منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   المواضيع الاسلامية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=7)
-   -   فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 145 (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=9089)

عبد القادر الأسود 11-05-2014 10:10 AM

فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 145
 
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ.
(145)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يُخْبِرُنا اللهُ ـ سبحانَه ـ أَنَّهُ لما جاءَ نبيُّه موسى ـ عليه السلامُ لميقاتِه، كما ذُكِرِ في الآية السابقةِ أعطاهُ أَلْوَاحاً هي التوراتُ، كَتَبَ فِيهَا أَنْوَاعَ الهِدَايَةِ وَالمَواعِظِ، وَما يحتاج إليه هو وقومُهُ مِنْ أَحْكَامٍ مُفَصَّلةً تُبَيِّنُ الحَلالَ وَالحَرَامَ، والحَسَنَ والقبيحَ، وتوضِّح الغامِضَ والمبهَمَ، وتنظِّمُ المُعاملاتِ بين الناسِ، ليكونَ دستوراً لبني إسرائيلَ يمشونَ عليه، يستضيئونَ بهديه، ويلتزمون بتعاليمه ومبادئه. و "كتبنا" قيلَ: معناها فَرَضْنا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} سورة البقرة، الآية: 178. وقال في سورة البقرة كذلك: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} الآية: 180. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة، الآية: 183. وقال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} سورة البقرة، الآية: 216. وقال: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} سورة البقرة، الآية: 246. وقال في سورة الحشر: {ولولا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الجلاءَ} الآية: 3. وغيرها كثيرٌ وكلُّها بمعنى فَرَضَ وقَضَى، كما تَرى. وتأتي أيضاً بمعنى: "شَرَعْ"، قالَ في سُورَةِ النِسَاءِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} الآية: 66. وقدْ تَقَدَّمَ مَعْنى الكَتْبِ مفصَّلاً في الآية الثانية من سورةِ البقرة.
وكتبنا ـ هنا ـ أيْ أَمَرْنا مَلائِكةً بالكِتَابَةِ، لأَنَّ اللهَ ـ تَبارَكَ وتعالى ـ لا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ، فإنَّ الكتابةَ هِيَ مِنْ عَمَلِ المَخلوقاتِ، وليستْ مِنْ عَمَلِ الخالِقِ، وكذلك قولُهُ في الآية: /12/ من سورة: (يس): {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وآثارهم وكلَّ شيءٍ أَحْصيناهُ في إمامٍ مُبينٍ} فهو مُفَسَّرٌ بِقَولِهِ بَعدَ ذَلِكَ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} سورةُ يس، الآية: 82. وبقولِه في سورة الزُخرُفِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون} سُورةُ الزُخْرُفِ، الآية: 80. إلى غير ذلك من الآياتِ الكريمةِ، والأحاديثِ الشَريفَةِ التي تنُصُّ على أنَّ الملائكةَ الكرامَ هم الذين يكتبونَ ما يأمرهم ربُّهم بكتابتِه، وهي كثيرةٌ جدّاً، فالكِتَابةُ إذاً هي مِنْ فِعْلِ المَلائكةِ بَأَمرٍ مِنَ اللهِ ـ جَلَّ جَلالهُ. وإِطْلاقُها على الذَّاتِ المُقَدَّسَةِ مِنَ المجازِ، وهو مُسْتَعْمَلٌ كَثيراً في العربيَّةِ، فهم يقولون: أَعْطى المَلِكُ كذا، وقاتلَ كذا وكذا، وفتحَ من البلادَ كيت وكيت، إلى غيرِ ذلِكِ من الأفعالِ التي تُسنَدُ إلى الآمِرِ بها على أنَّه المصدرُ والمرجعُ وله السلطانُ، وإنَّما هُوَ الآمِرُ بهذِه الأَفعالِ، والفاعلُ مِنْ جُنْدِهِ وعُمَّالِه. وقيلَ غير ذلك لما أخرجَ عبدُ بْنُ حميدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قالَ: إنَّ اللهَ لم يَمَسَّ شَيْئاً إلاَّ ثَلاثةً: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وغَرَسَ الجَنَّةَ بِيَدِهِ، وكَتَبَ التَوراةَ بِيَدِهَ. والله أعلم. و "الألواح" جمعُ لوحٍ وسُمِّيَ لَوْحاً لأنَّ المعاني تَلوحُ فِيهِ، أيْ تَبْدوا أَوْ تَظْهَرُ، والأَلْواحُ هُنا هِيَ التَوْراةُ. وتَعدَّدتِ الرواياتُ، واختلفَ المفَسِّرونَ في ماهيَّةِ هذِه الألواحِ، فقد كانوا قديماً يَكتُبُونَ على كلِّ شَيْءٍ مُنْبَسِطٍ، كَقِطَعِ الأَحْجارِ الملساءِ، وجُذوعِ الأَشْجارِ، وأوراقها الواسعة المتينة، كأوراقِ البردِيِّ، وسعفِ النخيلِ، وشَرائحِ الخَشَبِ، وغالباً ما كانوا يَكْتُبون على ما يُسَمَّى باللوحِ مِنْ عِظامِ الحيواناتِ، أي القطعة المسطحةُ مِنْ عظم الكَتِفَ، أو يَتَّخِذونَ مِنَ الطّينِ أَلواحاً تُشْبِهها، ثمَّ أطلقوا هذا الاسْمَ على كلِّ ما يكتبُ عليه، وصاروا يسمّونَ كلَّ مَكْتوبٍ لَوْحاً.
أمَّا ألواحُ موسى فقيل هي مِنْ زَبَرْجَدِ الجَنَّةِ، لِما أَخرَجَ أَبو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قال: أُخْبِرْتُ أَنَّ الأَلْواحَ مِنْ زَبَرْجَدِ ومِنْ زُمُرُّدِ الجَنَّةِ، أَمَرَ الرَّبُّ ـ تعالى ـ جِبريلَ فجاءَ بها مِنْ عَدْنٍ، وكَتَبَها بِيَدِهِ بالقَلَمِ الذي كَتَبَ بِهِ الذِكْرَ، واسْتَمَدَّ الرَّبُّ مِنْ نهرِ النُورِ، وكَتَبَ بِهِ الأَلْواحَ. وقيل هي منْ بُرْدِ، فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَّيْخِ عَنْ أَبي العالِيَةِ، قالَ: كانتْ أَلْواحُ مُوسى مِنْ بُرْدٍ.
قولُهُ: {من كل شيء} يَعْني: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَتَطَلَّبُهُ خِلافَةُ الإِنْسانِ للهِ ـ تعالى ـ في أرضِهِ؛ فالمرسلون جميعاً جاؤوا بِعقيدةٍ واحدةٍ، هي عقيدةُ التوحيدِ، إنما جاء كلٌّ منهم بتشريعٍ مُناسِبٍ للفَتْرَةِ الزَمَنِيَّةِ التي بُعِثَ فيها، وصالحٍ لأمَّة التي أرسلَ إليها، وحده محمدٌ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ـ حُمِّلَ الرسالةَ الكاملة بشريعةٍ تامَّةٍ صالحةٍ لكلِّ زمانٍ ولكلِّ مكانٍ، ولجميع البشرِ، لأنها الرسالةُ الأخيرُ ولأنّهُ الرسولُ الخاتِمُ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ فقد بعثَ على مقربة من الساعةِ، لما أخرج الأئمة من حديث أنسٍ بنِ مالكٍ ـ رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين ـ من أنَّه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ قال: ((بُعِثْتُ أَنَا والسَّاعَةِ كَهاتَين)). وأشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطى. أخرجهُ أحمدٌ والبُخاريُّ ومُسْلِمٌ والتِرْمِذِيُّ وهنَّادُ بْنُ السَرِّيِّ والطبرانيُّ وابْنُ مَردَوَيْهِ والضِياءُ المَقْدِسيِّ، ورواهُ كذلكَ عَدَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ مِنْهمْ جابرُ بْنُ سَمُرَةَ.
قولُه: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي: أنّهُ ـ سُبْحانَه ـ كَتَبَ في الأَلْواحِ الموعِظَةَ والتَفْصيلَ لمنْهَجِ الحياةِ، والموعِظةُ لا تُنْشِئُ حُكْماً جديداً للسامِعِ، إنَّما تَرغِّبُهُ بِالعملِ بما سبق له أنْ عَلِمَه، وتحذِّره عاقبةَ إهمالِه والتَهاوُنِ فيهِ أو المخالفة والتقصيرِ. وقدْ جاءَ ذلِكَ مفَصَّلاً في التوراتِ وموضَّحاً بحيث لا يبقى عذرٌ لمخالفٍ أو مقصِّرٍ.
قولُهُ: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} بعد أنْ وضَّح الحقُّ تباركت أسماؤه وبيَّنه بحيث لم يترك مجالاً للَبْسِ أو غموضٍ، أَمَرَ رسولَهُ موسى ـ عليه السّلامُ ـ أَنْ يَأْخُذَ بِهذه الشريعة بقوَّةٍ، وأنْ يكونَ حازماً في موضوعِ الالتزامِ بتعاليمها، صارماً في تطبيقها، وَأَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يفعلوا مثل ذلك أُسوةً بنبيِّهم، وخاصَّةً الأَساسيّاتِ مَنها والأحسَنَ: كَتوحيد اللهِ تعالى وتنزيهِهِ عن الندِّ والولدِ والشريك وكلِّ ما لا يليقُ بذاتِهِ المقدَّسةِ العليَّةِ، ومن ثمَّ إِخْلاصُ العِبَادَةِ والطاعةِ له ـ سبحانَه، والعَفْوَ بَدَلَ القِصَاصِ.
قولُه: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أَمَّا الفَاسِقُونَ الذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللهِ، وَيَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَإِنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ إلَى الهَلاَكِ، وَالدَّمَارِ، شأنُهم في ذلك شأنُ مَنْ سبقَهم من الأمَمِ الخارجة على شرائع اللهِ والتي كفرت به وجحدت نعمَهُ عليها، وكذَّبت أنبياء اللهِ ورُسُلَه الذين أرسلهم إليهم، وَسَيُري اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي أَسْفَارِهِمْ، دِيَارَ الأُمَمِ الفَاسِقَةِ السَّالِفَةِ، وَمَا صَارَتْ إِلَيهِ مِنْ خَرابٍ، لِيَعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ.
قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً} كَتَبْنَا: فعلٌ ماضٍ وفاعلُه، أمّا مفعولُه فيجوزُ أن يكونَ "موعظة " أيْ: كَتَبْنا لَهُ مَوْعِظَةً وتَفصيلاً. ويكونُ "من كل شيء" متعلِّقٌاً ب "كَتَبْنَا"، أو بمحذوفٍ لأنَّه في الأَصْلِ صِفَةٌ لِ "موعظة"، فلمَّا قُدِّمِ عَلَيْها نُصِبَ حالاً، و "لكلِّ شيء" صِفَةٌ لِ "تفصيلاً". ويجوزً أنْ يكونَ "مِنْ كُلِّ شيءٍ" في محلِّ نَصْبٍ مفعولاً ل "كتبنا"، و "موعظة" و "تفصيلاً" بَدَلٌ مِنْهُ، والمعنى: كَتَبْنا لَهُ كُلَّ شَيْءٍ كانَ بَنُو إسْرائيلَ يَحْتاجونَ إلَيْهِ في دِينِهم مِنَ المواعِظِ وتَفْصِيلِ الأَحكامِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ مَفعولُ "كَتَبْنا" مَوْضِع المجرورِ كما تَقولُ: أَكَلْتُ مِنَ الرَّغيفِ. وعليه فَ "مِنْ" للتَبْعيضِ، أَيْ: كَتَبْنا لَهُ أَشياءً مِنْ كُلِّ شَيءٍ، ويكون نَصبُ "مَوْعِظة" و "تفصيلاً" على المفعولِ مِنْ أَجْلِهِ، أي: كَتَبْنا لَهُ تِلْكَ الأَشْياءَ للاتِّعاظِ وللتَفْصيلِ. و "الألواح" يجوزُ في "ال" أَنْ تَكونَ لِتَعريفِ الماهِيَّةِ، ويجوزُ فيها أنْ تكونَ للعَهْدِ، لِما يُروَى مِنْ أَنَّه هُوَ الذي قَطعها وشقَّها. ويجوزُ فيها أيضاً أنْ تكونَ عِوَضاً مِنَ ضَميرٍ مقدَّرٍ، أي: "في أَلْواحِهِ" كما في قولِهِ تعالى: {فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المأْوَى}، أيْ: مَأْواه. لكنَّنا نحتاج فيه إلى رابطٍ يَرْبِط بين الاسْمِ والخبرِ، فالكُوفِيُّونَ يجعلونَ "أل" عِوضاً مِنَ الضَميرِ، والبَصْرِيُّونَ يُقَدِّرونَه أي: هي المأوى لَه، وأَمَّا في هذه الآيَةِ فلا ضَرورََةَ تَدْعُو إلى ذلك.
قولُهُ: {بقوة} هذا الجار والمجرورُ متعلقٌ بحالٍ: إمَّا مِنَ الفاعلِ، أيْ: خذ هذه الألواحَ أو الشريعة المكتوبة فيها حالَ كونِكَ مُتَدرِّعاً بِِقُوَّةٍ، وإمَّا مِنَ المَفعولِ، أيْ: خُذْ هذِهِ الألواحَ حالَ كونها مُتصِفةً بِقُوَّةٍ، أيْ: بِقُوَّةِ أدِلَّتِها وبَراهينِها، والأوَّلُ أَقْرَبُ.
قولُهُ: {فَخُذْها بقوَّة} يحتملُ أن تكونَ هذه الجُملة بَدَلاً مِن قولِهِ "فخُذْ ما آتيتك" وفي هذه الحالة يَكونُ الضميرُ عائداً على معنى "ما" لا على لَفْظِِها، ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ في محلِّ نَصبٍ بقولٍ مُضْمَرٍ، وذلك القولُ مَنْسوقٌ على جملةِ "كتبنا" والتَقديرُ: و "كَتَبْنا" "فَقُلْنا": "خُذْ ما آتيتك بقوة"، فيكون الضميرُ في هذه الحالِ عائداً على "الأَلْواح"، أوْ على "التوراةِ"، أوْ على "الرِسالاتِ"، أو على "كُلِّ شيءٍ" لأنَّهُ في مَعنى "الأشياء".
قوله: {يَأْخُذُواْ} الظاهرُ أَنَّهُ مجْزومٌ جَواباً للأمْرِ في قولِهِ: "وَأْمُرْ". ولا بُدَّ مِنْ تأويلِه لأنَّهُ لا يَلْزمُ مِنْ أَمْرِهِ إيَّاهُم بِذلِكَ أَنْ يَأخُذوا، بِدَليلِ عِصْيانِ بعضِهم لَهُ في ذلك، فإنَّ شَرْطَ ذلك انحلالُ الجُمْلَتَين إلى شَرْطٍ وجزاءٍ. وقيل: انجزَمَ على إضْمارِ اللاّمِ، والتقديرُ: لِيَأْخُذُوا، ومنه قولُ الأعشى:
محمدٌ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ ................. إذا ما خِفْتَ مِنْ أمرٍ تَبالا
وهو مَذْهَبُ الكِسائِيِّ، أمّا ابنُ مالكٍ فإنّه يرى جَوازَهُ إذا كان في جوابِ "قل"، وهنا لم يُذكر "قل" ولكن ذُكِر شيءٌ بمعناه؛ لأنَّ مَعنى "وَأْمُرْ" و "قل" واحد.
قولُهُ: {بِأَحْسَنِهَا} يجوزُ أَنْ يَكونَ حالاً كَما تَقَدَّمَ في قولِه: "بقوة" وعلى هذا فمَفعولُ "يأخذوا" محذوفٌ، تقديرُهُ: يَأْخُذوا أَنْفُسَهم. ويجوزُ أَنْ تَكونَ الباءُ زائدةً، و "أحسنُها" مفعولٌ بِهِ والتَقديرُ: يأخذوا أَحْسَنَها ومنه قول عبيدٍ الراعي (ونَسَبَهُ بعضُهم إلى كُثَيِّرِ عَزَّةَ، ونسبه آخرون إلى الأخْطَلِ):
هُنَّ الحَرائرُ لا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ........... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ
وقد تَقَدَّمَ ذلك محقَّقاً في قولِهِ تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ} الآية : 195، من سورة البَقَرةِ. ويجوزُ في "أَحْسَن" أنْ تَكونَ على بابها أيْ للتَفْضِيلِ ويجوزُ أَلاَّ تَكونَ، بَل يمكنُ أنْ تَكونَ بمعنى "حَسَنَة" وهي كما هو قولُ الفرزدق:
إنَّ الذي سَمَك السماء بنى لنا ............... بيتاً دعائِمُهُ أعزُّ وأطولُ
أي: عزيزةٌ طَويلَةٌ.
قولُهُ: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} يجوزُ أَنْ تَكونَ الرُؤْيَةُ هنا بَصَرِيَّةً، وهُوَ الظاهِرُ، فتَتَعَدَّى لاثْنَينِ، أَحَدُهما: ضميرُ المُخاطَبين، والثاني "دار". ويجوزُ أَنْ تكونَ الرؤيةُ قلبيَّةً ويَكونُ المعنى: سأُعَلِّمُكُم سِيَرَ الأَوَّلينَ وما حَلَّ بهم مِنَ النَّكالِ. فالدارُ هنا بمعنى ما دارَ إليْهِ أَمرُهُم، أي ما آلَ إليه أمرُهم، وذَلك لا يُعْلم إلاَّ بالإِخْبارِ والإِعْلامِ. وقد اعترض ابْنُ عَطِيَّةَ على هذا الوَجْهِ فقال: لو كان مِنْ رُؤْيَةِ القَلَبِ لَتَعَدَّى بالهَمْزَةِ إلى ثلاثةِ مَفعولين. ولو قالَ قائلٌ: المفعولُ الثالثُ يَتَضَمَّنُهُ المعنى فهوَ مُقَدَّرٌ، أيْ: سأريكم دارَ الفاسقينَ خَرِبَةً، أَوْ سأريكم دارَ الفاسقين مُسَعَّرَةً، وهذا على قولِ مَنْ قالَ إنَّ دارَ الفاسقين هي جَهَنَّمُ، قيلَ لَهُ: لا يجوزُ حَذْفُ هذا المفعولِ، ولا الاقتصارُ دونَه لأنها داخلةٌ على الابتداءِِ والخبرِ، ولو جُوِّزَ لَكانَ على قُبْحٍ في اللِّسانِ لا يَليقُ بِكِتابِ اللهِ تعالى. ورَدَّ الشيخُ أبو حيّان التوحيدي اعْتِراضَ ابْنِ عَطيَّةَ فقال: وحَذْفُ المفعولِ الثالثِ في بابِ "أَعْلَمَ" لِدَلالَةِ المعنى عَلَيْهِ جائزٌ، فَيَجوزُ في جَوابِ سؤالك: هَلْ أَعْلَمْتَ زَيْداً عَمْراً مُنْطَلِقاً؟ أنْ يُقالَ: نَعم أَعْلَمْتُ زَيْداً عَمْراً، بحذْفِ "منطلقاً" لِدَلالَةِ الكلامِ السابِقِ عَلَيْهِ. وهذا مُسَلَّمٌ بِهِ، لكنْ أَيْنَ الدَليلُ عَلَيْهِ في الكَلام كَما هو في المِثالِ الذي أَبْرَزَهُ الشيخُ؟ ثمَّ قالَ الشيخُ: وأَمَّا تَعلِيلُه بأنَّها داخِلةٌ على المُبْتَدَأِ والخَبَرِ، فلا يَدُلُّ عَلى المَنْعِ، لأنَّ خَبَرَ المُبْتَدَأِ يَجوزُ حَذْفُهُ اخْتِصاراً، والثاني والثالثُ في باب "أَعْلَمَ" يَجوزُ حَذْفُ كُلٍ مِنْهُما اخْتِصاراً. وحَذْفُ الاخْتِصارِ لِدَليلٍ، ولا دَليلَ هُنا. ثمَّ قال الشيخُ: وفي قولِهِ لأنها ـ أَيْ "سأريكم" ـ داخلةٌ على المُبْتَدَأِ والخَبَرِ، فيهِ تَجَوُّزٌ، ويَعني أَنَّها قَبْلَ النَّقْلِ بالهَمْزَةِ داخلةٌ على المُبْتَدأِ والخَبر.
قرأ العامَّةُ: "سأريكم" وقَرَأَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "سَأُوْريكم" بواوٍ خالِصَةٍ بَعدَ الهمزة، وفيها تخريجان، الأولُ، أنها مِنْ: "أَوْرَني" و "أَوْرَيْتُه"، وهي لُغةٌ فاشِيَةٌ بالحِجازِ، فوَجْهُهُ أَنْ يَكونَ مِنْ أَوْرَيْتُ الزِنادَ فيكونُ المَعنى: بَيِّنْهُ لي، وأَنِرْه لأَسْتَبينَهُ. وهذا الوجه ذكره الزمخشريُّ، والتخريجُ الثاني ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي وهو أَنَّهُ على إِشْبَاعِ الضمَّةِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْها الواوُ، قال ابنُ جنِّي: ونَاسَبَ هذا كَوْنَهُ مَوْضِعَ تهديدٍ ووَعيدٍ فاحْتَمَلَ الإِتيانَ بالواوِ. وهذا القولُ لابْنِ جِنِّيّ مؤيَّدٌ بقولِ الشاعر:
اللهُ يعلمُ أنَّا في تَلَفُّتِنا ..................... يومَ اللقاءِ إلى أَحْبابِنا صُورُ
وأَنَّني حيْثُما يَثْني الهوى بَصَري ...... مِنْ حَيْثُ ما سَلَكُوا أَدْنُو فانْظُورُ
لكنَّ الإِشباعَ بابُهُ الضَرورَةُ عِنْدَ بَعْضِهم.
وقرأ ابْنُ عَبَّاسٍ وقسامَةُ ابْن ُزَيْدٍ: "سأُوْرِثكم". وهي قِراءَةٌ حَسَنَةٌ يُصَحِّحُها قولُهُ تَعالى في الآية: 137. من هذه السورة المباركة: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ}.


الساعة الآن 09:33 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى