا العمل ثم يوفّق فيه، بل هذا محال في مائة محال. لأن اشخاصاً متقاربين يمكنهم ان يقلد احدهم الأخر. وربما يمكن لمن هم من جنس واحد أو صنف واحد ان يتقمص احدهم شخصية الآخر، فيستغفلوا الناس مؤقتاً. ولكن لا يمكن ان يستغفل احدهم الناس بصورة دائمة. اذ سيظهر لأهل العلم والمعرفة مدى التصنع والتكلف في اطواره وافعاله لا محالة. ولابد أن ينكشف كذبه يوماً، فلا تدوم حيلته قط. وان كان الذي يريد التقليد بعيداً غاية البعد، كأن يكون شخصاً اعتيادياً يريد أن يقلد ابن سينا في العلم، أو راعياً يريد أن يظهر بمظهر السلطان في ملكه، فلا يتمكن ان يخدع أحداً من الناس، بل يكون موضع استهزاء وسخرية، اذ كل حال من احواله ستصرخ: ان هذا خدّاع.

وكما انه محال ظهور اليراعة (ذبابة الليل) لأهل الرصد والفلك بمظهر نجم حقيقي، طوال الف سنة، دون تكلف! وكما انه محال ظهور الذباب بمظهر الطاووس لذوي الابصار، طوال الف سنة دون تصنع! وكما انه محال تقمص جندي اعتيادي طور مشير في الجيش واعتلاء مقامه، مدة مديدة، من دون ان يكشف احد خداعه. وكما انه محال ظهور مفترٍ كاذب لا ايمان له في طور أصدق الناس واكثرهم ايماناً وارسخهم عقيدة، طوال حياته، امام انظار المتفحصين المدققين، بلا تردد ولا اضطراب، ويخفي تصنعه عن انظار الدهاة..

فكما ان هذه الامثلة محالة في مائة محال، ولا يمكن ان يصدّقها كل من يملك مسكة من عقل، بل لابد أن يحكم انها هذيان وجنون.. كذلك افتراض القرآن كلام بشرـ حاش لله الف الف مرة حاش لله ـ اذ يستلزم:

عدّ ماهية الكتاب المبين الذي هو نجم الحقيقة اللامع، بل شمس الكمالات الساطعة، تشع دوماً انوار الحقائق في سماء عالم الاسلام، كما هو مشاهد..يستلزم الفرض عدّ ذلك النور الساطع بصيصاً يحمله متصنع، يصوغه من عند نفسه بالخرافات (حاش لله الف الف مرة) والاقربون منه والمدققون لأحواله لا يميزون ذلك، بل يرونه نجماً عالياً ومنبعاً ثراً للحقائق! وما هذا الاّ محال في مائة محال. فضلاً عن ذلك فانك ايها الشيطان، ان تماديت في خبثك ودسائسك اضعاف اضعاف ما انت عليه الآن، فلن تستطيع ان تجعل هذا المحال ممكناً، ولن تقنع به عقلاً سليماً قط. ولكنك تغرر بالناس باراءتهم الامور من بعيد فتريهم النجم اللامع صغيراً كاليراعة.

` ثالثاً: ان افتراض القرآن كلام بشر يستلزم ان تكون حقائق واسرار الفرقان الحكيم ذي المزايا السامية والبيان المعجز، الجامع لكل رطب ويابس، الذي له آثار جليلة في عالم الانسانية، وتجليات باهرة وتأثيرات طيبة مباركة ونتائج قيمة - كما هو مشاهد - اذ هو الذي ينفث في البشرية الروح ويبعث فيها الحياة ويوصلها الى السعادة الخالدة.. يستلزم الفرض أن يكون هذا الفرقان الحكيم وحقائقه الجليلة من اختلاق وافتراء انسان لا علم له ولا معين، ويلزم الاّ يشاهد عليه اولئك الدهاة الفطنون القريبون منه المتفحصون لأحواله، اية علامة من علائم الخداع والتمويه بل يرون دائماً اخلاصه وثباته وجديته. وهذا محال في مائة محال فضلاً عن ان الذي اظهر في احواله واقواله وحركاته كلها طوال حياتهالامانة والايمان والامان والاخلاص والصدق والاستقامة، وارشد اليها وربّى الصديقين على تلك الصفات السامية والخصال الرفيعة.. يلزم ان يكون - بذلك الافتراض - ممن لا يوثق به، ولا اخلاص له ولا يحمل عقيدة.. وما ذلك الاّ رؤية المحال في المحال المضاعف حقيقة واقعة! وما ذلك الاّ هذيان كفري يخجل منه حتى الشيطان نفسه.. ذلك لأن المسألة لا وسط لها. اذ لو لم يكن القرآن الكريم - بفرض محال - كلام الله ، فانه يهوى ساقطاً من العرش الاعظم الى الارض. ولا يبقى في الوسط، فيكون منبع الخرافات، وهو مجمع الحقائق المحضة، وكذا فان الذي اظهر ذلك الأمر الرباني الخالد لو لم يكن رسولاً ـ حاشَ لله ثم حاش لله - يلزم - بهذا الافتراض - ان يهوى من اعلى عليين الى اسفل سافلين، ومن درجة منبع الكمالات والفضائل الى معدن الدسائس، ولا يبقى في الوسط. ذلك لأن الذي يفترى على الله ويكذب عليه يسقط الى ادنى الدركات.

ان رؤية الذباب طاووساً رؤية دائمة، ومشاهدة اوصاف الطاووس الرفيعة في ذلك الذباب كم هي محال فهذه المسألة ايضاً محال مثله، ولا يمكن ان يعطيها احتمالاً قط الاّ من كان سكيراً فاقد العقل.

` رابعاً: ان افتراض القرآن الكريم كلام بشر يلزم ان يكون القرآن الذي هو القائد المقدس والنور الهادي للامة المحمدية - الممثلة لاعظم جماعة وجيش في بنى آدم - والذي يستطيع بقوانينه الرصينة ودساتيره الراسخة واوامره النافذة ان يغزو بذلك الجيش العظيم كلا العالمين ويفتح الدنيا والآخرة، بما اعطاهم من نظام لتسيير احوالهم وتنسيق شؤونهم، وبما جهّزهم باعتدة معنوية ومادية، وعلّم عقول الافراد - كل حسب درجته - وربّى قلوبهم وسخّر ارواحهم وطهّر وجدانهم واستخدم جوارحهم - كما هو مشاهد - فيلزم بذلك الافتراض ان يكون كلاماً ملفقاً لا قوة له ولا اهمية ولا أصل - حاش لله ثم حاش لله - اي يلزم قبول مائة محال في محال. فضلاً عن ان يكون الذي امضى حياته منقاداً لقوانين الله ومرشداً اليها، وعلّم البشرية دساتير الحقيقة، بافعاله الخالصة واظهر اصول الاستقامة وطريق السعادة باقواله الطيبة المعقولة، وكان اخشى الناس لله واعرفهم به، واكثر من عرّفه بهم بشهادة سيرته العطرة حتى انضوى تحت لوائه خمس البشرية ونصف الكرة الارضية طوال الف وثلائمائة وخمسين عاماً، فكان فيها قائداً رائداً للامة، حتى أنه هزّ العالم اجمع واصبح حقاً فخر البشرية، بل فخر العالمين.. فيلزم بهذا الافتراض ان يكون غير عارف بالله ولا يخشى عذابه وفي مستوى انسان عادي، اي يلزم ارتكاب محال في مائة محال. لأن المسألة لا وسط لها، اذ لو لم يكن القرآن الكريم كلام الله، وسقط من العرش الاعظم، لا يقدر ان يظل في الوسط بل يلزم أن يكون بضاعة احد الكذابين في الارض.

ومن هنا فيا ايها الشيطان لو تضاعفت دسائسك مائة ضعف لما اقنعت بهذا الافتراض من يملك عقلاً لم يفسد وقلباً لم يتفسخ.

انبرى الشيطان قائلاً:

- كيف لا استطيع ان اغويهم؟ فلقد دفعتُ كثيراً من الناس والعقلاء المشهورين منهم خاصة الى انكار القرآن وانكار نبوة محمد!

الجواب:

C اولاً: اذا نُظر الى اكبر شئ من مسافة بعيدة، يظهر كأنه شئ صغير للغاية. حتى يمكن لمن ينظر الى نجم أن يقول: ان ضوءه كالشمعة.

C ثانياً: ان النظر التبعي أو السطحي يرى المحال كالممكن. يروى ان شيخاً كبيراً نظر الى السماء لرؤية هلال رمضان، وقد نزلت شعرة بيضاء من حاجبه أمام عينه، فظنها الهلال، فقال: لقد شاهدت الهلال!!

وهكذا فمن المحال ان تكون تلك الشعرة هلالاً. ولكن لأنه قد قصد في رؤيته الهلال بالذات وتراءت تلك الشعرة امامه فظهرت له ظهوراً تبعياً - اي ثانوياً - لذا تلقّى ذلك المحال ممكناً.

C ثالثاً: ان الانكار شئ وعدم القبول أو الرفض شئ آخر. اذ ان عدم القبول هو عدم مبالاة، فهو اغماض العين امام الحقائق ونفي بجهالة، وليس بحكم. وبهذا يمكن أن يستتر كثير من المحالات تحت هذا الستار، اذ لا يُشغل عقله بتلك الامور.

أما الانكار فهو ليس بعدم قبول، بل هو قبول العدم، فهو حكم، يضطر صاحبه الى اشغال عقله وإعمال فكره.

وعلى هذا يمكن لشيطان مثلك أن يسلب منه العقل، ثم يخدعه بالانكار.

ثم انك ايها الشيطان قدخدعت اولئك الشقاة من الأنعام الذين هم في صور الاناسي فمهّدت لهم الكفر والانكار اللذين يولدان كثيراً جداً من المحالات، بالغفلة والضلالة والسفسطة والعناد والمغالطة والمكابرة والاغفال والتقليد وامثالها من الدسائس التي تُري الباطل حقاً والمحال ممكناً.

C رابعاً: ان افتراض القرآن الكريم كلام بشر يستلزم ان يُتصور كتاباً يرشد - كما هو مشاهد - الاصفياء والصديقين والاقطاب الذين يتلألأون كالنجوم في سماء الانسانية، ويعلّم بالبداهة الحق والعدل والصدق والاستقامة والأمن والامان لجميع اهل الكمال، ويحقق سعادة الدارين بحقائق اركان الايمان ودساتير اركان الاسلام، وهو الكتاب الحق المبين والحقيقة الزكية الطاهرة، وهو الصدق بعينه والقول الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يستلزم ان يُتصور - بهذا الافتراض - خلاف اوصافه وتأثيراته وانواره، أي يستلزم تصوره انه افتراء من خدّاع.. وما هذا الاّ محال شنيع يخجل منه حتى السوفسطائيون والشياطين انفسهم، اذ هو هذيان كفري ترتعد منه الفرائص. زد على ذلك يلزم بذلك الافتراض، ان يكون من هو ارسخ عقيدة وأمتن ايماناً واصدق كلاماً وآمن قلباً، بشهادة الشريعة الغراء التي أتى بها وبدلالة ما اظهره - بالاتفاق - من التقوى الخارقة، والعبودية الخالصة، وبمقتضى اخلاقه الفاضلة المتفق عليها بين الاولياء والاعداء، وبتصديق من ربّاهم من اهل العلم والتحقيق واهل الحقيقة وارباب الكمال.. يلزم - بذلك الافتراض - ان يكون فاقداً للعقيدة، لا يوثق به، ولا يخشى الله (حاش لله ثم الف الفَ مرة حاش لله) وما هذا الاّ ارتكاب لأقبح محال ممجوج وضلالة موغلة في الظلم والظلمات.

نحصل مما سبق: مثلما ذكر في الاشارة الثامنة عشرة من المكتوب التاسع عشر، ان الذي لا يملك الاّ قدرة الاستماع في فهم اعجاز القرآن قد قال: اذا قيس القرآن مع جميع ما سمعته من كتب، نراه لا يشبه ايٍ منها، وليس في مستوى تلك الكتب. لذا فالقرآن: إما انه تحت الجميع، أو فوق الجميع. اما الشق الاول، فمع كونه محالاً لا يستطيع حتى الاعداء - بل حتى الشيطان نفسه أن يقوله.. لذا فالقرآن ارفع واسمى من جميع تلك الكتب. اي أنه معجزة.

وعلى غرار هذا نقول مستندين الى حجة قاطعة وهي التي تسمى (بالسبر والتقسيم)(1) حسب علم الاصول وعلم المنطق:

ايها الشيطان ويا تلاميذ الشيطان!

ان القرآن الكريم اما انه كلام الله آت من العرش الاعظم، من الاسم الاعظم، أو أنه افتراء شخص لا يخشى الله ولايتقيه ولا يعتقد به ولا يعرفه (حاش لله الف الف مرة حاش لله) وهذا الكلام لا تقدر ان تقوله ولن تقوله قطعاً حسب الحجج السابقة القاطعة. لذا وبالضرورة وبلا أدنى شبهة يكون القرآن الكريم كلام رب العالمين، ذلك لأنه ليس هناك وسط في المسألة، اذ هو محال لا يمكن ان يحدث قط، كما اثبتناه اثباتاً قاطعاً، وقد شاهدتَه بنفسك واستمعت اليه.

وكذا فان محمداً e إما انه رسول الله وسيد المرسلين وافضل الخلق اجمعين، أو يلزم افتراضه (حاش لله ثم حاش لله) بشراً مفترياً على الله لا يعرفه ولا يعتقد به ولا يؤمن بعذابه، فسقط الى اسفل سافلين(2) وهذا ما لا تقدر على قوله يا ابليس، لا أنت ولا من تعتز بهم من فلاسفة اوروبا ومنافقي آسيا، لأنه ليس هناك أحد في العالم يسمع منك هذا الكلام ثم يصدّقه قط.

لأجل هذا فان اشد الفلاسفة فساداً وأفسد اولئك المنافقين وجداناً يعترفون بأن محمداً e كان فذاً في العقل وآية في الاخلاق.

فما دامت المسألة منحصرة في شقين فقط، وان الشق الثاني محال قطعاً، لا يدّعيه أحد، وأن المسألة لا وسط فيها - كما اثبتنا ذلك بحجج قاطعة - فلابد وبالضرورة - ورغم انفك ورغم انف حزبك ايها الشيطان - وبالبداهة وبحق اليقين فان محمداً e رسول الله وسيد المرسلين وفخر العالمين وافضل الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام بعدد الملك والانس والجان.





اعتراض ثانٍ تافهٍ للشيطان

} ما يَلفظُ من قولٍ الاّ لَديه رقيبٌ عتيدٌ^ وجاءتْ سكرةُ الموتِ بالحق ذلك ما كنتَ منه تحيد^ ونُفخَ في الصور ذلك يومُ الوعيد^ وجاءت كلُّ نفسٍ معها سائقٌ وشَهيد^ لقد كنتَ في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليومَ حديد^ وقال قرينُه هذا ما لديّ عتيدٌ^ ألقيا في جهنمَ كلَّ كفّارٍ عنيد{ (ق:18ــ 24).

عندما كنت اتلو هذه الآيات الكريمة من سورة (ق) قال الشيطان:

- انكم ترون سلاسة القرآن ووضوحه اهم ركن في فصاحته، بينما النقلات بعيدة والطفرات هائلة في هذه الآيات. فترى الآية تعبرُ من سكرات الموت الى القيامة، وتنتقل من نفخ الصور الى ختام المحاسبة، ومن هناك تذكر الإلقاء في جهنم.. أيبقى للسلاسة موضع ضمن هذه النقلات العجيبة؟ وفي القرآن في اغلب مواضعه نرى مجموعة من هذه المسائل البعيدة الواحدة عن الاخرى، فاين موقع السلاسة والفصاحة من هذا؟.

الجواب:

ان اهم اساس في اعجاز القرآن المبين هو الايجاز بعد بلاغته الفائقة، فالايجاز اهم اساس لإعجاز القرآن واقواه، فهذا الايجاز المعجز في القرآن الكريم كثير ولطيف جداً في الوقت نفسه، بحيث ينبهر امامه اهل العلم والتدقيق.

فمثلاً قوله تعالى:

} وقيلَ يا ارضُ ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي وغيضَ الماءُ وقـُـضي الأمر واستوتْ على الجودي وقيل بُعداً للقوم الظالمين{ (هود: 44)

فهذه الآية الكريمة تبين في بضع جمل قصيرة حادثة الطوفان العظيمة ونتائجها، وتوضحها بايجاز معجز في الوقت نفسه، حتى ساقت الكثيرين من اهل البلاغة الى السجود لروعة بلاغتها.

وكذا قوله تعالى:

} كذّبتْ ثمود بطغواها ^ اذ انبعثَ اشقاها ^ فقال لهم رسولُ الله ناقةَ الله وسقياها ^ فكذّبوه فَعَقَروها فدمْدَم عليهم ربُّهم بذَنْبهم فسوّاها ^ ولا يخافُ عُقباها{ (الشمس: 11ــ 15).

تبين هذه الآيات بياناً معجزاً، في ايجاز بليغ، في بضع جمل قصيرة، الحوادث العجيبة التي حدثت لقوم ثمود وعاقبة امرهم، تبينها بايجاز من دون اخلال بالفهم وفي سلاسة ووضوح.

ومثلاً قوله تعالى:

} وذا النونِ اذ ذهبَ مُغاضباً فظنَّ أنْ لن نقدِر عليه فنادى في الظُلماتِ ان لا اله الاّ انت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين{ (الانبياء: 87)

ان ما بين قوله تعالى } أن لَن نقدرَ عليه{ الى جملة } فنادى في الظلمات{ هناك كثير من الجمل المطوية. فتلك الجمل غير المذكورة لا تخل بالفهم ولا تسئ الى سلاسة الآية، اذ تذكر الآية الكريمة الحوادث المهمة في حياة سيدنا يونس عليه السلام وتحيل البقية الى العقل.

وكذلك في سورة يوسف. فان ما بين كلمة } فارسلون{ الى } يوسف ايها الصديق{ هناك ما يقرب من ثماني جمل قد انطوت، ولكن دون اخلال بالمعنى ولا إفساد لسلاسة الآية.

وامثال هذه الانماط من الايجاز المعجز كثيرة جداً في القرآن الكريم، وهي لطيفة جداً في الوقت نفسه.

أما الآيات المتصدرة، التي هي في سورة (ق) فان ايجازها عجيب ومعجز، اذ تشير الى مستقبل الكفار الرهيب جداً والمديد جداً، حتى ان يوماً منه خمسون الف سنة، فتذكر الآية ما تحدث فيه من انقلابات وتحولات وحوادث جليلة تصيب الكفار في مستقبلهم، حتى انها تسيّر الفكر بسرعة مذهلة كالبرق فوق تلك الحوادث الرهيبة وتجعل ذلك الزمان الطويل جداً كأنه صحيفة حاضرة أمام الانسان.وتحيل الحوادث غير المذكورة الى الخيال، فتبينها بسلاسة فائقة.

} واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون{ (الاعراف:204)

فيا ايها الشيطان! قل ما بدا لك!

يقول الشيطان:

- انني لا استطيع ان اقاوم هذه الدلائل والبراهين ولا اتمكن من الدفاع تجاهها. ولكن هناك حمقى كثيرون ينصتون اليّ وكثيرون من شياطين الانس يمدونني ويعاونونني ومعظم الفلاسفة المتفرعنين المغرورين يتلقون مني الدروس التي تلاطف غرورهم وتنفخ فيه.

ولهذا لا استسلم، ولا اسلّم لك السلاح!



} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

المبحث الثاني

كتب هذا المبحث بناء على الحيرة الناشئة لدى الذين يخدمونني دائماً مما يرونه من اختلاف عجيب في اخلاقي.

وكتب ايضاً لتعديل ما لا استحقه من حسن ظن مفرط يحمله اثنان من تلاميذي.

أرى أن قسماً من الفضائل التي تعود الى حقائق القرآن تُمنح الى الوسائل التي تقوم بدور الدعاة والدالين على تلك الحقائق.

والحال أن هذا خطأ، لأن قداسة المصدر وسموه هو الذي يولد تأثيراً يفوق تأثير براهين كثيرة. وعوام الناس انما ينقادون للاحكام بهذه القدسية.

ومتى ما ابدى الدلال والداعي وجوداً لنفسه، أي متى ما توجهت الانظار اليه - دون الحقائق ـ يتلاشى تأثير قدسية المصدر.

ولأجل هذا السرأبيّن الحقيقة الآتية لإخواني الذين يتوجهون اليّ توجهاً يفوق حدي بكثير. فأقول:

ان الانسان قد يحمل شخصيات عدة، وتلك الشخصيات ذات اخلاق متمايزة متباينة، فمثلاً:

ان الموظف الكبير له شخصية خاصة به اثناء اشغاله مهمته من موقعه الرفيع ومقام وظيفته. هذا المقام يتطلب وقاراً واطواراً ليصون كرامة موقعه وعزة مقام المسؤولية. فاظهار التواضع لكل زائر، فيه تذلل وتهوين من شأن المقام. ولكن هذا الشخص نفسه يملك شخصية اخرى خاصة به في بيته وبين أهله، وذلك يتطلب منه اخلاقاً مباينة لما في الوظيفة، بحيث كلما تواضع اكثر كان أفضل واجمل، في الوقت الذي اذا ابدى شيئاً من الوقار يعدّ ذلك تكبراً منه.

أي أن هناك شخصية خاصة بالانسان باعتبار وظيفته، هذه الشخصية تخالف شخصيته الحقيقية في نقاط كثيرة. فان كان ذلك الموظف أهلاً لوظيفته وكفواً لها ويملك استعداداً كاملاً لادارة عمله، فان كلتا الشخصيتين تتقاربان بعضهما من بعض بينما لو لم يكن أهلاً لوظيفته وفقيراً في قابلياته، كأن يكون جندياً نصب في مقام مشير، فالشخصيتان تتباعدان بعضهما عن بعض. اذ صفات الجندي الاعتيادية وأحاسسيه البسيطة لا تنسجم مع ما يقتضيه مقام المشير من اخلاق رفيعة.

وهكذا فان في اخيكم هذا الفقيرثلاث شخصيات كل منها بعيدة عن الأخرى كل البعد، بل بعداً شاسعاً جداً.

أولاها:

شخصية مؤقتة خاصة خالصة لخدمة القرآن وحده، بكوني دلالاً لخزينة القرآن الحكيم السامية. فما تقتضيه وظيفة الدعوة الى القرآن والدلالة عليه من اخلاق رفيعة سامية ليست لي، ولا أنا أملكها. وانما هي سجايا رفيعة يقتضيها ذلك المقام الرفيع وتلك الوظيفة الجليلة. فكل ما ترونه من اخلاق وفضائل من هذا النوع فهي ليست لي، وانما هي خاصة بذلك المقام، فلا تنظروا الي من خلالها.

الشخصية الثانية:

حينما أتوجه الى بابه تعالى واتضرع اليه، ينعم علي سبحانه شخصية خاصة في أوقات العبادة بحيث أن تلك الشخصية تولد آثاراً ناشئة من أساس معنى العبودية، وذلك الاساس هو معرفة الانسان تقصيرَه أمام الله وادراك فقره نحوه وعجزه أمامه والالتجاء اليه بذل وخشوع، فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز وأفقر وأكثر تقصيراً امام الله من أي أحد كان من الناس، فلو اجتمعت الدنيا في مدحي والثناء عليّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالح وفاضل.

ثالثتها:

هي شخصيتي الحقيقية، أي شخصيتي الممسوخة من سعيد القديم وهي عروق ظلت في ميراث سعيد القديم. فتبدو أحياناً رغبة في الرياء وحب الجاه وتبدو فيّ اخلاقاً وضيعة مع خسة في الأقتصاد حيث انني لست سليل عائلة ذات جاه وحسب.

فيا أيها الاخوة!

لن أبوح بكثير من مساوئ هذه الشخصية ومن أحوالها السيئة، لئلا انفركم عني كلياً.

فيا أخوتي! لست أهلاً لمقام رفيع ولا أملك استعداداً له، فشخصيتي هذه بعيدة كل البعد عن اخلاق وظائف الدعوة وآثار مهمة العبودية.

وقد اظهر سبحانه وتعالى قدرته الرحيمة فيّ حسب قاعدة

((داد حق را قابليت شرط نيست))

أي ان الفضل الإلهي لا يشترط القابلية في ذات الشخص. فهو الذي يسخر شخصيتي التي هي كأدنى جندي، في خدمة أسرار القرآن التي هي بحكم أعلى منصب للمشيرية وأرفعها.

فالنفس أدنى من الكل، والوظيفة أسمى من الكل.

فألف شكر وشكر لله سبحانه

الحمد لله هذا من فضل ربي

المبحث الثالث

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} يا ايها الناس إناّ خلقناكُم مِن ذَكَرٍٍ واُنثى وجَعَلناكُم شُعوباً وقبائلَ لِتعارفوا{ (الحجرات:13).

اي: خلقناكم طوائف وقبائل وامماً وشعوباً كي يعرف بعضكم بعضاً وتتعرفوا على علاقاتكم الاجتماعية، لتتعارفوا فيما بينكم، ولم نجعلكم قبائل وطوائف لتتناكروا فتتخاصموا.

في هذا المبحث سبع مسائل:

C المسألة الاولى: ان الحقيقة الرفيعة التي تفيدها هذه الآية الكريمة تخص الحياة الاجتماعية، لذا اضطررت الى كتابة هذا المبحث بنية خدمة القرآن العظيم، وعلى أمل إنشاء سدٍ امام الهجمات الظالمة. فكتبته بلسان (سعيد القديم) الذي له علاقة بالحياة الاجتماعية الاسلامية، وليس بلسان (سعيد الجديد) الذي يريد اجتناب الحياة الاجتماعية(1).

C المسألة الثانية: نقول بياناً لدستور التعارف والتعاون الذي تشير اليه هذه الآية الكريمة انه:

يقسّم الجيش الى فيالق والى فرق والى ألوية والى أفواج والى سرايا والى فصائل والى حظائر، وذلك ليعرف كل جندي واجباته حسب تلك العلاقات المختلفة المتعددة، وليؤدي افراد ذلك الجيش تحت دستور التعاون وظيفة حقيقية عامة لتصان حياتهم الاجتماعية من هجوم الاعداء. والاّ فليس هذا التقسيم والتمييز الى تلك الاصناف، لجعل المنافسة بين فوجين او اثارة الخصام بين سريتين او وضع التضاد بين فرقتين.

وكذلك الامر في المجتمع الاسلامي الشبيه بالجيش العظيم، فقد قُسّم الى قبائل وطوائف، مع ان لهم ألف جهة وجهة من جهات الوحدة ؛ اذ خالقهم واحد، ورازقهم واحد، ورسولهم واحد، وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، ووطنهم واحد.. وهكذا واحد، واحد.. الى الألوف من جهات الوحدة التي تقتضي الاخوة والمحبة والوحدة. بمعنى ان الانقسام الى طوائف وقبائل - كما تعلنه الآية الكريمة - ماهو الاّ للتعارف والتعاون لا للتناكر والتخاصم.

C المسألة الثالثة: لقد انتشر الفكر القومي وترسّخ في هذا العصر. ويثير ظالمو اوروبا الماكرون بخاصة هذا الفكر بشكله السلبي في اوساط المسلمين ليمزقوهم ويسهل لهم ابتلاعهم. ولما كان في الفكر القومي ذوق للنفس، ولذة تُغفل، وقوة مشؤومة، فلايقال للمشتغلين بالحياة الاجتماعية في هذا الوقت: دعوا القومية!

ولكن القومية نفسها على قسمين:

قسم منها سلبي مشؤوم مضر، يتربى وينمو بابتلاع الآخرين ويدوم بعداوة من سواه، ويتصرف بحذر. وهذا يولد المخاصمة والنزاع. ولهذا ورد في الحديث الشريف (أن الاسلام يجبّ ما قبله) ويرفض العصبية الجاهلية. وامر القرآن الكريم بـ } إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فانزلَ الله سكينتهُ على رسولهِ وعلى المؤمنين وألزمهم كلمةَ التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً{ (الفتح:26). فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف يرفضان رفضاً قاطعاً القومية السلبية وفكر العنصرية.لان الغيرة الاسلامية الايجابية المقدسة لاتدع حاجة اليها.

تُرى أيّ عنصر في العالم تعداده ثلاثمائة وخمسون مليوناً ويُكسب فكر المرء - بدل الاسلام - هذا العدد من الاخوان، بل اخواناً خالدين؟

ولقد ظهرت طوال التاريخ أضرار كثيرة نجمت عن القومية السلبية، نذكر منها:

ان الامويين خلطوا شيئاً من القومية في سياساتهم، فأسخطوا العالم الاسلامي فضلاً عما ابتلوا ببلايا كثيرة من جراء الفتن الداخلية.

وكذلك شعوب اوروبا، لما دعوا الى العنصرية واوغلوا فيها في هذا العصر نجم العداء التاريخي الملئ بالحوادث المريعة بين الفرنسيين والالمان كما أظهر الدمار الرهيب الذي احدثته الحرب العالمية، مبلغ الضرر الذي يلحقه هذا الفكر السلبي للبشرية.

وكذلك الحال فينا ؛ ففي بداية عهد الحرية (أي اعلان الدستور) تشكلت جمعيات مختلفة للاجئين وفي المقدمة الروم والارمن، تحت اسماء أندية كثيرة، وسببت تفرقة القلوب - كما تشتتت الاقوام بانهدام برج بابل، وتفرقوا ايدي سبأ في التاريخ - حتى كان منهم من اصبح لقمة سائغة للاجانب، ومنهم من تردى وضل ضلالاً بعيداً.

كل ذلك يبين نتائج القومية السلبية وأضرارها.

اما الآن فان التباغض والتنافر بين عناصر الاسلام وقبائله ـ بسبب من الفكر القومي ـ هلاك عظيم،وخطب جسيم، اذ ان تلك العناصر أحوج ما يكون بعضهم لبعض، لكثرة ما وقع عليهم من ظلم وإجحاف ولشدة الفقر الذي نزل بهم ولسيطرة الاجانب عليهم، كل ذلك يسحقهم سحقاً ؛ لذا فان نظر هؤلاء بعضهم لبعض نظرة العداء مصيبة كبرى لاتوصف، بل انه جنون اشبه ما يكون بجنون من يهتم بلسع البعوض ولايعبأ بالثعابين الماردة التي تحوم حوله.

نعم، ان أطماع اوروبا التي لاتفتر ولاتشبع هي كالثعابين الضخمة الفاتحة افواهها للابتلاع. لذا فان عدم الاهتمام بهؤلاء الاوروبيين، بل معاونتهم معنىً بالفكر العنصري السلبي، وانماء روح العداء ازاء المواطنين القاطنين في الولايات الشرقية او اخواننا في الدين في الجنوب، هلاك وأيّ هلاك وضرر وبيل.

اذ ليس بين افراد الجنوب من يستحق ان يُعادى حقاً، بل ما أتى من الجنوب الاّ نور القرآن وضياء الاسلام، الذي شعّ نوره فينا وفي كل مكان.

فالعداء لاولئك الاخوان في الدين، وبدوره العداء للاسلام، انما يمس القرآن، وهو عداء لجميع اولئك المواطنين، ولحياتَيهم، الدنيوية والاخروية.

لذا فادعاء الغيرة القومية بنية خدمة المجتمع يهدم حجر الزاوية للحياتين معاً فهي حماقة كبرى وليست حمية وغيرة قطعاً.

C المسألة الرابعة: القومية الايجابية نابعة من حاجة داخلية للحياة الاجتماعية، وهي سبب للتعاون والتساند، وتحقق قوة نافعة للمجتمع، وتكون وسيلة لاسناد اكثر للأخوة الاسلامية.

هذا الفكر الايجابي القومي، ينبغي ان يكون خادماً للاسلام، وان يكون قلعة حصينة له، وسوراً منيعاً حوله، لا ان يحل محل الاسلام، ولابديلاً عنه، لان الاخوة التي يمنحها الاسلام تتضمن ألوف انواع الاخوة. وانها تبقى خالدة في عالم البقاء وعالم البرزخ.

ولهذا فلا تكون الاخوة القومية مهما كانت قوية الاّ ستاراً من استار الاخوة الاسلامية. وبخلافه، اي اقامة القومية بديلاً عن الاسلام جناية خرقاء اشبه ما يكون بوضع احجار القلعة في خزينة ألماس فيها وطرح الالماسات خارج القلعة.

يا ابناء هذا الوطن من اهل القرآن !

لقد تحديتم العالم اجمع منذ ستمائة سنة بل منذ ألف سنة من زمن العباسيين، وانتم حاملو راية القرآن والناشرون له في العالم اجمع. وقد جعلتم قوميتكم حصناً للقرآن وقلعة للاسلام، وألزمتم العالم ازاءكم الصمت والانقياد. ودفعتم المهالك العظيمة التي كادت تودي بحياة العالم الاسلامي حتى أصبحتم مصداقاً حسناً للآية الكريمة:

} فسوفَ يأتي الله بقومٍ يُحبُّهم ويُحبّونَهُ أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يجاهدونَ في سبيل الله{ (المائدة:54).

فلاتنخدعوا ولاتميلوا الى مكايد الاوروبيين ودسائس المتفرنجين. واحذروا حذراً شديداً ان تكونوا مصداق بداية هذه الآية الكريمة(1).

حالة تثير الانتباه

ان الشعب التركي هم اكثر عدداً من اي قوم من الاقوام الاسلامية الاخرى، وانهم مسلمون في كل بقاع العالم، بينما الاقوام الاخرى، فيهم المسلمون وغير المسلمين معاً، لذا لم تنقسم الامة التركية كبقية الاقوام، فاينما توجد طائفة من الاتراك فهم مسلمون، والذين ارتدوا عن الاسلام او الذين لم يسلموا اصلاً، قد خرجوا عن وصف الترك كالمجر. علماً ان الاقوام الاخرى حتى الصغيرة منها فيهم المسلمون وغير المسلمين.

ايها الاخ التركي !

احذر وانتبه ! انت بالذات، فان قوميتك امتزجت بالاسلام امتزاجاً لايمكن فصلها عن الاسلام، ومتى ما حاولت عزلها عن الاسلام فقد هلكت اذاً وانتهى أمرك. ألا ترى ان جميع مفاخرك في الماضي قد سجّل في سجل الاسلام، وان تلك المفاخر لايمكن ان تمحى من الوجود قطعاً فلا تمحها انت من قلبك بالاستماع الى الشبهات التي تثيرها شياطين الانس.

C المسألة الخامسة: ان الاقوام المتيقظة في آسيا، قد تمسكوا بالقومية، وحذوا حذو اوروبا في كل النواحي. حتى ضحوا بكثير من مقدساتهم في سبيل ذلك التقليد.

والحال ان كل قوم يلائمه لباس على قدّه وقامته، وحتى لو كان نوع القماش واحداً فانه يلزم الاختلاف في الطراز. اذ لايمكن إلباس المرأة ملابس الشرطي، ولايمكن إلباس العالم الديني ملابس الخليعات.

فالتقليد الاعمى يؤدي في كثير من الاحيان الى حالة من الهزء والسخرية كهذه.. لان:

اولاً: ان كانت اوروبا حانوتاً، او ثكنة عسكرية، فان آسيا تكون بمثابة مزرعة او جامع. وان صاحب الحانوت قد يذهب الى المسرح، بينما الفلاح لايكترث به. وكذلك تتباين اوضاع الثكنة العسكرية والمسجد او الجامع.

ثم ان ظهور اكثر الانبياء في آسيا، وظهور اغلب الحكماء والفلاسفة في اوروبا، رمزٌ للقدر الإلهي واشارة منه الى ان الذي يوقظ اقوام آسيا ويدفعهم الى الرقي ويحقق ادامة إدارتهم هو الدين والقلب. اما الفلسفة والحكمة فينبغي ان تعاونا الدين والقلب لا ان تحلا محلهما.

ثانياً: لايقاس الدين الاسلامي بالنصرانية، اذ ان تقليد الاوروبيين في اهمالهم دينهم تقليداً أعمى خطأ جسيم؛

لان الاوروبيين متمسكون بدينهم اولاً، والشاهـد على هـذا، في المقـدمة وسر الحكمة والفرق الاساس بين الاسلام وسائر الاديان، ومنها النصرانية هو الآتي:

ان اساس الاسلام هو التوحيد الخالص، فلايسند التأثير الحقيقي الى الاسباب او الوسائط ولاقيمة لها في الاسلام من حيث الايجاد والخلق.

اما في النصرانية، فان فكرة البنوة التي ارتضوها، تعطي اهمية للوسائط وقيمة للاسباب، فلا تكسر الغرور والتكبر بل يسند قسطاً من الربوبية الالهية الى الاحبار والرهبان، حتى صدق عليهم قوله تعالى: } اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله{ (التوبة:31).

ومن هذا فان عظماء النصارى يكونون متعصبين لدينهم، مع انهم يحافظون على غرورهم وانانيتهم رغم ما يتسنمون من مهام دنيوية كبيرة، مثال ذلك: رئيس امريكا (ولسن) الذي كان رجل دين متعصباً.

بينما في الاسلام الذي هو دين التوحيد الخالص، ينبغي للمتقلدين للوظائف الكبيرة في الدولة ان يدعوا غرورهم ويتركوا انانيتهم، او لايبلغون التدين الحق، ولهذا يظل قسم منهم مهملين امور الدين، بل قد يكون منهم خارجين عن الدين.

C المسألة السادسة:نقول لأولئك الذين يغالون في العنصرية وفي القومية السلبية.

اولاً: لقد حدثت هجرات كثيرة جداً في بقاع الارض كلها ولاسيما في بلادنا هذه، منذ سالف العصور. وتعرضت اقوام كثيرة الى تغيرات وتبدلات كثيرة، وازدادت تلك الهجرات الى بلادنا بعد ان اصبحت مركزاً للحكومة الاسلامية حتى حامت سائر الاقوام كالفراش حولها، وألقت بنفسها فيها واستوطنتها. فلا يمكن ـ والحال هذه ـ تمييز العناصر الحقيقية بعضها عن بعض الاّ بانفتاح اللوح المحفوظ.

لذا فبناء المرء اعماله وحميته على العنصرية لامعنى له البتة، فضلاً عن أضرارها.

ولاجل هذا اضطر احد دعاة العنصرية والقومية السلبية ـ الذي لايقيم وزناً للدين ـ ان يقول: اذا اتحد الدين واللغة فالامة واحدة.

ولما كان الامـر هكذا فلابد من النظر الى اللغة والدين والـروابط الوطنية لا الى العنصرية الحقيقية. فان اتحدت هذه الثلاثة، فالامة قوية اذاً بذاتها. وان نقص أحد هذه الثلاثة فهو داخل ايضاً ضمن القومية.

ثانياً: نبين فائدتين ـ على سبيل المثال ـ من مئات الفوائد التي تكسبها الحمية الاسلامية المقدسة للحياة الاجتماعية لابناء هذا الوطن.

الفائدة الاولى:

ان الذي حافظ على حياة الدولة الاسلامية وكيانها ـ رغم ان تعدادها عشرون او ثلاثون مليوناً ـ تجاه جميع دول اوروبا العظيمة، هو هذا المفهوم النابع من القرآن الذي يحمله جيشها: (( اذا متُّ فانا شهيد وان قتلتُ فانا مجاهد)).. هذا المفهوم دفع ابناء هذا الوطن الى استقبال الموت باسمين، مما هزّ قلوب الاوروبيين وارهبهم.

تُرى اي شيء يمكن ان يبرز في الميدان ويبعث في روح الجنود مثل هذه التضحية والفداء وهم ذوو أفكار بسيطة وقلوب صافية؟.

اية عنصرية يمكن ان تحل محل هذا المفهوم العلوي؟ واي فكر غيره يمكن ان يجعل المرء يضحي بحياته وبدنياه كلها طوعاً في سبيله ؟.

ثانياً:

ما آذت الدول الاوروبية الكبرى وثعابينها المردة ؛ هذه الدولة الاسلامية وتوالت عليها بضرباتها، الاّ وابكت ثلاثمائة وخمسين مليوناً من المسلمين في انحاء العالم، وجعلتهم يئنون لأذاها، حتى سحبت تلك الدول الاستعمارية يدها عن الاذى والتعدي لتحول دون اثارة عواطف المسلمين عامة، فتخلت عن الاذى.

فهل تُستصغر هذه القوة الظهيرة المعنوية والدائمة لهذه الدولة، وهل يمكن انكارها؟

تُرى اية قوة اخرى يمكن أن تحلّ محلها؟ فهذا ميدان التحدي فليُظهروا تلك القوة؟ لذا ينبغي الاّ نجعل تلك القوة الظهيرة العظمى تعرض عنّا لاجل التمسك بقومية سلبية وحمية مستغنية عن الدين.

C المسألة السابعة:نقول للذين يبدون حماسةً شديدة للقومية السلبية:

ان كنتم حقاً تحبون هذه الامة حباً جاداً خالصاً، وتشفقون عليها، فعليكم ان تحملوا في قلوبكم غيرة تسع الاشفاق على غالبية هذه الامة لاعلى قلة قليلة منها، اذ ان خدمة هؤلاء خدمة اجتماعية مؤقتة غافلة عن الله ـ وهم ليسوا بحاجة الى الرأفة والشفقة ـ وعدم الرأفة بالغالبية العظمى منهم ليس من الحمية والغيرة في شئ.

اذ الحمية بمفهوم العنصرية يمكن ان يجلب النفع والفائدة لاثنين من كل ثمانية اشخاص من الناس، فائدة مؤقتة، فينالون مما لايستحقونه من الحمية، اما الستة الباقون فهم إما شيخ او مريض او مبتلى ببلاء، او طفل، او ضعيف جداً، او متقٍ يخشى الله ويرجو الآخرة.. فهؤلاء يبحثون عن سلوان ونور يبعث فيهم الامل، حيث انهم يتوجهون الى حياة برزخية واخروية. فهم محتاجون الى ايدي اللطف والرحمة تمتد اليهم. فأية حمية تسمح لاطفاء نور الامل لدى هؤلاء والتهوين من سلوانهم؟

هيهات ! اين الاشفاق على الامة واين التضحية في سبيلها!.

اننا لانيأس من روح الله قطعاً، فلقد سخّر سبحانه ابناء هذا الوطن وجماعاته المعظمة وجيشه المهيب منذ ألف سنة في خدمة القرآن وجعلهم رافعي رايته. لذا فأملنا عظيم في رحمته تعالى الاّ يهلكهم بعوارض موقتة ان شاء الله، وسيمد سبحانه ذلك النور ويجعله اسطع وابهر اشراقاً فيديم وظيفتهم المقدسة.

الـمبحث الرابع

تنبيه: كما ان المباحث الاربعة للمكتوب السادس والعشرين غير مترابطة،كذلك هذه المسائل العشر لهذا المبحث غير مترابطة ايضاً، لذا لايتحرى عن الارتباط والعلاقة فيما بينها. فقد كتبت كما وردت.

فهذا المبحث جزء من رسالته التي بعثها الى احد طلابه المهمين، تتضمن اجابات عن خمسة او ستة من الاسئلة.

المسألة الاولى

C ثانياً: انك تقول ياأخي في رسالتك: ان المفسرين قالوا لدى تفسيرهم (رب العالمين) ان هناك ثمانية عشر ألف عالم، وتستفسر عن حكمة ذلك العدد؟.

أخي! انني الآن لا أعلم حكمة ذلك العدد، ولكني اكتفي بالآتي:

ان جمل القرآن الحكيم لاتنحصر في معنىً واحد، بل هي في حكم كلي يتضمن معاني لكل طبقة من طبقات البشرية، وذلك لكون القرآن الكريم خطاباً لعموم طبقات البشر. لذا فالمعاني المبينة هي في حكم جزئيات لتلك القاعدة الكلية، فيذكر كل مفسّر، وكل عارف بالله جزءاً من ذلك المعنى الكلي ويستند في تفسيره هذا إما الى كشفياته او الى دليله او الى مشربه، فيرجّح معنىً من المعاني. وقد كشفت طائفة في هذا ايضاً معنىً موافقاً لذلك العدد.

فمثلاً: يذكر الاولياء في اورادهم ويكررون باهتمام بالغ قوله تعالى: } مَرجَ البحرين يلتقيان ^ بينهما برزخ لايبغيان{ (الرحمن:19ـ 20) ولهذه الآية الكريمة معانٍ جزئية ابتداءً من بحر الربوبية في دائرة الوجوب وبحر العبودية في دائرة الامكان، وانتهاءً الى بحري الدنيا والآخرة، والى بحري عالم الشهادة وعالم الغيب، والى البحار المحيطة في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، الى بحر الروم وبحر فارس والبحر الابيض والاسود ـ والى المضيق بينهما الذي يخرج منه السمك المسمى بالمرجان ـ والى البحر الابيض والبحر الاحمر وقناة السويس، والى بحار المياه العذبة والمالحة، والى بحار المياه الجوفية العذبة المتفرقة والبحار المالحة التي على ظهر الارض المتصل بعضها ببعض وما يسمى بالبحار الصغيرة العذبة من الانهار الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات، والبحار المالحة التي يختلط معها.

كل هذه الجزئيات موجودة ضمن معاني تلك الآية الكريمة، وجميع هذه الجزئيات تصح ان تكون مرادة ومقصودة، فهي معانٍ حقيقية للآية الكريمة ومعانٍ مجازية.

وهكذا فان } الحمد لله رب العالمين{ ايضاً جامعة لحقائق كثيرة جداً مثلما ذكر، وان اهل الكشف والحقيقة يبينونها بيانات متباينة حسب كشفياتهم.

وانا افهم من الآية الكريمة الآتي:

ان في السماوات الوفاً من العوالم، ويمكن ان يكون كل نجم في مجموعته، عالماً بذاته، وان في الارض ايضاً كل جنس من المخلوقات كذلك عالم بذاته، حتى ان كل انسان عالم صغير، فكلمة } رب العالمين{ تعني: ان كل عالم يدار ويربىّ ويدبّر شؤونه بربوبيته سبحانه وتعالى مباشرة.

C ثالثاً: لقد قال الرسول e :(اذا أراد الله بقوم خيراً أبصرهم بعيوب أنفسهم)(1) وقد قال سيدنا يوسف عليه السلام في القرآن الكريم: } وما أُبرىء نفسي ان النفس لأمارة بالسوء{ (يوسف:53).

نعم، ان من يعجب بنفسه ويعتدّ بها شقي، بينما الذي يرى عيب نفسه محظوظ سعيد، لذا فأنت سعيد يا أخي. ولكن قد يحدث احياناً ان تنقلب النفس الامارة الى نفسٍ لوامة او مطمئنة، إلاّ انها تسلّم اسلحتها واعتدتها الى الاعصاب والعروق فتؤدي الاعصاب والعروق هذه تلك الوظيفة الى نهاية العمر، ورغم موت النفس الامارة منذ مدة طويلة فان آثارها تظهر ايضاً، فهناك كثير من الاولياء والاصفياء العظام شكَوا من النفس الامارة رغم ان نفوسهم مطمئنة، واستغاثوا بالله من امراض القلب رغم ان قلوبهم سليمة ومنوّرة جداً. فهؤلاء الافاضل لايشكون من النفس الامارة، بل من وظيفتها التي أُودعت الى الاعصاب. اما المرض فليس قلبياً، بل مرض خيالي، والذي يشن عليكم الهجوم ياأخي ليس نفسك ولا أمراض قلبك، بل هي حالة كما ذكرناها انتقلت الى الاعصاب لأجل دوام المجاهدة واستمرارها الى نهاية العُمُر ـ حسب مقتضى البشرية ـ والتي تسبب رقياً دائماً.

المسألة الثانية

ان اجزاء رسائل النور تتضمن الاجابة عن ثلاث مسائل، كان العالم القديم قد سأل عنها وفيها ايضاحاتها، الا اننا نشير هنا اليها باجمال فحسب:

السؤال الأول:

ماذا يعني محي الدين بن عربي عندما قال في رسالته الموجهة الى فخر الدين الرازي(1): ((ان معرفة الله غير معرفة وجوده)) وما قصده منه؟

اولاً: ان ما قرأتَ له من المثال الموجود في الفرق بين التوحيد الحقيقي والتوحيد العامي المذكور في الكلمة الثانية والعشرين يشير الى المقصود من السؤال، ويوضحه اكثر ما جاء في الموقف الثاني والثالث من الكلمة الثانية والثلاثين.

ثانياً: ان الذي دعا محي الدين بن عربي الى أن يقول هذا الكلام لفخر الدين الرازي وهو امام من ائمة الكلام هو: ان ما بينه أئمة اصول الدين وعلماء الكلام فيما يخص العقائد ووجود الله سبحانه وتوحيده غيركاف في نظر ابن عربي.

حقاً! ان معرفة الله المستنبطة بدلائل علم الكلام ليست هي المعرفة الكاملة، ولا تورث الاطمئنان القلبي، في حين ان تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز، تصبح معرفة تامة وتسكب الاطمئنان الكامل في القلب. نسأل الله العلي القدير أن يجعل كل جزء من اجزاء رسائل النور بمثابة مصباح يضئ السبيل القويم النوراني للقرآن الكريم.

ثم ان معرفة الله التي استقاها الرازي من علم الكلام كما تبدو ناقصة وقاصرة في نظر ابن عربي، فان المعرفة الناتجة عن طريق التصوف ايضاً ناقصة ومبتورة بالنسبة نفسها امام المعرفة التي استقاها ورثة الانبياء من القرآن الكريم مباشرة، ذلك لأن ابن عربي يقول ((لا موجود إلاّ هو)) لأجل الحصول على الحضور القلبي الدائم، أمام الله سبحانه وتعالى، حتى وصل به الأمر الى انكار وجود الكائنات.

أما الآخرون فلاجل الحصول على الحضور القلبي ايضاً قالوا: ((لا مشهود الاّ هو)) وألقوا ستار النسيان المطلق على الكائنات واتخذوا طوراً عجيباً.

بينما المعرفة المستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم، فضلاً عن انها لا تقضي على الكائنات بالعدم ولا تسجنها في سجن النسيان المطلق، بل تنقذها من الاهمال والعبثية وتستخدمها في سبيل الله سبحانه، جاعلة من كل شئ مرآة تعكس المعرفة الالهية وتفتح في كل شئ نافذة الى المعرفة الإلهية، كما عبر عنها سعدي الشيرازي شعراً:

در نظر هوشيار هر ورقي دفتريست أز معرفت كردكار

ولقد شبهنا في كلمات اخرى من رسائل النور لبيان الفروق بين الذين يستلهمون نهجهم من القرآن الكريم - ذلك المنهج الأقوم - والذين يسلكون نهج علماء الكلام بمثال هو:

انه لأجل الحصول على الماء، هناك من يأتي به بوساطة انابيب من مكان بعيد يحفره في اسفل الجبال. وآخرون يجدون الماء اينما حفروا ويفجرونه اينما كانوا. فالأول سير في طريق وعر وطويل والماء معرض فيه للانقطاع والشحة. بينما الذين هم أهل لحفر الآبار فانهم يجدون الماء اينما حلوا دونما صعوبة ومتاعب.

فعلماء الكلام يقطعون سلسلة الاسباب باثبات استحالة الدور والتسلسل(1) في نهاية العالم، ومن بعده يثبتون وجود واجب الوجود.

أما المنهج الحقيقي للقرآن الكريم فيجد الماء في كل مكان ويحفره اينما كان. فكل آية من آياته الجليلة كعصا موسى تفجر الماء اينما ضربت. وتستقرئ كل شئ القاعدة الآتية:

وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد

ثم ان الايمان لا يحصل بالعلم وحده، اذ ان هناك لطائف كثيرة للانسان لها حظها من الايمان فكما ان الأكل اذا ما دخل المعدة ينقسم ويتوزع الى مختلف العروق حسب كل عضو من الاعضاء، كذلك المسائل الايمانية الآتية عن طريق العلم اذا ما دخلت معدة العقل والفهم، فان كل لطيفة من لطائف الجسم - كالروح والقلب والسر والنفس وامثالها - تأخذ منها وتمصها حسب درجاتها. فان فقدت لطيفة من اللطائف غذاءها المناسب، فالمعرفة اذن ناقصة مبتورة، وتظل تلك اللطيفة محرومة منها.

وهكذا ينبه ابن عربي فخر الدين الرازي الى هذه النقطة ويلفت نظره اليها.

المسألة الثالثة

سؤال: ماوجه التوفيق بين الآية الكريمة: } ولقد كرّمنا بني آدم..{ (الاسراء:70) والآية الكريمة: } انه كان ظلوماً جَهولاً{ (الاحزاب:72)؟.

الجــواب: ان ايضاح هذا السؤال موجود في كل من الكلمات (الحادية عشرة) و (الثالثة والعشرين)، والثمرة الثانية من الغصن الخامس من الكلمة (الرابعة والعشرين). ومجمله هو الآتي:

ان الله سبحانه وتعالى يخلق بقدرته الكاملة اشياء كثيرة جداً من شئ واحد كما يسوق شيئاً واحداً الى القيام بوظائف كثيرة جداً. فيكتب ألف كتاب وكتاب في صحيفة واحدة.

وقد خلق سبحانه وتعالى الانسان ايضاً نوعاً جامعاً لكثير من الانواع. اي انه قد أراد أن ينجز بنوع الانسان ما تنجزه الدرجات المختلفة لجميع انواع الحيوانات. بحيث لم يحدّد قوى الانسان ورغباته بحدود وقيود فطرية، بل جعلها حرة طليقة، بينما حدّد قوى سائر الحيوانات ورغباتها، اي انها تحت قيود فطرية. بمعنى ان كل قوة من قوى الانسان تتجول في ميدان فسيح واسع جداً، لاتتناهى، لان الانسان مرآة لتجليات لانهاية لها لاسماء رب العالمين، لذا فقد منحت قواه استعداداً لانهاية لها.

فمثلاً: لو اعطي الانسان الدنيا برمتها، لطلب المزيد بحرصه، وانه يرضى بإلحاق الضرر بالوف من الناس في سبيل منفعة ذاتية!.

وهكذا تنكشف امام الانسان درجات لاحدّ لها من الاخلاق السيئة، حتى توصله الى دركات النماردة والفراعنة. فيكون مصداق صفة ظلوماً بحق (بالصيغة المبالغة)، كما تنفتح امامه درجات الرقي التي لامنتهى لها في الخصال الحميدة حتى بلغ مرتبة الانبياء والصديقين.

ثم ان الانسان ـ بخلاف الحيوان ـ جاهل كل ما يخص الحياة ويلزمها ومضطر الى تعلم كل شئ، فهو (جهول) بالصيغة المبالغة لأنه محتاج الى مالايحدّ من الاشياء.

اما الحيوان؛ فعندما يفتح عيونه الى الحياة، فانه لايحتاج الاّ الى اشياء قليلة، فضلاً عن انه يتعلم شروط حياته في شهر او شهرين او في يوم او يومين بل ربما في ساعة او ساعتين، وكأنه قد اكتمل في عالم آخر ثم أتى الى هنا. بينما الانسان لايتمكن من أن يقف منتصباً معتمداً على نفسه الاّ بعد سنة او سنتين، ولايعرف نفعه من ضره الاّ بعد خمس عشرة سنة.

فالمبالغة في (جهولاً) تشير الى هذا ايضاً.

المسألة الرابعة

تسألون ياأخي عن حكمة الحديث الشريف:(جددوا ايمانكم بـلا إله الاّ الله)(1) فقد ذكرناها في كثير من ((الكلمات)). والآن نذكر حكمة منها:

ان الانسان لكونه يتجدد بشخصه وبعالمه الذي يحيط به فهو بحاجة الى تجديد ايمانه دائماً، لأن الانسان الفرد ما هو الاّ افراد عديدة، فهو فرد بعدد سني عمره، بل بعدد ايامه، بل بعدد ساعاته حيث أن كل فرد يعد شخصاً آخر، ذلك لان الفرد الواحد عندما يجري عليه الزمن يصبح بحكم النموذج، يلبس كل يوم شكل فرد جديد آخر.

ثم ان الانسان مثلما يتعدد ويتجدد هكذا. فان العالم الذي يسكنه سيار ايضاً لايبقى على حال. فهو يمضي ويأتي غيره مكانه، فهو في تنوع دائم، فكل يوم يفتح باب عالم جديد.

فالايمان نور لحياة كل فرد من افراد ذلك الشخص من جهة كما انه ضياء للعوالم التي يدخلها. وما ((لا اله الاّ الله)) الا مفتاح يفتح ذلك النور.

ثم ان الانسان تتحكم فيه النفس والهوى والوهم والشيطان وتستغل غفلته وتحتال عليه لتضيق الخناق على ايمانه، حتى تسد عليه منافذ النور الايماني بنثر الشبهات والاوهام. فضلاً عن انه لا يخلو عالم الانسان من كلمات واعمال منافية لظاهر الشريعة، بل تعد لدى قسم من الائمة في درجة الكفر.

لذا فهناك حاجة الى تجديد الايمان في كل وقت، بل في كل ساعة، في كل يوم.

سؤال: ان علماء الكلام يثبتون التوحيد بعد ظهورهم ذهناً على العالم كله الذي جعلوه تحت عنوان الامكان والحدوث. وان قسماً من اهل التصوف لاجل ان يغنموا بحضور القلب واطمئنانه قالوا: ((لامشهود الا هو)) بعد أن ألقوا ستار النسيان على الكائنات. وقسم آخر منهم قالوا: ((لاموجود الا هو)) وجعلوا الكائنات في موضع الخيال وألقوها في العدم ليظفروا بعد ذلك بالاطمئنان وسكون القلب. ولكنك تسلك مسلكاً مخالفاً لهذه المشارب وتبين منهجاً قويماً من القرآن الكريم وقد جعلت شعار هذا المنهج: ((لامقصود الا هو.. لامعبود الا هو)). فالرجاء ان توضح لنا باختصار برهاناً واحداً يخص التوحيد في هذا المنهج القرآني.

الجواب: ان جميع ما في ((الكلمات)) و ((المكتوبات)) يبين ذلك المنهج القويم.

اما الآن فأشير اشارة مختصرة جداً نزولاً عند رغبتكم الى حجة واحدة من حججه العظيمة والى برهان واسع طويل من براهينه الدامغة.

ان كل شئ في العالم، يسند جميع الاشياء الى خالقه.. وان كل أثر في الدنيا يدل على ان جميع الآثار هي من مؤثره هو.. وان كل فعل ايجادي في الكون يثبت ان جميع الافعال الايجادية انما هي من افعال فاعلها هو.. وان كل اسم من الاسماء الحسنى الذي يتجلى على الموجودات يشير الى ان جميع الاسماء انما هي لمسماه هو.. اي ان كل شئ هو برهان وحدانية واضح، ونافذة مطلة على المعرفة الالهية.

نعم، انه ما من أثر، ولاسيما الكائن الحي، الا هو مثال مصغر للكائنات، وبمثابة نواة للعالم، وثمرة للكرة الارضية. لذا فخالق ذلك المثال المصغر والنواة والثمرة لابد أن يكون هو ايضاً خالق الكائنات برمتها، ذلك لانه لايمكن أن يكون موجد الثمرة غير موجد شجرتها.

لذا فان كل أثر مثلما يُسند جميع الآثار الى مؤثّره، فان كل فعل ايضاً يُسند جميع الافعال الى فاعله. لاننا نرى ان اي فعل ايجادي كان، وهو يبرز طرفاً من قانون خلاقية يسع الكون كله ويمتد حكمه وطوله من الذرات الى المجرات. اي ان مَن كان صاحب ذلك الفعل الايجادي الجزئي وفاعله لابد ان يكون هو ايضاً فاعل جميع الافاعيل التي ترتبط بالقانون الكلي المحيط بالكون الواسع من الذرات الى الشموس.

فالذي يحيي بعوضة لابد أن يكون هو المحيي لجميع الحشرات بل جميع الحيوانات بل محيي الارض كلها.

ثم ان الذي يجعل الذرات تدور بجذبة حب كالمريد المولوي لابد أن يكون هو ايضاً ذلك الذي يحرك الموجودات جميعاً تحريكاً متسلسلاً حتى الشمس بسياراتها. لان القانون الساري في الموجودات هو سلسلة ـ تشد جميعها بعضها ببعض ـ والافعال مرتبطة به.

بمعنى ان كل أثر يسند جميع الآثار الى مؤثره هو، كما ان كل فعل ايجادي يسند جميع الافعال الى فاعله هو. كما ان كل اسم يتجلى على الكائنات يسند جميع الاسماء الى مسماه ويثبت أنها جميعاً عناوينه. ذلك لان الاسماء المتجلية في الكون متداخل بعضها في بعض كالدوائر المتداخلة والوان الضوء السبعة. كل منها يسند الآخر ويمده، كل منها يكمل اثر الآخر ويزينه.

فمثلاً: ان اسم ((المحيي)) عندما يتجلى لشئ وحالما يمنح شيئا الحياة يتجلى اسم ((الحكيم)) ايضاً فينظم جسد ذلك الكائن الحي الذي هو مأوى روحه، وفي الوقت نفسه يتجلى اسم ((الكريم)) فيزين ذلك العش والمأوى، وآنئذ يتجلى اسم ((الرحيم)) ايضاً فيهيئ حاجات ذلك الجسد، وفي الوقت نفسه يتجلى اسم ((الرزاق)) فيمنح ما يلزم ذلك الحي من ارزاق مادية ومعنوية ومن حيث لايحتسب، وهكذا...

اي: لمن يعود اسم ((المحيي)) فان له ايضاً اسم ((الحكيم)) الذي ينير الكون ويحيط به، وان له ايضاً اسم ((الرحيم)) الذي يربي الكائنات بالرحمة والشفقة. وان له ايضاً اسم ((الرزاق)) الذي يغدق على الكائنات.. وهكذا...

بمعنى ان كل اسم ، وكل فعل، وكل أثر، برهان وحدانية، وختم توحيد، وخاتم احدية بحيث يدل على ان الكلمات التي هي الموجودات المسطورة في صحائف الكون وفي سطور العصور انما هي كتابة قلم نقاشه ومصوره جل وعلا.

اللهم صل على من قال: (افضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا اله الاّ الله)(1) وعلى آله وصحبه وسلم.

المسألة الخامسة

ثانياً: تسألون ياأخي في رسالتكم عن كفاية (( لا اله الاّ الله)) فحسب، اي من دون ذكر ((محمد رسول الله)) في جعل المرء من اهل النجاة.

ان جواب هذا السؤال طويل، الاّ اننا نقول الآن:

ان كلمتي الشهادة لاتنفك احداهما عن الاخرى ولاتفترقان، بل تثبت احداهما الاخرى وتتضمنها، فلا تكون احداهما الاّ بالاخرى.

وحيث ان الرسول e هو خاتم الانبياء عليهم السلام، ووارث جميع المرسلين، فلاشك انه في مقدمة كل الطرق الموصلة الىاللهوفي رأسها، فليست هناك طريق حقة ولاسبيل نجاة غير جادته الكبرى وصراطه المستقيم.

ويقول جميع أئمة اهل المعرفة والتحقيق ما يعبّر عنه سعدي الشيرازي شعراً:

مُحَالَست سَعدي بَراهِ نَجَاتْ ظَفَر بُردَنْ جُزْ دَربىِ مُصطفى

(اي: من المحال ان يظفر أحد بطريق السلامة والصفاء من دون اتباع المصطفىe ).. وكذا قالوا: ان كل الطرق مسدودة الاّ المنهاج المحمدي.

ولكن قد يكون احياناً ان بعضهم يسلكون الجادة الاحمدية ولكنهم لايعلمون انها جادة احمدية او انها داخلة ضمنها.

وقد يكون احياناً انهم لايعرفون النبي e ولكن الطريق التي يسلكونها هي جزء من الجادة الاحمدية.

وقد يكون احياناً انهم لايفكرون في الجادة المحمدية مكتفين: بـ((لا اله الاّ الله)) إما بسبب من حالة الجذب او الاستغراق او بسبب وضع من اوضاع الانزواء والعزلة.

ومع هذا فان اهم جهة في هذه الامور هي:

ان عدم القبول شئ وقبول العدم شئ آخر. فان أمثال هؤلاء من اهل الجذب والعزلة او ممن لم يسمع او لايعلم وامثالهم ممن لايعرفون النبي e او لايتفكرون فيه ليقبلوه ويرضوا به فانهم يظلون جاهلين في تلك النقطة ولايعرفون غير (( لا اله الاّ الله)) في معرفة الله ، فهؤلاء ربما يكونون من اهل النجاة، ولكن الذين سمعوا بالنبي e وعرفوا دعوته، ان لم يصدّقوه يكونون من الذين يعرفون الله ولا يؤمنون به، لان قول: ((لا اله الاّالله)) لا يفيد لأمثال هؤلاء التوحيد الذي هو سبب النجاة، حيث ان تلك الحالة ليست حالة ناشئة من عدم قبول نابع من الجهل والذي يُعدّ عذراً، بل هو قبول العدم، وهو انكار. فالذي ينكر محمداً عليه الصلاة والسلام وهو مدار فخر الكون وشرف البشرية بمعجزاته وآثاره الجليلة، لاشك انه لاينال نوراً قط ولايكون مؤمناً بالله.

وعلى كل حال نكتفي بهذا القدر.

المسألة السادسة

ثالثاً: لقد جاءت تعابير ممجوجة تخص مسلك الشيطان، وذلك في المحاورة الجارية مع الشيطان في المبحث الاول. وعلى الرغم من تعديلها وتخفيفها بكلمة ((حاش لله، وكلا...)) وابرازها على صورة فرض محال فان فرائصي ارتعدت من هولها.

ثم ان هناك تعديلات طفيفة في القسم الذي اُرسل اليكم، فهل صححتم نسختكم في ضوئه؟ فاني أنيبكم واُوكل ذلك اليكم، فتستطيعون حذف تعابير ترونها زائدة.

اخي العزيز !

ان ذلك المبحث مهم للغاية، لان استاذ الزنادقة هو الشيطان، فان لم يلزم الشيطان الحجة ولم يفحم بالبينة، لايقنع مقلّدوه ولايرضحون.. ولقد استعمل القرآن الحكيم بعض تعابير الكفار القبيحة في معرض الرد عليها، مما أعطاني الجرأة لاظهار تفاهة هذا المسلك الشيطاني وفساده كلياً. وقد استعملت ـ وانا ارتعد ـ تلك التعابير التي تنم عن الحماقة التي اضطر حزب الشيطان الى قبولها واستعمالها بمقتضى مسلكهم، والتي يتفوهون بها لامحالة بلسان مسلكهم، فذكرتها في صورة فرض المحال لبيان فساد مسلك الشيطان فساداً كلياً. وقد حصرتهم بذلك الاستعمال في قعر البئر واستولينا على الميدان كله وجعلناه ملكاً للقرآن وفي سبيله. وكشفنا عن خباياهم واباطيلهم فانظر الى هذا الفوز من خلال هذا التمثيل:

نفرض ان هناك منارة عالية تناطح السماء، وتحتها مباشرة بئر عميقة قعرها في مركز الارض، وثمة فريقان من الناس يتناقشان حول اثبات موقع المؤذن الذي يبلغ صوته الى الناس كافة في البلاد كلها. اي: في اي مرتبة من درجات سلم المنارة يقف المؤذن، اعتباراً من السماء الى مركز الارض؟.

يقول الفريق الاول: ان المؤذن في قمة المنارة، يرفع الاذان من هناك. ويُسمع العالم أجمع. لاننا نسمع ذلك الاذان العلوي الندي، وعلى الرغم من ان كل واحد منا لايستطيع رؤيته هناك الاّ ان كلاً منا يراه حسب درجته اثناء صعوده ونزوله من المنارة.

ومن ذلك يُعلم ان ذلك المؤذن يصعد المنارة، واينما كان موقعه فهو صاحب مقام عالٍ.

اما الفريق الآخر، وهو فريق الشيطان الاحمق، فيقول:

- كلا، ان موقع المؤذن في قعر البئر وليس في قمة المنارة، اينما شوهد. علماً انه لم يشاهده أحد أصلاً في قعر البئر ولايستطيع رؤيته هناك الاّ إن كان حجراً ثقيلاً لاإرادة له، عندئذ فقط يمكن رؤيته هناك.

وبعد، فان ميدان نقاش وصراع هاتين الفئتين المتعارضتين، هو المسافة الممتدة من قمة المنارة الى قعر البئر.

فجماعة اهل النور وهم حزب الله؛ يبينون موقع ذلك المؤذن في قمة المنارة لمن كان نظره يرقى الى هناك، ويبينون ان له مرتبة رفيعة في درجات سلم المنارة لقاصري النظر الذين لايرقى نظرهم الى الدرجات الرفيعة. اي يبينون مرتبته الرفيعة كل حسب اُفق نظره ومداه. لذا فان أمارة صغيرة تكفيهم وتثبت لهم ان ذلك المؤذن الفاضل ليس جسماً كالحجر الجامد، بل هو كالانسان الكامل يستطيع ان يصعد الى اعلى المراتب وان يشاهد وهو يرفع الاذان من هناك.

اما الفئة الاخرى ؛ وهم حزب الشيطان، فيقولون: اما ان تظهروه لنا وهو في قمة المنارة، او ان مقامه في قعر البئر. فيحكمون هذا الحكم بحماقة غير متناهية.

فهم لايعلمون ـ لحماقتهم ـ ان عدم ظهوره لكل الناس في قمة المنارة ناشئ من عجز نظر الناس عن الارتفاع الى تلك المرتبة، ثم انهم يريدون ان يغالطوا ليسيطروا على المسافة كلها باستثناء قمة المنارة.

ولاجل فض المناقشة بين الفئتين، اندفع احدهم في الميدان وخاطب حزب الشيطان قائلاً:

ايتها الجماعة المشؤومة، ان كان مقام ذلك المؤذن العظيم في قعر البئر للزم ان يكون جامداً كالحجر لاحياة فيه ولاقوة، ولما كان يشاهد في اية مرتبة من مراتب المنارة او البئر. ولكن وما دمتم تشاهدونه في كل المراتب، فلاشك الاّ يكون جامداً لاحقيقة له ولاحياة، بل لابد أن يكون مقامه قمة المنارة. لذا فاما ان تظهروه في قعر البئر ـ وهذا ما لاتقدرون عليه قطعاً ولاتستطيعون ان تقنعوا به احداً ابداً ـ او ألزموا الصمت، فان ميدان دفاعكم محصور في قعر البئر. اما بقية الميدان والمسافة الطويلة فانها تخص هذه الجماعة، الجماعة المباركة فانهم اينما أظهروه، سوى قعر البئر، فهم يكسبون القضية.

وهكذا فان مبحث المناظرة مع الشيطان شبيه بهذا التمثيل، فانه يأخذ الميدان الممتد من العرش الى الفرش، من يد حزب الشيطان ويحصرهم في اضيق مكان وهو قعر البئر، ويقحمهم في اضيق ثقب لايمكنهم الدخول فيه، بل هو محال وغير معقول قطعاً، وفي الوقت نفسه يستولي على المسافة كلها باسم القرآن الكريم.

فان قيل لهم: كيف ترون مرتبة القرآن؟

فسيقولون: كتاب انساني يرشد الى الاخلاق الحسنة، وعندها يقال لهم:

اذن هو كلام الله، اذ انتم مضطرون الى قبول هذا، لأنكم لاتستطيعون القول بـ((حسن)) حسب مسلككم.

وكذا ان قيل لهم: كيف تعرفون الرسول e ؟

فسيقولون: انه انسان ذو اخلاق حسنة وعقل راجح، وعندها يقال لهم:

اذاً عليكم الايمان به، لانه إن كان ذا اخلاق حسنة، وعقل راجح فانه رسول الله، لأن قولكم ((حسن)) لايوجد في مسلككم..

وهكذا يمكن تطبيق سائر جهات الحقيقة على بقية اشارات التمثيل.

فبناءاً على هذا:

فان ذلك المبحث الاول الذي يتضمن المناظرة مع الشيطان ينجي ايمان اهل الايمان بأدنى أمارة واصغر دليل دون ان يكونوا بحاجة الى معرفة المعجزات الاحمدية ببراهينها القاطعة.

اذ ان كل حال من الاحوال الاحمدية، وكل خصلة من الخصال المحمدية، وكل طور من الاطوار النبوية بمثابة معجزة من معجزاته e تبين وتثبت ان مقامه في اعلى عليين وليس في قعر البئر البتة.

المسألة السابعة

مسألة ذات عبرة:

لقد اضطررت الى بيان اكرام رباني وحماية الهية يخصان خدمة القرآن وحدها. بدلالة سبع امارات تشدّ القوة المعنوية لقسم من اصحابي الذين تعرضوا للشبهات واصابهم الفتور في العمل للقرآن. وذلك لكي أنقذ بعض اصحابي من مرهفي الاعصاب الذين يتأثرون بسرعة.

فالامارات السبعة، اربعة منها تعود لاشخاص كانوا اصدقاء واصحاب اتخذوا طور العداء لكوني خادماً للقرآن وليس لشخصي بالذات. وتلبسوا بهذا الطور لمقاصد دنيوية، فتلقوا الصفعات خلاف مقصودهم.

اما الامارات الثلاث الباقية فتعود لافراد كانوا اصدقاء ومخلصين حقيقيين، وهم لايزالون كذلك. الاّ انهم لم يُظهروا طور الرجولة والشهامة ـ الذي يقتضيه الوفاء والاخوة ـ كسباً لودّ اهل الدنيا واعجابهم بهم، وليغنموا مغنماً دنيوياً ويسلموا من المصائب والبلايا. ولكن اصحابي الثلاثة هؤلاء تلقوا عتاباً ـ مع الاسف ـ خلاف مقصودهم.

الشخص الاول: ممن كانوا اصدقاء في الظاهر ثم بدر منهم طور العداء، هو مدير مسؤول، طلب مني نسخة من كتاب (الكلمة العاشرة) بتوسل وإلحاح وبعدة وسائط، فاعطيته إياها، الاّ انه تقلد طور العداء وترك صداقتي علّه يترقى في الوظيفة، وسلّم الرسالة الى الوالي في صورة شكوى وإخبار عني، ولكنه عُزل من الوظيفة بدلاً من الترقي فيها، كأثر ٍمن آثار الاكرام الإلهي لخدمة القرآن.

الثاني: مدير مسؤول آخر، كان صديقاً، ولكنه اتخذ طور العداء والمنافس لالشخصي بالذات، وانما لكوني خادماً للقرآن الكريم، وذلك ليرضي رؤساءه، وليكسب اقبال اهل الدنيا وتوجههم نحوه، الاّ انه قوبل بلطمة خلاف مقصوده، فحكم في قضية لم تخطر له على بال، ثم رجا دعاءً من خادم للقرآن، فلعل الله ينجيه، فلقد دعي له.

الثالث: معلم مدرسة، كان صديقاً لنا في الظاهر، فاظهرتُ له وجه الصداقة الخالصة. الاّ انه اتخذ طور العداء ليُنقل الى ((بارلا)) فتلقى لطمة، خلاف مقصوده، اذ سيق الى الجندية فاُبعد عن ((بارلا)).

الرابع: معلم مدرسة، كنت أراه متديناً وحافظاً للقرآن الكريم فاظهرت له وجه الصداقة الخالصة، لعل اللهيرزقه العمل للقرآن، الاّ انه ـ بمجرد كلام من موظف مسؤول ـ اتخذ موقفاً متخاذلاً ومجافياً لنا لينال توجّه اهل الدنيا له، فجاءته لطمة تأديب خلاف مقصوده، اذ وبخّه مفتشه توبيخاً شديداً، ثم عُزل عن الوظيفة.

ان هؤلاء الاربعة ذاقوا لطمة تأديب لاتخاذهم طور العداء لخدمة القرآن.

اما الثلاثة الآخرون من اصدقائي الحقيقيين فقد تلقوا تنبيهاً ـ لا لطمة ـ لعدم اتخاذهم طور الرجولة والشهامة التي تقتضيها الصداقة والوفاء.

الاول: هو احد طلابي الجادين المخلصين الحقيقيين الذين حازوا اهمية (في الخدمة القرآنية) وهو شخص موقر فاضل كان يكتب (الكلمات) باستمرار وينشرها، الاّ انه خبأ (الكلمات) التي كتبها وترك الاستنساخ موقتاً بسبب مجئ مسؤول كبير غريب الاطوار ولوقوع حادثة معينة، وذلك لئلا يجابه عنتاً من اهل الدنيا ولايجد الضيق منهم، وليأمن شرهم.

والحال ان التقصير الناجم عن تعطيل العمل للقرآن أورثه ان يوضَع نصب عينيه دفع غرامة ألف ليرة لسنة كاملة، الاّ انه حالما نوى الاستنساخ وعاد الى وضعه السابق، تبرأ من تلك الدعوى المقامة عليه، وبرئت ساحته ولله الحمد، ونجا عن دفع ألف ليرة، وهو فقير الحال.

الثاني: صديق وفيّ شجاع شهم كان جاري منذ خمس سنوات، الاّ انه لم يلقني لبضعة اشهر، ولم يزرني حتى في شهر رمضان والعيد تهاوناً منه، وذلك لكسب توجه اهل الدنيا له ونيل رضاهم عنه، ولاسيما المسؤول الذي أتى حديثاً، لكن خاب أمله، ولقى خلاف مقصوده، اذ لم يعد لهذا المسؤول نفوذ كالسابق، حيث انتهت مسألة القرية.

الثالث: حافظ للقرآن، كان يزورني مرة او مرتين في الاسبوع، عيّن اماماً في جامع، وتركني ليتمكن من لبس العمامة، ولم يأتني حتى في العيد، الاّ انه لم يلبسها ـ خلافاً للعادة ـ وبعكس مقصوده، رغم انه ادّى الامامة زهاء ثمانية شهور.

وامثال هذه الحوادث كثيرة جداً، لاأذكرها لئلا أجرح شعور البعض، ولكنها مهما كانت حوادث منفردة قد تعد امارات ضعيفة الاّ ان اجتماعها تشعر بالقوة وتورث القناعة والاطمئنان ؛ باننا نعمل في ظل إكرام الهي وتحت رعاية ربانية من حيث خدمة القرآن الكريم، وليس من جهة شخصي بالذات، اذ لا أجد في نفسي ما يليق بأي إكرام إلهي مهما كان.

فعلى أصحابي الاحباب ان يدركوا هذا جيداً، والاّ يبالوا بالشبهات والاوهام. واني ابينها لهم خاصة لأن الاكرام اكرام إلهي من حيث الخدمة القرآنية، وان الامر ليس للفخر بل هو شكر لله. فالامر الالهي صريح في قوله تعالى:

} واما بنعمة ربك فحدث{ (الضحى:11) .



المسألة الثامنة

سؤال المثال الثالث من النقطة الثالثة للسبب الخامس من الاسباب المانعة للاجتهاد في الوقت الحاضر من الكلمة السابعة والعشرين

سؤال مهم: يقول بعض اهل العلم والتحقيق:

لما كانت الالفاظ القرآنية، والاذكار المأثورة، والتسبيحات الواردة، تنور شتى جوانب اللطائف المعنوية للانسان وتغذيه روحياً، الا يكون من الافضل ان يصوغ كل قوم تلك الالفاظ وفق لسانهم الخاص حتى تفهم معانيها؟ اذ الالفاظ وحدها لا تفي بالغرض المطلوب إذ هي في حقيقتها ألبسة وقوالب للمعاني؟

الجواب: ان الفاظ الكلمات القرآنية، والتسبيحات النبوية، ليس لباساً جامداً يقبل التبديل والتغيير وانما مثله مثل الجلد الحي للجسد، بل انها اصبحت فعلاً جلداً حياً بمرور الزمن، ولا جدال في ان تبديل الجلد وتغييره يضر الجسم.

ثم ان تلك الكلمات المباركة في الصلاة، والذكر، والاذان، اصبحت إسما و عَلَما لمعانيها العرفية والشرعية ولا يمكن تبديل الاسم والعلَم.

ولقد توصلتُ الى هذه الحقيقة، بعد التأمل والامعان في حالة مرت عليَّ، وهي:

عندما كنت أقرأ يوم يوم عرفة سورة الاخلاص مائة مرة مكرراً اياها باستمرار لاحظت:

ان قسماً من حواسي الروحية اللطيفة، بعدما اخذت غذاءها بالتكرار قد ملت وتوقفت؛ وان قوة التفكير فيّ قد توجهت الى المعنى، فأخذت حظها، ثم توقفت وملّت. وان القلب الذي يتذوق المعاني الروحية ويدركها، هو ايضاً قد سكت، بعدما اخذ نصيبه من التكرار.

بينما بالمواظبة والتكرار المستمر على القراءة رأيت ان قسماً من اللطائف في الكيان الانساني لا يمل بسرعة، فلا تضره الغفلة التي تضر قوة التفكير، بل انه يستمر ويداوم في اخذ حظه بحيث لا يدع حاجة الى التدقيق والتفكر في المعنى، اذ يكفيه المعنى العرفي الذي هو اسمٌ وعلَم، ويكفيه اللفظ والمعنى الاجمالي لتلك الالفاظ الغنية المشبعة. بل ربما يورث سآمة ومللاً حينما يبدأ التفكر يتوجه الى المعنى، ذلك لان تلك اللطائف لا تحتاج الى تعلّم وتفهيم بقدر ما هي بحاجة الى التذكر والتوجيه والحث.

لذا فان اللفظ الذي هو اشبه بالجلد يكفي لتلك اللطائف وفي اداء وظيفة المعنى، وخاصة ان تلك الالفاظ العربية هي مبعث فيض دائم، اذ تذكر بالكلام الإلهي والتكلم الرباني.

فهذه الحالة التي جربتها بنفسي تبين لنا:

ان التعبير باي لغة كانت غير اللغة العربية، عن حقائق الاذان وتسبيحات الصلاة، وسورة الاخلاص والفاتحة التي تتكرر دائما، ضار جداً. ذلك لان اللطائف الدائمة تبقى محرومة من نصيبها الدائم بعدما ان تفقد المنابع الحقيقية الدائمية التي هي الالفاظ الإلهية والنبوية. فضلاً عن انه يضيع في الاقل عشر حسنات لكل حرف. ولعدم دوام الطمأنينة والحضور القلبي لكل واحد في الصلاة، تبعث التعابير البشرية المترجمة عند الغفلة ظلمتها في الروح.. وامثالها من الاضرار الاخرى.

نعم، فكما قال الامام ابو حنيفة رضي الله عنه ان: (لا إله إلا الله) علم للتوحيد. كذلك نقول:

ان الاكثرية المطلقة لكلمات التسبيحات والاذكار وخاصة كلمات الاذان والصلاة والذكر، اصبحت بمثابة الاسم والعَلَم، فتُنظر الى معانيها العرفية الشرعية اكثر من النظر الى معانيها اللغوية، لذا لا يمكن شرعاً تبديلها مطلقاً.

اما معانيها التي لابد ان يفهمها كل مؤمن، فان اي شخص عامي يمكنه ان يفهم ويتعلم مجمل معانيها في اقصر وقت. فكيف يعذر ذلك المسلم الذي يقضي عمره مالئاً فكره وعقله بما لا يعنيه من الامور ولا يصرف جزءاً ضئيلاً من وقته لفهم تلك المعاني التي هي مفاتيح حياته الابدية وسعادته الدائمة. بل كيف يعتبر من المسلمين وكيف يقال عنه انه انسان عاقل!!

فهل من العقل في شئ ان تفسد تلك الالفاظ التي هي مستودع منابع تلك الانوار لاجل تقاعس هؤلاء الكسالى؟!

ثم انه عندما يقول أي مؤمن، بأي لغة يتكلم: ((سبحان الله)) فانه يعلم انه يقدس ربه جل وعلا.. الا يكفي هذا القدر؟! بينما اذا حصر اهتمامه بالمعنى المجرد، بلسانه الخاص، فانه لا يتعلم الا حسب تفكيره وعقله، الذي يأخذ حظه ويفهم مرة واحدة، والحال انه يكرر تلك الكلمة المباركة اكثر من مائة مرة يومياً ففضلاً عن ذلك الفهم العقلي فان المعنى الاجمالي الذي سرى في اللفظ وامتزج معه هو مبعث انوار وفيوضات كثيرة جداً، ولاسيما ان تلك الالفاظ العربية لها اهميتها وقداستها وانوارها وفيوضاتها، حيث انها كلام إلهي.

ومجمل القول: انه لا يمكن ان يقوم مقام الالفاظ القرآنية التي هي محافظ ومنابع للضروريات الدينية اي لفظ آخر، ولا يمكن لاي لفظ آخر ان يحل محلها قطعاً، ولا ان يؤدي الغرض منها لقدسيتها، وسموها، ودوامها، وان ادى مؤقتاً جزءاً ضئيلاً منها. اما الامور الدينية من غير الضروريات فليس هناك حاجة الى تبديل الفاظها ايضاً لان تلك الحاجة تندفع بالمواظبة على النصيحة والارشاد والوعظ.

والنتيجة: ان شمولية اللغة العربية الفصحى وسعتها، والبيان المعجز في الالفاظ القرآنية، تحولان دون ترجمة تلك الالفاظ، ولذلك لا يمكن ترجمتها قطعاً، بل انه محال. ومن كان يساوره الشك في هذا فليراجع (الكلمة الخامسة والعشرين) في المعجزات القرآنية ليرى منزلة الآية الكريمة باعجازها وتشعبها وشمولها وجمالها ومعناها الرفيع واين منها ((الترجمة)) التي هي معنى مبتور بل ناقص وقاصر.

المسألة التاسعة

مسألة مهمة خاصة تكشف سراً من اسرار الولاية

ان اهل الحق والاستقامة الذين يطلق عليهم ((اهل السنة والجماعة، وهم يمثلون الغالبية العظمى في العالم الاسلامي، قد قاموا بحفظ حقائق القرآن والايمان كما هي على محجتها البيضاء الناصعة، وذلك باتباعهم السنة الشريفة بحذافيرها كما هي، دون نقص أو زيادة، فنشأت الاكثرية المطلقة من الاولياء الصالحين من هذه الجماعة. ولكن شوهد أولياء آخرون في طريق تخالف أصول أهل السنة والجماعة، وخارجة عن قسم من دساتيرهم، فانقسم الناظرون في شأن هؤلاء الاولياء الى قسمين:

الاول:

هم الذين انكروا ولايتهم وصلاحهم، وذلك لمخالفتهم اصول اهل السنة والجماعة بل قد ذهبوا الى أبعد من الانكار، حيث كفّروا عدداً منهم.

أما الاخر:

فهم الذين اتبعوهم وأقروا ولايتهم، ورضوا عنهم، لذا قالوا:إن الحق ليس محصوراً في سبيل اهل السنة والجماعة. فشكلوا بهذا القول فرقة مبتدعة وانساقوا الى الضلال. ناسين أن المهتدي لنفسه ليس من الضروري ان يكون هادياً لغيره، ولئن كان شيوخهم يُعذرون على ما ارتكبوا من أخطاء لأنهم مجذوبون، الا انهم لا يعذرون في اتباعهم لهم.

وهناك قسم ثالث:

سلكوا طريقاً وسطاً، حيث لم ينكروا ولاية اولئك الاولياء وصلاحهم، الا أنهم لم يرضوا بطريقتهم ومنهجهم، وقالوا: ان ما تفوهوا به من الاقوال المخالفة للاصول الشرعية، اما انها ناشئة عن غلبة الاحوال عليهم مما جعلهم يخطئون، أو انها شطحات شبيهة بالمتشابهات التي لا تعرف معانيها ولا تفهم مراميها.

فالقسم الاول ولاسيما علماء اهل الظاهر قد انكروا ولاية كثير من اولياء عظام - مع الاسف - وذلك بنية الحفاظ على طريق اهل السنة، بل ذهبوا مضطرين الى الحكم بضلالهم تحدوهم تلك النية.

أما الآخرون المؤيدون لهم، فقد تركوا طريق الحق وأداروا ظهورهم لها، لما يحملون من حسن الظن المفرط بشيوخهم، بل حصل انجراف قسم منهم الى الضلال فعلاً.

وبناء على هذا السر، فقد كانت هناك حالة تشغل فكري كثيراً وهي:

انني دعوت الله بهلاك قسم من اهل الضلال في وقت مهم، ولكن قوة معنوية رهيبة صدت دعائي عليهم، وردّت عليّ ذلك الدعاء، ومنعتني من القيام بمثله. ثم رأيت ان ذلك القسم من ارباب الضلال انما يوغلون في اجراءاتهم الباطلة ويتمادون في مجانبة الحق، ويجرون الناس خلفهم الى الهاوية بتيسير وتسهيل من قوة معنوية، فيوفــّقون في أعمالهم لا بالاكراه وحده بل ينساق ايضاً قسم من المؤمنين وينخدعون بهم لامتزاجهم بميل من جانب قوة الولاية، فيسامحهم هؤلاء المؤمنون ولا يرونهم على فساد كبير!

وحينما شعرت بهذين السرين تملكتني دهشة ورهبة، فقلت متعجباً:

يا سبحان الله! هل يمكن ان تكون ولاية في غير طريق الحق؟ وهل يمكن ان يوالي أهل الحقيقة والولاية تيار ضلالة رهيبة؟

ثم كان في يوم مبارك من أيام عرفة المشهودة، اذ قرأت سورة الاخلاص مائة مرة وكررتها مرات ومرات اتباعاً لعادة اسلامية مستحسنة، فوردت الى قلبي العاجز من لدن الرحمة الإلهية ببركة تلك القراءة، الحقيقةُ الآتية فضلاً عما ورد من ((جواب عن مسألة مهمة)):

والحقيقة هي:

ان قسماً من الاولياء مع ما يبدو منهم من حصافة ورشد، ولهم محاكمات عقلية منطقية الا انهم مجذوبون. فهم اشبه بـ ((جبالى بابا)) الذي تروى قصته عن زمن السلطان محمد الفاتح، تلك القصة المشهورة ذات العبرة(1).

وان قسماً آخر من الأولياء مع انهم ضمن نطاق العقل والصحو والرشاد، الا انهم يتلبسون احياناً حالات خارجة عن طور العقل والمحاكمات المنطقية. وان صنفاً من هذا القسم هم أهل التباس، أي يلتبس عليهم الأمر فلا يميزون، اذ ما يرونه من مسألة ما في حالة السكر يطبقونه في حالة الصحو. فيخطئون ولا يدركون انهم يخطئون.

أما المجذوبون، فقسم منهم محفوظون عند الله، لا يضلون ولا ينساقون مع أهله، بينما قسم آخر منهم ليسوا محفوظين عند الله، فلربما يكونون ضمن فرق اهل البدعة والضلالة، بل هناك احتمال ان يكونوا ضمن الكفار.

وهكذا. فلأنهم مجذبون - سواء أكانوا بصورة مؤقتة أم دائمة - فهم في حكم مجانين طيبين مباركين - اي ينسحب عليهم حكمهم - ولأنهم مجانين مباركين طليقون في تصرفاتهم فليسوا مكلفين، ولأنهم غير مكلفين فلا يؤاخذون على تصرفاتهم. فمع ان ولايتهم المجذوبة محفوظة يوالون أهل البدع فيروجون مسالكهم الى حد ما ويكونون سبباً سيئاً مشؤوماً في دخول قسم من المؤمنين واهل الحق في ذلك المسلك.

المسألة العاشرة

كتبتْ هذه المسألة بناء على تذكير بعض الأصدقاء في بناء قاعدة تخص الزائرين

ليكن معلوماً لدى الجميع، ان الذي يزورنا اما انه يأتي الينا لأجل امور تخص الحياة الدنيا. فذلك الباب مسدود.

او أنه يأتي الينا من حيث الحياة الآخرة. ففي تلك الجهة بابان: فاما انه يتصور انني رجل مبارك صاحب مقام عند الله ولأجل هذا يأتي الينا، هذا الباب ايضاً مسدود. اذ لا تعجبني نفسي ولا يعجبني من يعجب بي. فحمداً لله اجزل حمد اذ لم يجعلني راضياً عن نفسي.

أما الجهة الاخرى فهو يأتي الينا لكوني خادماً للقرآن ودلالاً له وداعياً اليه ليس إلاّ. فمرحباً واهلاً وسهلاً وعلى العين والرأس لمن يأتينا من هذا الباب.

وهؤلاء ايضاً على ثلاثة انماط.

فاما انه صديق، او انه اخ، او انه طالب.

فخاصية الصديق وشرطه:

ان يكون مؤيداً تأييداً جاداً لعملنا في نشر الانوار القرآنية (رسائل النور)، وان لا يميل الى الباطل والبدع والضلالة قلباً، وان يسعى ايضاً ليفيد نفسه.

وخاصية الاخ وشرطه:

ان يكون ساعياً سعياً حقيقياً وجاداً لنشر الرسائل، فضلاً عن ادائه الصلوات الخمس، واجتنابه الكبائر السبع.

وخاصية الطالب وشرطه:

ان يعد رسائل النور كأنها من تأليفه هو، وانها تخصه بالذات، فيدافع عنها وكأنها ملكه، ويعتبر نشر تلك الانوار والعمل لها اجلّ وظيفة لحياته.

فهذه الطبقات الثلاث تتعلق بالجوانب الثلاث لشخصيتي.

فالصديق يرتبط بشخصيتي الذاتية. والاخ يرتبط بشخصيتي العبدية اي كوني اؤدي مهمة العبودية لله سبحانه. اما الطالب فهو يرتبط بي من حيث كوني داعياً ودلالاً للقرآن الحكيم ومرشداً اليه.

وهذا النوع من اللقاء له ثلاث ثمرات:

الاولى:

اخذه لجواهر القرآن درساً مني او من رسائل النور ولو كان درساً واحداً، هذا من حيث الدعوة الى القرآن.

الثانية:

يكون مشاركاً لي في ثوابي الاخروي. وهذا من حيث العبودية لله.

الثالثة:

نتوجه معاً الى الرحمة الإلهية مرتبطين قلباً متساندين في خدمة القرآن ونسأله التوفيق والهداية.

فان كان طالباً فهو حاضر معي صباح كل يوم باسمه واحياناً بخياله.

وان كان اخاً فهو حاضر معي في دعائي على دفعات باسمه وبصورته فيشاركني في الثواب و الدعاء ثم يكون ضمن جميع الاخوان واسلّمه الى الرحمة الإلهية، اذ عندما اقول في ذلك الدعاء: اخوتي واخواني، فهو منهم، ان لم اكن اعرفه انا بالذات فالله اعلم به وابصر.

وان كان صديقاً فهو داخل ضمن دعائي باعتباره من الاخوة عامة اذا ما ادّى الفرائض واجتنب الكبائر.

وعلى هؤلاء الطبقات الثلاث ان يجعلوني ضمن كسبهم الاخروي ايضاً.



اللهم صل على من قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بـعضه بعضاً وعلى آله وصحبه وسلم.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

(وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق).

اللهم يا من اجاب نوحاً في قومه، ويا من نصر ابراهيم على اعدائه، ويا من ارجع يوسف الى يعقوب، ويا من كشف الـضر عن ايوب، ويا من اجاب دعوة زكريا، ويا من تقبّل يونس ابن متى..

نسألك باسرار اصحاب هذه الدعوات المستجابات ان تحفظني وتحفظ ناشر هذه الرسائل ورفقاءهم من شر شياطين الانس والجن.

وانصرنا على اعدائنا

ولا تكلنا الى انفسنا

واكشف كربتنا وكربتهم

واشف امراض قلوبنا وقلوبهم

آمين.آمين .آمين

المكتوب السابع والعشرون



هذا المكتوب يضم رسائل لطيفة جميلة وعين الحقيقة كتبها مؤلف رسائل النور وبعثها الى طلابه، علاوة على رسائل بعثها طلاب رسائل النور الى استاذهم، واحياناً بعضهم الى بعض، يعبّرون فيها عمّا استفاضوه من اذواق سامية لدى مطالعتهم لرسائل النور. فاصبح هذا المكتوب الغني جداً بهذه الرسائل. باربعة اضعاف حجم هذا المجلد لذا سينشر مستقلاً باسم ((الملاحق)) وهي ملحق بارلا وملحق قسطموني وملحق اميرداغ.

عبدالرزاق 02-03-2011 11:56 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثامن والعشرون

هذا المكتوب عبارة عن ثماني مسائل

المسألة الاولى

وهي الرسالة الاولى

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} إنْ كنتم للرُؤيا تَعبرون{ (يوسف:43)

ثانياً: انكم تطلبون ياأخي تعبير رؤياكم القديمة التي رأيتموها قبل ثلاث سنوات، وقد ظهر تعبيرها وتأويلها بعد ثلاثة ايام من لقائك اياي. أوَ ليس لي الحق اذن أن أقول ازاء تلك الرؤيا اللطيفة المباركة المبشرة والتي مرّ عليها الزمن واظهر معناها:

نه شبم هة شـــــب برســــتم من غلام شمسم از شمس مى كويم خبر(1)

آن خيالاتى كه دام اولياســـــت عكــس مهرويان بوســـتان خداســت(2)

نعم! ياأخي! لقد اعتدنا ان نتذاكر معاً درس الحقيقة المحضة، لذا فان بحث الرؤى التي بابها مفتوح للخيالات بحثاً علمياً لايلائم مسلك التحقيق العلمي ملائمة تامة، ولكن لمناسبة تلك الحادثة الجزئية في النوم، نبين ست نكات تخص النوم الذي هو صنو الموت. نبينها بياناً علمياً مبنياً على القواعد والدساتير مستنبطة من الحقيقة بالوجه الذي تشير اليه الآيات القرآنية، ونورد في النكتة السابعة تعبيراً مختصراً لرؤياك.

النكتة الاولى: ان آيات كثيرة في القرآن الكريم مثل: } وجعلنا نومكم سباتا{ (سورة النبأ:9).. وكذلك الرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام ـ التي هي أساس مهم لسورة يوسف ـ تبين أن حقائق جليلة تستتر وراء حجبٍ في النوم والرؤيا.

النكتة الثانية: ان اهل الحقيقة لايحبذون استخراج الفأل من القرآن الكريم. ولايميلون الى الاعتماد على الرؤيا: لأن القرآن الكريم يزجر الكفار بكثرة زجراً شديداً، وقد يقابل المتفئل بالقرآن تلك الآيات الزاجرة فتورثه اليأس ويضطرب قلبه ويقلق.

وكذا الرؤيا قد تظهر بما يخالف الواقع والحقيقة فيتصورها الانسان شراً رغم انها خير، فتدفعه الى سوء الظن والسقوط في اليأس، ونقض عرى قواه المعنوية. فهناك كثير من الرؤى ظاهرها مخيف، مضر، قبيح، إلاّ أن تعبيرها حسن جداً، ومعناها جميل. وحيث ان كل انسان لايستطيع ان يجد العلاقة بين صورة الرؤيا وحقيقة معناها، فيقلق ويحزن ويضطرب دون داعٍ.

ولاجل هذه الأمور قلتُ في صدر البحث كالامام الرباني وكما يقول أهل التحقيق العلمي: نه شبم نه شب برستم

النكتة الثالثة: لقد ثبت في الحديث الصحيح ان الرؤيا الصادقة جزء من أربعين جزءاً من النبوة(1).

بمعنى ان الرؤيا الصادقة حق، ولها علاقة بمهمات النبوة.

وهذه المسألة الثالثة مهمة للغاية وطويلة وعميقة، ولها علاقة بوظائف النبوة، لذا نؤجلها الى وقت آخر بمشيئة الله ونسد هذا الباب.

النكتة الرابعة: الرؤيا على انواع ثلاثة: اثنان منها داخلان ضمن ((أضغاث احلام)) كما عبّر عنها القرآن الكريم، وهما لايستحقان التعبير ولاأهمية لهما، وان كان لهما معنى. إذ إما ان الرؤيا ناشئة من تصوير تصنعه قوة خيال الانسان المصاب بانحراف في مزاجه، وتركبّه حسب نوع ذلك الانحراف.

او انها ناشئة من تخطر الخيال لحوادث مثيرة، قد رآها الانسان نهاراً او قبل يوم او حتى قبل سنة او سنتين. فيعدّلها الخيال ويصوّرها ويلبسها شكلاً.

فهذان القسمان من قبيل ((أضغاث احلام)) لايستحقان التعبير.

اما القسم الثالث، فهو الرؤيا الصادقة، ان اللطيفة الربانية الموجودة في ماهية الانسان تجد علاقة لها مع عالم الغيب، وتفتح منفذاً اليه بعد انقطاع الحواس والمشاعر المربوطة بعالم الشهادة والمتجولة فيه، وبعد توقفها عن العمل. فتنظر اللطيفة الربانية بذلك المنفذ الى حوادث تتهيأ للوقوع، وقد تلاقي أحد جلوات اللوح المحفوظ او أنموذجاً من نماذج كتابات القَدر، فترى بعض الوقائع الحقيقية، ولكن الخيال يتصرف أحياناً في تلك الوقائع ويلبسها ملابس الصور. ولهذا القسم أنواع كثيرة وطبقات كثيرة. فأحياناً تقع الحادثة كما رآها الشخص واحياناً تظهر الحادثة وراء ستار خفيف واحياناً تتستر بستاركثيف سميك.

وقد ورد في الحديث الصحيح؛ ان الرؤيا التي كان يراها الرسول الكريم e في بدء الوحي كانت واضحة صادقة ظاهرة كفلق الصبح(1).

النكتة الخامسة: ان الرؤيا الصادقة عبارة عن زيادة في قوة ((الحس قبل الوقوع)) وهذا الاحساس موجود في كل انسان جزئياً او كلياً، بل موجود حتى في الحيوانات.

ولقد وجدت ـ في وقت ما ـ ان هناك حاستين في الانسان والحيوان من غير الحواس الظاهرة والباطنة ـ وهما حاستان من قبيل الحس قبل الوقوع ـ وهما حاسة ((السائقة)) وحاسة ((الشائقة)) كحاستي ((الباصرة)) و ((السامعة)) من الحواس المشهورة. اي؛ حاسة تدفع واخرى تشوّق.

ويطلق اهل الضلال والفلسفة على تلك الحواس غير المشهورة لحماقتهم خطأً اسم ((الدافع الطبيعي)).. كلا .. انها ليست دافعاً طبيعياً، بل نوع من إلهام فطري، يسوق به القدر الآلهي الانسان والحيوان.

فمثلاً: القط وماشابهه من الحيوانات، عندما يفقد بصره يفتش بذلك الدفع القدري عن نوع معين من النبات ويضعه على عينه ويشفى من المرض.

وكذلك النسر وما شابهه من الطيور الجارحة الآكلة للحوم ـ الموظفات الصحيات لتنظيف سطح الارض من جثث حيوانات البراري ـ هذه الطيور تعلم بوجود جثة حيوانٍ على مسافة يوم، وتجدها بذلك السَوق القَدري، وبإلهام الحس قبل الوقوع.

وكذلك صغير النحل الذي لم يمر عليه الاّ يوم واحد، يطير الى مسافة يوم كامل في الهواء ثم يعود الى خليته دون ان يضيّع أثره، وذلك بالسَوق القَدري، وبالهام ذلك السَوق والدفع.

حتى ان كل انسان قد مرّ بلاشك بكثير من الوقائع المتكررة، فهو عندما يذكر اسم شخص ما، اذا بالباب ينفتح ويدخل الشخص المذكور، من غير ان يتوقعوا قدومه. حتى قيل في الامثال الكردية:

ناف كربينه بالاندار لى ورينه

اي؛ حالما تذكر الذئب، هئ الهراوة، فالذئب قادم.

بمعنى ان اللطيفة الربانية ـ بحس قبل الوقوع ـ تشعر بمجئ ذلك الشخص إحساساً مجملاً، ولكن لعدم احاطة شعور العقل به، فان الشخص ينساق الى ذكر ذلك الشخص دون قصد واختيار.

ويفسّر أهلُ الفراسة ذلك بما يشبه الكرامة، حتى كانت عندي حالة من هذا النوع من الاحساس بصورة فائقة، فأردتُ أن أضع تلك الحالة ضمن قاعدة واضبطها في دستور، ولكن لم اُوفّق ولم استطع ذلك. ولكن لدى اهل التقوى والصلاح ولاسيما الاولياء الكرام يزداد هذا الإحساس قوة ويبين آثاراً ذات كرامة.

وهكذا، ففي الرؤيا الصادقة نيلٌ لنوع من الولاية لعوام الناس اذ يرون فيها بعض الأمور المستقبلية والغيبية كما يراها الأولياء.

وكما ان النوم من حيث الرؤيا الصادقة في حكم مرتبة من مراتب الولاية لدى العوام، كذلك فهي للناس عامة متنزه جميل، رائع لرؤية مشاهد حوادث ربانية ـ كمشاهد السينما ـ ولكن مَن كان ذا خلق حسن فانه يفكر تفكيراً حسناً فيرى ألواحاً جميلة ومناظر حسنة، بعكس السئ الخلق الذي لايتصور الاّ السيئات لذا لايرى الاّ المناظر السيئة والقبيحة.

وكذلك؛ فالنوم نافذة تطل على عالم الغيب من عالم الشهادة، وهو ميدان طليق للناس المقيدين الفانين.وينال نوعاً من البقاء حتى يكون الماضي والمستقبل في حكم الحاضر. وهو موضع راحة لذوي الأرواح الذين ينسحقون تحت المشاق وتكاليف الحياة المرهقة.

ولاجل هذه الاسرار وأمثالها يرشد القرآن الكريم الى حقيقة النوم في آيات عديدة، كقوله تعالى } وجعلنا نومكم سباتاً{ (النبأ: 9).

النكتة السادسة: وهي المهمة:

لقد بلغت عندي مبلغ اليقين القاطع، و ثبت بكثير من تجاربي الحياتية ان الرؤيا الصادقة حجة قاطعة على ان القدر الآلهي محيط بكل شئ.

ولقد بلغت عندي هذه الرؤى ـ ولاسيما في السنين القريبة الفائتة ـ درجة الثبوت والقطعية. اذ كنت أرى ليلاً أبسط المحاورات، وأتفه المعاملات، وأصغر الامور التي ستقع غداً. فكنت أقرأها ليلاً بعيني، لاأتكلم بها بلساني، حتى ايقنت ان الرؤيا مكتوبة ومعينة قبل مجيئها.

ولم تكن هذه التجارب التي مرّت عليّ تجارب قليلة ومنفردة ولم تكن مائة تجربة بل ألفاً من التجارب، حتى كنت أرى في المنام اشخاصاً لم أفكر فيهم قط ومسائل لم تخطر ببالي، واذا باولئك الاشخاص أراهم في النهار التالي لتلك الليلة، وتجري تلك المسائل، مع تعبير قليل. بمعنى؛ ان أصغر حادثة من الحوادث مقيدة ومسجلة في القدر الآلهي قبل مجيئها الى الحدوث، فلا مصادفة قطعاً، والحوادث ليست سائبة وليست عشوائية.

النكتة السابعة: ان تعبير رؤياك المباركة المبشرة بالخير، خير لنا وللعمل القرآني، ولقد عبّر الزمان وما زال يعبّر عنها، ولم يدع لنا حاجة الى التعبير، فضلاً عن ظهور قسم من تعبيرها في الواقع.

ولو دققت النظر، تدرك ذلك. الاّ أننا نشير الى بعضٍ من نقاطها فقط. اعني أننا نبين حقيقة من الحقائق، والحوادث التي هي من قبيل رؤياك هي تمثلات تلك الحقيقة. وذلك: ان ذلك الميدان الواسع هو العالم الاسلامي وما في نهايته من مسجد هو ولاية اسبارطة، والماء المتعفن المخلوط بالطين هو مستنقع الحال الحاضرة الملوثة بالسفه والبدع والتعطل.. وانت قد سلمت منه ولم تتلوث بفضل الله فوصلت المسجد بسرعة، وهذه اشارة الى انك ستظل سليماً معافى من اللوثات، ولايفسد قلبك، وتمتلك الانوار القرآنية قبل الناس الاخرين.

اما الجماعة الصغيرة في المسجد فهم حمَلَة ((الكلمات)) من امثال: ((حقي، خلوصي، صبري، سليمان، رشدي، بكر، مصطفى، علي، زهدي، لطفي، خسرو، رأفت))، والكرسي الصغير هو قرية صغيرة كـ((بارلا)) . اما الصوت العالي فهو اشارة الى قوة ((الكلمات)) وسرعة انتشارها.

اما المقام الذي خصص لك في الصف الاول، فهو الموقع الذي اُحيل اليك من "عبدالرحمن،. وتلك الجماعة الشبيهة باجهزة اللاسلكي، اشارة الى بث الدرس الايماني الى انحاء العالم كافة واسماعهم اياه، وسيظهر تعبيره في المستقبل تماماً باذن الله. اذ ان أفرادها في حكم النوى الصغيرة - في الوقت الحاضر - وسيكونون باذن الله في حكم شجرة باسقة، ومراكز بث.

وذلك الشاب المعمم هو رمز لشاب في صفوف الناشرين والطلاب، سيكون متكاتفاً مع خلوصي وربما يسبقه. وانا أظنه أحدهم ولكن لا أجزم به. وسيبرز ذلك الشاب في الميدان بقوة الولاية.

اما بقية النقاط فعبّر عنها انت بدلاً مني.

ان الحديث معكم ـ حديثاً طويلاً ـ لذيذ وممتع ومقبول، لذا أطنبت في الكلام في هذه المسألة القصيرة، وربما اسرفت فيه، ولكن لانني شرعت بالبحث بنية الاشارة الى تفسير آيات قرآنية تخص النوم، سيعفى عن ذلك الاسراف ان شاء الله، وربما لايعدّ اسرافاً.

المسألة الثانية

وهي الرسالة الثانية

كتبت هذه المسألة لأجل حل الإشكال ورفع المناقشة الدائرة حول حديث شريف يذكر فيه ان سيدنا موسى عليه السلام قد لطم عين سيدنا عزرائيل عليه السلام(1).

طرق سمعي ان مناقشة علمية جرت في ((اكريدير))(2) ان اجراء تلك المناقشة خطأ، ولاسيما في هذا الوقت بالذات.

وقد سئلت انا ايضاً - ولا علم لي بالمناقشة - وأروني حديثاً نبوياً شريفاً(3) في كتاب موثوق يعتمد عليه، قد أشير فيه الى الحديث برمز (ق) للدلالة على أنه ((متفق عليه)).. واستفسروا: أهذا حديث نبوي أم لا؟.

قلت لهم: نعم! انه حديث نبوي شريف، ينبغي لكم الاعتماد والوثوق بالذي حكم باتفاق الشيخين على الحديث المذكور، في مثل هذا الكتاب الموثوق.. ولكن كما ان في القرآن الكريم آيات متشابهات، ففي الحديث الشريف ايضاً متشابهات، لا يدرك معانيها الدقيقة الاّ خواص العلماء.

وقلت ايضاً: ربما يدخل ظاهر هذا الحديث الشريف ضمن قسم المتشابهات من مشكلات الحديث.

فلو كنت على علم بالمناقشة التي جرت حول الحديث المذكور، لما كنت اقتصر جوابي على ما قلت، بل كنت اجيب بما يأتي:

اولاًــ أن الشرط الأول في مناقشة هذه المسائل وامثالها هو:

أن تكون المذاكرة في جو من الانصاف.. وان تجري بنية الوصول الى الحق.. وبصورة لا تتسم بالعناد.. وبين من هم أهل للمناقشة.. دون أن تكون وسيلة لسوء الفهم وسوء التلقي.

فضمن هذه الشروط قد تكون مناقشة هذه المسألة وما شابهها جائزة.

أما الدليل على ان المناقشة هي في سبيل الوصول الى الحق فهو:

ان لا يحمل المناقش شيئاً في قلبه.. ولا يتألم ولا ينفعل اذا ما ظهر الحق على لسان الطرف المخالف له، بل عليه الرضى والاطمئنان، اذ قد تعلّم ما كان يجهله، فلو ظهر الحق على لسانه لما ازداد علماً وربما اصابه غرور.

ثانياً - ان كان موضوع المناقشة حديثاً شريفاً فينبغي معرفة: مراتب الحديث.. والاحاطة بدرجات الوحي الضمني.. واقسام الكلام النبوي.

ولا يجوز لأحد مناقشة مشكلات الحديث بين العوام من الناس.. ولا الدفاع عن رأيه اظهاراً للتفوق على الآخرين... ولا البحث عن ادلة ترجّح رأيه وتنمّي غروره على الحق والانصاف.

ولكن لما كانت المسألة قد طُرحت، واصبحت مدار نقاش، فستؤدى تأثيرها السئ في افهام العوام الذين يعجزون عن استيعاب امثال هذه الاحاديث المتشابهة.

اذ لو انكرها أحدهم فقد فتح لنفسه باباً للهلاك والخسران، حيث يسوقه هذا الانكار الى انكار احاديث صحيحة ثابتة. ولو قَبِل بما يفيد ظاهر الحديث من معنى، وتحدّث به ونشره بين الناس، فسيكون سبباً لفتح باب اعتراضات اهل الضلالة على الحديث الشريف، واطلاق ألسنتهم بالسوء عليه، وقولهم: انه خرافة!.

ولما كانت الانظار قد لفتت الى هذا الحديث الشريف المتشابه دون مبرر، بل بما فيه ضرر. وان هناك احاديث اخرى متشابهة له بكثرة؛ يلزم بيان ((حقيقة)) دفعاً للشبهات وازالة للاوهام.. اقول: ان ذكر هذه ((الحقيقة)) ضروري بغض النظر عن ثبوت الحديث.

سنشير الى تلك الحقيقة اشارة مجملة، مكتفين بما ذكرناه من تفاصيل في رسائل النور (منها الغصن الثالث من الكلمة الرابعة والعشرين والغصن الرابع منها، والاساس الخاص بأقسام الوحي في مقدمة المكتوب التاسع عشر).

والحقيقة هي:

ان الملائكة لا ينحصرون في صورة معينة واحدة كالانسان، وانما هم في حكم الكلي، رغم ان لهم تشخصاتهم.

فعزرائيل عليه السلام هو ناظر الملائكة الموكلين بقبض الارواح ورئيسهم.

سؤال: هل عزرائيل عليه السلام هو الذي يقبض الارواح بالذات، أم أن أعوانه هم الذين يقبضونها.

الجواب: هناك ثلاثة مسالك بهذا الخصوص:

المسلك الأول:

ان عزرائيل عليه السلام هو الذي يقبض روح كل فرد. فلا يمنع فعل هنا فعلاً هناك؛ لأنه نوراني، والشئ النوراني يمكنه ان يحضر ويتمثل بالذات في اماكن غير محدودة، بوساطة مرايا غير محدودة. فتمثلات النوراني تملك خواصه. وتعتبر عينه وليست غيره. فتمثلات الشمس في المرايا المختلفة مثلما تُظهر ضوء الشمس وحرارتها، فان تمثلات الروحانيين - كالملائكة - تُظهر ايضاً خواصها في المرايا المختلفة في عالم المثال، فهي عين اولئك الروحانيين وليست غيرهم. فالملائكة يتمثلون في المرايا حسب قابليات المرايا، فمثلاً:

عندما كان جبرائيل عليه السلام يتمثل امام الرسول e في مجلس الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في صورة الصحابي ((دحية الكلبي)) كان يتمثل في اللحظة نفسها في الوف الاماكن في صور مختلفة، كما يسجد تحت العرش الاعظم مطبقاً الآفاق باجنحته الواسعة المهيبة شرقاً وغرباً، فله اذاً تمثل في كل مكان حسب قابلية ذلك المكان، وله حضور في آن واحد في الوف الأماكن.

وهكذا، فحسب هذا المسلك: ليس محالاً قط، ولا هو بأمر فوق المعتاد، ولا هو أمر غير معقول، ان يتعرض مثال ملك الموت المتمثل للانسان عند قبض روحه - وهو مثال جزئي انساني - الى لطمة سيدنا موسى عليه السلام وهو الشخصية العظيمة المهيبة من اولي العزم من الرسل، ثم فقؤه لعين تلك الصورة المثالية لملك الموت، الذي لبس زي تلك الصورة.

المسلك الثاني هو:

ان الملائكة العظام من أمثال سيدنا جبرائيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام، كل منهم بمثابة ناظر عام ورئيس، لهم أعوان من نوعهم وممن يشبهونهم، ولكن بطراز اصغر، فهؤلاء المعاونون الصغار مختلفون حسب اختلاف المخلوقات الموكلين بهم. فالذين يقبضون ارواح الصالحين(1) يختلفون عن الذين يقبضون ارواح الطالحين، فهم طوائف مختلفة من الملائكة بمثل ما تشير اليه الآيات الكريمة:} والنازعات غرقا^ والناشطات نشطاً..{

فحسب هذا المسلك : فان سيدنا موسى عليه السلام، لم يلطم سيدنا عزرائيل عليه السلام، بل لطم الجسد المثالي لأحد أعوانه، وذلك بعنفوان النبوة الجليلة وبسطة جسمه وجلادة خلقه وحظوته عند ربه القدير. وهكذا يصبح الامر معقولاً جداً(2).

المسلك الثالث:

لقد بينّا في الاساس الرابع من الكلمة التاسعة والعشرين، وحسب دلالات احاديث نبوية شريفة: بان هناك من الملائكة من يملكون اربعين الف رأس، وفي كل رأس اربعون ألف لسان - اي لهم ثمانون الف عين ايضاً - وكل لسان يسبح باربعين ألف تسبيحة. فما دام الملائكة الموكلون موكلين حسب انواع عالم الشهادة، وهم يمثلون تسبيحات تلك الانواع في عالم الارواح، فلابد ان يكون لهم تلك الصورة والهيأة. لأن الارض - مثلاًـ وهي مخلوقة واحدة، تسبح لله. وهي تملك اربعين الف نوع من الانواع، بل مئات الالوف منها، والتي كل منها بحكم رؤوس مسبحة لها، ولكل نوع من الانواع الوف من الافراد التي هي بمثابة الألسنة.. وهكذا.

فالملك الموكل على الكرة الارضية ينبغي ان يكون له اربعون الف رأس، بل مئات الألوف من الرؤوس، ولابد ان يكون لكل رأس مئات الالوف من الألسنة.. وهكذا.

فبناء على هذا المسلك: فان عزرائيل عليه السلام له وجه متوجه الى كل فرد، وعين ناظرة الى كل فرد، لذا فلطمُ سيدنا موسى عليه السلام ليس هو لطمة على الماهية الشخصية لسيدنا عزرائيل - حاشاه - ولا على شكله الحقيقي، وليس فيه اهانة، ولا رد له، بل تصرفه هذا نابع من كونه راغباً في زيادة دوام مهمة الرسالة واستمرار بقائها، ولأجل هذا لطم - وله ان يلطم - تلك العين التي تراقب أجله، والتي تريد ان تنهي وظيفته على الارض. والله اعلم بالصواب ولا يعلم الغيب الاّ هو. قل انما العلم عند الله.

} هو الذي أنَزل عليك الكتاب مِنهُ آياتٌ محكمات هنّ أم الكتاب واُخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربّنا وما يذّكرُ إلا اولوا الالباب{ (آل عمران: 7).

الـمسألة الثالثة

وهي الرسالة الثالثة

هذه المسألة جواب خاص جداً، فيه شئ من السرية والخفاء عن سؤال عام يسأله الاخوة عامة سواء بلسان الحال او المقال.

والسؤال هو:

انك تقول لكل من يأتي لزيارتك:

((لا تنتظروا من شخصي همة ومدداً، ولا تعدوني شخصاً مباركاً، فأنا لست صاحب مقام. فكما يبلغ الجندي الاعتيادي أوامر مقام المشير، فانا كذلك ابلغ اوامر مشيرية معنوية رفيعة. وكما يقوم شخص مفلس لا يملك شيئاً بدور الدلال لدكان مجوهرات غالية جداً، فانا كذلك دلال امام دكان مقدس وهو القرآن الكريم)).

هكذا تقول لكل زائر قادم اليك، ولكن عقولنا تحتاج الى العلم كما ان قلوبنا تطلب الفيض وارواحنا تنشد النور.. وهكذا نطلب اشياء كثيرة بجهات شتى. ونأتي الى زيارتك علك تفي لنا بحاجاتنا، اذ نحن بحاجة الى صاحب ولاية وصاحب همة وكمالات اكثر من حاجتنا الى عالم. فان كان الأمر كما تقول، فقد أخطأنا اذن في زيارتك!.. هكذا يقول لسان حالهم.

الجواب: اسمعوا خمس نقاط، ثم تفكروا في زيارتكم هل هي مجدية أم انها لا طائل وراءها، ومن بعدها أحكموا ما شئتم!

النقطة الاولى:

خادم لسلطان عظيم أو جندي تحت امرته، يسلم الى القواد العظام والمشيرين الكبار هدايا السلطان وأوسمته الرفيعة ويجعلهم في امتنان ورضى. فان قال اولئك القواد والمشيرون: لِمَ نتنازل بتسلم النعم السلطانية واكرامه لنا من يد هذا الجندي البسيط؟! فلاشك ان ذلك يعد غروراً جنونياً.

وكذلك اذا اعجب ذلك الجندي بنفسه ولم يقم احتراماً للمشير خارج وظيفته وعدّ نفسه أعلى درجة منه، فليس ذلك الا بلاهة وجنوناً.

ولو تنازل أحد أولئك القواد الممتنين وذهب الى منزل ذلك الجندي البسيط، الذي لا يجد ضيُفه الكريم عنده سوى كسرة خبز، فسوف يرسل السلطان الذي يعلم حال خادمه الامين الى منزله طَبقاً من اطيب طعام والذه من مطبخه الخاص دفعاً للحرج عنه.

فكما ان الامر هكذا في خادم السلطان، كذلك خادم القرآن الصادق اذ مهما كان من عامة الناس، الا انه يبلغ اوامر القرآن الكريم باسم القرآن نفسه الى اعظم انسان من دون تردد ولا احجام ويبيع جواهر القرآن الثمينة جداً لأغنى انسان روحاً، بافتخار واعتزاز واستغناء من دون تذلل وتوسل.

فهؤلاء مهما كانوا عظاماً لا يمكنهم أن يتكبروا على ذلك الخادم البسيط اداءه لوظيفته. وذلك الخادم ايضاً لا يجد في نفسه ما يجعله يغتر امام مراجعة اولئك الافذاذ له، فلا يتجاوز حده.

واذا ما نظر بعض المعجبين بجواهر خزينة القرآن المقدسة الى ذلك الخادم نظر الولي الصالح واستعظموه، فخليق بالرحمة المقدسة للحقيقة القرآنية ان تمدهم وتفيض عليهم بهمتها من الخزينة الإلهية الخاصة من دون علم ذلك الخادم ومن دون تدخل منه لئلا يخجل خادمها ذاك امام ضيفه الكريم.

النقطة الثانية:

لقد قال الامام الرباني مجدد الالف الثاني احمد الفاروقي السرهندي: ((ان انكشاف حقيقة من حقائق الإيمان ووضوحها لهو أرجح عندي من الف من الاذواق والكرامات. ثم ان غاية جميع الطرق الصوفية ومنتهاها انما هي انكشاف الحقائق الإيمانية وانجلاؤها)).

فما دام رائداً عظيماً للطريقة يحكم بهذا الحكم، فلابد أن ((الكلمات)) التي تبين بوضوح تام الحقائق الايمانية والتي هي مترشحة من بحر الاسرار القرآنية تستطيع أن تعطي النتائج المطلوبة من الولاية.

النقطة الثالثة:

هوت صفعات عنيفة قبل ثلاثين سنة على رأس ((سعيد القديم)) الغافل، ففكــّر في قضية أن ((الموت حق)). ووجد نفسه غارقاً في الأوحال.. استنجد، وبحث عن طريق، وتحرى عن منقذ يأخذ بيده.. رأى السبل أمامه مختلفة.. حار في الأمر واخذ كتاب ((فتوح الغيب)) للشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه وفتحه متفائلاً، ووجد امامه العبارة الآتية:

أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداوي قلبك..(1) يا للعجب!. لقد كنت يومئذ عضواً في ((دار الحكمة الاسلامية))(2) وكأنما جئت اليها لأداوي جروح الأمة الإسلامية، والحال انني كنت أشد مرضاً واحوج الى العلاج من أي شخص آخر.. فالأولى للمريض أن يداوي نفسه قبل أن يداوي الآخرين.

نعم، هكذا خاطبني الشيخ: انت مريض.. ابحث عن طبيب يداويك!..

قلت: كن انت طبيبي أيها الشيخ!

وبدأت أقرأ ذلك الكتاب كأنه يخاطبني أنا بالذات.. كان شديد اللهجة يحطم غروري، فأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي.. فلم اتحمل، ولم اطق على تحمله.. لأني كنت اعتبر كلامه موجهاً الي.

نعم، هكذا قرأته الى ما يقارب نصفه.. لم استطع اتمامه.. وضعت الكتاب في مكانه، ثم احسست بعد ذلك بفترة بأن آلام الجراح قد ولت وخلفت مكانها لذائذ روحية عجيبة.. عدت اليه، وأتممت قراءة كتاب ((استاذي الأول)). واستفدت منه فوائد جليلة، وامضيت معه ساعات طويلة اصغي الى اوراده الطيبة ومناجاته الرقيقة.

ثم وجدت كتاب ((مكتوبات)) للأمام الفاروقي السرهندي، مجدد الألف الثاني فتفاءلت بالخير تفاؤلاً خالصاً، وفتحته، فوجدت فيه عجباً.. حيث ورد في رسالتين منه لفظة ((ميرزا بديع الزمان)) فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، اذ كان اسم ابي ((ميرزا)) وكلتا الرسالتين كانتا موجهتين الى ميرزا بديع الزمان. فقلت: يا سبحان الله.. ان هذا ليخاطبني انا بالذات، لأن لقب سعيد القديم كان بديع الزمان، ومع أنني ما كنت أعلم أحداً قد اشتهر بهذا اللقب غير ((الهمداني)) الذي عاش في القرن الرابع الهجري. فلابد ان يكون هناك احد غيره قد عاصر الامام الرباني السرهندي وخوطب بهذا اللقب، ولابد ان حالته شبيهة بحالتي حتى وجدت دوائي بتلك الرسالتين.. والامام الرباني يوصي مؤكداً في هاتين الرسالتين وفي رسائل اخرى أن:

((وحّد القبلة))(1) أي: اتبع اماماً ومرشداً واحداً ولا تنشغل بغيره!

لم توافق هذه الوصية - آنذاك - استعدادي واحوالي الروحية.. واخذت أفكر ملياً: ايهما اتبع!. أأسير وراء هذا، أم أسير وراء ذاك؟ احترت كثيراً وكانت حيرتي شديدة جداً، اذ في كل منهما خواص وجاذبية، لذا لم استطع ان اكتفي بواحد منهما.

وحينما كنت اتقلب في هذه الحيرة الشديدة.. اذا بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي:

- ان بداية هذه الطرق جميعها.. ومنبع هذه الجداول كلها.. وشمس هذه الكواكب السيارة.. انما هو ))القرآن الكريم(( فتوحيد القبلة الحقيقي اذن لا يكون الا في القرآن الكريم.. فالقرآن هو أسمى مرشد.. وأقدس استاذ على الاطلاق.. ومنذ ذلك اليوم اقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه.. فاستعدادي الناقص قاصر من ان يرتشف حق الارتشاف فيض ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالنبع السلسبيل الباعث على الحياة، ولكن بفضل ذلك الفيض نفسه يمكننا ان نبين ذلك الفيض، وذلك السلسبيل لأهل القلوب واصحاب الأحوال، كلٌ حسب درجته. فـ))الكلمات(( والانوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) اذن ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل ايضاً مسائل قلبية، وروحية، وأحوال ايمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة ومعارف ربانية سامية.

النقطة الرابعة:

ان الصحابة الكرام والتابعين وتابعي التابعين - رضوان الله عليهم - ممن لهم ارفع المراتب، وحظوا بالولاية الكبرى، قد تلقت جميع لطائفهم حظها من القرآن مباشرة، فاصبح القرآن لهم مرشداً حقيقياً وكافياً، وهذا يعني ويدل على ان القرآن مثلما يعبر عن الحقائق في كل زمان فانه يفيض بفيوضات الولاية الكبرى الى من هو أهل لها في كل وقت.

نعم! ان العبور من الظاهر الى الحقيقة انما يكون بصورتين:

الاولى: بالدخول الى برزخ الطريقة وقطع المراتب فيها بالسير والسلوك حتى بلوغ الحقيقة.

الصورة الثانية: العبور الى الحقيقة مباشرة برحمة إلهية محضة، دون الدخول في برزخ الطريقة، هذا الطريق خاص ورفيع وسام وقصير جداً، وهو طريق الصحابة الكرام والتابعين رضوان الله عليهم.

فاذن الانوار المترشحة من حقائق القرآن و ((الكلمات)) التي تترجم تلك الأنوار يمكن أن تكون مالكة لتلك الخاصية، بل هي مالكة لها فعلاً.

النقطة الخامسة:

سنبين بخمسة أمثلة جزئية، أن ((الكلمات)) مثلما تعلم حقائق القرآن فهي تؤدي وظيفة الارشاد ايضاً.

المثال الاول: لقد اقتنعت انا بالذات قناعة تامة بعد الوف التجارب المتكررة لابعشراتها ومئاتها: أن ((الكلمات)) والانوار المفاضة من القرآن الكريم ترشد عقلي وتعلمه مثلما تلقن قلبي ايضاً باحوال ايمانية كما تطعم روحي اذواقاً ايمانية.. وهكذا حتى اصبحت في انجاز اعمالي الدنيوية كمثل ذلك المريد الذي ينتظر مدداً من شيخه ذي الكرامات، اذ اصبحتُ استمد من الاسرار القرآنية ذات الكرامة وانتظر منها حاجاتي تلك، فكانت تحصل بما لا اتوقعه وليس بالحسبان.

وساذكر هنا مثالين فحسب من تلك الجزئيات الحاصلة ببركة اسرار القرآن:

الأول: ما وضح مفصلاً في المكتوب السادس عشر وهو:

أنه قد أُشهد لضيفي ((سليمان)) رغيف كبير خارق وهو موضوع فوق شجرة القطران. أكلنا من تلك الهدية الغيبية يومين كاملين (في الوقت الذي ما كنت املك شيئاً اقدمه لضيفي).

الثاني: وهو مسألة في غاية الجزئية واللطافة قد حدثت في هذه الأيام وهي:

ورد لخاطري قبل الفجر ان كلاماً من جهتي قد قيل لشخص، بصيغة تُلقي في قلبه الريوب والشبه، فقلت: حبذا لو رأيته لأزيل ما بقلبه من اكدار. وفي الدقيقة نفسها تذكرت ما كان يلزمني من جزء من كتابي المرسل الى مدينة ((نيس))(1) فقلت: حبذا لو حصلت عليه. جلست بعد صلاة الفجر.. واذا بالشخص نفسه وفي يده جزء من كتابي الذي كنت اريده فدخل علي. فقلت له:

ما هذا الذي بيدك؟
- لا اعرف، فقد سلمني هذا الكتاب في الباب احدُهم كان قادماً من ((نيس))، وانا ايضاً اتيت به اليكم.

فقلت متعجباً: يا سبحان الله. ان خروج هذا الرجل من بيته ومجئ هذا الجزء من الكلمات من ((نيس)) لا يبدو عليه أثر المصادفة قطعاً، فليس هذا الا من همة القرآن الكريم التي سلمت جزء الكتاب في الوقت نفسه الى هذا الرجل وارسلته الي.. فحمدت الله كثيراً.

اذن فان الذي يعرف أدق رغبات قلبي بل اتفهها يسبغ علي رحمته ويحميني بحماه، فلا احمل اذاً اية منّة وتفضّل مهما كانت من أحدٍ من الدنيا كلها، ولا آخذها بشئ.

المثال الثاني: لقد تركني ابن اخي ((عبد الرحمن)) منذ ثماني سنوات، وعلى الرغم من تلوثه بغفلات الدنيا وشبهاتها واوهامها فانه كان يحمل تجاهي ظناً حسناً بما يفوق حدي بكثير. لذا طلب مني أن اسعفه وامده بما ليس عندي وليس في طوقي من همة. ولكن همة القرآن ومدده قد اغاثه، وذلك بأن أوصل اليه (الكلمة العاشرة) التي تخص (الحشر) قبل وفاته بثلاثة اشهر.

فأدت تلك الرسالة دورها في تطهيره من لوثات معنوية وكدورات الاوهام والشبهات والغفلة، حتى كأنه قد أرتفع الى ما يشبه مرتبة الولاية. حيث اظهر ثلاث كرامات ظاهرة في رسالته التي كتبها الي قبل وفاته، وقد ادرجت رسالته تلك ضمن فقرات المكتوب السابع والعشرين. فليراجَع.

المثال الثالث: كان لي اخ في الاخرة وطالب في الوقت نفسه وهو من اهل القلب والتقوى هو السيد حسن افندي من مدينة ((بوردور))(2). كان ينتظر من هذا المسكين مدداً وهمة كمن ينتظر من ولي عظيم، وذلك لفرط ظنه الحسن بي بما هو فوق طوقي وحدي. وفجأة ودون مناسبة، أعطيتُ لأحد ساكني قرى ((بوردور)) رسالة (الكلمة الثانية والثلاثين) ليطالعها. ثم تذكرت السيد حسن فقلت: إن سافرتَ الى ((بوردور)) فسلّم الرسالة الى السيد حسن ليطالعها في بضعة ايام. سافر الرجل ،وقد سلّم الرسالة مباشرة الى السيد حسن، قبل أن يوافيه الاجل بأربعين يوماً.

تسلم الرسالة بشوق ولازمها بلهفة ونهل منها كالمتعطش الى الماء السلسبيل، وكلما كرر مطالعتها استفاض منها فيوضات فاستمر في القراءة، حتى وجد فيها دواء لدائه ولا سيما في مبحث ((محبة الله)) في الموقف الثالث منها، بل وجد فيها فيوضات كان ينتظرها من القطب الاعظم. فذهب بنفسه سالماً صحيحاً الى الجامع وأدى صلاته ثم سلــّم روحه هناك. رحمه الله رحمة واسعة.

المثال الرابع: ان السيد خلوصي قد وجد همة ومدداً وفيضاً ونوراً في ((الكلمات)) التي هي ترجمان الاسرار القرآنية، اكثر مما وجده في الطريقة النقشبندية التي هي أهم طريقة واكثرها تأثيراً. وقد ذكرت شهادته هذه في المكتوب السابع والعشرين.

المثال الخامس: ان اخي عبد المجيد، قد شعر بانهيار واضطراب شديدين بسبب انتقال ابن اخي عبد الرحمن الى رحمة الله. ولأحوال أليمة واوضاع محزنة الـمّت به. كان يأمل مني ما لا أقدر عليه من همة ومدد معنوي. ومع اني ما كنت اتراسل معه، الا انني بعثت اليه فجأة بضع رسائل من ((الكلمات)). كتب الي بعد أن قرأها: لقد نجوتُ، والحمد لله، فقد كنت على وشك التجنن، ولكن بفضل الله اخذت كل كلمة من تلك الكلمات موقع مرشد لي. ولئن فارقت مرشداً واحداً فقد وجدت - دفعة واحدة - مرشدين كثيرين فنجوت والحمد لله. وانا بدوري تأملت في حاله، فعلمت انه حقاً قد دخل مسلكاً جميلاً وقد نجا بفضل الله من اوضاعه السابقة.

وهناك أمثلة اخرى كثيرة شبيهة بهذه الأمثلة الخمسة المذكورة وكلها تبين:

ان العلوم الايمانية ولا سيما اذا اُخذت العلاجات المعنوية نظراً للحاجة ودواءً للامراض من اسرار القرآن الكريم مباشرة وجُرّبت عملياً. فان تلك العلوم الإيمانية وتلك الادوية الروحانية كافية ووافية لمن يشعر باحتياجه اليها ومن يستعملها باخلاص جاد. ولا يؤثر في الامر وضع الصيدلاني الذي يبيع تلك الادوية والدلال الذي يدل عليها، أي سواء اكان شخصاً اعتيادياً مفلساً أم غنياً ذا مقام أو خادماً مسكيناً، اياً كان وضعه فلا فرق في ذلك.

نعم، انه لا حاجة الى الاستضاءة بنور الشموع ما دامت هناك شمس ساطعة.

فما دمت ابين الشمس نفسها، فلا حاجة ولا معنى لطلب ضوء شمعة من شخصي، ولا سيما إن لم يكن عندي ولا أملكه، بل الألزم ان يمدني اولئك مدداً معنوياً بدعواتهم بل بهمتهم، فمن حقي ان اطلب مددهم وعونهم، وينبغي لهم ان يرضوا ويكتفوا بما يستفيضون من أنوار الرسائل.



} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صل على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاء ولحقّه
اداء وعلى آله وصحبه وسلم



` ` `



رسالة صغيرة وخاصة

يمكن عدّها تتمة للمسألة الثالثة من المكتوب الثامن والعشرين

يا اخوة الآخرة ويا طالبيّ المجدّين السيد خسرو والسيد رأفت! كنا نشعر ثلاث كرامات قرآنية في مجموعة ((الكلمات)) التي هي من فيوضات انوار القرآن. بيد أنكم بهمتكم وسعيكم وشوقكم قد اضفتم عليها ايضاً كرامة اخرى رابعة. أما الثلاث المعروفة فهي:

اولاً: السهولة والسرعة فوق المعتاد في تأليفها، حتى أن المكتوب التاسع عشر المتكون من خمسة اقسام اُلف في حوالي ثلاثة ايام خلال ما يقرب من اربع ساعات يومياً اي بمجموع اثنتا عشر ساعة وفي شعب الجبال وخلال البساتين دون ان يكون هناك كتاب نرجع اليه. والكلمة الثلاثون ألفت في وقت المرض خلال خمس وست ساعات. والكلمة الثامنة والعشرون وهي مبحث الجنة الفت خلال ساعة او ساعتين. في بستان سليمان بالوادي. حتى تحيرنا انا وتوفيق وسليمان لهذه السرعة.. وهكذا كما في تأليفها هذه الكرامة القرآنية كذلك..

ثانياً: في كتابتها سهولة فوق المعتاد، وشوق عارم، مع عدم السأم والملل. علماً أن هناك اسباباً كثيرة تورث السأم للارواح والعقول في هذا الزمان. ولكن ما ان تؤلف احدى ((الكلمات)) اذ تستنسخ في اماكن كثيرة ويقدم على كثير من المشاغل المهمة.. وهكذا.

الكرامة القرآنية الثالثة: ان قراءتها ايضاً لا تورث السأم ولاسيما اذا ما استشعرت الحاجة اليها. بل كلما قُرئت زاد الذوق والشوق ولا يسأم منها.

وانتم كذلك يا اخويّ قد اثبتما كرامة قرآنية رابعة، فاخونا خسرو الذي يطلق على نفسه الكسلان، وتقاعس عن الكتابة مذ أن سمع بـ ((الكلمات)) قبل خمس سنوات فان كتابته خلال شهر واحد لأربعة عشر كتاباً كتابة جميلة متقنة كرامة للاسرار القرآنية لا شك فيها ولاسيما المكتوب الثالث والثلاثون وهي رسالة النوافذ التي قدّرت حق قدرها حيث كتبت اجمل واجود كتابة. نعم ان تلك الرسالة رسالة قوية وساطعة في معرفة الله والايمان به الا ان النوافذ الاولى التي في مستهل الرسالة مجملة جداً ومختصرة، علماً انها تتوضح تدريجياً وتسطع..حيثً ان مقدمات معظم الكلمات، تبدأ مجملة ثم تتوضح تدريجياً وتتنور بخلاف سائر المؤلفات.

الـمسألة الربعة

وهي الرسالة الرابعة



باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

جواب عن سؤال يخص حادثة جزئية، يكون مبعث انتباه ويقظة لإخوانـــــي.

اخواني الاعزاء!

تسألون: لقد اُعتدي على مسجدكم المبارك ليلة الجمعة، بغير سبب، عند قدوم ضيف كريم، فما سرّ هذه الحادثة؟ ولِمَ يضايقونك؟.

الجواب : أبين أربع نقاط مضطراً وبلسان سعيد القديم، علّها تكون محور يقظة لاخواني، وانتم بدوركم تأخذون منها جوابكم.

C النقطة الاولى:

ان ماهية تلك الحادثة دسيسة شيطانية، وتعرّض نفاقي، في سبيل ارضاء الزندقة، خلافاً للقانون وبمحض الهوى، وذلك لالقاء القلق في قلوبنا ليلة الجمعة، وبث الفتور في روح الجماعة، وليحولوا دون لقائي الضيوف.

ومن غرائب الامور: انه قبل يوم من تلك الليلة - اي يوم الخميس - كنت ذاهباً الى جهة ما للتفسح، فرأيت اثناء عودتي حية سوداء طويلة ـ كأنها حَيّتان اقترنتا ببعضهما ـ أتت من اليسار، ومرّت بيني وبين صاحبي.

فاردت ان أعرف مدى فزعه منها فسألته :

- أرأيت؟

قال: ماذا؟

قلت: هذه الحية المخيفة!

قال: لا لم أرها، ولا أراها!

قلت متعجباً: ياسبحان الله، كيف لم تَر مثل هذه الحية الضخمة التي مرت من بيننا؟

لم يرد شئ في خاطري في تلك الحالة، ولكن بعد فترة ورد الى القلب: ان هذه اشارة اليك فاحذر، ففكرت في الامر، وعرفت انها كانت من الحيّات التي أراها في المنام، أعني انني كنت أرى الموظف المسؤول الذي يأتيني بنية الخيانة على صورة حية. حتى انني قد ذكرت ذلك ـ في احدى المرات ـ لمدير الناحية، فقلت له:

- عندما تأتيني بنية سيئة، أراك في صورة حية! فاحذر!

وفي الحقيقة كنت كثيراً ما أرى سلفه على تلك الصورة!

بمعنى ان هذه الحية التي رأيتها ظاهرةً، اشارةٌ الى ان خيانتهم في هذه المرة ستأخذ صورة اعتداء فعلي، لاتظل في صورة نية مبيتة.

وعلى الرغم من ان اعتداءهم هذه المرة كان اعتداءاً صغيراً، وهم يحاولون استصغاره، ولكن بتحريض من معلم فاقد للضمير وبمشاركته، أصدر المسؤول أمراً للدرك ))أجلبوا اولئك الضيوف))، ونحن في اذكار الصلاة في المسجد، والغاية من هذا التصرف هو اغضابي ولأقابلهم بالرفض والطرد ـ باحاسيس سعيد القديم ـ ازاء هذا التصرف الاعتباطي غير القانوني.

ولم يدر ذلك الشقي؛ ان سعيداً لايدافع بعصا مكسورة في يده، وفي لسانه سيف ألماسي من مصنع القرآن الحكيم. بل يستعمل ذلك السيف.

بيد ان افراد الدرك كانوا رزينين راشدين، فانتظروا الى اختتام الصلاة والاذكار ـ حيث لاتتدخل اية حكومة او دولة في الصلاة وفي المسجد مالم ينته اداء الصلوات والاذكار ـ فغضب المسؤول عن عملهم هذا وارسل عقبهم الحارس قائلاً: ان الدرك لايطيعونني!

ولكن الله سبحانه وتعالى لايُشغلني بمثل هذه الحيّات. واُوصي اخواني: ان لاتنشغلوا بهؤلاء مالم تكن هناك ضرورة قاطعة، بل ترفّعوا عن التكلم معهم، حيث (( جواب الاحمق السكوت)) .. ولكن انتبهوا الى هذه النقطة:

كما ان اظهار نفسك ضعيفاً تجاه حيوان مفترس يشجعه على الهجوم عليك، كذلك اظهار الضعف بالتزلف الى مَن يحمل طباع الحيوان المفترس يسوقه الى الاعتداء.

لذا ينبغي للاصدقاء ان يتصرفوا بحذر لئلا يَستغل الموالون للزندقة عدم مبالاتهم وغفلتهم.

C النقطة الثانية:

} ولاتَركَنُوا الى الذينَ ظَلمُوا فَتَمسّكُمُ النّارُ{ (هود: 113).

هذه الآية الكريمة تتضمن تهديداً شديداً. اي ان اولئك الذين يكونون اداة بيد الظالمين ويوالونهم وينحازون اليهم، بل حتى لو كانوا يحملون أدنى ميل وعطف نحوهم، يصيبهم التهديد المرعب.

لان الرضا بالكفر كفر، كما ان الرضا بالظلم ظلم.

ولقد عبّر أحدهم ـ من أهل الكمال ـ تعبيراً كاملاً عن جوهرة من جواهر هذه الآية الكريمة بالبيتين الآتيين :

ان الذي يُعين الظالم على ظلمه هو من أرباب الدناءة في الدنيا.

والذي يجد المتعة واللذة في خدمة الصياد الظالم هو كالكلب.

نعم! ان بعضهم يتصرف تصرف الحية، وبعضهم يعمل عمل الكلب.

ان الذي يتجسس علينا في مثل هذه الليلة المباركة، وعلى ضيف كريم، واثناء الدعاء والتضرع الى الله. ويخبر عنا وكأننا نرتكب جريمة، ومن بعد ذلك يتعدى هذا التعدي، لاشك انه معرّض للتأنيب الوارد في معنى البيتين السابقين.

C النقطة الثالثة:

سـؤال: مادمتَ تعتمد على قوة القرآن الكريم وتستند الى همته وتستلهم الفيوضات منه لإرشاد اعتى الملحدين واشدهم تمرداً في سبيل اصلاحهم، وانك فعلاً تقوم بهذا وما تزال كذلك، فلماذا لاتدعو القريبين منك من المتجاوزين المتعدين، وترشدهم الى سواء السبيل؟.

الجواب: انه من القواعد المهمة في اصول الشريعة : (الراضي بالضرر لايُنظر له) أي ((ان من كان راضياً بالضرر برغبته وعلمه، لاينظر له نظرة اشفاق وترحّم)). فانا ادعو مستنداً الى القرآن الكريم، وعلى استعداد لإلزام الملحد المتمادي في الالحاد في غضون بضع ساعات وان لم اقنعه تماماً، على شرط الاّ يكون سافلاً منحطاً، وممن يتلذذون في نشر سموم الضلالة، كتلذذ الحية في نشر سمها، الاّ ان مخاطبة الحيات المتمثلة في صورة انسان، والكلام مع صاحب وجدان تردى في اسفل سافلي الضلالة الموغلة في النفاق حتى انه يبيع دينه - على علمٍ منه ـ بدنياه، ويستبدل قطعاً زجاجية تافهة قذرة ـ على علم – بالالماس الثمين.

اقول: ان مخاطبة هؤلاء واظهارهم على الحقائق اجحافٌ بحق الحقيقة وحط من شأنها، لأنها شبيهة بـ((تعليق الدرر في اعناق البقر)) كما جاء في المثل.

لان الذين يقومون بمثل هذه الاعمال قد سمعوا تلك الحقائق من (رسائل النور) مرات ومرات. الاّ انهم يرومون الحط من قيمة الحقائق مع معرفتهم بها، ارضاءً للضلالة والزندقة. فهؤلاء كالحيات التي تتلذذ بالسم.

C النقطة الرابعة:

ان صور التعامل معي خلال هذه السنوات السبع ليسَ الاّ تصرفات اعتباطية مبنية على الهوى، وهي سلوك غير قانوني محض لأن قانون المنفيين والموقوفين والمسجونين، معروف لدى الجميع وظاهر لديهم. فهم ـ حسب القانون ـ يواجهون اقاربهم، ولايُمنعون عن الاختلاط مع الناس. وان العبادة وطاعة الله مصونة في كل دولة وامة. وان امثالي من المنفيين ظلوا بين اقاربهم واحبابهم في المدن، ولم يحظر عليهم الاختلاط والمراسلة ولاحتى السياحة والتفسح، واُستثنيت وحدي. فقد حُرمت من كل ذلك، بل قد اُعتدي على عبادتي ومسجدي، فحاولوا صرفي عن ذكر كلمة التوحيد عقب الصلاة ـ المسنونة عند الشافعية ـ وعندما اتى رجل أميّ يُدعى (شباب) مع حماته الى هنا (بارلا) للاستجمام واتاني بحكم معرفتي له لكونه من بلدتي، استدعاه من المسجد ثلاثة افراد من الدرك المسلحين. وحاول ذلك المسؤول ان يستر عمله غير القانوني قائلاً : استميحكم العذر لاتلوموننا انها من متطلبات الوظيفة! ثم سمح له بالذهاب.

فاذا قيست هذه الحادثة مع سائر المعاملات والامور، يُفهم أن معاملاتهم هي محض الهوى وان التصرفات إعتباطية بحتة، حيث يسلطون عليّ الحيات والكلاب، وانا أترفع عن الانشغال بهم، وافوض امر اولئك الخبثاء الى الله القدير لدفع شرورهم.

وفي الحقيقة، ان الذين اثاروا الحادثة التي كانت السبب في التهجير هم الآن في مدنهم، وان الرؤساء المتنفذين هم الآن على رؤوس العشائر إذ اُطلق سراح الجميع، الا انا واثنين من اخوان الآخرة، اُستثنينا من الجميع ولم يطلق سراحنا، علماً انني غير مرتبط بعلاقة بالدنيا ، وتعساً لها ولتكن وبالاً عليهم. وتلقيت هذا الامر ايضاً بالقبول وقلت : لابأس به.

ولكن أحد ذينك الاخوين قد عيّن مفتياً في احدى المدن، فهو يسافر ويسيح بحرية في كل جهة من الوطن الاّ مدينته، حتى انه يستطيع الذهاب الى العاصمة (انقرة). وتُرك الآخر في وضع يتمكن من الاجتماع بالوف من احبّائه في استانبول، وسمح له ان يقابل الاشخاص أياً كانوا. علماً ان هذين الشخصين ليسا وحيدين مثلي ـ لا أهل لي ولا عيال ـ بل لهم نفوذ كبير.. وكذا وكذا..

أما أنا فقد دفعوني الى قرية ووضعوني بين أناس لا وجدان لهم اطلاقاً. حتى انني لم اتمكن من الذهاب الى قرية قريبة تبعد عشرين دقيقة عن (بارلا) الاّ مرتين خلال ست سنوات. ولم يسمحوا لي بالذهاب الى تلك القرية لقضاء بضعة ايام للاستجمام.

وهكذا يحاولون سحقي تحت استبداد مضاعف، علماً ان اية حكومة مهما كانت لها قانون واحد، فليس هناك قانون، حسب الاشخاص وحسب القرى والاماكن! بمعنى ان القانون الذي يطبقونه عليّ ليس قانوناً قط، بل هو خروج على القانون، فالمسؤولون هنا يستغلون نفوذ الحكومة في سبيل تنفيذ أغراضهم الشخصية.

ولكن ولله الحمد مائة ألف مرة، اقول ما يأتي تحدثاً بالنعمة: ان جميع مضايقاتهم واستبداداتهم تصبح كالحطب لأشعال نار الهمة والغيرة، لتُزيد انوار القرآن سطوعاً.

فتلك الانوار القرآنية التي عوملت بالمضايقات انبسطت بحرارة الغيرة والهمة، حتى جعلت جميع الولاية بل أكثر المدن في حكم مدرسة، ولم تنحصر في ((بارلا)) وحدها.

وحسبوا انهم قد حبسوني في قرية، الاّ ان تلك القرية ((بارلا)) وانف الزندقة راغم قد أصبحت كرسي الدرس بفضل الله وبخلاف مأمولهم، بل اصبح كثير من الاماكن (كاسبارطة) في عداد المدارس.

عبدالرزاق 02-03-2011 11:58 AM

رد: المكتوبات
 
الحمد لله، هذا من فـضل ربي.

الـمسألة الخامسة

وهي الرسالة الخامسة

رسالة الشكر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

يفيض القرآن الكريم ببيانه المعجز ويحثّ على الشكر في آيات كثيرة، منها هذه الآيات التاليات:

} اَفَلاَ يَشْكُرُون{ (يس:35).... } اَفَلاَ يَشْكُرُوُن{ (يس:73)

} وَسَنَجْزى الشَّاكرينَ{ (آل عمران:145)

} لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزيدَنَّكُمْ{ (ابراهيم:7)

} بَلِ الله فَاعْبُد وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرين{ (الزمر:66)

ويبيّن منها: أن اجلّ عملٍ يطلُبُه الخالُق الرحيم من عباده هو: الشُكر. فيدعو الناس الى الشكر دعوة صريحة واضحة ويوليه أهمية خاصة باظهاره أن الاستغناء عن الشكرتكذيب للنعم الإلهية وكفران بها، ويهدّد إحدى وثلاثين مرة في سورة ((الرحمن)) بالآية الكريمة : } فَبَايّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذِّبَانِ{ تهديداً مُرعباً، ويُنذر الجن والإنس إنذاراً مهولاً ببيانه: ان عدم الشكر والإعراض عنه تكذيبٌ وإنكار وجحود.

ومثلما يبيّن القرآن الحكيم أن الشكر نتيجة الخلق والغاية منه، فالكون الذي هو بمثابة قرآن كبير مجسّم يُظهِر أيضاً أن اهمّ نتيجة لخلق الكائنات هي الشكر؛ ذلك لأنه اذا ما أنعم النظر في الكائنات لتبيّن:

ان هيأة الكون ومحتوياته قد صُممت بشكل ووُضعت على نمط، بحيث تنتج الشكر وتُفضي اليه، فكل شئ متطلّع ومتوجّه - من جهة - الى الشكر، حتى كأن أهم ثمرة في شجرة الخلق هذه هي الشكر، بل كأن أرقى سلعة من بين السلع التي ينتجها مصنع الكون هذا هي الشكر؛ ذلك لأننا نرى:

ان موجودات العالم قد صُممت بطراز يشبه دائرة عظيمة، وخُلقت الحياة لتمثل نقطة المركز فيها، فنرى: ان جميع الموجودات تخدم الحياة وترعاها وتتوجه اليها، وتتكفل بتوفير لوازمها ومؤنها. فخالق الكون اذن يختار الحياة ويصطفيها من بين موجوداته!

ثم نرى ان موجودات عوالم ذوى الحياة هي الاخرى قد أوجدت على شكل دائرة واسعة بحيث يتبوّأ الانسانُ فيها مركزها؛ فالغايات المرجّوة من الاحياء عادة تتمركز في هذا الانسان. والخالق الكريم سبحانه يحشّد جميع الأحياء حول الانسان ويسخّر الجميع لأجله وفي خدمته، جاعلاً من هذا الانسان سيداً عليها وحاكماً لها. فالخالق العظيم اذن يصطفي الانسان من بين الاحياء بل يجعله موضع إرادته ونصبَ اختياره.

ثم نرى ان عالم الانسان بل عالم الحيوان ايضاً يتشكل بما يشبه دائرة كذلك، وقد وُضع في مركزها ((الرزق))، وغرز الشوق الى الرزق في الانسان والحيوانات كافة، فنرى أنهم قد أصبحوا جميعاً بهذا الشوق خَدَمة الرزق والمسخَّرين له. فالرزق يحكمهم ويستولى عليهم. ونرى الرزق نفسه قد جُعل خزينة عظيمة لها من السعة والغنى ما لو تجمعت نِعَمه فلا تعد ولا تحصى (حتى نرى القوة الذائقة في اللسان قد زوّدت بأجهزة دقيقة وموازين معنوية حساسة بعدد المأكولات والمطعومات لمعرفة أذواق نوع واحد من انواع الرزق الكثيرة). فحقيقة الرزق اذن هي أعجب حقيقة في الكائنات واغناها، واغربها،وأحلاها وأجمعها.

ونرى كذلك: أنه مثلما يحيط كل شئ بالرزق ويستشرفه ويتطلع اليه، فالرزق نفسه ايضاً - بأنواعه جميعاً ـ قائم بالشكر معنىً ومادةً وحالاً ومقالاً، ويحصل بالشكر، وينتج الشكر، ويبيّن الشكر ويُريه؛ لان اشتهاء الرزق والإشتياق اليه نوعٌ من شكر فطري. أما الالتذاذ والتذوق فهما شكرٌ ايضاً، ولكن بصورة غير شعورية - حيث تتمتع الحيوانات كافة بهذا الشكر - بيد أن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يغيّر ماهية ذلك الشكر الفطري بانسياقه الى الضلالة والكفر، فيتردى من الشكر الى الشرك.

ثم ان ما تحمله النعم - التي هي الرزق بعينه - من صورٍ جميلة زاهية بديعة، ومن روائح زكية طيبة شذية، ومن طعوم لذيذة ومذاقات طيبة، ما هو إلاّ دعاة وأدلاّء الى الشكر. فهؤلاء الادلاء والدعاة المنادون يثيرون بدعواهم الشوق لدى الاحياء، ويحضّونهم عليه، ويدفعونهم - بهذا الشوق - الى نوع من الاستحسان والتقدير والاحترام فيقروّن فيهم شكراً معنوياً. ويلفتون أنظار ذوي الشعور الى التأمل والإمعان فيها فيرغّبونهم في الاستحسان والاعجاب، ويحثونهم الى احترام النعم السابغة وتقديرها. فتُرشدهم تلك النِعم الى طريق الشكر القولي والفعلي وتدلـّهم عليه وتجعلهم من الشاكرين، وتذيقهم من خلال الشكر أطيبَ طَعمٍ وألذهُ وأَزكى ذوق وأنفسه، وذلك بما تُظهر لهم بأن هذا الرزق اللذيذ او النعمة الطيبة، مع لذته الظاهرة القصيرة الموقتة يهب لك بالشكر التفكر في الالتفات الرحماني الذي يحمل لذة وذوقاً حقيقيين ودائميين وغير متناهيين. اي ان الرزق بتذكيره بالتفات الكريم المالك لخزائن الرحمة الواسعة - تلك الالتفاتة والتكرمة التي لا حدَّ للذاتها ولا نهاية لمتعتها - تذيق الانسان بهذا التأمل نشوة معنوية من نشوات الجنة الباقية وهو بعدُ لم يغادر هذه الدنيا.

في الوقت الذي يكون الرزق بوساطة الشكر خزينة واسعة جامعة تطفح بالغناء والمتعة، يتردى تردياً فظيعاً جداً بالتجافي عن الشكر والاستغناء عنه.

ولقد بيّنا في ((الكلمة السادسة)): ان عمل القوة الذائقة في اللسان إن كان متوجهاً الى ا سبحانه وفي سبيله، أي عندما تتوجه الى الرزق أداءً لمهمة الشكر المعنوي، تكون تلك القوة والحاسة في اللسان بمثابة مشرف موقّر شاكر، وتكون بحكم ناظر محترم حامد، على مطابخ الرحمة الإلهية المطلقة. ولكن متى ما قامت بعملها رغبةً في هوى النفس الأمارة بالسوء واشباعاً لنهمها، أي اذاتوجهت الى النعمة مع عدم تذكر شكر المُنعم الذي أنعم عليه بالرزق، تهبط تلك القوة الذائقة في اللسان من ذلك المقام السامي، مقام الراصد الأمين، الى درجة بواب مصنع البطن، وحارس اسطبل المعدة. ومثلما ينتكس خادمُ الرزق هذا الى الحضيض بالاستغناء عن الشكر، فماهية الرزق نفسها وخدام الرزق الآخرون كذلك يهوون جميعاً بالنسبة نفسها من أسمى مقام الى ادناه، بل حتى يتدنى الى وضع مباين تماماً لحكمة الخالق العظيم.

ان مقياس الشكر هو القناعة، والاقتصاد، والرضا، والامتنان. أما مقياس عدم الشكر والاستغناء عنه فهو الحرص، والاسراف، وعدم التقدير والاحترام، وتناول كل ما هب ودّب دون تمييز بين الحلال والحرام.

نعم ان الحرص مثلما أنه عزوف وإعراض عن الشكر، فهو ايضاً قائد الحرمان ووسيلة الذل والإمتهان. حتى كأن النملة - تلك الحشرة المباركة المالكة لحياة اجتماعية - تُداس تحت الاقدام وتنسحق، لشدة حرصها وضعف قناعتها، اذ بينما تكفيها بضع حبات من الحنطة في السنة الواحدة تراها تجمع ألوف الحبات اذا ما قدّر لها أما النحلة الطيبة، فتجعلها قناعتها التامّة ان تطير عالياً فوق الرؤوس، حتى انها تقنع برزقها وتقدّم العسل الخالص للانسان احساناً منها بأمر الآله العظيم جل جلاله.

نعم ان إسم ((الرحمن)) الذي هو من أعظم أسمائه سبحانه وتعالى يعقبُ لفظ الجلالة ((الله)) الذي هو الاسم الاعظم والاسم العَلَمُ للذات الأقدس. فهذا الاسم ((الرحمن)) يشمل برعايته الرزق؛ لذا يمكن الوصول الى انوار هذا الاسم العظيم بالشكر الكامن في طوايا الرزق. علماً ان أبرز معاني ((الرحمن)) هو الرزاق.

ثم ان للشكر انواعاً مختلفة، الاّ أن أجمع تلك الانواع واشملها والتي هي فهرسها العام هو: الصلاة!.

وفي الشكر ايمان صافٍ رائق، وهو يحوى توحيداً خالصاً؛ لأن الذي يأكل تفاحة – مثلاً – باسم الله ويختم أكلها بـ ((الحمد لله)) إنما يعلن بذلك الشكرَ، على ان تلك التفاحة تذكار خالص صادر مباشرةً من يد القدرة الإلهية، وهي هدية مهداة مباشرة من خزينة الرحمة الإلهية. فهو بهذا القول وبالاعتقاد به يسلـّم كلَّ شئ - جزئياً كان أم كلياً - الى يد القدرة الإلهية، ويُدرك تجلّى الرحمة الإلهية في كل شئ. ومن ثم يُظهر ايماناً حقيقياً بالشكر، ويبيّن توحيداً خالصاً به.

وسنبين هنا وجهاً واحداً فقط من بين وجوه الخسران الكثيرة التي يتردى اليها الانسان الغافل من جراء كفرانه النعمة وكنوده بها.

اذا تناول الانسان نعمةً لذيذة، ثم أدى شكره عليها، فان تلك النعمة تصبح - بوساطة ذلك الشكر ـ نوراً وضّاءً له، وتغدو ثمرة من ثمار الجنة الاُخروية، وفضلاً عما تمنحه من لذة، فان التفكر في أنها أثرٌ من آثار التفات رحمة الله الواسعة وتكرمة منه سبحانه وتعالى يمنح تلك النعمة لذةً عظيمة دائمة وذوقاً سامياً لاحد له. فيكون الشاكر قد بعث أمثال هذه اللــّباب الخالصة والخلاصات الصافية والمواد المعنوية الى تلك المقامات السامية الرفيعة، تاركاً موادَّها المهملة وقشرتَها - التي استنفدت اغراضها وأدّت وظيفتها ولم تعد اليها حاجة - يتم تحولها الى نفايات وفضلات تعود الى أصلها من العناصر الاولية.

ولكن ان لم يشكر المنعم عليه، ربَّه على النعمة، واستنكف عنها، فان تلك اللذة الموقتة تترك بزوالها ألماً وأسفاً، وتتحول هي نفسها الى قاذورات. فتنقلب تلك النعمة التي هي ثمينة كالألماس الى فحم خسيس.

فالأرزاق الزائلة تثمر بالشكر لذائذ دائمة وثمرات باقية، أما النعم الخالية من الشكر فانها تنقلب من صورتها السامية الجميلة الزاهية الى صورة دنيئة قبيحة دميمة؛ ذلك لأن الغافل يظن ان مآل الرزق بعد اقتطاف اللذة المؤقتة منه هو الفضلات!.

حقاً، ان الرزق صورة وضّاءةً تستحق الحب والعشق، تلك التي تظهر بالشكر، والاّ فان عشق الغافلين والضالين للرزق وتلهفهم عليه ما هو إلاّ بهيمية حيوانية..

قس على هذا.. لتعلم مدى خسارة أهل الضلالة والغفلة ومدى فداحة أمرهم!

إن اشد الاحياء حاجةً الى الرزق والى انواعه هو الانسان! فالحق سبحانه وتعالى قد خلق هذا الانسان مرآة جامعة لجميع اسمائه الحسنى، وأبدعه معجزةً دالّة على قدرته المطلقة. فهو يملك اجهزة يتمكن بها تثمين وتقدير جميع مدّخرات خزائن رحمته الواسعة ومعرفتها.. وخلقه على صورة خليفة الارض الذي يملك من الأجهزة الحساسة ما يتمكن بها من قياس أدق دقائق تجليات الاسماء الحسنى.. فلأجل كل هذا فقد اودع سبحانه في هذا الانسان فاقةً لاحدّ لها، وجعله محتاجاً الى انواع لا تحد من الرزق المادي والمعنوي. وما الوسيلة التي تمكّن الانسانَ من العروج بها الى اسمى مقام وهو مقام ((احسن تقويم)) ضمن ما يملكه من الجامعية الاّ الشكر.

فاذا انعدم الشكر يتردى الانسان الى اسفل سافلين ويكون مرتكباً ظلماً عظيماً..



الخلاصة:

ان الشكر هو اعظم اساس من الاسس الاربعة التي يستند اليها سالك اسمى طريق واعلاه اَلا وهو طريق العبودية والحب للّه تعالى والمحبوبية.

وقد عُبّر عن تلك الاسس الأربعة بـ:

در طريق عجزى مندى لازم آمد جار جيز:

عجزِ مطلق فقرِ مطلق شوقِِ مطلق شكرِ مطلق أي عزيز!(1).

اللّهُمّ اجعلنا من الشاكرين برحمتك يا ارحم الراحمين.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمدٍ سيد الشاكرين والحامدين وعلى آله وصحبه اجمعين.

} وآخرُ دَعواهم أن الحمدُ لله رب العالمين{ .

المسألة السادسة

وهي الرسالة السادسة

لم تدرج هنا ستنشر ضمن مجموعة اخرى باذن الله

الـمسألة السابعة

وهي الرسالة السابعة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} قُل بفـضلِ الله وبرحمتهِ فبذلكَ فليفرحوا هُوَ خيرٌ ممّا يَجمعُون{ (يونس:58)

[هذه المسألة عبارة عن سبع اشارات]

نبين أولاً سبعة أسباب ـ تحدثاً بنعمة الله ـ تكشف عن عدد من أسرار العناية الإلهية.

C السبب الأول:

قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى، وإبان نشوبها رأيت في رؤيا صادقة، الآتي:

رأيت نفسي تحت (جبل آرارات) واذا بالجبل ينفلق انفلاقاً هائلاً، فيقذف صخوراً عظيمة كالجبال الى انحاء الأرض كافة. وانا في هذه الرهبة التي غشيتني رأيت والدتي - رحمة الله عليها - بقربي. قلت لها: ((لاتخافي ياأماه! انه أمر الله. انه رحيم، انه حكيم)). واذ أنا بتلك الحالة اذا بشخص عظيم يأمرني قائلاً:

ـ بيّن اعجاز القرآن.

أفقتُ من نومي، وادركتُ انه سيحدث انفلاق عظيم، وستتهدم الأسوار التي تحيط بالقرآن الكريم من جراء ذلك الانفلاق والانقلاب العظيم، وسيتولى القرآن بنفسه الدفاع عن نفسه حيث سيكون هدفاً للهجوم، وسيكون اعجازه، حصنه الفولاذي، وسيكون شخص مثلي مرشحاً للقيام ببيان نوع ٍمن هذا الاعجاز في هذا الزمان ـ بما يفوق حدّي وطوقي كثيراً ـ وأدركتُ اني مرشح للقيام بهذا العمل .

ولمّا كان اعجاز القرآن الكريم قد وضّح ـ الى حدٍّ ما ـ بـ((الكلمات)) فان اظهار العنايات الإلهية في خدمتنا للقرآن، انما هو إمداد للاعجاز بالقوة، اذ ان تلك الخدمة هي لابراز ذلك الاعجاز ومن قبيل بركاته ورشحاته. أي ينبغي إظهارالعنايات الإلهية.

C السبب الثاني:

لما كان القرآن الكريم مرشدنا واستاذنا وامامنا ودليلنا في كل أعمالنا، وانه يثني على نفسه، فنحن اذن سنثني على تفسيره، اتباعاً لإرشاده لنا.

ولما كانت (الكلمات) نوعاً من تفسير القرآن، ورسائل النور عامة ملك القرآن وتتضمن حقائقه، وان القرآن الكريم يعلن عن نفسه في هيبة وعظمة، ويبين مزاياه ويثني على نفسه بما يليق به من ثناء، في كثير من آياته ولاسيما في السور المبتدئة بـ(الر) و (حم)، فنحن اذن مكلفون باظهار العنايات الربانية التي هي علامة لقبول خدمتنا في بيان لمعات اعجاز القرآن المنعكسة في ((الكلمات))، وذلك اقتداءاً باستاذنا القرآن الذي يرشدنا الى هذا النمط من العمل.

C السبب الثالث:

انني لاأقول هذا الكلام الذي يخص(الكلمات) تواضعاً، بل بياناً للحقيقة، وهي:

ان الحقائق والمزايا الموجودة في (الكلمات) ليست من بنات أفكاري ولاتعود اليّ أبداً وانما للقرآن وحده، فلقد ترشحتْ من زلال القرآن، حتى ان الكلمة العاشرة ماهي إلاّ قطرات ترشحت من مئات الآيات القرآنية الجليلة. وكذا الأمر في سائر الرسائل بصورة عامة.

فمادمتُ أعلم الأمر هكذا وانا ماضٍ راحل عن هذه الحياة، وفانٍ زائل، فينبغي ألاّ يربط بي ما يدوم ويبقى من أثر. ومادام عادة أهل الضلالة والطغيان هي الحط من قيمة المؤلف للتهوين من شأن كتاب لايفي بغرضهم. فلابد اذن ألاّ ترتبط الرسائل المرتبطة بنجوم سماء القرآن الكريم بسند متهرئ قابل للسقوط، مثلي الذي يمكن أن يكون موضع اعتراضات كثيرة، ونقدٍ كثير.

ومادام عرف الناس دائراً حول البحث عن مزايا الأثر في أطوار مؤلفه وأحواله الذي يحسبونه منبع ذلك الخير ومحوره الاساس. فانه اجحاف اذاً بحق الحقيقة وظلم لها ـ بناء على هذا العرف ـ ان تكون تلك الحقائق العالية والجواهر الغالية بضاعة مَن هو مفلس مثلي وملكاً لشخصيتي التي لاتستطيع ان تظهر واحداً من ألف من تلك المزايا.

لهذا كله أقول: ان الرسائل ليست ملكي ولامني بل هي ملك القرآن. لذا أراني مضطراً الى بيان أنها قد نالت رشحات من مزايا القرآن العظيم. نعم، لاتُبحث ما في عناقيد العنب اللذيذة من خصائص في سيقانها اليابسة؛ فانا كتلك الساق اليابسة لتلك الاعناب اللذيذة.

C السبب الرابع:

قد يستلزم التواضع كفران النعمة، بل يكون كفراناً بالنعمة عينه، وقد يكون ايضاً التحدث بالنعمة تفاخراً وتباهياً. وكلاهما مضران، والوسيلة الوحيدة للنجاة. اي لكي لايؤدي الأمر الى كفرانٍ بالنعمة ولاالى تفاخر، هي: الإقرار بالمزايا والفضائل دون ادّعاء تملّكها، اي اظهارها انها آثار إنعام المنعم الحقيقي جلّ وعلا.

مثال ذلك: اذا ألبسك أحدُهم بدلة فاخرة جميلة، وأصبحتَ بها جميلاً وأنيقاً،فقال لك الناس: ما أجملك! لقد أصبحت رائعاً بها، وأجبتهم متواضعاً: كلا! مَن أنا، أنا لست شيئاً.. أين الجمال من هذه البدلة!! فان جوابك هذا كفران بالنعمة بلاشك، وسوء أدب تجاه الصانع الماهر الذي ألبسك البدلة. وكذلك إن قلت لهم مفتخراً: نعم! انني جميل فعلاً، فأين مثلي في الجمال والأناقة! فعندها يكون جوابك فخراً وغروراً.

والاستقامة بين كفران النعمة والافتخار هو القول:نعم! انني أصبحت جميلاً حقاً، ولكن الجمال لايعود لي وانما الى البدلة، بل الفضل يخص الذي ألبسنيها.

ولو بلغ صوتي أرجاء العالم كافة لكنت أقول بكل ما اوتيت من قوة: ان (الكلمات) جميلة رائعة وانها حقائق وانها ليست مني وانما هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم اجمّل انا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من اظهار جمالها وانما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي ورفعت من شأنها واستناداً الى قاعدة: وما مدحت محمداً بمقالتي.. ولكن مدحت مقالتي بمحمدٍ(1). اقول:

ومامدحت القرآن بكلماتي …… ولكن مدحت كلماتي بالقرآن.

فما دام الأمر هكذا. أقول باسم جمالية الحقائق القرآنية: ان اظهار جمال (الكلمات) التي هي معاكس تلك الحقائق، وبيان العنايات الإلهية المترتبة على جمال تلك المرايا، انما هو تحدث بنعمة الله، مرغوب فيه.

C السبب الخامس:

سمعت من أحد الأولياء ـ قبل مدة مديدة ـ أنه قد استخرج من الاشارات الغيبية لأولياء سابقين ماأورثه القناعة بأن نوراً سيظهر من جهة الشرق ويبدد ظلمات البدع.

ولقد انتظرتُ طويلاً ظهور مثل هذا النور ومازلت منتظراً له، بيد ان الأزاهير تتفتح في الربيع، فينبغي تهيئة السبل لمثل هذه الأزاهير المقدسة. وأدركنا اننا بخدمتنا هذه، انما نمهّد السبيل لأولئك الكرام النورانيين.

ولاشك ان بيان العنايات الإلهية التي تخص (الكلمات) لايكون مدار فخر وغرور ابداً اذ لايعود الى اشخاصنا بالذات. بل يكون ذلك مدار حمد وشكر وتحدث بالنعمة.

C السبب السادس:

ان العناية الربانية التي هي وسيلة ترغيب ومكافأة عاجلة وجزاء مقدّم لخدمتنا للقرآن بسبب تأليف ((الكلمات)) ما هي الا التوفيق في العمل والنجاح في الخدمة، والتوفيق في الخدمة يُظهرَ ويعلن عنه، واذا مامضت العناية من التوفيق والنجاح وسَمَت، فانها تكون إكراماً إلهياً. واظهار الاكرام الإلهي شكرٌ معنوي. واذا ما ارتقت العناية الى اعلى من الاكرام، فلا محالة انها تكون كرامة قرآنية، قد حظينا بها، واظهار كرامة من هذا النوع دون اختيار منا، ومن حيث لانحتسب ومن دون علمنا، ليس فيه ضرر. واذا ما ارتقت العناية فوق الكرامة الاعتيادية، فلاشك انها تكون شُعل الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم. ولما كان الاعجاز لابد أن يعلن عنه، فان اظهار ما يمدّه بالقوة يكون في سبيله ايضاً، ولايكون مبعث تفاخر وغرور ابداً، بل مبعث حمد وشكر.

C السبب السابع:

ان ثمانين بالمائة من الناس ليسوا محققين علماء، كي ينفذوا الى الحقيقة ويسبروا غورها ويصدقوا بها، ويقبلوها، بل يقبلون المسائل تقليداً لما سمعوه من أناس هم موضع ثقتهم واعتمادهم بناءً على ظاهر حالهم وعلى حسن الظن بهم، حتى ان حقيقة قوية يرونها ضعيفة لأنها في يد شخص ضعيف بينما يعدّون مسألة تافهة في يد شخص مرموق مسألة قيمة. لذا اضطر الى الاعلان عن الحقائق الايمانية والقرآنية التي هي في يد شخصي الضعيف الذي لاقيمة له ولاأهمية، لئلا احطّ من قيمتها أمام أنظار أغلب الناس، فأقول: ان هناك مَن يستخدمنا ويسوقنا الى الخدمة دون اختيارٍ منا ودون علمنا، ويسخّرنا في أمور جسام دون معرفتنا. ودليلنا هو اننا نحظى بقسم من عنايات إلهية وتيسيرات ربانية خارج شعورنا وبلا اختيار منا. ولهذا نضطر الى الاعلان عن تلك العنايات اعلاناً صارخاً على ملأ من الناس.

% % %

هذا وبناءً على الاسباب السبعة المذكورة، نشير الى بضع عنايات ربانية كلية:

u الاشارة الاولى:

وهي ((التوافقات)) التي وضحت في النكتة الاولى من المسألة الثامنة من (المكتوب الثامن والعشرين). ولقد تناظر مايزيد على مائتي كلمة من كلمات ((الرسول الكريم e )) في موازنة تامة، في ستين صحيفة من صفحات رسالة ((المعجزات الاحمدية)) باستثناء صحيفتين، ابتداءً من الاشارة الثالثة الى الاشارة الثامنة عشرة منها، وذلك لدى احد المستنسخين، دون ان يكون له علم بالتوافق. فمن ينظر بانصاف الى صحيفتين من الرسالة فحسب يصدّق ان ذلك لايمكن ان يكون نتيجة مصادفة ابداً، اذ ربما تتناظر كلمات متشابهة ان وجدت في صحيفة واحدة، وتعدّ توافقاً ناقصاً لاحتمال وجود المصادفة، بينما الأمر هنا، ان كلمة الرسول الكريم e ، قد توافقت في تناظر متوازن في صفحات كثيرة، بل في جميعها، ولاتوجد في الصفحة الواحدة إلاّ اثنتان او ثلاثة او اربعة او أكثر منها. أي ان عددها ليس بكثرة، فلاشك ان التناظر ناشئ عن توافق لا عن مصادفة، فضلاً عن ان التوافق جرى لدى ثمانية مستنسخين ولم يتغير توازن التوافق لديهم رغم اختلافهم.. مما يدل ان في ذلك التوافق اشارة غيبية قوية . اذ كما ان بلاغة القرآن قد علت الى درجة الاعجاز ففاقت بلاغته كتـب البلغاء كلهم، حتى لايمكن ان يبلغ أحد منهم شأو ذلك الاعجاز، كذلك التوافقات الموجودة في (المكتوب التاسع عشر) ـ الذي هو مرآة لمعجزات الرسول e ـ وفي (الكلمة الخامسة والعشرين) التي هي معكس اعجاز القرآن، وفي اجزاء (رسائل النور) الأخرى التي هي نوع من تفسير للقرآن الكريم.. أقول؛ هذه التوافقات تبيّن غرابة تفوق جميع الكتب، مما يفهم منها انها نوع من كرامات معجزات القرآن ومعجزات الرسول الكريم e تتجليان في تلك المرايا وتتمثلان فيها.

u الاشارة الثانية:

العناية الربانية الثانية التي تخص الخدمة القرآنية هي:

ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليّ باخوة أقوياء جادّين، مخلصين، غيورين، مضحين، لهم أقلام كالسيوف الالماسية، ودفعهم ليعاونوا شخصاً مثلي لايجيد الكتابة، نصف أمي، في ديار الغربة، مهجور، ممنوع عن الاختلاط بالناس. وحمّل سبحانه كواهلهم القوية ماأثقل ظهري الضعيف العاجز من ثقل الخدمة القرآنية، فخفف بفضله وكرمه سبحانه حملي الثقيل.

فتلك الجماعة المباركة في حكم اجهزة البث اللاسلكي (بتعبير خلوصي) وبمثابة مكائن توليد الكهرباء لمصنع النور (حسب تعبير صبري). ومع ان كلاً منهم يملك مزايا متنوعة وخواصّ راقية متباينة إلاّ أن فيهم نوعاً من توافقات غيبية (حسب تعبير صبري) اذ يتشابهون في الشوق الى العمل والسعي فيه والغيرة على الخدمة والجدية فيها، اذ إن نشرهم الاسرار القرآنية والانوار الايمانية الى الاقطار وابلاغها جميع الجهات، وقيامهم بالعمل دون فتور، وبشوق دائم وهمة عالية، في هذا الزمان العصيب (حيث الحروف قد تبدلت ولاتوجد مطبعة، والناس بحاجة الى الانوار الايمانية) فضلاً عن العوائق الكثيرة التي تعرقل العمل وتولد الفتور، وتهوّن الشوق .. أقول ان خدمتهم هذه كرامة قرآنية واضحة وعناية إلهية ظاهرة ليس إلاّ.

نعم! فكما ان للولاية كرامة، فان للنية الخالصة كرامة ايضاً، وللاخلاص كرامة ايضاً، ولاسيما الترابط الوثيق والتساند المتين بين الاخوان ضمن دائرة اخوة خالصة لله، تكون له كرامات كثيرة، حتى ان الشخص المعنوي لمثل هذه الجماعة يمكن ان يكون في حكم ولي كامل يحظى بالعنايات الالهية.

فياأخوتي وياأصحابي في خدمة القرآن!

كما ان اعطاء جميع الشرف والغنائم كلها الى آمر الفوج الذي فتح حصناً، ظلم وخطأ، كذلك لايمكنكم اسناد العنايات الإلهية في الفتوحات التي تمت بقوة شخصكم المعنوي وبأقلامكم الى شخص عاجز مثلي. اذ مما لاشك؛ ان في مثل هذه الجماعة المباركة توجد اشارة غيبية قوية أكثر من التوافقات الغيبية. وانني أراها، ولكن لاأستطيع اظهارها لكل أحد ولاللناس عامة.

u الاشارة الثالثة:

ان اثبات اجزاء (رسائل النور) لجميع الحقائق الايمانية والقرآنية المهمة، حتى لأعتى المعاندين، اثباتاً ساطعاً، انما هو اشارة غيبية قوية جداً، وعنايةإلهية عظيمة. لأن هناك من الحقائق الايمانية والقرآنية، اعترف بعجزه عن فهمها من يعدّ أعظم صاحب دهاء، وهو (ابن سينا) الذي قال في (مسألة الحشر):((الحشر ليس على مقاييس عقلية)) بينما تُعلّم (الكلمة العاشرة) عوام الناس والصبيان حقائق لم يستطع ان يبلغها ذلك الفيلسوف بدهائه.

وكذا مسائل (القدر والجزء الاختياري) التي لم يحلها العلامة الجليل (السعد التفتازاني)(1) إلاّ في خمسين صحيفة، وذلك في كتابه المشهور بـ((التلويح)) من قسم ((المقدمات الاثنتي عشرة))، ولم يبيّنها إلاّ للخواص من العلماء، هذه المسائل تبينها (الكلمة السادسة والعشرون) ((رسالة القدر)) في صحيفتين من المبحث الثاني منها بياناً شافياً وافياً، وبما يوافق أفهام الناس كلهم. فان لم يكن هذا من أثر العناية الإلهية فما هو اذن؟.

وكذا سر خلق العالم، المسمى بـ(طلسم الكائنات) الذي جعل العقول في حيرة منه، ولم تحلّ لغزه اية فلسفة كانت، كشف اسراره وحل ألغازه الاعجاز المعنوي للقرآن العظيم، وذلك في (المكتوب الرابع والعشرين) وفي النكتة الرمزية الموجودة في ختام (الكلمة التاسعة والعشرين)، وفي الحِكَم الست لتحوّل الذرات في (الكلمة الثلاثين). هذه الرسائل قد حلت ذلك الطلسم المغلق في الكون، وكشفت عن اسرار ذلك المعمى المحيّر في خلق الكون وعاقبته، وبينت حكمة الذرات وتحولاتها. وهي متداولة لدى الجميع، فليراجعها من شاء.

وكذا حقائق الأحدية، ووحدانية الربوبية بلاشريك، وحقائق القرب الإلهي قرباً أقرب الينا من أنفسنا، وبُعدنا نحن عنه سبحانه بُعداً مطلقاً.. هذه الحقائق الجليلة قد وضحتها توضيحاً كاملاً كل من (الكلمة السادسة عشرة) و (الكلمة الثانية والثلاثين).

وكذا القدرة الإلهية المحيطة بكل شئ، وتساوي الذرات والسيارات ازاءها، وسهولة احيائها ذوي الارواح كافة في الحشر الاعظم كسهولة احياء فرد واحد، وعدم تدخل الشرك قطعاً في خلق الكون، وانه بعيد عن منطق العقل بدرجة الامتناع.. كل هذه الحقائق قد كشفت في (المكتوب العشرين) لدى شرح (وهو على كل شئ قدير). وفي ذيله الذي يضم ثلاثة تمثيلات، الذي حلّ ذلك السر العظيم، سر التوحيد.

هذا فضلاً عن أن الحقائق الايمانية والقرآنية لها من السعة والشمول مالايمكن ان يحيط به ذكاء أذكى انسان! أليس اذاً ظهور الاكثرية المطلقة لتلك الحقائق بدقائقها لشخص مثلي مشوش الذهن، مشتت الحال، لامرجع ومصدر لديه من الكتب، ويتم التأليف في سرعة وفي أوقات الضيق والشدة؟ أقول: أليس ذلك أثراً من آثار الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم وجلوة من جلوات العناية الربانية واشارة غيبية قوية؟.

u الاشارة الرابعة:

لقد أنعم الله عليّ بتأليف ستين رسالة بهذا النمط من الانعام والاحسان، اذ من كان مثلي ممن يفكر قليلاً ويتتبع السنوح القلبي، ولايجد متسعاً من الوقت للتدقيق والبحث، يتم في يده تأليف مالايقدر على تأليفه جماعة من العلماء والعباقرة مع سعيهم الدائب، فتأليفها اذن على ذلك الوجه يدّل على انها أثر عناية إلهية مباشرة، لأن جميع الحقائق العميقة الدقيقة في هذه الرسائل كلها تُفهَّم وتدرّس الى عوام الناس واكثرهم أمية بوساطة التمثيلات. مع ان علماء أجلاء قالوا عن اكثر تلك الحقائق انها لاتعلّم ولاتدرس، فلم يعلّموها للعوام وحدهم، ولا للخواص ايضاً.

وهكذا فهذا التسهيل الخارق في التأليف والتيسير في بيان الحقائق، بجعل أبعد الحقائق عن الفهم كأنها في متناول اليد وتدريسها الى أكثر الناس بساطة وأمية، لايكون في وسع شخص مثلي له باع قصير في اللغة التركية، وكلامه مغلق ولايفهم كثير منه، حتى يجعل الحقائق الظاهرية معضلة، واشتهر بهذا منذ السابق وصدّقت آثاره القديمة شهرته السيئة تلك.. فمثل هذا الشخص يجري في يده هذا التيسير والبيان الواضح لاشك انه أثر من آثار العناية الإلهية، ولايمكن ان يكون من حذاقة ذلك الشخص، بل هو جلوة من جلوات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وصورة منعكسة للتمثيلات القرآنية.

u الاشارة الخامسة:

على الرغم من انتشار الرسائل ـ بصورة عامة ـ انتشاراً واسعاً جداً، فان عدم قيام أحد بانتقادها ابتداءً من أعظم عالم الى أدنى رجل من العوام، ومن اكبر ولي صالح تقي الى أحط فيلسوف ملحد عنيد، هؤلاء الذين يمثلون طبقات الناس وطوائفهم. ورغم انها معروضة امامهم ويرونها ويقرأونها، وقد استفادت كل طائفة منها حسب درجتها، بينما تعرّض قسم منهم الى لطماتها وصفعاتها.. أقول: ان كل ذلك ليس إلاّ أثر عناية ربانية وكرامة قرآنية.. ثم ان تلك الأنماط من الرسائل التي لاتؤلف إلاّ بعد بحث دقيق وتحرّ ٍ عميق، فان كتابتها واملاءها بسرعة فوق المعتاد اثناء انقباض وضيق - وهما يشوشان أفكاري وادراكي ـ اثر عناية ربانية وإكرام إلهي ليس إلاّ.

نعم! يعلم أكثر أخواني ومَن عندي من الاصدقاء والمستنسخين جميعهم؛ ان الاجزاء الخمسة من (المكتوب التاسع عشر)، قد أُلفت في ثلاثة او اربعة ايام بمعدل ساعتين او ثلاث ساعات يومياً، أي بمجموع اثنتي عشرة ساعة دون مراجعة كتاب، حتى ان الجزء الرابع المهم جداً الذي اظهر ختماً واضحاً للنبوة في كلمة الرسول الكريم e قد كتب بظهر الغيب في حوالي أربع ساعات وفي زوايا الجبال وتحت المطر.

وكذلك (الكلمة الثلاثون) التي هي رسالة جليلة دقيقة ألفت في أحد البساتين، خلال ست ساعات، كما ان (الكلمة الثامنة والعشرين) ألفت في ظرف لايتجاوز ساعتين في بستان ((سليمان)).

وهكذا كان تأليف اكثر الرسائل الأخرى.

ويعلم الأقربون مني، انني - في السابق - كلما كنت اتضايق من شئ أعجز عن بيان أظهر الحقائق، بل كنت أجهلها. ولاسيما اذا مازاد المرض على ذلك الضيق، كنت امتنع أكثر عن التدريس والتأليف، بينما ألفت ((الكلمات)) المهمة، وكذلك الرسائل الأخرى في أشد أوقات المرض والضيق، وتم التأليف في أسرع وقت. فان لم يكن هذا إكراماً ربانياً وكرامة قرآنية مباشرة، فما هو اذن؟.

ثم انه ما من كتاب يبحث في مثل هذه الحقائق الإلهية والايمانية إلاّ ويترك بعض مسائله ضرراً في عدد من الناس، لذا ما كان ينشر كل مسألة منه الى الناس كافة. اما هذه الرسائل فلم تلحق أي ضرر كان ولم تؤثر تأثيراً سيئاً في أحد من الناس ولم تخدش ذهن أحد قط رغم استفساري عن ذلك من الكثيرين حتى تحقق لدينا ان ذلك اشارة غيبية وعناية ربانية مباشرة.

u الاشارة السادسة:

لقد تحقق لديّ يقيناً: ان اكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيري، اذ اُعطيت سيراً معيناً ووجهت وجهة غريبة لتنتج هذه الانواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بمثابة مقدمات تمهيدية لبيان اعجاز القرآن بـ((الكلمات)) حتى انه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي والاغتراب وعزلي عن الناس ـ دون سبب او مبرر وبما يخالف رغبتي ـ أمضي ايام حياتي في قرية نائية خلافاً لمشربي وعزوفي عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتها سابقاً .. كل ذلك ولّد لي قناعة تامة لايداخلها شك من انه تهيئة وتحضير لي للقيام بخدمة القرآن وحده، خدمة صافية لاشائبة فيها.

بل انني على قناعة تامة من ان المضايقات التي يضايقونني بها في اغلب الاوقات والعنت الذي ارزح تحته ظلماً، انما هو لدفعي - بيد عناية خفية رحيمةــ الى حصر النظر في اسرار القرآن دون سواها. وعدم تشتيت النظر وصرفه هنا وهناك. وعلى الرغم من انني كنت مغرماً بالمطالعة، فقد وهبتْ لروحي مجانبة واعراضاً عن أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم.

فادركت ان الذي دفعني الى ترك المطالعة ـ التي كانت تسليتي الوحيدة في مثل هذه الغربة ـ ليس إلاّ كون الآيات القرآنية وحدها استاذاً مطلقاً لي.

ثم ان الآثار المؤلفة والرسائل – باكثريتها المطلقة – قد اُنعمت عليّ بها لحاجة تولدت في روحي فجأة، ونشأت آنياً. دون ان يكون هناك سبب خارجي. وحينما كنت أظهرها لبعض أصدقائي، كانوا يقولون: ((انها دواء لجراحات هذا الزمان)). وبعد انتشارها عرفت من معظم اخواني انها تفي بحاجة هذا العصر وتضمد جراحاته.

فهذه الحالات المذكورة آنفاً ـ وهي خارجة عن نطاق ارادتي وشعوري وسير حياتي ـ ومجموع تتبعاتي في العلوم خلاف عادة العلماء وبما هو خارج عن اختياري، كل ذلك لم يترك لي شبهة قطعاً بانها عناية إلهية قوية واكرام رباني واضح، للانجرار الى مثل هذه النتيجة السامية.

u الاشارة السابعة:

لقد شاهدنا بأم أعيننا ـ دون مبالغة ـ مائة من آثار الاكرام الإلهي، والعناية الربانية، والكرامة القرآنية خلال زهاء ست سنوات من سير خدمتنا للقرآن الكريم. وقد أشرنا الى قسم منها في (المكتوب السادس عشر) وبيّنا قسماً آخر في المسائل المتفرقة للمبحث الرابع من (المكتوب السادس والعشرين) وفي المسألة الثالثة من (المكتوب الثامن والعشرين). وان أصحابي القريبين يعلمون هذا. ولاسيما صاحبي الدائم، السيد سليمان، يعلم أكثرها، فحظينا بتيسيرإلهي ذي كرامة لايخطر على بال، سواء في نشر ((الكلمات)) والرسائل الاخرى، او في تصحيحها ووضعها في مواضعها وفي تسويدها وتبييضها. فلم يبق لدينا ريب ـ بعد ذلك ـ ان كل تلك العنايات الإلهية كرامة قرآنية .. ومثال هذا بالمئات.

ثم اننا نُربىّ بشفقة ورأفة وتجري معيشتنا بعناية بحيث يُحسِن الينا صاحب العناية الذي يستخدمنا في هذه الخدمة بما يحقق أصغر رغبة من رغبات قلوبنا، وينعم بها علينا من حيث لانحتسب .. وهكذا.

فهذه الحالة اشارة غيبية في منتهى القوة الى اننا نستخدم في هذه الخدمة القرآنية وندفع الى العمل مكللين بالرضى الإلهي مستظلين بظل العناية الربانية.

الحمد لله هذا من فضل ربي

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللهم صلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقهِ اداءً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً . آمين .



جواب عن سؤال خاص

ان هذا السر، وهو سر عناية إلهية، قد كتب للتداول الخاص، واُلحق في ختام الكلمة الرابعة عشرة، ولكن - بأية حال - نسي المستنسخون ان يكتبوه، فظل مخفياً مستوراً. فموضعه اذن ههنا وهو الأليق به.

انك يا أخي تسأل: لماذا نجد تأثيراً غير اعتيادي فيما كتبته في ((الكلمات)) المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين. فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثير صحيفة كاملة من غيرها، وماتحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟

فالجواب: وهو جواب لطيف جميل، اذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود الى اعجاز القرآن الكريم وليس الى شخصي أنا، فسأقول الجواب بلاحرج:

نعم! هو كذلك على الاغلب؛ لأن الكلمات:

تصديق وليست تصوراً (1).

وايمانٌ وليست تسليماً(2).

وتحقيق وليست تقليداً(3).

وشهادة وشهود وليست معرفة(4).

واذعان وليست التزاماً(5).

وحقيقة وليست تصوفاً .

وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءاً

وحكمة هذا السر هي:

ان الاسس الايمانية كانت رصينة متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، اذ كانت توضيحات العارفين في الامور الفرعية مقبولة، وبياناتهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل.

اما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالة باسم العلم يدها الى اسس الايمان واركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم - الذي يهب لكل صاحب داء دواءه المناسب - وانعم عليّ سبحانه شعلةً من ((ضرب الامثال)) التي هي من اسطع معجزات القرآن واوضحها، رحمةً منه جل وعلا لعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم. فـله الحمد والمنة:

فبمنظار ((ضرب الامثال)) قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جداً انها قريبة جداً.

وبوحدة الموضوع في ((ضرب الامثال))قد جُمِّعَتْ اكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.

وبسلّم ((ضرب الامثال))قد تُوصِّل الى اسمى الحقائق واعلاها بسهولة ويُسر.

ومن نافذة ((ضرب الامثال)) قد حُصّل اليقين الايماني بحقائق الغيب واسس الاسلام مما يقرب من الشهود.

فاضطر الخيال الى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل الى الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان الى إلقاء السلاح.

حاصل الكلام:

انه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في اسلوب كتاباتي، فانها ليست مني، ولا مما مضغه فكري، بل هي من لمعات ((ضرب الامثال)) التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيها الا الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلاّ التضرع والتوسل اليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.

فالداء مني والدواء من القرآن الكريم .

خاتمـة

الـمسألة السابعة

[هذه الخاتمة تخص ازالة الشبهات التي تثار او ربما تثار حول الاشارات الغيبية التي وردت في صورة ثماني عنايات الهية، وفي الوقت نفسه تبين هذه الخاتمة سراً عظيماً لعناية الهية].

وهذه الخاتمة عبارة عن اربع نكات.

النكتة الاولى:

لقد ادّعينا مشاهدتنا لجلوة اشارة غيبية، كتبناها في (العناية الإلهية الثامنة) في معرض بياننا ((للتوافقات)) وقد أحسسنا هذه الاشارة من العنايات الإلهية السبعة الكلية المعنوية المذكورة في المسألة السابعة من (المكتوب الثامن والعشرين) وما زلنا ندّعي ان هذه العنايات السبعة او الثمانية الكلية قوية وقاطعة الى درجة تثبت كل واحدة منها على حدتها تلك الاشارات الغيبية، بل لو فرض فرضاً محالاً ان قسماً منها تبدو ضعيفة، او لو أُنكر، فلا يخل ذلك بقطعية تلك الاشارات الغيبية، اذ مَن لم يقدر على انكار تلك العنايات الثمانية لايستطيع ان ينكر تلك الاشارات.

ولكن لما كانت طبقات الناس متفاوتة، وطبقة العوام هم الذين يمثلون الغالبية العظمى، وانهم يعتمدون كثيراً على المشاهدة، لذا غدت ((التوافقات)) أظهر تلك العنايات الالهية، وهي ليست أقواها بل الأخريات أقوى منها، الاّ انها أعمها، ولهذا اضطررت الى بيان حقيقة معينة في صورة موازنة ومقارنة دفعاً للشبهات التي تثار حول ((التوافقات)). وذلك:

لقد قلنا في حق تلك العناية الظاهرة: ان التوافقات مشاهدة في كلمتي ((القرآن الكريم)) و ((الرسول الكريم e )) وفي الرسائل التي ألفناها، الى حدٍ لاتدع شبهة من انها نُظــّمت قصداً وأعطيت لها وضعاً موازياً. والدليل على ان القصد والارادة ليسا منا، هو اطلاعنا على تلك التوافقات بعد حوالي أربع سنوات، أي ان هذا القصد والارادة كانت غيبية وأثراً من آثار العناية الالهية، فأُعطيت تلكما الكلمتان ذلك الوضع الغريب تأييداً محضاً لمعجزات الرسول الكريم e والاعجاز القرآني. واصبحت ببركة هاتين الكلمتين ((التوافقات)) ختم تصديقٍ لرسالتي ((المعجزات الاحمدية)) و ((المعجزات القرآنية)).

بل نالت أكثر الكلمات المتشابهة من أمثالهما توافقات ايضاً ولكن في صفحات محدودة، بينما أظهرت هاتان الكلمتان توافقات في معظم صفحات الرسائل عامة، وفي جميع صفحات تلكما الرسالتين.

وقد كررنا القول : ان أصل هذا التوافق يمكن ان يوجد بكثرة في الكتب الاخرى، ولكن ليست بهذه الدرجة من الغرابة الدالة على القصد والارادة السامية العالية.

وبعد، فعلى الرغم من ان دعوانا هذه لايمكن نقضها، إلاّ أن فيها جهة او جهتين ربما تتراءى للنظر الظاهري كأنها باطلة. منها:

انه يمكن ان يقولوا: انكم تنظمون هذا التوافق بعد تفكر وانعام نظر، والقيام بمثل هذا العمل بقصد وارادة سهل ويسير!

نقول جواباً عن هذا :

ان شاهدين صادقين في دعوى ما، كافيان لإثباتها، ففي دعوانا هذه يمكننا ان نبرز مائة شاهد صادق على اننا قد اطلعنا على التوافق بعد حوالي أربع سنوات، من غير ان يتعلق به قصدنا وارادتنا.

ولهذه المناسبة أوضح نقطة، هي:

ان هذه الكرامة الاعجازية ليست من نوع درجة الاعجاز القرآني من حيث البلاغة. لأن؛ البشر في الاعجاز القرآني البلاغي يعجز كلياً عن ان يبلغ درجة بلاغة القرآن بسلوكه طريق البلاغة.

اما هذه الكرامة الاعجازية، فانها لايمكن ان تحصل بقدرة البشر، فالقدرة لاتتدخل فيها(1).

وقد شاهدنا بابصارنا واقع هذا الهامش. [بكر، توفيق، سليمان، غالب، سعيد ((المؤلف))].

النكتة الثالثة:

نشير الى سر دقيق من اسرار الربوبية والرحمانية لمناسبة البحث عن الاشارة الخاصة والاشارة العامة.

ان لأحد اخواني قولاً جميلاً، سأجعله موضوع هذه المسألة، وذلك:

انه عندما عرضتُ عليه يوماً توافقاً جميلاً قال: انه جميل، اذ كل حقيقة جميلة، إلاّ أن الأجمل منها التوفيق والتوافقات الموجودة في هذه ((الكلمات)).

فقلت: ((نعم! ان كل شئ جميل، ولكن اما انه جميل حقيقةً اي بالذات او جميل باعتبار نتائجه. وان هذا الجمال متوجّه الى الربوبية العامة، والرحمة الشاملة والتجلي العام. وان الاشارة الغيبية في هذا التوفيق هي أجمل، كما قلتَ.. لأنها تنم عن رحمة خاصة وربوبية خاصة وتجلٍ خاص)).

وسنقرب هذا الى الفهم بتمثيل، وذلك:

ان السلطان يشمل برعايته وبرحمته جميع أفراد الامة، وذلك بقوانينه ودولته، فكل فرد ينال مباشرةً لطفه وكرمه ويستظل بظل دولته. اي هناك علاقات خاصة للافراد ضمن هذه الصورة العامة.

اما الجهة الثانية (من رعايته ورحمته) فهي آلاؤه الخصوصية، وأوامره الخاصة التي هي فوق جميع القوانين، ولكل فرد من رعاياه حصة من هذه الآلاء.

فعلى غرار هذا المثال: فان لكل شئ حظاً من الربوبية العامة والرحمة الشاملة لواجب الوجود والخالق الحكيم الرحيم، اي ان كل شئ ذو علاقة معه بصورة خاصة في الجهة التي حظى بها. وان له تصرفاً في كل شئ بقدرته وارادته وعلمه المحيط. فربوبيته شاملة كل شئ حتى أصغر الافعال. وكل شئ محتاج اليه سبحانه في كل شأن من شؤونه، فتقضى أموره وتنظم أفعاله بعلمه وحكمته جل وعلا.

فلا تستطيع الطبيعة ان تتخفى ضمن دائرة تصرف ربوبيته الجليلة، او تتداخل فيها مؤثرةً فيها، ولا المصادفة تتمكن من التدخل في اعماله سبحانه الموزونة بميزان الحكمة الدقيق. ولقد اثبتنا اثباتاً قاطعاً عدم تأثير الطبيعة والمصادفة في عشرين موضعاً من الرسائل واعدمناهما بسيف القرآن الكريم، واظهرنا بالحجج الدامغة ان تدخلهما في الامور محال قطعاً.

بيد ان اهل الغفلة أطلقوا اسم (المصادفة) على الامور التي لاتعرف حكمتها واسبابها في نظرهم من الظواهر التي هي مشمولة بالربوبية العامة، ولما عجزوا عن رؤية قوانين الافعال الإلهية التي لايحاط بحكمها المتسترة تحت ستار الطبيعة، اسندوا الامر الى الطبيعة.

الثانية:

هي الربوبية الخاصة، والتكريم الخاص والامداد الرحماني الخاص، بحيث ان الذين لايتحملون ضغوط القوانين العامة يسعفهم اسم الرحمن والرحيم ويمدّهم ويعاونهم معاونة خاصة وينجيهم من ذلك الضيق والعنت.

ولهذا فكل كائن حي، ولاسيما الانسان، يستعين به سبحانه، ويستمد المدد منه كل آن، فاحسانه ونعمه التي هي في هذه الربوبية الخاصة، لايمكن ان تتخفى تحت المصادفة ولايمكن ان تسند الى الطبيعة حتى لدى اهل الغفلة أنفسهم.

وبناءً على ما سبق، فقد اعتقدنا بان الاشارات الغيبية التي هي في (المعجزات الاحمدية) و (المعجزات القرآنية) اشارة غيبية خاصة، وايقنّا انها امداد رباني خاص وعناية إلهية خاصة تستطيع ان تظهر نفسها امام المعاندين، ولهذا أعلنّا عنها نيلاً لرضاه تعالى فحسب.

فلئن قصّرنا فنرجو عفوه سبحانه . آمين.

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا{

الـمسألة الثامنة

وهي الرسالة الثامنة

[هذه المسألة عبارة عن ثماني نكات كتبت جواباً عن ستة أسئلة]

C النكتة الاولى:

لقد شعرنا بكثير من انواع الاشارات الغيبية، حول استخدامنا في خدمة القرآن تحت عناية إلهية، وقد بيّنا بعضها. وهذه اشارة جديدة منها، وهي وجود ((توافقات غيبية)) في اكثر ((الكلمات))(1).

منها: اشارة غيبية، لتمثّل نوعٍ من نور الاعجاز، في كلمة (الرسول الاكرم)، وفي عبارة (عليه الصلاة والسلام) وفي لفظ (القرآن) المبارك. والاشارة الغيبية مهما كانت خفية وضعيفة، فهي في نظري على جانب عظيم من الأهمية والقوة، وذلك لدلالتها على صواب المسائل وقبول الخدمة، وانها تحدُّ من غروري وتكسر شوكته.

وقد بينت لي بوضوح؛ انني لست إلاّ ترجماناً للرسائل، ولم تدع لي شيئاً من موضع افتخار بل تظهر لي الاشياء التي هي مدار شكران فحسب.. وحيث ان الاشارات الغيبية تخص القرآن الكريم وترجع اليه، وتمضي في سبيل بيان اعجازه، ولاتخالطها ارادتنا ابداً، وتحث المتكاسلين في الخدمة على العمل، وتورث قناعة بأحقية الرسالة، وهي نوع من إكرام إلهي لنا، وفي اظهارها تحدّث بالنعمة، وإلزام المتمردين الماديين الحجة واسكاتهم.. فيستلزم إذاً اظهارها، ولاضرر فيه ان شاء الله.

وهكذا فاحدى هذه الاشارات الغيبية هي:

ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بكمال رحمته وعموم كرمه، حثاً لنا على العمل وتطميناً لقلوبنا ـ نحن المشتغلين بخدمة القرآن والايمان ـ نعمة لطيفة في صورة اكرام رباني، واحسانٍ إلهي، علامةً على قبول خدمتنا وتصديقاً على أحقية ما ألــّفناه، تلك هي الاشارات الغيبية في ((التوافقات)) التي ظهرت في جميع رسائلنا، ولاسيما في ((المعجزات الاحمدية)) ورسالة ((المعجزات القرآنية)) ورسالة ((النوافذ))، حيث تتناظر فيها الكلمات المتماثلة في الصحيفة الواحدة.

وفي هذا اشارة غيبية الى انها تُنظم بارادة غيبية، اي: ((ان نقوشاً وانتظامات خارقة تُجرى دون علمٍ لاختياركم اياها ولايبلغها شعوركم، فلا تغتروا بارادتكم وشعوركم!)).. ولاسيما في ((المعجزات الاحمدية)) التي أصبحت فيها كلمة ((الرسول الاكرم)) ولفظ ((الصلوات عليه)) في حكم المرآة، تبين تلك التوافقات الغيبية بوضوح، بل تناظرت عبارة ((الصلوات عليه)) متوازية في اكثر من مائتي صفحة ـ باستثناء خمس صفحات ـ لدى مستنسخ جديد مبتدئ.

فهذه التوافقات كما لاتكون من شأن المصادفة قطعاً، التي قد تكون سبباً لتوافق كلمتين من كل عشر كلمات، لاتكون نابعة كذلك من تفكير شخص ضعيف مثلي، غير حاذق الصنعة، والذي يحصر نظره في المعنى، ويؤلف في سرعة فائقة مايقارب اربعين صحيفة في حوالي ساعتين من الزمن. فضلاً عن انه لايكتب بل يُملي على غيره ويستكتبه..

وهكذا وبعد مضي ست سنوات اطلعتُ على تلك التوافقات بارشاد القرآن الكريم ايضاً، وبارشاد تفسير ((اشارات الاعجاز))، حيث جاء التوافق فيه في تسع كلمات من كلمة ((إنــّا)). وقد حار المستنسخون كثيراً في الامر بعد سماعهم التوافق مني.

فكما ان لفظ ((الرسول الاكرم)) ولفظ ((الصلوات عليه)) في (المكتوب التاسع عشر) أصبحا كمرآة صغيرة لنوع من أنواع معجزاته e . كذلك لفظ ((القرآن)) في رسالة ((المعجزات القرآنية)) وهي (الكلمة الخامسة والعشرون) وفي الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر) قد ظهر في توافق لطيف مما بيّن جزءاً من اربعين جزء من ((التوافقات)) التي ظهرت في سائر الرسائل ايضاً، والتي تبين نوعاًمن الانواع الأربعين لاعجاز القرآن ازاء طبقة الناس الذين يعتمدون على مشاهداتهم وحدها، وهم الذين يمثلون واحدةً من اربعين طبقة من طبقات الناس. وذلك:

لقد تكرر لفظ ((القرآن)) مائة مرة في (الكلمة الخامسة والعشرين) وفي الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر)، وتناظرت الكلمات جميعها إلاّ ماندر.

ففي الصحيفة الثالثة والاربعين من الشعاع الثاني، هناك سبعة من لفظ ((القرآن)) تتناظر كلها.

وفي الصحيفة السادسة والخمسين التي فيها تسعة من لفظ ((القرآن))، تتناظر ثماني كلمات منها.

وهذه الصحيفة التاسعة والستون ـ التي أمام أبصارنا ـ توجد خمسة ألفاظ من ((القرآن)) تتناظر جميعها. وهكذا تتناظر ألفاظ ((القرآن)) المكررة الواردة في جميع الصفحات. وقلما يستثنى واحد من كل خمسة او ستة ألفاظ منه. واما سائر التوافقات، ففي الصحيفة الثالثة والثلاثين ـ التي هي أمامنا ـ خمسة عشر لفظاً لـ((أمْ))، تتناظر اربعة عشر منها، وكذلك في هذه الصحيفة التي أمام أعيننا، تتناظر تسعة من لفظ ((الايمان))، وانحرف واحد انحرافاً قليلاً، بوضع المستنسخ فاصلة بين الكلمات، وكذا في هذه الصحيفة التي أمامنا يتناظر لفظان من لفظ ((المحبوب)) أحدهما في السطر الثالث والآخر في السطر الخامس عشر، فهما يتناظران تناظراً جميلاً بميزان تام، وقد صُفّت بينهما أربعة من ألفاظ ((العشق)) متناظرة.

وهكذا، تقاس التوافقات الغيبية الأخرى على هذه.

فهذه التوافقات موجودة ـ لامحالة ـ بشكل من الاشكال في الرسائل أياً كان المستنسخ، وكيفما كانت الاسطر والصفحات، بحيث لاتدع شبهة من انها ليست نتيجة المصادفة، ولا من نتاج تفكير المؤلف والمستنسخ، ولكن التوافقات في خط بعض المستنسخين تلفت الأنظار أكثر، بمعنى ان لهذه الرسائل خطاً حقيقياً خاصاً بها، وان بعض المستنسخين يقترب من ذلك الخط.

ومن غرائب الأمور؛ ان هذه التوافقات أكثر ظهوراً لدى المستنسخين غير الماهرين. مما يفهم منه ان المزايا والفضائل والظرافة في ((الكلمات)) التي هي نوع من تفسير القرآن الكريم ليست ملك أحد. بل ان ملابس الاساليب الموزونة المنتظمة التي تناسب قامة الحقائق القرآنية المباركة الجميلة المنتظمة، لاتفصّل ولاتخاط باختيار أحد ولابشعوره، بل ان وجودها هو الذي يقتضي ان يكون الأمر هكذا. وان يداً غيبية هي التي تفصّلها وتخيطها وتُلبسها حسب تلك القامة.

اما نحن فترجمان فيها وخادم ليس إلاّ.

C النكتة الرابعة:

تذكرون في سؤالكم الأول، المتضمن لخمسةاو ستة اسئلة :

كيف يكون الجمع في ميدان الحشر وهل يحشر الناس عراة؟ وكيف يكون لقاء الاصدقاء الاحبة وكيف نجد الرسول e للشفاعة؟ اذ كيف يقابل انسان واحد عدداً غير محدود من الناس؟ وما نوع ثياب أهل الجنة والنار؟ ومن الذي يدلنّا على الطريق؟.

الجواب:

ان جواب هذا السؤال موجود كاملاً وواضحاً في كتب الاحاديث الشريفة.

وسنورد هنا ما يوافق مسلكنا ومشربنا من نكتة او نكتتين فحسب:

اولاً: لقد بينا في مكتوب من ((المكتوبات)): ان ميدان الحشر هو في مدار الارض السنوي، وان الارض ترسل محاصيلها المعنوية من الآن الى ألواح ذلك الميدان، وانها بحركتها السنوية تمثل دائرة وجود، وتكون مبدأ ً لتشكل ميدان الحشر، بمحاصيل تلك الدائرة الوجودية.

وان الكرة الارضية؛ التي هي كسفينة ربانية ستفرغ ما في مركزها من جهنم صغرى الى جهنم كبرى، كما ستفرغ سكنتها الى ميدان الحشر.

ثانياً: لقد أثبتنا اثباتاً قاطعاً في ((الكلمات)) ولاسيما في ((الكلمة العاشرة)) وفي ((الكلمة التاسعة والعشرين)) وجود الحشر مع ميدانه.

ثالثاً: اما الاجتماع بالاصدقاء ولقاؤهم، فقد اثبت اثباتاً كاملاً في كل من ((الكلمة السادسة عشرة)) و ((الكلمة الحادية والثلاثين)) و ((الكلمة الثانية والثلاثين)) وذلك:

ان شخصاً واحداً يستطيع في دقيقة واحدة ان يقابل ملايين الناس وفي ألف مكان ومكان، وذلك بسر النورانية.

رابعاً: ان الله سبحانه وتعالى قد ألبس مخلوقاته الأحياء كافة لباساً فطرياً سوى الانسان، ففي ميدان الحشر يلبسه سبحانه لباساً فطرياً، ويتعرى عن ملابسه المنسوجة (غير الفطرية) وذلك بمقتضى اسم الله الحكيم.

اما حكمة الألبسة المنسوجة في الدنيا، فلا تنحصر في الوقاية من الحر والقر، والزينة، وستر للعورة وحدها، بل أهم حكمة لها هي:

انها اشارة الى سيادة الانسان على سائر الانواع وتصرفه فيها، اذ ان ملابسه منسوجة من نماذج تلك الانواع. وإلاّ فما أهون عليه سبحانه أن يلبس الانسان لباساً فطرياً بسيطاً. اذ لولا هذه الحكمة لكان الانسان موضع استهزاء الحيوانات ذات المشاعر، حيث يغطي نفسه، ويلف جسمه بقطع متنوعة وخرق مختلفة.

اما في ميدان الحشر فلا داعي الى هذه الحكمة ولامبرر لتلك العلاقة بين الانسان وسائر الانواع، لذا لاحاجة الى تلك الملابس التي تمثل نماذج تلك الانواع.

خامساً: اما الدليل على الطريق، فهو القرآن لأمثالك ممن انضووا تحت نور القرآن ولوائه. فانظر الى المقطعات الموجودة في اوائل السور كـ((الم. و الر. و حم)) واعلم منها وشاهد: ماأعظم القرآن من كتاب، وماأرجاه من شفيع، وما أصدقه من دليل، وما أقدسه من نور!

سادساً: اما ثياب اهل الجنة وجهنم فقد وضحته ((الكلمة الثامنة والعشرون)) والدستور الذي ذكر فيما يخص سبعين حُلّة للحور العين جارٍ هنا ايضاً، وذلك ان انساناً من اهل الجنة لاشك يرغب في ان يتنعم بكل نوع من انواع لذائذ الجنة، وفي كل وقت وآن. ومعلوم ان في الجنة نعيماً ولذائذ في منتهى الاختلاف والانواع، فهو يعاشر جميع تلك الانواع من النعم، وفي كل وقت، لذلك يلبس ويُلبس حورَه نماذج حسن الجنة ونعيمها بمقياس مصغر، فيكون هو وحوره العين بمثابة جنة مصغرة.

اذ كما يجمع الانسان في حديقة بيته الازاهير المنتشرة في تلك البلدة، او كما يجمع صاحب حانوت مالديه من انواع البضائع في لائحة وقائمة. وكما يقتني الانسان ملابسه واثاث بيته من انواع المخلوقات التي يتصرف فيها، وله علاقة معها، وكذلك الذي هو من اهل الجنة، ولاسيما الذي عَبَد الله بجميع مشاعره وحواسه سيلبسه الله سبحانه برحمته، ويُلبس حوره العين، حللاً، تظهر كل نوع من انواع جمال الجنة ونعيمها وأذواقها بما يُشبع كل رغبة من رغباته، ويُرضى كل حاسة من حواسه، ويُمتّع كل جهاز من أجهزته، ويُسهّل له تذوق كل لطيفة من لطائفه.

والدليل على ان تلك الحلل المتعددة ليست من جنس واحد ولامن نوع واحد هو الحديث الشريف الوارد بهذا المعنى: ان الحور العين يلبسن سبعين حُلة ويرى مخ عظامهن من تحتها(1).

بمعنى انه ابتداءً من أعلى حلّة من تلك الحلل الى أدناها هناك مراتب من التذوق والتمتع بحيث تشبع جميع الحواس والمشاعر بلذائذ مختلفة وبانماط مختلفة.

اما من هو من أهل النار فانه قد ارتكب السيئات والذنوب ببصره وبسمعه وبقلبه وبعقله وبيده، وبسائر جوارحه وحواسه ومشاعره، فلابد انه سيُلبس ملابس قطّعت من اجناس مختلفة ليعذَّب بها وليذوق آلاماً متنوعة بحسب كل حاسة وجهاز حتى تصير الملابس جهنم مصغرة تحيط به. ولايتنافى هذا ومقتضى الحكمة والعدالة.

C النكتة الخامسة:

تسألون: هل كان أجداد الرسول e يدينون بدين في زمن الفترة؟

الجواب: هناك روايات تدل على انهم كانوا يدينون ببقايا دين ابراهيم عليه السلام، بعد ان مرت بفترات الغفلة والظلمات المعنوية، وقد ظلت متعبَّد بعض الناس الخاصين، فلاريب ان الذين انحدروا من نسل سيدنا ابراهيم عليه السلام والذين شكـّلوا سلسلة نورانية انتجت سيدنا الرسول e لم يكونوا مهملين للدين الحق، ولم يقعوا في ظلمات الكفر، ولكن الآية الكريمة: } وما كنا معذّبينَ حتى نَبعثَ رَسُولا{ (الاسراء:15) تبين ان أهل الفترة يكونون من اهل النجاة، فلايؤاخَذون بخطاياهم في الفروع، بالاتفاق، بل هم اهل نجاة عند الامام الشافعي، والامام الاشعري، حتى لو وقعوا في الكفر وليس لهم اصول الايمان، لان التكليف الإلهي يكون ببعثة الرسل، ويتقرر التكليف بالاطلاع على البعثة.

وحيث ان الغفلة ومرور الزمان قد سترا أديان الأنبياء السابقين، فلاتكون هذه الأديان حجةً على أهل زمن الفترة، فان أطاعوا يثابون، وان لم يطيعوا لايعذّبون، لانها لاتكون حجة مادامت مستورة غير ظاهرة.

C النكتة السادسة:

تقولون: هل اُرسل أحدٌ بالنبوة من أجداد النبي e ؟

الجواب: ليس هناك نص قاطع على وجود نبي من أجداده e بعد سيدنا اسماعيل عليه السلام، ولكن ظهر نبيان من غير أجداده e ، وهما خالد بن سنان(1)، وحنظلة(2). وهناك قصيدة مشهورة لكعب بن لؤي، وهو من أجداده e . يقول فيها:

على غفلة يأتي النبي محمدٌ فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها(3).

هذا الكلام شبيه بكلام نبوة معجز، وقد قال الامام الرباني مستنداً الى الدليل والكشف: ((لقد بُعث انبياء كثيرون في الهند، إلاّ أن بعضهم لم تتبعهم أمة او انحصرت في عدة أشخاص محدودين، فلم يشتهروا، او لم يطلق عليهم الناس اسم النبي))(4).

فبناءً على هذه القاعدة للامام الرباني، يمكن وجود أنبياء أمثال هؤلاء في أجداد النبي e .

C النكتة السابعة:

تقولون: ماأصح خبر وأقواه بحق ايمان والديّ الرسول e وجدّه عبد المطلب؟

الجواب: ان سعيداً الجديد لايقتني اي كتاب كان غير القرآن الكريم منذ عشر سنوات، ويقول حسبي القرآن كتاباً، ولايسعني الوقت للتدقيق والبحث في مثل هذه المسائل الفرعية في جميع كتب الأحاديث كي أتمكن من الوصول الى أقوى الاخبار وأصحها. إلاّ انني أقول:

ان والديّ الرسول الكريم e من اهل النجاة ومن اهل الجنة، ومن اهل الايمان، فلاشك ان الله سبحانه وتعالى لايؤلم قلب حبيبه e ولايجرح شفقته اللطيفة التي تملأ ذلك القلب المبارك.

فان قيل: ان كان الأمر هكذا فلِمَ لم يوفقوا للايمان ولم يدركوا بعثته e .؟

الجواب: ان الله سبحانه وتعالى بكرمه العميم لايجعل والديّ الرسول الحبيبe تحت ثقل المنّة، تلطيفاً لشعوره e .اذ اقتضت رحمته سبحانه ان يرضي حبيبه الكريم e ويسعد والديه ويجعلهما تحت منّة ربوبيته الخالصة، لكيلا ينزلهما من مرتبة الوالدية الى مرتبة الاولاد المعنوية، فلذلك لم يجعل والديه ولا جدّه من امته ظاهراً، في حين أنعم عليهم مزايا الامة وفضائلها وسعادتها.

نعم! لو حضر أمام مشير عظيم في الجيش والده وهو برتبة نقيب لظل والده تحت تأثير شعورين متناقضين. لذا فالسلطان رحمة بمشيره الكريم، لايجعل والده تحت امرته.

C النكتة الثامنة:

تقولون: ماأصح الأقوال بحق عمه أبي طالب؟

الجواب:ان الشيعة قائلون بايمانه، اما أهل السنة فان أكثرهم ليسوا قائلين بايمانه.

ولكن الذي ورد الى قلبي، هو الآتي :

ان ابا طالب كان يحب شخص الرسول e حباً خالصاً جاداً، يحب ذاته لارسالته. فلاشك ان محبته الخالصة جداً وشفقته القوية لشخص الرسول e لاتذهب هباءً منثوراً، ولاتضيع عند الله.

نعم، ان ابا طالب الذي أحب حبيب رب العالمين حباً خالصاً وحماه من الاعداء واظهر موالاته له، حتى لو صار الى جهنم لعدم اظهاره ايماناً مقبولاً ـ خجلاً وعصبية قومية وامثالها من المشاعر وليس عناداً وانكاراً ـ فان الله سبحانه قادر على ان يخلق جنة خاصة به في جهنم ثواباً لحسناته، ويبدل جهنمه الخاصة الى جنة خاصة، بمثل ما يخلق احياناً ربيعاً زاهياً في الشتاء القارس، وبمثل مايحوّل السجن الضيق - برؤيا يراها بعضهم ـ الى قصر منيف.

والعلم عند الله .. ولايعلم الغيب الاّ الله.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

عبدالرزاق 02-03-2011 11:58 AM

رد: المكتوبات
 
الحمد لله، هذا من فـضل ربي.

الـمسألة الخامسة

وهي الرسالة الخامسة

رسالة الشكر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

يفيض القرآن الكريم ببيانه المعجز ويحثّ على الشكر في آيات كثيرة، منها هذه الآيات التاليات:

} اَفَلاَ يَشْكُرُون{ (يس:35).... } اَفَلاَ يَشْكُرُوُن{ (يس:73)

} وَسَنَجْزى الشَّاكرينَ{ (آل عمران:145)

} لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزيدَنَّكُمْ{ (ابراهيم:7)

} بَلِ الله فَاعْبُد وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرين{ (الزمر:66)

ويبيّن منها: أن اجلّ عملٍ يطلُبُه الخالُق الرحيم من عباده هو: الشُكر. فيدعو الناس الى الشكر دعوة صريحة واضحة ويوليه أهمية خاصة باظهاره أن الاستغناء عن الشكرتكذيب للنعم الإلهية وكفران بها، ويهدّد إحدى وثلاثين مرة في سورة ((الرحمن)) بالآية الكريمة : } فَبَايّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذِّبَانِ{ تهديداً مُرعباً، ويُنذر الجن والإنس إنذاراً مهولاً ببيانه: ان عدم الشكر والإعراض عنه تكذيبٌ وإنكار وجحود.

ومثلما يبيّن القرآن الحكيم أن الشكر نتيجة الخلق والغاية منه، فالكون الذي هو بمثابة قرآن كبير مجسّم يُظهِر أيضاً أن اهمّ نتيجة لخلق الكائنات هي الشكر؛ ذلك لأنه اذا ما أنعم النظر في الكائنات لتبيّن:

ان هيأة الكون ومحتوياته قد صُممت بشكل ووُضعت على نمط، بحيث تنتج الشكر وتُفضي اليه، فكل شئ متطلّع ومتوجّه - من جهة - الى الشكر، حتى كأن أهم ثمرة في شجرة الخلق هذه هي الشكر، بل كأن أرقى سلعة من بين السلع التي ينتجها مصنع الكون هذا هي الشكر؛ ذلك لأننا نرى:

ان موجودات العالم قد صُممت بطراز يشبه دائرة عظيمة، وخُلقت الحياة لتمثل نقطة المركز فيها، فنرى: ان جميع الموجودات تخدم الحياة وترعاها وتتوجه اليها، وتتكفل بتوفير لوازمها ومؤنها. فخالق الكون اذن يختار الحياة ويصطفيها من بين موجوداته!

ثم نرى ان موجودات عوالم ذوى الحياة هي الاخرى قد أوجدت على شكل دائرة واسعة بحيث يتبوّأ الانسانُ فيها مركزها؛ فالغايات المرجّوة من الاحياء عادة تتمركز في هذا الانسان. والخالق الكريم سبحانه يحشّد جميع الأحياء حول الانسان ويسخّر الجميع لأجله وفي خدمته، جاعلاً من هذا الانسان سيداً عليها وحاكماً لها. فالخالق العظيم اذن يصطفي الانسان من بين الاحياء بل يجعله موضع إرادته ونصبَ اختياره.

ثم نرى ان عالم الانسان بل عالم الحيوان ايضاً يتشكل بما يشبه دائرة كذلك، وقد وُضع في مركزها ((الرزق))، وغرز الشوق الى الرزق في الانسان والحيوانات كافة، فنرى أنهم قد أصبحوا جميعاً بهذا الشوق خَدَمة الرزق والمسخَّرين له. فالرزق يحكمهم ويستولى عليهم. ونرى الرزق نفسه قد جُعل خزينة عظيمة لها من السعة والغنى ما لو تجمعت نِعَمه فلا تعد ولا تحصى (حتى نرى القوة الذائقة في اللسان قد زوّدت بأجهزة دقيقة وموازين معنوية حساسة بعدد المأكولات والمطعومات لمعرفة أذواق نوع واحد من انواع الرزق الكثيرة). فحقيقة الرزق اذن هي أعجب حقيقة في الكائنات واغناها، واغربها،وأحلاها وأجمعها.

ونرى كذلك: أنه مثلما يحيط كل شئ بالرزق ويستشرفه ويتطلع اليه، فالرزق نفسه ايضاً - بأنواعه جميعاً ـ قائم بالشكر معنىً ومادةً وحالاً ومقالاً، ويحصل بالشكر، وينتج الشكر، ويبيّن الشكر ويُريه؛ لان اشتهاء الرزق والإشتياق اليه نوعٌ من شكر فطري. أما الالتذاذ والتذوق فهما شكرٌ ايضاً، ولكن بصورة غير شعورية - حيث تتمتع الحيوانات كافة بهذا الشكر - بيد أن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يغيّر ماهية ذلك الشكر الفطري بانسياقه الى الضلالة والكفر، فيتردى من الشكر الى الشرك.

ثم ان ما تحمله النعم - التي هي الرزق بعينه - من صورٍ جميلة زاهية بديعة، ومن روائح زكية طيبة شذية، ومن طعوم لذيذة ومذاقات طيبة، ما هو إلاّ دعاة وأدلاّء الى الشكر. فهؤلاء الادلاء والدعاة المنادون يثيرون بدعواهم الشوق لدى الاحياء، ويحضّونهم عليه، ويدفعونهم - بهذا الشوق - الى نوع من الاستحسان والتقدير والاحترام فيقروّن فيهم شكراً معنوياً. ويلفتون أنظار ذوي الشعور الى التأمل والإمعان فيها فيرغّبونهم في الاستحسان والاعجاب، ويحثونهم الى احترام النعم السابغة وتقديرها. فتُرشدهم تلك النِعم الى طريق الشكر القولي والفعلي وتدلـّهم عليه وتجعلهم من الشاكرين، وتذيقهم من خلال الشكر أطيبَ طَعمٍ وألذهُ وأَزكى ذوق وأنفسه، وذلك بما تُظهر لهم بأن هذا الرزق اللذيذ او النعمة الطيبة، مع لذته الظاهرة القصيرة الموقتة يهب لك بالشكر التفكر في الالتفات الرحماني الذي يحمل لذة وذوقاً حقيقيين ودائميين وغير متناهيين. اي ان الرزق بتذكيره بالتفات الكريم المالك لخزائن الرحمة الواسعة - تلك الالتفاتة والتكرمة التي لا حدَّ للذاتها ولا نهاية لمتعتها - تذيق الانسان بهذا التأمل نشوة معنوية من نشوات الجنة الباقية وهو بعدُ لم يغادر هذه الدنيا.

في الوقت الذي يكون الرزق بوساطة الشكر خزينة واسعة جامعة تطفح بالغناء والمتعة، يتردى تردياً فظيعاً جداً بالتجافي عن الشكر والاستغناء عنه.

ولقد بيّنا في ((الكلمة السادسة)): ان عمل القوة الذائقة في اللسان إن كان متوجهاً الى ا سبحانه وفي سبيله، أي عندما تتوجه الى الرزق أداءً لمهمة الشكر المعنوي، تكون تلك القوة والحاسة في اللسان بمثابة مشرف موقّر شاكر، وتكون بحكم ناظر محترم حامد، على مطابخ الرحمة الإلهية المطلقة. ولكن متى ما قامت بعملها رغبةً في هوى النفس الأمارة بالسوء واشباعاً لنهمها، أي اذاتوجهت الى النعمة مع عدم تذكر شكر المُنعم الذي أنعم عليه بالرزق، تهبط تلك القوة الذائقة في اللسان من ذلك المقام السامي، مقام الراصد الأمين، الى درجة بواب مصنع البطن، وحارس اسطبل المعدة. ومثلما ينتكس خادمُ الرزق هذا الى الحضيض بالاستغناء عن الشكر، فماهية الرزق نفسها وخدام الرزق الآخرون كذلك يهوون جميعاً بالنسبة نفسها من أسمى مقام الى ادناه، بل حتى يتدنى الى وضع مباين تماماً لحكمة الخالق العظيم.

ان مقياس الشكر هو القناعة، والاقتصاد، والرضا، والامتنان. أما مقياس عدم الشكر والاستغناء عنه فهو الحرص، والاسراف، وعدم التقدير والاحترام، وتناول كل ما هب ودّب دون تمييز بين الحلال والحرام.

نعم ان الحرص مثلما أنه عزوف وإعراض عن الشكر، فهو ايضاً قائد الحرمان ووسيلة الذل والإمتهان. حتى كأن النملة - تلك الحشرة المباركة المالكة لحياة اجتماعية - تُداس تحت الاقدام وتنسحق، لشدة حرصها وضعف قناعتها، اذ بينما تكفيها بضع حبات من الحنطة في السنة الواحدة تراها تجمع ألوف الحبات اذا ما قدّر لها أما النحلة الطيبة، فتجعلها قناعتها التامّة ان تطير عالياً فوق الرؤوس، حتى انها تقنع برزقها وتقدّم العسل الخالص للانسان احساناً منها بأمر الآله العظيم جل جلاله.

نعم ان إسم ((الرحمن)) الذي هو من أعظم أسمائه سبحانه وتعالى يعقبُ لفظ الجلالة ((الله)) الذي هو الاسم الاعظم والاسم العَلَمُ للذات الأقدس. فهذا الاسم ((الرحمن)) يشمل برعايته الرزق؛ لذا يمكن الوصول الى انوار هذا الاسم العظيم بالشكر الكامن في طوايا الرزق. علماً ان أبرز معاني ((الرحمن)) هو الرزاق.

ثم ان للشكر انواعاً مختلفة، الاّ أن أجمع تلك الانواع واشملها والتي هي فهرسها العام هو: الصلاة!.

وفي الشكر ايمان صافٍ رائق، وهو يحوى توحيداً خالصاً؛ لأن الذي يأكل تفاحة – مثلاً – باسم الله ويختم أكلها بـ ((الحمد لله)) إنما يعلن بذلك الشكرَ، على ان تلك التفاحة تذكار خالص صادر مباشرةً من يد القدرة الإلهية، وهي هدية مهداة مباشرة من خزينة الرحمة الإلهية. فهو بهذا القول وبالاعتقاد به يسلـّم كلَّ شئ - جزئياً كان أم كلياً - الى يد القدرة الإلهية، ويُدرك تجلّى الرحمة الإلهية في كل شئ. ومن ثم يُظهر ايماناً حقيقياً بالشكر، ويبيّن توحيداً خالصاً به.

وسنبين هنا وجهاً واحداً فقط من بين وجوه الخسران الكثيرة التي يتردى اليها الانسان الغافل من جراء كفرانه النعمة وكنوده بها.

اذا تناول الانسان نعمةً لذيذة، ثم أدى شكره عليها، فان تلك النعمة تصبح - بوساطة ذلك الشكر ـ نوراً وضّاءً له، وتغدو ثمرة من ثمار الجنة الاُخروية، وفضلاً عما تمنحه من لذة، فان التفكر في أنها أثرٌ من آثار التفات رحمة الله الواسعة وتكرمة منه سبحانه وتعالى يمنح تلك النعمة لذةً عظيمة دائمة وذوقاً سامياً لاحد له. فيكون الشاكر قد بعث أمثال هذه اللــّباب الخالصة والخلاصات الصافية والمواد المعنوية الى تلك المقامات السامية الرفيعة، تاركاً موادَّها المهملة وقشرتَها - التي استنفدت اغراضها وأدّت وظيفتها ولم تعد اليها حاجة - يتم تحولها الى نفايات وفضلات تعود الى أصلها من العناصر الاولية.

ولكن ان لم يشكر المنعم عليه، ربَّه على النعمة، واستنكف عنها، فان تلك اللذة الموقتة تترك بزوالها ألماً وأسفاً، وتتحول هي نفسها الى قاذورات. فتنقلب تلك النعمة التي هي ثمينة كالألماس الى فحم خسيس.

فالأرزاق الزائلة تثمر بالشكر لذائذ دائمة وثمرات باقية، أما النعم الخالية من الشكر فانها تنقلب من صورتها السامية الجميلة الزاهية الى صورة دنيئة قبيحة دميمة؛ ذلك لأن الغافل يظن ان مآل الرزق بعد اقتطاف اللذة المؤقتة منه هو الفضلات!.

حقاً، ان الرزق صورة وضّاءةً تستحق الحب والعشق، تلك التي تظهر بالشكر، والاّ فان عشق الغافلين والضالين للرزق وتلهفهم عليه ما هو إلاّ بهيمية حيوانية..

قس على هذا.. لتعلم مدى خسارة أهل الضلالة والغفلة ومدى فداحة أمرهم!

إن اشد الاحياء حاجةً الى الرزق والى انواعه هو الانسان! فالحق سبحانه وتعالى قد خلق هذا الانسان مرآة جامعة لجميع اسمائه الحسنى، وأبدعه معجزةً دالّة على قدرته المطلقة. فهو يملك اجهزة يتمكن بها تثمين وتقدير جميع مدّخرات خزائن رحمته الواسعة ومعرفتها.. وخلقه على صورة خليفة الارض الذي يملك من الأجهزة الحساسة ما يتمكن بها من قياس أدق دقائق تجليات الاسماء الحسنى.. فلأجل كل هذا فقد اودع سبحانه في هذا الانسان فاقةً لاحدّ لها، وجعله محتاجاً الى انواع لا تحد من الرزق المادي والمعنوي. وما الوسيلة التي تمكّن الانسانَ من العروج بها الى اسمى مقام وهو مقام ((احسن تقويم)) ضمن ما يملكه من الجامعية الاّ الشكر.

فاذا انعدم الشكر يتردى الانسان الى اسفل سافلين ويكون مرتكباً ظلماً عظيماً..



الخلاصة:

ان الشكر هو اعظم اساس من الاسس الاربعة التي يستند اليها سالك اسمى طريق واعلاه اَلا وهو طريق العبودية والحب للّه تعالى والمحبوبية.

وقد عُبّر عن تلك الاسس الأربعة بـ:

در طريق عجزى مندى لازم آمد جار جيز:

عجزِ مطلق فقرِ مطلق شوقِِ مطلق شكرِ مطلق أي عزيز!(1).

اللّهُمّ اجعلنا من الشاكرين برحمتك يا ارحم الراحمين.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمدٍ سيد الشاكرين والحامدين وعلى آله وصحبه اجمعين.

} وآخرُ دَعواهم أن الحمدُ لله رب العالمين{ .

المسألة السادسة

وهي الرسالة السادسة

لم تدرج هنا ستنشر ضمن مجموعة اخرى باذن الله

الـمسألة السابعة

وهي الرسالة السابعة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} قُل بفـضلِ الله وبرحمتهِ فبذلكَ فليفرحوا هُوَ خيرٌ ممّا يَجمعُون{ (يونس:58)

[هذه المسألة عبارة عن سبع اشارات]

نبين أولاً سبعة أسباب ـ تحدثاً بنعمة الله ـ تكشف عن عدد من أسرار العناية الإلهية.

C السبب الأول:

قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى، وإبان نشوبها رأيت في رؤيا صادقة، الآتي:

رأيت نفسي تحت (جبل آرارات) واذا بالجبل ينفلق انفلاقاً هائلاً، فيقذف صخوراً عظيمة كالجبال الى انحاء الأرض كافة. وانا في هذه الرهبة التي غشيتني رأيت والدتي - رحمة الله عليها - بقربي. قلت لها: ((لاتخافي ياأماه! انه أمر الله. انه رحيم، انه حكيم)). واذ أنا بتلك الحالة اذا بشخص عظيم يأمرني قائلاً:

ـ بيّن اعجاز القرآن.

أفقتُ من نومي، وادركتُ انه سيحدث انفلاق عظيم، وستتهدم الأسوار التي تحيط بالقرآن الكريم من جراء ذلك الانفلاق والانقلاب العظيم، وسيتولى القرآن بنفسه الدفاع عن نفسه حيث سيكون هدفاً للهجوم، وسيكون اعجازه، حصنه الفولاذي، وسيكون شخص مثلي مرشحاً للقيام ببيان نوع ٍمن هذا الاعجاز في هذا الزمان ـ بما يفوق حدّي وطوقي كثيراً ـ وأدركتُ اني مرشح للقيام بهذا العمل .

ولمّا كان اعجاز القرآن الكريم قد وضّح ـ الى حدٍّ ما ـ بـ((الكلمات)) فان اظهار العنايات الإلهية في خدمتنا للقرآن، انما هو إمداد للاعجاز بالقوة، اذ ان تلك الخدمة هي لابراز ذلك الاعجاز ومن قبيل بركاته ورشحاته. أي ينبغي إظهارالعنايات الإلهية.

C السبب الثاني:

لما كان القرآن الكريم مرشدنا واستاذنا وامامنا ودليلنا في كل أعمالنا، وانه يثني على نفسه، فنحن اذن سنثني على تفسيره، اتباعاً لإرشاده لنا.

ولما كانت (الكلمات) نوعاً من تفسير القرآن، ورسائل النور عامة ملك القرآن وتتضمن حقائقه، وان القرآن الكريم يعلن عن نفسه في هيبة وعظمة، ويبين مزاياه ويثني على نفسه بما يليق به من ثناء، في كثير من آياته ولاسيما في السور المبتدئة بـ(الر) و (حم)، فنحن اذن مكلفون باظهار العنايات الربانية التي هي علامة لقبول خدمتنا في بيان لمعات اعجاز القرآن المنعكسة في ((الكلمات))، وذلك اقتداءاً باستاذنا القرآن الذي يرشدنا الى هذا النمط من العمل.

C السبب الثالث:

انني لاأقول هذا الكلام الذي يخص(الكلمات) تواضعاً، بل بياناً للحقيقة، وهي:

ان الحقائق والمزايا الموجودة في (الكلمات) ليست من بنات أفكاري ولاتعود اليّ أبداً وانما للقرآن وحده، فلقد ترشحتْ من زلال القرآن، حتى ان الكلمة العاشرة ماهي إلاّ قطرات ترشحت من مئات الآيات القرآنية الجليلة. وكذا الأمر في سائر الرسائل بصورة عامة.

فمادمتُ أعلم الأمر هكذا وانا ماضٍ راحل عن هذه الحياة، وفانٍ زائل، فينبغي ألاّ يربط بي ما يدوم ويبقى من أثر. ومادام عادة أهل الضلالة والطغيان هي الحط من قيمة المؤلف للتهوين من شأن كتاب لايفي بغرضهم. فلابد اذن ألاّ ترتبط الرسائل المرتبطة بنجوم سماء القرآن الكريم بسند متهرئ قابل للسقوط، مثلي الذي يمكن أن يكون موضع اعتراضات كثيرة، ونقدٍ كثير.

ومادام عرف الناس دائراً حول البحث عن مزايا الأثر في أطوار مؤلفه وأحواله الذي يحسبونه منبع ذلك الخير ومحوره الاساس. فانه اجحاف اذاً بحق الحقيقة وظلم لها ـ بناء على هذا العرف ـ ان تكون تلك الحقائق العالية والجواهر الغالية بضاعة مَن هو مفلس مثلي وملكاً لشخصيتي التي لاتستطيع ان تظهر واحداً من ألف من تلك المزايا.

لهذا كله أقول: ان الرسائل ليست ملكي ولامني بل هي ملك القرآن. لذا أراني مضطراً الى بيان أنها قد نالت رشحات من مزايا القرآن العظيم. نعم، لاتُبحث ما في عناقيد العنب اللذيذة من خصائص في سيقانها اليابسة؛ فانا كتلك الساق اليابسة لتلك الاعناب اللذيذة.

C السبب الرابع:

قد يستلزم التواضع كفران النعمة، بل يكون كفراناً بالنعمة عينه، وقد يكون ايضاً التحدث بالنعمة تفاخراً وتباهياً. وكلاهما مضران، والوسيلة الوحيدة للنجاة. اي لكي لايؤدي الأمر الى كفرانٍ بالنعمة ولاالى تفاخر، هي: الإقرار بالمزايا والفضائل دون ادّعاء تملّكها، اي اظهارها انها آثار إنعام المنعم الحقيقي جلّ وعلا.

مثال ذلك: اذا ألبسك أحدُهم بدلة فاخرة جميلة، وأصبحتَ بها جميلاً وأنيقاً،فقال لك الناس: ما أجملك! لقد أصبحت رائعاً بها، وأجبتهم متواضعاً: كلا! مَن أنا، أنا لست شيئاً.. أين الجمال من هذه البدلة!! فان جوابك هذا كفران بالنعمة بلاشك، وسوء أدب تجاه الصانع الماهر الذي ألبسك البدلة. وكذلك إن قلت لهم مفتخراً: نعم! انني جميل فعلاً، فأين مثلي في الجمال والأناقة! فعندها يكون جوابك فخراً وغروراً.

والاستقامة بين كفران النعمة والافتخار هو القول:نعم! انني أصبحت جميلاً حقاً، ولكن الجمال لايعود لي وانما الى البدلة، بل الفضل يخص الذي ألبسنيها.

ولو بلغ صوتي أرجاء العالم كافة لكنت أقول بكل ما اوتيت من قوة: ان (الكلمات) جميلة رائعة وانها حقائق وانها ليست مني وانما هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم اجمّل انا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من اظهار جمالها وانما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي ورفعت من شأنها واستناداً الى قاعدة: وما مدحت محمداً بمقالتي.. ولكن مدحت مقالتي بمحمدٍ(1). اقول:

ومامدحت القرآن بكلماتي …… ولكن مدحت كلماتي بالقرآن.

فما دام الأمر هكذا. أقول باسم جمالية الحقائق القرآنية: ان اظهار جمال (الكلمات) التي هي معاكس تلك الحقائق، وبيان العنايات الإلهية المترتبة على جمال تلك المرايا، انما هو تحدث بنعمة الله، مرغوب فيه.

C السبب الخامس:

سمعت من أحد الأولياء ـ قبل مدة مديدة ـ أنه قد استخرج من الاشارات الغيبية لأولياء سابقين ماأورثه القناعة بأن نوراً سيظهر من جهة الشرق ويبدد ظلمات البدع.

ولقد انتظرتُ طويلاً ظهور مثل هذا النور ومازلت منتظراً له، بيد ان الأزاهير تتفتح في الربيع، فينبغي تهيئة السبل لمثل هذه الأزاهير المقدسة. وأدركنا اننا بخدمتنا هذه، انما نمهّد السبيل لأولئك الكرام النورانيين.

ولاشك ان بيان العنايات الإلهية التي تخص (الكلمات) لايكون مدار فخر وغرور ابداً اذ لايعود الى اشخاصنا بالذات. بل يكون ذلك مدار حمد وشكر وتحدث بالنعمة.

C السبب السادس:

ان العناية الربانية التي هي وسيلة ترغيب ومكافأة عاجلة وجزاء مقدّم لخدمتنا للقرآن بسبب تأليف ((الكلمات)) ما هي الا التوفيق في العمل والنجاح في الخدمة، والتوفيق في الخدمة يُظهرَ ويعلن عنه، واذا مامضت العناية من التوفيق والنجاح وسَمَت، فانها تكون إكراماً إلهياً. واظهار الاكرام الإلهي شكرٌ معنوي. واذا ما ارتقت العناية الى اعلى من الاكرام، فلا محالة انها تكون كرامة قرآنية، قد حظينا بها، واظهار كرامة من هذا النوع دون اختيار منا، ومن حيث لانحتسب ومن دون علمنا، ليس فيه ضرر. واذا ما ارتقت العناية فوق الكرامة الاعتيادية، فلاشك انها تكون شُعل الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم. ولما كان الاعجاز لابد أن يعلن عنه، فان اظهار ما يمدّه بالقوة يكون في سبيله ايضاً، ولايكون مبعث تفاخر وغرور ابداً، بل مبعث حمد وشكر.

C السبب السابع:

ان ثمانين بالمائة من الناس ليسوا محققين علماء، كي ينفذوا الى الحقيقة ويسبروا غورها ويصدقوا بها، ويقبلوها، بل يقبلون المسائل تقليداً لما سمعوه من أناس هم موضع ثقتهم واعتمادهم بناءً على ظاهر حالهم وعلى حسن الظن بهم، حتى ان حقيقة قوية يرونها ضعيفة لأنها في يد شخص ضعيف بينما يعدّون مسألة تافهة في يد شخص مرموق مسألة قيمة. لذا اضطر الى الاعلان عن الحقائق الايمانية والقرآنية التي هي في يد شخصي الضعيف الذي لاقيمة له ولاأهمية، لئلا احطّ من قيمتها أمام أنظار أغلب الناس، فأقول: ان هناك مَن يستخدمنا ويسوقنا الى الخدمة دون اختيارٍ منا ودون علمنا، ويسخّرنا في أمور جسام دون معرفتنا. ودليلنا هو اننا نحظى بقسم من عنايات إلهية وتيسيرات ربانية خارج شعورنا وبلا اختيار منا. ولهذا نضطر الى الاعلان عن تلك العنايات اعلاناً صارخاً على ملأ من الناس.

% % %

هذا وبناءً على الاسباب السبعة المذكورة، نشير الى بضع عنايات ربانية كلية:

u الاشارة الاولى:

وهي ((التوافقات)) التي وضحت في النكتة الاولى من المسألة الثامنة من (المكتوب الثامن والعشرين). ولقد تناظر مايزيد على مائتي كلمة من كلمات ((الرسول الكريم e )) في موازنة تامة، في ستين صحيفة من صفحات رسالة ((المعجزات الاحمدية)) باستثناء صحيفتين، ابتداءً من الاشارة الثالثة الى الاشارة الثامنة عشرة منها، وذلك لدى احد المستنسخين، دون ان يكون له علم بالتوافق. فمن ينظر بانصاف الى صحيفتين من الرسالة فحسب يصدّق ان ذلك لايمكن ان يكون نتيجة مصادفة ابداً، اذ ربما تتناظر كلمات متشابهة ان وجدت في صحيفة واحدة، وتعدّ توافقاً ناقصاً لاحتمال وجود المصادفة، بينما الأمر هنا، ان كلمة الرسول الكريم e ، قد توافقت في تناظر متوازن في صفحات كثيرة، بل في جميعها، ولاتوجد في الصفحة الواحدة إلاّ اثنتان او ثلاثة او اربعة او أكثر منها. أي ان عددها ليس بكثرة، فلاشك ان التناظر ناشئ عن توافق لا عن مصادفة، فضلاً عن ان التوافق جرى لدى ثمانية مستنسخين ولم يتغير توازن التوافق لديهم رغم اختلافهم.. مما يدل ان في ذلك التوافق اشارة غيبية قوية . اذ كما ان بلاغة القرآن قد علت الى درجة الاعجاز ففاقت بلاغته كتـب البلغاء كلهم، حتى لايمكن ان يبلغ أحد منهم شأو ذلك الاعجاز، كذلك التوافقات الموجودة في (المكتوب التاسع عشر) ـ الذي هو مرآة لمعجزات الرسول e ـ وفي (الكلمة الخامسة والعشرين) التي هي معكس اعجاز القرآن، وفي اجزاء (رسائل النور) الأخرى التي هي نوع من تفسير للقرآن الكريم.. أقول؛ هذه التوافقات تبيّن غرابة تفوق جميع الكتب، مما يفهم منها انها نوع من كرامات معجزات القرآن ومعجزات الرسول الكريم e تتجليان في تلك المرايا وتتمثلان فيها.

u الاشارة الثانية:

العناية الربانية الثانية التي تخص الخدمة القرآنية هي:

ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليّ باخوة أقوياء جادّين، مخلصين، غيورين، مضحين، لهم أقلام كالسيوف الالماسية، ودفعهم ليعاونوا شخصاً مثلي لايجيد الكتابة، نصف أمي، في ديار الغربة، مهجور، ممنوع عن الاختلاط بالناس. وحمّل سبحانه كواهلهم القوية ماأثقل ظهري الضعيف العاجز من ثقل الخدمة القرآنية، فخفف بفضله وكرمه سبحانه حملي الثقيل.

فتلك الجماعة المباركة في حكم اجهزة البث اللاسلكي (بتعبير خلوصي) وبمثابة مكائن توليد الكهرباء لمصنع النور (حسب تعبير صبري). ومع ان كلاً منهم يملك مزايا متنوعة وخواصّ راقية متباينة إلاّ أن فيهم نوعاً من توافقات غيبية (حسب تعبير صبري) اذ يتشابهون في الشوق الى العمل والسعي فيه والغيرة على الخدمة والجدية فيها، اذ إن نشرهم الاسرار القرآنية والانوار الايمانية الى الاقطار وابلاغها جميع الجهات، وقيامهم بالعمل دون فتور، وبشوق دائم وهمة عالية، في هذا الزمان العصيب (حيث الحروف قد تبدلت ولاتوجد مطبعة، والناس بحاجة الى الانوار الايمانية) فضلاً عن العوائق الكثيرة التي تعرقل العمل وتولد الفتور، وتهوّن الشوق .. أقول ان خدمتهم هذه كرامة قرآنية واضحة وعناية إلهية ظاهرة ليس إلاّ.

نعم! فكما ان للولاية كرامة، فان للنية الخالصة كرامة ايضاً، وللاخلاص كرامة ايضاً، ولاسيما الترابط الوثيق والتساند المتين بين الاخوان ضمن دائرة اخوة خالصة لله، تكون له كرامات كثيرة، حتى ان الشخص المعنوي لمثل هذه الجماعة يمكن ان يكون في حكم ولي كامل يحظى بالعنايات الالهية.

فياأخوتي وياأصحابي في خدمة القرآن!

كما ان اعطاء جميع الشرف والغنائم كلها الى آمر الفوج الذي فتح حصناً، ظلم وخطأ، كذلك لايمكنكم اسناد العنايات الإلهية في الفتوحات التي تمت بقوة شخصكم المعنوي وبأقلامكم الى شخص عاجز مثلي. اذ مما لاشك؛ ان في مثل هذه الجماعة المباركة توجد اشارة غيبية قوية أكثر من التوافقات الغيبية. وانني أراها، ولكن لاأستطيع اظهارها لكل أحد ولاللناس عامة.

u الاشارة الثالثة:

ان اثبات اجزاء (رسائل النور) لجميع الحقائق الايمانية والقرآنية المهمة، حتى لأعتى المعاندين، اثباتاً ساطعاً، انما هو اشارة غيبية قوية جداً، وعنايةإلهية عظيمة. لأن هناك من الحقائق الايمانية والقرآنية، اعترف بعجزه عن فهمها من يعدّ أعظم صاحب دهاء، وهو (ابن سينا) الذي قال في (مسألة الحشر):((الحشر ليس على مقاييس عقلية)) بينما تُعلّم (الكلمة العاشرة) عوام الناس والصبيان حقائق لم يستطع ان يبلغها ذلك الفيلسوف بدهائه.

وكذا مسائل (القدر والجزء الاختياري) التي لم يحلها العلامة الجليل (السعد التفتازاني)(1) إلاّ في خمسين صحيفة، وذلك في كتابه المشهور بـ((التلويح)) من قسم ((المقدمات الاثنتي عشرة))، ولم يبيّنها إلاّ للخواص من العلماء، هذه المسائل تبينها (الكلمة السادسة والعشرون) ((رسالة القدر)) في صحيفتين من المبحث الثاني منها بياناً شافياً وافياً، وبما يوافق أفهام الناس كلهم. فان لم يكن هذا من أثر العناية الإلهية فما هو اذن؟.

وكذا سر خلق العالم، المسمى بـ(طلسم الكائنات) الذي جعل العقول في حيرة منه، ولم تحلّ لغزه اية فلسفة كانت، كشف اسراره وحل ألغازه الاعجاز المعنوي للقرآن العظيم، وذلك في (المكتوب الرابع والعشرين) وفي النكتة الرمزية الموجودة في ختام (الكلمة التاسعة والعشرين)، وفي الحِكَم الست لتحوّل الذرات في (الكلمة الثلاثين). هذه الرسائل قد حلت ذلك الطلسم المغلق في الكون، وكشفت عن اسرار ذلك المعمى المحيّر في خلق الكون وعاقبته، وبينت حكمة الذرات وتحولاتها. وهي متداولة لدى الجميع، فليراجعها من شاء.

وكذا حقائق الأحدية، ووحدانية الربوبية بلاشريك، وحقائق القرب الإلهي قرباً أقرب الينا من أنفسنا، وبُعدنا نحن عنه سبحانه بُعداً مطلقاً.. هذه الحقائق الجليلة قد وضحتها توضيحاً كاملاً كل من (الكلمة السادسة عشرة) و (الكلمة الثانية والثلاثين).

وكذا القدرة الإلهية المحيطة بكل شئ، وتساوي الذرات والسيارات ازاءها، وسهولة احيائها ذوي الارواح كافة في الحشر الاعظم كسهولة احياء فرد واحد، وعدم تدخل الشرك قطعاً في خلق الكون، وانه بعيد عن منطق العقل بدرجة الامتناع.. كل هذه الحقائق قد كشفت في (المكتوب العشرين) لدى شرح (وهو على كل شئ قدير). وفي ذيله الذي يضم ثلاثة تمثيلات، الذي حلّ ذلك السر العظيم، سر التوحيد.

هذا فضلاً عن أن الحقائق الايمانية والقرآنية لها من السعة والشمول مالايمكن ان يحيط به ذكاء أذكى انسان! أليس اذاً ظهور الاكثرية المطلقة لتلك الحقائق بدقائقها لشخص مثلي مشوش الذهن، مشتت الحال، لامرجع ومصدر لديه من الكتب، ويتم التأليف في سرعة وفي أوقات الضيق والشدة؟ أقول: أليس ذلك أثراً من آثار الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم وجلوة من جلوات العناية الربانية واشارة غيبية قوية؟.

u الاشارة الرابعة:

لقد أنعم الله عليّ بتأليف ستين رسالة بهذا النمط من الانعام والاحسان، اذ من كان مثلي ممن يفكر قليلاً ويتتبع السنوح القلبي، ولايجد متسعاً من الوقت للتدقيق والبحث، يتم في يده تأليف مالايقدر على تأليفه جماعة من العلماء والعباقرة مع سعيهم الدائب، فتأليفها اذن على ذلك الوجه يدّل على انها أثر عناية إلهية مباشرة، لأن جميع الحقائق العميقة الدقيقة في هذه الرسائل كلها تُفهَّم وتدرّس الى عوام الناس واكثرهم أمية بوساطة التمثيلات. مع ان علماء أجلاء قالوا عن اكثر تلك الحقائق انها لاتعلّم ولاتدرس، فلم يعلّموها للعوام وحدهم، ولا للخواص ايضاً.

وهكذا فهذا التسهيل الخارق في التأليف والتيسير في بيان الحقائق، بجعل أبعد الحقائق عن الفهم كأنها في متناول اليد وتدريسها الى أكثر الناس بساطة وأمية، لايكون في وسع شخص مثلي له باع قصير في اللغة التركية، وكلامه مغلق ولايفهم كثير منه، حتى يجعل الحقائق الظاهرية معضلة، واشتهر بهذا منذ السابق وصدّقت آثاره القديمة شهرته السيئة تلك.. فمثل هذا الشخص يجري في يده هذا التيسير والبيان الواضح لاشك انه أثر من آثار العناية الإلهية، ولايمكن ان يكون من حذاقة ذلك الشخص، بل هو جلوة من جلوات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وصورة منعكسة للتمثيلات القرآنية.

u الاشارة الخامسة:

على الرغم من انتشار الرسائل ـ بصورة عامة ـ انتشاراً واسعاً جداً، فان عدم قيام أحد بانتقادها ابتداءً من أعظم عالم الى أدنى رجل من العوام، ومن اكبر ولي صالح تقي الى أحط فيلسوف ملحد عنيد، هؤلاء الذين يمثلون طبقات الناس وطوائفهم. ورغم انها معروضة امامهم ويرونها ويقرأونها، وقد استفادت كل طائفة منها حسب درجتها، بينما تعرّض قسم منهم الى لطماتها وصفعاتها.. أقول: ان كل ذلك ليس إلاّ أثر عناية ربانية وكرامة قرآنية.. ثم ان تلك الأنماط من الرسائل التي لاتؤلف إلاّ بعد بحث دقيق وتحرّ ٍ عميق، فان كتابتها واملاءها بسرعة فوق المعتاد اثناء انقباض وضيق - وهما يشوشان أفكاري وادراكي ـ اثر عناية ربانية وإكرام إلهي ليس إلاّ.

نعم! يعلم أكثر أخواني ومَن عندي من الاصدقاء والمستنسخين جميعهم؛ ان الاجزاء الخمسة من (المكتوب التاسع عشر)، قد أُلفت في ثلاثة او اربعة ايام بمعدل ساعتين او ثلاث ساعات يومياً، أي بمجموع اثنتي عشرة ساعة دون مراجعة كتاب، حتى ان الجزء الرابع المهم جداً الذي اظهر ختماً واضحاً للنبوة في كلمة الرسول الكريم e قد كتب بظهر الغيب في حوالي أربع ساعات وفي زوايا الجبال وتحت المطر.

وكذلك (الكلمة الثلاثون) التي هي رسالة جليلة دقيقة ألفت في أحد البساتين، خلال ست ساعات، كما ان (الكلمة الثامنة والعشرين) ألفت في ظرف لايتجاوز ساعتين في بستان ((سليمان)).

وهكذا كان تأليف اكثر الرسائل الأخرى.

ويعلم الأقربون مني، انني - في السابق - كلما كنت اتضايق من شئ أعجز عن بيان أظهر الحقائق، بل كنت أجهلها. ولاسيما اذا مازاد المرض على ذلك الضيق، كنت امتنع أكثر عن التدريس والتأليف، بينما ألفت ((الكلمات)) المهمة، وكذلك الرسائل الأخرى في أشد أوقات المرض والضيق، وتم التأليف في أسرع وقت. فان لم يكن هذا إكراماً ربانياً وكرامة قرآنية مباشرة، فما هو اذن؟.

ثم انه ما من كتاب يبحث في مثل هذه الحقائق الإلهية والايمانية إلاّ ويترك بعض مسائله ضرراً في عدد من الناس، لذا ما كان ينشر كل مسألة منه الى الناس كافة. اما هذه الرسائل فلم تلحق أي ضرر كان ولم تؤثر تأثيراً سيئاً في أحد من الناس ولم تخدش ذهن أحد قط رغم استفساري عن ذلك من الكثيرين حتى تحقق لدينا ان ذلك اشارة غيبية وعناية ربانية مباشرة.

u الاشارة السادسة:

لقد تحقق لديّ يقيناً: ان اكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيري، اذ اُعطيت سيراً معيناً ووجهت وجهة غريبة لتنتج هذه الانواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بمثابة مقدمات تمهيدية لبيان اعجاز القرآن بـ((الكلمات)) حتى انه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي والاغتراب وعزلي عن الناس ـ دون سبب او مبرر وبما يخالف رغبتي ـ أمضي ايام حياتي في قرية نائية خلافاً لمشربي وعزوفي عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتها سابقاً .. كل ذلك ولّد لي قناعة تامة لايداخلها شك من انه تهيئة وتحضير لي للقيام بخدمة القرآن وحده، خدمة صافية لاشائبة فيها.

بل انني على قناعة تامة من ان المضايقات التي يضايقونني بها في اغلب الاوقات والعنت الذي ارزح تحته ظلماً، انما هو لدفعي - بيد عناية خفية رحيمةــ الى حصر النظر في اسرار القرآن دون سواها. وعدم تشتيت النظر وصرفه هنا وهناك. وعلى الرغم من انني كنت مغرماً بالمطالعة، فقد وهبتْ لروحي مجانبة واعراضاً عن أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم.

فادركت ان الذي دفعني الى ترك المطالعة ـ التي كانت تسليتي الوحيدة في مثل هذه الغربة ـ ليس إلاّ كون الآيات القرآنية وحدها استاذاً مطلقاً لي.

ثم ان الآثار المؤلفة والرسائل – باكثريتها المطلقة – قد اُنعمت عليّ بها لحاجة تولدت في روحي فجأة، ونشأت آنياً. دون ان يكون هناك سبب خارجي. وحينما كنت أظهرها لبعض أصدقائي، كانوا يقولون: ((انها دواء لجراحات هذا الزمان)). وبعد انتشارها عرفت من معظم اخواني انها تفي بحاجة هذا العصر وتضمد جراحاته.

فهذه الحالات المذكورة آنفاً ـ وهي خارجة عن نطاق ارادتي وشعوري وسير حياتي ـ ومجموع تتبعاتي في العلوم خلاف عادة العلماء وبما هو خارج عن اختياري، كل ذلك لم يترك لي شبهة قطعاً بانها عناية إلهية قوية واكرام رباني واضح، للانجرار الى مثل هذه النتيجة السامية.

u الاشارة السابعة:

لقد شاهدنا بأم أعيننا ـ دون مبالغة ـ مائة من آثار الاكرام الإلهي، والعناية الربانية، والكرامة القرآنية خلال زهاء ست سنوات من سير خدمتنا للقرآن الكريم. وقد أشرنا الى قسم منها في (المكتوب السادس عشر) وبيّنا قسماً آخر في المسائل المتفرقة للمبحث الرابع من (المكتوب السادس والعشرين) وفي المسألة الثالثة من (المكتوب الثامن والعشرين). وان أصحابي القريبين يعلمون هذا. ولاسيما صاحبي الدائم، السيد سليمان، يعلم أكثرها، فحظينا بتيسيرإلهي ذي كرامة لايخطر على بال، سواء في نشر ((الكلمات)) والرسائل الاخرى، او في تصحيحها ووضعها في مواضعها وفي تسويدها وتبييضها. فلم يبق لدينا ريب ـ بعد ذلك ـ ان كل تلك العنايات الإلهية كرامة قرآنية .. ومثال هذا بالمئات.

ثم اننا نُربىّ بشفقة ورأفة وتجري معيشتنا بعناية بحيث يُحسِن الينا صاحب العناية الذي يستخدمنا في هذه الخدمة بما يحقق أصغر رغبة من رغبات قلوبنا، وينعم بها علينا من حيث لانحتسب .. وهكذا.

فهذه الحالة اشارة غيبية في منتهى القوة الى اننا نستخدم في هذه الخدمة القرآنية وندفع الى العمل مكللين بالرضى الإلهي مستظلين بظل العناية الربانية.

الحمد لله هذا من فضل ربي

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللهم صلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقهِ اداءً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً . آمين .



جواب عن سؤال خاص

ان هذا السر، وهو سر عناية إلهية، قد كتب للتداول الخاص، واُلحق في ختام الكلمة الرابعة عشرة، ولكن - بأية حال - نسي المستنسخون ان يكتبوه، فظل مخفياً مستوراً. فموضعه اذن ههنا وهو الأليق به.

انك يا أخي تسأل: لماذا نجد تأثيراً غير اعتيادي فيما كتبته في ((الكلمات)) المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين. فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثير صحيفة كاملة من غيرها، وماتحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟

فالجواب: وهو جواب لطيف جميل، اذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود الى اعجاز القرآن الكريم وليس الى شخصي أنا، فسأقول الجواب بلاحرج:

نعم! هو كذلك على الاغلب؛ لأن الكلمات:

تصديق وليست تصوراً (1).

وايمانٌ وليست تسليماً(2).

وتحقيق وليست تقليداً(3).

وشهادة وشهود وليست معرفة(4).

واذعان وليست التزاماً(5).

وحقيقة وليست تصوفاً .

وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءاً

وحكمة هذا السر هي:

ان الاسس الايمانية كانت رصينة متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، اذ كانت توضيحات العارفين في الامور الفرعية مقبولة، وبياناتهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل.

اما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالة باسم العلم يدها الى اسس الايمان واركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم - الذي يهب لكل صاحب داء دواءه المناسب - وانعم عليّ سبحانه شعلةً من ((ضرب الامثال)) التي هي من اسطع معجزات القرآن واوضحها، رحمةً منه جل وعلا لعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم. فـله الحمد والمنة:

فبمنظار ((ضرب الامثال)) قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جداً انها قريبة جداً.

وبوحدة الموضوع في ((ضرب الامثال))قد جُمِّعَتْ اكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.

وبسلّم ((ضرب الامثال))قد تُوصِّل الى اسمى الحقائق واعلاها بسهولة ويُسر.

ومن نافذة ((ضرب الامثال)) قد حُصّل اليقين الايماني بحقائق الغيب واسس الاسلام مما يقرب من الشهود.

فاضطر الخيال الى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل الى الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان الى إلقاء السلاح.

حاصل الكلام:

انه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في اسلوب كتاباتي، فانها ليست مني، ولا مما مضغه فكري، بل هي من لمعات ((ضرب الامثال)) التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيها الا الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلاّ التضرع والتوسل اليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.

فالداء مني والدواء من القرآن الكريم .

خاتمـة

الـمسألة السابعة

[هذه الخاتمة تخص ازالة الشبهات التي تثار او ربما تثار حول الاشارات الغيبية التي وردت في صورة ثماني عنايات الهية، وفي الوقت نفسه تبين هذه الخاتمة سراً عظيماً لعناية الهية].

وهذه الخاتمة عبارة عن اربع نكات.

النكتة الاولى:

لقد ادّعينا مشاهدتنا لجلوة اشارة غيبية، كتبناها في (العناية الإلهية الثامنة) في معرض بياننا ((للتوافقات)) وقد أحسسنا هذه الاشارة من العنايات الإلهية السبعة الكلية المعنوية المذكورة في المسألة السابعة من (المكتوب الثامن والعشرين) وما زلنا ندّعي ان هذه العنايات السبعة او الثمانية الكلية قوية وقاطعة الى درجة تثبت كل واحدة منها على حدتها تلك الاشارات الغيبية، بل لو فرض فرضاً محالاً ان قسماً منها تبدو ضعيفة، او لو أُنكر، فلا يخل ذلك بقطعية تلك الاشارات الغيبية، اذ مَن لم يقدر على انكار تلك العنايات الثمانية لايستطيع ان ينكر تلك الاشارات.

ولكن لما كانت طبقات الناس متفاوتة، وطبقة العوام هم الذين يمثلون الغالبية العظمى، وانهم يعتمدون كثيراً على المشاهدة، لذا غدت ((التوافقات)) أظهر تلك العنايات الالهية، وهي ليست أقواها بل الأخريات أقوى منها، الاّ انها أعمها، ولهذا اضطررت الى بيان حقيقة معينة في صورة موازنة ومقارنة دفعاً للشبهات التي تثار حول ((التوافقات)). وذلك:

لقد قلنا في حق تلك العناية الظاهرة: ان التوافقات مشاهدة في كلمتي ((القرآن الكريم)) و ((الرسول الكريم e )) وفي الرسائل التي ألفناها، الى حدٍ لاتدع شبهة من انها نُظــّمت قصداً وأعطيت لها وضعاً موازياً. والدليل على ان القصد والارادة ليسا منا، هو اطلاعنا على تلك التوافقات بعد حوالي أربع سنوات، أي ان هذا القصد والارادة كانت غيبية وأثراً من آثار العناية الالهية، فأُعطيت تلكما الكلمتان ذلك الوضع الغريب تأييداً محضاً لمعجزات الرسول الكريم e والاعجاز القرآني. واصبحت ببركة هاتين الكلمتين ((التوافقات)) ختم تصديقٍ لرسالتي ((المعجزات الاحمدية)) و ((المعجزات القرآنية)).

بل نالت أكثر الكلمات المتشابهة من أمثالهما توافقات ايضاً ولكن في صفحات محدودة، بينما أظهرت هاتان الكلمتان توافقات في معظم صفحات الرسائل عامة، وفي جميع صفحات تلكما الرسالتين.

وقد كررنا القول : ان أصل هذا التوافق يمكن ان يوجد بكثرة في الكتب الاخرى، ولكن ليست بهذه الدرجة من الغرابة الدالة على القصد والارادة السامية العالية.

وبعد، فعلى الرغم من ان دعوانا هذه لايمكن نقضها، إلاّ أن فيها جهة او جهتين ربما تتراءى للنظر الظاهري كأنها باطلة. منها:

انه يمكن ان يقولوا: انكم تنظمون هذا التوافق بعد تفكر وانعام نظر، والقيام بمثل هذا العمل بقصد وارادة سهل ويسير!

نقول جواباً عن هذا :

ان شاهدين صادقين في دعوى ما، كافيان لإثباتها، ففي دعوانا هذه يمكننا ان نبرز مائة شاهد صادق على اننا قد اطلعنا على التوافق بعد حوالي أربع سنوات، من غير ان يتعلق به قصدنا وارادتنا.

ولهذه المناسبة أوضح نقطة، هي:

ان هذه الكرامة الاعجازية ليست من نوع درجة الاعجاز القرآني من حيث البلاغة. لأن؛ البشر في الاعجاز القرآني البلاغي يعجز كلياً عن ان يبلغ درجة بلاغة القرآن بسلوكه طريق البلاغة.

اما هذه الكرامة الاعجازية، فانها لايمكن ان تحصل بقدرة البشر، فالقدرة لاتتدخل فيها(1).

وقد شاهدنا بابصارنا واقع هذا الهامش. [بكر، توفيق، سليمان، غالب، سعيد ((المؤلف))].

النكتة الثالثة:

نشير الى سر دقيق من اسرار الربوبية والرحمانية لمناسبة البحث عن الاشارة الخاصة والاشارة العامة.

ان لأحد اخواني قولاً جميلاً، سأجعله موضوع هذه المسألة، وذلك:

انه عندما عرضتُ عليه يوماً توافقاً جميلاً قال: انه جميل، اذ كل حقيقة جميلة، إلاّ أن الأجمل منها التوفيق والتوافقات الموجودة في هذه ((الكلمات)).

فقلت: ((نعم! ان كل شئ جميل، ولكن اما انه جميل حقيقةً اي بالذات او جميل باعتبار نتائجه. وان هذا الجمال متوجّه الى الربوبية العامة، والرحمة الشاملة والتجلي العام. وان الاشارة الغيبية في هذا التوفيق هي أجمل، كما قلتَ.. لأنها تنم عن رحمة خاصة وربوبية خاصة وتجلٍ خاص)).

وسنقرب هذا الى الفهم بتمثيل، وذلك:

ان السلطان يشمل برعايته وبرحمته جميع أفراد الامة، وذلك بقوانينه ودولته، فكل فرد ينال مباشرةً لطفه وكرمه ويستظل بظل دولته. اي هناك علاقات خاصة للافراد ضمن هذه الصورة العامة.

اما الجهة الثانية (من رعايته ورحمته) فهي آلاؤه الخصوصية، وأوامره الخاصة التي هي فوق جميع القوانين، ولكل فرد من رعاياه حصة من هذه الآلاء.

فعلى غرار هذا المثال: فان لكل شئ حظاً من الربوبية العامة والرحمة الشاملة لواجب الوجود والخالق الحكيم الرحيم، اي ان كل شئ ذو علاقة معه بصورة خاصة في الجهة التي حظى بها. وان له تصرفاً في كل شئ بقدرته وارادته وعلمه المحيط. فربوبيته شاملة كل شئ حتى أصغر الافعال. وكل شئ محتاج اليه سبحانه في كل شأن من شؤونه، فتقضى أموره وتنظم أفعاله بعلمه وحكمته جل وعلا.

فلا تستطيع الطبيعة ان تتخفى ضمن دائرة تصرف ربوبيته الجليلة، او تتداخل فيها مؤثرةً فيها، ولا المصادفة تتمكن من التدخل في اعماله سبحانه الموزونة بميزان الحكمة الدقيق. ولقد اثبتنا اثباتاً قاطعاً عدم تأثير الطبيعة والمصادفة في عشرين موضعاً من الرسائل واعدمناهما بسيف القرآن الكريم، واظهرنا بالحجج الدامغة ان تدخلهما في الامور محال قطعاً.

بيد ان اهل الغفلة أطلقوا اسم (المصادفة) على الامور التي لاتعرف حكمتها واسبابها في نظرهم من الظواهر التي هي مشمولة بالربوبية العامة، ولما عجزوا عن رؤية قوانين الافعال الإلهية التي لايحاط بحكمها المتسترة تحت ستار الطبيعة، اسندوا الامر الى الطبيعة.

الثانية:

هي الربوبية الخاصة، والتكريم الخاص والامداد الرحماني الخاص، بحيث ان الذين لايتحملون ضغوط القوانين العامة يسعفهم اسم الرحمن والرحيم ويمدّهم ويعاونهم معاونة خاصة وينجيهم من ذلك الضيق والعنت.

ولهذا فكل كائن حي، ولاسيما الانسان، يستعين به سبحانه، ويستمد المدد منه كل آن، فاحسانه ونعمه التي هي في هذه الربوبية الخاصة، لايمكن ان تتخفى تحت المصادفة ولايمكن ان تسند الى الطبيعة حتى لدى اهل الغفلة أنفسهم.

وبناءً على ما سبق، فقد اعتقدنا بان الاشارات الغيبية التي هي في (المعجزات الاحمدية) و (المعجزات القرآنية) اشارة غيبية خاصة، وايقنّا انها امداد رباني خاص وعناية إلهية خاصة تستطيع ان تظهر نفسها امام المعاندين، ولهذا أعلنّا عنها نيلاً لرضاه تعالى فحسب.

فلئن قصّرنا فنرجو عفوه سبحانه . آمين.

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا{

الـمسألة الثامنة

وهي الرسالة الثامنة

[هذه المسألة عبارة عن ثماني نكات كتبت جواباً عن ستة أسئلة]

C النكتة الاولى:

لقد شعرنا بكثير من انواع الاشارات الغيبية، حول استخدامنا في خدمة القرآن تحت عناية إلهية، وقد بيّنا بعضها. وهذه اشارة جديدة منها، وهي وجود ((توافقات غيبية)) في اكثر ((الكلمات))(1).

منها: اشارة غيبية، لتمثّل نوعٍ من نور الاعجاز، في كلمة (الرسول الاكرم)، وفي عبارة (عليه الصلاة والسلام) وفي لفظ (القرآن) المبارك. والاشارة الغيبية مهما كانت خفية وضعيفة، فهي في نظري على جانب عظيم من الأهمية والقوة، وذلك لدلالتها على صواب المسائل وقبول الخدمة، وانها تحدُّ من غروري وتكسر شوكته.

وقد بينت لي بوضوح؛ انني لست إلاّ ترجماناً للرسائل، ولم تدع لي شيئاً من موضع افتخار بل تظهر لي الاشياء التي هي مدار شكران فحسب.. وحيث ان الاشارات الغيبية تخص القرآن الكريم وترجع اليه، وتمضي في سبيل بيان اعجازه، ولاتخالطها ارادتنا ابداً، وتحث المتكاسلين في الخدمة على العمل، وتورث قناعة بأحقية الرسالة، وهي نوع من إكرام إلهي لنا، وفي اظهارها تحدّث بالنعمة، وإلزام المتمردين الماديين الحجة واسكاتهم.. فيستلزم إذاً اظهارها، ولاضرر فيه ان شاء الله.

وهكذا فاحدى هذه الاشارات الغيبية هي:

ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بكمال رحمته وعموم كرمه، حثاً لنا على العمل وتطميناً لقلوبنا ـ نحن المشتغلين بخدمة القرآن والايمان ـ نعمة لطيفة في صورة اكرام رباني، واحسانٍ إلهي، علامةً على قبول خدمتنا وتصديقاً على أحقية ما ألــّفناه، تلك هي الاشارات الغيبية في ((التوافقات)) التي ظهرت في جميع رسائلنا، ولاسيما في ((المعجزات الاحمدية)) ورسالة ((المعجزات القرآنية)) ورسالة ((النوافذ))، حيث تتناظر فيها الكلمات المتماثلة في الصحيفة الواحدة.

وفي هذا اشارة غيبية الى انها تُنظم بارادة غيبية، اي: ((ان نقوشاً وانتظامات خارقة تُجرى دون علمٍ لاختياركم اياها ولايبلغها شعوركم، فلا تغتروا بارادتكم وشعوركم!)).. ولاسيما في ((المعجزات الاحمدية)) التي أصبحت فيها كلمة ((الرسول الاكرم)) ولفظ ((الصلوات عليه)) في حكم المرآة، تبين تلك التوافقات الغيبية بوضوح، بل تناظرت عبارة ((الصلوات عليه)) متوازية في اكثر من مائتي صفحة ـ باستثناء خمس صفحات ـ لدى مستنسخ جديد مبتدئ.

فهذه التوافقات كما لاتكون من شأن المصادفة قطعاً، التي قد تكون سبباً لتوافق كلمتين من كل عشر كلمات، لاتكون نابعة كذلك من تفكير شخص ضعيف مثلي، غير حاذق الصنعة، والذي يحصر نظره في المعنى، ويؤلف في سرعة فائقة مايقارب اربعين صحيفة في حوالي ساعتين من الزمن. فضلاً عن انه لايكتب بل يُملي على غيره ويستكتبه..

وهكذا وبعد مضي ست سنوات اطلعتُ على تلك التوافقات بارشاد القرآن الكريم ايضاً، وبارشاد تفسير ((اشارات الاعجاز))، حيث جاء التوافق فيه في تسع كلمات من كلمة ((إنــّا)). وقد حار المستنسخون كثيراً في الامر بعد سماعهم التوافق مني.

فكما ان لفظ ((الرسول الاكرم)) ولفظ ((الصلوات عليه)) في (المكتوب التاسع عشر) أصبحا كمرآة صغيرة لنوع من أنواع معجزاته e . كذلك لفظ ((القرآن)) في رسالة ((المعجزات القرآنية)) وهي (الكلمة الخامسة والعشرون) وفي الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر) قد ظهر في توافق لطيف مما بيّن جزءاً من اربعين جزء من ((التوافقات)) التي ظهرت في سائر الرسائل ايضاً، والتي تبين نوعاًمن الانواع الأربعين لاعجاز القرآن ازاء طبقة الناس الذين يعتمدون على مشاهداتهم وحدها، وهم الذين يمثلون واحدةً من اربعين طبقة من طبقات الناس. وذلك:

لقد تكرر لفظ ((القرآن)) مائة مرة في (الكلمة الخامسة والعشرين) وفي الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر)، وتناظرت الكلمات جميعها إلاّ ماندر.

ففي الصحيفة الثالثة والاربعين من الشعاع الثاني، هناك سبعة من لفظ ((القرآن)) تتناظر كلها.

وفي الصحيفة السادسة والخمسين التي فيها تسعة من لفظ ((القرآن))، تتناظر ثماني كلمات منها.

وهذه الصحيفة التاسعة والستون ـ التي أمام أبصارنا ـ توجد خمسة ألفاظ من ((القرآن)) تتناظر جميعها. وهكذا تتناظر ألفاظ ((القرآن)) المكررة الواردة في جميع الصفحات. وقلما يستثنى واحد من كل خمسة او ستة ألفاظ منه. واما سائر التوافقات، ففي الصحيفة الثالثة والثلاثين ـ التي هي أمامنا ـ خمسة عشر لفظاً لـ((أمْ))، تتناظر اربعة عشر منها، وكذلك في هذه الصحيفة التي أمام أعيننا، تتناظر تسعة من لفظ ((الايمان))، وانحرف واحد انحرافاً قليلاً، بوضع المستنسخ فاصلة بين الكلمات، وكذا في هذه الصحيفة التي أمامنا يتناظر لفظان من لفظ ((المحبوب)) أحدهما في السطر الثالث والآخر في السطر الخامس عشر، فهما يتناظران تناظراً جميلاً بميزان تام، وقد صُفّت بينهما أربعة من ألفاظ ((العشق)) متناظرة.

وهكذا، تقاس التوافقات الغيبية الأخرى على هذه.

فهذه التوافقات موجودة ـ لامحالة ـ بشكل من الاشكال في الرسائل أياً كان المستنسخ، وكيفما كانت الاسطر والصفحات، بحيث لاتدع شبهة من انها ليست نتيجة المصادفة، ولا من نتاج تفكير المؤلف والمستنسخ، ولكن التوافقات في خط بعض المستنسخين تلفت الأنظار أكثر، بمعنى ان لهذه الرسائل خطاً حقيقياً خاصاً بها، وان بعض المستنسخين يقترب من ذلك الخط.

ومن غرائب الأمور؛ ان هذه التوافقات أكثر ظهوراً لدى المستنسخين غير الماهرين. مما يفهم منه ان المزايا والفضائل والظرافة في ((الكلمات)) التي هي نوع من تفسير القرآن الكريم ليست ملك أحد. بل ان ملابس الاساليب الموزونة المنتظمة التي تناسب قامة الحقائق القرآنية المباركة الجميلة المنتظمة، لاتفصّل ولاتخاط باختيار أحد ولابشعوره، بل ان وجودها هو الذي يقتضي ان يكون الأمر هكذا. وان يداً غيبية هي التي تفصّلها وتخيطها وتُلبسها حسب تلك القامة.

اما نحن فترجمان فيها وخادم ليس إلاّ.

C النكتة الرابعة:

تذكرون في سؤالكم الأول، المتضمن لخمسةاو ستة اسئلة :

كيف يكون الجمع في ميدان الحشر وهل يحشر الناس عراة؟ وكيف يكون لقاء الاصدقاء الاحبة وكيف نجد الرسول e للشفاعة؟ اذ كيف يقابل انسان واحد عدداً غير محدود من الناس؟ وما نوع ثياب أهل الجنة والنار؟ ومن الذي يدلنّا على الطريق؟.

الجواب:

ان جواب هذا السؤال موجود كاملاً وواضحاً في كتب الاحاديث الشريفة.

وسنورد هنا ما يوافق مسلكنا ومشربنا من نكتة او نكتتين فحسب:

اولاً: لقد بينا في مكتوب من ((المكتوبات)): ان ميدان الحشر هو في مدار الارض السنوي، وان الارض ترسل محاصيلها المعنوية من الآن الى ألواح ذلك الميدان، وانها بحركتها السنوية تمثل دائرة وجود، وتكون مبدأ ً لتشكل ميدان الحشر، بمحاصيل تلك الدائرة الوجودية.

وان الكرة الارضية؛ التي هي كسفينة ربانية ستفرغ ما في مركزها من جهنم صغرى الى جهنم كبرى، كما ستفرغ سكنتها الى ميدان الحشر.

ثانياً: لقد أثبتنا اثباتاً قاطعاً في ((الكلمات)) ولاسيما في ((الكلمة العاشرة)) وفي ((الكلمة التاسعة والعشرين)) وجود الحشر مع ميدانه.

ثالثاً: اما الاجتماع بالاصدقاء ولقاؤهم، فقد اثبت اثباتاً كاملاً في كل من ((الكلمة السادسة عشرة)) و ((الكلمة الحادية والثلاثين)) و ((الكلمة الثانية والثلاثين)) وذلك:

ان شخصاً واحداً يستطيع في دقيقة واحدة ان يقابل ملايين الناس وفي ألف مكان ومكان، وذلك بسر النورانية.

رابعاً: ان الله سبحانه وتعالى قد ألبس مخلوقاته الأحياء كافة لباساً فطرياً سوى الانسان، ففي ميدان الحشر يلبسه سبحانه لباساً فطرياً، ويتعرى عن ملابسه المنسوجة (غير الفطرية) وذلك بمقتضى اسم الله الحكيم.

اما حكمة الألبسة المنسوجة في الدنيا، فلا تنحصر في الوقاية من الحر والقر، والزينة، وستر للعورة وحدها، بل أهم حكمة لها هي:

انها اشارة الى سيادة الانسان على سائر الانواع وتصرفه فيها، اذ ان ملابسه منسوجة من نماذج تلك الانواع. وإلاّ فما أهون عليه سبحانه أن يلبس الانسان لباساً فطرياً بسيطاً. اذ لولا هذه الحكمة لكان الانسان موضع استهزاء الحيوانات ذات المشاعر، حيث يغطي نفسه، ويلف جسمه بقطع متنوعة وخرق مختلفة.

اما في ميدان الحشر فلا داعي الى هذه الحكمة ولامبرر لتلك العلاقة بين الانسان وسائر الانواع، لذا لاحاجة الى تلك الملابس التي تمثل نماذج تلك الانواع.

خامساً: اما الدليل على الطريق، فهو القرآن لأمثالك ممن انضووا تحت نور القرآن ولوائه. فانظر الى المقطعات الموجودة في اوائل السور كـ((الم. و الر. و حم)) واعلم منها وشاهد: ماأعظم القرآن من كتاب، وماأرجاه من شفيع، وما أصدقه من دليل، وما أقدسه من نور!

سادساً: اما ثياب اهل الجنة وجهنم فقد وضحته ((الكلمة الثامنة والعشرون)) والدستور الذي ذكر فيما يخص سبعين حُلّة للحور العين جارٍ هنا ايضاً، وذلك ان انساناً من اهل الجنة لاشك يرغب في ان يتنعم بكل نوع من انواع لذائذ الجنة، وفي كل وقت وآن. ومعلوم ان في الجنة نعيماً ولذائذ في منتهى الاختلاف والانواع، فهو يعاشر جميع تلك الانواع من النعم، وفي كل وقت، لذلك يلبس ويُلبس حورَه نماذج حسن الجنة ونعيمها بمقياس مصغر، فيكون هو وحوره العين بمثابة جنة مصغرة.

اذ كما يجمع الانسان في حديقة بيته الازاهير المنتشرة في تلك البلدة، او كما يجمع صاحب حانوت مالديه من انواع البضائع في لائحة وقائمة. وكما يقتني الانسان ملابسه واثاث بيته من انواع المخلوقات التي يتصرف فيها، وله علاقة معها، وكذلك الذي هو من اهل الجنة، ولاسيما الذي عَبَد الله بجميع مشاعره وحواسه سيلبسه الله سبحانه برحمته، ويُلبس حوره العين، حللاً، تظهر كل نوع من انواع جمال الجنة ونعيمها وأذواقها بما يُشبع كل رغبة من رغباته، ويُرضى كل حاسة من حواسه، ويُمتّع كل جهاز من أجهزته، ويُسهّل له تذوق كل لطيفة من لطائفه.

والدليل على ان تلك الحلل المتعددة ليست من جنس واحد ولامن نوع واحد هو الحديث الشريف الوارد بهذا المعنى: ان الحور العين يلبسن سبعين حُلة ويرى مخ عظامهن من تحتها(1).

بمعنى انه ابتداءً من أعلى حلّة من تلك الحلل الى أدناها هناك مراتب من التذوق والتمتع بحيث تشبع جميع الحواس والمشاعر بلذائذ مختلفة وبانماط مختلفة.

اما من هو من أهل النار فانه قد ارتكب السيئات والذنوب ببصره وبسمعه وبقلبه وبعقله وبيده، وبسائر جوارحه وحواسه ومشاعره، فلابد انه سيُلبس ملابس قطّعت من اجناس مختلفة ليعذَّب بها وليذوق آلاماً متنوعة بحسب كل حاسة وجهاز حتى تصير الملابس جهنم مصغرة تحيط به. ولايتنافى هذا ومقتضى الحكمة والعدالة.

C النكتة الخامسة:

تسألون: هل كان أجداد الرسول e يدينون بدين في زمن الفترة؟

الجواب: هناك روايات تدل على انهم كانوا يدينون ببقايا دين ابراهيم عليه السلام، بعد ان مرت بفترات الغفلة والظلمات المعنوية، وقد ظلت متعبَّد بعض الناس الخاصين، فلاريب ان الذين انحدروا من نسل سيدنا ابراهيم عليه السلام والذين شكـّلوا سلسلة نورانية انتجت سيدنا الرسول e لم يكونوا مهملين للدين الحق، ولم يقعوا في ظلمات الكفر، ولكن الآية الكريمة: } وما كنا معذّبينَ حتى نَبعثَ رَسُولا{ (الاسراء:15) تبين ان أهل الفترة يكونون من اهل النجاة، فلايؤاخَذون بخطاياهم في الفروع، بالاتفاق، بل هم اهل نجاة عند الامام الشافعي، والامام الاشعري، حتى لو وقعوا في الكفر وليس لهم اصول الايمان، لان التكليف الإلهي يكون ببعثة الرسل، ويتقرر التكليف بالاطلاع على البعثة.

وحيث ان الغفلة ومرور الزمان قد سترا أديان الأنبياء السابقين، فلاتكون هذه الأديان حجةً على أهل زمن الفترة، فان أطاعوا يثابون، وان لم يطيعوا لايعذّبون، لانها لاتكون حجة مادامت مستورة غير ظاهرة.

C النكتة السادسة:

تقولون: هل اُرسل أحدٌ بالنبوة من أجداد النبي e ؟

الجواب: ليس هناك نص قاطع على وجود نبي من أجداده e بعد سيدنا اسماعيل عليه السلام، ولكن ظهر نبيان من غير أجداده e ، وهما خالد بن سنان(1)، وحنظلة(2). وهناك قصيدة مشهورة لكعب بن لؤي، وهو من أجداده e . يقول فيها:

على غفلة يأتي النبي محمدٌ فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها(3).

هذا الكلام شبيه بكلام نبوة معجز، وقد قال الامام الرباني مستنداً الى الدليل والكشف: ((لقد بُعث انبياء كثيرون في الهند، إلاّ أن بعضهم لم تتبعهم أمة او انحصرت في عدة أشخاص محدودين، فلم يشتهروا، او لم يطلق عليهم الناس اسم النبي))(4).

فبناءً على هذه القاعدة للامام الرباني، يمكن وجود أنبياء أمثال هؤلاء في أجداد النبي e .

C النكتة السابعة:

تقولون: ماأصح خبر وأقواه بحق ايمان والديّ الرسول e وجدّه عبد المطلب؟

الجواب: ان سعيداً الجديد لايقتني اي كتاب كان غير القرآن الكريم منذ عشر سنوات، ويقول حسبي القرآن كتاباً، ولايسعني الوقت للتدقيق والبحث في مثل هذه المسائل الفرعية في جميع كتب الأحاديث كي أتمكن من الوصول الى أقوى الاخبار وأصحها. إلاّ انني أقول:

ان والديّ الرسول الكريم e من اهل النجاة ومن اهل الجنة، ومن اهل الايمان، فلاشك ان الله سبحانه وتعالى لايؤلم قلب حبيبه e ولايجرح شفقته اللطيفة التي تملأ ذلك القلب المبارك.

فان قيل: ان كان الأمر هكذا فلِمَ لم يوفقوا للايمان ولم يدركوا بعثته e .؟

الجواب: ان الله سبحانه وتعالى بكرمه العميم لايجعل والديّ الرسول الحبيبe تحت ثقل المنّة، تلطيفاً لشعوره e .اذ اقتضت رحمته سبحانه ان يرضي حبيبه الكريم e ويسعد والديه ويجعلهما تحت منّة ربوبيته الخالصة، لكيلا ينزلهما من مرتبة الوالدية الى مرتبة الاولاد المعنوية، فلذلك لم يجعل والديه ولا جدّه من امته ظاهراً، في حين أنعم عليهم مزايا الامة وفضائلها وسعادتها.

نعم! لو حضر أمام مشير عظيم في الجيش والده وهو برتبة نقيب لظل والده تحت تأثير شعورين متناقضين. لذا فالسلطان رحمة بمشيره الكريم، لايجعل والده تحت امرته.

C النكتة الثامنة:

تقولون: ماأصح الأقوال بحق عمه أبي طالب؟

الجواب:ان الشيعة قائلون بايمانه، اما أهل السنة فان أكثرهم ليسوا قائلين بايمانه.

ولكن الذي ورد الى قلبي، هو الآتي :

ان ابا طالب كان يحب شخص الرسول e حباً خالصاً جاداً، يحب ذاته لارسالته. فلاشك ان محبته الخالصة جداً وشفقته القوية لشخص الرسول e لاتذهب هباءً منثوراً، ولاتضيع عند الله.

نعم، ان ابا طالب الذي أحب حبيب رب العالمين حباً خالصاً وحماه من الاعداء واظهر موالاته له، حتى لو صار الى جهنم لعدم اظهاره ايماناً مقبولاً ـ خجلاً وعصبية قومية وامثالها من المشاعر وليس عناداً وانكاراً ـ فان الله سبحانه قادر على ان يخلق جنة خاصة به في جهنم ثواباً لحسناته، ويبدل جهنمه الخاصة الى جنة خاصة، بمثل ما يخلق احياناً ربيعاً زاهياً في الشتاء القارس، وبمثل مايحوّل السجن الضيق - برؤيا يراها بعضهم ـ الى قصر منيف.

والعلم عند الله .. ولايعلم الغيب الاّ الله.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

عبدالرزاق 02-03-2011 12:41 PM

رد: المكتوبات
 
المكتوب التاسع والعشرون

هذا المكتوب التاسع والعشرون عبارة عن تسعة اقسام وهذا القسم، هو الاول منه يتضمن تسع نكات.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

أخي العزيز الوفي الصادق، وصاحبي الخالص الجاد في الخدمة القرآنية!

انكم تطلبون في رسالتكم هذه المرة، جواباً عن مسألة مهمة، لايسمح به وقتي وأحوالي.

أخي! لقد ازداد كثيراً هذه السنة، عدد الذين يكتبون رسائل النور والحمد لله. ويأتي اليّ التصحيح الثاني فانشغل به، بصورة سريعة طوال اليوم، لذا يتأخر كثير من أموري المهمة، اذ أرى ان هذه الوظيفة أهم من غيرها، ولاسيما في شهري شعبان ورمضان، حيث للقلب حظ أكبر من العقل، ويشرع الروح بالحركة. لهذا أؤجل هذه المسألة الجليلة الى وقت آخر بمشيئة الله، فمتى ما سنح للقلب شئ بفضل رحمته تعالى، اكتبه اليكم شيئاً فشيئاً.

والآن أبيّن ثلاث نكات(1):

C النكتة الاولى:

((لاتُعرف اسرار القرآن معرفة كاملة، ولم يدرك المفسرون حقيقته)). هذا المفهوم له وجهان. والقائلون به طائفتان:

الطائفة الاولى:

هم اهل الحق والعلم والتدقيق. فهم يقولون: ان القرآن الكريم كنز عظيم لاينفد، وان كل عصر يأخذ حظه من حقائقه الخفية التي هي من قبيل التتمات، مع التسليم بنصوص القرآن ومحكماته من دون ان يتعرض او يمس ما خفي من الحقائق من حظ اهل العصور الأخرى.

وحقاً ان حقائق القرآن تتوضح أكثر كلما مضى الزمان. ولايعني هذا ابداً القاء ظل الشبهة على ما بيّنه السلف الصالح من حقائق القرآن الظاهرة، لانها نصوص قاطعة وأسسٌ وأركان لابد مـن الايمان بهـا. وقـولـه تعـالى : } وهذا لسان عربي مبين{ (النحل: 103) يوضح ان معنى القرآن واضح مبين. فالخطاب الإلهي من اوله الى آخره يدور حول تلك المعاني ويقوّيها حتى يجعلها بدرجة البداهة. لذا فان رفض تلك المعاني المنصوص عليها يؤدي الى تكذيب الله سبحانه وتعالى (حاشلله) والى تزييف فهم الرسول الكريم e (حاشاه). بمعنى ان المعاني المنصوص عليها قد اُستُقيت من منبع الرسالة مسندة متسلسلة. حتى ان (ابن جرير الطبري) قد ألّف تفسيره الكبير الجليل مسنداً معاني القرآن جميعها الى منبع الرسالة.

الطائفة الثانية:

وهم اصدقاء حمقى، يفسدون اكثر مما يصلحون، او انهم اعداء ذوو دهاء شيطاني، يريدون أن يتصدوا للاحكام الاسلامية ويعارضوا الحقائق الايمانية، ويحاولون أن يجدوا منفذاً من السور القرآنية التي كل منها سور فلاذي لحصن القرآن الكريم ـ حسب تعبيركم ـ فهؤلاء يشيعون امثال هذه الاقوال ليلقوا الشبهات حول الحقائق الايمانية والقرآنية (حاشلله).

C النكتة الثانية:

لقد أقسم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بكثير من الاشياء. وفي الاقسام القرآنية نكات عظيمة جداً واسرار كثيرة جداً:

منها: ان القَسَم في } والشمس وضحيها{ (الشمس:1) يشير الى اظهار الكون كقصر عظيم ومدينة عامرة، والذي هو اساس التمثيل الرائع الوارد في (الكلمة الحادية عشرة).

ومنها: القَسم في؛ } يس ^ والقرآن الحكيم{ يذكّر به قدسية اعجاز القرآن، وانه بدرجة من الاهمية بحيث يقسم به.

وان القَسَم في } والنجم اذا هوى{ يشير الى ان سقوط النجوم علامة على انقطاع الاخبار الغيبية عن الجن والشياطين منعاً لورود شبهة على الوحي الإلهي. وفي الوقت نفسه فان القسم في } فلا اُقسم بمواقع النجوم ^ وانه لقَسَم لو تَعلَمُونَ عظيم{ (الواقعة:75ـ76) يذكّر بعظمة القدرة وكمال الحكمة في وضع النجوم في مواقعها بكمال الانتظام مع ضخامتها الهائلة، وتدوير السيارات الجسيمة بسرعة عظيمة.

ويذكّر القَسَم في } والذاريات{ وفي } والمرسلات{ بالحكم الجليلة التي في تموّجات الهواء وتصريف الرياح، اذ يقسم سبحانه بالملائكة المأمورين بوظيفة تصريف الرياح، فيلفت النظر الى ان الامور التي قد تظن انها تجري مصادفة تنفّذ حِكماً دقيقة وتؤدي وظائف جليلة.

وهكذا، فلكل موقع من مواقع القَسَم نكتته البليغة وفائدته. ولما كان الوقت لايسمح لنا بالتفصيل، فسنشير اشارة مجملة الى نكتة واحدة من النكات الكثيرة التي يتضمنها القَسَم في } والتين والزيتون{ وذلك:

ان الله سبحانه وتعالى يذكّر بالقسم بالتين والزيتون عظمة قدرته وكمال رحمته وعظيم نعمته، فيصرف وجه الانسان المتردّي الى اسفل سافلين ويحوّله عن ذلك التردي والهاوية، مشيراً اليه أنه بامكانه ان ينال مراتب معنوية رفيعة، بل يترقى الى أعلى عليين بالشكر والفكر والايمان والعمل الصالح.

اما تخصيص التين والزيتون بالقَسَم من بين النعم الاخرى، فهو:

ان هاتين الفاكهتين نافعتان مباركتان.. وان في خلقهما وما فيهما من نعم عظيمة يبعث على الملاحظة، لأن الزيتون يشكّل أساساً مهما في الحياة الاجتماعية والتجارية، وفي وسائل التنوير، وفي تغذية الانسان. كما ان في خلق التين ما يبين معجزة خارقة من معجزات القدرة الإلهية، كدرج أجهزة شجرة التين العظيمة وضمّها في بذيرة متناهية في الصغر. كما يذكّر بالقَسم به، بالنِعَم الإلهية في طعمه، وفي منافعه، وفي دوامه، خلاف أكثر الثمار. وفي الوقت نفسه يرشد الانسان ـ ازاء هذه النعم ـ الى ما يحول دون ترديه الى اسفل سافلين بالايمان والعمل الصالح.

C النكتة الثالثة:

ان الحروف المقطّعة الموجودة في أوائل السور، شفرات الهية، يعطي بها سبحانه بعض الاشارات الغيبية الى عبده الخاص، ومفتاح تلك الشفرة، لدى ذلك العبد الخاص، ولدى ورثته.

ولما كان القرآن الحكيم يخاطب جميع الطوائف البشرية في كل وقت وحين. فهو يتضمن من المعاني المتنوعة والوجوه الكثيرة الجامعة ما يكون حظ كل طائفة في كل عصر من العصور. وان أصفى المعاني والوجوه هي تلك التي بينها السلف الصالح بياناً واضحاً. وقد وجد الأولياء والمحققون اشارات معاملات غيبية في تلك المقطعات فيما يخص السير والسلوك الروحاني.

وقد بحثنا نبذة عن تلك المقطعات في تفسير ((اشارات الاعجاز)) في اوائل تفسير سورة البقرة. فليراجع.

C النكتة الرابعة:

لقد اثبتت (الكلمة الخامسة والعشرون)، انه لايمكن ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية، ولايمكن قطعاً ترجمة اسلوبه الرفيع في اعجازه المعنوي. وانه من الصعوبة جداً إفهام الذوق، وبيان الحقيقة النابعين من ذلك الاسلوب الرفيع في اعجازه المعنوي إلاّ اننا نشير للدلالة فحسب الى جهة او جهتين منه. وذلك: بقوله تعالى:

} ومن آياته خلق السّمواتِ والارضِ واختلافُ ألسنتكم وألوانِكم{ (الروم:22)

} والسّمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ{ (الزمر: 67)

} يخلقكم في بطون أُمهاتكم خلقاً من بعدِ خلقٍ في ظلماتٍ ثلاث{ (الزمر:6)

} خلق السّموات والارض في ستة ايام{ (الاعراف:54)

} يحول بين المرءِ وقلبه{ (الانفال:24)

} لايعزبُ عنه مثقالُ ذرة{ (سبأ:3)

} يولجُ الليلَ في النهارِ ويولجُ النهارَ في الليلِ وهو عليمٌ بذاتِ الصدورِ{ (الحديد: 6)

هذه الآيات الكريمة وأمثالها تضع نصب الخيال تصورحقيقة الخلاّقية، في اسلوب رفيع معجز وفي جمع خارق بديع. اذ يبين:

ان صانع العالم وباني الكون مثلما يمكّن الشمس والقمر في مواقعهما، يمكّن الذرات ايضاً في مواضعها في بؤبؤ عين الأحياء مثلاً، فيمكّن كلاً منها في موضعها بالآلة نفسها، في اللحظة نفسها.. وانه مثلما ينظم السّماوات طباقاً ويفتحها أبواباً وينسقها تنسيقاً، ينظّم طبقات العين ويفتح أغطيتها بالميزان بالاداة نفسها والآلة المعنوية نفسها، في اللحظة نفسها.. وانه مثلما يسمّر النجوم في السماوات، ينقّش مالايحد من نقاط العلامات الفارقة في وجه الانسان ويشق فيه الحواس الظاهرة والباطنة، بآلة القدرة المعنوية نفسها.

بمعنى ان ذلك الصانع الجليل لأجل إراءة أفعاله ملء البصر والسمع واظهار مباشرته أفعاله؛ يطرق بكلمةٍ من آياته القرآنية طرقةً على الذرة فيثبتها في موضعها، ويطرق بكلمةٍ اخرى من الآية نفسها طرقةً على الشمس ويثبتها في مركزها، فيبيّن الوحدانية في عين الأحدية، ومنتهى الجلال في منتهى الجمال، ومنتهى العظمة في منتهى الخفاء، ومنتهى السعة في منتهى الدقة، ومنتهى الهيبة في منتهى الرحمة، ومنتهى البعد في منتهى القرب. أي يظهر أبعد مراتب جمع الأضداد ـ الذي يُعدّ محالاً ـ في صورة درجة الواجب، مثبتاً ذلك بأبلغ أسلوب وأرفعه.

وهذا الاسلوب المعجز هو الذي يُخضع رقاب فطاحل الادباء فيخرون لبلاغته سُجّداً.

ومثلاً ؛ قوله تعالى:

} ومن آياته ان تقومَ السّماءُ والارض بأمره ثم اذا دعاكم دعوةً من الارضِ اذا أنتم تخرجون{ (الروم:25).

تبيّن هذه الآية الكريمة عظمة ربوبيته سبحانه في اسلوب عالٍ رفيع. وذلك:

ان السماوات والارض بمثابة معسكرين في أتم طاعة وانقياد، وفي صورة ثكنة لجيشين عظيمين على أتم نظام وانتظام. وما فيهما من موجودات راقدة تحت غطاء الفناء وستار العدم تمتثل بسرعة تامة وطاعة كاملة أمراً واحداً او اشارة من نفخ في صور، لتخرج الى ميدان الحشر والامتحان.. فانظر كيف عبّرت الآية الكريمة عن الحشر والقيامة باسلوب معجز رفيع، وكيف أشارت الى دليل اقناعي في ثنايا المدّعى، مثلما تخرج البذور التي تسترت في جوف الارض كالميتة، والقطرات التي انتشرت مستترة في جو السماء وانتشرت في كرة الهواء، وتحشر بانتظام كامل وفي سرعة تامة، فتخرج الى ميـدان التـجـربة والامتحـان في كـل ربـيع، حتى تتـخذ الحبوب في الارض والقطـرات في السماء صورة الحـشر والنشور، كما هو مشاهد. وهكذا الامر في الحشر الاكبر وبالسهولة نفسها. واذ تُشاهد هذا هنا، فلا تقدرون على انكار الحشر.

وهكذا، فلكم ان تقيسوا على هذه الآية ما في الآيات الاخرى من درجة البلاغة.

فهل يمكن ـ ياترى ـ ترجمة أمثال هذه الآيات الكريمة ترجمة حقيقية؟. لاشك انها غير ممكنة.

فان كان ولابد، فإما أن تعطى معاني اجمالية مختصرة للآية الكريمة او يلزم تفسير كل جملة منها في حوالي ستة أسطر.

C النكتة الخامسة:

لنأخذ مثلاً، جملة قرآنية واحدة، وهي: ((الحمد للّه))، فان أقصر معنى من معانيها كما تقتضيه قواعد علم النحو والبيان، هو:

((كل فرد من افرادالحمد من اي حامد صدر وعلى اي محمود وقع من الازل الى الابد خاصٌ ومستحق للذات الواجب الوجود المسمى بالله))(1).

فقولنا:((كل فرد من افراد الحمد)) ناشئ من ((أل)) الاستغراق.

ومن ((اي حامدا كان)) فقد صدر من كون ((الحمد)) مصدراً، فيفيد العموم في مثل هذا المقام، لأن فاعله متروك.

((وعلى اي محمود وقع)) يفيد العموم والكلية، في مقام الخطاب، لترك المفعول.

أما ((من الازل الى الابد))، فيفيده الدوام والثبات، حسب قاعدة انتقال الجملة الفعلية الى جملة اسمية.



وان لام الجر في ((لله)) تفيد معنى ((خاصاً ومستحقاً)) لأن تلك اللام للاختصاص والاستحقاق.

اما ((للذات الواجب الوجود المسمى باللّه)) فان لفظ ((الله)) يدل دلالة التزامية على ((الواجب الوجود)) لأنه لفظ جامع لسائر الاسماء والصفات، وانه الاسم الاعظم، ولان ((واجب الوجود)) لازم ضروري للالوهية وهو عنوان لملاحظة الذات الجليلة.

فلئن كان أقصر المعاني الظاهرية لجملة ((الحمدلله)) على هذه الصورة، كما اتفق عليها علماء اللغة العربية، فكيف بترجمة القرآن الكريم الى لغة أخرى بنفس الاعجاز والقوة نفسها؟

ثم ان هناك لغة فصيحة واحدة فقط من بين ألسنة العالم ولغاته مما سوى اللغة العربية الفصحى، وهي لاتبلغ قطعاً جامعية اللغة العربية وشموليتها.

ان كلمات القرآن التي جاءت بتلك اللغة العربية الفصحى الجامعة الخارقة، وفي صورة معجزة، وصادرة من علم محيط بكل شئ يدير الجهات كلها كيف توفي حقهاكلمات ألسنة اخرى تركيبية وتصريفية في ترجمة مَن هو جزئي الذهن قاصر الشعور مشوش الفكر، مظلم القلب؟ أم كيف تملأ كلمات ترجمة محل تلك الكلمات المقدسة؟ حتى استطيع القول، واثبت ايضاً: ان كل حرف من حروف القرآن الكريم بمثابة خزينة من خزائن الحقائق، بل قد يحوي حرف واحد فقط من الحقائق ما يملأ صحيفة كاملة.

C النكتة السادسة:

لأجل تنوير هذا المعنى سأذكر لكم ما جرى عليَّ من حالة نورانية خاصة ومن خيال ذي حقيقة، توضيحاً لمعنى كلمة ((...نعبد)) وتبياناً لجانب خفي من سرَّها:

تأملت ذات يوم في ((ن)) المتكلم مع الغير في: } اياك نعبد وإيّاك نستعين{ وتحرّى قلبي وبحث عن سبب انتقال صيغة المتكلم الواحد الى صيغة الجمع (نعبد).. فبرزت فجأة فضيلة صلاة الجماعة وحكمتها من تلك ((النون))، اذ رأيت انه بسبب مشاركتي للجماعة في الصلاة التي أدَّيتها في جامع ((بايزيد)) يكون كل فرد منها بمثابة شفيع لي.

ورأيت ان كل فرد من أفراد تلك الجماعة شاهدٌ ومؤيدٌ لما أظهرته من أحكام وقضايا في قراءتي. فولّد ذلك عندي الشجاعة الكافية لكي أقدم عبادتي الناقصة، وأرفعها مضمومة مع العبادة الهائلة لتلك الجماعة الى الحضرة الإلهية المقدسة.

وبينما كنت أتأمل في هذا؛ اذا بستار آخر يُرفع، ورأيت أن جميع ((مساجد استانبول)) قد اتصلت وترابط بعضها ببعض؛ فأصبحت تلك المدينة كهذا الجامع، واستشعرت بشرف أدعيتهم جميعاً بل تصديقهم كذلك.

وهناك رأيت نفسي محشوراً في تلك الصفوف الدائرية على مسجد سطح الارض المتحلقة حلقات حول الكعبة المشرفة فحمدت الله كثيراً وقلت: ((الحمدلله رب العالمين)).. ان لي كل هذه الكثرة الكاثرة من الشفعاء، وممن يرددون معي، ويصدقونني في كل ما اقوله في الصلاة.

وقلت: ما دام الستار قد رفع هكذا خيالاً.. وأصبحت الكعبة المشرفة بحكم محراب لأهل الأرض، فلأغتنم اذن هذه الفرصة، ولأدع فيها خلاصة الايمان التي اذكرها في التشهد وهي، ((أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله)) وأسلمها أمانة عند الحجر الأسود. متخذاً الصفوف شهداء عليها.

وهنا انكشفت حالة اخرى، إذ رأيت:

ان الجماعة التي انضممت اليها قد أصبحت ثلاث جماعات ودوائر:

الأولى: هي الجماعة الكبرى المؤلفة من المؤمنين الموحدين على وجه الأرض قاطبة.

الثانية: هي جماعة الموجودات كافة حيث } كلٌ قد علم صلاته وتسبيحه{ فرأيت نفسي مع صلاتها الكبرى وفي تسبيحاتها العظمى.. وأن ما يسمَّى وظائف الاشياء واعمالها، إن هو إلاّ عناوين عباداتها وعبوديتها..

فطأطأت رأسي حائراً أمام هذه العظمة قائلاً: ((الله اكبر)) وتأملت في نفسي وفي الدائرة:

الثالثة: ورأيت عالماً يبدأ من ذرات وجودي، وينتهي الى حواسي الظاهرة؛ فهو عالم صغير وصغير.. إلاّ أنه عظيم جداً يدعو الى الحيرة والاعجاب. وهو عالم ظاهره متناهٍ في الصغر إلاّ أن حقيقته عظيمة، ووظائفه جليلة.

نعم، رأيت أن كل جماعة من جماعات هذا العالم منهمكة بوظائف عبوديتها وواجبات شكرها. ورأيت أن اللطيفة الربانية التي هي في تلك الدائرة في قلبي تردد: } ايّاك نعبد وإيّاك نستعين{ باسم هذه الجماعة، مثلما ردّدها لساني بنية الجماعتين العظيمتين الأوليين.

والخلاصة: أن (نون) "نعبد" تشير الى هذه الجماعات الثلاث وتدل عليها.

وبينما أنا في هذه الحالة؛ إذا بالشخصية المعنوية المباركة لمبلّغ القرآن الكريم قد تمثلت أمامي بعظمته ووقاره.. وهو صلى الله عليه وسلم على منبره المعنوي (المدينة المنوّرة). وأسمع منه - كما سمع غيري - خطاباً إلهياً موجهاً..

} يا أيُّها الناس اعبدوا ربكم..{ (البقرة: 21) فرأيت خيالاً أن كل مَن في تلك الجماعات الثلاث يتجاوب مثلي مع ذلك الخطاب الرباني العظيم قائلاً: } إيّاك نعبد{ .

وهناك تمثلت حقيقة أخرى أمام الفكر، حسب قاعدة: ((إذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه)) وهي:

ما دام رب العالمين قد اتخذ الانسان مخاطباً له، فيتكلم مع جميع الموجودات، وان هذا الرسول الكريم e قد قام بتبليغ ذلك الخطاب الرباني الجليل الى جميع البشر بل الى جميع ذوي الشعور، والى جميع ذوي الارواح، فلابد ان الماضي والمستقبل معاً قد اصبحا بحكم الزمن الحاضر، وغدت البشرية كافة مجلساً واحداً وجماعة واحدة في صفوف مختلفة متنوعة، حيث الخطاب موجه اليهم جميعاً.

هناك بدا لي أن كل آية من آيات القرآن الكريم في قمة البلاغة ومنتهى الجزالة، وفي غاية الاعجاز الذي يشع نوره الساطع، حيث أن الآية تكسب علوّها وسموّها وقوتها لصدورها: من ذلك المقام السامي الرفيع الذي لا نهاية لعظمته، ولا غاية لسعته ولا منتهى لسموه، من ذي الجلال والعظمة المطلقة، من المتكلم الازلي جل جلاله..

ومن مبلّغها الذي هو في مقام المحبوبية العظمى صاحب المنزلة الرفيعة والدرجة العالية. ومن توجهها الى المخاطبين الذين هم في منتهى الكثرة والأهمية والتباين.

لذا، تحقق عندي؛ انه ليس القرآن كله معجزة، بل كل سورة من سوره معجزة، وكل آية من آياته معجزة بل حتى كل كلمة فيه بحكم معجزة.

لذا قلت ((الحمدلله على نعمة الايمان والقرآن)).

وبهذا خرجت من ذلك الخيال الذي هو عين الحقيقة، كما دخلت فيه من (ن) نعبد، وفهمت أنه: ليست آيات القرآن ولا كلماتها معجزة وحدها، وانما كذلك حروف القرآن - كما في (ن) نعبد - هي مفاتيح نورانية لحقائق عظمى.

وبعدما خرج القلب والخيال من (ن) نعبد قابلهما العقل قائلاً:

- انني أطالب بحظي ونصيبي مما انتم فيه، فلا اتمكن من التحليق مثلكم، ولا استطيع السير الا باقدام الادلة والحجج.. اروني ما في (نعبد) و (نستعين) من الطريق الموصل الى (المعبود الحقيقي) و (المستعان الحقيقي) حتى أتمكن من مرافقتكم.

وعندها خطر للقلب أن:

- قل لذلك العقل الحائر أن يتأمل في جميع موجودات العالم سواءً منها الحي وغير الحي. فلكلٍ منها عبودية على شكل وظيفة من الوظائف على وفق نظام دقيق، وضمن اطاعة تامة.

ومع أن قسماً من تلك الموجودات دون شعور واحساس؛ فانه ينجز اعماله ووظائفه في غاية العبودية والنظام والشعور.

اذن لابدّ أن معبوداً حقيقياً وآمراً مطلقاً، يسخّر هذه الموجودات ويسوقها الى العبودية.

وقل له ليتأمل كذلك في جميع الموجودات ولاسيما الاحياء منها، فلكل منها حاجات كثيرة متنوعة، ولكلٍ منها مطاليب عدة ومختلفة لأدامة حياتها وبقاء نوعها. وبينما لا تصل أيديها الى أبسط تلك الحاجات والمطاليب، وليست هي في طوقها.. إذا بنا نشاهد أن تلك المطاليب التي لا تحد، تأتيها رغداً من كل مكان، بل تأتيها في أفضل وقت وأنسبه. فهذا الافتقار والحاجة غير المتناهيتين للموجودات، وهذه الإعانات الغيبية والإمدادات الرحمانية تدل بداهة على أن لها رزاقاً يحميها.

وهو غني مطلق.. كريم مطلق.. قدير مطلق.. بحيث يستعين به كل شئ، وكل حيّ، طالباً منه العون والمدد.

أي أن كل شئ في الوجود يقول ضمناً ومعنىً:

} وإيّاك نستعين{ وهناك استسلم العقل وقال: آمنا وصدّقنا.

C النكتة السابعة:

وبعد ذلك وانا اتلو: } اهدنا الصراط المستقيم ^ صراط الذين انعمت عليهم{ ، نظرت الى قوافل البشرية الراحلة الى الماضي، فرأيت ان ركب الأنبياء المكرمين والصديقين والشهداء والأولياء والصالحين أنور تلك القوافل واسطعها، حتى ان نوره يبدد ظلمات المستقبل؛ اذ انهم ماضون في جادة مستقيمة كبرى تمتد الى الابد.. وان هذه الجملة تبصّرني طريق اللحاق بذلك الركب الميمون، بل تلحقني به..

فقلت: ياسبحان الله، ما أفدح خسارة، وما أعظم هلاكَ مَن ترك الالتحاق بهذه القافلة النورانية العظمى، والتي مضت بسلام وأمان وازالت حجب الظلمات، ونورت المستقبل.. ان من يملك ذرة من شعور لابد ان يدرك هذا.

وان من ينحرف عن طريق تلك القافلة العظمى بإحداث البدع، اين سيلتمس النور ليستضئ، والى اين سيسلك؟.

فلقد قال قدوتنا الرسول الاكرم e (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)(1).

فالذين استحقوا ان يطلق عليهم اسم ((علماء السوء)) اولئك الشقاة، أية مصلحة يجدونها ازاء هذا الحديث في فتوى يفتونها، يعارضون بها بديهيات الشعائر الاسلامية، بما فيه ضرر ومن غير ضرورة، ويرون ان تلك الشعائر قابلة للتبديل! فان كان ثمة شئ، فلربما انتباهٌ موقتٌ ناشئٌ من سطوع المعنى المؤقت هو الذي خدعهم.

مثلاً: لو سلخ جلد حيوان، او نزع غلاف ثمرة، فان ظرافة مؤقتة تبدو من اللحم والثمرة، ولكن بعد مدة قليلة يسوّد ذلك اللحم الظريف، والثمرة اللطيفة، وذلك بتأثير ما يغلفهما من غلاف عرضي غريب كثيف ملوث، فيتعفنان..

كذلك التعابير الإلهية والنبوية التي هي في الشعائر الاسلامية، فهي بمثابة جلد حي مثاب عليه. ولدى انتزاعه يظهر شئ من نور المعاني موقتاً، وتطير أرواح تلك المعاني المباركة ـ بمثل ذهاب لطافة الثمرة المنزوع عنها الغلاف - تاركة الفاظها البشرية في القلوب والعقول المظلمة. ثم تغادر، ويذهب النور ولايبقى غير الدخان.. وعلى كل حال ..

C النكتة الثامنة:

ينبغي بيان دستور من دساتير الحقيقة الذي يخصّ هذا الامر. وذلك:

ان في الشريعة الاسلامية نوعين من الحقوق ((حقوق شخصية)) و ((حقوق عامة)) والتي هي من نوع ((حقوق الله)). وان من المسائل الشرعية ما يتعلق بالاشخاص ومنها ما يتعلق بالناس عامة، اي يتعلق بهم من حيث العموم، فيطلق على هذا القسم اسم ((الشعائر الاسلامية)) فالناس كلهم لهم حصة من هذا القسم، حيث يتعلق بالعموم، وان اي تدخل في هذا القسم من الشعائر واي مسّ بها، يعتبر تعدياً لحقوق اولئك الناس عامة، ان لم يكونوا راضين عنه. وان أصغر مسألة من تلك الشعائر (ولتكن من قبيل السنة) على جانب عظيم من الاهمية، كأية مسألة جليلة، لأنها تتعلق مباشرة بالعالم الاسلامي كافة.

ألا فليدرك اولئك الذين يسعون لقطع تلك السلاسل النورانية التي ارتبط بها جميع أعاظم الاسلام منذ خير القرون الى يومنا هذا، ويعاونون على تحريفها وهدمها. فلينظروا أيّ خطأ عظيم يرتكبون. وليرتعدوا إن كانت لهم ذرة من شعور!.

C النكتة التاسعة:

يطلق على قسم من المسائل الشرعية اسم ((المسائل التعبدية)) هذا القسم لايرتبط بمحاكمات عقلية، ويُفعل كما اُمر، اذ ان علّته هو الامر الإلهي.

ويعبّر عن القسم الآخر بـ((معقول المعنى)) أي ان له حكمة ومصلحة، صارت مرجّحة لتشريع ذلك الحكم. ولكن ليست سبباً ولاعلة. لأن العلّة الحقيقية هي الأمر والنهي الإلهي.

فالقسم التعبدي من الشعائر لاتغيّره الحكمة والمصلحة قطعاً، لأن جهة التعبّد فيه هي التي تترجح، لذا لايمكن ان يُتدخل فيه او يمس بشئ، حتى لو وجدت مائة ألف مصلحة وحكمة، فلا يمكن ان تغيّر منها شئ. وكذلك لايمكن ان يقال: إن فوائد الشعائر؛ هي المصالح المعلومة وحدها. فهذا مفهوم خطأ، بل ان تلك المصالح المعلومة، ربما هي فائدة واحدة من بين حكمها الكثيرة.

فمثلاً: لو قال أحدهم: ان الحكمة من الأذان هي دعوة المسلمين الى الصلاة، فاذاً يكفي ـ بهذه الحالة ـ اطلاق طلقة من بندقية! ولايعرف ذلك الأبله ان دعوة المسلمين هي مصلحة واحدة من بين ألوف المصالح في الأذان. حتى لو اعطى ذلك الصوت تلك المصلحة فانه لايسدّ مسدّ الأذان الذي هو وسيلة لاعلان التوحيد الذي هو النتيجة العظمى لخلق العالم، وخلق نوع البشر. وواسطة لاظهار العبودية ازاء الربوبية الإلهية باسم الناس في تلك البلدة او باسم البشرية قاطبة.

حاصل الكلام: ان جهنم ليست زائدة عن الحاجة، فان كثيراً من الأمور تدعو بكل قوة: لتعش جهنم. وكذا الجنة ليست رخيصة بل تطلب ثمناً غالياً.





} لايستوي أصحاب النارِ وأصحابُ الجَنّة أصحابُ الجَنّة همُ الفائزون{

(الحشر:20)

القسم الثاني

وهو الرسالة الثانية

رسالة رمـضان

لقد بحث نبذة مختصرة عن الشعائر الاسلامية في ختام القسم الاول، لذا سيذكر في هذا القسم الثاني عدد من الحكم التي تخص صيام شهر رمضان المبارك والذي هو اسطع الشعائر واجلّها.

هذا البحث عبارة عن تسع نكات دقيقة ومسائل لطيفة تبين تسعاً من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} شهْرُ رَمـضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للِنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ{

(البقرة: 185)

C النكتة الاولى: أن صيام شهر رمضان يأتي بين أوائل الاركان الخمسة للاسلام، ويُعدّ من أعاظم الشعائر الاسلامية.

ان أكثر الحكم المتمخضة عن صوم رمضان تتوجّه الى إظهار ربوبية الحق تبارك وتعالى، كما تتوجّه الى حياة الانسان الاجتماعية والى حياته الشخصية، وتتوجه أيضاً الى تربية النفس وتزكيتها، والى القيام بالشكر تجاه النِعَم الإلهية.

نذكر حكمةً واحدة من بين الحِكم الكثيرة جداً من حيث تجلي ربوبية الحق تبارك وتعالى من خلال الصوم وهي:

ان الله سبحانه وتعالى قد خلق وجهَ الأرض مائدةً ممتدة عامرة بالنِعم التي لا يحصرها العد، وأعدها اعداداً بديعاً من حيث لا يحتسبه الانسان. فهو سبحانه يبيّن بهذا الوضع، كمالَ ربوبيته ورحمانيتَه ورحيميته. بيد أن الانسان لا يبصر تماماً - تحت حجاب الغفلة وضمن ستائر الاسباب - الحقيقة الباهرةَ التي يفيدها ويعبّر عنها هذا الوضع، وقد ينساها.. أما في رمضان المبارك فالمؤمنون يصبحون فوراً في حكم جيش منظــّم، يتقلدون جميعاً وشاح العبودية لله، ويكونون في وضعٍ متأهب قُبيل الافطار لتلبية أمر القادر الازلي: ))تفضّلوا(( الى مائدة ضيافته الكريمة.. فيقابلون - بوضعهم هذا - تلك الرحمة الجليلة الكلّية بعبودية واسعة منظمة عظيمة.. تُرى هل يستحق اولئك الذين لم يشتركوا في مثل هذه العبودية السامية، وفي مثل هذه الكرامة الرفيعة أن يُطلق عليهم اسم الانسان؟

C النكتة الثانية: ان هـناك حكماً عدة يتوجه بها صيامُ رمضان المـبارك بالشكـر على النعَم التي أسبغها الباري علينا، احداها:

أن الأطعمة التي يأتي بها خادمٌ من مطبخ سلطانٍ لها ثمنُها - كما ذُكر في الكلمة الاولى - ويُعدّ من البلاهة توهّم الاطعمة النفيسة تافهةً غير ذات قيمة، وعدمُ معرفة مُنعمها الحقيقي، في الوقت الذي تُمنح الخادم هبات وعطايا لأجلها. وكذلك الاطعمة والنعم غير المعدودة التي بثّها الله سبحانه في وجه الارض فانه يطلب منّا حتماً ثمنَها، ألا وهو القيام بالشكر له تجاه تلك النِعم. والاسباب الظاهرية التي تُحمل عليها تلك النعم وأصحابها الظاهرون هم بمثابة خَدَمة لها، فنحن ندفع الخدام ما يستحقونه من الثمن ونظل تحت فضلهم ومنتهم بل نبدي لهم من التوقير والشكر اكثر مما يستحقونه والحال أن المنعم الحقيقي سبحانه يستحق - ببثّه تلك النِعَم - أن نقّدم له غاية الشكر والحمد، ومنتهى الامتنان والرضا، وهو الأهلُ لكل ذلك، بل أكثر. اذن فتقديم الشكرلله سبحانه واظهار الرضا ازاء تلك النعم انما يكون بمعرفة صدور تلك النعم والآلاء منه مباشرة.. وبتقدير قيمتها.. وبشعور الحاجة اليها.

لذا فان صيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص، وحمدٍ عظيم عام لله سبحانه. وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نِعَمٍ كثيرة - غير مضطرين إليها في سائر الاوقات - لعدم تعرّضهم لقساوة الجوع الحقيقي وأوضاره. فلا يُدرِك - مثلاًِ ـ درجةَ النعمة الكامنة في كسرة خبز يابس أولئك المتخمون بالشبع، وبخاصة إن كانوا أثرياء منعّمين، بينما يدركها المؤمن عند الافطار أنها نعمة إلهية ثمينة، وتشهد على ذلك قوته الذائقة. لذا ينال الصائمون في رمضان - ابتداءاً من السلطان وانتهاء بأفقر فقير - شكراً معنوياً لله تعالى منبعثاً من ادراكهم قيمةَ تلك النعم العظيمة. أما امتناع الانسان عن تناول الاطعمة نهاراً فانه يجعله يتوصل الى ان يدرك بأنها نعمةٌ حقاً، اذ يخاطب نفسه قائلاً:

((ان هذه النِعم ليست مُلكاً لي، فأنا لست حراً في تناولها، فهي اذن تعود الى واحد آخر، وهي أصلاً من إنعامه وكَرَمه علينا، وانا الآن في انتظار أمره)).. وبهذا يكون قد أدى شكراً معنوياً حيال تلك النعم.

وبهذه الصورة يصبح الصوم في حكم مفتاح للشكر من جهات شتى، ذلك الشكر الذي هو الوظيفة الحقيقية للانسان.

C النكتة الثالثة: أن حكمة واحدة للصوم من بين حكمه الغزيرة المتوجهة الى الحياة الاجتماعية للانسان هي:

أن الناس قد خُلقوا على صور متباينة من حيث المعيشة، وعليه يدعو الله سبحانه الاغنياءَ لمدّ يد المعاونة لإخوانهم الفقراء. ولا جرم أن الاغنياء لا يستطيعون أن يستشعروا شعوراً كاملاً حالات الفقر الباعثة على الرأفة، ولا يمكنهم أن يحسوا احساساً تاماً بجوعهم، الا من خلال الجوع المتولد من الصوم..فلولا الصوم لما تمكن كثير من الأغنياء التابعين لاهوائهم أن يدركوا مدى ألم الجوع والفقر ومدى حاجة الفقراء الى الرأفة والرحمة. لذا تصبح الشفقة على بني الجنس - المغروزة في كيان الانسان - هي احدى الاسس الباعثة على الشكر الحقيقي، حيث يمكن أن يجد كل فرد أياً كان مَنْ هو أفقرَ منه من جهة، فهو مكلّف بالاشفاق عليه.

فلو لم يكن هناك اضطرار لإذاقة النفس مرارةَ الجوع، لما قام أحد اصلاً باسداء الاحسان الى الآخرين والذي يتطلبه التعاون المكلّف به برابطة الشفقة على بني الجنس، وحتى لو قام به لما أتقنه على الوجه الأكمل، ذلك لأنه لا يشعر بتلك الحالة في نفسه شعوراً حقيقياً.

C النكتة الرابعة: ان صوم رمضان يحوي من جهة تربية النفس البشرية حكماً عدة، احداها هي:

أن النفس بطبيعتها ترغب الانفلات من عقالها حرة طليقة، وتتلقى ذاتها هكذا. حتى أنها تطلب لنفسها ربوبية موهومة، وحركة طليقة كيفما تشاء، فهي لا تريد أن تفكر في كونها تنمو وتترعرع وتُربى بِنعمٍ إلهية لا حد لها، وبخاصة اذا كانت صاحبة ثروة واقتدار في الدنيا، والغفلة تساندها وتعاونها. لذا تزدرد النعم الإلهية كالانعام دون إذن ورخصة.

ولكن تبدأ نفسُ كل شخص بالتفطن في ذاتها في رمضان المبارك، ابتداء من أغنى غني الى أفقر فقير، فتدرك بأنها ليست مالكة، بل هي مملوكة، وليست حرة طليقة، بل هي عبدة مأمورة، فلا تستطيع أن تمدّ يدَها الى أدنـى عمل من غير أمر، بل حتى لا تستطيع أن تمدها الى ماء.. وبهذا ينكسر غرور ربوبيتها الموهومة، فتتقلد ربقة العبودية لله تعالى، وتدخل ضمن وظيفتها الاساس وهي ((الشكر)).

C النكتة الخامسة: ان لصوم رمـضان حكماً كثيرة من حيـث توجـهه الى تهـذيب النفس الامارة بالسوء، وتقويم أخلاقها وجعلها تتخلى عن تصرفاتها العشوائية. نذكر منها حكمة واحدة:

أن النفس الانسانية تنسى ذاتها بالغفلة، ولا ترى ما في ماهيتها من عجز غيرمحدود، ومن فقر لا يتناهى، ومن تقصيرات بالغة، بل لا تريد أن ترى هذه الامورالكامنة في ماهيتها، فلا تفكر في غاية ضعفها ومدى تعرضها للزوال ومدى استهداف المصائب لها، كما تنسى كونها من لحم وعظم يتحللان ويفسدان بسرعة، فتتصرف واهمة كأن وجودها من فولاذ وأنها منزّهة عن الموت والزوال، وأنها خالدة أبدية، فتراها تنقضّ على الدنيا وترمي نفسها في أحضانها حاملة حرصاً شديداً وطمعاً هائلاً وترتبط بعلاقة حميمة ومحبة عارمة معها، وتشد قبضتها على كل ما هو لذيذ ومفيد، ومن ثم تنسى خالقها الذي يربيّها بكمال الشفقة والرأفة فتهوي في هاوية الاخلاق الردئية ناسية عاقبة أمرها وعقبى حياتها وحياة اُخراها.

ولكن صوم رمضان يُشعر أشد الناس غفلة وأعتاهم تمرداً بضعفهم وعجزهم وفقرهم، فبوساطة الجوع يفكر كلُّ منهم في نفسه وفي معدته الخاوية ويدرك الحاجة التي في معدته فيتذكر مدى ضعفه، ومدى حاجته الى الرحمة الإلهية ورأفتها، فيشعر في أعماقه توقاً الى طرق بابِ المغفرة الربانية بعجز كامل وفقر ظاهرمتخلياً عن فرعنة النفس متهيئاً بذلك لطرقِ باب الرحمة الإلهية بيد الشكر المعنوي (ان لم تفسد الغفلة بصيرته).

C النكتة السادسة: ان من الحكم الوفيرة في صيام رمضان المبارك من حيث توجهه الى نزول القرآن الكريم ومن حيث أن شهر رمضان هو أهم زمان لنزوله، نورد حكمة واحدة فقط هي:

لما كان القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك فلابد من التجرد عن الحاجيات الدنيئة للنفس، ونبذ سفساف الامور وترهاتها استعداداً للقيام باستقبال ذلك الخطاب السماوي استقبالاً طيباً يليق به، وذلك باستحضار وقت نزوله في هذا الشهر والتشبه بحالات روحانية ملائكية؛ بترك الاكل والشرب، والقيام بتلاوة ذلك القرآن الكريم تلاوةً كأن الآيات تتنزل مجدداً ، والاصغاء اليه بهذا الشعور بخشوع كامل، والاستماع الى ما فيه من الخطاب الإلهي للسمو الى نيل مقام رفيع وحالة روحية سامية، كأن القارئ يسمعه من ا لرسول الاكرم e ، بل شد السمع اليه كأنه يسمعه من جبريل عليه السلام، بل من المتكلم الازلي سبحانه وتعالى، ثم القيام بتبليغ القرآن الكريم وتلاوته للآخرين تبياناً لحكمة من حكم نزوله.

ان العالم الاسلامي في رمضان المبارك يتحول الى ما يشبه المسجد، ويا له من مسجد عظيم تعج كل زاوية من زواياه، بل كل ركن من أركانه، بملايين الحفَّاظ للقرآن الكريم. يرتلون ذلك الخطاب السماوي على مسامع الارضيين، ويظهرون بصورة رائعة براقة مصداق الآية الكريمة: شَهْرُ رَمضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ الْقرآن.. مثبتين بذلك أن شهر رمضان هو حقاً شهر القرآن. أما الافراد الآخرون من تلك الجماعة العظمى فمنهم من يلقي السمع اليهم بكل خشوع وهيبة، ومنهم من يرتل تلك الآيات الكريمة لنفسه..

ألا ما أقبح وما أزرى الانسلاخ من هذا المسجد المقدس الذي له هذا الوضع المهيب، لهاثاً وراء الاكل والشرب تبعاً لهوى النفس الامارة بالسوء! وكم يكون ذلك الشخص هدفاً لاشمئزاز معنوي من قبل جماعة المسجد؟ وهكذا الامر في الذين يخالفون الصائمين في رمضان المبارك فيصبحون هدفاً لازدراء واهانةٍ معنويين - بتلك الدرجة - من قبل العالم الاسلامي كله.

C النكتة السابعة: ان صيام رمضان من حيث تطلعه لكسب الانسان - الذي جاء الى الدنيا لأجل مزاولة الزراعة الاُخروية وتجارتها - له حكم شتى. الا اننا نذكر واحدة منها هي:

ان ثواب الاعمال في رمضان المبارك يضاعَف الواحدُ الى الالف. ومن المعلوم أن كل حرف من القرآن الحكيم له عشر أثوبة، ويعدّ عشر حسنات، ويجلب عشرثمار من ثمرات الجنة - كما جاء في الحديث الشريف - ففي رمضان يولّد كل حرف ألفاً من تلك الثمرات الأخروية بدلاً من عشرٍ منها، وكل حرف من حروف آيات - كآية الكرسي - يفتح الباب أمام الالوف من تلك الحسنات لتتدلى في الآخرة ثماراً حقيقية. وتزداد تلك الحسنات باطراد أيام الجُمع في رمضان، وتبلغ الثلاثين ألفاً من الحسنات ليلة القدر.

نعم، ان القرآن الكريم الذي يهب كل حرف منه ثلاثين ألفاً من الثمرات الباقية يكون بمثابة شجرة نورانية - كشجرة طوبى الجنة - بحيث يُغنِم المؤمنين في رمضان المبارك تلك الثمرات الدائمة الباقية التي تعد بالملايين.. تأمل هذه التجارة المقدسة الخالدة المُربِحة وأجل النظر فيها، ثم تدبر في أمر الذين لا يقدّرون قيمة هذه الحروف المقدسة حق قدرها، ما أعظم خسارتهم وما أفدحها؟

وهكذا، فان شهر رمضان المبارك أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الاُخروية او هو سوق في غاية الحركة و الربح لتلك التجارة وهو كالارض المنبتة في غاية الخصوبة والغَناء لإنتاج المحاصيل الاُخروية.. وهو كالغيث النازل في نيسان لإنماء الاعمال وبركاتها.. وهو بمثابة مهرجان عظيم وعيد بهيج مقدّس لعرض مراسيم العبودية البشرية تجاه عظمة الربوبية وعزة الالوهية.

لأجل كل ذلك فقد أصبح الانسان مكلَّفاً بالصوم، لئلا يلج في الحاجات الحيوانية، كالأكل والشرب من حاجات النفس بالغفلة، ولكي يتجنب الانغماس في شهوات الهوى وما لا يعنيه من الامور.. وكأنه أصبح بصومه مرآة تعكس "الصمدانية" حيث قد خرج مؤقتاً من الحيوانية ودخل الى وضع مشابهٍ للملائكية، أو أصبح شخصاً اُخروياً وروحاً ظاهرة بالجسد، بدخوله في تجارة اُخروية وتخلّيه عن الحاجات الدنيوية المؤقتة.

نعم، ان رمضان المبارك يكسب الصائم في هذه الدنيا الفانية وفي هذا العمر الزائل وفي هذه الحياة القصيرة عمراً باقياً وحياة سرمدية مديدة، ويتضمن كلها. فيمكن لشهر رمضان واحد فقط أن يمنح الصائم ثمرات عمر يناهز الثمانين سنة. وكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر - بنص القرآن الكريم - حجة قاطعة لهذا السر.

فكما يحدد سلطان أياماً معينة في فترة حكمه، أو في كل سنة، سواء باسم تسنمه عرش الحكم أو أي يوم آخر من الايام الزاهرة لدولته، جاعلاً من تلك الايام مناسبات وأعياداً لرعيته، فتراه لا يعامل رعيته الصادقين المستحقين في تلك الايام بالقوانين المعتادة، بل يجعلهم مظهراً لأحسانه وانعامه وأفضاله الخاصة. فيدعوهم الى ديوانه مباشرة دون حجب، ويخصّهم برعايته الخاصة ويحيطهم بكرمه وباجراءاته الاستثنائية، ويجود عليهم بتوجهاته الكريمة.. كذلك القادر الازلي ذو الجلال والاكرام وهو سلطان الازل والابد وهو السلطان الجليل لثمانية عشرألف عالم من العوالم، قد أنزل سبحانه في شهر رمضان أوامره الحكيمة السامية وقرآنه الحكيم المتوجه الى تلك الالوف من العوالم، لذا فان دخول ذلك الشهر المبارك في حكم عيد ومناسبة إلهية خاصة بهيجة، وفي حكم معرض بديع رباني، ومجلس مهيب روحاني، هو من مقتضى الحكمة. فما دام شهر رمضان قد تمثل بتلك المناسبة البهيجة وذلك العيد المفرح فلابد أن يؤمَر فيه بالصوم، ليسمو الناس - الى حدٍ ما - على المشاغل الحيوانية السافلة. فالكمال في ذلك الصوم هو جعل جميع حواس الانسان كالعين والاذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة. أي تجنيب الحواس تلك من المحرمات والسفاهات وما لا يعنيها من أمور، وسوقها الى عبودية خاصة لكل منها.

فمثلاً: يروّض الانسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية ويمنعه عنها، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه والتسبيح بحمده والصلوات والسلام على الرسول الكريم e والاستغفار، وما شابهه من أنواع الاذكار.

ومثلاً: يغض بصره عن المحرمات، ويسد أذنه عن الكلام البذئ، ويدفع عينه الى النظر بعبرةٍ واُذنَه الى سماع الكلام الحق والقرآن الكريم. ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام.

ومن المعلوم أن المعدة التي هي مصنع كبير جداً إن عطّلت أعمالَها بالصيام فان تعطيل المعامل الصغيرة الاخرى يكون سهلاً ميسوراً.

C النكتة الثامنة: ان حكمة من الحكم الكثيرة لصيام رمضان المبارك المتعلقة بالحياة الشخصية للانسان تتلخص بما يأتي:

ان في الصوم نوعاً من أنواع العلاج الناجع للانسان وهو ((الحِمية)) سواء المادية منها أو المعنوية، فالحِمية ثابتة طباً. إذ إن الانسان كلما سلكت نفسُه سلوكاً طليقاً في الأكل والشرب سبّب له أضراراً مادية في حياته الشخصية. وكذلك الحال في حياته المعنوية، اذ إنه كلما إلتهم ما يصادفه دون النظر الى ما يحل له ويحرم عليه تسممت حياته المعنوية وفسدت، حتى يصل به الامر ان تستعصي نفسُه على طاعة القلب والروح فلا تخضع لهما. فتأخذ زمامَها بيدها وهي طائشة حرة طليقة، وتسوق الانسانَ الى شهواتها دون أن تكون تحت سيطرة الانسان وتسخيره.

أما في رمضان المبارك فان النفس تعتاد على نوع من الحِمية بوساطة الصوم وتسعى بجد في سبيل التزكية والترويض وتتعلم طاعة الاوامر، فلا تصاب بأمراض ناشئة من امتلاء المعدة المسكينة وادخال الطعام على الطعام. وتكسب قابلية الاصغاء الى الاوامر الواردة من العقل والشريعة. وتتحاشى الوقوع في الحرام بما أخذت من أمر التخلي عن الحلال. وتجدّ في عدم الاخلال بالحياة المعنوية وتكدير صفوها.

ثم أن الاكثرية المطلقة من البشرية يُبتلَون بالجوع في أغلب الاحيان. فهم بحاجة الى ترويض، وذلك بالجوع الذي يعوّد الانسان على الصبر والتحمل. وصيام رمضان هو ترويض وتعويد وصبر على الجوع يدوم خمس عشرة ساعة أو أربعاً وعشرين ساعة لمن فاته السحور. فالصوم اذن علاج ناجع لهلع الانسان وقلة صبره، وعدم تحمله الامور اللذين يضاعفان من مصيبة الانسان وبلاياه.

والمعدة كذلك هي نفسها بمثابة معمل لها عمال وخَدَمَة كثيرون، وهناك في الانسان أجهزة ذات علاقات وارتباطات معها، فان لم تعطَّل النفسُ مشاغلَها وقت النهار مؤقتاً لشهر معين ولم تدعها، فانها تُنسي أولئك العمال والخَدَمَة عباداتهم الخاصة بهم، وتُلهيهم جميعاً بذاتها، وتجعلهم تحت سيطرتها وتحكمها، فتشوش الامر على تلك الاجهزة والحواس وتنغّص عليها بضجيج دواليب ذلك المصنع المعنوي وبدخانه الكثيف، فتصرف أنظار الجميع اليها وتنسيهم وظائفهم السامية مؤقتاً. ومن هنا كان كثير من الاولياء الصالحين يعكفون على ترويض أنفسهم على قليل من الاكل والشرب، ليرقوا في سلّم الكمال.

ولكن بحلول شهر رمضان يدرك أولئك العمال أنهم لم يُخلقوا لأجل ذلك المصنع وحده، بل تتلذذ ايضاً تلك الاجهزة والحواس بلذائذ سامية وتتمتع تمتعاً ملائكياً وروحانياً في رمضان المبارك ويركزون أنظارهم اليها بدلاً من اللهو الهابط لذلك المصنع. لذلك ترى المؤمنين في رمضان المبارك ينالون مختلف الانوار والفيوضات والمسرات المعنوية - كلٌ حسب درجته ومنزلته - فهناك ترقيات كثيرة وفيوضات جمة للقلب والروح والعقل والسر وأمثالها من اللطائف الانسانية في ذلك الشهر المبارك. وعلى الرغم من بكاء المعدة ونحيبها فان تلك اللطائف يضحكن ببراءة ولطف.

C النكتة التاسعة: ان صوم رمضان من حـيث كسرهِ الربوبية المـوهومة للنـفس كسـراً مباشراً ومن ثم تعريفها عبوديتها واظهار عجزها أمامها، فيه حكم كثيرة، منها:

أن النفس لا تريد أن تعرف ربها، بل تريد أن تدعي الربوبية بفرعونية طاغية. فمهما عُذبَت وقُهرت فان عِرق تلك الربوبية الموهومة يظل باقياً فيها. فلا يتحطم ذلك العرق ولا يركع الا أمام سلطان الجوع.

وهكذا، فصيام رمضان المبارك ينزل ضربة قاضية مباشرة على الناحية الفرعونية للنفس. فيكسر شوكتها مُظهراً لها عجزها، وضعفها، وفقرها، ويعرّفها عبوديتها.

وقد جاء في احدى روايات الحديث: ان الله سبحانه قال للنفس: ((مَن أنا وما أنتِ؟)) أجابت النفس: ((أنا أنا، أنت أنت)) فعذّبها الربُ سبحانه وألقاها في جهنم، ثم سألها مرة أخرى فأجابت: ((أنا أنا، أنت أنت)) ومهما أذاقها من صنوف العذاب لم تردع عن أنانيتها.. ثم عذبها الله تعالى بالجوع، أي تركها جائعة، ثم سألها مرة أخرى: من أنا وما أنتِ؟ فأجابت النفس: أنتَ ربيِ الرحيم وأنا عبدُك العاجز.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمـضان وعلى آله وصحبه وسلم.

} سُبحانَ ربّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصفون^ وسلامٌ على المُرسَلين^ والحمدُ لله رَبِّ العالَمين{ آمــيـن(1)

القسم الثالث

وهو الرسالة الثالثة

لقد كتب هذا القسم لاستشارة اخواني في خدمة القرآن، وليكون تنبيهاً لي، لإنفاذ ما كنت أحمل من نيّة مهمة حول كتابة مصحف شريف، يظهر فيه نقش اعجازي، وهو قسم من مائتي قسم من أقسام اعجاز القرآن الكريم، فعرضت لهم تلك النيّة لمعرفة ارائهم حول كتابة ذلك المصحف الشريف الذي يبين النقش الاعجازي، مع الاعتماد على المصحف المكتوب بخط الحافظ عثمان(1)،واتخاذ آية ((المداينة)) وحدة قياس لطول الصفحة و((سورة الاخلاص)) لطول السطر..

وهذا القسم الثالث؛ عبارة عن تسع مسائل:

C المسألة الاولى: لقد اثبت في ((الكلمة الخامسة والعشرين)) المسماة بـ((المعجزات القرآنية)) بالبراهين القاطعة ان أنواع أعجاز القرآن الكريم تبلغ أربعين نوعاً. وقد بيّن بعض أنواعه مفصّلاً حتى ازاء المعاندين، بينما ظلت أنواع أخرى بصورة مجملة.

وقد تبيّن كذلك في الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر) ان القرآن الكريم يبرز اعجازه على وجوه مختلفة أزاء اربعين طبقة من طبقات الناس، إذ اثبتت تلك الاشارة ان لكل طبقة من تلك الطبقات العشرة حظها من الاعجاز..

اما الطبقات الثلاثون الباقية، فقد أظهرالقرآن الكريم اعجازه لأصحاب المشارب المختلفة من الاولياء، ولأرباب العلوم المتنوعة والدليل على ذلك ايمانهم التحقيقي الذي بلغ درجة علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين؛بأن القرآن الكريم هو كلام اللهحقاً.

بمعنى ان كل واحد منهم قد رأى وجهاً من وجوه الاعجاز.

نعم؛ ان جمال جلوات الاعجاز يختلف باختلاف المشارب، اذ الاعجاز الذي يفهمه وليّ من العارفين يختلف عن الاعجاز الذي يشاهده ولي غارق في العشق الإلهي. وان وجه الاعجاز الذي يشاهده إمام من أئمة أصول الدين غير الوجه الذي يشاهده مجتهد في فروع الشريعة.. وهكذا.

ولما كنت لاأقدر على الايضاح المفصل لكل وجه من تلك الوجوه المختلفة، لقصر نظري عن رؤيتها، وضيق ذهني عن استيعابها، فقد اُوضحت عشر طبقات منها فقط. فاكتفيت بالاشارة المجملة الى بقيتها. ولكن ظلت في حينه طبقتان منها في ((المعجزات الاحمدية)) بحاجة الى مزيد من التوضيح، فالآن نوضحهما:

الطبقة الاولى: وهم الذين يدركون الاعجاز باسماعهم، اذ الشخص العامي ـ من عوام الناس ـ لايستمع للقرآن إلاّ بأذنه، ولايفهم اعجازه إلاّ بالسمع. أي انه يقول:

ان هذا القرآن الذي أسمعه لايشبه أي كتاب آخر. فإما أنه فوق جميعها او تحت جميعها. وهذا الأخير لايستطيع ان يقول به أحد قط، ولم يقله، بل حتى الشيطان نفسه لايستطيع ان يتفوه به. فهو إذن فوق الجميع. وقد جاء بهذا الاجمال في (الاشارة الثامنة عشرة). ثم وضح هذا الاجمال في (المبحث الاول) من (المكتوب السادس والعشرين) المعروف بـ(حجة القرآن على حزب الشيطان) الذي يصور فهم تلك الطبقة من الاعجاز ويثبته.

الطبقة الثانية: وهم الذين لايرون الاعجاز إلاّ بالعين، أي أن للقرآن الكريم اشارة اعجازية تشاهد بالعين، حتى من قبل عوام الناس والماديين الذين سالت عقولهم الى عيونهم فلايؤمنون إلاّ بما يشاهدون. وقد اُدعيّ هذا الإدّعاء في (الاشارة الثامنة عشرة). وكان من الضروري ان يوضح أكثر لاثبات تلك الدعوى، ولكن لم يسمح الوقت بذلك، لحكمة ربانية مهمة، قد فهمناها الآن. لاجل هذا فقد اُشير الى بعض جهاتها الجزئية اشارات بسيطة.

والآن، بعد ان توضح سر تلك الحكمة اقتنعنا قناعة كاملة بأن تأخيره كان هو الأولى. ولتيسير فهم تلك الطبقة وتسهيلاً لهم ليتذوقوا نوع الاعجاز للقرآن، استكتبنا مصحفاً شريفاً يبيّن ذلك الوجه من الوجوه الأربعين للاعجاز.



ان بقية مسائل هذا القسم الثالث مع القسم الرابع لم تدرج هنا، لأنها تخص التوافقات، فاكتفينا بالفهرس الخاص للتوافقات وانما كتبت النكتة الثالثة من القسم الرابع مع تنبيه.

تنبيه: لقد كُتبت مائة وستون آية كريمة في صدد بيان النكتة العظيمة في لفظ ((الرسول)) الوارد في القرآن الكريم، ومع ان لهذه الآيات الكريمة خواصاً جليلة فان كلاً منها تثبت وتكمل الاخرى من حيث المعنى. لذا يمكن ان تكون تلك الآيات حزباً قرآنياً لمن يريد ان يحفظ آيات مختلفة او يتلوها.

وكذلك في الآيات (التسع والستين) الواردة فيها لفظ (القرآن)، في صدد بيان النكتة العظيمة للفظ (القرآن)، يلاحظ ان بلاغة هذه الآيات الجليلة فائقة جداً، وجزالتها عالية جداً. ويوصى الاخوان أن يتخذوا منها حزباً قرآنياً آخر.

وكلمة (القرآن) الواردة في المصحف الشريف، وردت في صورة سبع سلاسل، وظلت كلمتان منها خارج السلاسل، وكانت تلكما الكلمتان بمعنى القراءة، مما شدّ ـ بخروجهما ـ من قوة النكتة.

اما لفظ (الرسول)، فان سورة ((محمد)) وسورة ((الفتح)) هما من أكثر السور القرآنية ذات العلاقة.. ولذلك حصرنا نظرنا في السلاسل الظاهرة في تلكما السورتين، ولم يُدرج ـ في الوقت الحاضر ـ ماظل منه خارج السلسلة.

وستكتب بمشيئة الله ما في لفظ (الرسول) من أسرار إن سنح لنا الوقت.

النكتة الثالثة:وهي في أربع نكات:

النكتة الاولى: ان لفظ الجلالة (الله) ورد في مجموع القرآن الكريم ألفين وثمانمائة وست مرات. وورد لفظ (الرحمن) ـ مع ما في البسملة ـ مائة وتسعاً وخمسين مرة، وورد لفظ (الرحيم) مائتين وعشرين مرة. ولفظ (الغفور) احدى وستين مرة، ولفظ (الرب) ثمانمائة وستاً واربعين مرة، ولفظ (الحكيم) ستاً وثمانين مرة، ولفظ (العليم) مائة وستاً وعشرين مرة، ولفظ (القدير) احدى وثلاثين مرة، ولفظ (هو) في (لا إله إلاّ هو) ستاً وعشرين مرة(1).

وفي عدد لفظ الجلالة (الله ) أسرار ونكات كثيرة.

منها: ان أكثر ماورد في القرآن هو لفظ (الله ) و (الرب) ويليهما عدداً ألفاظ (الرحمن والرحيم والغفور والحكيم)، وان عدد هذه الألفاظ مع لفظ (الله ) هو نصف عدد آيات القرآن الكريم.

وان لفظ الجلالة (الله ) مع لفظ (الرب) الوارد بمعنى (الله ) نصف عدد آيات القرآن ايضاً. اذ ان لفظ (الرب) المذكور ثمانمائة وستاً واربعين مرة، خمسمائة وبضع منه قد ذكرت بدلاً عن لفظ الجلالة (الله )، ومائتان وبضعٌ منه ليسـت بمعنـى (الله).

وان مجموع عدد لفظ الجلالة (الله ) مع عدد الفاظ (الرحمن والرحيم والعليم) مع عدد من لفظ (هو) في (لاإله إلاّ هو)؛ هو نصف آيات القرآن ايضاً ، والفرق أربعة أعداد .

ومع لفظ (القدير) - عوضاً عن لفظ (هو) - هو نصف عدد مجموع الآيات ايضاً، والفرق تسعة اعداد.

نكتفي الآن بهذه النكتة، اذ النكات كثيرة في مجموع لفظ الجلالة.

النكتة الثانية: وهي باعتبار السور القرآنية، ولها ايضاً نكات كثيرة، ولها توافقات تدل على إنتظام وقصد وإرادة.

منها: ان عدد لفظ الجلالة(الله ) في سورة (البقرة) مساوٍ لعدد آياتها، والفرق أربعة أعداد. وهناك أربعة الفاظ من (هو) بدلاً عن لفظ(الله ) كما هو في (لاإله إلاّ هو) وبها يتم التوافق.

وان عدد لفظ الجلالة (الله ) في سورة (آل عمران)، متوافق مع عدد آياتها ويساويها، ولكن لفظ (الله ) ورد في مائتين وتسع آيات بينما عدد آيات السورة مائتا آية، فالفرق اذن تسع آيات، ولاتخل الفروق الصغيرة في مثل هذه المزايا الكلامية والنكات البلاغية، اذ تكفي التوافقات التقريبية.

وان عدد آيات السور الثلاث (النساء والمائدة والأنعام) يتوافق ايضاً مع مجموع عدد ما في هذه السور الثلاث من لفظ الجلالة (الله ) اذ إن عدد الآيات ـ في هذه السور ـ أربعمائة واربع وستون، وعدد لفظ الجلالة (الله ) اربعمائة وواحد وستون، وهما متوافقان تماماً، اذا عدّ لفظ الجلالة في البسملة.



وكذلك فان عدد لفظ الجلالة في السور الخمس الاولى؛ هو ضعف عدد لفظ الجلالة في سور (الاعراف والانفال والتوبة ويونس وهود)، اي ان عدده في هذه السور الخمس الثانية هو نصف عدده في السور الخمس الاولى.

وان عدد لفظ الجلالة في السور التالية (يوسف والرعد وابراهيم والحجر والنمل) هو نصف ذلك النصف.

ثم ان عدده في سور(الاسراء والكهف ومريم وطه والانبياء والحج)(1) نصف نصف ذلك النصف.

وان السور التالية بعدها بخَمس سورٍ وخَمس سوٍر تدوم بتلك النسبة تقريباً. ولكن هناك فروق ببعض الأعداد الكسرية، ولابأس في مثل هذه الفروق في مثل هذا المقام الخطابي.

مثلاً: ان قسماً منها مائة واحدى وعشرون، وآخر مائة وخمس وعشرون وآخر مائة واربع وخمسون. وآخر مائة وتسع وخمسون.

ثم ان في السور الخمس التالية تبدأ من (سورة الزخرف) ينزل العدد الى النصف، اي ينزل الى نصف نصف ذلك النصف.

والسور الخمس التي تبدأ من (سورة النجم) يكون العدد نصف نصف نصف نصف ذلك النصف، ولكن بصورة مقاربة، ولاضرر في فروق الكسورات الصغيرة في مثل هذه المقامات الخطابية.

ثم في ثلاث مجموعات من السور الخمس الصغيرة، ثلاثة أعداد من لفظ الجلالة.

فهذه الكيفيات تدل على ان المصادفة لم تخالط أعداد لفظ الجلالة، بل عينت وفق حكمة وانتظام.

النكتة الثالثة: للفظ الجلالة (الله )، وهي المتوجهة الى اوضاعها في صفحات المصحف الشريف، وذلك :

ان عدد لفظ الجلالة في الصحيفة الواحدة، له علاقة بوجه تلك الصحيفة اليمنى، وبالصحيفة المقابلة لذلك الوجه، واحياناً بالصحيفة المقابلة لها في الجانب الأيسر، وبوجه ماوراءها.

وقد تتبعتُ هذا التوافق في نسخةٍ من مصحفي، فرأيت توافقاً بنسبة عددية جميلة للغاية، على الأغلب، وقد وضعت اشارات عليها في مصحفي، فكثيراً ما كانت تتساوى واحياناً تصبح نصفاً او ثلثاً، وعلى كل حال تُشعر بحكمة وانتظام.

النكتة الرابعة: هي التوافقات في الصحيفة الواحدة.

وقد تابعتُ مع اخواني ثلاث او اربع نسخ مختلفة من المصحف، قابلناها بعضها ببعض، فتوصلنا الى قناعة بان التوافقات مطلوبة ايضاً في جميعها، ولكن وقع شئ من الخلل في التوافقات بسبب مراعاة مستنسخي المطابع مقاصد اخرى.

فاذا ما نُظمت ونسّقت فستشاهد التوافقات في مجموع القرآن في عدد لفظ الجلالة البالغ (ألفين وثمانمائة وستة) باستثناء نادر جداً، وستشعر في ذلك نور اعجاز عظيم. لأن فكر الانسان لايمكن ان يحيط بهذه الصفحات الواسعة جداً، ولايستطيع ان يتدخل فيها قطعاً.

اما المصادفة فلاتنال يدها هذه الاوضاع الحكيمة.

ونحن نستكتب مجدداً مصحفاً شريفاً ليبرز (النكتة الرابعة) الى حدٍ ما مع المحافظة على صحائف المصاحف الأكثر انتشاراً، والمحافظة على سطورها مع تنظيم لمواضع منه تعرّضت لعدم الانتظام بسبب تهاون ارباب الصناعة، وعند ذلك سيظهر سر انتظام التوافقات الحقيقي ان شاء الله، وقد اُظهر فعلاً.

اللهم يامنزل القرآن بحق القرآن فهّمنا أسرار القرآن ما دار القمران

وصل وسلم على من انزلت عليه القرآن وعلى آله وصحبه اجمعين..

آمــيـن

القسم الخامس

وهو الرسالة الخامسة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} الله نورُ السّمواتِ والارض{ (النور:35)

في حالة روحية في شهر رمضان المبارك شعرتُ بنور من أنوار هذه الآية الكريمة، ورأيت ما يشبه الخيال؛ ان الموجودات جميعها، والاحياء كلها تناجي ربها الجليل وتتضرع اليه بمناجاة ((أويس القرني)) المشهورة، والمستهلة بـ:

الهي أنت ربي وانا العبد .. وانت الخالق وانا المخلوق.. وانت الرزاق وانا المرزوق... الخ.

فرأيت في هذه الواقعة القلبية الخيالية ما أورثني القناعة بان كل اسم من الاسماء الإلهية هو نور لكل عالم من العوالم الثماني عشرة ألفاً؛ كالآتي:

ان اوراق الورد مثلما تغلف الواحدة الاخرى، تستر التي تليها، كذلك رأيت هذا العالم، كل عالم يُغلّف بالوفٍ من الاستار والحجب، فتستر تحتها عوالم اخرى. ورأيت كذلك، انه كلما رفع ستار وازيل حجاب اذا بعالم آخر يظهر تجاهي، وان ذلك العالم يتراءى لي في ظلمة دامـسة ووحشة رهيـبة كما تـصـوره الآية الـكــريمة: } أو كَظُلماتٍ في بحرٍ لُجّي يَغشَيهُ موجٌ مِنْ فوقهِ مَوجٌ من فوقه سَحابٌ ظلماتٌ بعـضها فوقَ بعضٍ اذآ أخرجَ يَدهُ لم يكدْ يَريها ومَن لم يَجعَل الله لهُ نوراً فما لهُ من نور{ (النور:40).

واذ انا أرى هذا العالم في مثل هذه الظلمات اذا بجلوة من جلوات اسم إلهي تشع شعاعاً عظيماً كنور يغمر ذلك العالم من أوله الى آخره بالنور. فكلما بدا مشهد من مشاهد هذه العوالم، ويُرفع ستار من استارها أمام العقل، ينفتح باب الى عالم آخر أمام الخيال. واذ يتراءى انه غارق في ظلام، بسبب الغفلة، واذا باسم الهي يتجلى كالشمس المنيرة، فينوّر ذلك العالم كله.. وهكذا.

ولقد استمر طويلاً هذا السير القلبي والسياحة الخيالية، نذكر منها:

انني لما رأيت عالم الحيوانات، وتأملت في عجزها وضعفها وشدة حاجاتها وشدة عوزها وجوعها، بدا لي ذلك العالم، انه عالم غارق في ظلام دامس وحزن ملازم، واذا بإسم (الرحمن) يشرق كالشمس الساطعة من برج اسم (الرزاق) ـ أي في معناه ـ فنوّر ذلك العالم برمته بضياء الرحمة.

ثم رأيت بين ذلك العالم، عالم الحيوانات، صغارها والاطفال، رأيتها وهي تنتفض ضعفاً وعجزاً وحاجة، فعالمها مظلم قاتم، يهزّ عواطف وشفقة كل من يراه.. واذ أنا أرى هذه الحالة المؤلمة اذا بإسم (الرحيم) يشرق من برج (الشفقة) وينشر أضواءه الزاهية على العالم كله وحوّله الى عالم بهيج حلو لطيف، بل حوّل دموع الشكوى والعطف والحزن الى دموع تتقطر فرحاً وسروراً وشكراً.

ثم رُفع الستار واذا بمشهد عالم الانسان يتراءى أمامي، كمشاهد السينما، وهو عالم قد غشيه الظلام الدامس، وتلفه الظلمات الكثيفة والرعب المستديم، حتى استغثت من شدة فزعي ومن هول مارأيت، حيث رأيت: ان الآمال المغروزة في الانسان والممتدة الى الابد، وأن أفكاره وتصوراته المحيطة بالكون، وان هممه واستعداداته ومواهبه التي تطلب البقاء الأبدي والسعادة الأبدية وهي التواقة الى الجنة الخالدة، يكمن معه ـ في هذا الانسان ايضاً ـ فقر شديد وحاجة دفينة، رغم توجهه الى مقاصد لاتنتهي، ومطالب لامنتهى لها، مع ضعف ملازم رغم انه معرّض لهجمات مصائب واعداء كثيرة.. زد على ذلك؛ ليس له الاّ عمر قصير جداً، وحياة تعيسة، وعيش مضطرب، يذوق مرارة الزوال والفراق اللذين يوجعان قلبه ألماً شديداً دائماً، حيث ينظر ـ بنظر الغفلة ـ الى القبر الماثل أمامه أنه ظلمات سرمدية، يُرمى بهم في تلك الحفرة المظلمة أفراداً وجماعات.

فما أن رأيت هذا العالم عالم الانسان غارقاً في مثل هذه الظلمات، حتى تهيأت جميع لطائفي الانسانية مع القلب والروح والعقل، بل جميع ذرات وجودي للبكاء والاستغاثة، واذا باسم الله (العادل) يشرق من برج (الحكيم)، وباسم (الرحمن) يشرق من برج (الكريم) وباسم (الرحيم) يشرق من برج (الغفور) - أي في معناه -



وباسم (الباعث) يشرق من برج (الوارث)، وباسم (المحيي) يشرق من برج (المحسن)، وباسم (الرب) يشرق من برج (المالك). فنوّرت هذه الاسماء الإلهية عوالم كثيرة جداً ضمن عالم الانسان، وفتحت نوافذ من عالم الآخرة المنوّرة. ونثرت أنواراً ساطعة على دنيا الانسان المظلمة.

ثم رفع ستار آخر عن مشهد عظيم آخر، وهو مشهد عالم الارض، فظهر أمام الخيال عالم رهيب، اذ القوانين العلمية المظلمة للفلسفة تجعل الانسان الضعيف في ظلمة موحشة، حيث تسير الارض في فضاء العالم غير المحدود بسرعة تفوق سرعة القذائف بسبعين مرة، وتدور في مسافة تبلغ خمساً وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، وهي التي يمكن ان تتبعثر وتتشتت في كل وقت وآن بما تحمل في جوفها من زلازل هائلة وهي المعمرة الهرمة.. ولشدة قتامة الظلام المخيم على هذا العالم، دار رأسي من هولها، واذا باسم (خالق السموات والارض) واسماء الله؛ (القدير، العليم، الرب، الله، رب السموات والارض، مسخّر الشمس والقمر) أشرقت من أبراج الرحمة والعظمة والربوبية، فنورت ذلك العالم الذي خيّم عليه الظلام بأنوار ساطعة، حولت تلك الكرة الارضية الى مايشبه سفينة سياحية، في منتهى الانتظام والتسخير والكمال والراحة والاطمئنان، ورأيتها انها حقاً مهيأة للتنزه والسياحة والاستجمام والتجارة.

حاصل الكلام: ان كل اسم من ألف اسم واسم من الاسماء الإلهية المتوجهة للكون، ينور كالشمس العظيمة عالماً من العوالم، بل ينور كل ما في تلك العوالم من عوالم، إذ كانت تتراءى جلوات الاسماء الاخرى ضمن تجلي كل اسم من الاسماء، وذلك بسر الأحدية.

فكأن القلب في هذه السياحة ينبسط ويزداد شوقه الى المزيد منها كلما رأى أنواراً مختلفة وراء كل ظلمة. حتى انه اراد ركوب الخيال ليجول في السماء، وعندها رفع الستار عن مشهد واسع عظيم جداً، فدخل القلب في عالم السماوات، ورأى:

ان تلك النجوم التي تنثر الابتسامات النورانية هي أعظم من كرة الارض جسامة، وتسير أسرع منها وتدور متداخلة فيما بينها، لو ضيعتْ احداها طريقها، وتاهت دقيقة واحدة، لاصطدمت اذن مع غيرها، وعندها تنفلق وتدوي دوياً هائلاً وتندلق احشاء الكون ويتفتت. فلاتشع النجوم بعدُ نوراً بل تستطير ناراً، ولاتوزع الابتسامات النورانية بل تخيم عليها الظلمات الدائمة. وهكذا رأيت السماوات - بهذا الخيال ـ عالماً واسعاً خالياً رهيباً محيراً مذهلاً. فندمت على مجيئي اليها ألف ندم، ولكن وانا أعاني هذه الحالة اذا بالاسماء الحسنى لـ (رب السموات والارض) ولـ(رب الملائكة والروح ) تشرق بجلواتها من برج } ولقد زينّا السّماء الدنيا بمصابيح{ (الملك:5). و } وسخّر الشمس والقمر{ (الرعد:2). فالتمست النجومُ التي غشيتها الظلمات لمعة نور من تلك الأنوار العظيمة ـ من حيث ذلك المعنى استنارت السماء بمصابيح بعدد النجوم. وامتلأت بالملائكة والروحانيات وعمّرت بعد ان كانت تُظن خالية خاوية، ورأيت ان تلك الشموس والنجوم الجارية كأنها جيش من جيوش رب العالمين، سلطان الأزل والابد، وكأنها تتحرك وتدور ضمن مناورة راقية، تظهر عظمة ربوبية ذلك المليك المقتدر.

فقلت بما أملك من قوة، بل لو استطعت لتلوت بكل ذرات وجودي، وبلسان جميع المخلوقات لو كانوا يسمعون لي الآية الكريمة:

} الله نورُ السّمواتِ والارضِ مَثَلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مِصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجةُ كأنها كوكبٌ دُريّ يوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولاغربية يكاد زيتها يـُضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدي الله لنورهِ من يشاء{ (النور:35).

ورجعت الى الارض وهبطت من السماء، وأفقت من تلك الواقعة، وقلت:

الحمد لله على نور الايمان والقرآن

القسم السادس

وهو الرسالة السادسة



كتب هذا البحث تنبيهاً لتلاميذ القرآن وايقاظاً للعاملين له ليحول دون انخداعهم.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ولاتركنوا الى الذين ظلموا فتمسّكم النار{ (هود :113)

(( ان هذا القسم السادس، يجعل باذن الله، ستاً من دسائس شياطين الانس والجن بائرة عقيمة، ويسد في الوقت نفسه ستة من سبل الهجمات)).

الدسيسة الاولى

يحاول شياطين الانس ـ بما استوحوه من شياطين الجن ـ ان يخدعوا خدام القرآن ويصرفوهم عن ذلك العمل المقدس وذلك الجهاد المعنوي الرفيع، وذلك بتزيين حب الجاه والشهرة لهم، كالآتي :

ان في الانسان ـ بصورة عامة ـ وفي كل فرد من أفراد أهل الدنيا رغبة جزئية او كلية في حب الجاه الذي هو الرياء بعينه، ونيل مواقع مرموقة في نظر الناس. حتى ينساق الانسان بدافع من الحرص على الشهرة الى التضحية بحياته اشباعاً لتلك الرغبة. فهذا الشعور هو في غاية الخطورة على أهل الآخرة. وهو في منتهى الاثارة والنشوة لأهل الدنيا، فضلاً عن انه منبع كثير من الأخلاق الرذيلة. علماً انه طبعٌ ضعيف في الانسان وجانب واهٍ فيه. اي يمكن ان يستغله مَن يلاطف شعوره هذا، بل يغلبه بهذا الشعور ويجذبه الى نفسه. لذا فان احتمال استغلال الملحدين لاخواني من هذا الجانب الضعيف في النفس الانسانية هو أخوف ما اخافه، واقلق عليه. اذ قد جرّوا ـ بهذه الصورة ـ بعض اصدقائي غير الحميمين فألقوهم في هاوية المهالك(1).

فيا اخوتي وزملائي في خدمة القرآن!

ان الذين يأتونكم من حيث حب الشهرة من جواسيس أهل الدنيا، والذين يروّجون لأهل الضلالة، او تلاميذ الشيطان، قولوا لهم:

ان رضى الله سبحانه، والإكرام الرحماني، والقبول الرباني، لمقام عظيم جداً، بحيث يبقى دونه اقبال الناس واعجابهم بحكم ذرة بالنسبة الى ذلك المقام الرفيع.

فان كان هناك توجه من الرحمة الإلهية نحونا، فهذا حسبنا وكفاه توجهاً. اما اقبال الناس وتوجههم فانما يكون مقبولاً ان كان ظلاً من انعكاس توجه رحمته تعالى، والاّ فلا يُطلب ولا يُرغب فيه قطعاً، لانه ينطفئ عند باب القبر، ولايساوي هناك شروى نقير.

ثم ان الشعور بحب الجاه هذا، ان لم يُكبَح، ولم يُمحَ من الانسان يلزم صرف وجهه الى جهة اخرى كالآتي :

ان ذلك الشعور ـ حب الجاه ـ ربما تكون له جهة مشروعة وذلك لنيل الثواب الأخروي، وبنية كسب دعوات الآخرين، من حيث التأثير الحسن لخدمة القرآن، بناءً على التمثيل الآتي :

هب ان (جامع اياصوفيا) مكتظ بأهل الفضل والكمال من الطيبين الموقرين، وكان في الباب او في الأروقة صبيان وقحون وسفهاء سفلة، وكان على الشبابيك سيّاح اجانب مغرمون باللهو واللعب.

فاذا ما دخل أحد الجامع، وانضم الى تلك الجماعة الفاضلة، وتلا آيات من الذكر الحكيم تلاوة عذبة، فعندئذٍ تتوجه انظار ألوف من أهل العلم والفضل اليه، ويكسبونه ثواباً عظيماً بدعائهم له ورضاهم عنه. الاّ ان هذا الامر لايروق اولئك الصبيان الوقحين والملحدين السفهاء والاجانب المعدودين.

ولكن لو دخل ذلك الرجل الجامع والجماعة الفاضلة وبدأ بالغناء الماجن، وشرع بالرقص والصخب، فسيكون موضع اعجاب وسرور اولئك الصبيان السفهاء، ويلاطف عمله اولئك الغواة، ويجلب اليه ابتسامات ساخرة من الاجانب الذين يسرّون برؤية نقائص المسلمين، بينما تنظر اليه تلك الجماعة الغفيرة الفاضلة في الجامع نظرة تحقير وإهانة، ويرونه في ادنى الدركات وفي اسفل سافلين.

وعلى غرار هذا: فان العالم الاسلامي، وقارة آسيا، جامع عظيم ومن فيه من المؤمنين وأهل الحقيقة، هم الجماعة الفاضلة في ذلك الجامع، واولئك الصبيان الوقحون هم اولئك المتزلفون ذوو العقول الصبيانية، واما اولئك المفسدون السفهاء فهم الملحدون المتفرنجون، الذين لايعرفون ديناً ولاملة. اما الاجانب المتفرجون، فهم الصحفيون الذين ينشرون أفكار الاجانب.

فكل المسلمين ولاسيما من ذوي الفضل والكمال، لهم موقع في هذا الجامع المهيب، كلٌ حسب درجته، وتلفت اليه الانظار حسب موقعه، فان صدرت منه اعمال وتصرفات تنم عن الاخلاص ـ الذي هو اساس الاسلام ـ وابتغاء رضى الله، على وفق ما أمر به القرآن العظيم من احكام وحقائق، ونطق لسان حاله الآيات القرآنية معنىً، عندئذ يدخل ضمن الدعاء الذي يدعوه كل فرد من افراد العالم الاسلامي وهو : (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ) ويكسب حظاً منه، ويكون ذا علاقة أخوية مع جميع المؤمنين. ولكن لايبدو موقعه في نظر بعض اهل الضلالة ممن هم كالحيوانات المضرة، ولا تظهر مكانته لدى الحمقى الذين هم كالصبيان الملتحين.

ولو أدار ذلك الرجل ظهره عن مجد أجداده الذين يعدّهم رمز شـرفه، وتنـاسى تأريخه الذي يعتبره مدار فخره، وترك الجادة النورانية جادة السلف الصالح الذي يعدّه مستند روحه، وباشر باعمال وتصرفات ملوثة بالهوى والرياء نيلاً للشهرة وارتكاباً للبدع فانه يتردى معنىً في نظر اهـل الحقيقة والايمـان الى الدرك الاسـفل، اذ المؤمن مهما كان جاهلاً ومن عوام الناس، فان قلبه يشعر وان لم يدرك عقله، فينفر ويستثقل أعمال امثال هذا الرجل من المعجبين بأنفسهم وذلك بمضمون الحديث الشريف :

(اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله)(1).

وهكذا يسقط الاناني المفتون بحب الجاه واللاهث وراء الشهرة (الرجل الثاني) ويتردى الى اسفل سافلين في نظر جماعة غفيرة غير محدودة، ويكسب موقعاً مشؤوماً موقتاً لدى عدد من السفهاء الساخرين الطائشين، اذ لا يجد حوله غير أصدقاء مزيفين مضرين له في الدنيا وسبب عذابٍ في البرزخ واعداء في الآخرة كما قال تعالى : } الأخلاءُ يَومَئذٍ بَعــضُهم لبَعضٍ عَدوّ إلاّ المُتقينَ{ (الزخرف:67).

اما الرجل في الصورة الاولى فإن لم يُزل حب الجاه من قلبه، يكسب نوعاً من مقام معنوي مشروع مهيب، يشبع اشباعاً تاماً عرق حب الجاه المغروز فيه، ولكن بشرط اتخاذ الاخلاص ورضى الله اساساً له، مع عدم اتخاذ حب الجاه هدفاً له.

فهذا الرجل يفقد شيئاً ضئيلاً، بل ضئيلاً جداً، مما لا اهمية له، ولكن يكسب عوضه شيئاً كثيراً، بل كثيراً جداً، مما له قيمة عظيمة مما لاضرر فيه. بل انه يطرد عن نفسه عدداً من الثعابين ويجد بدلاً عنها كثيراً من مخلوقات مباركة صديقاً له، فيستأنس بهم. او يكون كمن يهيّج ما حوله من الزنابير، الاّ انه يجلب لنفسه النحل التي هي سقاة شراب الرحمة فيستلم من ايديهم العسل. اي انه يجد من الاحباب من يفيض عليه بدعواتهم ويسقون روحه شراباً سلسبيلاً كالكوثر، يُجلب له من أطراف العالم الاسلامي، ويسجل ثواباً له في دفتر اعماله.

ولقد ألقيتُ ـ في وقت ما ـ فحوى التمثيل السابق بقوة وصرامة في وجه انسانٍ صغير كان يشغل مقاماً عظيماً دنيوياً، والذي اصبح موضع استهجان وسخرية من قبل العالم الاسلامي لإرتكابه حماقة كبيرة في سبيل الشهرة.

هزّه ذلك الدرس هزّاً عنيفاً، ولكن لعدم استطاعتي انقاذ نفسي من حب الجاه لم ينبهه ايقاظي ذاك.

الدسيسة الثانية

ان الشعور بالخوف شعور عميق في كيان الانسان، وان الطغاة والظالمين الماكرين يستغلون كثيراً هذا الشعور لدى الانسان فيلجمون به الجبناء، ويستفيد كثيراً جواسيس اهل الدنيا ودعاة الضلال من هذا الشعور لدى العوام ولاسيما لدى العلماء، فيُلقون في روعهم المخاوف ويثيرون فيهم الاوهام، بمثل شخص حيّال يُظهر لأحدهم ما يخافه ـ وهو على سطح دار ـ فيثير اوهامه ويدفعه تدريجياً الى الوراء حتى يُقرّبَهُ من الحافة فيرديه على عقبه، فيهلك. كذلك يثير اهل الضلالة عرق الخوف لدى الناس فيدفعونهم الى التخلي عن امور جسام من جراء مخاوف تافهة لاقيمة لها. حتى يدخل بعضهم في فم الثعبان لئلا تلسعه بعوض!

أذكر مثالاً: جئتُ ذات مساء الى جسر استانبول وبصحبتي عالم جليل ـ رحمه الله ـ يتهيب ركوب الزورق، ولكننا لم نجد وساطة نقل سوى الزورق، ونحن مضطرون الى الذهاب الى جامع ابي ايوب الانصاري فالححت عليه اذ لا حيلة لنا الاّ ركوبه. فقال:

- أخاف... ربما نغرق!

قلت له: كم يُقدّر عدد الزوارق في هذا الخليج؟

قال: ربما ألف زورق.

قلت: كم زورقاً يغرق في السنة؟

قال: زورق او اثنان، وقد لايغرق في بعض السنين!

قلت: كم يوماً في السنة؟

قال: ثلاثمائة وستون يوماً.

قلت: ان احتمال الغرق الذي استحوذ على ذهنك، واثار فيك الخوف، هو احتمال واحد من بين ثلاثمائة وستين ألف احتمال. فالذي يخاف من هذا الاحتمال لايعدّ انساناً ولاحيواناً!

ثم قلت له: تُرى كم تقدّر ان تعيش بعد الآن؟

قال: انا شيخ كبير، ربما اعيش عشر سنوات اخرى!

قلت: ان احتمال الموت واقع في كل يوم، حيث الأجل مخفيٌ عنا. لذا فهناك احتمال الموت في كل يوم، اي لك ثلاثة آلاف وستمائة احتمالٍ للموت. فليس امامك اذن احتمال واحد من بين ثلاثمائة ألف احتمال ـ كما في الزورق ـ وانما احتمال من بين ثلاثة آلاف احتمال فلربما يقع الاحتمال هذا اليوم. فما عليك اذن الاّ الهلع والبكاء، وكتابة وصيتك!

اثّر هذا الكلام فيه وآب الى رشده، فركبّته الزورق وهو يرجف، قلت له ونحن في الزورق :

ان الله سبحانه وتعالى قد منحنا الشعور بالخوف لنحفظ به الحياة، لالهدم الحياة وتخريبها، ولم يمنحنا هذا الشعور لنجعل الحياة أليمة ومعضلة ومرهقة. فان كان الخوف ناشئاً من احتمالين او ثلاثة بل حتى من خمسة او ستة احتمالات فلابأس به، فلربما يعدّ ذلك خوفاً مشروعاً من باب الحيطة والحذر. اما إن كان الخوف ناشئاً من احتمال واحد من بين عشرين او اربعين احتمالاً فليس هذا خوفاً، وانما وهمٌ يستولي على الانسان ويجعل حياته عذاباً وشقاءً.

فيا اخوتي! اذا ما هجم عليكم مهرجو اهل الضلالة والمتزلفون لاهل الالحاد ليرهبوكم ويجعلوكم تتخلون عن جهادكم المعنوي المقدس، قولوا لهم:

نحن حزب القرآن، نحتمي بقلعة القرآن العظيم الحصينة، والقرآن العظيم محفوظ يحفظه الرب الكريم بقوله تعالى } إنّا نَحنُ نَزّلنا الذِكرَ وإنّا لَهُ لحَافِظون{ (الحجر:9) فلقد احاطنا سور عظيم هو سور} حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيلُ{ (آل عمران :173) فلن تستطيعوا ان تدفعونا ـ باختيارنا ـ الى طريق يؤدي حتماً الى آلاف الأضرار التي تلحق بحياتنا الابدية خوفاً من الحاق ضرر بسيط باحتمالٍ واحد من بين ألوف الاحتمالات بحياتنا الدنيوية القصيرة هذه.

وقولوا لهم: مَن منا ومَن مثلنا في طريق الحق قد تضرر بسبب ((سعيد النورسي)) الذي هو زميلنا في خدمة القرآن الكريم، واستاذنا في تدابير أمور تلك الخدمة المقدسة ورائدنا في العمل؟ ومَن من طلابه الخواص قد ابتلوا ببلاء حتى نبتلى نحن ايضاً، او نضطرب ونقلق من خوف ذلك البلاء الذي قد ينزل بنا. فلأخينا هذا الوفٌ من اصدقاء واخوان الآخرة، ولم نسمع ان ضرراً اصاب أحد إخوته منذ حوالي ثلاثين سنة رغم تدخله تدخلاً مؤثراً في الحياة الاجتماعية طوال تلك المدة التي كان يملك مطرقة السياسة وقوتها، بينما الآن لايملك سوى نور الحقيقة بدلاً من مطرقة السياسة. وعلى الرغم من ان اسمه قد ضُم سابقاً معمَن هم في حوادث (31) مارت(1) واهلكوا قسماً من اصدقائه، الاّ انه تبين فيما بعد، ان الحادثة كانت مدبّرة من قبل أُناس آخرين. وان اصدقاءه لم يتضرروا بسبب صداقته بل بسبب اعدائه. فضلاً عن انه انقذ كثيراً من أصدقائه في ذلك الوقت.

فبناءً على هذا عليكم يا اخواني ان تقولوا للمتزلفين من اهل الضلالة:

(( اننا لانرضى ان تضيع خزينة ابدية باحتمال خوفٍ من بين ألف بل من بين الاف الاحتمالات. ينبغي الاّ يخطر هذا ببال أمثالكم ياشياطين الانس)) وعليكم يااخواني ان تطردوهم وتضربوا بهذا الكلام على أفواههم.

وقولوا لأولئك المتزلفين ايضاً :

اذا كان البلاء والهلاك ناشئين من احتمال بنسبة مائة بالمائة لاباحتمال واحد من مئات الألوف من الاحتمالات، فاننا لانترك ولا نتخلى عنه (عن سعيد النورسي) إن كنا نملك ذرة من عقل، لأنه شوهد بتجارب عديدة ولايزال يشاهد؛ ان الذين يهينون استاذهم او اخوانهم الكبار ايام المصائب والبلايا، تنزل بهم المصيبة اولاً. فضلاً عن انهم يعاملون معاملة جائرة دون رحمة ويجازون مجازاة السفلة. فتموت أجسادهم وتهلك أرواحهم معنىً من الذل والمهانة. والذين يعاقبونهم لايشفقون عليهم، لانهم يقولون :

ان هؤلاء قد خانوا استاذهم العطوف عليهم، فلابد انهم منحطون سفلة، لايستحقون الرحمة، بل التحقير والاهانة.

فما دامت الحقيقة هكذا، وان الظالم اذا ما سحق انساناً تحت اقدامه، وبدأ المظلوم بتقبيل اقدامه، فان قلبه ينسحق بسبب تلك المذلة قبل رأسه وتموت روحُه قبل جسده. فيفقد رأسه وتمحى عزته وشرفه كذلك، اذ إنه بابداء الضعف تجاه ذلك الظالم القاسي يشجعه على سحقه اكثر.

بينما لو بصق المظلوم في وجه ذلك الظالم فانه ينقذ قلبه وروحه، ويصبح جسده شهيداً مظلوماً.

نعم! ابصقوا في وجوه الظالمين الصفيقة!

وحينما احتل الانكليز استانبول، ودمرّوا المدافع في المضيق (في استانبول) سأل في تلك الايام رئيس اساقفة الكنيسة الانكليكية من المشيخة الاسلامية ستة اسئلة، وكنت حينئذٍ عضواً في دار الحكمة الاسلامية فقالوا لي:

ـ اجب عن اسئلتهم بستمائة كلمة كما يريدون.

قلت:

ان جواب هذه الاسئلة ليس ستمائة كلمة ولاست كلمات ولاكلمة واحدة، بل بصقة واحدة.

لانه عندما داست تلك الدولة باقدامها مضايقنا وأخذت بخناقنا كما ترون، ينبغي البصاق في وجه رئيس اساقفتهم ازاء اسئلته التي سألها بكل غرور. ولهذا قلت: ابصقوا في وجوه الظلمة التافهة.

والآن أقول: ان دولة عظيمة كدولة الانكليز، في الوقت الذي كانت تحتل بلادنا، فقد اجبتهم ـ بلسان المطابع ـ وتحديتهم. وكان الهلاك محققاً وحتمياً مائة بالمائة، الاّ أنّ الحفظ القرآني قد كفاني فذلك الحفظ يكون كافياً لكم بمائة ضعف ازاء اضرار ترد باحتمال واحد بالمائة من ايدي الظلمة.

ثم ايها الاخوة:

ان كثيراً منكم قد خدم في صفوف الجيش، والذين لم يخدموا في العسكرية سمعوا حتماً، ومَن لم يسمع فليسمعه مني: ان اكثر من يجرح ويصاب في الحرب هم الذين يهربون من خنادقهم ومن مواضعهم، وان اقل الجنود إصابة هم اولئك الثابتون في مواضعهم فالآية الكريمة :

} قُل إنّ المَوتَ الذي تَفِرّونَ مِنهُ فإنه ملاقيكُم{ (الجمعة:8) تشير بمعناها الاشاري الى ان الفارين من الموت يقابلونه اكثر من غيرهم.

الدسيسة الشيطانية الثالثة

ان الشياطين يقتنصون الكثيرين بشباك الطمع وفخّه. ولقد اثبتنا في رسائل كثيرة ببراهين قاطعة استفضناها من آيات القرآن الحكيم وبيناته : ((ان الرزق الحلال يأتي بنسبة العجز والافتقار لابدرجة الاختيار والاقتدار)) فهناك مالايحد من الاشارات والامارات والدلائل التي تبين هذه الحقيقة منها:

ان الاشجار التي هي نوع من الاحياء، والمحتاجة للرزق تقف منتصبة في مكانها، يأتيها رزقها ساعياً لها. بينما الحيوانات لاتتغذى ولاتنمو كالاشجار تغذية ونمواً كاملاً بسبب حرصها ولهاثها وراء الرزق. وان اقل الاسماك ذكاءً وأشدها بلادة واكثرها ضعفاً وعجزاً تتغذى بأفضل وجه مع انها تعيش في الرمل فتظهر بدينة بصورة عامة، بينما القردة والثعالب وامثالهما من الحيوانات المالكة للذكاء والقدرة تكون هزيلة ضعيفة لسوء معيشتها.

عبدالرزاق 02-03-2011 12:46 PM

رد: المكتوبات
 
كل ذلك يدل على ان وساطة الرزق ليست الاقتدار بل الافتقار.

وان حسن المعيشة التي يرفل بها الصغار ـ سواءً أكانوا اناساً أم حيوانات ـ والاحسان اليهم باللبن الخالص هدية لطيفة تقدم من خزينة الرحمة الإلهية من حيث لايحتسبون؛ رحمةً لضعفهم وشفقة على عجزهم، وضيق العيش في الوحوش الضارية، يدل على ان وسيلة الرزق الحلال هي العجز والافتقار وليست الذكاء والاقتدار.

وان اليهود المشهورين بانهم أحرص الناس على الحياة الدنيا، يسبقون الامم في سعيهم وراء الرزق، بينما هم اكثر الأمم ذلة ومهانة، واكثرهم تعرضاً لسوء المعيشة، بل حتى أغنياؤهم يعيشون عيشاً ذليلاً. ولاتجرح مسألتنا هذه تلك الاموال التي يحصلون عليها بالربا وامثالها من الطرق غير المشروعة، لانها ليست من الرزق الحلال.

وان كثيراً من الادباء والعلماء يعيشون عيش الكفاف، في حين يُثرى كثير من البلداء والبلهاء.. كل ذلك يدل على ان وسيلة جلب الرزق ليست بالذكاء والاقتدار، بل بالعجز والافتقار وبالتسليم المتسم بالتوكل، وبالدعاء بلسان المقال والحال والفعل.

والآية الكريمة : } إنّ الله هُوَ الرّزَاقُ ذُو القُوةِ المَتين{ (الذاريات:58) تعلن هذه الحقيقة، وهي برهان قوي عظيم لدعوانا هذه، بحيث تتلوها جميع النباتات والحيوانات واطفال الانسان بلسان الحال، بل تتلوها كل طائفة تطلب الرزق.

وحيث ان الرزق مقدّر بالقدر الإلهي، وانه يُنعَم به انعاماً، والمنعم المقدّر هو الله سبحانه، وهو رحيم وكريم، فليفكر مَن يقبل مالاً حراماً ممحوقاً رشوة لوجدانه بل احياناً لمقدساته، مريقاً ماء وجهه إراقة غير مشروعة بدرجة اتهام رحمته تعالى واستخفاف كرمه سبحانه.. أقول؛ فليفكر مثل هذا في مدى بلاهة وجنون تصرفه.

نعم! ان اهل الدنيا ولاسيما اهل الضلالة، لايعطون نقودهم رخيصة، بل يعطونها باثمان باهظة، فان مالاً قد يعين على ادامة حياة دنيوية لسنة واحدة، الاّ انه يكون احياناً وسيلة لإبادة خزينة حياة ابدية خالدة. فيجلب بذلك الحرص الفاسد الغضب الإلهي عليه ويحاول جلب رضى اهل الضلالة.

فيا اخوتي!

اذا ما اصطادكم متزلفو اهل الدنيا ومنافقو اهل الضلال بفخ الطمع وعرقه الضعيف المغروز في الانسان، ففكروا في الحقيقة السابقة واجعلوا اخاكم هذا الفقير مثالاً يقتدى به.

فاني اطمئنكم بأن القناعة والاقتصاد يديمان حياتكم ويضمنان رزقكم اكثر من المرتّب، ولاسيما ان تلك النقود غير المشروعة المعطاة لكم ستطلب منكم بدلها أضعافاً مضاعفة، بل ألف ضعف وضعف، او في الاقل تمنع او تقلل من الخدمة القرآنية التي تستطيع ان تفتح ابواب خزينة ابدية لكم ؛ كل ساعة من ساعاتها. وهذا ضرر جسيم وفراغ وخيم لاتملؤه ألوف المرتبات.



تنبيه:

ان اهل الضلالة الذين دأبهم النفاق والكيد، ينصبون فخ الحيلة والخداع، وذلك عندما يعجزون عن الوقوف ازاء ما نشرناه من حقائق الايمان المستلهمة من القرآن الحكيم. ويحاولون - بشتى الطرق - ان يسحبوا أصدقائي عني، ويغرروا بهم بحب الجاه والطمع والخوف، والتهوين من شأني، بإلصاق بعض الامور بي.

نحن لانتحرك في خدمتنا المقدسة الاّ حركة ايجابية، ولكن دفع الموانع التي تعيق كل أمر من أمور الخير، يسوقنا احياناً الى حركة سلبية مع الاسف.

وازاء دعايات المنافقين الخادعة هذه، انبّه اخواني بالنقاط الثلاث السابقة، واسعى لدفع الهجوم عنهم. ويُشن في الوقت الحاضر اكبر هجوم عليّ بالذات إذ يقولون ان سعيداً كردي، فلِمَ تحترمونه كثيراً وتتبعونه؟ لذا اضطر الى كتابة الدسيسة الشيطانية الرابعة بلسان (سعيد القديم) دون رغبة مني، لإسكات امثال هؤلاء.

الدسيسة الشيطانية الرابعة

ان بعض الملحدين الذين يُشغلون مناصب مهمة، يشنون هجوماً عليّ، بترويجهم دعايات تلقوها من الشيطان ومن ايحاءات اهل الضلال، ليغرروا بها باخواني ويثيروا فيهم النعرة القومية، اذ يقولون :

انتم أتراك، وفي الاتراك من اصناف العلماء وارباب الفضل والكمال الكثيرين بفضل الله، وان سعيداً هذا كردي، فالتعاون مع من ليس من قوميتكم ينافي النخوة القومية.

الجواب: ايها الملحد الشقي! اني ولله الحمد مسلم، انتسب الى امتي السامية، وهم ثلاثمائة وخمسون مليوناً في كل عصر، واني استعيذ بالله مائة الف مرة من ان اُضحي بهذه الكثرة الكاثرة من الاخوان الطيبين المترابطين باخوة خالدة ويمدونني بدعواتهم الخالصة وفيهم اكثرية الاكراد المطلقة، واستبدل بهؤلاء الميامين دعوةً عنصرية وقومية سلبية كسباً لودّ بضعة اشخاص معينين يحملون اسم الكرد ويعدّون من عنصر الكرد، ممن سلكوا سبيل الالحاد والانسلاخ من المذاهب والقيم.

ايها الملحد! ان ذلك دأب امثالك من الحمقى، يترك اخوة حقيقية نورانية نافعة لجماعة عظيمة تعدادهم ثلاثمائة وخمسون مليوناً لاجل كسب اخوة كفار (المجر) او عدد من اتراك متفرنجين متحللين من الدين، تلك الاخوة المؤقتة غير المجدية حتى في الدنيا.

ولما كنا قد بيّنا ماهية القومية السلبية وأضرارها بدلائلها في المسألة الثالثة من (المكتوب السادس والعشرين) فاننا نحيلها الى تلك الرسالة ونتناول بشئ من الايضاح حقيقة وردت مجملةً في نهاية المسألة الثالثة هي الآتية:

اقول لأولئك الملحدين، ادعياء النخوة والغيرة، المتسترين تحت ستار القومية التركية، وهم في الحقيقة اعداء الامة التركية، اقول لهم:

انني على علاقة وثيقة جداً بمؤمني هذا الوطن الذين يسمون بالاتراك المرتبطين ارتباطاً قوياً، وبأخوة صادقة ابدية وحقيقية بالامة الاسلامية.. واكنّ حباً عميقاً وولاءً بفخر واعتزاز ـ باسم الاسلام ـ لابناء هذا الوطن الذين رفعوا راية القرآن خفاقة عزيزة في ربوع العالم اجمع زهاء ألف عام.

اما انت ايها المخادع المدّعي، فليس لك الاّ اخوة مجازية غير حقيقية ومؤقتة ومبنية على العنصرية والاغراض الشخصية، بحيث تهمل وتطرح جانباً المفاخر القومية الحقيقية للترك. فانا أسألك:

هل الامة التركية عبارة عن شباب غافلين، سارحين وراء الاهواء، ممن تتراوح اعمارهم بين العشرين والاربعين من العمر فقط؟

وهل ماتستوجبه النخوة القومية من منافع تمسهم محصورة في تربية متفرنجة تزيد غفلتهم، وتعوّدهم على الفساد وسوء الاخلاق، وتحثهم على ارتكاب الموبقات؟

وهل هي في دفعهم الى متعة مؤقتة وضحك آني يبكون عليها اياماً في شيخوختهم؟.

فان كانت النخوة القومية هي هذه الامور، وان كان الرقي وسعادة الحياة هي هذه.. وان كنت انت داعية الى هذا النمط من القومية التركية، وتدافع عن الامة على هذه الصورة. فانا أفرّ من هذه الدعوة القومية التركية فراراً بعيداً ولك ان تفرّ مني ايضاً.

وان كنت مالكاً لذرة من شعور وانصاف وغيرة قومية حقة، فانظر الى هذه التقسيمات ثم اجب عنها، هي:

ان ابناء هذا الوطن الذين يسمّون بالاتراك، ينقسمون الى ستة اقسام:

القسم الاول: هم اهل التقوى والصلاح.

القسم الثاني: هم المرضى واهل الضر والمصائب.

القسم الثالث: هم الشيوخ.

القسم الرابع: هم الاطفال والصبيان.

القسم الخامس: هم الفقراء والمعوزون.

القسم السادس: هم الشباب.

أليست الطوائف الخمس الاولى أتراكاً؟ أوَ ليس لهم حصة من الحمية القومية؟ أفمن الأِباء القومي أيذاء اولئك الطوائف الخمس وسلب سرورهم وتعكير صفوهم وافساد سلوانهم في سبيل ادخال بهجة مسكرة غافلة في نفوس الطائفة السادسة؟ أهذه نخوة أم عداء للأمة؟ ان الذي يُلحق الضرر بالاكثرية لاشك انه عدوّ لاصديق، اذ الحكم يبنى على الاكثرية.

فأنا أسألك:

هل اعظم ما ينتفع به القسم الاول ـ وهم اهل الايمان والتقوى ـ هو في مدنية متفرنجة؟ أم هو في سلوك طريق الحق التي يشتاقون اليها، ووجدان سلوان حقيقي في انوار حقائق الايمان باستحـضار السعادة الابدية.

ان الطريق التي تسلكونها، انت وامثالك من ادعياء القومية المتمادين في الضلالة، تطفئ الانوار المعنوية للمؤمنين المتقين، وتخل بسلوانهم الحقيقي، وتريهم الموت اعداماً ابدياً، وتدلّهم على ان القبر باب الى فراق ابدي.

وهل منافع القسم الثاني وهم المرضى واهل المصائب الآيسون من حياتهم، هي في تربية مدنية لادينية متفرنجة؟. بينما اولئك البائسون يريدون نوراً ويطلبون سلواناً ويبتغون ثواباً على ما نزل بهم من مصائب، ويرومون أخذ الثأر والانتقام ممن ظلمهم، ويترقبون دفع الخوف عن باب القبر الذي دنوا منه. ولكن بالنخوة الكاذبة التي تدعيها انت وامثالك تنزلون صفعات موجعة على رؤوس اولئك المبتلين المحتاجين أشد الحاجة الى العزاء والاشفاق عليهم وضماد جروحهم واللطف بهم، بل تغرزون الآلام في قلوبهم الجريحة، فتخيبون آمالهم دون رحمة، وتلقونهم في يأس قاتم دائم!

أهذه غيرة قومية؟ أبهذا تخدمون الامة وتُسدون اليها النفع؟

والطائفة الثالثة وهم الشيوخ؛ الذين يمثلون ثلث الامة، فهؤلاء يقتربون من القبر، ويدنون من الموت،ويبتعدون عن الدنيا، ويجاورون الآخرة! فهل سلوان هؤلاء ونفعهم في الاستماع الى سيرة الظالمين من امثال (جنكيز خان) و (هولاكو) المليئة بالغدر؟ وهل هي في هذا النمط من افعالكم الحاضرة التي تُنسي الآخرة، وتُلصق بالدنيا، وهي افعال لاطائل تحتها، وهي سقوط وتردٍ معنوي رغم ما يطلق عليها من رقي في الظاهر. وهل أن نور الآخرة في السينما؟ وهل السلوان الحقيقي في المسرح؟

واذ ينتظر هؤلاء الشيوخ الضعفاء الاحترام والتوقير من اهل النخوة والغيرة اذا بهم يخاطَبون: انكم تساقون الى اعدام ابدي، بما ينفث في روعهم ان باب القبر الذي يتصورونه رحمة ما هو الاّ فم ثعبان يبتلعهم، ويهمس في اذانهم المعنوية : انكم ماضون الى هناك وكأن هذا الكلام طعنات معنوية تنزل عليهم، فتذبحهم ذبحاً معنوياً.

فان كانت هذه غيرة قومية وحمية ملية، فاني استعيذ باللّه مائة ألف مرة من هذه الحمية والنخوة القومية.

اما الطائفة الرابعة؛ وهم الاطفال، فانهم يطلبون من الحمية القومية الرحمة وينتظرون منها الشفقة عليهم.

وان الايمان باللّه الخالق القدير الرحيم هو الذي يجعل ارواحهم تنبسط، وقابلياتهم تنمو، ومواهبهم تتربى بسعادة ـ بما يكمن فيهم من ضعف وعجز ـ ويستطيعون ان ينظروا الى الحياة نظرة اشتياق بتلقين التوكل الايماني والتسليم الاسلامي تلقيناً يمكّنهم من ان يصمدوا ازاء ما ستجابههم من احوال واهوال.

فهل يمكن ان يعوّض ذلك بتعليم دروس تقدم حضاري لايرتبطون بها الاّ ارتباطاً واهياً، وبتدريس الفلسفة المادية التي لا نور فيها، تلك التي تنقض قواهم المعنوية وتطفئ نور أرواحهم؟

اذ لو كان الانسان عبارة عن جسد حيوان فحسب، غير مالك للعقل، فلربما يُلهي هؤلاء الاطفال الابرياء لهواً مؤقتاً صبيانياً بهذه الاصول الاجنبية وينتفعون منها نفعاً دنيوياً بالتربية الحديثة التي زيّنتموها بالتربية القومية.

ولكن اولئك الابرياء سينزلون حتماً الى حلبة الحياة كأي انسان كان ولاشك انهم سيحملون آمالاً بعيدة جداً في قلوبهم اللطيفة الصغيرة، وستنشأ في عقولهم الصغيرة مقاصد جليلة.

وحيث ان الحقيقة هي هذه، يلزم أن يقرّ في قلوبهم نقطة استناد قوية ونقطة استمداد لاتنضب بترسيخ الايمان بالله وباليوم الآخر. وذلك من مقتضى الشفقة عليهم وهم يحملون عجزاً وفقراً لامنتهى لهما. وبهذا وحده تكون الشفقة عليهم والرحمة بهم. والاّ فان الاشفاق عليهم بسُكر الغيرة القومية وحدها يكون ذبحاً معنوياً لاولئك الصغار الابرياء، كقيام والدة مجنونة بذبح طفلها، بل هو غدر قاسٍ ووحشية ظالمة لهم، كمن يُخرج قلب الطفل ودماغه ويقدمهما له طعاماً لينمو جسده!.

الطائفة الخامسة وهم الضعفاء والفقراء!

فالفقراء الذين يقاسون تكاليف الحياة المرهقة والتي تصبح اكثر ايلاماً بالفقر، والضعفاء المساكين الذين يتألمون اكثر من تقلبات الحياة الهائلة. أليس لهؤلاء حظ من الغيرة القومية؟

وهل حظهم هو في الاعمال التي ترتكبونها تحت ستار التفرنج والتمدن بمدنية فرعونية تزيل حجاب الحياء وتشبع نزوات اغنياء سفهاء وتكون وسيلة لشهرة طغاة أقوياء ظلمة، والتي تزيد يأس هؤلاء البائسين وألمهم؟

ألا إن المرهم الشافي لضماد جرح الفقر لهؤلاء ليس في العنصرية ابداً، بل يؤخذ من صيدلية الاسلام المقدسة، ولاتستمد القوة للضعفاء ومقاومتهم من الفلسفة الطبيعية المظلمة المستندة الى المصادفة العمياء والطبيعة الصماء، بل تستمد من الحمية الاسلامية ومن الامة الاسلامية السامية.

الطائفة السادسة وهم الشباب: لو كانت فتوة هؤلاء الشباب دائمية، لكان للشراب المسكر الذي سقيتموهم اياه بالقومية السلبية منفعة مؤقتة وفائدة دقيقة. ولكن الإفاقة من نشوة الشباب اللذيذة بالشيب وبالآلام، والتنبه من ذلك النوم الممتع في صبح المشيب بالحسرات؛ سيدفع الشاب الى البكاء المرير وتجرّع الآلام من جراء نشوة ذلك الشراب. فضلاً عن ان الألم الذي يشعر به من زوال ذلك الحلم الممتع، سيكون حزناً شديداً عليه، حتى يجعله يتأوه وتذهب نفسه حسرات عليه قائلاً: وآأسفى، لقد ذهب الشباب، ومضى العمر، وسأدخل القبر صفر اليدين، ليتني استرشدت وعدت الى صوابي!

فهل حصة هذه الطائفة من القومية هي متعة مؤقتة في مدة محدودة، ثم دفعهم الى الحسرات والبكاء مدة مديدة؟ أم أن سعادة دنياهم ولذة حياتهم هي في اداء الشكر على نعمة الشباب، بصرف ذلك العهد اللذيذ في الاستقامة ـ لا في السفاهة ـ وذلك لإبقاء ذلك الشباب الفاني ابقاء معنوياً بالعبادة، وللفوز بشباب خالد في دار السعادة الابدية، بالتزام الاستقامة في ذلك العهد.

فان كان لك شعور، ولو بمقدار ذرة، اجب عن هذه الاسئلة.

الحاصل: لو كانت الامة التركية قاصرة على الطائفة السادسة، اي على الشباب وحدهم، وكانت فتوتهم خالدة، وليس لهم دار غير الدنيا، لكانت اعمالكم المشوبة بالتفرنج تحت ستار القومية التركية، تعدّ من الغيرة والحمية القومية، وعندئذٍ كان يمكنكم ان تقولوا لشخص مثلي ممن لايكترث بامور الدنيا الاّ قليلاً، ويعدّ العنصرية داءً وبيلاً ـ كداء السيلان ـ ويسعى لصرف الشبان عن الاهواء والرغبات غير المشروعة، وقد ولد في ديار اخرى، أقول: كان يمكنكم ان تقولوا: انه كردي لاتتبعوه! ولربما تكسبون بقولكم هذا حقاً.

ولكن لما كان أبناء هذا الوطن ـ الذين يطلق عليهم اسم الترك ـ هم ستة اقسام كما بينا آنفاً ـ فان إلحاق الضرر بخمسة اقسام منهم وسلب راحتهم، وحصر راحةٍ دنيوية مؤقتة وخيمة العاقبة في قسم واحد منهم فقط بل اسكارهم بها لاشك انه ليس وفاءً للامة التركية بل هو عداء لها.

نعم! انني من حيث العنصر لا اُعد من الترك، ولكن سعيت ومازلت أسعى بكل ما اوتيت من قوة لصالح المتقين وللمبتلين بالمصائب وللشيوخ وللاطفال وللفقراء من الاتراك، واحاول ايضاً صرف الشباب ـ وهم الطائفة السادسة ـ عن افعال غير مشروعة تسمم حياتهم الدنيوية وتبيد حياتهم الاخروية، وتسوق الى سنة من البكاء على ضحك لم يدم ساعة.

وهذا هو دأبي منذ عشرين سنة ـ وليس في هذه السنين الست او السبع ـ اذ ما نشرته من رسائل باللغة التركية واستلهمتها من نور القرآن الكريم، موجودة امام الجميع.

نعم ان الاثار التي اقتبست من كنز أنوار القرآن الكريم ـ وللّه الحمد - قد أظهرت للمتقين الصالحين النور الذي يحتاجونه بشدة، وبينت للمرضى والمبتلين ان أنجع العلاجات والبلسم الشافي لهم هو في صيدلية القرآن المقدسة، واثبتت ـ بالانوار القرآنية ـ للشيوخ القريبين من باب القبر انه باب رحمة وليس باب اعدام. واستخرجت للأطفال الذين يحملون قلوباً لطيفة رقيقة ـ من كنز القرآن الكريم ـ نقطة استناد قوية جداً تجاه المصائب والمهالك والمضرات وابرزت نقطة استمداد فيها تكون محور آمال ورغبات لاحدّ لها لهم واستفيد منها فعلاً. ورفعت ـ تلك الآثار ـ ثقل تكاليف الحياة المرهقة عن كاهل الفقراء الضعفاء التي ينسحقون تحتها، وذلك بحقائق الايمان القرآنية.

وهكذا فنحن نسعى لنفع هذه الطوائف الخمس من الاقسام الستة من الامة التركية، اما القسم السادس وهم الشباب، فلنا اخوّة صادقة مع الطيبين منهم، علماً انه لا صداقة لنا بأي جهة من الجهات مع من هم من امثالك من الملحدين، لاننا لانعدّ الملحد المنسلخ عن ملة الاسلام ـ التي تضم مفاخر الاتراك الحقيقية ـ انه من الامة التركية، بل نعدّه أجنبياً تستر بستار الترك. فمثل هؤلاء مهما زعموا انهم يدعون الى القومية التركية فانهم لايستطيعون ان يخدعوا اهل الحقيقة، لان أفعالهم وتصرفاتهم تكذّب دعواهم.

فيا ايها الملحدون المتفرنجون الذين يسعون لصرف اخواني الحقيقيين عني بدعاياتكم! ايّ نفع تسدونه لهذه الامة؟ انكم تطفئون نور اهل التقوى والصلاح وهم الطائفة الاولى وتضعون السمّ على جروح من هم أحوج ما يكونون الى الضماد والرحمة، وهم الطائفة الثانية.

وتسلبون سلوان من هم أليق بالاحترام والتوقير، بل تلقوهم في يأس مطلق، وهم الطائفة الثالثة.

وتنقضون كلياً القوة المعنوية لمن هم أحوج ما يكونون الى الشفقة وتطفئون انسانيتهم الحقيقية، وهم الطائفة الرابعة.

وتخيبون آمال من هم أحوج الى التعاون والعزاء حتى تجعلوا الحياة في نظرهم أفزع من الموت، وهم الطائفة الخامسة.

وتسقون في غفلة الشباب شراباً عاقبته وخيمة أليمة، من هم أحوج ما يكونون الى الانتباه والافاقة، وهم الطائفة السادسة.

فهل القومية التي تضحون في سبيلها بكثير من المقدسات هي هذه الامور؟

أهكذا تقدمون النفع الى الاتراك بالقومية؟ أما أنا فاستعيذ باللّه ألف ألف مرة من ذلك.

أيها السادة! اني أعلم انكم عندما تُغلبَون في ميدان الحق تتشبثون بالقوة، ولكن لان القوة في الحق وليس الحق في القوة، فلو جعلتم الدنيا على رأسي ناراً تتأجج، فان هذا الرأس الذي أضحي به فداءً للحقيقة القرآنية لايخضع لكم أبداً.

واني اعلمكم ايضاً ؛ انه لو عاداني ألوفٌ من امثالكم، وليس اناس محدودون مكروهون في نظر الامة، فلا أعير لهم اهمية تذكر اكثر مما اهتم بحيوانات مضرة.

ماذا عساكم ان تفعلوا بي؟

ان اقصى ما يمكنكم فعله هو انهاء حياتي، او إعاقة خدماتي للقرآن. اذ لا تعدو علاقتي بالدنيا هذين الامرين.

نحن نؤمن ايماناً يقينياً بدرجة الشهود ان الاجل لايتغير، وهو مقدّر بقدره تعالى. لذا لا اتراجع قطعاً ان استشهدتُ في سبيل الحق، بل انتظره بشوق عارم. وبخاصة أنا شيخ كبير لا أتوقع ان اعيش اكثر من سنة. فان أعظم ما أبغيه هو الفوز بعمر باق بالشهادة بدلاً عن هذا العمر الظاهري.

اما من حيث العمل للقرآن الكريم؛ فلقد وهب لي الله سبحانه وتعالى برحمته؛ اخواناً ميامين في العمل للقرآن والايمان. وستؤدي تلك الخدمة الايمانية عند مماتي في مراكز كثيرة بدلاً من مركز واحد. ولو اسكت الموتُ لساني فستنطلق ألسنة قوية بالنطق بدلاً عني وتديم تلك الخدمة.

بل استطيع القول:

ان بذرة واحدة تحت التراب تنشئ بموتها حياة سنبلة وتتقلد مائة من الحبات الوظيفة بدلاً عن حبة واحدة.

فآمل ان يكون موتي كذلك وسيلة لخدمة القرآن اكثر من حياتي.

الدسيسة الشيطانية الخامسة

ان الموالين للضلالة يرومون سحب اخواني عني مستفيدين من الانانية والغرور الكامن في الانسان، وفي الحقيقة ان اخطر واضعف عرق ينبض في الانسان انما هو عرق الغرور، اذ يمكنهم بالتربيت على ذلك العرق وتلطيفه ان يدفعوه الى كثير من المفاسد.

ياأخواني! كونوا حذرين، لئلا يترصدوكم في هذا الجانب فيصيدوكم من هذا العرق ؛ عرق الغرور.

ان اهل الضلالة في هذا العصر قد امتطوا ((أنا)) فهو يجوب بهم في وديان الضلالة. فأهل الحق لايستطيعون خدمة الحق إلاّ بترك ((أنا)) وحتى لو كانوا على حق وصواب في استعمالهم ((أنا)) فعليهم تركه، لئلا يشبهوا اولئك، اذ يكونون موضع ظنهم انهم مثلهم يعبدون النفس. لذا فان عدم ترك ((أنا)) بخس للحق تجاه خدمة الحق.

زد على ذلك ان الخدمة القرآنية التي اجتمعنا عليها ترفض ((أنا)) وتطلب ((نحن))، فلا تقولوا: أنا! بل قولوا: نحن.

ولاشك انكم قد اقتنعتم ان أخاكم هذا الفقير لم يبرز الى الميدان بـ((أنا))، ولا يجعلكم خداماً لانانيته، بل اراكم نفسه خادماً للقرآن لايملك انانية، فليس هو الا قد اتخذ كما بيّنه لكم ـ مسلك عدم الاعجاب بالنفس وعدم موالاة ((أنا))، فضلاً عن انه قد اثبت لكم بدلائل قاطعة ان الآثار والمؤلفات المعدّة لافادة الناس كافة هي ملك الجميع، اي انها ترشحات من القرآن الكريم لايسع أحد ان يتملكها بأنانيته.

ولنفرض فرضاً محالاً انني اتملك تلك الآثار بأنانيتي، ولكن مادام باب الحقيقة القرآنية هذا قد انفتح ـ كما قال أحد اخواني ـ فينبغي لأهل العلم والكمال ان يغضوا النـظر عن نقائصـي وهـوان شأني ولا يظـلوا مستـغنين عني متردديـن في اسنادي.

وعلى الرغم من ان آثار السلف الصالحين والعلماء المحققين خزينة عظيمة تكفي وتفي بعلاج كل داء. فقد يكون لمفتاح خزينة اهمية اكثر من الخزينة نفسها، لانها مقفولة. وباستطاعة المفتاح فتح خزائن كثيرة.

وأظن ان العلماء الفضلاء الذين لهم غرور علمي قوي، قد أدركوا ايضاً ان ((الكلمات)) المنشورة مفتاح للحقائق القرآنية، وانها سيف ألماسي ينزل على رؤوس اولئك الساعين لإنكار تلك الحقائق.

ألا فليعلم اولئك الحاملون لغرور علمي قوي، انهم لايكونون طلاباً لي بل يكونون طلاباً وتلاميذ للقرآن الحكيم، وانا لا اكون الاّ زميل دراسة معهم. بل حتى لو فرض فرضاً محالاً انني ادّعي الاستاذية، ولكن بما اننا قد وجدنا وسيلة لانقاذ طبقات اهل الايمان كافة من العوام الى الخواص من الشبهات والاوهام التي يتعرضون لها الآن، فعلى اولئك العلماء ان يجدوا وسيلة أيسر منها او يلتزموا هذه الوسيلة ويقوموا بتدريسها وتعهدها.

ان هناك زجراً عظيماً في حق علماء السوء، فليحذر اهل العلم في هذا الزمان حذراً شديداً. فلو افترضتم ـ كما يظن اعداؤنا ـ انني اعمل في هذه الخدمة الايمانية في سبيل ابراز انانيتي وغروري. ولكن هناك اناس كثيرون اجتمعوا حول شخص متفرعن اجتماعاً جاداً خالصاً تاركين غرورهم وعملوا بترابط قوي في سبيل مقصد دنيوي وقومي، أوَ ليس لأخيكم هذا حق في مطالبتكم الاجتماع بتساند وترابط حول الحقائق القرآنية وبترك الانانية، كتساند عرفاء تلك القيادة الدنيوية؟ أوَ ليس اكبر علمائكم غير محق كذلك في عدم تلبية ندائه؟ مع انه يستر أنانيته ويدعو الى الالتفاف حول الحقائق القرآنية والايمانية.

فيا اخواني! ان أخطر جهة من الأنانية في عملنا هذا هو الحسد والغيرة، فاذا لم يكن العمل خالصاً لله وحده، فان الحسد يتدخل فيفسد العمل. فكما ان إحدى يدي الانسان لاتحسد الاخرى ولاتغار منها، وكذا لاتحسد العين اذنه ولايغار قلبُه من عقله، كذلك انتم، فكل منكم في حكم عضو وحاسة في الشخص المعنوي لجماعتنا هذه. فواجبكم الوجداني الاّ يحسد بعضكم بعضاً، بل يفتخر كلٌ منكم بمزايا الآخر ويُنسَرُّ بها.

بقي هناك أمر آخر، وهو أخطر الامور، وهو : وجود الحسد والغيرة فيكم او في احبابكم تجاه أخيكم هذا الفقير. وهذا من اخطر الامور. وفيكم علماء اجلاّء متبحرون، وفي قسم من اهل العلم غرور علمي ولو انه متواضع بالذات، الاّ انه ـ في تلك الجهة ـ مغرور واناني، فلا يدع غروره فوراً. ومهما التزم عقله وتمسّك قلبه بالخدمة الاّ ان نفسه تروم التميز والظهور والشهرة من جراء ذلك الغرور العلمي. بل انها ترغب حتى في اظهار المعارضة للرسائل المكتوبة، وعلى الرغم من ان قلبه يحب الرسائل وان عقله يعجب بها ويجدها رفيعة، فان نفسه تضمر عداءً آتياً من الغيرة العلمية وتتمنى تهوين شأن ((الكلمات)) كي تبلغها نتاجات فكره، وتروّج مثلها، لذا اضطر اضطراراً أن أبلّغ هذا :

ان الذين هم ضمن دائرة هذه الدروس القرآنية، وظيفتهم محصورة ـ من حيث العلوم الايمانية ـ في شرح ((الكلمات)) المكتوبة وايضاحها او تنظيمها، حتى لو كانوا مجتهدين، وعلماء متبحّرين، لانه قد علمنا بامارات كثيرة : اننا موظفون بوظيفة الفتوى في هذه العلوم الايمانية. فلو حاول احدهم ممن هو ضمن دائرتنا ان يكتب شيئاً بما استوحته نفسه من الغرور العلمي ـ خارج نطاق الشرح والايضاح ـ فانه يكون بمثابة معارضة واهية وتقليد مشين. لانه قد تحقق بالادلة والامارات :

ان أجزاء (رسائل النور ) ترشحات من فيض القرآن الكريم، وقد تكفل كل منا ـ على وفق قاعدة توزيع المساعي وتقسيم الاعمال ـ بالقيام بوظيفة من وظائف العمل للقرآن، لنوصل تلك الترشحات الكوثرية الى المحتاجين.

الدسيسة الشيطانية السادسة

وهي استغلال الشيطان حب الراحة والدعة والتطلع الى تسنّم الوظائف لدى الانسان.

نعم! ان شياطين الجن والانس لايدعون ناحية الاّ ويهاجمون منها، فعندما يرون أحداً من أصدقائنا ذا قلب راسخ ووفاء تام ونية خالصة وهمة عالية، يلتفون عليه من جهات عدة ويشنون هجومهم عليه، كالآتي:

انهم يستغلون مالديهم من حب للراحة والدعة ويستفيدون من مكانتهم في الوظائف ليفسدوا علينا مهمتنا، ويعيقوا خدمة القرآن، او ليصرفوهم عن العمل للقرآن بدسائس ومكايد خبيثة الى حد يجدون لقسم منهم اعمالاً كثيرة ليغرقوهم فيها من دون ان يشعروا، كيلا يجدوا متسعاً من الوقت للعمل للقرآن، او يقدّموا لقسم آخر أموراً دنيوية فاتنة ليثيروا فيهم الرغبات والهوى، لتصيبه الغفلة عن الخدمة.. وهكذا.

وعلى كل حال فان طرق الهجوم هذه طويلة، الاّ اننا اختصرناها هنا محيلين الامر الى فطنتكم ونظركم الثاقب.

فيا اخوتي! اعلموا! واحذروا! ان مهمتكم هذه مقدسة وخدمتكم سامية، وان كل ساعة من ساعاتكم ثمينة الى حدٍ يمكن ان تكون بمثابة عبادة يوم كامل.. اعلموا هذا جيداً لئلا تضيع منكم وتفوت.

} يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون{

} ولاتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً{

} سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون ^ وسلامٌ على المرسلين ^
والحمد لله رب العالمين{

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد النبي الامي الحبيب العالي القدرِ

العظيم الجاه وعلى آله وصحبه. آمين

ذيل

القسم السادس

الاسئلة الستة



كتب هذا الذيل (للتداول الخاص)، لتجنُّب مايرد في المستقبل من كلمات الاهانة وشعور الكراهية، اي؛ لئلا يصيب بصاق اهانتهم وجوهنا او لمسحه عنها عندما يقال: تباً لرجال ذلك العصر العديمي الغيرة!

وكتب تقريراً ولائحة لترن آذانٌ صمّ، اذان رؤساء اوروبا المتوحشين المتسترين بقناع الانسانية.. ولينغرز في العيون المطموسة، عيون اولئك العديمي الضمير الجائرين الذين سلطوا علينا هؤلاء الظلمة الغدّارين.. وليُنزل صفعةً كالمطرقة على رؤوس عبيد المدنية الدنية التي اذاقت البشرية في هذا العصر آلاماً جهنمية حتى صرخت في كل مكان: لتعش جهنم!



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ومَا لَنا ألاّ نَتوكَلَ على الله وقد هَدينا سُبلَنا وَلنصبِرَنّ على ما آذيتُمُونا وعلى الله فليَتوكلِ المُتوكِلوُن{ (ابراهيم:12)

لقد حدثت في الفترة الاخيرة اعتداءات شنيعة كثيرة على حقوق المؤمنين الضعفاء، من الملحدين المتخفين وراء الأستار، واخص بالذكر اعتداءهم عليّ تعدياً صارخاً، باقتحامهم مسجدي الخاص الذي عمّرته بنفسي، وكنا فيه مع ثلة من رفقائي الاعزاء، نؤدي العبادة، ونرفع الاذان والاقامة سراً. فقيل لنا: لِمَ تقيمون الصلاة باللغة العربية وترفعون الاذان سراً؟

نفد صبري في السكوت عليهم:

وها أنذا لا أخاطب هؤلاء السفلة الدنيئين الذين حرموا من الضمير، وليسوا أهلاً للخطاب، بل أخاطب اولئك الرؤساء المتفرعنين في القيادة الذين يلعبون بمقدرات الأمة حسب أهواء طغيانهم. فأقول:

يا أهل الالحاد والبدعة! اني أطالبكم بالاجابة عن ستة اسئلة.

C السؤال الاول:

ان لكل حكومة، مهما كانت، ولكل قوم، بل حتى اولئك الذين يأكلون لحم البشر، بل حتى رئيس أية عصابة شرسة، منهجاً واصولاً ودساتير، يحكمون وفقها.

فعلى اي اساس من دساتيركم وأصولكم تتعدّون هذا التعدي الفاضح. اظهروه لنا. ام انكم تحسبون اهواء عدد من الموظفين الحقراء قانوناً؟

اذ ليس هناك قانون في العالم يسمح بالتدخل في عبادة شخصية خاصة! ولايسنّ قانون في ذلك قطعاً.

C السؤال الثاني:

ان دستور حرية الضمير (حرية المعتقد الديني) مهيمن بصورة عامة في العالم قاطبة، ولاسيما في هذا العصر، عصر الحريات، وبخاصة في نطاق المدنية الحاضرة.

فالى أية قوة تستندون انتم في جرأتكم هذه، بخروجكم على هذا الدستور، واستخفافكم به، مما يُعدّ اهانة للبشرية كلها، واهمالاً لرفضها لعملكم؟ واية قوة لديكم حتى تمسكتم بالالحاد وكأنه دين لكم في الوقت الذي اطلقتم على انفسكم اسم ((اللادينية)) واعلنتم عدم التعرض للدين ولا للالحاد على السواء.

بيد انكم تتعدون على حقوق اهل الدين الى حدٍ كبير، فلاشك ان أعمالكم هذه لن تبقى في طيّ الخفاء، بل ستُسألون عنها. وعندها بماذا تجيبون؟

فها انتم اولاء لاتطيقون رفض أصغر حكومة من الحكومات العشرين واعتراضها عليكم، فكيف بكم تجاه عشرين حكومة يرفضون معاً محاولتكم نقض حرية الضمير بالقوة وبالاكراه وكأنكم لاتحسبون حساب رفضهم.

C السؤال الثالث:

بأي قانون وبأية قاعدة تكلفون من هو شافعي المذهب مثلي، اتباع فتوى تنافي صفاء المذهب الحنفي وسموه، افتى بها علماء السوء الذين باعوا ضمائرهم لمغنم دنيوي.

فلو حاولتم ازالة المذهب الشافعي ـ علماً ان متبعيه في هذا المسلك يعدّون بالملايين ـ وسعيتم لجعلهم احناف، ثم أكرهتموني على اتباع هذه الفتوى اكراهاً بالقوة، ربما يكون ذلك قانوناً ظالماً من قوانين الملحدين امثالكم، والاّ فهو دناءة يقترفها بعضهم حسب أهوائه!.

اننا لسنا تابعين لأهواء امثال هؤلاء، ولانعرفهم اصلاً.

C السؤال الرابع:

اي اصل من اصولكم هذا الذي تستندون اليه في تكليف امثالي - ممن هم من قوم آخرين: ان أقم الصلاة باللغة التركية، بناء على فتوى محرّفة مبتدعة، باسم العنصرية التركية التي تعني التفرنج المنافي كلياً لقومية وأعراف وعادات هذه الامة التي امتزجت واتحدت بالاسلام منذ القدم واحترمته.

وعلى الرغم من انني على علاقة وثيقة وصداقة صميمة واخوة خالصة بالاتراك الحقيقيين، فاني لست على علاقة ابداً مع الدعوة القومية لأمثالكم من المتفرنجين.

فكيف تكلفوني بذلك؟ وبأي قانون؟

ان الاكراد الذين يبلغ تعدادهم الملايين، لم ينسوا قوميتهم ولا لسانهم منذ الوف السنين، وكانوا اخوة حقيقيين للاتراك في الوطن، ورفاقهم في سوح الجهاد منذ سالف العصور، اقول : إن أزلتم قوميتهم وأنسيتموهم لسانهم، فلربما يكون تكليفكم هذا لأمثالنا ـ ممن يعدّون من عنصر آخر ـ دستوراً همجياً من دساتيركم. والاّ فهو مجرد هوى وتصرف اعتباطي لا غير.

ألا ان اهواء الاشخاص لاتتبع، ولانتبعها نحن.

C السؤال الخامس:

ان أية حكومة كانت لها ان تطبق قوانينها على رعيتها ومن تعدّهم من رعاياها، ولكنها لاتستطيع ان تجري قوانينها على من لا تعدّهم من رعاياها، لان اولئك يقولون:

لما لم نكن من رعاياكم، فلستم حكومتنا كذلك.

زد على ذلك ان عقابين اثنين لاينزلان في آن واحد على شخص، في دولة من الدول. فاِما ان يُعدم القاتل، او يُلقى به في السجن، ولايجوز تنفيذ السجن والاعدام معاً عليه.

وفي ضوء هذا. فانني لم ألحق اي ضرر كان للوطن او الامة ومع ذلك فقد وضعتموني في الاسر طوال ثماني سنوات، وعاملتموني معاملة لايعامل بها حتى من كان مجرماً حقاً ومن قوم آخرين، بل من أبعد الاجانب عن البلاد.

ولقد سلبتموني حريتي، واسقطتموني من الحقوق المدنية، مع انكم أصدرتم العفو عن المجرمين، ولم يقل أحدٌ منكم: ان هذا الشخص ايضاً من ابناء هذا الوطن.

فبأي قانون من قوانينكم تكلفون شخصاً غريباً عنكم مثلي من كل جهة بدساتيركم هذه المناقضة للحرية والتي طبقتموها على أمتكم المنكوبة خلاف رضاهم؟

ولما كنتم قد اعتبرتم البطولات الجسام في سبيل الحفاظ على الوطن والجهاد بالنفس والنفيس ـ التي أصبحتُ وسيلة لها بشهادة قواد الجيش في الحرب العالمية الاولى(1) ـ اعتبرتموها جريمة، كما اعتبرتم السعي الجاد للحفاظ على الاخلاق الفاضلة للامة المنكوبة، وضمان سعادتها الدنيوية والاخروية خيانة .

ومادمتم قد عاقبتم من لايرضى ان يطبق في نفسه اصولكم ومنهجكم المتفرنج الالحادي الذي لانفع فيه بل ملؤه الضرر والهلاك، بثماني سنوات من الحياة تحت المراقبة والترصد (والان اصبحت ثمانياً وعشرين سنة)، مع ان العقاب لايكون الاّ واحداً، فرفضته. ولكنكم اكرهتموني عليه واذقتموني إياه.

فبأي قانون تنزلون بي عقاباً آخر؟

C السؤال السادس:

انكم ترون ان لنا خلافاً ومعارضة كلية معكم، ومعاملاتكم القاسية شاهدة على ذلك. فانتم تضحون بدينكم وآخرتكم في سبيل دنياكم. ونحن بدورنا مستعدون على الدوام للتضحية بدنيانا في سبيل ديننا، وفي سبيل آخرتنا، وهذا هو سر المعارضة التي بيننا حسب ظنكم.

ولاجرم ان التضحية ببضع سنين من حياتنا التي تمضي في ذل وهوان في ظل حكمكم القاسي قساوة الوحوش لنكسب بها شهادة خالصة في سبيل الله، تعدّ ماء كوثر لنا.

ولكن استناداً الى فيض القرآن الحكيم واشاراته، اخبركم بالآتي لترتعد فرائصكم:

انكم لن تعيشوا بعد قتلي، فان يداً قاهرة ستأخذكم من دنياكم التي هي جنتكم وانتم مغرمون بها، وتطردكم عنها، وتقذف بكم فوراً الى ظلمات ابدية، وسيقتل بعدي رؤساءكم الذين تَنمرَدوا وطغوا قتلة الدواب، ويُرسَلون اليّ، وسأمسك بخناقهم امام الحضرة الإلهية، وسآخذ حقي منهم بإلقاء العدالة الإلهية اياهم في اسفل سافلين.

ايها الشقاة الذين باعوا دينهم وآخرتهم بحطام الدنيا!

ان كنتم تريدون ان تعيشوا حقاً فلا تتعرضوا لي ولاتمسّوني بسوء، وان تعرضتم فاعلموا ان ثأري سيؤخذ منكم أضعافاً مضاعفة.

اعلموا هذا جيداً ولترتعد فرائصكم!

واني آمل من رحمة الله سبحانه ان موتي سيخدم الدين اكثر من حياتي، وان وفاتي ستنفلق على رؤوسكم انفلاق القنبلة، وستشتت رؤوسكم وتبعثرها.

فان كانت لكم جرأة، فتعرضوا لي، فلئن كان لكم ما تفعلونه بي، لتَعلمُنّ ان لكم ما تنتظرونه وتلاقونه من عقاب.

اما أنا فسأتلو بكل ما أملك من قوة هذه الآية الكريمة ازاء جميع تهديداتكم :

} الذينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لكُمْ فَاخشَوهُم فَزادَهُمْ اِيماناً وَقَالوُا حَسبُنَا الله وَنِعمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173).

القسم السابع

وهو الأشارات السبع



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} فآمِنُوا باللّه ورَسُولهِ النبيّ الأُميّ الذي يُؤمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتهِ وَاتَّبِعوهُ لَعَلّكُم تَهتَدُون{ (الاعراف:158)

} يُريدُونَ أنْ يُطفِئُوا نُورَ الله بِافواهِهم وَيَأبَى الله إلاّ أنْ يُتِم نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكافِروُن{ (التوبة:32)

هذا القسم عبارة عن سبع إشارات، كتب جواباً عن ثلاثة اسئلة، والسؤال الاول منها يتضمن اربع اشارات .



C الاشارة الاولى: ان مـستند الذين يحـاولون تـغيــيـر الشـعـائر الاسـلامية وتبــديلـها، وحجتهم نابعة من تقليد الاجانب تقليداً أعمى، كما هو في كل الامور الفاسدة. فهم يقولون :

(( ان المهتدين في لندن، والذين دخلوا في حظيرة الايمان من الاجانب يترجمون كثيراً من الامور امثال الأذان والاقامة للصلاة، الى ألسنتهم، ويعملون بها في بلادهم، والعالم الاسلامي ازاء عملهم هذا ساكت، لا يعترض عليهم، فاذاً هناك جواز شرعي في عملهم هذا بحيث يجعلهم يلزمون الصمت ازاءه!)).

الجـواب: ان الفرق في هذا القياس ظاهر جداً، وليس من شأن ذي شعور تقليدهم، وقياس الامور عليهم مهما كان. لأن بلاد الاجانب يطلق عليها في لسان الشريعة ((دار الحرب)). فكثير من الامور لها جواز شرعي في ((دار الحرب))، ولامساغ لها في ((دار الاسلام)).

ثم ان بلاد الافرنج تتميز بقوة النصرانية وشوكتها. فليس هناك محيط يلقّن بلسان الحال ما يشيع مفاهيم الكلمات المقدسة ومعاني الاصطلاحات الشرعية، لذا فبالضرورة رُجحّت المعاني القدسية على الالفاظ المقدسة، اي تُركت الالفاظ حفاظاً على المعاني، اي اختير أخف الضررين، واهون الشرين.

اما في ((دار الاسلام))؛ فان المحيط يرشد ويلقن المسلمين بلسان الحال المعاني الاجمالية لتلك الكلمات المقدسة، إذ ان جميع المحاورات، والمسائل الدائرة بين المسلمين حول الاعراف والعادات والتاريخ الاسلامي، والشعائر الاسلامية عامة، وأركان الاسلام كافة تلقّن باستمرار المعاني المجملة لتلك الكلمات المقدسة لأهل الايمان. حتى ان معابد هذه البلاد ومدارسها الدينية، بل حتى شواهد القبور في المقابر، تؤدي مهمة ملقن ومعلّم تُذكّر المؤمنين بتلك المعاني المقدسة. فيا ترى إن مَن يعدّ نفسه مسلماً، ويتعلم يومياً خمسين كلمة من الكلمات الاجنبية في سبيل مصلحة دنيوية؛ ان لم يتعلم فيخمسين سنة مايكررها كل يوم خمسين مرة من الكلمات المقدسة، امثال (سبحان الله والحمدلله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) ألا يتردى الى ادنى من الحيوان بخمسين مرة؟ ألا إن هذه الكلمات المقدسة لاتحرّف، ولاتُترجم، ولاتهجّر لأجل هؤلاء الانعام!. بل ان هجر هذه الكلمات وتحريفها ما هو الاّ نقض لشواهد القبور كلها وتسويتها بالتراب وإعراض عن الاجداد، واهانة لهم، واتخاذهم اعداءاً .. وعليه فهم يرتعدون في قبورهم من هول هذا التحقير والاهانة.

ان علماء السوء الذين انخدعوا بالملحدين، يقولون تغريراً بالامة : لقد قال الامام الاعظم (ابو حنيفة النعمان): ((يجوز قراءة ترجمة الفاتحة بالفارسية، ان وجدت الحاجة، وحسب درجة الحاجة، لمن لايعرف العربية اصلاً، في الديار البعيدة)). فبناءً على هذه الفتوى، ونحن محتاجون، فلنا اذاً ان نقرأها بالتركية(1).

الجـواب: ان جميع الائمة العظام ـ سوى الامام الاعظم ـ والائمة الاثنى عشر المجتهدين، كلهم يفتون خلاف فتوى الامام الاعظم هذه. وان الجادة الكبرى للعالم الاسلامي هي التي سلكها اولئك الائمة العظام كلهم. فالامة العظيمة لاتسير الاّ في الجادة الكبرى. فالذين يريدون ان يسوقوها الى طريق مخصوصة وضيقة انما يضلون الناس.

ان فتوى الامام الاعظم، فتوى خاصة بخمس جهات:

الاولى: انها تخص اولئك القاطنين في دار اخرى، وبلاد بعيدة عن مركز دار الاسلام.

الثانية: انها مبنية على الحاجة الحقيقية.

الثالثة: انها خاصة بترجمتها الى الفارسية، التي تعد ـ في رواية ـ من لسان اهل الجنة.

الرابعة: انها حكم بالجواز خصيصاً لسورة الفاتحة، لئلا يترك الصلاة من لايعرف سورة الفاتحة.

الخامسة: لقد أظهر الجواز ليكون باعثاً لفهم العوام المعاني المقدسة ـ بحمية اسلامية نابعة عن قوة الايمان ـ والحال ان ترك أصلها العربي، وترجمتها بدافع الهدم الناشئ من ضعف الايمان، والنابع من فكر العنصرية والنفور من لسان العربية ـ الناجمة من ضعف الايمان ـ ما هو الاّ دفع للناس الى ترك الدين والخروج عليه.

C الاشـارة الثانيـة: ان اهـل البدعة الذين يغـيّرون الشعائر الاسلامية، طلبوا اولاً فتوى من علماء السوء لتسويغ عملهم. فدلّوهم على الفتوى السابقة التي بيّنا انها فتوى خاصة بخمسة وجوه.

ثانياً: ان اهل البدعة قد استوحوا فكراً مشؤوماً من الانقلابيين الاجانب، وهو:

ان اوروبا لم يعجبها مذهب الكاثوليك. فالتزم الثوار والانقلابيون والفلاسفة قبل الناس مذهب البروتستانية الذي كان يعدّ من البدع والاعتزال، حسب مذهب الكاثوليكية، وقد استفادوا من الثورة الفرنسية، فهدموا قسماً من الكاثوليكية، واعلنوا البروتستانية.

فادعياء الحمية هنا، في هذه البلاد، وقد اعتادوا التقليد الاعمى، يقولون: ((لما كان هذا الانقلاب قد حدث في الديانة النصرانية، وقد عُدّ الانقلابيون في بداية الامر مرتدين، ثم قُبلوا ايضاً نصارى، فيمكن إذن ان يحدث في الاسلام ايضاً انقلاب ديني كهذا)).

الجواب: ان الفرق في هذا القياس أظهر مما في الاشارة الاولى، لأن: الاسس الدينية في النصرانية قد اُخذت وحدها عن سيدنا عيسى عليه السلام. بينما اكثر الاحكام التي تعود الى الحياة الاجتماعية والفروع الشرعية قد وضعت من قبل الحواريين، وبقية الرؤساء الروحانيين، وأخذ القسم الاعظم منها من الكتب المقدسة السابقة. لأن سيدنا عيسى عليه السلام، لم يَتول الحكم والسلطة، ولم يكن مرجعاً للقوانين الاجتماعية العامة، فلذلك أخذت القوانين العرفية والدساتير المدنية باسم الشريعة النصرانية، وكأن أسس دينه قد ألبست ثياباً من الخارج وأعطيت لها صورة اخرى. فلو بدّلت هذه الصورة وغيّرت تلك الثياب فان أسس دينه لاتتبدل. ولايؤدي هذا الامر الى تكذيبه وانكاره.

بينما سيدنا الرسول e الذي هو صاحب الدين والشريعة الاسلامية هو فخر العالم وسيد العالمين، واصبح كلٌ من الشرق والغرب والاندلس والهند عرشاً من عروش سلطانه، فكما انه e قد بين ـــ بذاته ـــ أسس الاسلام، فان فروع ذلك الدين ودساتير أحكامه، بل حتى أصغر أمر جزئي من آدابه هو الذي أتى به، وهو الذي يخبر عنه وهو الذي يأمر به، بمعنى ان الامور الفرعية في الشريعة الاسلامية ليست على صورة لباس وثياب قابلة للتغيير والتبديل. بحيث لو بدّلت لظلت أسس الدين ثابتة، بل انها جسد تلك الاسس وفي الاقل جلدها. اذ قد امتزجت والتحمت معها بحيث لاتقبل التفريق والفصل. وان تبديلها مباشرة يؤدي الى تكذيب صاحب الشريعة وانكاره.

اما اختلاف المذاهب فقد نشأ من اسلوب فهم الدساتير النظرية التي بيّنها صاحب الشريعة. والدساتير التي هي ((المحكمات)) والتي تسمى بالضروريات الدينية، فلا تقبل التأويل، ولا التبديل قطعاً بأي صورة كانت من الصور، ولن تكون موضع اجتهاد ابداً. فمن بدّلها فقد خرج على الدين وكان ضمن القاعدة: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من القوس).

ان اهل البدع لأجل تبرير الحادهم، وخروجهم على الدين يجدون هذه الوسيلة، اذ يقولون: لقد شُنّ هجوم على القسس والرؤساء الروحانيين ومذهب الكاثوليكية، الذي هو مذهبهم الخاص، وتم تخريب هذا المذهب في احداث الثورة الفرنسية التي أدت الى سلسلة من حوادث في عالم الانسانية. ثم استصوب هجومهم هذا من قبل الكثيرين، وترقى الافرنج بعد ذلك كثيراً!

الجـواب: ان الفرق في هذا القياس ـ كسابقه ـ فرق ظاهر جداً، لان النصرانية، ولاسيما مذهب الكاثوليك قد استغله رجالات الدولة وخواص الناس كأداة للتحكم والاستبداد. فكان الخواص يديمون نفوذهم على العوام بتلك الوساطة. حتى أصبحت وسيلة لسحق اصحاب الهمم والحمية من العوام الذين كانوا يطلق عليهم اسم؛ (الفوضويين والدهماء)، وباتت وسيلة لسحق المفكرين من دعاة الحرية الذين كانوا يتصدون لاستبداد الخواص ومظالمهم. بل قد عُدّ ذلك المذهب هو السبب في سلب راحة الناس وبث الفوضى في الحياة الاجتماعية، بسبب الثورات التي حدثت في بلاد الافرنج طوال ما يقارب اربعمائة سنة، لذا هوجم ذلك المذهب باسم مذهب آخر للنصرانية لاباسم الالحاد. ونما السخط والعداء عليه لدى طبقة العوام ولدى الفلاسفة، حتى وقعت تلك الحادثة التاريخية المعروفة.

بينما في الاسلام، لايحق لأي مظلوم كان، ولا لأي مفكر كان ان يشكو من الدين المحمدي (على صاحبه الصلاة والسلام) والشريعة الاسلامية، لان هذا الدين لايسخطهم بل يحميهم، وهذا تاريخ الاسلام بين ايدينا، فلم تحدث صراعات دينية طوال التاريخ سوى حادثة او حادثتين. بينما سبّب المذهب الكاثوليكي ثورات داخلية دامت اربعمائة سنة.

ثم ان الاسلام قد اصبح حصناً حصيناً للعوام اكثر منه للخواص، اذ لايجعل الخواص مستبدين على العوام بل يجعلهم خادمين لهم ـ من جهة ـ وذلك بوجوب الزكاة وتحريم الربا. اذ يقول :

((خير الناس أنفعهم للناس))(1) .. ((سيد القوم خادمهم))(2).

فضلاً عن انه يستشهد العقل وينبهه باحالة كثير من الامور ـ في القرآن الكريم ـ الى العقل، ويحثه على التدبر والملاحظة. بقوله تعالى :

[أفلا يتفكرون.. أفلا يتدبرون.. أفلا تعقلون] فيمنح لأهل العلم وارباب الفكر والعقل بهذا مقاماً رفيعاً باسم الدين ويوليهم اهمية خاصة، فلا يعزل العقل، ولايحجر على عقول اهل الفكر ويكمم أفواههم، ولايطلب التقليد الاعمى، كما هو في المذهب الكاثوليكي.

ان اساس النصرانية الحاضرة - لا النصرانية الحقة - واساس الاسلام يفترقان في نقطة مهمة، لذا يسلك كل منهما طريقاً مغايرةً لطريق الآخر في كثير من الجهات الشبيهة بالفروق السابقة. وتلك النقطة المهمة هي:

ان الاسلام دين التوحيد الخالص، يسقط الوسائط والاسباب عن التأثير ويهوّن من شأن أنانية الانسان، مؤسساً العبودية الخالصة لله وحده. فيقطع دابر كل نوع من انواع الربوبيات الباطلة، ويرفضها رفضاً باتاً بدءاً من ربوبية النفس الامارة. لذا لو اصبح أحد الخواص متقياً، لاضطر الى ترك الانانية والغرور. ومن لم يترك الانانية والغرور يتراخ في التدين، بل يدع قسماً من امور الدين.

اما في النصرانية الحاضرة، فلقد ارتضت عقيدة البنوة، لذا تعطي للوسائط والاسباب تأثيراً حقيقياً، ولاتقاوم الانانية باسم الدين، بل تمنح الانانية نوعاً من القداسة، وكأنها وكيل مقدس عن سيدنا عيسى عليه السلام. ولأجل هذا فان خواص النصارى الذين يشغلون أرفع المقامات الدنيوية يستطيعون ان يكونوا متدينين تديناً كاملاً، ومنهم الكثيرون من امثال: (ولسن) وهو الرئيس الأسبق لأمريكا، و(لويد جورج) رئيس الوزراء الاسبق لانكلترا. فهؤلاء أصبحوا متدينين كأي قس متعصب لدينه.

بينما في المسلمين نادراً ما يظل الذين يلجون مثل هذه المقامات على صلابتهم الدينية، وقلما يكونون من اهل التقوى والصلاح، لعدم تركهم الانانية والغرور، والتقوى الحقيقية لاتجتمع والانانية والغرور.

نعم، كما ان تعصب خواص النصارى بدينهم، وتهاون خواص المسلمين بدينهم، يبين فرقاً مهماً ؛ كذلك اتخاذ الفلاسفة الذين برزوا في النصرانية طور المعارض او الاهمال لدينهم، وبناء أغلب الحكماء الذين ظهروا في الاسلام حكمتهم على اسس الدين، يدل على فرق مهم ايضاً.

ثم ان النصارى العوام الذين عانوا البلايا والمصائب وقضوا شطراً من حياتهم في السجون، لم ينتظروا العون من الدين ولم يرجوا منه شيئاً. فكان أكثرهم - في السابق - يضلون ويلحدون. حتى ان الثوار الذين أوقدوا الثورة الفرنسية والذين يطلق عليهم(الدهماء والفوضويون)المشهورون في التاريخ هم من اولئك العوام المنكوبين.

اما في الاسلام، فان الاكثرية المطلقة ممن أفنوا عمراً في السجون وقاسوا البلايا والمصائب ينتظرون العون والمدد من الدين بل يصبحون متدينين.

وهذه الحالة تدل على فرق آخر مهم ايضاً.



C الاشـارة الثـالثــة: يـقـول اهــل الـبـــدع: لـقـد أخـرّنا هـذا التعــصــب الدينــي عــن ركب الحضارة. وان مواكبة العصر بترك التعصب، ولقد تقدمت اوروبا بعد تركها التعصب.

الجواب: انكم مخطئون، وقد انخدعتم، وغُرّر بكم، او تغررون بالناس وتخدعونهم.

ان اوروبا متعصبة بدينها، فلو قلت لشخص بلغاري اعتيادي او لجندي انكليزي، او لشخص سفيه فرنسي: إلبس العمامة، او تلقى في السجن. لقال لكبمقتضى تعصبه: انني لااُهين ديني، ولاأحقر أمتي بمثل هذه الاهانة والتحقير حتى لو قتلتموني.

ثم ان التاريخ شاهد على ان المسلمين ما تمسكوا بدينهم الاّ وترقوا بالنسبة لذلك الزمان، وما أهملوا الدين الاّ تدنوا. بينما النصرانية خلاف هذا. وهذا ايضاً ناشئ من فرق اساسي بينهما.

ثم ان الاسلام لايقاس بغيره من الاديان، لان المسلم اذا انخلع عن الاسلام فلا يؤمن بعدُ بأيّ نبي آخر، بل لا يقرّ بوجوده تعالى، بل لايعتقد بشئ مقدس اصلاً، ولا يجد في وجدانه موضعاً ليكون مبعث الفضائل. اذ يتفسخ وجدانه كلياً. ولأجل هذا فالمرتد عن الاسلام ليس له حق الحياة لتفسخ وجدانه ولأنه يكون كالسم القاتل للمجتمع، بينما الكافر المحارب ـــ في نظر الاسلام ـــ له حق الحياة، فان كان في الخارج وعاهد أو في الداخل وأعطى الجزية. فان حياته مصانة في الاسلام.

اما الملحد من النصارى فيستطيع ان يظل نافعاً للمجتمع، اذ يقبل بعض المقدسات ويؤمن ببعض الانبياء، ويكون مؤمناً بالله من جهة.

فاي مصلحة ياترى يجنيها اهل البدعة - هؤلاء، بل الاصوب اهل الالحاد - في الخروج على الدين؟ فان كانوا يرومون منه أمن البلاد واستتباب النظام فيها، فان ادارة عشرة من الملحدين السفلة الذين لايؤمنون باللّه، ودفع شرورهم أصعب بكثير من ادارة ألف من المؤمنين. وان كانوا يرغبون في الرقي الحضاري، فان امثال هؤلاء الملحدين مثلما يضرون بادارة الدولة فهم يعيقون التقدم ايضاً ؛ اذ يخلّون بالامن والنظام، وهما اساسا الرقي والتجارة. وفي الحقيقة هم مخرّبون بمقتضى مسلكهم. وان أحمق الحمقى في الدنيا هو من ينتظر من امثال هؤلاء الملحدين السفهاء الرقي وسعادة الحياة.

ولقد قال أحد هؤلاء الحمقى، وهو يشغل منصباً مهماً: اننا تأخرنا لقولنا: الله.. الله.. بينما اوروبا تقدمت لقولها : المدفع.. البندقية.!.

ان جواب امثال هؤلاء: السكوت حسب قاعدةL (جواب الاحمق السكوت)) ولكننا نقول قولاً لاولئك العقلاء الشقاة الذين يتبعون امثال هؤلاء الحمقى:

ايها البائسون! هذه الدنيا انما هي دار ضيافة، وان الموت حق، اذ يشهد على ذلك ثلاثون ألف شاهد بجنائزهم يومياً. أتقدرون على قتل الموت؟ أيمكنكم تكذيب هؤلاء الشهود؟ فما دمتم عاجزين عن ذلك فاعلموا ان الموت يدفعكم الى قول: الله.. الله.. فاي من مدافعكم وبنادقكم تتمكن من ان تبدد الظلمات الابدية للمحتضر الذي يعاني السكرات وينور عالمه، بدلاً عن ذكر ((الله.. الله)) واي منها يستطيع ان يبدل يأسه القاتم الى أمل مشرق، غير ذكر ((الله.. الله)).

فما دام الموت موجوداً، وان المصير الى القبر حتماً، وان هذه الحياة ماضية راحلة، وستأتي حياة باقية خالدة، فان قيل : المدفع.. البندقية مرة واحدة فلابد من القول ألف مرة : ((الله.. الله)) بل البندقية نفسها ستقول: ((الله.. الله)) ان كانت في سبيل الله! وسيصرخ المدفع نفسه بـ: الله اكبر. عند الافطار وعند الامساك!.

C الاشارة الرابعة: ان اهل البدع الهدّامين على قسمين :

قسم منهم يظهرون ولاءً للدين، ويقولون: ((اننا نريد تقوية الدين الذي ضعف بغرس شجرته النورانية في تراب القومية))، فيريدون ان يقووا الدين بالقومية. وكأنهم بهذا يخدمون الاسلام.

القسم الثاني؛ ممن يحدثون البدع، فيقولون: اننا نريد تطعيم الامة بلقاحات الاسلام. فيعملون باسم الامة، وفي سبيل القومية، لاجل تقوية العنصرية!

نقول للقسم الاول:

يا علماء السوء البائسين الذين يصدق عليهم اسم ((الصادق الاحمق)).

ويا ايها الصوفيون الجهلاء المجذوبون الفاقدون للعقل:

ان شجرة طوبى الاسلام قد ترسخت عروقها في صلب الكون وحقيقته، وبثت جذورها في ثنايا حقائق الكون كله، فهذه الشجرة العظيمة لايمكن غرسها في تراب العنصرية الموهومة المؤقتة الجزئية الخصوصية السلبية، بل التي لا أساس لها اصلاً وهي المشحونة بالاغراض الظالمة المظلمة. وان السعي لغرسها هناك محاولة بدعية هدامة رعناء.

ونقول للقوميين؛ وهم القسم الثاني من اهل البدع!

يا ادعياء القومية السكارى!

ان العصر السابق، ربما كان يعدّ عصر القومية، اما هذا العصر فليس بعصر القومية، اذ ان مسائل البلشفية والاشتراكية تستحوذ على الافكار، وتحطم مفهوم العنصرية، فلقد ولى عصر العنصرية.

واعلموا ان مليّة الاسلام الدائمة الابدية لا ترتبط مع العنصرية الموقتة المضطربة، ولا تلقح بلقاحاتها.

وحتى لو حدث هذا التطعيم بلقاحات العنصرية فانها تفسد امة الاسلام، ولاتصلح ملية العنصرية ايضاً، ولايبعثها اصلاً.

نعم ان في التطعيم بلقاحات العنصرية ذوقاً موقتاً وقوة موقتة، بل موقتة جداً، وذات عاقبة وخيمة.

ثم - بهذا الامر - سيتولد انشقاق عظيم في امة الترك، انشقاق ابدي غير قابل للالتئام، وحينئذٍ تتلاشى قوة الامة وتذهب هباءً، اذ كل شق يحاول هدم الشق الآخر. فكما إن وجد جبلان في كفتي ميزان، فان قوة ضئيلة جداً تؤدي دوراً مهماً بين تلك القوتين، اذ تقدر ان تنزل احداها الى الاسفل وترفع الاخرى الى الاعلى.

السؤال الثاني: عبارة عن اشارتين:

C الاشـارة الاولى: وهــي الاشــارة الخامســة. وهـي جـواب مختـصر جـداً لسـؤال مهم:

السؤال: هناك روايات صحيحة عديدة حول ظهور المهدي، واصلاحه لهذا العالم بعد فساده في آخر الزمان، إلاّ اننا نعلم ان هذا العصر هو عصر الجماعة، لا الفرد، لأن الفرد مهما أوتي من دهاء - بل حتى لو كان في قوة مائة داهية ـ ولم يكن ممثلاً لجماعة عظيمة، ولم يكن معبراً عن الشخصية المعنوية لها، فانه مغلوب أمام قوة الشخصية المعنوية للجماعة المناوئة له. فكيف اذاً يمكن (للمهدي) - مهما بلغ من قوة الولاية ـ ان يقوم بالاصلاح في هذا الزمان الذي استشري فيه الفساد وعمّ المجتمعات البشرية، وان كانت أعماله كلها خارقة للعادة لخالفت اذاً الحكمة الإلهية الجارية في الكون وسننه المطردة فيها. والخلاصة نريد ان نفهم سرّ مسألة (المهدي).

الجواب: ان الله سبحانه وتعالى، لكمال رحمته، ودليل حمايته للشريعة الاسلامية واستمراريتها وخلودها، قد أرسل في كل فترة من فترات فساد الأمة مصلحاً، أو مجدداً، او خليفة عظيماً، او قطباً أعظم، او مرشداً كاملاً من الاشخاص العظام الأفذاذ ممن يشبهون المهدي، فـازال الفساد،واصلح الامة وحافـظ على الدين.

وما دامت سنة الله قد جرت هكذا، مما لاشك فيه انه سبحانه وتعالى سيبعث في أشد أوقات الفساد، في آخر الزمان، من هو أعظم مجتهد وأعظم مجدد، واعظم قطب، ويكون في الوقت نفسه حاكماً ومهدياً ومرشداً، وسيكون من اهل البيت النبوي.

وان القدير الذي يملأ ما بين السماء والارض بالسحب، ثم يفرغه في دقيقة واحدة لقادر على تهدئة عواصف البحر الجامحة في طرفة عين.. وان القدير ذا الجلال الذي يوجد في ساعة من ايام الربيع نموذج فصل الصيف، ويوجد في ساعة من ايام الصيف زوبعة من زوابع الشتاء، لقادر على تبديد الظلمات المتراكمة في سماء العالم الاسلامي والمخاطر المحدقة به على يدي (المهدي) وقد وَعدَنا بذلك، وهو منجزٌ وعده لامحالة.

وهكذا، اذا ما نظرنا الى هذه المسألة من زاوية دائرة القدرة الإلهية فهي في منتهى السهولة، واذا مانظرنا اليها وتأملنا فيها من زاوية دائرة الاسباب والحكمة الربانية فهي ايضاً في غاية السهولة - بل هو اقرب وأولى شئ للحدوث ـــ حتى قرر أرباب الفكر والنظر على ان الحكمة الربانية تقتضي هكذا، وسيكون حتماً، حتى وإن لم توجد رواية عن المخبر الصادق e في شأنه اي ان مجيئه أمر لازم وضروري. ذلك لان دعاء:

(اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد)..

الذي تكرره الامة، في صلواتهم جميعها، كل يوم خمس مرات في الاقل، وثبت قبوله بالمشاهدة، فان آل محمد e كآل ابراهيم عليه السلام كانوا يتبؤون مركز الصدارة والزعامة دوماً وفي مقدمة جميع السلالات المباركة في مختلف الاعصار والاقطار(1)، وهؤلاء الأبطال من الكثرة، بحيث ان مجموعهم يشكل جيشاً عظيماً جداً.

فاذا ما اتحد هؤلاء السادة وتعاضدوا فعلياً وتساندوا فيما بينهم تسانداً جاداً، وكوّنوا من أنفسهم فرقة موحدة بالفعل، جاعلين الدين الاسلامي الرابطة المقدسة للأمة ومدار صحوتها، فلايمكن لجيش أية امة في العالم أن يصمد أمامهم.

فذلك الجيش الضخم العرمرم، ذو القوة والسطوة هو آل محمد e وهو أخصّ جيش من جيوش (المهدي).

نعم! انه ليس هناك نسل من أنسال البشرية وسلالاتها في تأريخ العالم اليوم، له من القوة والأهمية، والذي امتاز بأعلى مراتب الشرف والحسب الرفيع والنسب العريق، واتصل بمنشئها بالشجرة والمسانيد والاعراف، مثل السادة الذين حظوا بالانتساب الى الدوحة النبوية السامية، آل البيت.

لقد كان هؤلاء السادة دوماً، منذ سالف العصور، رواد كل فرقة من فرق أهل الحقيقة، وزعماء اهل الكمال المشاهير ايضاً. واليوم هم النسل المبارك الطيب الذين يربون على الملايين، وهم المتيقظون ذوو القلوب العامرة والطافحة بالحب النبوي، حظوا بالانتساب الى الدوحة الطاهرة الزكية.. وتتهيأ الحادثات العظام التي ستدفع الى ايقاظ واثارة هذه القوة المقدسة التي تنطوي عليها نفوس هذه الجماعة العظيمة.

فلابد ان تثور تلك الحمية السامية الكامنة لتلك القوة العظيمة، وسيأخذ (المهدي) زمام القيادة ويقودها الى طريق الحق والحقيقة.

ونحن ننتظر من سنته، ومن رحمته تعالى ـ انتظارنا للربيع عقب هذا الشتاء ـ وقوع هذا الحدث العظيم، ونحن محقون في هذا الانتظار.

C الاشارة الثانية: أي؛ الاشارة السادسة:

ان جماعة السيد المهدي النورانية ستصلح وتعمّر ما أفسده نظام السفياني البدعي الهدام، وتحيي السنة النبوية. أي: ان جماعة السفياني الساعية لهدم الشريعة الأحمدية ـ بنية انكار الرسالة الأحمدية في عالم الاسلام ـ ستُقتل وتُبدّد بالسيف المعنوي المعجز لجماعة السيد المهدي.

ثم ان جماعة نصرانية غيورة فدائية ـ ممن يستحقون اسم ((النصرانيون المسلمون)) ـ تسعى هذه الجماعة للجمع والتوفيق بين الدين الحقيقي لسيدنا عيسى عليه السلام وحقائق الاسلام. وتحت رئاسة سيدنا عيسى عليه السلام تقوم هذه الجماعة بتقويض نظام الدجال وقتل قيادته، تلك القيادة التي تدمّر المدنية والمقدسات البشرية وتجعلها هباءً منثوراً بنية انكار الالوهية في عالم الانسانية. وبهذا تنجي تلك الجماعة بقيادة سيدنا عيسى عليه السلام، البشرية من ويلات انكار الالوهية.

ان هذا السر طويل جداً، اكتفيت بهذه الاشارة القصيرة، حيث قد ذكرنا فيه نبذاً في مواضع أخرى.

C الاشارة السابعة: أي: السؤال الثالث:

يقولون: ان دفاعاتك السابقة، واسلوب جهادك في سبيل الاسلام، ليس هو بما عليه في الوقت الحاضر، ثم انك لاتسلك سلوك المفكرين الذين يدافعون عن الاسلام تجاه أوروبا. فلماذا غيّرت طور (سعيد القديم)؟ ولِمَ لاتجاهد باسلوب المجاهدين المعنويين العظام؟.

الجواب: ان (سعيداً القديم) والمفكرين، قد ارتضوا بقسم من دساتير الفلسفة البشرية، أي يقبلون شيئاً منها، ويبارزونهم باسلحتهم، ويعدّون قسماً من دساتيرها كأنها العلوم الحديثة فيسلّمون بها. ولهذا لايتمكنون من اعطاء الصورة الحقيقية للاسلام على تلك الصورة من العمل. اذ يطعّمون شجرة الاسلام باغصان الحكمة التي يظنونها عميقة الجذور. وكأنهم بهذا يقوون الاسلام.

ولكن لما كان الظهور على الاعداء بهذا النمط من العمل قليل، ولأن فيه شيئاً من التهوين لشأن الاسلام. فقد تركت ذلك المسلك. وأظهرت فعلاً: ان أسس الاسلام عريقة وغائرة الى درجة لاتبلغها ابداً أعمق أسس الفلسفة، بل تظل سطحية تجاهها.

ولقد أظهرت هذه الحقيقة ببراهينها (الكلمة الثلاثون) و (المكتوب الرابع والعشرون) و (الكلمة التاسعة والعشرون).

ففي المسلك السابق؛ يُظن الفلسفة عميقة، بينما الاحكام الاسلامية ظاهرية سطحية، لذا يتشبث باغصان الفلسفة للحفاظ على الاسلام.

ولكن هيهات! أنّى لدساتير الفلسفة من بلوغ تلك الاحكام.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

} الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جآءتْ رُسُل ربنا بالحق{

اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد.

القسم الثامن

الرموز الثمانية

عبارة عن ثماني رسائل صغيرة ، ستنشر كرسالة مستقلة ان شاء الله لذا لم تدرج هنا.

القسم التاسع

التلويحات التسعة



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} الا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون{ (يونس: 62)

(هذا القسم يخص طرق الولاية وهي تسعة تلويحات)(1)

C التلويح الاول:

هناك تحت عناوين " التصوف، والطريقة، والولاية، والسير والسلوك" حقيقة روحانية نورانية مقدسة، طافحة باللذة والنشوة، اعلن عنها كثير من علماء ارباب الكشف والأذواق وتناولوها بالدرس والتمحيص والتعريف، فكتبوا آلاف المجلدات حولها فأخبروا الامة واخبرونا بها، جزاهم الله خيرا كثيرا.

ونحن هنا سنبين بضع رشحات في ضوء ما تلجئنا اليه الاحوال الحاضرة، فهي بمثابة بضع قطرات من بحر تلك الحقيقة الزاخر.

سؤال: ما الطريقة؟

الجواب: ان غاية ((الطريقة)) وهدفها هو معرفة الحقائق الايمانية والقرآنية، ونيلها عبر السير والسلوك الروحاني في ظل المعراج الاحمدي وتحت رايته، بخطوات القلب وصولا الى حالة وجدانية وذوقية بما يشبه الشهود. فالطريقة والتصوف سر انساني رفيع وكمال بشري سام.

اجل!لمّا كان الانسان خلاصة جامعة لهذا الكون، فان قلبه بمثابة خريطة معنوية لآلاف العوالم، اذ كما ان دماغ الانسان - الشبيه بمجمع مركزي للبث والاستقبال السلكي واللاسلكي - وهو بمثابة مركز معنوي لهذا الكون، يستقبل ما في الكون من علوم وفنون ويكشف عنها و يبثها ايضاً، فان قلب الانسان كذلك هو محور لما في الكون من حقائق لا تحد، ومظهر لها، بل هو نواتها. كما بيّن ذلك من لا يحصرهم العد من اهل الولاية فيما سطروه من ملايين الكتب الباهرة.

فما دام قلب الانسان ودماغه لهما هذه المنزلة والموقع، وقد ادرجت في القلب آلاف من مكائن اخروية ضخمة واجهزتها الابدية، كاندراج اجهزة الشجرة الضخمة في بذرتها، فان فاطر ذلك القلب الذي خلقه على هذه الصورة قد اراد تشغيل هذا القلب وتحريكه والكشف عن قدراته والانتقال به من طور ((القوة)) الى طور ((الفعل)).

فما دام سبحانه وتعالى قد اراد هكذا، فعلى القلب اذن ان يقوم بعمله الذي خلق من اجله، كما يقوم العقل بعمله، ولا شك ان اعظم وسيلة لعمل القلب وتشغيله هو التوجه الى الحقائق الايمانية بالاقبال على ذكر الله ضمن مراتب الولاية عبر سبيل ((الطريقة)).

C التلويح الثاني:

ان مفاتيح هذا السير والسلوك القلبي ووسائل التحرك الروحاني ان هي الا ((ذكر الله)) و ((التفكر)) فمحاسن الذكر وفضائل التفكر لا تحصى. فلو صرفنا النظر عن فوائدهما الاخروية التي لا حد لها ونتائجهما في رقي الانسانية الى الكمالات، واخذنا بنظر الاعتبار فائدة واحدة من فوائدهما الجزئية التي يعود نفعها على الانسان في هذه الحياة الدنيوية المضطربة نرى:

ان اي انسان كان لا بد ان يبحث عن سلوان، ويفتش عن ذوق ويتحرى عن انيس يستطيع ان يزيل عنه وحشته ويخفف عنه ثقل هذه الحياة، ويتخفف من غلوائها، ولو جزئياً

وحيث ان ما يهيؤه المجتمع الحضاري من الوسائل المسلية والانس بالآخرين قد تمنح واحداً او اثنين من عشرة من الناس ُانسا موقتا بل ذا غفلة وذهول، والثمانين بالمائة من الناس اما انهم يحيون منفردين بين الجبال والوديان، او ساقتهم هموم العيش الى اماكن نائية موحشة، او ابتلوا بالمصائب او الشيخوخة النذيرة بالآخرة... فهؤلاء جميعاً يظلون محرومين من الانس فلا يأنسون ولا يجدون العزاء بوسائل المجتمع الحضارية!.. لذا فالسلوان الكامل لأمثال هؤلاء، والانس الخالص لهم ليس الا في تشغيل القلب بوسائل الذكر والتفكر.. ففي الاصقاع النائية، وبين شعاب الجبال، وعبر مهاوي الوديان يتوجه الى قلبه مردداً: ((الله .. الله)) مستأنساً بهذا الذكر، ومتفكراً فيما حوله من الاشياء التي يتوجس منها خيفة وتوحي اليه بالوحشة، فإذا بالذكر يضفي عليه الانس والمودة، واذا بالذاكر يقول: ان لخالقي الذي اذكره عباداً لا حد لهم منتشرين في جميع الارجاء فهم كثيرون جداً.. اذن فانا لست وحيداً، فلا داعي للاستيحاش، ولا معنى له.. وبذلك يذوق معنى الانس في هذه الحياة الايمانية، ويلمس سعادة الحياة فيزداد شكره لربه.

C التلويح الثالث:

ان الولاية حجة الرسالة، وان الطريقة برهان الشريعة، ذلك لان ما بلغته الرسالة من الحقائق الايمانية تراها ((الولاية)) بدرجة ((عين اليقين)) بشهود قلبي وتذوق روحاني فتصدّقها، وتصديقها هذا حجة قاطعة لأحقية الرسالة.

وان ما جاءت به ((الشريعة)) من حقائق الاحكام، فان ((الطريقة)) برهان على أحقية تلك الاحكام، وعلى صدورها من الحق تبارك وتعالى بما استفاضت منها واستفادت بكشفياتها واذواقها.

نعم، فكما ان ((الولاية والطريقة)) هما حجتان على أحقية ((الرسالة والشريعة)) ودليلان عليهما، فانهما كذلك سر كمال الاسلام، ومحور انواره، وهما معدن سمو الانسانية ورقيها ومنبع فيوضاتها بأنوار الاسلام وتجليات اضوائه.

ولكن على الرغم مما فيهما من اهمية قصوى فقد انحاز قسم من الفرق الضالة الى انكار اهميتهما، فحرموا الآخرين من انوار هم محرومون منها. ومما يؤسف له بالغ الاسف ان عددا من علماء اهل السنة والجماعة الذين يحكمون على الظاهر وقسما من اهل السياسة الغافلين المنسوبين الى اهل السنة والجماعة يسعون لإيصاد ابواب تلك الخزينة العظمى، خزينة الولاية والطريقة، متذرعين بما يرونه من اخطاء قسم من اهل الطريقة وسوء تصرفاتهم، بل يبذلون جهدهم لهدمها وتدميرها وتجفيف ذلك النبع الفياض بالكوثر الباعث على الحياة، علماً انه يندر ان يوجد في الاشياء او في المناهج او المسالك ما هو مبرأ من النقص والقصور، وان تكون جوانبه كلها حسنة صالحة، فلا بد اذاً من حدوث نقص وأخطاء وسوء تصرف، اذ ما دخل امراً من ليسوا من أهله الا اساؤا اليه. ولكن الله تعالى يظهر عدالته الربانية في الاخرة على وفق موازنة الاعمال وتقويمها، برجحان الحسنات او السيئات، فمن رجحت حسناته وثقلت، فله الثواب الحسن وتقبل اعماله، ومن رجحت سيئاته وخفت حسناته فله العقاب وتُردّ اعماله، علما انه لا تؤخذ ((كمية)) الاعمال بنظر الاعتبار في هذه الموازنة مثلما ينظر الى ((النوعية)). فربّ حسنة واحدة ترجح الف سيئة بل قد تذهبها وتمحوها وتكون سبباً في انقاذ صاحبها.

فما دامت العدالة الإلهية تحكم على وفق هذا الميزان، وان الحقيقة تراها عين الحق، فلا ريب ان حسنات الطريقة التي هي ضمن دائرة السنة المطهرة لهي ارجح من سيئاتها.

ولا ادل على ذلك من احتفاظ اهل الطريقة بايمانهم اثناء هجوم اهل الضلالة، حتى ان منتسباً اعتيادياً مخلصاً من اهل الطريقة يحافظ على نفسه اكثر من اي مدّع كان للعلم. اذ ينقذ ايمانه بما حصل عليه من الذوق الروحي في الطريقة وبما يحمله من حب تجاه الأولياء، فحتى بارتكابه الكبائر لا يكون كافراً وانما يكون فاسقاً، اذ لا يلج صفوف الزندقة بيسر، وليست هناك قوة تستطيع ان تجرح ما ارتضاه من ولاء تجاه سلسلة اقطاب المشايخ الذين ارتبط بهم بمحبة شديدة واعتقاد جازم، وحيث ان الضلالة لا تستطيع ان تفند او تفسد ما لديه من الثقة والاطمئنان بهم، فلن تحل ما لديه من الثقة والرضا بهم، ولن يدخل الكفر والالحاد ما لم يفقد تلك الثقة بهم. فالذي ليس له حظ من الطريقة، ولم يشرع قلبه بالحركة، من الصعوبة بمكان - في هذا الوقت - ان يحافظ على نفسه محافظة تامة امام دسائس الزنادقة الحاليين، ولوكان عالماً مدققاً.

بقي امر آخر هو انه لا يمكن ان تدان ((الطريقة)) ولا يحكم عليها بسيئات مذاهب ومشارب اطلقت على نفسها ظلماً اسم ((الطريقة)) وربما اتخذت لها صورة خارج دائرة التقوى بل خارج نطاق الاسلام.

فلو صرفنا النظر عن النتائج السامية التي تُوصل اليها الطريقة سواء منها الدينية او الاخروية او الروحية، ونظرنا فقط الى نتيجة واحدة منها ضمن نطاق العالم الاسلامي نرى ان ((الطريقة)) هي في مقدمة الوسائل الايمانية التي توسع من دائرة الاخوة الاسلامية بين المسلمين وتبسط لواء رابطتها المقدسة في ارجاء العالم الاسلامي.

وقد كانت الطرق الصوفية وما زالت كذلك احدى القلاع الثلاث التي تتحطم على جدرانها الصلدة هجمات النصارى بسياساتهم ومكايد الذين يسعون لاطفاء نورالاسلام.. فيجب ألاّ ننسى فضل اهل الطرق في المحافظة على مركز الخلافة الاسلامية ((استانبول)) طوال خمسمائة وخمسين سنة رغم هجمات عالم الكفر وصليبية اوروبا. فالقوة الايمانية، والمحبة الروحانية، والاشواق المتفجرة من المعرفة الإلهية لاولئك الذين يرددون ((الله.. الله..)) في الزوايا والتكايا المتممة لرسالة الجوامع والمساجد، والرافدة لهما بجداول الايمان حيث كانت تنبعث انوار التوحيد في خمسمائة مكان، لتشكّل بمجموعها اعظم نقطة ارتكاز للمؤمنين في ذلك المركز الاسلامي.

فيا ادعياء الحمية ويا سماسرة القومية المزيفين! الا تقولون اية سيئة من سيئات الطريقة تفسد هذه الحسنة العظيمة في حياتكم الاجتماعية؟!

C التلويح الرابع

ان سلوك طريق الولاية مع سهولته هو ذو مصاعب، ومع قصره فهو طويل جداً، ومع نفاسته وعلوه فهو محفوف بالمخاطر، ومع سعته فهو ضيق جداً.

فلأجل هذه الاسرار الدقيقة، قد يغرق السالكون في هذه السبيل، وقد يتعثرون ويتأذون، بل قد ينكصون على اعقابهم ويضلون الآخرين. فعلى سبيل المثال؛ هناك ((السير الانفسي)) و ((السير الآفاقي)) وهما مشربان ونهجان في الطريقة.

فالسير الانفسي يبدأ من النفس، ويصرف صاحب هذا السير نظره عن الخارج، ويحدق في القلب مخترقاً انانيته. ثم ينفذ منها ويفتح في القلب ومن القلب سبيلاً الى الحقيقة.. ومن هناك ينفذ الى الآفاق الكونية فيجدها منورة بنور قلبه، فيصل سريعاً، لان الحقيقة التي شاهدها في دائرة النفس يراها بمقياس اكبر في الآفاق. واغلب طرق المجاهدة الخفية تسير وفق هذه السبيل.

واهم اسس هذا السلوك هو كسر شوكة الانانية وتحطيمها، وترك الهوى واماتة النفس.

اما النهج الثاني فيبدأ من الآفاق، ويشاهد صاحب هذا النهج تجليات اسماء الله الحسنى، وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الدائرة الافاقية الكونية الواسعة ثم ينفذ الى دائرة النفس، فيرى انوار تلك التجليات بمقاييس مصغرة في آفاق كونه القلبي، فيفتح في هذا القلب اقرب طريق اليه تعالى، ويشاهد ان القلب حقا مرآة الصمد. فيصل الى مقصوده، ومنتهى امله.

وهكذا ففي المشرب الاول ان عجز السالك عن قتل النفس الامارة، ولم يتمكن من تحطيم الانانية بترك الهوى، فانه يسقط من مقام الشكر الى موقع الفخر، ومنه يتردى الى الغرور، واذا ما اقترن هذا بما يشبه السكر الناشئ من انجذاب آت من المحبة، فسوف يصدر عنه دعاوى اكبر من حده، واعظم من طوقه، تلك التي يطلق عليها ((الشطحات)). فيضر نفسه ويكون سبباً في الاضرار بالاخرين.

ان مثل صاحب الشطحات كمثل ضابط صغير برتبة ملازم. تستخفه نشوة القيادة واذواقها في محيط دائرته الصغرى، فيتخيل نفسه في لحظة انتشاء وكأنه المشير الذي يقود الفيالق والجحافل، فتختلط في ذهنه الامور، ويلتبس عليه امر القيادة ضمن دائرته الصغرى مع القيادة الكلية الواسعة ضمن دائرتها الكبرى، تماما كما يلتبس في النظر على بعض الناس صورة الشمس المنعكسة من مرآة صغيرة، مع صورتها المنعكسة من سطح البحر الشاسع، من حيث تشابههما في صورة الانعكاس، رغم اختلافهما في السعة والكبر.

وكذلك فان كثيرا من اهل الولاية من يرى نفسه اكبر واعظم بكثير ممن هم ارقى واسمى منه، بل ممن نسبته اليهم كنسبة الذباب الى الطاووس.

ولكنه ـــ اي صاحب الدعاوى ـــ يرى نفسه كما يصف، و يراها كما يقول، محقا في رؤيته. حتى انني رأيت من يتقلد شارات القطب الاعظم ويدعي حالاته، ويتقمص اطواره، وليس له من صفات القطبية الا انتباه القلب وصحوته، وسوى الشعور بسر الولاية من بعيد، فقلت له:

يا اخي! كما ان قانون السلطنة له مظاهر عديدة جزئية او كلية على نمط واحد في جميع دوائر الدولة، ابتداء من رئاسة الوزارة الى ادارة ناحية صغيرة، فان الولاية، والقطبية كذلك لها دوائر مختلفة ومظاهر متنوعة، ولكل مقام ظلال كثيرة. فأنت قد شاهدت الجلوة العظمى والمظهر الاعظم للقطبية الشبيهة برئاسة الوزارة ضمن دائرتك الصغيرة الشبيهة بادارة الناحية، فالتبس عليك الامر وانخدعت، اذ ان ما شاهدته صواب وصدق، الا ان حكمك هو الخطأ، حيث ان غرفة من الماء بالنسبة للذبابة بحر واسع.

فانتبه ذلك الاخ بكلامي، ونجا من تلك الورطة بمشيئة الله.

ورأيت كذلك عدداً من الناس يعدون انفسهم مقاربين او مشابهين ((للمهدى))، ويقول كل منهم: سأصبح ((المهدى))!

هؤلاء ليسوا كاذبين ولا مخادعين، ولكنهم ينخدعون، اذ يظنون ما يرونه هو الحق، ولكن كما ان الاسماء الحسنى لها تجلياتها ابتداء من العرش الاعظم وحتى الذرة، فان مظاهر هذه التجليات في الاكوان والنفوس تتفاوت بالنسبة نفسها، وان مراتب الولاية التي هي نيل مظاهرها والتشرف بها هي الاخرى متفاوتة.

عبدالرزاق 02-03-2011 02:20 PM

رد: المكتوبات
 
واهم سبب لهذا الالتباس هو كون بعض مقامات الاولياء فيه شئ من خواص ((المهدي)) ووظائفه، ويشاهد فيه انتساب خاص مع القطب الاعظم وعلاقة خاصة بالخضر، فهناك مقامات لها علاقات وروابط مع بعض المشاهير، حتى يطلق على تلك المقامات ((مقام الخضر)) و((مقام اويس)) و((مقام المهدية)). وعليه فالواصلون الى ذلك المقام، والى جزء منه، او الى ظل من ظلاله، يتصورون انفسهم انهم هم اولئك الافذاذ المشهورون، فيعتبر الواحد منهم انه هو الخضر او المهدي، او يتخيل انه القطب الاعظم.

فان كانت الانانية فيه قد مُحقت حتى لم يعد لها استشراف وتطلع لحب الجاه والتفاخر على الاخرين فلا يُدان، ونعتبر دعاواه الخارجة عن حده ((شطحات)) قد لا يكون مسؤولا عنها، ويمكن التجاوز عنها.

اما هذه الدعاوى عند الشخص الذي ما زالت الانانية فيه متوفزة، متطلعة لحب الجاه، فستغلبه هذه الانانية وتأخذ بيده الى منازل الفخر مخلفاً وراءه مقام الشكر، ومن هناك يتردى تدريجياً الى هاوية الغرور الماحق للحسنات. فاما ان يتردى الى الجنون، او يضل ضلالاً بعيداً، وذلك لانه جعل نفسه في عداد اولئك الاولياء العظام، وهذا بحد ذاته سوء ظن بهم، لانه يخلع ما في نفسه من قصور، تدركه النفس مهما اغترت على اولئك الاولياء الافذاذ الذين يراهم بمنظار نفسه القاصرة، فيتوهم ان اولئك العظام مقصرون مثله، فيقل احترامه لهم، وبالتالي قد يقل احترامه حتى للانبياء عليهم السلام.

فيجب على هؤلاء المتلبسين ان يمسكوا ميزان الشريعة بايديهم ليزنوا اعمالهم، ويقفوا عند حدود ما حده علماء اصول الدين من دساتير، ويسترشدوا بتعليمات الامام الغزالي والامام الرباني وامثالهم من الاولياء المحققين العلماء، وان يضعوا انفسهم دائماً موضع التهمة، ويعرفوا ان القصور والعجز والفقر ملازم للنفوس مهما ارتقت وتسامت.

فما في هذا المشرب من شطحات عند بعض السالكين، منبعه حب النفس، حتى ليتعاظم هذا الحب فيظن الواحد منهم صفاء نفسه، ولمعان ذاته قطعة الماس رغم انها ليست الا قطعة زجاج تافهة في الحقيقة، اذ عين الرضا كليلة عن العيوب.

هذا وان اخطر المهالك في هذا النوع من السلوك هو: ان المعاني الجزئية التي ترد على قلب السالك بشكل الهام، يتخيلها - هذا السالك - كلام الله، ويعبر عن كل الهام وارد بــ ((آية)) فيمتزج بهذا الوهم عدم احترام لتلك المرتبة السامية العليا للوحي.

نعم ان كل الهام ابتداء من الهام النحل والحيوانات الى الهام عوام الناس والى الهام خواص البشرية، والى الهام عوام الملائكة، والى الهام المقربين الخواص منهم، انما هو نوع من الكلمات الربانية، ولكن الكلام الرباني تجلي الخطاب الرباني المتنوع المتلمع من خلال سبعين الف حجاب حسب قابليات المظاهر والمقامات.

اما ((الوحي)) فهو الاسم الخاص لكلام الله جل وعلا، وابهر مثاله المشخص، هو الذي اطلق على نجوم القرآن، وكل منجمة منه ((آية)) كما ورد توقيفاً. فتسمية هذه الانواع من الالهام بــ (الايات) خطأ محض. اذ بمقدار النسبة بين صورة الشمس الصغيرة الخافتة المتسترة المشاهدة في المرآة الملونة في ايدينا مع الشمس الحقيقية الموجودة في السماء، تكون النسبة بين الالهام الموجود في قلوب اولئك الادعياء وبين آيات شمس القرآن الكريم التي هي كلام إلهي مباشر [كما بينا واثبتنا ذلك في كل من الكلمات الثانية عشرة والخامسة والعشرين والحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات))].

نعم: اذا قيل ان صورة الشمس الظاهرة في مرآة هي صورتها حقاً وذات علاقة مع الشمس الحقيقية، فهذا الكلام لا غبار عليه وهو حق، الا انه لا يمكن ربط الكرة الارضية الضخمة بهذه الشموس ((المرآتية)) المصغرة، ولا يمكن شدها الى جاذبيتها.

C التلويح الخامس:

يعتبر ((وحدة الوجود)) التي تضم ((وحدة الشهود)) من المشارب الصوفية المهمة وهي تعني: حصر النظر في وجود ((واجب الوجود))، اي ان الموجود الحق هو: ((واجب الوجود)) سبحانه فحسب، وان سائر الموجودات ظلال باهتة وزيف ووهم لاتستحق اطلاق صفة الوجود عليها حيال ((واجب الوجود)) لذا فان اهل هذا المشرب يذهبون الى اعتبار الموجودات خيالا ووهماً، ويتصورونها عدما في مرتبة ترك ما سواه، اي: ((ترك ما سوى الله تعالى)) حتى انهم يتطرفون ويذهبون الى حد اعتبار الموجودات مرايا خيالية لتجليات الاسماء الحسنى.

ان اهم حقيقة يحتويها هذا المشرب هي: ان الموجودات الممكنة ((الممكنات والمخلوقات)) تصغر وتتضاءل عند اصحابها من كبار الاولياء الذين وصلوا الى مرتبة حق اليقين بقوة ايمانهم بحيث تنزل عندهم الى درجة العدم والوهم، اي انهم ينكرون وجود الكون بجانب وجود الله تعالى الذي هو واجب الوجود.

غير ان هناك محاذيرومخاطر عدة لهذا المشرب، اولها واهمها:

ان اركان الايمان ستة، فهناك عدا ركن الايمان بالله، اركان اخرى كالايمان بالاخرة، فهذه الاركان تستدعي وجود الممكنات اي ان هذه الاركان المحكمة لايمكن ان تقوم على اساس خيالي.

فعلى صاحب هذا المشرب ألاّ يصحب معه هذا المشرب، وألاّ يعمل بمقتضاه عندما يفيق من عالم الاستغراق والنشوة. ثم ان عليه الا يقلب هذا المشرب القلبي والوجداني والذوقي الى اسس عقلية وقولية وعلمية، ذلك لان الدساتير العقلية.والقوانين العلمية، واصول علم الكلام النابعة من الكتاب والسنة المطهرين لا يمكنها ان تتحمل هذا المشرب، ولاتتسع لامكانية تطبيقه. لذا فلا يرى هذا المشرب في اهل الصحوة الايمانية من الخلفاء الراشدين، والائمة المجتهدين، والعلماء العاملين من اجيال السلف الصالح من هذه الامة، اذن فليس هذا المشرب في اعلى المراتب واسماها، بل قد يكون ذا علو الا انه ناقص في علوه، وقد يكون ذا حلاوة مغرية ولكنه لاذع المذاق. ولظاهر حلاوته، ولجمال ايحائه لا يرغب الداخلون فيه في الخروج منه؛ ويتوهمون ـــ باستشرافات نفوسهم ـــ انه اعلى المراتب واسماها.

ولكوننا قد تناولنا شيئاً من اسس هذا المشرب وماهيته في رسالة نقطة من نور معرفة الله جل جلاله وفي ((الكلمات)) و((المكتوبات)) فاننا نكتفي بذلك، ونقصر الكلام هنا على بيان ورطة خطرة قد يقع فيها قسم من الحائمين حول ((وحدة الوجود)) وهي:

ان هذا المشرب يصلح لأخص الخواص عند حالات الاستغراق المطلق، وللمتجردين من الاسباب المادية، ومن الذين قد قطعوا علائقهم بما سوى الله من الممكنات والاشياء.

ولكن اذا نزل هذا المشرب من علياء الاذواق والمواجيد، والاشواق القلبية الى دائرة المذاهب الفكرية والعلمية وعرض بشكله العلمي والعقلاني على انظار الذين استهوتهم الحياة الدنيا، وغرقوا في الفلسفات المادية والطبيعية، فانه سيكون اغراقاً في الطبيعة والمادة، وابعاداً عن حقيقة الاسلام.

فالشخص المادي المتعلق بالاسباب، والمغرم بالدنيا، يتشوق الى اضفاء صفة الخلود على هذه الدنيا الفانية، لانه يعز عليه ان يرى محبوبته وهي تتبخر بين يديه وتذوب، فيسبغ صفة البقاء والوجود الدائم على دنياه، انطلاقاً من فكرة "وحدة الوجود" فلا يتورع - عندئذٍ - من رفع محبوبته - الدنياــ الى درجة المعبود بعد ان اسبغ عليها صفات الدوام والخلود والبقاء الابدي، فينفتح المجال امامه الى انكار الله سبحانه والعياذ بالله.

ولما كان الفكر المادي قد ترسخت دعائمه في هذا العصر، واستولى على غالبية النشاطات العقلية والعلمية، حتى غدت المادة - عند اصحابه - هي اصل كل شئ ومرجعه، لذا فان ترويج مذهب ((وحدة الوجود)) في هذا العصر - الذي يرى فيه اهل الايمان الخواص الماديات تافهة الى حد العدم - ربما يعطي للماديين حجة ليكونوا دعاة للمذهب نفسه فيخاطبوا اصحابه من اهل الايمان: ((نحن وانتم سواء، نحن ايضاً نقول هكذا ونفكر هكذا)) علما انه لا يوجد مشرب في العالم بعيد عن منهج المادييين وعبدة الطبيعة من مشرب ((وحدة الوجود)). ذلك لان اصحابه يؤمنون بالله ايماناً عميقاً الى درجة يعدون الكون وجميع الموجودات معدوماً بجانب حقيقة الوجود الإلهي، بينما الماديون يولون الموجودات من الاهمية الى حد انهم ينكرون معها وجود الله سبحانه وتعالى... فأين هؤلاء من اولئك؟!

C التلويح السادس: وهو ثلاث نقاط:

النقطة الاولى:

ان اتباع السنة النبوية المطهرة هو اجمل وألمع طريق موصلة الى مرتبة الولاية من بين جميع الطرق، بل اقومها واغناها. والاتباع يعني: تحري المسلم السنة السنية وتقليدها في جميع تصرفاته واعماله، والاستهداء بالاحكام الشرعية في جميع معاملاته وافعاله. فان اعماله اليومية ومعاملاته العرفية وتصرفاته الفطرية الاعتيادية تأخذ بهذا الاتباع شكل العبادة، فضلا عن ان اتباع السنة وتحري شرع الله في شؤون المؤمن جميعها يجعله في صحوة دائمة، وتذكر للشرع مستمر، وتذكّر الشرع هذا يؤدي الى ذكر صاحب الشرع الذي يؤدي الى تذكر الله سبحانه، وذكر الله سبب لسكينة القلب واطمئنانه. اي ان ساعات العمر ودقائقه يمكن ان تنقضي كلها في عبادة دائمة مطمئنة.

لذلك فان اتباع السنة المطهرة هو طريق الولاية الكبرى، وهو طريق ورثة النبوة من الصحابة الكرام والسلف الصالح.

النقطة الثانية:

الاخلاص هو أهم اساس لجميع طرق الولاية وسبل الطريقة، ذلك لان الاخلاص هو الطريق الوحيد للخلاص من الشرك الخفي. فمن لم يحمل اخلاصاً في ثنايا قلبه فلا يستطيع ان يتجول في تلك الطرق، كما ان ((المحبة)) تشكل امضى قوة في تلك الطرق..

نعم، المحبة! فالمحب لا يبحث عن نقص، بل لا يرغب في ان يرى نقصاً في محبوبه، بل يرى اضعف الدلائل والامارات على كمال محبوبه من اقوى الادلة والحجج، لكونه جانب محبوبه على الدوام.

وبناء على هذا السر، فان الذين يتوجهون بقلوبهم الى معرفة الله عن طريق المحبة، لا يصغون الى الاعتراضات ويجاوزون سريعاً العقبات والشبهات، وينقذون انفسهم بسهولة ويحصنونها من الظنون والاوهام، حتى لو اجتمع عليهم آلاف شياطين الارض، فلن يستطيعوا ان يزيلوا امارة او علامة واحدة تدل على كمال محبوبه الحقيقي وسموه. ومن دون هذه المحبة يتلوى الانسان تحت وساوس نفسه وشيطانه، وينهار امام ما تنفثه الشياطين من اعتــراضات وشــبه. فلا يعصمه شـئ سـوى مـتـانـة ايمــانـه وقوتـه، وشدة انتباهـه وحذره.

اذن فالمحبة النابعة من معرفة الله هي جوهر جميع مراتب الولاية واكسيرها. الا ان هناك ورطة كبيرة للمحبة وهي:

انه يُخشى ان ينقلب المحب من التضرع والتذلل لله - اللذين هما سر العبودية - الى الادلال والطلب والدعاوى. فيطيش صوابه ويتحرك مختالاً بمحبته دون ضوابط او موازين.. ويخشى كذلك ان تتحول المحبة لديه من ((المعنى الحرفي)) الى ((المعنى الاسمي)) اثناء توجهه بالمحبة الى ما سوى الله، فتنقلب عندئذِ من داء شاف الى سم زعاف، اذ يحدث احياناً ان المحب يتوجه الى صفات المحبوب - من دون الله - والى كماله الشخصي وجماله الذاتي، اي يكون الحب بمعناه الاسمي - لذاته - اي يستطيع ان يحبه ايضاً من دون تذكر الله ورسوله! مع ان الواجب عليه عند التوجه بالحب لما سوى الله ان يكون هذا الحب في الله ولله، فيربط قلبه به من حيث كونه مرآة لتجلي اسمائه الحسنى.

ان مثل هذا الحب بالمعنى الاسمي لا يكون وسيلة لحب الله، بل ستاراً من دونه. بينما الحب بالمعنى الحرفي اي بسبب من حب الله، فانه يكون وسيلة الى زيادة حب الله، بل يصح القول انه تجل من تجلياته سبحانه.

النقطة الثالثة:

ان الدنيا هي دار العمل ودار الحكمة، وليست داراً للمكافأة والجزاء. فجزاء الاعمال والبر الذي يحصل هنا يكون في الحياة البرزخية والدار الاخرة، فتؤتي هناك اكلها وثمراتها. فما دامت الحقيقة هكذا يجب عدم المطالبة بثمرات الاعمال الاخروية وجزائها في هذه الدنيا، ولو اعطيت يجب اخذها وقبولها من يد الرب سبحانه بفرح مشوب بالحزن، وسرور ممزوج بالأسى، وليس بفرح وسرور خالصين، ذلك لانه ليس من الحكمة تناول ثمرات الاعمال - التي لن تنفد عند تناولها في الجنة - في مثل هذه الحياة الفانية، اذ يشبه ذلك العزوف عن مصباح خالد النور والاضاءة والتعلق بمصباح لا يتوهج نوره الا دقيقة ثم ينطفئ!

وبناء على هذا السر الدقيق - اي انتظار الاجر في الحياة الآخرة - فان الاولياء يستعذبون مشاق الاعمال ومصاعبها والمصائب والبلايا، فلا يشكون ولا يتذمرون.

بل لسانهم دائماً وابداً يردد: الحمدلله على كل حال. واذا وهب الله لهم كرامة او كشفاً او نوراً او ذوقاً فانهم يتناولونه بأدب جم ويعدونه التفاتاً وتكرماً منه سبحانه اليهم، فيحاولون ستر الكرامة واخفاءها ولا يظهرونها ولا يفاخرون بها، بل يسارعون الى زيادة شكرهم وتعميق عبوديتهم، وكثيرون منهم يجأرون الى الله ان يحجب هذه الاحوال عنهم ويحجبهم عنها ويتمنوا ذهابها واختفاءها خوفاً من ان يتعرض الاخلاص في عملهم للخلل.

حقاً ان افضل نعمة إلهية يمكن ان ينالها شخص مقبول عند الله هي التي توهب له من دون ان يشعر بها، لكي لا يتحول من حال التضرع والدعاء الى حال الادلال بعباداته وطلب الاجر عليها، ولئلا يتحول من موقع الشكر والحمد الى موقع الدل والفخر.

فاستناداً الى هذه الحقيقة فان الذين يرغبون في سلوك طريق الولاية والطريقة ان كانوا يرغبون في تناول بعض الثمرات الجانبية للولاية، امثال اللذات المعنوية او الكرامات، ويتوجهون اليها ويطلبونها ويلتذون بها.. فان هذا يعني رغبتهم في تناول تلك الثمرات في هذه الحياة الفانية، وهي - اذا حصلت لهم - ثمرات فانية على اي حال كان. وبذلك يفقدون الاخلاص في اعمالهم الذي به ينالون ثمرة الولاية. كما انهم يمهدون السبيل لفقدان الولاية نفسها.

C التلويح السابع

يتضمن اربع نكات

النكتة الاولى:

ان الشريعة هي نتيجة الخطاب الإلهي الصادر مباشرة - دون حاجز او ستار - من الربوبية المطلقة المتفردة بالاحدية.

لذا فان اعلى مراتب الطريقة واسمى درجات الحقيقة لا يعدوان كونهما اجزاء من كلية الشريعة. اما نتائجهما وما يؤولان اليه فهي الاوامر الشرعية المحكمة. فهما دائماً وابداً يظلان بحكم الخادم للشريعة ووسيلة اليها ومقدمة لها.

فالسالك في الطريقة يرتفع تدريجياً الى اعلى المراتب التي ينال فيها ما في الشريعة نفسها من معنى الحقيقة وسر الطريقة. وعندئذ تكون الطريقة والحقيقة اجزاء الشريعة الكبرى.

لذا فليس صحيحاً ما يتصوره قسم من المتصوفة من ان الشريعة قشر ظاهري، وحقيقتها هي لبها ونتيجتها وغايتها.

نعم، يتنوع انكشاف الاحكام الشرعية ويختلف بالنسبة لمستويات الناس وفهمهم وطبقات مداركهم، فما يظهر منها وينكشف للعوام هو غير ما يظهر وينكشف للخواص..

انه من الخطأ توهم ما يظهر من الشريعة للعوام هو حقيقة الشريعة، واطلاق اسم ((الحقيقة)) و((الطريقة)) على مرتبة الشريعة المنكشفة للخواص.

فالشريعة لها مراتب متوجهة الى جميع طبقات البشر.

وبناء على هذا السر، فان اهل الطريقة، واصحاب الحقيقة كلما تقدموا في مسلكهم وارتقوا في معارجهم، وجدوا انفسهم منجذبين اكثر الى الحقائق الشرعية، متبعين لها، مندرجين ضمن غاياتها ومقاصدها. حتى انهم يتخذون ابسط انواع السنة النبوية الشريفة كأعظم مقصد وغاية، ويسعون الى اتباعها وتقليدها.

لانه بمقدار سمو الوحي وعلوه على الالهام، فالآداب الشرعية التي هي ثمرة الوحي هي اسمى واعلى من آداب الطريقة التي هي ثمرة الالهام، لذا فان اهم اساس للطريقة هو اتباع السنة النبوية المطهرة.

النكتة الثانية:

ينبغي الا تتحول الطريقة والحقيقة من كونهما وسيلتين الى غايتين بحد ذاتهما (تستحوذانعلى قلب السالك وفكره ووجدانه). فاذا اصبحتا - الطريقة والحقيقة - مقصودتين بالذات، فان الاعمال الشرعية المحكمة، وآداب السنة السنية، تنحسر حتى تأخذ الدرجة الثانية من الاهتمام لدى السالك، وتصبح صورية شكلية بانشغال القلب بالتوجه الى آداب الطريقة ورسومها. اي ان المرء - عندئذِ - يفكر بحلقة الذكر اكثر من تفكيره بالصلاة، وينجذب الى اوراده اكثر من انجذابه الى الفرائض، ويلزم نفسه بتجنب مخالفة آداب الطريقة اكثر من التزامه بتجنب الكبائر، والحال ان اداء فريضة واحدة التزاماً بالاوامر الشرعية لا يمكن ان توازيها اوراد الطريقة او تحل محلها.

فآداب الطريقة، واوراد التصوف، وما يحصل للسالك منهما من اذواق ينبغي ان تكون مدخلاً لأذواق أحلى وأعلى وأسمى، يحصل عليها هذا السالك من اداء الفرائض والسنن.

أي ان ما يأخذه المرء من التكية من اذواق، لا بد ان تكون استهلالاً لاذواق الصلاة التي يؤديها في الجامع، بقيامه بأركانها وأدائها على الوجه المطلوب، وإلا فالذي تشغله اذواقه في التكية عن صلاته في الجامع، فيؤديها بخفة وسرعة صورية وشكلية لا حرارة فيها ولا روح، انما يبتعد عن الحقيقة.

النكتة الثالثة:

سؤال: هل يمكن ان توجد طريقة خارج نطاق السنة النبوية الشريفة واحكام الشريعة؟

الجواب: نعم ولا!

نعم، لأن عدداً من الاولياء الكاملين قد اعدموا بسيف الشريعة. ولا، لأن الاولياء المحققين قد اتفقوا على القاعدة التي ذكرها سعدي الشيرازي(1) شعراً:

محالست سعدى براه صفا ظفر بردن جز در بى مصطفى

اي محال ان يصل احد الى الانوار الحقيقية للحقيقة خارج الصراط الذي اختطه الرسول e ، ومن دون اتباع لخطواته.

وسر هذه المسألة هو الآتي:

ما دام الرسول e هو خاتم الانبياء والمرسلين وقد خاطبه الله سبحانه باسم البشرية وممثلا عنها، فلا بد ألاّ تسير البشرية خارج الصراط الذي بينه، فالانضواء تحت لوائه ضروري.

ولكن ما دام اهل الجذب والاستغراق ليسوا مسؤولين عن مخالفاتهم، لما في الانسان من لطائف لا ترضخ للتكاليف الشرعية، فعندما تتحكم فيه تلك اللطيفة لا يبقى مسؤولا امام التكاليف الشرعية، ومادام في الانسان لطائف اخرى لا ترضخ لارادة الانسان كعدم رضوخها للتكاليف، بل لا تنقاد لتدبير العقل ولا تذعن لاوامر القلب والعقل.. فلا بد ان تلك اللطيفة عندما تستحوذ على شخص ما فانه لا يسقط من مرتبة الولاية بمخالفته الشرع، وانما يعد معذوراً - في تلك الاثناء فقط - بشرط الا يصدر عنه شئ ينافي حقائق الشرع وقواعد الايمان انكاراً او تزييفاً او استخفافاً. وينبغي ان يصدق بأحقية الشرع وان لم يكن يؤدي حقه حق الاداء.. والا اذا غلبت عليه الحال، وصدر عنه ما يشم منه التكذيب والانكار لتلك الحقائق المحكمة - نعوذ بالله - فذلك علامة الهلاك.

حاصل الكلام: ان اهل الطريقة الذين هم خارج دائرة الشرع قسمان:

قسم منهم كما ذكرناه آنفاً، فهؤلاء اما ان يكون قد غلب عليه الحال والاستغراق والجذب والسكر. او يكون مغلوباً لسيطرة لطائف لا تنقاد للتكاليف ولا تعير بالاً للارادة، فيخرج من دائرة الشرع.

ولكن هذا الخروج لا ينشأ من عدم الرضى بالشرع، او من رفض الاحكام الشرعية، بل يترك تلك الاحكام اضطراراً دون ارادة منه، فهناك اولياء من هذا القسم، فضلاً عن ان اولياء كباراً قد قضوا فترة بينهم متلبسين بهذه الحال. بل من هذا النوع مَن حكم عليهم اولياء محققون، انهم ليسوا خارجين عن دائرة الشرع وحدها، بل منهم مَن هو خارج عن دائرة الاسلام. الا بشرط ألاّ يكذبوا بجميع ما جاء به الرسول e مِن احكام، مع انهم لا يؤدون حقها، إما لعدم تفكرهم بها، او لعدم استطاعتهم التوجه اليها، او لعدم تمكنهم من معرفتها، او عدم فهمها. ولكن اذا عرفها احد منهم ورفضها فقد هلك.

اما القسم الثاني: فهم المنجذبون لنشوة الاذواق البراقة للطريقة والحقيقة فلا يبالون بالحقائق الشرعية التي هي ارقى من مستوى مذاقهم. ويعتبرها احدهم غير ذات مذاق لعجزه عن بلوغها. فيؤديها صورية شكلية، وهكذا يبلغ به الامر تدريجياً الى ان يظن ان الشريعة مجرد قشر ظاهري، وان ما وجده من الحقيقة هو الاساس والغاية والقصد، فيقول: حسبي ماوجدته. فيقوم بافعال مخالفة لما يأمر به الشرع! فالذين لم يفقدوا شعورهم وعقولهم من هذا القسم مسؤولون عن اعمالهم، ويدانون، بل يهلكون، حتى يكون قسم منهم موضع هزء وسخرية للشيطان.

النكتة الرابعة:

ان اشخاصاً من الفرق الضالة والمبتدعة يكونون من المقبولين بنظر الامة، غير ان امثالهم تردّهم الامة وترفضهم دون ان يكون هناك فرق ظاهري بينهما!!

كنت في حيرة من هذا الامر، فالزمخشري(1) المعتزلي الشديد التعصب لمذهبه لا يكفره اهل التحقيق من اهل السنة ولا يدرجونه في صفوف الضالين على الرغم من اعتراضاته القاسية عليهم، بل يجدون له مبرراً ومجالاً للنجاة، الا ان أبا علي الجبائي(1) وهو ايضاً من ائمة المعتزلة يطرده اهل السنة المحققون ويعدون آراءه مردودة مع انه اخف تعصباً من السابق بكثير، كان هذا يأخذ قسطاً كبيراً من تفكيرى، ثم فهمت بلطف إلهي:

ان اعتراضات الزمخشري على أهل السنة نابعة من محبة الحق الذي يدعو اليه مسلكه، الذي يظنه حقاً كقوله: ان التنزيه الحقيقي لله سبحانه هو بأن يكون الاحياء - في نظره - هم خالقين لافعالهم، لذا فلمحبته الناشئة من تنزيه الحق سبحانه يرد قاعدة اهل السنة في خلق الافعال. اما سائر ائمة الاعتزال المرفوضين فانهم ما انكروا سبيل اهل السنة لفرط محبتهم الحق، وانما لقصور عقولهم عن دساتير اهل السنة السامية، وعجز عقولهم الضيقة عن استيعاب قوانين اهل السنة الواسعة. لذا فأن اقوالهم مردودة وهم مطرودون.

فكما ان مخالفة المعتزلة لاهل السنة هذه بشكلين، وهي الواردة في كتب علم الكلام فان اهل الطريقة الخارجين عن السنة المطهرة ومخالفتهم لها ايضاً من جهتين:

الاولى: ان ينجذب الولي لحاله ونهجه كانجذاب الزمخشري لمذهبه غير مهتم الى حد ما بآداب الشرع التي لم يبلغ اذواقها بعد.

الثانية: ان ينظر الولي الى آداب الشريعة انها غير ذات اهمية اصلاً بالنسبة لدساتير الطريقة وقواعدها (حاش لله) لكونه قد عجز عن ان يستوعب تلك الاذواق الواسعة، فمقامه القصير لا يستطيع ان يبلغ تلك الآداب الرفيعة.

C التلويح الثامن:

وفيه ثمانية مزالق وورطات:

الاولى:

ان الورطة التي يسقط فيها سالكون من الطرق الصوفية - ممن لا يتبعون السنة النبوية على الوجه الصحيح - هي اعتقادهم بأرجحية الولاية على النبوة!! ولقد اثبتنا مدى سمو النبوة على الولاية وخفوت ضوء الاخيرة امام نور النبوة الساطع في الكلمة الرابعة والعشرين والكلمة الحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات)).



الثانية:

وهي تفضيل قسم من المفرطين، الاولياء على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بل رؤيتهم في مرتبة الانبياء عليهم السلام. وقد شرحنا في الكلمة الثانية عشرة والكلمة السابعة والعشرين ((الاجتهاد)) وفي ذيلها الخاص بالصحابة كيف ان للصحابة الكرام خواص متميزة بسبب الصحبة النبوية، بحيث لا يمكن للاولياء ان يبلغوا مرتبتهم اصلاً فضلاً عن ان يتفوقوا عليهم. ولا يمكنهم ان يبلغوا قطعاً مرتبة الانبياء.



الثالثة:

وهي ترجيح بعض المتطرفين والمتعصبين جداً للطريقة لأوراد طريقتهم وآدابها على اذكار السنة النبوية الشريفة، فيسقطون بذلك الى منزلق مخالفة السنة النبوية وتركها، في الوقت الذي يظلون متشبثين بأوراد طريقتهم، أي انهم يسلكون سلوك غير المبالي بآداب السنة النبوية الشريفة فيهوون في الورطة، وكما اثبتنا في كلمات كثيرة، وكما اكد كبار محققي الطرق كالامام الغزالي والامام الرباني:

((ان اتباع سنة واحدة من السنن النبوية يكون مقبولاً عند الله اعظم من مائة من الآداب والنوافل الخاصة. اذ كما ان فرضاً واحداً يرجح الفاً من السنن، فان سنة واحدة من السنن النبوية ترجح الفاً من آداب التصوف)).



الرابعة:

ان بعض المتطرفين من اهل التصوف يظنون خطأً ان ((الالهام)) بمرتبة ((الوحي))، كما يعتبرون الالهام نوعاً من انواع الوحي فيسقطون في هذا المزلق الخطير، وقد برهنّا سابقاً في (( الكلمة الثانية عشرة)) و((الكلمة الخامسة والعشرين)) المتعلقة باعجاز القرآن وفي رسائل اخرى؛ كيف ان الوحي سام وعال وساطع وضاء وكلي شامل بينما الالهام بالنسبة اليه جزئي وخافت.



الخامسة:

ان بعض المتصوفين ممن لم يدركوا تماما سر الطريقة - في كونها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها - قد ينجذبون ويتوجهون الى ما يفاض عليهم من الكرامات والاذواق والانوار، تلك التي توهب ولا تسأل اذ يمنحها الله سبحانه تقوية للضعفاء، وتشجيعاً للمتكاسلين، وتخفيفاً من المشقة والسأم - الذي يعتريهم من شدة الاجهاد في العبادة - فينجرون الى تفضيل تلك الكرامات والاذواق والانوار على فروض الدين والخدمة تحت لوائه وقراءة الاذكار والاوراد، فيسقطون في هذا المزلق.

وقد سبق ان اجملنا في النقطة الثالثة من التلويح السادس وفي كلمات اخرى، بأن هذه الدنيا هي دار خدمة وعمل وليس دار ثواب ومكافأة، فالذين يرغبون في قطف ثمار اعمالهم في هذه الحياة الفانية، انما يستبدلون المكافأة الدنيوية الفانية بثمار الاخرة الابدية الباقية، فضلاً عن ان هذا يدل على بقايا تعلق بالدنيا ورغبة في الاستمتاع بها، ويكون هذا سبباً في خفوت شوقهم وتطلعهم الى الحياة البرزخية، بل يريدون هذه الحياة، اذ يجدون فيها نوعاً من ثمار الآخرة.



السادسة:

وهي المنزلق الذي يقع فيه قسم من سالكي الطرق الصوفية من غير اهل الحقيقة عندما يلتبس عليهم الامر فيتوهمون بان ظلال مقامات الولاية ونماذجها المصغرة كأنها هي المقام الحقيقي والكلي والاصلي..

ولقد اثبتنا في الغصن الثاني من ((الكلمة الرابعة والعشرين)) وفي كلمات اخرى بما لاشك فيه؛ ان الشمس وان تعددت صورها بتعدد المرايا التي تنعكس عليها، فهذه الصور تملك ضياء الشمس وحرارتها ولكن ليس هو الضياء الاصلي نفسه، ولا هي الحرارة نفسها فهي باهتة الانوار بالنسبة للشمس الحقيقية.

كذلك فان لمقام النبوة ولمقام كبار الاولياء، شيئاً من الظلال التي يمكن لاهل الطرق ان يستظلوا بها، ولكنهم يظنون اثناء دخولهم فيها انهم اعظم درجة من كبار الاولياء، بل حتى من الانبياء - والعياذ بالله - فيسقطون في مزلق.

ولانقاذ انفسهم من جميع هذه المزالق المذكورة سابقاً عليهم ان يضعوا اصول الايمان واسس الشرع نصب اعينهم ويتخذوها مرشداً دائماً لهم، وان يخالفوا اذواقهم ومشهوداتهم ويتهموها عند تعارضها مع تلك الاسس.



السابعة:

وهي المزلق الذي يقع فيه قسم من اهل الاذواق والاشواق من اصحاب الطرق عندما ينصرفون الى الفخر والادعاء واشاعة الشطحات وطلب توجه الناس ونيل المرجعيات الدينية، ويفضلون هذه العجالات على الشكر والتضرع والحمد والاستغناء عن الناس، بينما عبودية محمد e هي اسمى مرتبة في العبودية، تلك العبودية التي نستطيع وصفها بالمحبوبية، او عبودية المحبة.

فأساس العبودية وسرها هو التضرع والحمد والدعاء والخشوع والعجز والفقر والاستغناء عن الناس، وبهذا فقط يمكن الوصول الى كمال تلك الحقيقة، حقيقة العبودية.

نعم ان عدداً من الاولياء الكبار اضطروا - دون اختيار منهم لغلبة الحال وبشكل موقت فقط - الى الخروج الى ساحة الفخر والطلب والشطحات، لذا فلا يجوز اتباعهم اختياراً في حالهم هذه، فهم مهتدون، ولكنهم هنا وفي هذه النقطة بالذات ليسوا قدوة في الهداية، لذا لا يمكن السير وراءهم والاقتداء بهم.



الثامنة:

وهي الورطة التي يتورط فيها قسم من المتعجلين والقاصدين المنافع الذاتية من اهل الطرق من الذين يرغبون في تناول ثمرات الولاية في الدنيا بدلاً من قطفها في الآخرة. وعندما يدل سلوكهم على هذه الرغبة، وتتكشف نيتهم من خلال هذا السلوك يكونون فعلاً قد سقطوا في هذه الورطة. علماً ان آيات كثيرة في القرآن الكريم من امثال } وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور{ (آل عمران:185) تدل بوضوح ما اثبتناه سابقاً في عدة ((كلمات)) من ان ثمرة واحدة من ثمرات عالم البقاء ترجح الف بستان في هذه الحياة الفانية، لذا فالافضل عدم تناول تلك الثمرات المباركة هنا، وان اعطيت دون توجه ورغبة فيها، فيجب ابداء الحمد والشكر في قبولها - لا على انها مكافأة - بل على انها احسان وفضل من الله وهبت للتشويق.

C التلويح التاسع:

نذكر هنا مجملاً تسع ثمرات من الثمار الوفيرة للطريقة وفوائدها:

الاولى:

هي ظهور الحقائق الايمانية وانكشافها ووضوحها الى درجة عين اليقين بوساطة الطريقة الصحيحة المستقيمة. هذه الحقائق التي هي منابع خزائن ابدية وسعادة دائمة وكنوزها ومفاتيحها.



الثانية:

هي تحقيق الوجود الحقيقي للانسان بانسياق لطائفه جميعاً الى ما خُلقت لأجله. وذلك بأن تكون الطريقة واسطة لتحريك قلب الانسان الذي يعتبر مركزاً لجسمه ولولباً لحركته وتوجيهه الى الله. فيندفع بهذا كثير من اللطائف الانسانية الى الحركة والظهور فتتحقق حقيقة الانسان.



الثالثة:

التخلص من وحشة الانفراد والوحدة في السير والسلوك، والشعور بالانس المعنوي في الحياة الدنيا والبرزخ بالالتحاق باحدى سلاسل الطريقة عند سيرها وتوجهها وسفرها نحو الحياة البرزخية ونحو الحياة الاخروية، وعقد اواصر الصداقة والمحبة بتلك القافلة النورانية في طريق أبد الآباد، فتندفع الاوهام والشبه عن النفس باستناد المريد الى اجماعهم واتفاقهم باعتبار كل استاذ مرشد حجة قوية وسنداً لا يضعف في دفع الاضاليل والاوهام التي ترد الى الذهن.



الرابعة:

وهي خلاص الانسان من الوحشة الهائلة التي تكتنفه في حياته الدنيا، والانسلال من الغربة الاليمة التي يحسها ازاء الكون، وذلك بما تقوم به الطريقة الصائبة الصافية من تفجير ينابيع محبة الله ومعرفته في الايمان.

وقد سبق ان اثبتنا في كلمات عدة بأن سعادة الدارين، واللذة التي لايشوبها ألم، والانس الذي لا تخالطه وحشة، والسعادة الحقيقية لا توجد الا في حقائق الايمان والاسلام التي تسعى الطريقة للوصول اليها كما اننا بينا في ))الكلمة الثانية(( بان الايمان يحمل بذرة شجرة طوبى في الجنة.

نعم فبالتربية الموجودة في الطريقة تنمو تلك البذرة وتكبر.



الخامسة:

الشعور بالحقائق اللطيفة في التكاليف الشرعية وتقديرها بوساطة القلب المنتبه بدوام ذكر الله، كما يعينه على ذلك المنهج التربوي للطريقة. وبذلك تكون الطاعة والعبادة مثار اشتياق وحب، لا مثار تعب وتكليف.



السادسة:

نيل مقام التوكل، ودرجة الرضى، ومرتبة التسليم. هذه المقامات هي السبيل الى تذوق السعادة الحقيقية والتسلية الخالصة واللذة التي لا يشوبها حزن، والانس الذي لا تقربه وحشة.



السابعة:

وهي نجاة الانسان من الشرك الخفي والرياء والتصنع وامثالها من الرذائل وذلك بالاخلاص الذي هو اهم شرط لدى سالك الطريقة واهم نتيجة لها. وكذا التخلص من اخطار النفس الامارة بالسوء ومن أدران الانانية بتزكية النفس التي هي السلوك العملي في الطريقة.



الثامنة:

هي جعل الانسان عاداته اليومية بحكم العبادات واعماله الدنيوية بمثابة اعمال اخروية، والاحسان في استغلال رأس مال عمره من الحياة بدقائقها وجعلها بذوراً تتفتح عن زهرات الحياة الاخروية وسنابلها.

وذلك بدوام الذكر القلبي، والتأمل العقلي، مع الحضور القلبي الدائم والاطمئنان، ودوام شحذ الارادة، والنية الصافية، والعزيمة الصادقة التي تلقنها الطريقة.

التاسعة:

وهي العمل للوصول الى مرتبة الانسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي الى الله طوال سيره وسلوكه، واثناء معاناته الروحية التي تسمو بحياته المعنوية، اي الوصول الى مرتبة المؤمن الحق والمسلم الصادق، اي نيل حقيقة الايمان والاسلام لا صورتيهما، ثم ان يكون الانسان عبداً خالصاً لرب العالمين، وموضع خطابه الجليل، وممثلاً عن الكائنات من جهة، وولياً للّه وخليلاً له، حتى كانه مرآة لتجلياته سبحانه، وفي احسن تقويم حقاً فيقيم الحجة على افضلية بني آدم على الملائكة.

وهكذا يطير بجناحي الايمان والعمل بالشريعة الى المقامات العليا والتطلع من هذه الدنيا الى السعادة الابدية بل الدخول فيها.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صلّ على الغوث الاكبر في كل العصور والقطب الأعظم في كل الدهور سيدنا محمد الذي تظاهرت حشمة ولايته ومقام محبوبيته في معراجه واندرج كل الولايات في ظل معراجه وعلى آله وصحبه اجمعين

آمين والحمد لله رب العالمين

ذيـل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة. ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم بالرغم من فهمي القاصر طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله ((الرحمن)).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله ((الرحيم)).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله ((الحكيم)).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولاسيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

} فلا تُزكّوا انفُسَكم{ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

} ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم{ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

} ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِ{ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

} كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه{ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة } فلا تزكوا انفسكم{ وهي عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما أودعه الله فيه من اجهـزة لحمده سبحـانه وتقديسه الـى نفسه، فيصيبه وصـف الآية الكريمة: } من اتّخذ الهَه هَواه{ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها. فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: } ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم{ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.

والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: } ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك{ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماًمنه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هـذه المرتبة هـي فـي سـر هذه الآية الـكريمة: } قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها{ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: } كُلُّ شَيٍء هالكٌ إلا وجْهَه{ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في ((الكلمات الست والعشرين)) السابقة من كتاب ((الكلمات)) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى ((القدير)) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل ((وحدة الوجود)) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: ((لا موجود الا هو)) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل ((وحدة الشهود)) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: ((لا مشهود الا هو)) للوصول الى الاطمئنان القلبي والحضور الدائمي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمي من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.

المكتوب الثلاثون

وهو (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) باللغة العربية

المكتوب الحادي والثلاثون

وقد انقسم الى إحدى وثلاثين لمعة ضمّت في كتاب (اللمعات).

المكتوب الثاني والثلاثون

وهو(اللوامع) المنشورة ختام (الكلمات).

المكتوب الثالث والثلاثون

رسالة (النوافذ) المطلة الى المعرفة الإلهية.نشرت ضمن (الكلمات)، ولم تدرج هنا.

عبدالرزاق 02-03-2011 02:20 PM

رد: المكتوبات
 
واهم سبب لهذا الالتباس هو كون بعض مقامات الاولياء فيه شئ من خواص ((المهدي)) ووظائفه، ويشاهد فيه انتساب خاص مع القطب الاعظم وعلاقة خاصة بالخضر، فهناك مقامات لها علاقات وروابط مع بعض المشاهير، حتى يطلق على تلك المقامات ((مقام الخضر)) و((مقام اويس)) و((مقام المهدية)). وعليه فالواصلون الى ذلك المقام، والى جزء منه، او الى ظل من ظلاله، يتصورون انفسهم انهم هم اولئك الافذاذ المشهورون، فيعتبر الواحد منهم انه هو الخضر او المهدي، او يتخيل انه القطب الاعظم.

فان كانت الانانية فيه قد مُحقت حتى لم يعد لها استشراف وتطلع لحب الجاه والتفاخر على الاخرين فلا يُدان، ونعتبر دعاواه الخارجة عن حده ((شطحات)) قد لا يكون مسؤولا عنها، ويمكن التجاوز عنها.

اما هذه الدعاوى عند الشخص الذي ما زالت الانانية فيه متوفزة، متطلعة لحب الجاه، فستغلبه هذه الانانية وتأخذ بيده الى منازل الفخر مخلفاً وراءه مقام الشكر، ومن هناك يتردى تدريجياً الى هاوية الغرور الماحق للحسنات. فاما ان يتردى الى الجنون، او يضل ضلالاً بعيداً، وذلك لانه جعل نفسه في عداد اولئك الاولياء العظام، وهذا بحد ذاته سوء ظن بهم، لانه يخلع ما في نفسه من قصور، تدركه النفس مهما اغترت على اولئك الاولياء الافذاذ الذين يراهم بمنظار نفسه القاصرة، فيتوهم ان اولئك العظام مقصرون مثله، فيقل احترامه لهم، وبالتالي قد يقل احترامه حتى للانبياء عليهم السلام.

فيجب على هؤلاء المتلبسين ان يمسكوا ميزان الشريعة بايديهم ليزنوا اعمالهم، ويقفوا عند حدود ما حده علماء اصول الدين من دساتير، ويسترشدوا بتعليمات الامام الغزالي والامام الرباني وامثالهم من الاولياء المحققين العلماء، وان يضعوا انفسهم دائماً موضع التهمة، ويعرفوا ان القصور والعجز والفقر ملازم للنفوس مهما ارتقت وتسامت.

فما في هذا المشرب من شطحات عند بعض السالكين، منبعه حب النفس، حتى ليتعاظم هذا الحب فيظن الواحد منهم صفاء نفسه، ولمعان ذاته قطعة الماس رغم انها ليست الا قطعة زجاج تافهة في الحقيقة، اذ عين الرضا كليلة عن العيوب.

هذا وان اخطر المهالك في هذا النوع من السلوك هو: ان المعاني الجزئية التي ترد على قلب السالك بشكل الهام، يتخيلها - هذا السالك - كلام الله، ويعبر عن كل الهام وارد بــ ((آية)) فيمتزج بهذا الوهم عدم احترام لتلك المرتبة السامية العليا للوحي.

نعم ان كل الهام ابتداء من الهام النحل والحيوانات الى الهام عوام الناس والى الهام خواص البشرية، والى الهام عوام الملائكة، والى الهام المقربين الخواص منهم، انما هو نوع من الكلمات الربانية، ولكن الكلام الرباني تجلي الخطاب الرباني المتنوع المتلمع من خلال سبعين الف حجاب حسب قابليات المظاهر والمقامات.

اما ((الوحي)) فهو الاسم الخاص لكلام الله جل وعلا، وابهر مثاله المشخص، هو الذي اطلق على نجوم القرآن، وكل منجمة منه ((آية)) كما ورد توقيفاً. فتسمية هذه الانواع من الالهام بــ (الايات) خطأ محض. اذ بمقدار النسبة بين صورة الشمس الصغيرة الخافتة المتسترة المشاهدة في المرآة الملونة في ايدينا مع الشمس الحقيقية الموجودة في السماء، تكون النسبة بين الالهام الموجود في قلوب اولئك الادعياء وبين آيات شمس القرآن الكريم التي هي كلام إلهي مباشر [كما بينا واثبتنا ذلك في كل من الكلمات الثانية عشرة والخامسة والعشرين والحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات))].

نعم: اذا قيل ان صورة الشمس الظاهرة في مرآة هي صورتها حقاً وذات علاقة مع الشمس الحقيقية، فهذا الكلام لا غبار عليه وهو حق، الا انه لا يمكن ربط الكرة الارضية الضخمة بهذه الشموس ((المرآتية)) المصغرة، ولا يمكن شدها الى جاذبيتها.

C التلويح الخامس:

يعتبر ((وحدة الوجود)) التي تضم ((وحدة الشهود)) من المشارب الصوفية المهمة وهي تعني: حصر النظر في وجود ((واجب الوجود))، اي ان الموجود الحق هو: ((واجب الوجود)) سبحانه فحسب، وان سائر الموجودات ظلال باهتة وزيف ووهم لاتستحق اطلاق صفة الوجود عليها حيال ((واجب الوجود)) لذا فان اهل هذا المشرب يذهبون الى اعتبار الموجودات خيالا ووهماً، ويتصورونها عدما في مرتبة ترك ما سواه، اي: ((ترك ما سوى الله تعالى)) حتى انهم يتطرفون ويذهبون الى حد اعتبار الموجودات مرايا خيالية لتجليات الاسماء الحسنى.

ان اهم حقيقة يحتويها هذا المشرب هي: ان الموجودات الممكنة ((الممكنات والمخلوقات)) تصغر وتتضاءل عند اصحابها من كبار الاولياء الذين وصلوا الى مرتبة حق اليقين بقوة ايمانهم بحيث تنزل عندهم الى درجة العدم والوهم، اي انهم ينكرون وجود الكون بجانب وجود الله تعالى الذي هو واجب الوجود.

غير ان هناك محاذيرومخاطر عدة لهذا المشرب، اولها واهمها:

ان اركان الايمان ستة، فهناك عدا ركن الايمان بالله، اركان اخرى كالايمان بالاخرة، فهذه الاركان تستدعي وجود الممكنات اي ان هذه الاركان المحكمة لايمكن ان تقوم على اساس خيالي.

فعلى صاحب هذا المشرب ألاّ يصحب معه هذا المشرب، وألاّ يعمل بمقتضاه عندما يفيق من عالم الاستغراق والنشوة. ثم ان عليه الا يقلب هذا المشرب القلبي والوجداني والذوقي الى اسس عقلية وقولية وعلمية، ذلك لان الدساتير العقلية.والقوانين العلمية، واصول علم الكلام النابعة من الكتاب والسنة المطهرين لا يمكنها ان تتحمل هذا المشرب، ولاتتسع لامكانية تطبيقه. لذا فلا يرى هذا المشرب في اهل الصحوة الايمانية من الخلفاء الراشدين، والائمة المجتهدين، والعلماء العاملين من اجيال السلف الصالح من هذه الامة، اذن فليس هذا المشرب في اعلى المراتب واسماها، بل قد يكون ذا علو الا انه ناقص في علوه، وقد يكون ذا حلاوة مغرية ولكنه لاذع المذاق. ولظاهر حلاوته، ولجمال ايحائه لا يرغب الداخلون فيه في الخروج منه؛ ويتوهمون ـــ باستشرافات نفوسهم ـــ انه اعلى المراتب واسماها.

ولكوننا قد تناولنا شيئاً من اسس هذا المشرب وماهيته في رسالة نقطة من نور معرفة الله جل جلاله وفي ((الكلمات)) و((المكتوبات)) فاننا نكتفي بذلك، ونقصر الكلام هنا على بيان ورطة خطرة قد يقع فيها قسم من الحائمين حول ((وحدة الوجود)) وهي:

ان هذا المشرب يصلح لأخص الخواص عند حالات الاستغراق المطلق، وللمتجردين من الاسباب المادية، ومن الذين قد قطعوا علائقهم بما سوى الله من الممكنات والاشياء.

ولكن اذا نزل هذا المشرب من علياء الاذواق والمواجيد، والاشواق القلبية الى دائرة المذاهب الفكرية والعلمية وعرض بشكله العلمي والعقلاني على انظار الذين استهوتهم الحياة الدنيا، وغرقوا في الفلسفات المادية والطبيعية، فانه سيكون اغراقاً في الطبيعة والمادة، وابعاداً عن حقيقة الاسلام.

فالشخص المادي المتعلق بالاسباب، والمغرم بالدنيا، يتشوق الى اضفاء صفة الخلود على هذه الدنيا الفانية، لانه يعز عليه ان يرى محبوبته وهي تتبخر بين يديه وتذوب، فيسبغ صفة البقاء والوجود الدائم على دنياه، انطلاقاً من فكرة "وحدة الوجود" فلا يتورع - عندئذٍ - من رفع محبوبته - الدنياــ الى درجة المعبود بعد ان اسبغ عليها صفات الدوام والخلود والبقاء الابدي، فينفتح المجال امامه الى انكار الله سبحانه والعياذ بالله.

ولما كان الفكر المادي قد ترسخت دعائمه في هذا العصر، واستولى على غالبية النشاطات العقلية والعلمية، حتى غدت المادة - عند اصحابه - هي اصل كل شئ ومرجعه، لذا فان ترويج مذهب ((وحدة الوجود)) في هذا العصر - الذي يرى فيه اهل الايمان الخواص الماديات تافهة الى حد العدم - ربما يعطي للماديين حجة ليكونوا دعاة للمذهب نفسه فيخاطبوا اصحابه من اهل الايمان: ((نحن وانتم سواء، نحن ايضاً نقول هكذا ونفكر هكذا)) علما انه لا يوجد مشرب في العالم بعيد عن منهج المادييين وعبدة الطبيعة من مشرب ((وحدة الوجود)). ذلك لان اصحابه يؤمنون بالله ايماناً عميقاً الى درجة يعدون الكون وجميع الموجودات معدوماً بجانب حقيقة الوجود الإلهي، بينما الماديون يولون الموجودات من الاهمية الى حد انهم ينكرون معها وجود الله سبحانه وتعالى... فأين هؤلاء من اولئك؟!

C التلويح السادس: وهو ثلاث نقاط:

النقطة الاولى:

ان اتباع السنة النبوية المطهرة هو اجمل وألمع طريق موصلة الى مرتبة الولاية من بين جميع الطرق، بل اقومها واغناها. والاتباع يعني: تحري المسلم السنة السنية وتقليدها في جميع تصرفاته واعماله، والاستهداء بالاحكام الشرعية في جميع معاملاته وافعاله. فان اعماله اليومية ومعاملاته العرفية وتصرفاته الفطرية الاعتيادية تأخذ بهذا الاتباع شكل العبادة، فضلا عن ان اتباع السنة وتحري شرع الله في شؤون المؤمن جميعها يجعله في صحوة دائمة، وتذكر للشرع مستمر، وتذكّر الشرع هذا يؤدي الى ذكر صاحب الشرع الذي يؤدي الى تذكر الله سبحانه، وذكر الله سبب لسكينة القلب واطمئنانه. اي ان ساعات العمر ودقائقه يمكن ان تنقضي كلها في عبادة دائمة مطمئنة.

لذلك فان اتباع السنة المطهرة هو طريق الولاية الكبرى، وهو طريق ورثة النبوة من الصحابة الكرام والسلف الصالح.

النقطة الثانية:

الاخلاص هو أهم اساس لجميع طرق الولاية وسبل الطريقة، ذلك لان الاخلاص هو الطريق الوحيد للخلاص من الشرك الخفي. فمن لم يحمل اخلاصاً في ثنايا قلبه فلا يستطيع ان يتجول في تلك الطرق، كما ان ((المحبة)) تشكل امضى قوة في تلك الطرق..

نعم، المحبة! فالمحب لا يبحث عن نقص، بل لا يرغب في ان يرى نقصاً في محبوبه، بل يرى اضعف الدلائل والامارات على كمال محبوبه من اقوى الادلة والحجج، لكونه جانب محبوبه على الدوام.

وبناء على هذا السر، فان الذين يتوجهون بقلوبهم الى معرفة الله عن طريق المحبة، لا يصغون الى الاعتراضات ويجاوزون سريعاً العقبات والشبهات، وينقذون انفسهم بسهولة ويحصنونها من الظنون والاوهام، حتى لو اجتمع عليهم آلاف شياطين الارض، فلن يستطيعوا ان يزيلوا امارة او علامة واحدة تدل على كمال محبوبه الحقيقي وسموه. ومن دون هذه المحبة يتلوى الانسان تحت وساوس نفسه وشيطانه، وينهار امام ما تنفثه الشياطين من اعتــراضات وشــبه. فلا يعصمه شـئ سـوى مـتـانـة ايمــانـه وقوتـه، وشدة انتباهـه وحذره.

اذن فالمحبة النابعة من معرفة الله هي جوهر جميع مراتب الولاية واكسيرها. الا ان هناك ورطة كبيرة للمحبة وهي:

انه يُخشى ان ينقلب المحب من التضرع والتذلل لله - اللذين هما سر العبودية - الى الادلال والطلب والدعاوى. فيطيش صوابه ويتحرك مختالاً بمحبته دون ضوابط او موازين.. ويخشى كذلك ان تتحول المحبة لديه من ((المعنى الحرفي)) الى ((المعنى الاسمي)) اثناء توجهه بالمحبة الى ما سوى الله، فتنقلب عندئذِ من داء شاف الى سم زعاف، اذ يحدث احياناً ان المحب يتوجه الى صفات المحبوب - من دون الله - والى كماله الشخصي وجماله الذاتي، اي يكون الحب بمعناه الاسمي - لذاته - اي يستطيع ان يحبه ايضاً من دون تذكر الله ورسوله! مع ان الواجب عليه عند التوجه بالحب لما سوى الله ان يكون هذا الحب في الله ولله، فيربط قلبه به من حيث كونه مرآة لتجلي اسمائه الحسنى.

ان مثل هذا الحب بالمعنى الاسمي لا يكون وسيلة لحب الله، بل ستاراً من دونه. بينما الحب بالمعنى الحرفي اي بسبب من حب الله، فانه يكون وسيلة الى زيادة حب الله، بل يصح القول انه تجل من تجلياته سبحانه.

النقطة الثالثة:

ان الدنيا هي دار العمل ودار الحكمة، وليست داراً للمكافأة والجزاء. فجزاء الاعمال والبر الذي يحصل هنا يكون في الحياة البرزخية والدار الاخرة، فتؤتي هناك اكلها وثمراتها. فما دامت الحقيقة هكذا يجب عدم المطالبة بثمرات الاعمال الاخروية وجزائها في هذه الدنيا، ولو اعطيت يجب اخذها وقبولها من يد الرب سبحانه بفرح مشوب بالحزن، وسرور ممزوج بالأسى، وليس بفرح وسرور خالصين، ذلك لانه ليس من الحكمة تناول ثمرات الاعمال - التي لن تنفد عند تناولها في الجنة - في مثل هذه الحياة الفانية، اذ يشبه ذلك العزوف عن مصباح خالد النور والاضاءة والتعلق بمصباح لا يتوهج نوره الا دقيقة ثم ينطفئ!

وبناء على هذا السر الدقيق - اي انتظار الاجر في الحياة الآخرة - فان الاولياء يستعذبون مشاق الاعمال ومصاعبها والمصائب والبلايا، فلا يشكون ولا يتذمرون.

بل لسانهم دائماً وابداً يردد: الحمدلله على كل حال. واذا وهب الله لهم كرامة او كشفاً او نوراً او ذوقاً فانهم يتناولونه بأدب جم ويعدونه التفاتاً وتكرماً منه سبحانه اليهم، فيحاولون ستر الكرامة واخفاءها ولا يظهرونها ولا يفاخرون بها، بل يسارعون الى زيادة شكرهم وتعميق عبوديتهم، وكثيرون منهم يجأرون الى الله ان يحجب هذه الاحوال عنهم ويحجبهم عنها ويتمنوا ذهابها واختفاءها خوفاً من ان يتعرض الاخلاص في عملهم للخلل.

حقاً ان افضل نعمة إلهية يمكن ان ينالها شخص مقبول عند الله هي التي توهب له من دون ان يشعر بها، لكي لا يتحول من حال التضرع والدعاء الى حال الادلال بعباداته وطلب الاجر عليها، ولئلا يتحول من موقع الشكر والحمد الى موقع الدل والفخر.

فاستناداً الى هذه الحقيقة فان الذين يرغبون في سلوك طريق الولاية والطريقة ان كانوا يرغبون في تناول بعض الثمرات الجانبية للولاية، امثال اللذات المعنوية او الكرامات، ويتوجهون اليها ويطلبونها ويلتذون بها.. فان هذا يعني رغبتهم في تناول تلك الثمرات في هذه الحياة الفانية، وهي - اذا حصلت لهم - ثمرات فانية على اي حال كان. وبذلك يفقدون الاخلاص في اعمالهم الذي به ينالون ثمرة الولاية. كما انهم يمهدون السبيل لفقدان الولاية نفسها.

C التلويح السابع

يتضمن اربع نكات

النكتة الاولى:

ان الشريعة هي نتيجة الخطاب الإلهي الصادر مباشرة - دون حاجز او ستار - من الربوبية المطلقة المتفردة بالاحدية.

لذا فان اعلى مراتب الطريقة واسمى درجات الحقيقة لا يعدوان كونهما اجزاء من كلية الشريعة. اما نتائجهما وما يؤولان اليه فهي الاوامر الشرعية المحكمة. فهما دائماً وابداً يظلان بحكم الخادم للشريعة ووسيلة اليها ومقدمة لها.

فالسالك في الطريقة يرتفع تدريجياً الى اعلى المراتب التي ينال فيها ما في الشريعة نفسها من معنى الحقيقة وسر الطريقة. وعندئذ تكون الطريقة والحقيقة اجزاء الشريعة الكبرى.

لذا فليس صحيحاً ما يتصوره قسم من المتصوفة من ان الشريعة قشر ظاهري، وحقيقتها هي لبها ونتيجتها وغايتها.

نعم، يتنوع انكشاف الاحكام الشرعية ويختلف بالنسبة لمستويات الناس وفهمهم وطبقات مداركهم، فما يظهر منها وينكشف للعوام هو غير ما يظهر وينكشف للخواص..

انه من الخطأ توهم ما يظهر من الشريعة للعوام هو حقيقة الشريعة، واطلاق اسم ((الحقيقة)) و((الطريقة)) على مرتبة الشريعة المنكشفة للخواص.

فالشريعة لها مراتب متوجهة الى جميع طبقات البشر.

وبناء على هذا السر، فان اهل الطريقة، واصحاب الحقيقة كلما تقدموا في مسلكهم وارتقوا في معارجهم، وجدوا انفسهم منجذبين اكثر الى الحقائق الشرعية، متبعين لها، مندرجين ضمن غاياتها ومقاصدها. حتى انهم يتخذون ابسط انواع السنة النبوية الشريفة كأعظم مقصد وغاية، ويسعون الى اتباعها وتقليدها.

لانه بمقدار سمو الوحي وعلوه على الالهام، فالآداب الشرعية التي هي ثمرة الوحي هي اسمى واعلى من آداب الطريقة التي هي ثمرة الالهام، لذا فان اهم اساس للطريقة هو اتباع السنة النبوية المطهرة.

النكتة الثانية:

ينبغي الا تتحول الطريقة والحقيقة من كونهما وسيلتين الى غايتين بحد ذاتهما (تستحوذانعلى قلب السالك وفكره ووجدانه). فاذا اصبحتا - الطريقة والحقيقة - مقصودتين بالذات، فان الاعمال الشرعية المحكمة، وآداب السنة السنية، تنحسر حتى تأخذ الدرجة الثانية من الاهتمام لدى السالك، وتصبح صورية شكلية بانشغال القلب بالتوجه الى آداب الطريقة ورسومها. اي ان المرء - عندئذِ - يفكر بحلقة الذكر اكثر من تفكيره بالصلاة، وينجذب الى اوراده اكثر من انجذابه الى الفرائض، ويلزم نفسه بتجنب مخالفة آداب الطريقة اكثر من التزامه بتجنب الكبائر، والحال ان اداء فريضة واحدة التزاماً بالاوامر الشرعية لا يمكن ان توازيها اوراد الطريقة او تحل محلها.

فآداب الطريقة، واوراد التصوف، وما يحصل للسالك منهما من اذواق ينبغي ان تكون مدخلاً لأذواق أحلى وأعلى وأسمى، يحصل عليها هذا السالك من اداء الفرائض والسنن.

أي ان ما يأخذه المرء من التكية من اذواق، لا بد ان تكون استهلالاً لاذواق الصلاة التي يؤديها في الجامع، بقيامه بأركانها وأدائها على الوجه المطلوب، وإلا فالذي تشغله اذواقه في التكية عن صلاته في الجامع، فيؤديها بخفة وسرعة صورية وشكلية لا حرارة فيها ولا روح، انما يبتعد عن الحقيقة.

النكتة الثالثة:

سؤال: هل يمكن ان توجد طريقة خارج نطاق السنة النبوية الشريفة واحكام الشريعة؟

الجواب: نعم ولا!

نعم، لأن عدداً من الاولياء الكاملين قد اعدموا بسيف الشريعة. ولا، لأن الاولياء المحققين قد اتفقوا على القاعدة التي ذكرها سعدي الشيرازي(1) شعراً:

محالست سعدى براه صفا ظفر بردن جز در بى مصطفى

اي محال ان يصل احد الى الانوار الحقيقية للحقيقة خارج الصراط الذي اختطه الرسول e ، ومن دون اتباع لخطواته.

وسر هذه المسألة هو الآتي:

ما دام الرسول e هو خاتم الانبياء والمرسلين وقد خاطبه الله سبحانه باسم البشرية وممثلا عنها، فلا بد ألاّ تسير البشرية خارج الصراط الذي بينه، فالانضواء تحت لوائه ضروري.

ولكن ما دام اهل الجذب والاستغراق ليسوا مسؤولين عن مخالفاتهم، لما في الانسان من لطائف لا ترضخ للتكاليف الشرعية، فعندما تتحكم فيه تلك اللطيفة لا يبقى مسؤولا امام التكاليف الشرعية، ومادام في الانسان لطائف اخرى لا ترضخ لارادة الانسان كعدم رضوخها للتكاليف، بل لا تنقاد لتدبير العقل ولا تذعن لاوامر القلب والعقل.. فلا بد ان تلك اللطيفة عندما تستحوذ على شخص ما فانه لا يسقط من مرتبة الولاية بمخالفته الشرع، وانما يعد معذوراً - في تلك الاثناء فقط - بشرط الا يصدر عنه شئ ينافي حقائق الشرع وقواعد الايمان انكاراً او تزييفاً او استخفافاً. وينبغي ان يصدق بأحقية الشرع وان لم يكن يؤدي حقه حق الاداء.. والا اذا غلبت عليه الحال، وصدر عنه ما يشم منه التكذيب والانكار لتلك الحقائق المحكمة - نعوذ بالله - فذلك علامة الهلاك.

حاصل الكلام: ان اهل الطريقة الذين هم خارج دائرة الشرع قسمان:

قسم منهم كما ذكرناه آنفاً، فهؤلاء اما ان يكون قد غلب عليه الحال والاستغراق والجذب والسكر. او يكون مغلوباً لسيطرة لطائف لا تنقاد للتكاليف ولا تعير بالاً للارادة، فيخرج من دائرة الشرع.

ولكن هذا الخروج لا ينشأ من عدم الرضى بالشرع، او من رفض الاحكام الشرعية، بل يترك تلك الاحكام اضطراراً دون ارادة منه، فهناك اولياء من هذا القسم، فضلاً عن ان اولياء كباراً قد قضوا فترة بينهم متلبسين بهذه الحال. بل من هذا النوع مَن حكم عليهم اولياء محققون، انهم ليسوا خارجين عن دائرة الشرع وحدها، بل منهم مَن هو خارج عن دائرة الاسلام. الا بشرط ألاّ يكذبوا بجميع ما جاء به الرسول e مِن احكام، مع انهم لا يؤدون حقها، إما لعدم تفكرهم بها، او لعدم استطاعتهم التوجه اليها، او لعدم تمكنهم من معرفتها، او عدم فهمها. ولكن اذا عرفها احد منهم ورفضها فقد هلك.

اما القسم الثاني: فهم المنجذبون لنشوة الاذواق البراقة للطريقة والحقيقة فلا يبالون بالحقائق الشرعية التي هي ارقى من مستوى مذاقهم. ويعتبرها احدهم غير ذات مذاق لعجزه عن بلوغها. فيؤديها صورية شكلية، وهكذا يبلغ به الامر تدريجياً الى ان يظن ان الشريعة مجرد قشر ظاهري، وان ما وجده من الحقيقة هو الاساس والغاية والقصد، فيقول: حسبي ماوجدته. فيقوم بافعال مخالفة لما يأمر به الشرع! فالذين لم يفقدوا شعورهم وعقولهم من هذا القسم مسؤولون عن اعمالهم، ويدانون، بل يهلكون، حتى يكون قسم منهم موضع هزء وسخرية للشيطان.

النكتة الرابعة:

ان اشخاصاً من الفرق الضالة والمبتدعة يكونون من المقبولين بنظر الامة، غير ان امثالهم تردّهم الامة وترفضهم دون ان يكون هناك فرق ظاهري بينهما!!

كنت في حيرة من هذا الامر، فالزمخشري(1) المعتزلي الشديد التعصب لمذهبه لا يكفره اهل التحقيق من اهل السنة ولا يدرجونه في صفوف الضالين على الرغم من اعتراضاته القاسية عليهم، بل يجدون له مبرراً ومجالاً للنجاة، الا ان أبا علي الجبائي(1) وهو ايضاً من ائمة المعتزلة يطرده اهل السنة المحققون ويعدون آراءه مردودة مع انه اخف تعصباً من السابق بكثير، كان هذا يأخذ قسطاً كبيراً من تفكيرى، ثم فهمت بلطف إلهي:

ان اعتراضات الزمخشري على أهل السنة نابعة من محبة الحق الذي يدعو اليه مسلكه، الذي يظنه حقاً كقوله: ان التنزيه الحقيقي لله سبحانه هو بأن يكون الاحياء - في نظره - هم خالقين لافعالهم، لذا فلمحبته الناشئة من تنزيه الحق سبحانه يرد قاعدة اهل السنة في خلق الافعال. اما سائر ائمة الاعتزال المرفوضين فانهم ما انكروا سبيل اهل السنة لفرط محبتهم الحق، وانما لقصور عقولهم عن دساتير اهل السنة السامية، وعجز عقولهم الضيقة عن استيعاب قوانين اهل السنة الواسعة. لذا فأن اقوالهم مردودة وهم مطرودون.

فكما ان مخالفة المعتزلة لاهل السنة هذه بشكلين، وهي الواردة في كتب علم الكلام فان اهل الطريقة الخارجين عن السنة المطهرة ومخالفتهم لها ايضاً من جهتين:

الاولى: ان ينجذب الولي لحاله ونهجه كانجذاب الزمخشري لمذهبه غير مهتم الى حد ما بآداب الشرع التي لم يبلغ اذواقها بعد.

الثانية: ان ينظر الولي الى آداب الشريعة انها غير ذات اهمية اصلاً بالنسبة لدساتير الطريقة وقواعدها (حاش لله) لكونه قد عجز عن ان يستوعب تلك الاذواق الواسعة، فمقامه القصير لا يستطيع ان يبلغ تلك الآداب الرفيعة.

C التلويح الثامن:

وفيه ثمانية مزالق وورطات:

الاولى:

ان الورطة التي يسقط فيها سالكون من الطرق الصوفية - ممن لا يتبعون السنة النبوية على الوجه الصحيح - هي اعتقادهم بأرجحية الولاية على النبوة!! ولقد اثبتنا مدى سمو النبوة على الولاية وخفوت ضوء الاخيرة امام نور النبوة الساطع في الكلمة الرابعة والعشرين والكلمة الحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات)).



الثانية:

وهي تفضيل قسم من المفرطين، الاولياء على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بل رؤيتهم في مرتبة الانبياء عليهم السلام. وقد شرحنا في الكلمة الثانية عشرة والكلمة السابعة والعشرين ((الاجتهاد)) وفي ذيلها الخاص بالصحابة كيف ان للصحابة الكرام خواص متميزة بسبب الصحبة النبوية، بحيث لا يمكن للاولياء ان يبلغوا مرتبتهم اصلاً فضلاً عن ان يتفوقوا عليهم. ولا يمكنهم ان يبلغوا قطعاً مرتبة الانبياء.



الثالثة:

وهي ترجيح بعض المتطرفين والمتعصبين جداً للطريقة لأوراد طريقتهم وآدابها على اذكار السنة النبوية الشريفة، فيسقطون بذلك الى منزلق مخالفة السنة النبوية وتركها، في الوقت الذي يظلون متشبثين بأوراد طريقتهم، أي انهم يسلكون سلوك غير المبالي بآداب السنة النبوية الشريفة فيهوون في الورطة، وكما اثبتنا في كلمات كثيرة، وكما اكد كبار محققي الطرق كالامام الغزالي والامام الرباني:

((ان اتباع سنة واحدة من السنن النبوية يكون مقبولاً عند الله اعظم من مائة من الآداب والنوافل الخاصة. اذ كما ان فرضاً واحداً يرجح الفاً من السنن، فان سنة واحدة من السنن النبوية ترجح الفاً من آداب التصوف)).



الرابعة:

ان بعض المتطرفين من اهل التصوف يظنون خطأً ان ((الالهام)) بمرتبة ((الوحي))، كما يعتبرون الالهام نوعاً من انواع الوحي فيسقطون في هذا المزلق الخطير، وقد برهنّا سابقاً في (( الكلمة الثانية عشرة)) و((الكلمة الخامسة والعشرين)) المتعلقة باعجاز القرآن وفي رسائل اخرى؛ كيف ان الوحي سام وعال وساطع وضاء وكلي شامل بينما الالهام بالنسبة اليه جزئي وخافت.



الخامسة:

ان بعض المتصوفين ممن لم يدركوا تماما سر الطريقة - في كونها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها - قد ينجذبون ويتوجهون الى ما يفاض عليهم من الكرامات والاذواق والانوار، تلك التي توهب ولا تسأل اذ يمنحها الله سبحانه تقوية للضعفاء، وتشجيعاً للمتكاسلين، وتخفيفاً من المشقة والسأم - الذي يعتريهم من شدة الاجهاد في العبادة - فينجرون الى تفضيل تلك الكرامات والاذواق والانوار على فروض الدين والخدمة تحت لوائه وقراءة الاذكار والاوراد، فيسقطون في هذا المزلق.

وقد سبق ان اجملنا في النقطة الثالثة من التلويح السادس وفي كلمات اخرى، بأن هذه الدنيا هي دار خدمة وعمل وليس دار ثواب ومكافأة، فالذين يرغبون في قطف ثمار اعمالهم في هذه الحياة الفانية، انما يستبدلون المكافأة الدنيوية الفانية بثمار الاخرة الابدية الباقية، فضلاً عن ان هذا يدل على بقايا تعلق بالدنيا ورغبة في الاستمتاع بها، ويكون هذا سبباً في خفوت شوقهم وتطلعهم الى الحياة البرزخية، بل يريدون هذه الحياة، اذ يجدون فيها نوعاً من ثمار الآخرة.



السادسة:

وهي المنزلق الذي يقع فيه قسم من سالكي الطرق الصوفية من غير اهل الحقيقة عندما يلتبس عليهم الامر فيتوهمون بان ظلال مقامات الولاية ونماذجها المصغرة كأنها هي المقام الحقيقي والكلي والاصلي..

ولقد اثبتنا في الغصن الثاني من ((الكلمة الرابعة والعشرين)) وفي كلمات اخرى بما لاشك فيه؛ ان الشمس وان تعددت صورها بتعدد المرايا التي تنعكس عليها، فهذه الصور تملك ضياء الشمس وحرارتها ولكن ليس هو الضياء الاصلي نفسه، ولا هي الحرارة نفسها فهي باهتة الانوار بالنسبة للشمس الحقيقية.

كذلك فان لمقام النبوة ولمقام كبار الاولياء، شيئاً من الظلال التي يمكن لاهل الطرق ان يستظلوا بها، ولكنهم يظنون اثناء دخولهم فيها انهم اعظم درجة من كبار الاولياء، بل حتى من الانبياء - والعياذ بالله - فيسقطون في مزلق.

ولانقاذ انفسهم من جميع هذه المزالق المذكورة سابقاً عليهم ان يضعوا اصول الايمان واسس الشرع نصب اعينهم ويتخذوها مرشداً دائماً لهم، وان يخالفوا اذواقهم ومشهوداتهم ويتهموها عند تعارضها مع تلك الاسس.



السابعة:

وهي المزلق الذي يقع فيه قسم من اهل الاذواق والاشواق من اصحاب الطرق عندما ينصرفون الى الفخر والادعاء واشاعة الشطحات وطلب توجه الناس ونيل المرجعيات الدينية، ويفضلون هذه العجالات على الشكر والتضرع والحمد والاستغناء عن الناس، بينما عبودية محمد e هي اسمى مرتبة في العبودية، تلك العبودية التي نستطيع وصفها بالمحبوبية، او عبودية المحبة.

فأساس العبودية وسرها هو التضرع والحمد والدعاء والخشوع والعجز والفقر والاستغناء عن الناس، وبهذا فقط يمكن الوصول الى كمال تلك الحقيقة، حقيقة العبودية.

نعم ان عدداً من الاولياء الكبار اضطروا - دون اختيار منهم لغلبة الحال وبشكل موقت فقط - الى الخروج الى ساحة الفخر والطلب والشطحات، لذا فلا يجوز اتباعهم اختياراً في حالهم هذه، فهم مهتدون، ولكنهم هنا وفي هذه النقطة بالذات ليسوا قدوة في الهداية، لذا لا يمكن السير وراءهم والاقتداء بهم.



الثامنة:

وهي الورطة التي يتورط فيها قسم من المتعجلين والقاصدين المنافع الذاتية من اهل الطرق من الذين يرغبون في تناول ثمرات الولاية في الدنيا بدلاً من قطفها في الآخرة. وعندما يدل سلوكهم على هذه الرغبة، وتتكشف نيتهم من خلال هذا السلوك يكونون فعلاً قد سقطوا في هذه الورطة. علماً ان آيات كثيرة في القرآن الكريم من امثال } وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور{ (آل عمران:185) تدل بوضوح ما اثبتناه سابقاً في عدة ((كلمات)) من ان ثمرة واحدة من ثمرات عالم البقاء ترجح الف بستان في هذه الحياة الفانية، لذا فالافضل عدم تناول تلك الثمرات المباركة هنا، وان اعطيت دون توجه ورغبة فيها، فيجب ابداء الحمد والشكر في قبولها - لا على انها مكافأة - بل على انها احسان وفضل من الله وهبت للتشويق.

C التلويح التاسع:

نذكر هنا مجملاً تسع ثمرات من الثمار الوفيرة للطريقة وفوائدها:

الاولى:

هي ظهور الحقائق الايمانية وانكشافها ووضوحها الى درجة عين اليقين بوساطة الطريقة الصحيحة المستقيمة. هذه الحقائق التي هي منابع خزائن ابدية وسعادة دائمة وكنوزها ومفاتيحها.



الثانية:

هي تحقيق الوجود الحقيقي للانسان بانسياق لطائفه جميعاً الى ما خُلقت لأجله. وذلك بأن تكون الطريقة واسطة لتحريك قلب الانسان الذي يعتبر مركزاً لجسمه ولولباً لحركته وتوجيهه الى الله. فيندفع بهذا كثير من اللطائف الانسانية الى الحركة والظهور فتتحقق حقيقة الانسان.



الثالثة:

التخلص من وحشة الانفراد والوحدة في السير والسلوك، والشعور بالانس المعنوي في الحياة الدنيا والبرزخ بالالتحاق باحدى سلاسل الطريقة عند سيرها وتوجهها وسفرها نحو الحياة البرزخية ونحو الحياة الاخروية، وعقد اواصر الصداقة والمحبة بتلك القافلة النورانية في طريق أبد الآباد، فتندفع الاوهام والشبه عن النفس باستناد المريد الى اجماعهم واتفاقهم باعتبار كل استاذ مرشد حجة قوية وسنداً لا يضعف في دفع الاضاليل والاوهام التي ترد الى الذهن.



الرابعة:

وهي خلاص الانسان من الوحشة الهائلة التي تكتنفه في حياته الدنيا، والانسلال من الغربة الاليمة التي يحسها ازاء الكون، وذلك بما تقوم به الطريقة الصائبة الصافية من تفجير ينابيع محبة الله ومعرفته في الايمان.

وقد سبق ان اثبتنا في كلمات عدة بأن سعادة الدارين، واللذة التي لايشوبها ألم، والانس الذي لا تخالطه وحشة، والسعادة الحقيقية لا توجد الا في حقائق الايمان والاسلام التي تسعى الطريقة للوصول اليها كما اننا بينا في ))الكلمة الثانية(( بان الايمان يحمل بذرة شجرة طوبى في الجنة.

نعم فبالتربية الموجودة في الطريقة تنمو تلك البذرة وتكبر.



الخامسة:

الشعور بالحقائق اللطيفة في التكاليف الشرعية وتقديرها بوساطة القلب المنتبه بدوام ذكر الله، كما يعينه على ذلك المنهج التربوي للطريقة. وبذلك تكون الطاعة والعبادة مثار اشتياق وحب، لا مثار تعب وتكليف.



السادسة:

نيل مقام التوكل، ودرجة الرضى، ومرتبة التسليم. هذه المقامات هي السبيل الى تذوق السعادة الحقيقية والتسلية الخالصة واللذة التي لا يشوبها حزن، والانس الذي لا تقربه وحشة.



السابعة:

وهي نجاة الانسان من الشرك الخفي والرياء والتصنع وامثالها من الرذائل وذلك بالاخلاص الذي هو اهم شرط لدى سالك الطريقة واهم نتيجة لها. وكذا التخلص من اخطار النفس الامارة بالسوء ومن أدران الانانية بتزكية النفس التي هي السلوك العملي في الطريقة.



الثامنة:

هي جعل الانسان عاداته اليومية بحكم العبادات واعماله الدنيوية بمثابة اعمال اخروية، والاحسان في استغلال رأس مال عمره من الحياة بدقائقها وجعلها بذوراً تتفتح عن زهرات الحياة الاخروية وسنابلها.

وذلك بدوام الذكر القلبي، والتأمل العقلي، مع الحضور القلبي الدائم والاطمئنان، ودوام شحذ الارادة، والنية الصافية، والعزيمة الصادقة التي تلقنها الطريقة.

التاسعة:

وهي العمل للوصول الى مرتبة الانسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي الى الله طوال سيره وسلوكه، واثناء معاناته الروحية التي تسمو بحياته المعنوية، اي الوصول الى مرتبة المؤمن الحق والمسلم الصادق، اي نيل حقيقة الايمان والاسلام لا صورتيهما، ثم ان يكون الانسان عبداً خالصاً لرب العالمين، وموضع خطابه الجليل، وممثلاً عن الكائنات من جهة، وولياً للّه وخليلاً له، حتى كانه مرآة لتجلياته سبحانه، وفي احسن تقويم حقاً فيقيم الحجة على افضلية بني آدم على الملائكة.

وهكذا يطير بجناحي الايمان والعمل بالشريعة الى المقامات العليا والتطلع من هذه الدنيا الى السعادة الابدية بل الدخول فيها.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صلّ على الغوث الاكبر في كل العصور والقطب الأعظم في كل الدهور سيدنا محمد الذي تظاهرت حشمة ولايته ومقام محبوبيته في معراجه واندرج كل الولايات في ظل معراجه وعلى آله وصحبه اجمعين

آمين والحمد لله رب العالمين

ذيـل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة. ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم بالرغم من فهمي القاصر طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله ((الرحمن)).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله ((الرحيم)).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله ((الحكيم)).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولاسيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

} فلا تُزكّوا انفُسَكم{ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

} ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم{ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

} ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِ{ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

} كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه{ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة } فلا تزكوا انفسكم{ وهي عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما أودعه الله فيه من اجهـزة لحمده سبحـانه وتقديسه الـى نفسه، فيصيبه وصـف الآية الكريمة: } من اتّخذ الهَه هَواه{ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها. فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: } ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم{ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.

والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: } ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك{ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماًمنه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هـذه المرتبة هـي فـي سـر هذه الآية الـكريمة: } قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها{ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: } كُلُّ شَيٍء هالكٌ إلا وجْهَه{ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في ((الكلمات الست والعشرين)) السابقة من كتاب ((الكلمات)) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى ((القدير)) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل ((وحدة الوجود)) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: ((لا موجود الا هو)) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل ((وحدة الشهود)) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: ((لا مشهود الا هو)) للوصول الى الاطمئنان القلبي والحضور الدائمي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمي من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.

المكتوب الثلاثون

وهو (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) باللغة العربية

المكتوب الحادي والثلاثون

وقد انقسم الى إحدى وثلاثين لمعة ضمّت في كتاب (اللمعات).

المكتوب الثاني والثلاثون

وهو(اللوامع) المنشورة ختام (الكلمات).

المكتوب الثالث والثلاثون

رسالة (النوافذ) المطلة الى المعرفة الإلهية.نشرت ضمن (الكلمات)، ولم تدرج هنا.

عبدالرزاق 02-03-2011 02:23 PM

رد: المكتوبات
 
نـوى الـحقائــق

توضيح

منذ مدة وعمي العزيز ((بديع الزمان)) لا يتوجه الى المسائل عقلاً بل قلباً. وما يظهر على قلبه يمليه عليّ ويقول: ((ان العلم هو ما يستقر في القلب، فلو استقر في العقل وحده لا يكون ملك الانسان)). وكان يقول: ((ان هذه المسائل ليست قواعد علمية وحدها، بل ما اتخذته وجداناً من اسسٍ لبعض دساتير قلبية)). وقد أمرني: ((انتخب ما يروق لك مما سنح لقلبي)) فانا بدوري اقتطفت هذه الفقرات من آثاره الآتية:

نقطة من نور معرفة الله ـ اشارات الاعجاز في مظان الايجاز ـ سنوحات ـ شعاعات معرفة النبي e ـ رموز ـ طلوعات ـ محاكمات ـ مناظرات ـ اشارات ـ قزل ايجاز .

عبدالرحمن

( من الطبعة الاولى المطبوعة في مطبعة الاوقاف الاسلامية باستانبول سنة 1337)المترجم.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه اجمعين.

1 - عصرٌ مريض، وعنصر سقيم، وعضو عليل، وَصفَتها الطبية هي إتباع القرآن.

2 - قارة شاسعة عظيمة الجانب، رديئة الطالع.. دولة مشهورةٌ عريقة المجد، سيئة الحظ.. أمة عزيزة جليلة القدر، بلا رائد.. وصفتُها الطبية الاتحاد الاسلامي.

3 - ان الذي لا يملك قبضة قوية يستطيع بها حمل الارض وجميع النجوم والشموس وتحريكها كحبات المسبحة، لا يستطيع ادعاء الخلق والايجاد؛ اذ كلّ شيء مربوط بغيره.

4 - ان احياء جميع ذوي الارواح يوم الحشر لا يثقل على القدرة الإلهية كما لا يثقل عليها احياء حشرة وانشائها بعد سبات عميق طوال الشتاء بما يشبه الموت؛ لأن القدرة الإلهية ذاتية، لا تتغير قطعاً، ولا يمكن أن يتخا العجزُ، ولا تتداخل فيها العوائقُ، فليس فيها مراتب مطلقاً، وكل شيء بالنسبة اليها سواء.

5 - ان الذي خلق عين البعوضة هو الذي خلق الشمس ايضاً.

6 - والذي نظّم معدة البرغوث هو الذي نظم المنظومة الشمسية ايضاً.

7 - ان في تأليف الكون اعجازاً باهراً، بحيث لو فرضنا - فرضاً محالاً - ان كل سبب من الاسباب الطبيعية فاعلٌ مختارٌ، مقتدرٌ، لسجَدَت تلك الاسبابُ جميعُها ـ بكمال العجزـ امام ذلك الاعجاز، قائلة: [سبحانك .. لا قدرة لنا.. انك انت العزيز الحكيم](1).

8 - ان الاسباب لم تُمنحَ التأثير الحقيقي.. هكذا تقتضي الوحدة والجلال. إلاّ ان الاسباب قد اصبحت ستاراً بين يدي القدرة في جهة المُلك.. هكذا تقتضي العزة والعظمة، وذلك لئلا تُرى في ظاهر النظر يدُ القدرة مباشِرةً للامور الخسيسة في جهة المُلك.

9 - ان جهة الملكوت التي هي محل تعلّق القدرة في كل شئ، شفافة نزيهة.

10ـ ان عالم الشهادة ستار مزركش ملقى على عوالم الغيب.

11ـ يلزم لايجاد نقطة في مكانها الصحيح، قدرة مطلقة تستطيع ايجاد الكون كله، ذلك لأن كل حرف من حروف كتاب الكون الكبير - لا سيما ما كان ذا حياة - له وجه ناظر الى كل جملة من جمل الكتاب، وله عين شاخصة اليها.

12ـ لقد اشتهرت حادثة: انه بينما كان الناس يراقبون هلال العيد، ولم يره أحد، اذا بشيخ هرم يحلف أنه قد رأى الهلال، ثم تبين ان ما رآه لم يكن هلالاً بل شعرة بيضاء مقوسة قد تدلت من حاجبه! فاين تلك الشعرة من الهلال؟ واين حركات الذرات من فاعل تشكيل الانواع؟

13ــ الطبيعة مطبعة مثالية وليست طابعة، نقش لا نقّاش، قابلة للانفعال لا فاعلة، مِسطرَ لا مصدر، نظام لانظّام، قانون لا قدرة، شريعة ارادية لا حقيقة خارجية.

14ــ ان الانجذاب والجذبة المغروزين في الوجدان - الذي هو فطرةٌ ذات شعور - ليس إلاّ من جذبة حقيقية جذابة.

15ــ ان الفطرة لا تكذب، ففي البذرة ميلان للنمو، اذا قال: سأنبت، سأثمر، فهو صادق. وفي البيضة ميلان للحياة، اذا قال: سأكون فرخاً، فيكون باذن الله، وهو صادق، واذا قال ميلان التجمد في غرفة من ماء: سأحتل مكاناً أوسع فلا يستطيع الحديد - رغم صلابته - ان يكذبه. بل إن صدقَ قوله يفتت الحديد، فهذه الميول انما هي تجليات الأوامر التكوينية الصادرة عن الأرادة الإلهية.

16ــ ان القدرة الازلية التي لا تترك النملة من دون أمير والنحلَ من دون يعسوب، لا تترك البشر من دون نبي ايضاً، وان انشقاق القمر كما هو معجزة احمدية للانسان في عالم الشهادة، فالمعراج ايضاً معجزة احمدية كبرى للملائكة والروحانيات في عالم الملكوت. وقد اثبتت ولاية نبوته بهذه الكرامة الباهرة، فكانت شخصيته المشرقة كالشعلة الوضاءة كالبرق والبدرفي عالم الملكوت.

17ــ ان كلمتي الشهادة شاهدتان احداهما على الاخرى. فالكلمة الاولى برهان لـمّي للثانية، والثانية برهان إنّي للاولى(1).

18ــ ان الحياة نوعٌ من تجلي الوحدة في الكثرة، لـذا فـهـي تـدفـع الـى الاتحاد، فالحيـاة تجعـل الشيء الواحـد مالكاً لكل شيء.

19ــ ان الروح قانون ذو وجود خارجي، وناموس ذو شعور، وهو آتٍ من عالَم الأمر وصفةِ الارادة، كالقوانين الفطرية الثابتة الدائمة. وقد كستْه القدرةُ الوجودَ الحسي، وجعلتْ سيالةً لطيفة صَدَفَةً لذلك الجوهر. ان الروح الموجود اخ للقانون المعقول. كلاهما دائـمي وكلاهما آتٍ من عالــم الأمـر. ولو ألبست القدرةُ الازلية قوانين الانواع وجوداً خارجياً لأصبحت روحاً، ولو طرح الروحُ الشعورَ، لأصبح قانوناً لا يموت ايضاً.

20ــ انما تُشاهد الموجودات بالضياء، ويُعرف وجود الموجودات بالحياة، فكل منهما كشّاف.

21ــ ان النصرانية سوف تلقي السلاح وتستسلم للاسلام سواءً بالانطفاء او بالإصطفاء، فلقد تمزقت النصرانية عدة مرات حتى انتهت الى البروتستانية. وتمزقت البروتستانية فاقتربت من التوحيد، وهي تتهيأ للتمزّق مرة اخرى. فإما إنها تنطفئ وينتهي أمرُها، وإما أن تجد تجاهها الحقائق الاسلامية الجامعة لأسس النصرانية الحقّة ومبادئها، فتستسلم. وقد اشار الرسول e الى هذا السرّ العظيم بأنه: سينزل عيسى (عليه السلام)وسيكون من امتي ويعمل بشريعتي.

22ــ ان الذي يسوق جمهور الناس الى الاتباع وامتثال الاوامر هو ما يتحلى به المصدر من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس الى الانقياد اكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة.

23ــ ان تسعين بالمائة من مسائل الشريعة – التي هي الضروريات والمسلـّمات الدينية - كل منها عمود من الالماس، أما المسائل الاجتهادية الخلافية فهي تمثل عشرة بالمائة فقط. ولا ينبغي ان يكون تسعون عموداً من الالماس تحت حماية عشرة منها من ذهب، فالكتب الفقهية والاجتهادات ينبغي ان تكون مرايا ومناظير لرؤية القرآن وليست حُجُباً وظلالاً وبديلاً عنه.

24ــ كل مَن يملك استعداداً للاجتهاد يستطيع ان يجتهد لنفسه إلاّ انه لا يستطيع ان يشرّع.

25ــ ان الدعوة الى أي فكر كان منوطةٌ بقبول جمهور العلماء لها والاّ فهي بدعة، مردودة.

26ــ ان الانسان لكونه مكرّماً فطرة يبحث عن الحق دوماً، واثناء بحثه يعثر على الباطل احياناً فيخفيه في صدره ويحفظه، وقد يقع الضلالُ - بلا اختيار منه - على رأسه اثناء تنقيبه عن الحقيقة، فيظنه حقاً، فيلبسه كالقلنسوة.

27ــ ان للقدرة مرايا كثيرة جداً، كل منها أشفّ وألطف من الاخرى. وهي تتنوع، من الماء الى الهواء، ومنه الى الاثير، ومنه الى عالم المثال، ومنه الى عالم الارواح بل الى الزمان والى الفكر.

ففي مرآة الهواء تصبح الكلمة الواحدة ملايين الكلمات. فان قلم القدرة يستنسخ سرّ هذا التناسل بشكل عجيب. ان الانعكاس إما يحوي الهوية او يحوي الهوية مع الماهية. ان تماثيل المادة - أي صورها - الكثيفة عبارة عن اموات متحركة، أما تماثيل الارواح النورانية في مراياها فحيّة مرتبطة بالحياة، ان لم تكن عينُها فليست غيرَها.

28ــ اذا انتفضت الشمسُ بحركتها المحورية، فلا تسقط ثمارُها، وإن لم تنتفض فان ثمارها من السيارات تسقط وتتفرق.

29ــ ان نور الفكر ظلام يفجر ظلماً مالم يتوهج بضياء القلب ويمتزج به. فكما اذا لم يمتزج نهار العين الابيض غير المنور بليلها الاسود(1) فلا تكون بصراً، كذلك لا بصيرة لفكرة بيضـاء لا توجـد فيهـا سويـداء القـلـب.

30ــ اذا لم يكن في العلم اذعان القلب فهو جهل، لأن الالتزام شئ والاعتقاد شئ آخر.

31ــ ان تصوير الاباطيل تصويراً جيداً إضلالٌ للاذهان الصافية.

32ــ ان العالم المرشد ينبغي ان يكون كالشاة لا كالطير. فالشاة تُطعِم بَهْمَتها اللبن والـطير تلـقم فراخهـا الـقئ.

33ــ ان وجود شئ يتوقف على وجود جميع اجزائه، بينما عدمُه يتوقف على عدم جزءٍ منه، لذا يميل الشخص الضعيف الى التخريب لإثبات قدرته، فيرتكب اعمالاً سلبية تخريبية بدل افعال ايجابية تعميرية.

34ــ اذا لم تمتزج دساتير الحكمة مع نواميس الحكومة ولم تمتزج قوانين الحق مع روابط القوة فلن تكون مثمرة بين جمهور العوام.

35ــ لقد وضع الظلمُ على رأسه قلنسوةَ العدالة ولبست الخيانةُ رداءَ الحمية واُطلق على الجهاد اسم البغي وعلى الأسر اسم الحرية. وهكذا تبادلت الاضدادُ صُوَرَها.

36ــ ان السياسة الدائرة على المنافع وحش رهيب.

37ــ ان التودد الى وحش جائع لا يثير شفقته بل يثير شهيته فضلاً عن أنه يطالب باجرة انيابه واظفاره.

38ــ لقد اظهر الزمانُ أن الجنة ليست رخيصة وان جهنم ايضاً ليست زائدة عن الحاجة.

39ــ قد صارت مزية الخواص من اهل الدنيا التي تستدعي التواضع والتراحم سبباً للتكبرّ والغرور، وصار عجز الفقراء وفقر العوام المستثيران للرحمة والاحسان سبباً لأسارتهم وسفالتهم.

40ــ ان كان في شئ ما محاسنُ وشرف فسرعان ما يُهدى الى الخواص ويُنسَب اليهم. اما ان كان فيه سيئات فيلصقوها بالعوام وينسبوها اليهم.

41ــ اذا لم تكن للفكر غاية ومثلٌ عليا، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت تحولت الاذهان الى ((انا)) - الافراد - ودارت حولها.

42ــ لو تأملت في مساوئ جمعية البشر لرأيت: اس اساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبع كل الاخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية، كلمتين فقط:

احداهما: إن شبعتُ فلا عليّ ان يموت غيري من الجوع.

والثانية:إكتسب انت لآكل أنا،واتعبْ انت لاستريح انا.

والقاطع لعرق الكلمة الاولى ليس إلاّ ((الزكاة)). والمستأصل والدواء للكلمة الثـانية ليس إلاّ((حرمة الربا)).

ان عدالة القرآن تقف على باب العالم وتصيح في الربا: ممنوع، لا يحق لك الدخول! ان البشرية لما لم تصغ الى هذا الكلام تلقت صفعة قوية. وعليها أن تُصغي اليها قبل ان تتلقى صفعة اقوى وأمرّ.

43ــ ان حروب الدول والشعوب - بعضها بعضاً - ستتخلى عن ساحتها لتحل محلها حروب الطبقات البشرية؛ لان الانسان كما لا يرضى ان يكون اسيراً لا يرضى ان يكون أجيراً ايضاً.

44ــ ان الذي يسلك الى مقصد طريقاً غير مشروع، كثيراً ما يعاقَب بخلاف مقصوده، فان جزاء محبةٍ غير مشروعة - كمحبة اوروبا - هي عداء غادر من المحبوب.

45ــ ينبغي النظر الى الماضي والى المصائب بنظر ((القدر)) بينما النظر الى "المستقبل" والى المعاصي يلزم ان يكون من زاوية التكليف، فالجـبـر والاعتـزال يـتصـالحـان هـنـا.

46 - ينبغي عدم اللجوء الى العجز فيما يمكن حلّه، وعدم الالتجاء الى الجزع فيما لا يمكن علاجه.

47 - ان جراح الحياة تلتئم، بيد أن جراحات العزة الاسلامية وشرف الامة وسيادتها غائرة جداً.

48ــ سيكون زمانٌ؛ تسبب فيه كلمةٌ واحدة توريط جيش كامل في الحرب، وطلقة واحدة ابادة ثلاثين مليون نسمة(1).

وستكون هناك أحوالٌ: حركةٌ بسيطة - عندئذ - تسمو بالانسان الى اعلـى عليين .. وفعـل صغير يُرديه في اسفل سافلين..

49ــ ان حبة واحدة من صدقٍ تبيد بيدراً من الاكاذيب، وان حقيقة واحدة افضل من بيدر من الخيالات.

عليك ان تصدُق في كل ما تتكلمه ولكن ليس صواباً ان تقول كل صدق؛ اذ



[ لايلزم من لزومِ صدق كل قول ٍ، قولَُ كل صدقٍ ]

50 - مَنْ أحسن رؤيته حَسُنتْ رويّته وجمل فكره ومن جمل فكره تمتع بالحياة والتذ بها.

51ــ ان الأمل يبعث الحياة في الناس،واليأس يقتلهم.

52ــ هذه الدولة الاسلامية التي اخذت على عاتقها - منذ السابق - القيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - اعلاء لكلمة الله وحفاظاً على استمرار حرية العالم الاسلامي، وهو كالجسد الواحد، ووضعت نفسها موضع الفداء للعالم الاسلامي، وحامل راية الخلافة، ستعوّض عما اصابها من مصائب وتزيلها السعادة التي سوف يَرفُل بها عالم الاسلام.. ان هذه المصيبة قد عجلت بعث الاخوة الاسلامية وظهورها في ارجاء العالم الاسلامي تلك الاخوة التي هي جوهر حياتنا وروحها.

53 - ان اسناد محاسن المدنية الى النصرانية التي لا فضل لها فيها، واظهار التدني والتقهقر قريناً بالاسلام الذي هو عدوّ له، دليل على دوران المقدرات بخلاف دورتها، وعلى قلب الاوضاع.

54 - ان قطعة الماسٍ نادرةٍ مهما كانت صدئةً، افضل من قطعة زجاج لامعة دوماً.

55 - ان الذين يبحثون عن كل شئ في المادة، عقولهم في عيونهم، والعين لاتبصر المعنويات.

56ــ اذا وقع المجاز من يد العلم الى يد الجهل، ينقلب الى حقائق مادية، ويفتح الباب الى الخرافات.

57ــ ان احساناً يزيد على الاحسان الإلهي، ليس باحسان؛ اذ ينبغي وصف كل شئ بمــا هـو عليـه من صفــات.

58 - ان الشهرة تُملّك الانسانَ ما ليس له.

59 - ان الحديث النبوي معدن الحياة وملهم الحقائق.

60 - ان احياءَ الدين، إحياءٌ للامة، وحياة الدين نور الحياة.

61 - ان القرآن الكريم الذي هو رحمة للبشرية كافة. انما يقبل المدنية التي تكفل سعادة العموم أو في الاقل سعادة الاكثرية المطلقة، بينما المدنية الحاضرة قد



تأسست على خمسة اسس سلبية:ـ

1ــ نقطة استنادها وركيزتها: القوة، وهذه من شأنها: التجاوز والاعتداء.

2ــ هدفها وقصدها: المنفعة، وهذه من شأنها: التزاحم.

3ــ دستورها في الحياة: الجدال والصراع، وهذا من شأنه: التنازع.

4ــ رابطتها بين الكتل البشرية هي العنصرية والقومية السلبية التي تنمو وتتوسع بابتلاع الآخرين وشأنها التصادم الرهيب.

5ــ خدمتها للبشرية خدمة جذابة: تشجيع الهوى والهوسات وتلبية رغبات النفس الأمارة ذلك الهوى الذي هو سبب لمسخ الانسان مسخاً معنوياً.

اما المدنية التي تتضمنها الشريعة الأحمدية وتأمر بها:

فان نقطة استنادها: الحق بدلاً من القوة، والحق من شأنه: العدالة والتوازن.

وهدفها: الفضيلة بدلاًمن المنفعة، والفضيلة من شأنها: المودّة والتجاذب.

جهــة الوحدة فيـهــا: الرابطـة الدينية والوطنية والصنفية(1) بدلاً من العنصرية والقومية، وهذه الرابطة من شأنها: الأخوة المخلصة والمسالـمة الجادة والـدفاع فقط عند الاعتـداء الخارجي.

دستورها في الحياة:التعاون بدلاً من الجدال والصراع، والتعاون من شأنه: الاتحاد والتساند.

وتضع الهدى بدلاً من الهوى، والهدى من شأنه:رفع الانسان روحياً الى مراقي الكمالات.

فلا ترخِ يدك عن الاسلام الذي هو حامي وجودنا، واستعصم به، وإلاّ هلكت.

62ــ ان المصائب العامة انما تنزل لأخطاء الاكثرية، فالمصيبة نتيجةُ جنايةٍ ومقدمةُ مكافأة.

63ــ ان الشهيد يعدّ نفسه حياً، ولكونه لم يذق سكرة الموت، يرى الحياة التي ضحّى بها باقيةً وغير منقطعة. إلاّ انها على افضل وجه وانزهه.

64- العدالة القرآنية المحضة، لا تهدر دم برئ ولا تزهق حياته حتى لو كان في ذلك حياة البشرية جمعاء. فكما أن كليهما في نظر القدرة سواء، فهما في نظر العدالة سواء ايضاً. ولكن الذي تمكّن فيه الحرصُ والانانية يصبح انساناً يريد القضاء على كل شئ يقف دون تحقيق حرصه حتى تدمير العالم والجنس البشري ان استطاع.

65ــ ان الخوف والضعف يشجعان التأثيرات الخارجية.

66ــ لا تُضحّى مصلحةٌ محقّقة في سبيل مضرّة موهومة.

67ــ ان السياسة الحالية لاستانبول مرض شبيه بمرض (اسباني)، يسبب الهذيان.

68ــ ليس نادراً أن يتحسن مجنون اذا قيل له: انت سليم انت طيب، وليس من المستبعد أن يفسد عاقل اذا قيل له: انت فاسد انت طالح!

69ــ عدوّ العدوّ صديق ما دام عدوّاً له، وصديق العدو عدوّ ما دام صديقاً له.

70 – امر العناد هو: أنه اذا ما ساعد شيطانٌ امرءاً قال له: انه ((مَلَك)) وترحمّ عليه. بينما اذا رأى مَلَكاً في من يخالفه في الرأي، قال: ((انـه شيطان قد بدّل لباسه)). فيلعنه.

71 - قد يكون دواء مرض سماً لداءٍ آخر. واذا جاوز الدواء حدَّه انقلب الى ضده.

72 – [ الجمعية التي فيها التساند آلة خُلقتْ لتحريك السكنات، والجماعة التي فيها التحاسد آلة خلقتْ لتسكين الحركات ].

73 - اذا لم يكن في الجماعة الواحد الصحيح(1)، يصغر الجمع والضم، كالضرب الكسري في الحساب.

74ــ كثيراً ما يلتبس عدم القبول بقبول العدم، مع ان عدم القبول دليله عدم ثبوت الدليل، أما قبول العدم فيحتاج الى دليل العدم، فاحدهما شك والآخر إنكار.

75 - ان الشك في المسائل الايمانية، اذا أسقط دليلاً واحداً بل حتى مائة دليل، فلا يورث المدلول أي ضرر كان، لان هناك آلاف الادلة.

76 - يجب اتباع السواد الاعظم (من الناس). اذ لما اعتمد الامويون على الاكثرية والسواد الاعظم، فانهم دخلوا - مع تهاونهم - في نهاية الامر في عداد اهل السنة والجماعة.بينما العلوية، فلإعتمادها على قلة العدد انتهى الامر ببعض منهم ـــ مع تصلبها ـــ الى الدخول في الرافضية.

77 - ان كان الاتفاق في الحق اختلافاً في الأحق، يكون الحق احياناً أحق من الأحق، والحسن أحسن من الأحسن. ويحق لكل امرئٍ ان يقول في مذهبه: ((هو حق، هو حسن))، ولكن لا يحق له القول: ((هو الحق هو الحسن)).

78 - لولا الجنة لما عذّبت جهنم.

79 - كلما شابَ الزمانُ شبَّ القرآنُ، وتوضحت رموزه. وكما يتراءى النور كالنار، تتراءى احياناً شدة البلاغة مبالغة.

08 - ان مراتب الحرارة عبارة عن تداخل البرودة، ودرجات الحُسن عبارة عن تداخل القبح. أما القدرة الازلية فهي ذاتية ولازمة وضرورية، لذا لا يتخللها العجز فلا مراتب فيها. كل شئ بالنسبة اليها سواء.

81ــ ان تمثال الشمس (صورتها) الذي هو تجلّ لفيضها، يبيّن الهوية نفسها على سطح البحر، وفي قطراته.

82ــ ان الحياة من تجلي التوحيد، ومنتهاها تكسب الوحدة.

83ــ ما دام الولي في الناس، وساعة الاجابة في الجمعة، وليلة القدر في رمضان، واسم الله الاعظم في الاسماء الحسنى، والأجَل في العمر.. مجهولاً، ستظل لسائر الافراد قيمتها واهميتها؛ فان عشرين سنة من عمر مبهم افضل من الف سنة من عمر معلوم النهاية.

84ــ ان عاقبة المعصية في الدنيا، دليل على العقاب الاخروي.

85ــ ان الرزق ذو اهمية في نظر القدرة كأهمية الحياة. فالقُدرة تُخرج الرزق والقَدَرُ يلبسه - الّلباس المعين - والعناية تربيّه وترعاه، فالحياة محصّلة مضبوطة- أي مشاهدة محدّدة - اما الرزق فهو غير محصل - آنيّاً - وتدريجي، ومنتشر، يحمل المرءَ على التدبر. لا موت من الجوع، لان الشخص لا يموت قبل استهلاك الشحم وسائر المواد المدخرة في الجسم. اذن فسبب الموت هو المرض الناشئ من ترك العادة، لا إنعدام الرزق.

86 - ان رزق أكلة اللحوم الوحشية الحلال هو جيف الحيوانات التي لا حدّ لها، وهي اذ تتناول رزقها تنظف وجه البسيطة ايضاً.

87 - لقمةٌ بفلسٍ واحد واخرى بعشرة فلوس مثلاً كلتاهما متساوية قبل دخولهما الفم، وبعد مرورهما من الحلقوم مع فارق واحد هو تلذذ الفم بها لعدة ثوانٍ، لذا فان صرف عشرة فلوس بدلاً من فلس واحد إرضاءً لحاسة الذوق الموظفة بالتفتيش والحراسة أسفه انواع الاسراف.

88 - كلما نادت اللذائذ ينبغي الاجابة بـ((كأنني أكلت)) فالذي جعل هذا دستوراً له كان بوسعه ان يأكل مسجداً مسمىً بـ((كأنني اكلت))(1) فلم يأكل.

89 - لم يكن اكثر المسلمين في السابق جائعين، فكان الترفّه جائز الاختيار، أما الآن فهم جائعون فلا اختيار في التلذذ.

90ــ ينبغي التبسم في وجه الألم المؤقت والترحيب به اكثر من التبسم للّذة المؤقتة، اذ اللذات الماضية تُنطِق المرء بالحسرات وما هي إلاّ ترجمان لألمٍ مستتر بينما الآلام الماضية تُنطِق المرء: بالحمد لله الذي يخبر عن لذةٍ ونعمةٍ مضمرة.

91ــ ان النسيان كذلك نعمة. لأنهُ يذيق الآلام اليومية وحدها، بينما يُنسي المتراكمة منها.

92ــ ان لكل مصيبة درجة نعمة كدرجات الحرارة - التي تتداخلها البرودة - لذا ينبغي الشكر لله بالتفكير فيما هو أعظم، ورؤية النعمة في الأصغر. وإلاّ اذا نُفخ فيها واستُعظِمتْ فانها تعظُم، واذا اُقلق من اجلها تتوأمت وانقلب مثالُها الوهمي في القلب الى حقيقة تسحق القلب.

93ــ لكل شخص نافذة يطل منها على المجتمع - للرؤية والاراءة - تسمى مرتبة، فاذا كانت تلك النافذة ارفعَ من قامة قيمته يتطاول بالتكبر، اما اذا كانت اخفضَ من قامة قيمته، يتواضع بالتحدّب وينخفض حتى يشهد في ذلك المستوى ويُشاهد. إن مقياس العظمة في الانسان هو التواضع،أما مقياس الصغر فيه فهو التكبر والتعاظم.

94ــ ان عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي لو كانت في القوي لكانت تكبراً، وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف، لو كان في الضعيف لكان تذللاً.

ان جديّة وليّ الامر في مقامه وقارٌ، أما لينُه فهو ذلة. كما ان جديته في بيته دليل على الكبر ولينَه دليل على التواضع.

ان كان الفرد متكلماً عن نفسه فصَفحُه وسماحه - عن المسيئين - وتضحيته - بما يملك - عمل صالح، اما اذا كان متكلماً باسم الجماعة فخيانة وعمل غير صالح.

ان المرء يستطيع ان يكظم الغيظ - لما يعود لنفسه - وليس له ان يتفاخر بشئ يخصّه، ولكن يمكنه ان يفخر باسم الامة من دون ان يكظم غيظاً بحقها.

95ــ ان تفويض الامر الى الله في ترتيب المقامات كسل، أما في ترتّب النتيجة فهو توكل. والرضا بقسمته وثمرة سعيه قناعة، تقوّي من ميل السعي أما الاكتفاء بالموجود فتقاصر في الهمة.

96ــ فكما ان هناك طاعة وعصياناً تجاه الاوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعةٌ وعصيانٌ تجاه الاوامر التكوينية.

وغالباً ما يرى الاول - مطيع الشريعة والعاصي لها - جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني - مطيع السنن الكونية والعاصي لها - غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا.

فكما ان ثواب الصبر النصرُ، وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل. كذلك ثواب السعي الغنى وثواب الثبات التغلب.

ان العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة.

97ــ ان التماثل مدعاة للتضاد، والتناسب اساس للتساند، وصغر النفس منبع التكبر، والضعف معدن الغرور، والعجز منشأ المخالفة، والشغف استاذ العلم.

98ــ ان القدرة الفاطرة قد ألجمت جميع الأحياء وفي مقدمتها الانسان بدافع الحاجة، ولا سيما حاجة الجوع، واقحمتها في نظام، فانقذت العالم من الهرج والمرج وحققت الرقي للانسان بجعل الحاجة استاذاً للحضارة.

99ــ ان الضيق معلم للسفاهة، واليأس منبع ضلال الفكر، وظلمة القلب منبع ضيق الروح.

100 ـ [ اذا تـأنــث الـرجـال بـالتهـوس تـرجـّل الـنسـاء بالـتـوقـّح ].

كلما دخلت امرأة حسناء في مجلس من مجالس الاخوان تنبّه عرق الرياء والحسد والمنافسة. ففي تكشّف النساء تكشفٌ عن الاخلاق السيئة في الانسان المتحضر.

101ــ ان للصور المتبسمة - تلك الجنائز المصغرة - دوراً مهماً في روح البشر الرعناء الملوثة الآن بالسيئات.

102ــ ان الهياكل الممنوعة شرعاً، إما أنها ظلم متحجّر، أو هوى متجسّم، أو رياء متجسّد.

103ــ ان ميل التوسع والاجتهاد هو ميل للتكمل إن كان من الداخلين بحقٍ في دائرة الاسلام بامتثال مسلّماته جميعاً، بينما يصبح - هذا الميل - ميلاً للتخريب ان كان ممن يهمل الضروريات ويعدّ خارجاً عن الدائرة لعدم مبالاته. فاثناء العواصف المدمرة تقتضي المصلحة سدّ نوافذ الاجتهاد فضلاً عن فتح ابوابه.

ان الذين لا يبالون بالدين لا ينبغي ان يلطّفوا بالرُخص بل ينبهون بشدة، بالعزائم.

104ــ يا للحقائق البائسة، انها تفقد قيمتها في الايدي الاعتيادية الوضيعة.

105ــ ان كرتنا الارضية تشبه الحيوان، تبرز اثار الحياة. تُرى لو صغرت حتى تصبح في حجم بيضة، ألا تصبح نوعاً من حيوان؟ أو إذا كبرت جرثومة بقدر كرتنا أفلا تشبهها؟ فإذا كانت لها حياة، فلها روح ايضاً. فإذا صغر العالم صغر الانسان، وتحولت كواكبه في حكم الذرات أو الجواهر الفردات، أفلا يصبح هو ايضاً حيواناً ذا شعور؟ ان للّه سبحانه كثيراً من امثال هذه الحيوانات.

106ــ الشريعة اثنتان:

احداها: هي الشريعة المعروفة لنا، التي تنظم افعال واحوال الانسان، ذلك العالم الاصغر، والـتـي تأتي من صفـة الكلام.

الثانية: هي الشريعة الكبرى الفطرية، التي تنظم حركات وسكنات العالم، ذلك الانسان الاكبر، والتي تأتي من صفة الارادة. وقد يطلق عليها خطأ اسم الطبيعة.

والملائكة امة عظيمة هم حملة الاوامر التكوينية وممثلوها وممتثلوها تلك الاوامر الآتية من صفة الارادة والتي تسمى بالشريعة الفطرية.

107ـ [ اذا وازنتَ بين حواس حوينةٍ ((مجهرية)) وحواس الانسان، ترى سراً عجيباً: ان الانسان كصورة يس كتب فيها سورة يس ].

108ــ ان الفلسفة المادية طاعون معنوي، حيث سبّب في سريان حمى مدهشة في البشرية وعرضها للغضب الإلهي، وكلما توسعت قابلية التلقين والنقد توسع ذلك الطاعون ايضاً.

109ــ ان اشد الناس شقاءً واضطراباً وضيقاً هو العاطل عن العمل. لأن العطل هو ابن اخ العدم. اما السعي فهو حياة الوجود ويقظة الحياة.

110ــ ان البنوك التي هي وسائط الربا وابوابها، انما تعود بالنفع على الكفار - الذين هم أسوأ البشرــ وعلى اظلمهم، وعلى اسفه هؤلاء. ان ضررها على العالم الاسلامي ضرر محض. ولا يؤخذ رفاه البشرية قاطبة بنظر الاعتبار، ولأن الكافر ان كان حربياً ومتجاوزا ًفلا حرمة ولا عصمة له.

111ــ ان الهدف من خطبة الجمعة تذكير بالضروريات الدينية ومسلّماتها لا تعليم النظريات،والعبارة العربية تذكّرها على افضل وجه واسماه.

واذا قورن بين الآية والحديث، يتضح انه حتى أبلغ البشر لا يستطيع ان يبلغ بلاغة الآية، وان هذا لا يشبه تلك.

سعيد النورسي



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

يا الله، يا رحمن، يا رحيم،

يا فرد، يا حي، يا قيوم، يا حكم، يا عدل. يا قدوس

بحق الاسم الاعظم وبحرمة القرآن المعجز البيان وبكرامة الرسول الاعظم e ، ادخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنة الفردوس والسعادة الابدية.. آمين.

ووفـّقهم في خدمة الايمان والقرآن دوماً وابداً.. آمين واكتب في صحيفة حسناتهم ألف حسنة لكل حرف من حروف كتاب ((المكتوبات)).. آمين.

وأحســن الـيهـم الــثبات والـدوام والاخـلاص فـي نشر ((رسائل النور)). آمين

يا ارحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة.. آمين.

واحفظهم من شر شياطين الجن والانس.. آمين.

واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

بإسم جميع طلاب النور

سعيد النورسي


الساعة الآن 12:44 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى