رمضان شهر الحرية
الكاتب : الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى
ليست الحرية كما يتوهمها أكثر الناس مقصورة على نوال الشعوب حقها في السيادة والاستقلال، فتلك هي الحرية السياسة، ووراءها حرية الأمة في تفكيرها وثقافتها واتجاهاتها الإنسانية الكريمة. وليست الحرية كما يظنها كثير من الشباب أن ينطلق الإنسان وراء أهوائه وشهواته، يأكل كما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويحقق كل ما يهوى ويريد، فتلك هي: الفوضى أولاً والعبودية الذليلة أخيراً ... أما أنها فوضى، فلأنه ليس في الدنيا حرية مطلقة غير مقيدة بقانون أو نظام، بل كل شيء في الدنيا له قانون يسيره وينظمه، وحرية الفرد لا تصان إلا حين تقيد ببعض القيود لتسلم حريات الآخرين، ومن هنا كانت الحكمة من الشرائع والدساتير والأنظمة والقوانين .. خذ لذلك مثلاً قانون السير في المدن الكبرى، هل تستطيع أن تسير بسيارتك إلا وفق السهام التي تحدد اتجاهك في السير؟ وخذ لذلك مثلاً قانون الراحة العامة: هل تستطيع أن تغني بعد منتصف الليل كما تشاء في الشوارع الآهلة بالسكان؟ وخذ لذلك قانون حماية الاستقلال: هل تستطيع أن تبث من الآراء ما يؤدي إلى الانتقاض على أمن الدولة وتهديد سلامتها؟ هل تستطيع أن تدعو إلى الصلح مع العدو، وأمتك في قلب المعركة؟ هل تستطيع أن تتاجر مع العدو أو تهرب إليه منتجات بلادك دون أن تتعرض للعقوبة التي قد تصل أحياناً إلى حد الإعدام؟ إن تمام الحرية لا كمالها قد يكون بالمنع أحياناً. فالمريض حين يمنع عن الطعام الذي يضره، إنما تحد حريته في الطعام مؤقتاً، لتسلم له بعد ذلك حريته في تناول ما يشاء من الأغذية. والمجرم حين يسجن، إنما تحد حريته مؤقتاً، ليعرف كيف يستعمل حريته بعد ذلك في إطار كريم لا يؤذي نفسه ولا يؤذي الناس. ثم إن الإنسان لا يعيش وحده، وإنما يعيش جزءاً من مجتمع متماسك، يؤذيه كله ما يؤذي بعضه، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً من أروع الأمثلة بقوم كانوا في سفينة وكان بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، وكان الذين في أسفلها، يأخذون الماء ممن فوقهم، فقالوا: لماذا لا نخرق في مكاننا خرقاً نأخذ منه الماء من البحر رأساً؟ قال عليه الصلاة والسلام: "فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" إنه مثل كريم من معلم الإنسانية الأكبر يضع فيه الحد الفاصل بين الحرية الشخصية التي لا تؤذي أحداً، وبين الحرية التي تؤذي المجتمع وتعرضه للانهيار إذا أطلقت يد صاحبها فيها كما يشاء. وأما إنها العبودية، فلأن تمام الحرية هو أن لا يستعبدك أحد ممن يساويك في الإنسانية أو يكون دونك فيها، وفي الفوضى التي يعبر عنها بعض الناس "بالحرية الشخصية" عبودية ذليلة لمن هو مثلك أو دونك من قيم الحياة ومادتها.. حين تستولي على الإنسان عادة الانطلاق وراء كل لذة، والانفلات من كل قيد، يكون قد استعبدته اللذة على أوسع مدى، وأصبح أسيرها يجري في الحياة تحت إرادتها ووحيها، لا يعمل إلا ما تريد، ولا يستطيع فكاكاً مما تهوى .. فما هذه الحرية التي تنقلب إلى عبودية لأهون ما في الحياة من قيمة ومعنى؟.. لئن كانت قيمة الإنسان بمقدار ما ينال من لذائذه، فإن الحيوان أكثر منه قيمة وأعلى قدراً! إن الحيوان هو الذي يسعى وراء لذته بلا قيد ولا هدف، ومهما جهد الإنسان أن ينال من لذائذه ما يهوى فإنه ملاق في سبيل ذلك - رغم أنفه - عوائق تمنعه من بعض ما يريد، فهل يزعم أحد أن الحيوان الذي لا يعوقه دون استكمال لذته عائق، أكثر من الإنسان حرية: فهو أكثر منه سعادة؟!. وحين ينطلق الإنسان وراء فتاة يهواها، أو وراء الغانيات يشبع بهن لذائذه، أيستطيع أن يزعم أنه حر من سلطانهن؟ ألا تراه أسير اللحظات، رهن الإشارات، شارد اللب، أقصى أمانيه في الحياة بسمة من حبيب هاجر، أو وصال من جسم ممتنع؟ أية عبودية أذل من هذه العبودية وهو لا يملك حريته في الحب والكره، والوصل والمنع، والرضا والغضب، والهدوء والاضطراب؟ وحين يسترسل الإنسان في تناول المسكرات يعب منها ما تناله يده حتى تتلف أعصابه وصحته وتسلب عقله وكرامته، أيزعم بعد ذلك أنه حر؟ أهنالك أبشع من هذه العبودية لشراب قاتل وسموم فتاكة؟ وقل مثل ذلك في التهالك على المال والجاه، والتعصب للزعيم والقائد، إن كل ذلك حين يستولي على قلب الإنسان ونفسه ينقلب إلى عبودية ذليلة، وكل هوى يتمكن من النفس، حتى تكون له السيطرة على الأعمال والسلوك ينقلب بصاحبه إلى عبودية بشعة لا نهاية لقبحها. ومن أعجب أساليب القرآن تعبيره عن مثل هذه الحالة بقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}الجاثية23 إن الهوى عند أمثال هؤلاء له خصائص الألوهية في نفوس المؤمنين .. أليس الإلَه هو الذي يعبد ويطاع، ويُخشى ويرتجى؟ وأليس أصحاب الأهواء والشهوات قد خضعوا لأهوائهم وأطاعوها فما تحب وتكره، فلا يستطيعون إغضابها ولا معارضة اتجاهاتها؟. ليست العبودية قيداً ولا سجناً فحسب. فهذه أهون أنواع العبودية وأسرعها زوالاً، ولكن العبودية الحقة: عادة تتحكم، وشهوة تستعلي، ولذة تطاع. وليست الحرية هي القدرة: القدرة على الانتقال من بلد إلى بلد، فتلك أيسر أنواع الحرية وأقلها ثمناً، ولكن الحرية الحقة: أن تستطيع السيطرة على أهوائك ونوازع الخير والشر في نفسك، وإن الحرية الحقة، أن لا تستعبدك عادة ولا تستذلك شهوة. بهذا المعنى كان المؤمنون المتدينون، أحراراً لا تحد حريتهم بحدود ولا قيود. إن الدين حرر نفوسهم من المطامع والأهواء والشهوات، وربط نفوسهم بالله خالق الكون والحياة، وقيد إرادتهم بإرادته وحده، والله هو الحق وهو عنوان الخير والحب والرحمة، فمن استعبده الحق والخير والرحمة كان متحرراً من كل ما عداها من صفات مذمومة. وإذا كان لا بد للإنسان من أن تستعبده فكرة أو نزعة أو خلق، فالذين يستعبدهم الحق خير وأكرم ممن يستعبدهم الباطل. والذين تستعبدهم نزعة إنسانية كريمة تستمد سموها من الله، أكرم ممن تستعبدهم نزعة شهوانية يمتد نسبها إلى الشيطان. والذين يخضعون لله ويمتثلون أمره ونهيه، أفضل وأكمل وأعقل ممن يخضعون لامرأة أو كأس أو مال أو لذة، ويمتثلون لأمر إنسان يخطئ ويصيب، ويعلو ويسفل، ويحسن ويسيء ... أفلا ترى معي بعد هذا سخف بعض التقدميين الذين يأبون أن يناديهم الناس بإسمائهم كما سماهم آباؤهم "عبد الله أو عبد الجواد" مثلاً، ويأنفون في - زعمهم - أن يوصفوا بالعبودية؟! أفلا ترى هؤلاء الذين يرفضون عبوديتهم لمن لا يملكون لأنفسهم خروجاً عن سلطانه؛ ويقبلون عبوديتهم لأحقر شهوة وأحط رغبة؟.. ألا ترى هؤلاء يستحقون منك الإشفاق والرثاء، أكثر مما يثيرون في نفسك السخط والاستنكار؟.. بهذا المعنى الدقيق للحرية والعبودية، نستقبل رمضان على أنه شهر "الحرية"، وعلى أن الصيام مدرسة لتخريج الأحرار بالمعنى العلمي الصحيح. في رمضان جوع وعطش وفيه قيد وحرمان. ولكنه يمنحنا الصحة، ويحررنا من العبودية. إن فيه تمرداً على عبودية الطعام والشراب، وعبودية العادة والحياة الترتيبة، والتمرد على العبودية أول صفات الأحرار .. في رمضان امتناع عن اللذة اختياراً، وهذه هي الحرية، حرية الإرادة أن تعمل ما يريد عقلك أن تعمله، لا ما تحملك عليه عاطفتك وشهوتك، وأن تمتنع عما تستطيع فعله، فأنت قوي الإرادة، ضعيف الهوى، تضبط ميولك بأحكام عقلك، ولا ينهزم عقلك أمام أهواء نفسك، ومن اتصف بهذا كان جديراً بالنصر في كل معركة يخوضها. ألا ترى إلى قصة طالوت إذ منع جيشه من الشرب من نهر اعترضهم في المسير وهم عطاش منهكون، فما أطاعه إلا قليل، ولكن النصر كان على يد هذه القلة الصائمة المتحررة من سلطان الشهوة ..{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} البقرة249 - 250 لقد هزموهم بعد أن هزموا شهواتهم، وتغلبوا على أعدائهم، بعد أن تغلبوا على أهوائهم.. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}العنكبوت69 وفي رمضان عبودية كاملة لله، وهذه هي الحرية الكاملة للإنسان، إن أوسع الناس حرية أشدهم الله عبودية، هؤلاء لا تستعبدهم غانية، ولا تتحكم فيهم شهوة ولا يستذلهم مال ولا تضيع شهامتهم لذة، ولا يذل كرامتهم طمع ولا جزع ... ولا يمتلكهم خوف ولا هلع .. لقد حررتهم عبادة الله من خوف ما عداه{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس 62-64) صدق الله. لقد انقطع هؤلاء بعبوديتهم له عن كل خضوع لغير الله، فإذا هم في أنفسهم سادة، وفي حقيقتهم أحرار، وفي أخلاقهم نبلاء، وفي قلوبهم أغنياء، وذلك لعمري هو التحرر العظيم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: "ليس الغنى عن كثرة العرَضَ، إنما الغنى غنى النفس". وما أجمل قول ابن عطاء الله: "أنت حر لما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع". وبهذا المعنى الذي شرحناه تفهم تلك الحكمة البليغة من كلام الشيخ الصوفي الكبير أحمد بن خضرويه: "في الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية". وفي رمضان امتناع عن خلق ذميم، وقول ذميم، ومعاملة ذميمة، فما أحلى هذه الحرية؟ أنت في الخلق الكريم حر، فلا تساق إلى محكمة، ولا توضع في سجن، ولا تنتقص في قدر ولا جاه! وأنت في القول الكريم حر، فلا تضطر إلى اعتذار، ولا تتعرض لملامة، ولا يملأ نفسك ندم. وأنت في المعاملة الكريمة حر، فلا تلوكك الألسن، ولا تتحدث عن خيانتك المجالس، ولا تعلق بذمتك الشبهات. أيها الأخ المؤمن! هذا هو رمضان يعلمنا الحرية بأجمل معانيها، في جوعه وعطشه وقيوده وحرمانه.. أفلست تعشق معي هذه الحرية التي تنطلق من الجوع والحرمان؟.. تعال معي إذاً لنحلق في أجواء الحرية! تعال معي لنرتفع عن عالم العبيد! تعال معي لنذكر أولاً كيف يعيش العبيد في دنيا العبودية!. أتظن هؤلاء الساسة الكبار الذين يسيرون شؤون العالم أحراراً؟.. ألا تراهم عبيد مطامعهم وشهواتهم السياسية؟ فكيف يسعد عالم يقوده العبيد؟. أتظن هذه الجماهير المنطلقة وراء لذاتها حرة من كل عبودية، ألا تراها ضحية غفلة مستحكمة، وأسيرة لعادة قاتلة؟ فكيف تنهض أُمة لم تتحرر من آثار العبودية؟. أتظن هؤلاء "التقدميين" المفطرين أحراراً في تفكيرهم واتجهاتهم؟. ألا تراهم صرعى لذة عارمة، وعبيد شهوة جائعة، قد نأت بهم بطونهم وشهواتهم عن عالم الأحرار، وحرمتهم أكرم صفات المكافحين، فكيف يزعم الحرية في فكره من جعل فكره عبداً لشهوته؟.. هؤلاء هم العبيد في ثياب الأحرار، فلنذكر الأحرار في عالم الحرية.. ألا تذكر يوم جاء محمد صلى الله عليه وسلم رسول الحرية، بالحرية الكاملة في شريعة الله، فحرر العرب وقذف بهم الدنيا هداة أحراراً مرشدين؟.. ألا تذكر حيتهم في التفكير، حتى قال عمر للحجر الأسود: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقلبك ما قبلتك؟" ألا تذكر حريتهم في تمثل الفتح الإسلامي رحمة للشعوب وتحريراً للجماهير، وتحطيماً للقيود.. فكانوا أرحم أُمة وأصدقها في حمل لواء التحرير حتى قال من الغربيين من قال: "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب؟" ألا تذكر تحررهم من العبودية للمال، حتى لينفق أغنياؤهم أموالهم كلها وهم أحياء، ويقول قائلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله ماذا أبقيت لأهلك؟ "أبقيت لهم الله ورسوله؟" ألا تذكر تحررهم من خوف الموت، وحب الحياة، حتى ليقول قائدهم (خالد) يُرهِب بهم أعداءهم: "لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة"؟ بل يا أخي! إنك لتذكر هذا كله، فلنحرص على أن نتعلم من رمضان دروس الحرية، لنعيش في هذه الدنيا أحراراً.. ولنعلم الإنسانية كيف تكون الحرية {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}آل عمران110 http://naseemalsham.com/ar/Pages.php...le&pg_id=34582 |
الساعة الآن 09:54 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |