منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   رسائل ووصايا في التزكية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=15)
-   -   اللمعات (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=6064)

عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:38 PM

اللمعات
 
اللمعة الاولى




بسم الله الرحمن الرحيم

فَنَادى في الظُلـمات أنْ لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{

(الانبياء:87)

} إذْ نادى ربّه أنّي مَسّني الضُرُّ وأنتَ أرحـم الراحـمين{ (الانبياء:83)

} فإنْ تَولـّوا فَقُلْ حَسْبيَ الله لا إلـه إلاّ هو عَليه تَوكّلتُ وهوَ رَبُّ العَرش العَظيـم{ (التوبة:129)

} حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173)

لا حولَ ولاقوةَ إلاّ بِالله العَليِّ العَظيـم

يابَاقي أنتَ البَاقي ياباقي أنتَ الباقي

} للذينَ آمَنُوا هُدىً وشفاءً{ (فصلت:44)

هذا القسم الاول من الـمكتوب الـحادي والثلاثين يتضمن ست لـمعات تبين كل منها نوراً من انوار كثيرة للكلـمات الـمباركة الـمذكورة التي لقراءتها ثلاثاً وثلاثين مرة في كل وقت فضائل كثيرة ولاسيـما بين الـمغرب والعشاء.

اللـمعة الاولـى

ان مناجاة سيدنا يونس بن متى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – هي من اعظم انواع الـمناجاة واروعها، ومن ابلغ الوسائل لإستـجابة الدعاء وقبولـه(1).

تتلـخص قصته الـمشهورة بأنه – عليه السلام – قد أُلقي به الـى البـحر، فالتقمه الـحوت، وغشيته امواج البـحر الـهائجة، واسدل الليل البهيـم ستاره الـمظلـم عليه. فداهمته الرهبة والـخوف من كل مكان وانقطعت امامه اسباب الرجاء وانسدت ابواب الامل.. واذا بـمناجاته الرقيقة وتضرعه الـخالص الزكي:

} لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ (الانبياء:87) يصبـح لـه في تلك الـحالة واسطة نـجاة ووسيلة خلاص.

وسر هذه الـمناجاة العظيـم هو:

ان الاسباب الـمادية قد هوت كلياً في ذلك الوضع الـمرعب، وسقطت نهائياً فلـم تـحرك ساكناً ولـم تترك أثراً، وذلك لان الذي يستطيع ان ينقذه من تلك الـحالة، ليس الاّ ذلك الذي تنفذ قدرتُه في الـحوت، وتهيـمن على البـحر وتستولي على الليل وجو السماء؛ حيث أن كلا من الليل الـحالك والبـحر الـهائج والـحوت الـهائل قد اتفق على الانقضاض عليه، فلا ينـجيه سبب، ولا يـخلصه أحد، ولا يوصِلـه الى ساحل السلامة بأمان، الاّ من بيده مقاليد الليل وزمام البـحر والـحوت معاً، ومَن يسخّر كل شيء تـحت امره.. حتى لو كان الـخلق اجـمعين تـحت خدمته عليه السلام ورهن اشارته في ذلك الـموقف الرهيب، ما كانوا ينفعونه بشيء!.

أجل لا تأثير للاسباب قط.. فما أن رأى عليه السلام بعين اليقين ألاّ ملـجأ لـه من امره تعالى إلاّ اللواذ الى كنف مسبب الاسباب، انكشف لـه سرُّ الأحدية من خلال نور التوحيد الساطع، حتى سخرتْ لـه تلك الـمناجاةُ الـخالصة الليل والبـحر والـحوت معاً، بل تـحوّل لـه بنور التوحيد الـخالص بطنُ الـحوت الـمظلـمة الى ما يشبه جوف غواصة أمينة هادئة تسير تـحت البـحر، وأصبـح ذلك البـحر الـهائج بالامواج الـمتلاطمة ما يشبه الـمتنزه الآمن الـهادىء، وانقشعت الغيوم عن وجه السماء – بتلك الـمناجاة – وكشف القمر عن وجهه الـمنير كأنه مصباح وضىء يتدلى فوق رأسه..

وهكذا اغدت تلك الـمـخلوقات التي كانت تهدده وترعبه من كل صوب وتضيق عليه الـخناق، غدت الآن تسفر لـه عن وجه الصداقة، وتتقرب اليه بالود والـحنان، حتى خرج الى شاطىء السلامة وشاهد لطف الرب الرحيـم تـحت شجرة اليقطين.

فلننظر بنور تلك الـمناجاة الى انفسنا.. فنـحن في وضع مـخيف ومرعب أضعاف أضعاف ما كان فيه سيدنا يونس عليه السلام، حيث ان:

ليلنا الذي يـخيـم علينا، هو الـمستقبل.. فمستقبلنا اذا نظرنا اليه بنظر الغفلة يبدو مظلـماً مـخيفاً، بل هو أحلك ظلاماً واشد عتامة من الليل الذي كان فيه سيدنا يونس عليه السلام بـمائة مرة..

وبـحرنا، هو بـحر الكرة الارضية، فكل موجة من امواج هذا البـحر الـمتلاطم تـحـمل آلاف الـجنائز، فهو اذن بـحر مرعب رهيب بـمائة ضعف رهبة البـحر الذي ألقي فيه عليه السلام.

وحوتنا، هو ما نـحـملـه من نفس أمارة بالسوء، فهي حوت يريد ان يلتقم حياتنا الابدية ويـمـحقها. هذا الـحوت اشد ضراوة من الـحوت الذي ابتلع سيدنا يونس عليه السلام؛ اذ كان يـمكنه ان يقضي على حياة امدها مائة سنة، بينـما حوتنا نـحن يـحاول افناء مئات الـملايين من سني حياة خالدة هنيئة رغيدة.

فما دامت حقيقة وضعنا هذه، فما علينا اذاً إلاّ الاقتداء بسيدنا يونس عليه السلام والسير على هديه، معرضين عن الاسباب جـميعاً، مقبلين كلياً الى ربّنا الذي هو مسبب الاسباب متوجهين اليه بقلوبنا وجوارحنا، ملتـجئين اليه سبـحانه قائلين: } لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ (الانبياء:87) مدركين بعين اليقين ان قد ائتـمر علينا – بسبب غفلتنا وضلالنا – مستقبلُنا الذي يرتقبنا، ودنيانا التي تضمنا، ونفوسُنا الامارة بالسوء التي بين جنبينا، موقنين كذلك انه لا يقدر ان يدفع عنا مـخاوف الـمستقبل واوهامه، ولايزيل عنا اهوال الدنيا ومصائبها، ولا يبعد عنا اضرار النفس الامارة بالسوء ودسائسها، الاّ من كان الـمستقبل تـحت أمره، والدنيا تـحت حكمه، وانفسنا تـحت ادارته.

تُرى من غيرُ خالق السموات والارضين يعرف خلـجات قلوبنا، ومَن غَيِرُه يعلـم خفايا صدورنا، ومَن غَيرُه قادر على انارة الـمستقبل لنا بـخلق الآخرة، ومن غيرُه يستطيع ان ينقذنا من بين الوف أمواج الدنيا الـمتلاطمة بالاحداث؟!. حاش للـه وكلا ان يكون لنا منـج غيره ومـخلـّصٍ سواه، فهو الذي لولا إرادته النافذة ولولا أمره الـمهيـمن لـما تـمكن شيء اينـما كان وكيفما كان ان يـمد يده ليغيث أحداً بشيء!.

فما دامت هذه حقيقة وضعنا فما علينا إلاّ ان نرفع اكفّ الضراعة اليه سبـحانه متوسلين، مستعطفين نظر رحـمته الربانية الينا، اقتداء بسر تلك الـمناجاة الرائعة التي سخّرت الـحوت لسيدنا يونس عليه السلام كأنه غواصة تسير تـحت البـحر، وحولت البـحر متنزها جـميلا، وألبست الليل جلباب النور الوضىء بالبدر الساطع. فنقول: } لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ (الانبياء:87). فنلفت بها نظر الرحـمة الإلـهية الى مستقبلنا بقولنا: } لا إلـه إلاّ أنتَ{ . ونلفتها الى دنيانا بكلـمة: } سُبـحانَكَ{ ونرجوها ان تنظر الى انفسنا بنظر الرأفة والشفقة بـجـملة: } إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ كي يعم مستقبلنا نور الايـمان وضياء بدر القرآن، وينقلب رعب ليلنا ودهشته الى أمن الانس وطمأنينة البهجة. ولتنتهي مهمة حياتنا ونـختتـم وظيفتها بالوصول الى شاطىء الامن والامان دخولا في رحاب حقيقة الاسلام، تلك الـحقيقة التي هي سفينة معنوية اعدّها القرآن العظيـم، فنبـحر بها عباب الـحياة، فوق أمواج السنين والقرون الـحاملة لـجنائز لايـحصرها العد، ويقذفها الى العدم تبدل الـموت والـحياة وتناوبهما الدائبين في دنيانا وارضنا، فننظر الى هذا الـمشهد الرهيب بـمنظار نور القرآن الباهر، واذا هو مناظر متبدلة، متـجددة، يـحول تـجددها الـمستـمر تلك الوحشة الرهيبة النابعة من هبوب العواصف وحدوث الزلازل للبـحر الى نظر تقطر منه العبرة، ويبعث على التأمل والتفكر في خلق الله، فتستضىء وتتألق ببهجة التـجدد ولطافة التـجديد. فلا تستطيع عندها نفوسنا الامارة على قهرنا، بل نكون نـحن الذين نقهرها بـما منـحنا القرآن الكريـم من ذلك السر اللطيف، بل نـمتطيها بتلك التربية الـمنبثقة من القرآن الكريـم. فتصبـح النفس الامارة طوع ارادتنا، وتغدو وسيلة نافعة ووساطة خير للفوز بـحياة خالدة.

الـخلاصة:

ان الانسان بـما يـحـمل من ماهية جامعة يتألـم من الـحـمى البسيطة كما يتألـم من زلزلة الارض وهزاتها ويتألـم من زلزال الكون العظيـم عند قيام الساعة، ويـخاف من جرثومة صغيرة كما يـخاف من الـمذنبات الظاهرة في الاجرام السماوية، ويـحب بيته ويأنس به كما يـحب الدنيا العظيـمة، ويهوى حديقته الصغيرة ويتعلق بها كما يشتاق الى الـجنة الـخالدة ويتوق اليها.

فما دام أمر الانسان هكذا، فلا معبود لـه ولا رب ولا مولى ولا منـجأ ولا ملـجأ إلا من بيده مقاليد السموات والارض وزمام الذرات والـمـجرات، وكل شيء تـحت حكمه، طوع أمره.. فلابد ان هذا الانسان بـحاجة ماسة دائماً الى التوجه الى بارئه الـجليل والتضرع اليه اقتداء بسيدنا يونس عليه السلام. فيقول:

} لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ (الانبياء:87)

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)

عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:40 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة الثانية

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} وأيوبَ إذْ نادى ربّه أنّي مَسّني الضُرُّ وأنتَ أرحـم الراحـمين{ (الانبياء:83)

هذه الـمناجاة اللطيفة التي نادى بها رائد الصابرين سيدنا أيوب عليه السلام مـجرّبة، وذات مفعول مؤثر، فينبغي أن نقتبس من نور هذه الآية الكريـمة ونقول في مناجاتنا: رب أني مسني الضر وانت أرحـم الراحـمين.

وقصة سيدنا أيوب عليه السلام الـمشهور، نلـخصها بـما يأتي:

أنه عليه السلام ظل صابراً ردحاً من الزمن يكابد ألـم الـمرض العضال، حتى سرت القروح والـجروح الى جسمه كلـه، ومع ذلك كان صابراً جلداً يرجو ثوابه العظيـم من العلي القدير. وحينـما أصابت الديدان الناشئة من جروحه قلبه ولسانه اللذين هما مـحل ذكر الله وموضع معرفته، تضرع الى ربه الكريـم بهذه الـمناجاة الرقيقة: } أنّي مَسّني الضُرُّ وأنتَ أرحـم الراحـمين{ خشية أن يصيب عبادته خلل، ولـم يتضرع اليه طلباً للراحة قط، فاستـجاب الله العلي القدير تلك الـمناجاة الـخالصة الزكية استـجابة خارقة بـما هو فوق الـمعتاد، وكشف عنه ضرّه واحسن اليه العافية التامة واسبغ عليه ألطاف رحـمته العميـمة.

في هذه اللـمعة خـمس نكات.

النكتة الاولى:

انه إزاء تلك الـجروح الظاهرة التي أصابت سيدنا أيوب عليه السلام، توجد فينا أمراض باطنية وعلل روحية وأسقام قلبية، فنـحن مصابون بكل هذا. فلو انقلبنا ظاهراً بباطن وباطناً بظاهر، لظهرنا مُثقلين بـجروح وقروح بليغة، ولبدت فينا أمراضٌ وعلل اكثر بكثير مـما عند سيدنا أيوب عليه السلام، ذلك لأن:

كل ما تكسبه ايدينا من إثم، وكل ما يلـج الى أذهاننا من شبهة، يشق جروحاً غائرة في قلوبنا، ويفجر قروحاً دامية في أرواحنا.. ثم إن جروح سيدنا أيوب عليه السلام كانت تهدد حياته الدنيا القصيرة بـخطر، أما جروحنا الـمعنوية نـحن فهي تهدد حياتنا الاخروية الـمديدة بـخطر.. فنـحن اذن مـحتاجون أشد الـحاجة الى تلك الـمناجاة الايوبية الكريـمة بأضعاف أضعاف حاجته عليه السلام اليها. وبـخاصة أن الديدان الـمتولدة من جروحه عليه السلام مثلـما أصابت قلبه ولسانه، فان الوساوس والشكوك – نعوذ بالله – الـمتولدة عندنا من جروحنا الناشئة من الآثام والذنوب تصيب باطن القلب الذي هو مستقر الايـمان فتزعزع الايـمان فيه، وتـمس اللسان الذي هو مترجـم الايـمان فتسلبه لذة الذكر ومتعته الروحية، ولاتزال تنفره من ذكر الله حتى تسكته كلياً.

نعم، الاثم يتوغل في القلب ويـمد جذوره في أعماقه، وما ينفك ينكت فيه نكتاً سوداء حتى يتـمكن من اخراج نور الايـمان منه، فيبقى مظلـماً مقفراً، فيغلظ ويقسو.

نعم، ان في كل إثم وخطيئة طريقاً مؤدياً الى الكفر، فإن لـم يـمـح ذلك الاثم فوراً بالاستغفار يتـحول الى دودة معنوية، بل الى حية معنوية تعض القلب وتؤذيه.

ولنوضح ذلك بـما يأتي:

مثلاً: إن الذي يرتكب سراً إثماً يـخـجلَ منه، وعندما يستـحي كثيراً من اطلاع الاخرين عليه، يثقل عليه وجود الـملائكة والروحانيات، ويرغب في انكارهم بأمارة تافهة.

ومثلاً: ان الذي يقترف كبيرة تفضي الى عذاب جهنـم. ان لـم يتـحصن تـجاهها بالاستغفار، فما أن يسمع نذير جهنـم وأهوالـها يرغب من أعماقه في عدم وجودها، فيتولد لديه جرأة لإنكار جهنـم من أمارة بسيطة أو شبهة تافهة.

ومثلاً: إن الذي لايقيـم الفرائض ولا يؤدي وظيفة العبودية حق الاداء وهو يتألـم من توبيـخ آمره البسيط لتقاعسه عن واجب بسيط، فان تكاسلـه عن أداء الفرائض أزاء الاوامر الـمكررة الصادرة من الله العظيـم، يورثه ضيقاً شديداً وظلـمة قاتـمة في روحه، ويسوقه هذا الضيق الى الرغبة في ان يتفوه ويقول ضمناً: ((ليته لـم يأمر بتلك العبادة!)) وتثير هذه الرغبة فيه الانكار، الذي يشم منه عداءً معنوباً تـجاه الوهيته سبـحانه، فاذا ما وردت شبهةٌ تافهة الى القلب حول وجوده سبـحانه، فانه يـميل اليها كأنها دليل قاطع. فينفتـح أمامه باب عظيـم للـهلاك والـخسران الـمبين، ولكن لايدرك هذا الشقي أنه قد جعل نفسه – بهذا الانكار – هدفاً لضيق معنوي ارهب وأفظع بـملايين الـمرات من ذلك الضيق الـجزئي الذي كان يشعر به من تكاسلـه في العبادة، كمن يفرّ من لسع البعوض الى عض الـحية!!

فليُفهم في ضوء هذه الامثلة الثلاثة سرّ الآية الكريـمة: } كلاّ بل رانَ على قلوبهم ما كانوا يَكسبون{ (الـمطففين:14)

النكتة الثانية:

مثلـما وضّح في ((الكلـمة السادسة والعشرين)) الـخاصة بالقدر: أن الانسان ليس لـه حق الشكوى من البلاء والـمرض بثلاثة وجوه:

u الوجه الاول:

ان الله سبـحانه يـجعل ما ألبسه الانسان من لباس الوجود دليلا على صنعته الـمبدعة، حيث خلقه على صورة نـموذج ((موديل)) يفصّل عليه لباس الوجود، يبدلـه ويقصه ويغيره مبيناً بهذا التصرف تـجليات مـختلفة لاسمائه الـحسنى. فمثلـما يستدعي اسم ((الشافي)) الـمرض، فان اسم ((الرزاق)) ايضاً يقتضي الـجوع. وهكذا فهو سبـحانه مالك الـملك يتصرف في ملكه كيف يشاء.

u الوجه الثاني:

أن الـحياة تتصفى بالـمصائب والبلايا، وتتزكى بالامراض والنوائب، وتـجد بها الكمال وتتقوى وتترقى وتسمو وتثمر وتنتـج وتتكامل وتبلغ هدفها الـمراد لـها، فتؤدي مهمتها الـحياتية. أما الـحياة الرتيبة التي تـمضى على نسق واحد وتـمر على فراش الراحة، فهي أقرب الى العدم الذي هو شر مـحض منه الى الوجود الذي هو خير مـحض. بل هي تفضي الى العدم.

u الوجه الثالث:

إن دار الدنيا هذه ما هي إلاّ ميدان اختبار وابتلاء، وهي دار عمل ومـحل عبادة، وليست مـحل تـمتع وتلذذ ولا مكان تسلـم الاجرة ونيل الثواب.

فما دامت الدنيا دار عمل ومـحل عبادة، فالامراض والـمصائب عدا الدينية منها وبشرط الصبر عليها تكون ملائمة جدا مع ذلك العمل، بل منسجـمة تـماماً مع تلك العبادة، حيث أنها تـمد العمل بقوة وتشد من أزر العبادة، فلا يـجوز التشكي منها، بل يـجب التـحلي بالشكر للـه بها، حيث أن تلك الامراض والنوائب تـحوّل كل ساعة من حياة الـمصاب عبادة ليوم كامل.

نعم، ان العبادة قسمان:

قسم ايـجابي وقسم سلبي..

فالقسم الاول معلوم لدى الـجـميع، أما القسم الاخر فان البلايا والضر والامراض تـجعل صاحبها يشعر بعجزه وضعفه، فيلتـجىء الى ربه الرحيـم، ويتوجه اليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة. هذه العبادة خالصة زكية لا يدخل فيها الرياء قط. فإذا ما تـجـمل الـمصاب بالصبر وفكّر في ثواب ضره عند الله وجـميل أجره عنده، وشكر ربه عليها، تـحولت عندئذ كل ساعة من ساعات عمره كأنها يوم من العبادة، فيغدو عمره القصير جداً مديداً طويلاً، بل تتـحول – عند بعضهم – كل دقيقة من دقائق عمره بـمثابة يوم من العبادة.. ولقد كنت أقلق كثيراً على ما أصاب أحد اخوتي في الاخرة وهو ((الـحافظ احـمد الـمهاجر))(1) بـمرض خطير، فخطر الى القلب ما يأتي:

((بشّره، هنّئه، فان كل دقيقة من دقائق عمره تـمضي كأنها يوم من العبادة)) حقاً انه كان يشكر ربه الرحيـم من ثنايا الصبر الـجـميل.

النكتة الثالثة:

مثلـما بينّا في ((الكلـمات)) السابقة أنه: اذا ما فكر كل انسان فيـما مضى من حياته فسيرد الى قلبه ولسانه: واأسفاه، أو الـحـمد للـه، أي إما أنه يتأسف ويتـحسر، أو يـحـمد ربه ويشكره. فالذي يقطـّر الاسف والاسى انـما يكون بسبب الآلام الـمعنوية الناشئة من زوال اللذائذ السابقة وفراقها، ذلك لأن زوال اللذة ألـم، بل قد تورث لذةٌ زائلة طارئة آلاماً دائمة مستـمرة، فالتفكر فيها يعصر ذلك الالـم ويقطـّر منه الاسف والاسى، بينـما اللذة الـمعنوية والدائمة الناشئة من زوال الآلام الـمؤقتة التي قضاها الـمرء في حياته الفائتة، تـجعل لسانه ذاكراً بالـحـمد والثناء للـه تعالى.. هذه حالة فطرية يشعر بها كل انسان، فاذا ما فكر الـمصاب – علاوة على هذا – بـما أدّخر لـه ربه الكريـم من ثواب جـميل وجزاء حسن في الآخرة وتأمل في تـحول عمره القصير بالـمصائب الى عمر مديد فانه لايصبر على ما انتابه من ضُر وحده، بل يرقى ايضاً الى مرتبة الشكر للـه والرضا بقَدَره، فينطلق لسانه حامداً ربه وقائلاً: الـحـمد للـه على كل حال سوى الكفر والضلال.

ولقد سار مثلا عند الناس: ((ما اطول زمن النوائب!)). نعم، هو كذلك ولكن ليس بالـمعنى الذي في عرف الناس وظنهم من أنه طويل بـما فيه من ضيق وألـم، بل هو طويل مديد كالعمر الطويل بـما يثمر من نتائج حياتية عظيـمة.

النكتة الرابعة:

لقد بينّا في الـمقام الاول للكلـمة الـحادية والعشرين:

ان الانسان إن لـم يشتت ما وهبه الباري سبـحانه من قوة الصبر، ولـم يبعثرها في شعاب الاوهام والـمـخاوف، فان تلك القوة يـمكن ان تكون كافية للثبات حيال كل مصيبة وبلاء، ولكن هيـمنة الوهم وسيطرة الغفلة عليه والاغترار بالـحياة الفانية كأنها دائمة.. يؤدي الى الفتّ من قوة صبره وتفريقها الى آلام الـماضي ومـخاوف الـمستقبل، فلا يكفيه ما أودعه الله من الصبر على تـحـمل البلاء النازل به والثبات دونه، فيبدأ ببث الشكوى حتى كأنه يشكو الله للناس، مبدياً من قلة الصبر ونفاده ما يشبه الـجنون فضلاً عن أنه لا يـحق لـه أنه يـجزع هذا ابداً؛ ذلك لان كل يوم من أيام الـماضي – ان كان قد مضى بالبلاء – فقد ذهب عسره ومشقته وترك راحته، وقد زال تعبه وألـمه وترك لذته، وقد ذهب ضنكه وضيقه وثبت أجره، فلا يـجوز اذن الشكوى منه، بل ينبغي الشكر للـه تعالى عليه بشوق ولـهفة. ولا يـجوز كذلك الامتعاض من الـمصيبة والسخط عليها بل ينبغي ربط أواصر الـحب بها، لأن عمر الانسان الفاني الذي قد مضى يتـحول عمراً سعيداً باقياً مديداً بـما يعاني فيه من البلاء، فمن البلاهة والـجنون أن يبدد الانسان قسماً من صبره ويهدره بالاوهام والتفكر في البلايا التي مضت والآلام التي ولـّت. أما الايام الـمقبلة، فحيث أنها لـم تأت بعد ومـجهولة مبهمة، فمن الـحـماقة التفكر فيها من الآن والـجزع عمـّا يـمكن أن يصيب الانسان فيها من مرض وبلاء. فكما أنه حـماقة أن يأكل الانسان اليوم كثيراً من الـخبز ويشرب كثيراً من الـماء لـما يـمكن أن يصيبه من الـجوع والعطش في الغد أو بعد غد، كذلك التألـم والتضجر من الآن لـما يـمكن أن يبتلى به في الـمستقبل من امراض ومصائب هي الآن في حكم العدم، واظهار الـجزع نـحوها دون أن يكون هناك مبرر واضطرار، هو بلاهة وحـماقة الى حد تسلب العطف على صاحبها والاشفاق عليه. فوق أنه قد ظلـم نفسه بنفسه.

الـخلاصة:

ان الشكر مثلـما يزيد النعمة، فالشكوى تزيد الـمصيبة وتسلب الترحـم والاشفاق على صاحبها.

لقد ابتلى رجل صالـح من مدينة ((أرضروم)) بـمرض خطير وبيل، وذلك في السنة الاولى من الـحرب العالـمية الاولى، فذهبت الى عيادته وبثّ لي شكواه:

- ((لـم أذق طعم النوم منذ مائة يوم..)). تألـمت لشكواه الاليـمة هذه، ولكن تذكرت حينها مباشرة وقلت:

- أخي! ان الايام الـمائة الـماضية لكونها قد ولـّت ومضت فهي الآن بـمثابة مائة يوم مسرّة مفرحة لك، فلا تفكر فيها ولا تشكُ منها، بل انظر اليها من زاوية زوالـها وذهابها، واشكر ربك عليها. أما الايام الـمقبلة فلأنها لـم تأت بعد، فتوكل على رحـمة ربك الرحـمن الرحيـم واطمئن اليها. فلا تبك قبل أن تضرب، ولا تـخف من غير شىء، ولا تـمنـح العدم صبغة الوجود. اصرف تفكيرك في هذه الساعة بالذات، فان ما تـملكه من قوة الصبر تكفي للثبات لـهذه الساعة. ولاتكن مثل ذلك القائد الاحـمق الذي شتت قوته في الـمركز يـميناً وشمالاً في الوقت الذي التـحقت ميسرة العدو الى صفوف ميـمنة جيشه فأمدتها، وفي الوقت الذي لـم تكُ ميـمنة العدو متهيأة للـحرب بعد.. فما أن علـم العدو منه هذا حتى سدد قوة ضئيلة في الـمركز وقضى على جيشه.

فيا أخي ! لا تكن كهذا، بل حشّد كل قواك لـهذه الساعة فقط، وترقـَّب رحـمة الله الواسعة، وتأمل في ثواب الاخرة، وتدبّر في تـحويل الـمرض لعمرك الفاني القصير الى عمر مديد باق، فقدّم الشكر الوافر الـمسر الى العلي القدير بدلا من هذه الشكوى الـمريرة.

انشرح ذلك الشخص الـمبارك من هذا الكلام وانبسطت أساريره حتى شرع بالقول: الـحـمد للـه. لقد تضاءل ألـمي كثيراً.

النكتة الـخامسة:

وهي ثلاث مسائل:

الـمسألة الاولى:

إن الـمصيبة التي تعدّ مصيبة حقاً والتي هي مضرة فعلاً، هي التي تصيب الدين فلابد من الالتـجاء الى الله سبـحانه والانطراح بين يديه والتضرع اليه دون انقطاع. أما الـمصائب التي لاتـمس الدين فهي في حقيقة الامر ليست بـمصائب، لأن قسماً منها:

تنبيه رحـماني! يبعثه الله سبـحانه الى عبده ليوقظه من غفلته، بـمثل تنبيه الراعي لشياهه عندما تتـجاوز مرعاها، فيرميها بـحـجر، والشياه بدورها تشعر أن راعيها ينبهها بذلك الـحـجر ويـحذرها من أمر خطير مضر، فتعود الى مرعاها برضى واطمئنان. وهكذا النوائب الظاهرة فان الكثير منها تنبيه الـهي، وايقاظ رحـماني للانسان.

أما القسم الآخر من الـمصائب فهو كفارة للذنوب.

وقسم آخر أيضاً من الـمصائب هو منـحة إلـهية لتطمين القلب وافراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الانسان، واشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته.

أما الـمصيبة التي تنتاب الانسان عند الـمرض – فكما ذكرنا آنفا – فهي ليست بـمصيبة حقيقية، بل هي لطف رباني لانه تطهير للانسان من الذنوب وغسل لـه من أدران الـخطايا، كما ورد في الـحديث الصحيـح:

((ما من مسلـم يصيبه أذى الاّ حاتّ الله عنه خطاياه كما يـحاتّ ورق الشجر))(1) وهكذا فان سيدنا ايوب عليه السلام لـم يدعُ في مناجاته لاجل نفسه وتطميناً لراحته، وانـما طلب كشف الضر من ربه عندما أصبـح الـمرض مانعاً لذكر الله لسانا، وحائلاً للتفكر في ملكوت الله قلباً، فطلب الشفاء لأجل القيام بوظائف العبودية خالصة كاملة. فيـجب علينا نـحن ايضاً أن نقصد – بتلك الـمناجاة – أول ما نقصد: شفاء جروحنا الـمعنوية وشروخنا الروحية القادمة من ارتكاب الآثام واقتراف الذنوب ولنا الالتـجاء الى الله القدير عندما تـحول الامراضُ الـمادية قيامنا بالعبادة كاملة، فنتضرع اليه عندئذ بكل ذل وخضوع ونستغيثه دون أن يبدر منا أي اعتراض أو شكوى، اذ مادمنا راضين كل الرضا بربوبيته الشاملة فعلينا الرضا والتسليـم الـمطلق بـما يـمنـحه سبـحانه لنا بربوبيته.. أما الشكوى التي تومىء الى الاعتراض على قضائه وقدره، واظهار التأفف والتـحسر، فهي أشبه ما يكون بنقد للقدر الإلـهي العادل واتهام لرحـمته الواسعة.. فمن ينقد القدر يصرعه ومن يتهم الرحـمة يـحرم منها. اذ كما ان استعمال اليد الـمكسورة للثأر يزيدها كسراً، فان مقابلة الـمبتلي مصيبته بالشكوى والتضجر والاعتراض والقلق تضاعف البلاء.

الـمسألة الثانية:

كلـما استعظمت الـمصائب الـمادية عظُمت، وكلـما استصغرتَها صغرت. فمثلاً:

كلـما اهتـم الانسان بـما يتراءى لـه من وهم ليلاً يضخـم ذلك في نظره، بينـما اذا أهملـه يتلاشى. وكلـما تعرض الانسان لوكر الزنابير ازداد هجومها واذا أهملـها تفرقت.

فالـمصائب الـمادية كذلك كلـما تعاظمها الانسان واهتـم بها وقلق عليها تسربت من الـجسد نافذة في القلب ومستقرة فيه، وعندها تتنامى مصيبة معنوية في القلب وتكون ركيزة للـمادية منها فتستـمر الاخيرة وتطول. ولكن متى ما أزال الانسان القلق والوهم من جذوره بالرضا بقضاء الله، وبالتوكل على رحـمته تضمـحل الـمصيبة الـمادية تدريـجياً وتذهب، كالشجرة التي تـموت وتـجف أوراقها بانقطاع جذورها.

ولقد عبـّرتُ عن هذه الـحقيقة يوماً بـما يأتي:(1)

ومن الشكوى بلاءٌ.

أنت يا مسكينُ دعها وتوكلْ.

أنت ان تسلـم الى الوهاب نـجواك وجدتْ.

فاذا الكلُّ عطاء.

واذا الكلُّ صفاء.

فبغير الله: دنياك متاهات وخوف!

أفيشكو مَن على كاهلة يـحـمل كلّ الراسيات

حبةَ الرمل الضئيلة؟

انـما الشكوى بلاءٌ في بلاء.

وأثام في أثام وعناء!

أنت ان تَبْسَم وفي وجه البلاء.

عادت الأرزاء تذوي وتذوب.

تـحت شمس الـحق حباتِ بَرَد!

فاذا دنياك بَسمة،

بسمةٌ من ثغرها ينسابُ ينبوعُ اليقين.

بسمةٌ نشوى باشراق اليقين.

بسمةٌ حيرى باسرار اليقين.

نعم..! ان الانسان مثلـما يـخفف حدَّة خصمه باستقبالـه بالبشر والابتسامة، فتتضاءل سَورة العداوة وتنطفىء نار الـخصومة، بل قد تنقلب صداقةً ومصالـحة، كذلك الامر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يذهبُ أثره.

الـمسألة الثالثة:

أن لكل زمان حُكمه، وقد غيّر البلاء شكلـه في زمن الغفلة هذا، فلا يكون البلاء بلاء عند البعض دوماً، بل إحساناً إلـهياً ولطفاً منه سبـحانه. وارى الـمبتلين بالضر في هذا الوقت مـحظوظين سعداء بشرط ألا يـمس دينهم، فلا يولد الـمرض والبلاء عندي ما يـجعلـهما مضرين في نظري حتى أعاديهما، ولا يورثانني الاشفاق والتألـم على صاحبهما، ذلك ما أتاني شاب مريض الاّ وأراه أكثر ارتباطاً من أمثالـه بالدين، وأكثر تعلقاً منهم بالآخرة.. فأفهم من هذا أن الـمرض بـحق هؤلاء ليس بلاء، بل هو نعمة من نعمه سبـحانه التي لاتعد ولاتـحصى، حيث أن ذلك الـمرض يـمد صاحبه بـمنافع غزيرة من حيث حياته الاُخروية ويكون لـه ضرباً من العبادة، مع أنه يـمس حياته الدنيا الفانية الزائلة بشيء من الـمشقة.

نعم قد لا يستطيع هذا الشاب أن يـحافظ على ما كان عليه في مرضه من الالتزام بالاوامر الإلـهية فيـما اذا وجد العافية، بل قد ينـجرف الى السفاهة بطيش الشباب ونزواته وبالسفاهة الـمستشرية في هذا الزمان.

خاتـمة

ان الله سبـحانه قد ادرج في الانسان عجزاً لا حد لـه، وفقراً لانهاية لـه، اظهاراً لقدرته الـمطلقة وابرازاً لرحـمته الواسعة. وقد خلقه على صورة معينة بـحيث يتألـم بـما لا يـحصى من الـجهات، كما أنه يتلذذ بـما لا يعد من الـجهات، اظهاراً للنقوش الكثيرة لاسمائه الـحسنى. فابدعه سبـحانه على صورة ماكنة عجيبة تـحوي مئات الالات والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها ومهمتها وثوابها وجزاؤها، فكأن الاسماء الإلـهية الـمتـجلية في العالـم الذي هو انسان كبير تتـجلى اكثرها ايضاً في هذا الانسان الذي هو عالـم أصغر، وكما أن ما فيه من أمور نافعة – كالصحة والعافية واللذائذ وغيرها – تدفعه الى الشكر وتسوق تلك الـماكنة الى القيام بوظائفها من عدة جهات، حتى يغدو الانسان كأنه ماكنة شكر. كذلك الامر في الـمصائب والامراض والالام وسائر الـمؤثرات الـمهيـجة والـمـحركة، تسوق الدواليب الاخرى لتلك الـماكنة الى العمل والـحركة وتثيرها من مكمنها فتفجّر كنوز العجز والضعف والفقر الـمندرجة في الـماهية الانسانية. فلا تـمنـح الـمصائبُ الانسانَ الالتـجاء الى البارىء بلسان واحد، بل تـجعلـه يلتـجىء اليه ويستغيثه بلسان كل عضو من أعضائه. وكأن الانسان بتلك الـمؤثرات والعلل والعقبات والعوارض يغدو قلـماً يتضمن آلاف الاقلام، فيكتب مقدّرات حياته في صحيفة حياته أو في اللوح الـمثالي، وينسج لوحة رائعة للاسماء الإلـهية الـحسنى، ويصبـح بـمثابة قصيدة عصماء ولوحة اعلان.. فيؤدي وظيفة فطرته.

عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:41 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة الثالثة

لقد مازج هذه ((اللـمعة)) شيء من الاذواق والـمشاعر، فأرجو عدم تقييـمها بـموازين علـم الـمنطق؛ لأن ما تـجيش به الـمشاعر لايراعي كثيراً قواعد العقل ولايعير سمعا الى موازين الفكر.

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} كلُّ شىءٍ هالكٌ إلاّ وَجْهَهُ لـه الـحكْمُ وإليه تُرْجَعون{ (القصص:88)

هذه الآية العظيـمة تفسرها جـملتان تعبّران عن حقيقتين مهمتين بـحيث اتـخذهما قسم من شيوخ الطريقة النقشبندية بـمثابة زبدة الاوراد لديهم، يؤدون بهما ختـمتهم الـخاصة. والـجـملتان هما:

ياباقي انت الباقي. ياباقي انت الباقي.

ولـما كانت هاتان الـجـملتان تنطويان على معان جليلة لتلك الآية الكريـمة، فسنذكر بضع نكات لبيان الـحقيقتين اللتين تعبّران عنهما:

u النكتة الاولى:

ان ترديد ((ياباقي انت الباقي)) للـمرة الاولى، يـجرّد القلب مـما سوى الله تعالى، فيـجرى ما يشبه عملية جراحية فيه، ويقطعه عما سواه سبـحانه. وتوضيـح هذا:

ان الانسان بـما اودع الله فيه من ماهية جامعة يرتبط مع اغلب الـموجودات بأواصر ووشائج شتى. ففي تلك الـماهية الـجامعة من الاستعداد غير الـمـحدود للـمـحبة ما يـجعلـه يكنّ حباً عميقاً تـجاه الـموجودات عامة، فيـحب الدنيا العظيـمة كما يـحب بيته، ويـحب الـجنة الـخالدة كما يـحب حديقته. بينـما الـموجودات – التي وجّه الانسانُ حبه منحوها – لا تدوم، بل لا تلبث أن تزول، لذا يذوق الانسان دائماً عذاب ألـم الفراق. فتصبـح تلك الـمـحبة التي لامنتهى لـها مبعث عذاب معنوي لامنتهى لـه، لتقصيره بـحقها. فالآلام التي يتـجرعها ناشئة من تقصيره هو، حيث لـم يودع فيه استعداد الـمـحبة إلا ليوجهه الى مَن لـه جـمال خالد مطلق. بينـما الانسان لـم يـحسن استعمال مـحبته فوجهها الى موجودات فانية زائلة، فيذوق وبال أمره بآلام الفراق.

فعندما يردد الانسان: ياباقي انت الباقي. يعني بها: البراءة الكاملة من هذا التقصير، وقطع العلاقات مع تلك الـمـحبوبات الفانية، والتـخلي عنها كلياً، قبل ان تتـخلى هي عنه. ثم تسديد النظر في الـمـحبوب الباقي وهو الله سبـحانه دون سواه.

أي يقول بها: ((لاباقي بقاء حقيقياً إلاّ أنت يا إلـهي. فما سواكَ فانٍ زائلٍ، والزائل غير جدير بالـمـحبة الباقية ولا العشق الدائم، ولا بأن يشد معه أواصر قلب خُلق اصلا للابد والـخلود)). وحيث ان الـموجودات فانية وستتركني ذاهبة الى شأنها، فسأتركها أنا قبل ان تتركني، بترديدي: ((ياباقي انت الباقي)) أي: أؤمن وأعتقد يقينا انه لا باقي إلاّ أنت يا إلـهي، وبقاء الـموجودات موكول بإبقائك اياها، فلا يوجه اليها الـمـحبة اذاً الاّ من خلال نور مـحبتك، وضمن مرضاتك، وإلاّ فانها غير جديرة بربط القلب معها.

فهذه الـحالة تـجعل القلب يتـخلى عن مـحبوبات كان يوليها مـحبة لاحدود لـها، حيث يبصر ختـم الفناء ويشاهد طابع الزوال على ما أضفي عليها من جـمال وبهاء. فتتقطع عندئذ تلك الوشائج التي كانت تربط القلب بالـموجودات. وبـخلاف هذا الامر أي ان لـم يتـخل القلب عن مـحبوباته فان جراحات وآلام وحسرات تتفجر من اعماقه بقدر تلك الـمـحبوبات الفانية.

أما الـجـملة الثانية:

((ياباقي انت الباقي)) فهي كالـمرهم الشافي والبلسم الناجع يـمرر على العملية الـجراحية التي أجرتها الـجـملة الاولى على القلب وروابطه، حيث انها تعني: ((كفى بك ياإلـهي باقياً. فبقاؤك بديل عن كلّ شيء.. وحيث انك موجود فكل شيء موجود اذاً)).

نعم! ان ما يبدو على الـموجودات من الـحسن والاحسان والكمال – والذي يبعث على مـحبتها – ما هو إلاّ اشارات لـحسن الباقي الـحقيقي واحسانه وكمالـه، وما هو إلاّ ظلال خافتة لذلك الـحسن والاحسان والكمال نفذت من وراء حـجب كثيرة وأستار عدة، بل هو ظلال لظلال تـجليات اسمائه الـحسنى جل جلالـه.

u النكتة الثانية:

في فطرة الانسان عشق شديد مـحو البقاء، حتى انه يتوهم نوعاً من البقاء في كل ما يـحبه، بل لا يـحب شيئاً إلاّ بعد توهمه البقاء فيه، ولكن حالـما يتفكر في زوالـه أو يشاهد فناءه يطلق عليه الزفرات والـحسرات من الاعماق.

نعم! ان جـميع الآهات والـحسرات الناشئة من انواع الفراق، انـما هي تعابير حزينة تنطلق من عشق البقاء. ولولا توهم البقاء لـما أحب الانسان شيئاً.

بل يصح القول:

ان سبباً من اسباب وجود عالـم البقاء والـجنة الـخالدة هو الرغبة الـملـحة للبقاء الـمغروزة في فطرة الانسان، والدعاء العام الشامل الذي يسألـه بشدة للـخلود.. فاستـجاب الباقي ذو الـجلال لتلك الرغبة الـملـحة ولذلك الدعاء العام الـمؤثر، فخلق سبـحانه عالـماً باقياً خالداً لـهذا الانسان الفاني الزائل، اذ هل يـمكن ألاّ يستـجيب الفاطرُ الكريـم والـخالق الرحيـم دعاء تسألـه البشرية قاطبة بلسان حالـها ومقالـها، ذلك الدعاء الكلي الدائمي الـحق والـخالص النابع من صميـم حاجتها الفطرية ومن اعماق رغبتها الـملـحة، مع انه يستـجيب دعاء معدة صغيرة، تسألـه بلسان حالـها، فيـخلق لـها أنواعا من الاطعمة اللذيذة ويشبع بها رغبتها الـجزئية للبقاء الـمؤقت؟ حاش لله وكلا.. الف الف مرة كلا. إنّ ردّ هذا الدعاء للـخلود مـحال قطعا، لأن عدم استـجابته جل وعلا ينافي حكمته الـخالدة وعدالته الكاملة ورحـمته الواسعة وقدرته الـمطلقة.

وما دام الانسان عاشقاً للبقاء، فلا بد أن جـميع كمالاته وأذواقه تابعة للبقاء ايضاً. ولـما كان البقاء صفة خاصة للباقي ذي الـجلال، وان اسماءه الـحسنى باقية، وان الـمرايا العاكسة لتـجليات تلك الأسماء تنصبغ بصبغتها وتأخذ حكمها، أي تنال نوعا من البقاء، فلابد أن ألزم شيء لـهذا الانسان وأجلّ وظيفة لـه هو شدّ الاواصر وربط العلاقات مع ذلك الباقي ذي الـجلال والاعتصام التام بأسمائه الـحسنى، لأن ما يُصرف في سبيل الباقي ينال نوعا من البقاء.

هذه الـحقيقة تعبّر عنها الـجـملة الثانية: ((ياباقي انت الباقي)) فتضمد جراحات الانسان الـمعنوية الغائرة، كما تطمئن رغبته الـملـحة للبقاء الـمودعة في فطرته.

u النكتة الثالثة:

يتفاوت في هذه الدنيا تأثير الزمان في فناء الاشياء وزوالـها تفاوتاً كبيراً. فمع ان الـموجودات مكتنفة بعضها ببعص كالدوائر الـمتداخلة، إلاّ ان حكمها من حيث الزوال والفناء مـختلف جداً.

فكما ان دوائر حركة عقارب الساعة العادة للثواني والدقائق والساعات تـختلف في السرعة، رغم تشابهها الظاهري، كذلك الامر في الانسان، حيث ان حكم الزمن متفاوت في دائرة جسمه، ودائرة نفسه، ودائرة قلبه، ودائرة روحه، فبينـما ترى حياة الـجسم وبقاءه ووجوده مـحصورة في اليوم الذي يعيش فيه او في ساعته، وينعدم امامه الـماضي والـمستقبل، اذا بك ترى دائرة حياة قلبه وميدان وجوده يتسع ويستع حتى يضم اياما عدة قبل حاضره واياما بعده، بل ان دائرة حياة الروح وميدانها اعظم واوسع بكثير حيث تسع سنين قبل يومها الـحاضر وسنين بعده.

وهكذا، بناءً على هذا الاستعداد، فان عمر الانسان الفاني يتضمن عمراً باقياً من حيث حياته القلبية والروحية اللتين تـحييان بالـمعرفة الالـهية والـمـحبة الربّانية والعبودية السبـحانية والـمرضيات الرحـمانية، بل ينتـج هذا العمر الباقي الـخالد في دار الـخلود والبقاء، فيكون هذا العمر الفاني بـمثابة عمر ابدي.

اجل! ان ثانية واحدة يقضيها الانسان في سبيل الله الباقي الـحق، وفي سبيل مـحبته، وفي سبيل معرفته وابتغاء مرضاته، تعد سنة كاملة. بل هي باقية دائمة لايعتريها الفناء. بينـما سنة من العمر ان لـم تكن مصروفة في سبيلـه سبـحانه فهي زائلة حتـما، وهي في حكم لـحظة خاطفة، فمهما تطول حياة الغافلين فهي بـمثابة لـحظات عابرة لاتـجاوز ثانية واحدة.

وهناك قول مشهور يدل على هذه الـحقيقة:

سِنة الفراق سَنةٌ وسَنةُ الوصال سِنة.

أي ان ثانية واحدة من الفراق طويلة جدا كأنها سَنة واحدة، بينـما سنة كاملة من الوصال تبدو قصيرة كالثانية الواحدة.

بيد اني أخالف هذا القول الـمشهور فأقول: ان ثانية واحدة يقضيها الانسان ضمن مرضاة الله سبـحانه وفي سبيل الباقي ذي الـجلال ولوجهه الكريـم. أي ثانية واحدة من هذا الوصال ليست كسنة وحدها، بل كنافذة مطلة على حياة دائمة باقية. أما الفراق النابع من نظر الغفلة والضلالة فلا يـجعل السنة الواحدة كالثانية، بل يـجعل الوف السنين كأنها ثانية واحدة.

وهناك مثل آخر اكثر شهرة من السابق يؤيد ما نقرره وهو:

أرض الفلاة مع الاعداء فنـجان سمّ الـخياط مع الاحباب ميدان

أما اذا اردنا ان نبين وجها صحيـحا للـمثل السابق فسيكون كالاتي:

ان وصال الـموجودات الفانية قصير جداً لأنه فان، فمهما طال فهو يـمضي في لـمـحة، ويغدو خيالا ذا حسرة، ورؤيا عابرة تورث الأسى. فالقلب الانساني التواق للبقاء لا يستـمتع من سنة من هذا الوصال الابـمقدار مافي الثانية الواحدة من لذة. بينـما الفراق طويل وميدانه واسع فسيـح، فثانية واحدة منه تستـجـمع الوانا من الفراق ما يستغرق سنة كاملة، بل سنين، فالقلب الـمشتاق الى الـخلود يتأذى من فراق يـمضي في ثانية واحدة، كأنه ينسحق تـحت آلام فراق سنين عدة، حيث يذكّره ذلك الفراق بـما لا يعد من انواع الفراق. وهكذا فماضي جـميع اشكال الـمـحبة الـمادية والـهابطة ومستقبلـها ملىء بألوان من الفراق.

وللـمناسبة نقول:

أيها الناس! أتريدون تـحويل عمركم القصير الفاني الى عمر باق طويل مديد، بل مثمر بالـمغانـم والـمنافع؟

فما دام الـجواب: ان نعم! وهو مقتضى الانسانية، فاصرفوا اذا عمركم في سبيل الباقي، لأن ايـما شيء يتوجه الى الباقي ينال تـجلياً من تـجليات الباقية.

ولـما كان كل انسان يطلب بإلـحاح عمراً طويلا وهو مشتاق الى البقاء، وثمة وسيلة أمامه لتـحويل هذا العمر الفاني الى عمر باق، بل يـمكن تبديلـه الى عمرٍ طويل معنى، فلابد أنه – ان لـم تسقط انسانيته – سيبـحث عن تلك الوسيلة وينقب عنها، ولابد أنه سيسعى حثيثا لتـحويل ذلك الـمـمكن الى فعل ملـموس، ولابد انه سيصبو الى ذلك الـهدف بأعمالـه وحركاته كافة.

فدونكم الوسيلة:

اعملوا لله، التقوا لوجه الله، اسعوا لأجل الله. ولتكن حركاتكم كلـها ضمن مرضاة الله (لله، لوجه الله، لاجل الله) وعندها ترون ان دقائق عمركم القصير قد اصبـحت بـحكم سنين عدة.

تشير الى هذه الـحقيقة ((ليلة القدر)) فمع انها ليلة واحدة إلاّ انها خير من الف شهر – بنص القرآن الكريـم – أي في حكم ثمانين ونيف من السنين.

وهناك اشارة أخرى الى الـحقيقة نفسها، وهي القاعدة الـمقررة لدى اهل الولاية والـحقيقة، تلك هي: ((بسط الزمان)) الذي يثبته ويظهره فعلا الـمعراج النبوي، فقد انبسطت فيه دقائق معدودة الى سنين عدة، فكانت لساعات الـمعراج من السعة والاحاطة والطول ما لألوف السنين، اذ دخل e بالـمعراج الى عالـم البقاء، فدقائق معدودة من عالـم البقاء تضم ألوفا من سنين هذه الدنيا.

ومـما يثبت حقيقة ((بسط الزمان)) هذا ما وقع من حوادث غزيرة للاولياء الصالـحين، فقد كان بعضهم يؤدي في دقيقة واحدة ما ينـجز من الاعمال في يوم كامل. وبعضهم انـجزوا في ساعة واحدة من الـمهمات ما ينـجز في سنة كاملة وبعضهم ختـموا القرآن في دقيقة.

وهكذا فهذه الروايات عنهم وامثالـها لاترقى اليها الشبهات لأن الرواة صادقون صالـحون يترفعون عن الكذب، فضلا عن أن الـحوادث متواترة وكثيرة جدا ويروونها رواية شهود. فلاشك فيها. فبسط الزمان حقيقة ثابتة(1). وهناك نوع منه يصدّقه كل الناس، وهو ما يراه الانسان من رؤيا في الـمنام، اذ قد يرى رؤيا لا تستغرق دقيقة واحد، بينـما يقضي فيها من الاحوال ويتكلـم من الكلام ويستـمتع من اللذائذ ويتألـم من العذاب ما يـحتاج الى يوم كامل في اليقظة وربـما الى ايام عدة.

حاصل الكلام:

مع ان الانسان فان الاّ أنه مـخلوق للبقاء. خَلَقه الباري الكريـم بـمثابة مرآة عاكسة لتـجلياته الباقية، وكلـّفه بالقيام بـمهمات تثمر ثمارا باقيةً، وصوّره على أحسن صورة حتى اصبـحت صورته مدار نقوش تـجليات اسمائه الـحسنى الباقية، لذا فسعادة هذا الانسان ووظيفته الاساس انـما هي: التوجه الى ذلك الباقي بكامل جهوده وجوارحه وبـجـميع استعداداته الفطرية، سائراً قُدماً في سبيل مرضاته، متـمسكا بأسمائه الـحسنى، مردداً بـجـميع لطائفه – من قلب وروح وعقل – ما يردده لسانه: ياباقي انت الباقي:

هو الباقي، هو الازلي الأبدي، هو السرمدي، هو الدائم، هو الـمطلوب، هو الـمـحبوب، هو الـمقصود، هو الـمعبود.

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)

} رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَو أَخطَأنَا{ (البقرة:286).

عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:42 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة الرابعة

}لقد ارتؤى ان يطلق على هذه الرسالة اسم ((منهاج السنة)) {

ان ((مسألة الامامة)) مع كونها مسألة فرعية الاّ أن كثرة الاهتـمام بها جعلتها تدخل ضمن مباحث الايـمان في كتب علـم الكلام واصول الدين وغدت من هذه الـجهة ذات علاقة بـخدمتنا الاساسية، خدمة القرآن والايـمان، وقد بـحثت بـحثا جزئيا.

بِسْمِ الله الرّحـمن الرّحيـم

} لقد جاءكُم رسولٌ من أنفُسكُم عَزيزٌ عَليهِ مَا عَنتـم حريصٌ عليكُم بالـمؤمنينَ رَؤُفٌ رحيـم ` فإن تَولـّوا فقُل حَسَبيَ الله لا الـه إلاّ هو عليه تَوكلتُ وهو رَبُّ العَرشِ العَظيـم { (التوبة:128-129)

} قُل لا أسئلُكُم عَليه أجراً إلاّ الـمودّةَ في القُربى{ (الشورى:23)

سنشير الى جـملة من الـحقائق العظيـمة التي تزخر بها هذه الآيات الـجليلة، وذلك ضمن مقامين اثنين.

الـمقام الاول

((عبارة عن أربع نكات))

u النكتة الاولى:

وهي تعبّر عن كمال رأفة الرسول الاكرم e وغاية رحـمته على أمته.

نعم، لقد وردت روايات صحيـحة تبين مدى رأفته الكاملة وشفقته التامة على أمته، بأنه e يدعو يوم الـحشر الأعظم بـ: ((أمّتي أمّتي)(1) في الوقت الذي يدعو كلُ أحد، بل حتى الأنبياء عليهم السلام بـ: ((نفسي نفسي)) من هول ذلك اليوم ورهبته. فكما تبين هذه الروايات عظيـم شفقته على أمته فقد سمعتْ والدتهُ منه عند ولادته انه يناجي: ((أمتي أمتي)) كما هو مصدَّق لدى اهل الكشف من الاولياء الصالـحين. وكذا ان سيرته العطرة كلـها، وما نشره في الآفاق من مكارم الاخلاق الـمكللة بالشفقة والرحـمة، تبين كمال رأفته وشفقته، كما انه أظهر عظيـم شفقته على أمته باظهار حاجته التي لاتـحد الى صلوات أمته عليه تلك الصلوات التي تبين مدى علاقته الرؤوفة بـجـميع سعادات امته.

ففي ضوء هذه الرأفة الشاملة وهذه الرحـمة الواسعة لـهذا الـمرشد الرؤوف الرحيـم e ؛ كم يكون الإعراضُ عن سنته السنية كفراناً عظيـماً بل موتاً للوجدان! قس ذلك بنفسك وقدّر.

u النكتة الثانية:

ان الرسول الاكرم e قد أبدى رأفة عظيـمة تـجاه أمور ومواد جزئية خاصة، ضمن مهمته النبوية العامة الشاملة. فيبدو ان صرف تلك الشفقة العظيـمة والرأفة الواسعة الى تلك الامور الـجزئية والـمواد الـخاصة لا يناسب – في ظاهر الأمر – عظَم وظيفة النبوة ولا يلائمها. ولكن الواقع والـحقيقة ان تلك الـمادة الـجزئية والأمر الـخاص يـمثل طرف سلسلة تتولى في الـمستقبل مهمة نبوية كلية؛ لذا اُعطي لـمـمثلـها تلك الاهمية البالغة.

مثال ذلك: ان اظهار الرسول e شفقة فائقة وأهمية بالغة للـحسن والـحسين رضي الله عنهما في صباهما، ليست هي شفقة فطرية ومـحبة نابعة من الاحساس بصلة القربى وحدها، بل نابعة ايضاً من انهما بدايةُ سلسلةٍ نورانيةٍ تتولى مهمة من مهمات النبوة العظيـمة، وأن كلاً منهما منشأ جـماعة عظيـمة من وارثي النبوة، ومـمثل عنها وقدوة لـها.

نعم! ان حـمل الرسول e الـحسن رضي الله عنه في حضنه وتقبيلـه رأسَه بكمال الشفقة والرحـمة هو لأجل الكثيرين من ورثة النبوة الشبيهين بالـمهدي الـحاملين للشريعة الغراء الـمتسلسلين من سلالة الـحسن الـمـنـحدرين من نسلـه النوراني الـمبارك أمثال الشيـخ الكيلاني(1). فلقد شاهد الرسول الكريـم e ببصيرة النبوة ما يضطلع به هؤلاء الاكارم في الـمستقبل من مهام مقدسة جليلة، فاستـحسن خدماتهم وقدّر اعمالـهم، فقبّل راس الـحسن رضي الله عنه علامة على التقدير والـحث. ثم ان الاهتـمام العظيـم الذي أولاه الرسول الكريـم e بالـحسين رضي الله عنه وعطفه الشديد مـحوه انـما هو للذين يتسلسلون من نسلـه النوراني من ائمة عظام وارثي النبوة الـحقيقيين الشبيهين بالـمهدي من امثال زين العابدين وجعفر الصادق.

نعم، فقد قبّلe عنق الـحسين رضي الله عنه، واظهر لـه بالغ شفقته وكمال اهتـمامه لاجل اولئك الذين سيرفعون شأن الإسلام ويؤدون وظيفة الرسالة من بعده.

نعم، ان نظر الرسول e الذي يشاهد بقلبه الانيس بالغيب ميدان الـحشر الـمـمتد في الأبدية وهو مازال في الدنيا، في خير القرون، والذي يرى الـجنة في السموات العلى وينظر الى الـملائكة هناك وهو في الارض.. والذي يرى الاحداث الـمستترة بـحـجب الـماضي الـمظلـمة منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام، بل حظى برؤيته تعالى.. ان هذا النظر النوراني والبصيرة النافذة للـمستقبل، لاريب أنه قد رأى الاقطاب العظام وأئمة ورثة النبوة والـمهديين الـمتسلسلين وراء الـحسن والـحسين، فقبّل رأسيهما باسم اولئك جـميعاً.

نعم، ان في تقبيلـه e رأسَ الـحسن رضي الله عنه حصةً عظيـمة للشيـخ الكيلاني.

u النكتة الثالثة:

ان معنى قولـه تعالى } الاّ الـموّدَة في القُربى{ (الشورى:23) – على قول – هو: أن الرسول الاكرم e لدى قيامه بـمهمة الرسالة لا يسأل أجراً من أحد، الاّ مـحبةَ آل بيته فحسب.

واذا قيل:

إن أجراً من حيث قرابة النسل قد أُخذ بنظر الاعتبار حسب هذا الـمعنى بينـما الآية الكريـمة: } ان أكرمكُم عند الله اتقاكم{ (الـحـجرات:13) تدل على ان وظيفة الرسالة تستـمر من حيث التقرب الى الله بالتقوى لا من حيث قرابة النسل.

الـجواب: ان الرسول e قد شاهد بنظر النبوة الأنيس بالغيب: أن آل بيته سيكونون بـمثابة شجرة نورانية عظيـمة تـمتد اغصانُها وفروعها في العالـم الإسلامي، فالذين يرشدون مـختلف طبقات العالـم الإسلامي الى الـهدى والـخير، ويكونون نـماذج شاخصة للكمالات الانسانية جـمعاء، سيظهرون باكثريتهم الـمطلقة من آل البيت.

وقد كشف عن قبول دعاء امته بـحق آل البيت الوارد في التشهد وهو ((اللهم صلِّ على مـحـمد وعلى آل مـحـمد كما صليت على ابراهيـم وعلى آل ابراهيـم في العالـمين، انك حـميد مـجيد)). أي: كما ان معظم الـمرشدين الـهادين النورانيين من ملة ابراهيـم –عليه السلام – هم أنبياء من نسلـه وآلـه، كذلك رأى e ان اقطاب آل بيته يكونون كأنبياء بني اسرائيل في الامة الـمـحـمدية يؤدون وظيفة خدمة الإسلام العظيـمة في شتى طرقها ومسالكها. ولاجل هذا؛ اُمر e ان يقول: } قُل لااسئلكم عليه أجراً الاّ الـموّدَة في القُربى{ (الشورى:23) وطلب مودّة أمته لآل بيته. والذي يؤيد هذه الـحقيقة هو ما جاء في روايات أخرى انه e قال: ((يا ايها الناس اني قد تركت فيكم ما ان اخذتـم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي))(1). ذلك لان آل البيت هم منبع السنة الشريفة والـمـحافظون عليها والـمكلفون أولاً بالالتزام بها.

وهكذا وضحت حقيقة هذا الـحديث بناء على ما ذكر آنفاً، أي: بالاتباع التام للكتاب والسنة الشريفة. أي: ان الـمراد من آل البيت من حيث وظيفة الرسالة هو إتباع السنة النبوية، فالذي يدع السنة الشريفة لا يكون من آل البيت حقيقة كما لا يـمكن ان يكون موالياً حقيقياً لآل البيت.

ثم ان الـحكمة في ارادته e في جـمع الأمة حول آل البيت هي: ان الرسول الكريـم e قد علـم باذن إلـهي ان آل البيت سيكثر نسلـهم بـمرور الزمن بينـما الإسلام سيؤول الى الضعف. فيلزم والـحالة هذه وجود جـماعة مترابطة متساندة في منتهى القوة والكثرة لتكون مركزاً ومـحوراً لرقي العالـم الإسلامي الـمعنوي. وقد علـمe بهذابإذن إلـهي فرغّب في جـمع أمته حول آل بيته.

نعم ان افراد آل البيت وان لـم يكونوا سابقين ومتقدمين على غيرهم في الايـمان والاعتقاد الاّ انهم يسبقونهم كثيراً في التسليـم والالتزام والولاء للإسلام، لانهم يوالون الإسلام فطرة وطبعاً ونسلاً، فالـموالاة الطبعية لاتُترك ولو كانت في ضعف وعدم شهرة أو حتى على باطل، فكيف بـموالاة لـحقيقة ارتبطت بها سلسلة أجداده الذين ضحوا بأرواحهم رخيصة في سبيلـها فنالوا الشرف بها، فتلك الـحقيقة هي في منتهى القوة وذروة الشرف وعلى الـحق الـمبين، أفيستطيع من يشعر بداهة بـمدى اصالة هذه الـموالاة الفطرية ان يتركها؟

فأهل البيت بهذه الالتزام الشديد للإسلام وهو التزام فطري يرون الأمارة البسيطة بـجانب الإسلام برهاناً قوياً لانهم يوالون الإسلام فطرة بينـما غيرهم لا يلتزم الاّ بعد اقتناعه بالبرهان القوي.

u النكة الرابعة:

لـمناسبة النكتة الثالثة نشير اشارة قصيرة الى مسألة ضُخـمت الى درجة كبيرة بـحيث دخلت كتب العقائد وتسلسلت مع أسس الإيـمان، تلك هي مسألة النزاع بين أهل السنة والشيعة. والـمسألة هي:

ان أهل السنة والـجـماعة يقولون: ((ان سيدنا علياً رضي الله عنه هو رابع الـخلفاء الراشدين، وان ابا بكر الصديق رضي الله عنه هو أفضل منه وأحق بالـخلافة، فتسلـم الـخلافة اولاً)).

والشيعة يقولون: ((ان حق الـخلافة كان لعلي رضي الله عنه الاّ أنه ظُلـم، وعلي رضي الله عنه أفضل من الكل)).

وخلاصة ما يوردونه من أدلة لدعواهم هي انهم يقولون: ان ورود أحاديث شريفة كثيرة في فضائل سيدنا علي رضي الله عنه، وكونه مرجعاً للاكثرية الـمطلقة من الاولياء والطرق الصوفية، حتى لُقّب بسلطان الاولياء، مع ما يتصف به من صفات فائقة في العلـم والشجاعة والعبادة، فضلاً عن العلاقة القوية التي يظهرها الرسول e به وبآل البيت الذين يأتون من نسلـه.. كل ذلك يدلّ على أنه الافضل. فالـخلافة كانت من حقه ولكن اُغتصبت منه.

الـجواب: ان إقرار سيدنا علي نفسه مراراً وتكراراً، واتباعه الـخلفاء الثلاثة وتوليه وظيفة ((شيـخ القضاة)) وكونه من اهل الـحل والعقد طوال عشرين سنة وأكثر.. كل ذلك يـجرح دعوى الشيعة.

ثم ان الفتوحات الإسلامية وجهاد الاعداء زمن الـخلفاء الثلاثة، بـخلاف ما حدث زمن خلافة علي رضي الله عنه من حوادث وفتن، تـجرح ايضاً دعوى الشيعة من جهة الـخلافة.

أي ان دعوى أهل السنة والـجـماعة حق.

فان قيل:

ان الشيعة قسمان: أحدهما: شيعة الولاية. والآخر: شيعة الـخلافة.

فليكن هذا القسم الثاني غير مـحق باختلاط السياسة والاغراض في دعاواهم، ولكن لااغراض ولا اطماع سياسية في القسم الاول. فضلاً عن ذلك فقد التـحقت شيعة الولاية بشيعة الـخلافة. أي ان قسماً من الاولياء في الطرق الصوفية يرون ان سيدنا علياً رضي الله عنه هو الافضل، فيصدقّون دعوى شيعة الـخلافة الذين هم بـجانب السياسة.

الـجواب: انه ينبغي النظر الى سيدنا علي رضي الله عنه من زاويتين او من جهتين:

الـجهة الاولى: النظر اليه من زاوية فضائلـه الشخصية ومقامه الشخصي الرفيع.

الـجهة الثانية: هي من زاوية تـمثيلـه الشخص الـمعنوي لآل البيت. والشخص الـمعنوي لآل البيت يعكس نوعاً من ماهية الرسول الكريـم e .

فباعتبار الـجهة الاولى: ان جـميع اهل الـحقيقة وفي مقدمتهم سيدنا علي يقدمّون سيدنا ابا بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد رأوا مقامهما اكثر رفعة في خدمة الإسلام والقرب الإلـهي.

ومن حيث الـجهة الثانية أي كون سيدنا علي رضي الله عنه مـمثلاً عن الشخص الـمعنوي لآل البيت(1). فالشخص الـمعنوي لآل البيت من حيث كونه مـمثلاً لـحقيقة مـحـمدية، لا يرقى اليه شيء بالـموازنة. وكثرة الاحاديث النبوية الواردة في الثناء على سيدنا علي رضي الله عنه وبيان فضائلـه هي لأجل هذه الـجهة الثانية، ومـما يؤيد هذه الـحقيقة رواية صحيـحة بهذا الـمعنى: (( ان نسل كل نبي منه، وانا نسلي من علي))(2).

اما سبب كثرة انتشار الاحاديث بـحق شخصية سيدنا علي رضي الله عنه والثناء عليه أكثر من سائر الـخلفاء الراشدين فهو: ان أهل السنة والـجـماعة وهم أهل الـحق، قد نشروا الروايات الواردة بـحق سيدنا علي رضي الله عنه تـجاه هجوم الأمويين والـخوارج عليه وتنقيصهم من شأنه ظلـماً. بينـما الـخلفاء الراشدون الآخرون لـم يكونوا عرضة الى هذه الدرجة من النقد والـجرح، لذا لـم يروا داعياً لنشر الاحاديث الذاكرة لفضائلـهم.

ثم انه e قد رأى بنظر النبوة ان سيدنا علياً رضي الله عنه سيتعرض الى حوادث أليـمة وفتن داخلية، فسلاّه، وأرشد الأمة باحاديث شريفة من امثال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))(1)، وذلك لينقذ سيدنا علياً من اليأس وينـجي الأمة من سوء الظن به.

ان الـمـحبة الـمفرطة التي يوليها شيعة الولاية لسيدنا علي رضي الله عنه وتفضيلـهم لـه من جهة الطريقة لا يـجعلـهم مسؤولين بـمثل مسؤولية شيعة الـخلافة، لأن اهل الولاية ينظرون نظر الـمـحبة الى مرشديهم حسب مسلكهم. ومن شأن الـمـحب؛ الغلو والافراط والرغبة في أن يرى مـحبوبه أعلى من مقامه. فهم يرون الأمر هكذا فعلاً.

فأهل الأحوال القلبية يـمكن ان يعذروا اثناء غليان الـمـحبة لديهم وغلبتها عليهم، ولكن بشرط الاّ يتعدى تفضيلـهم الناشىء من الـمـحبة الى ذم الـخلفاء الراشدين وعداوتهم، وألاّ يـخرج عن نطاق الاصول الإسلامية.

اما شيعة الـخلافة فنظراً لدخول الاغراض السياسية فيها، فلا يـمكنهم أن ينـجوا من العداء والاغراض الشخصية، فيفقدون حق الاعتذار لـهم، ويـحرمون منه. حتى انهم يظهرون انتقامهم من ((عمر)) في صورة حب ((علي)) وذلك لان القومية الايرانية قد جُرحت بيد سيدنا عمر رضي الله عنه. حتى اصبـحوا مصداق القول: لا لـحب علي بل لبغض عمر. وان خروج عمرو بن العاص على سيدنا علي رضي الله عنه في الـمعركة الفجيعة الـمؤلـمة، كل ذلك أورث الشيعة غيظاً شديداً وعداءً مفرطاً لإسم ((عمر)).

أما شيعة الولاية فليس لـهم حق انتقاد أهل السنة والـجـماعة. لان اهل السنة كما لا يُنقصون من شأن، سيدنا علي رضي الله عنه فهم يـحبونه حباً خالصاً جاداً، ولكنهم يـحترزون من الافراط في الـحب الوارد ضرره وخطره في الـحديث الشريف.

اما الثناء النبوي لشيعة علي رضي الله عنه كما ورد في احاديث نبوية فانـما يعود الى أهل السنة والـجـماعة لانهم هم الـمتبعون لسيدنا علي رضي الله عنه على وفق الاستقامة، لذا فهم شيعة سيدنا علي رضي الله عنه.

وقد جاء في حديث صحيـح صراحة؛ ان خطورة الغلو في مـحبة سيدنا علي رضي الله عنه كخطورة الغلو في مـحبة سيدنا عيسى عليه السلام على النصارى(1).

فان قالت شيعة الولاية: انه بعد قبول فضائل خارقة لسيدنا علي رضي الله عنه لا يـمكن قبول تفضيل سيدنا الصديق رضي الله عنه عليه.

الـجواب: اذا ما وضع في كفة الـميزان الفضائل الشخصية لسيدنا ابي بكر رضي الله عنه أو فضائل سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه، وما قام كل منهما من خدمات جليلة من حيث وراثة النبوة زمن خلافتهما، ووضع في الكفة الاخرى الـمزايا الـخارقة لسيدنا علي رضي الله عنه ومـجاهدات الـخلافة في زمانه وما اضطر اليه من معارك داخلية دامية أليـمة وما تعرض لـه بهذا من سوء الظن، فلا ريب ان كفة سيدنا الصديق رضي الله عنه او كفة سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه أو كفة سيدنا ذي النورين رضي الله عنه هي التي تكون راجـحة. وهذا الرجـحان هو الذي شاهده اهل السنة والـجـماعة، وبنوا تفضيلـهم عليه.

ثم ان رتبة النبوة اسمى وارفع بكثير من درجة الولاية بـحيث ان جلوة بوزن درهم من النبوة تفضل رطلاً من جلوة الولاية، كما اثبتناه في ((الكلـمة الثانية عشرة والكلـمة الرابعة والعشرين)) من الكلـمات، فمن زاوية النظر هذه؛ فإن حصة كل من الصديق والفاروق رضي الله عنهما من حيث وراثة النبوة وتأسيس احكام الرسالة قد زيدت من الـجانب الإلـهي، فالتوفيق الذي حالفهما في زمن خلافتهما قد صار دليلاً لدى اهل السنة والـجـماعة. وحيث ان فضائل سيدنا علي الشخصية لاتُسقط من حكم تلك الـحصة الزائدة الكثيرة الآتية من وراثة النبوة، فقد اصبـح سيدنا علي رضي الله عنه شيـخ القضاة للشيـخين الـمكرمين زمن خلافتهما، وكان في طاعتهما.

ان أهل الـحق، اهل السنة والـجـماعة الذين يـحبون سيدنا علياً رضي الله عنه ويوقّرونه، كيف لا يـحبون مَن كان سيدنا علي رضي الله عنه نفسه يـحبهما ويـجلـهما؟

لنوضح هذه الـحقيقة بـمثال: رجل ثري جداً وزع ميراثه واموالـه الطائلة على اولاده. فأعطى لاحدهم عشرين رطلاً من الفضة واربعة ارطال من الذهب، واعطى لآخر خـمسة ارطال من الفضة وخـمسة ارطال من الذهب، واعطى لآخر ثلاثة ارطال من الفضة وخـمسة ارطال من الذهب، فلاشك ان الاخيرين رغم انهما قد قبضا أقل من الأول كمية الاّ انهما قبضا أعلى منه نوعيةً.

وهكذا في ضوء هذا الـمثال، ان الزيادة القليلة في حصة الشيـخين من ذهب حقيقة الأقربية الإلـهية الـمتـجلية من وراثة النبوة وتأسيس احكام الرسالة ترجـح على الكثير من الفضائل الشخصية وجواهر الولاية والقرب الإلـهي لسيدنا علي رضي الله عنه. فينبغي في الـموازنة النظر من هذه الزاوية وأخذها بنظر الاعتبار، والاّ تتغير صورة الـحقيقة ان كانت الـموازنة تعقد مع الشجاعة والعلـم الشخصي وجانب الولاية.

ثم ان سيدنا علياً رضي الله عنه لا يباريه احد من جانب كونه الـمـمثل في ذاته الشخص الـمعنوي لآل البيت، والذي تـجلى في هذه الشخصية الـمعنوية من حيث الوراثة النبوية الـمطلقة. وذلك لأن السر العظيـم للرسول الاعظم e في هذا الـجانب.

أما شيعة الـخلافة فلا حق لـهم غير الـخـجل أمام أهل السنة والـجـماعة. لأن هؤلاء يُنقصون من شأن سيدنا علي رضي الله عنه في دعواهم الـحبَّ الـمفرط لـه بل يفضي مذهبهم الى وصمه بسوء الـخلق – حاشاه – حيث يقولون: ((ان سيدنا علياً رضي الله عنه قد ماشى سيدنا الصديق والفاروق رضي الله عنهما مع انهما غير مـحقين واتقى منهما تقاةً))، وباصطلاح الشيعة انه عمل بالتقية. بـمعنى انه كان يـخافهما وكان يرائيهما في اعمالـه! ان وصف مثل هذا البطل الإسلامي العظيـم الذي نال اسم: ((اسد الله)) واصبـح قائداً لدى الصديقين ووزيراً لـهما.. لقول ان وصفه بانه كان يرائي ويـخاف ويتصنع بالـحب لـمن لا يـحبهم حقاً، واتباعه لغير الـمـحقين اكثر من عشرين عاماً ومسايرتهما تـحت سطوة الـخوف، ليس من الـمـحبة في شيء. وسيدنا علي رضي الله عنه يتبرأ من مثل هذه الـمـحبة.

وهكذا فان مذهب أهل الـحق لا ينقص من شأن سيدنا علي رضي الله عنه بأية جهة كانت ولا يتهمه في اخلاقه قطعاً ولا يسند الى مثل هذا البطل الـمقدام الـخوف، ويقولون: ((لولـم يكن سيدنا علي رضي الله عنه يرى الـحق في الـخلفاء الراشدين لـما كان يعطيهم الولاء لدقيقة واحدة وما كان ينقاد لـحكمهم أصلاً)).

بـمعنى: انه رضي الله عنه قد عرف انهم على حق واقرّ بفضلـهم فبذل شجاعته الفائقة في سبيل مـحبة الـحق.

مـحصل مـما سبق:

انه لاخير في الافراط والتفريط في كل شيء. وان الاستقامة هي الـحد الوسط الذي اختاره اهل السنة والـجـماعة، ولكن مع الاسف كما تستر بعض أفكار الـخوارج والوهابية بستار اهل السنة والـجـماعة فان قسماً من الـمفتونين بالسياسة والـملـحدين ينتقدون سيدنا علياً رضي الله عنه ويقولون: ((انه لـم يوفق كاملاً في ادارة دفة الـخلافة لـجهلـه حاشاه – بالسياسة فلـم يقدر على ادارة الأمة في زمانه)). فازاء هذا الاتهام الباطل من هؤلاء اتـخذ الشيعة طور الغيظ والاستياء من اهل السنة. والـحال ان دساتير اهل السنة واسس مذهبهم لاتستلزم هذه الافكار بل تثبت عكسها. لذا لا يـمكن إدانة أهل السنة بافكار ترد من الـخوارج ومن الـملـحدين قطعاً، بل ان أهل السنة هم أكثر ولاءً وحباً من الشيعة لسيدنا علي رضي الله عنه. فهم في جـميع خطبهم ودعواتهم يذكرون سيدنا علياً بـما يستـحقه من الثناء وعلو الشأن ولاسيـما الاولياء والاصفياء الذين هم باكثريتهم الـمطلقة على مذهب أهل السنة والـجـماعة، فهم يتـخذونه مرشدهم وسيدهم. فما ينبغي للشيعة ان يـجابهوا اهل السنة بالعداء تاركين الـخوارج والـملـحدين الذين هم اعداء الشيعة وأهل السنة معاً. حتى يترك قسم من الشيعة السنة النبوية عناداً لأهل السنة!.

وعلى كل حال فقد أسهبنا في هذه الـمسألة حيث انها قد بـحثت كثيراً بين العلـماء.

فيا اهل الـحق الذين هم اهل السنة والـجـماعة!

ويا ايها الشيعة الذين اتـخذتـم مـحبة اهل البيت مسلكاً لكم!

ارفعوا فوراً هذا النزاع فيـما بينكم، هذا النزاع الذي لامعنى لـه ولا حقيقة فيه، وهو باطل ومضر في الوقت نفسه. وان لـم تزيلوا هذا النزاع فان الزندقة الـحاكمة الان حكماً قوياً تستغل أحدكما ضد الآخر وتستعملـه أداة لإفناء الآخر، ومن بعد افنائه تـحطـّم تلك الاداة ايضاً.

فيلزمكم نبذ الـمسائل الـجزئية التي تثير النزاع، لانكم اهل التوحيد بينكم مئات الروابط الـمقدسة الداعية الى الأخوة والاتـحاد.

الـمقام الثاني

سيـخصص لبيان الـحقيقة الثانية للآية الكريـمة *: } فإن تَولـّوا فقُل حَسَبيَ الله لا الـه إلاّ هو عليه تَوكلتُ وهو رَبُّ العَرشِ العَظيـم{ (التوبة: 129).

عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:44 PM

رد: اللمعات
 
اللمعة الـخامسة

ستكون هذه اللمعة رسالة تبين حقيقة جليلة للآية الكريـمة: } حَسبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ{ (آل عمران:173) ضمن خـمسة عشرة مرتبة، الا ان تأليفها قد تأجل في الوقت الـحاضر لكونها ذات علاقة بالتفكر والذكر اكثر من علاقتها بالعلم والحقيقة، لذا جاءت باللغة العربية(1).

اللمعة السادسة

في بيان ((لاحول ولاقوة الاّ بالله العلي العظيم)) التي تعبّر عن حقيقة جليلة تنبع من كثير من الآيات الكريـمة. توضحها هذه اللمعة في مراتب فكرية تقرب من عشرين مرتبة والتي كنت استشعر بها في نفسي واشاهدها في سيري الروحي اثناء الذكر والتفكر كما في اللمعة الـخامسة ولكن لكونها ذات علاقة بالذوق الروحي والـحال القلبي اكثر من تعلقها بالعلم والحقيقة ارتؤي وضعها في ختام اللمعات وليس في بدايتها(2).

اللـمعة السابعة

(تـخص سبعة انواع من اخبار الآيات التي في ختام سورة الفتـح بالغيب)

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} لَقدْ صَدَق الله رَسُولـه الرُؤيا بالـحق لَتَدْخُلُنّ الـمسْجدَ الـحرامَ إن شَاء الله آمنينَ مـحلـّقين رؤسَكُم ومُقصّرين لاتـخافونَ فَعَلـم مَالـم تَعلـموا فَجَعلَ مِنْ دون ذلك فتـحاً قريباً ` هو الذي أرسلَ رسولـه بالـهدى ودين الـحق ليُظهره على الدين كلـه وكفى بالله شَهيداً ` مـحـمدٌ رَسولُ الله والذينَ مَعَه اشداءُ على الكُفّار رُحـماءُ بينَهم تَريهم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً سيـماهُم في وجُوهِهِم مِن أثَرِ السُّجُودِ ذلك مَثَلـهم في التَورية وَمَثلـهم في الانـجيلِ كزَرعٍ أخرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فاستَغلَظَ فاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعجبُ الزرّاعَ ليَغيظَ بهمُ الكُفّارَ وَعَدَ الله الذينَ آمنوا وَعملوا الصالـحات منهُم مَغفرةً وأجراً عظيـماً{ (الفتـح:27-29)

هذه الآيات الثلاث في سورة الفتـح لـها وجوه اعجازية كثيرة جداً.

فوجه من الوجوه الكلية العشرة لاعجاز القرآن هو الاخبار عن الغيب الذي يظهر في هذه الآيات الكريـمة بسبعة أو ثمانية وجوه:

u الوجه الاول:

قولـه تعالى: } لَقدْ صَدَق الله رَسُولـه الرُؤيا بالـحق لَتَدْخُلُنّ الـمسْجدَ الـحرامَ إن شَاء الله آمنينَ ...{ الـخ الآية، تـخبر اخباراً قاطعاً عن فتـح مكة قبل وقوعه. وقد فتـحت فعلاً بعد سنتين كما اخبرت هذه الآية.

u الوجه الثاني:

قولـه تعالى: } فَجَعلَ مِنْ دون ذلك فتـحاً قريباً{

تنبىء هذه الآية: ان صلـح الـحديبية وإن بدا ظاهراً انه ليس في صالـح الـمسلـمين وان لقريش ظهوراً على الـمسلـمين الى حدٍ ما، الاّ أنه سيكون بـمثابة فتـح معنوي مبين، ومفتاحاً لبقية الفتوحات. وان السيوف الـمادية وان دخلت أغمادها في الواقع الاّ أن القرآن الكريـم قد سلّ سيفه الالـماسي البارق وفتـح القلوب والعقول، اذ بسبب الصلـح اندمـجت القبائل فيـما بينها واختلطت فاستولت فضائل الإسلام على العناد فمزّقت انوارُ القرآن حـجبَ التعصب القومي الذميـم.

فمثلاً: ان داهية الـحرب خالد بن الوليد وداهية السياسة عمرو بن العاص اللذين يأبيان أن يُغلبا، غلبهما سيف القرآن الذي سطع في صلـح الـحديبية، حتى سارا معاً الى الـمدينة الـمنورة وسلـما الإسلام رقابهما، وانقادا اليه انقياد خضوع وطاعة حتى اصبـح خالد بن الوليد سيف الله الـمسلول تفتـح به الفتوحات الإسلامية.

سؤال مهم:

ان صحابة الرسول الكريـم e ، وهو حبيب رب العالـمين وسيد الكونين e ، قد غُلبوا امام الـمشركين في نهاية معركة اُحد وبداية معركة حنين. فما الـحكمة في هذا؟

الـجواب: لأنه حينذاك كان بين الـمشركين كثيرون من امثال خالد بن الوليد، مـمن سيكونون في الـمستقبل مثل كبار الصحابة في ذلك الزمان، فلأجل الاّ تُكسر عزّتُهم كلياً اقتضت حكمة الله ان تكافأهم مكافأة عاجلة لـحسناتهم الـمستقبلية، بـمعنى ان صحابةً في الـماضي غُلبوا امام صحابة في الـمستقبل، لئلا يدخل هؤلاء – أي صحابة الـمستقبل – في الإسلام خوفاً من بريق السيوف، بل شوقاً الى بارقة الـحقيقة، ولئلا تذوق شهامتهم الفطرية الـهوان كثيراً.

u الوجه الثالث:

ان الآية الكريـمة تـخبر بقيد } لاتـخافون{ بأنكم ستدخلون البيت الـحرام وتطوفون حول الكعبة بأمان تام، علـماً ان معظم قبائل الـجزيرة العربية ومن هم حوالي مكة الـمكرمة وغالبية قريش كلـهم اعداء للـمسلـمين، فهذا الإخبار يدل على انكم تدخلون في اقرب وقت الـمسجد وتطوفون دون أن يداخلكم الـخوف، وان الـجزيرة ستدين لكم بالطاعة، وقريش تكون في حظيرة الإسلام ويعم الامن والامان. فوقع كما اخبرت الآية.

u الوجه الرابع:

قولـه تعالى: } هو الذي أرسلَ رسولـه بالـهدى ودين الـحق ليُظهره على الدين كلـه{ .

هذه الآية تـخبر إخباراً قاطعاً: ان الدين الذي جاء به الرسول الكريـم e سيظهر على الاديان كلـها، علـماً ان النصرانية واليهودية والـمـجوسية التي يعتنقها مئات الـملايين من الناس كانت أدياناً رسمية لدول كبرى كالصين وايران وروما، والرسول الكريـم e لـم يظهر بعدُ ظهوراً تاماً على قبيلته نفسها، فالآية الكريـمة تـخبر عن ظهور دينه على الاديان كافة وعلى الدول كافة، بل تـخبر عن هذا الظهور بكل يقين وجزم اخباراً قاطعاً. ولقد صدّق الـمستقبل هذا الـخبر الغيبي بامتداد سيف الإسلام من بـحر الـمـحيط الشرقي الى بـحر الـمـحيط الغربي.



u الوجه الـخامس:

} مـحـمدٌ رَسولُ الله والذينَ مَعَه اشداءُ على الكُفّار رُحـماءُ بينَهم تَريهم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً سيـماهُم في وجُوهِهِم مِن أثَرِ السُّجُودِ { .

هذه الآية صريـحة في معناها من ان الصحابة الكرام هم افضل بني الانسان بعد الانبياء عليهم السلام لـما يتـحلون به من سجايا سامية ومزايا راقية، وفي الوقت نفسه تبين ما تتصف به طبقات الصحابة في الـمستقبل من صفات مـمتازة مـختلفة خاصة بهم، كما تبين بالـمعنى الاشارى – لدى اهل التـحقيق – الى ترتيب الـخلفاء الذين سيـخلفون مقام النبي e بعد وفاته، فضلاً عن اخبارها عن ابرز صفة خاصة بكل منهم مـما اشتهروا به.

وذلك: فان قولـه تعالى: } والذينَ مَعَه{ يدل على سيدنا الصديق رضي الله عنه الـمتصف بالـمعية الـمـخصوصة والصحبة الـخاصة، بل بوفاته اولاً دخل ضمن معيته ايضاً.

كما ان قولـه تعالى: } اشداءُ على الكُفّار{ يدل على سيدنا عمر رضي الله عنه الذي سيهز دول العالـم ويرعبهم بفتوحاته، وسيشتهر بعدالته على الظالـمين كالصاعقة.

وتـخبر الآية بلفظ } رحـماء بينهم{ عن سيدنا عثمان رضي الله عنه الذي لـم يرض باراقة الدماء بين الـمسلـمين حينـما كانت تتهيأ اعظم فتنة في التأريـخ، ففضّل بكمال رحـمته ورأفته ان يضحي بروحه ويسلـم نفسه للـموت، واستشهد مظلوماً وهو يتلو القرآن الكريـم.

كما ان قولـه تعالى: } تَريهم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً{ يشير الى اوضاع سيدنا علي رضي الله عنه الذي باشر مهام الـخلافة بكمال الاستـحقاق والاهلية وهو في كمال الزهد والعبادة والفقر والاقتصاد واختار الدوام على السجود والركوع كما هو مصدّق عند الناس. فضلاً عن اخبارها أنه لا يكون مسؤولاً عن حروبه التي دخلـها في تلك الفترة وفي الـمستقبل، والذي كان يبتغي فيها فضلاً من الله ورضواناً.

u الوجه السادس:

} ذلك مَثَلـهم في التَورية{ هذه الـجهة فيها اخبار غيبي بـجهتين:

الـجهة الاولى:

انها تـخبر عن اوصاف الصحابة الواردة في التوراة، وهي في حكم الغيب بالنسبة لرسول أمي e . اذ قد وضح في الـمكتوب التاسع عشر ان في التوراة وصفاً لصحابة الرسول الذي سيأتي في آخر الزمان ((معه الوف الاطهار)) في يـمينه او ((معه رايات القديسين)) بـمعنى ان اصحابه مطيعون وعبّاد صالـحون واولياء لله حتى يوصفون بالقديسين الاطهار.

فعلى الرغم مـما طرأ من تـحريفات كثيرة على التوراة بسبب ترجـماتها العديدة لألسنة متنوعة، فانها مازالت تصدّق بآيات كثيرة منها هذه الآية الكريـمة في ختام سورة الفتـح } مَثَلـهم في التَورية{ .

الـجهة الثانية من الاخبار الغيبي هي:

ان } مَثَلـهم في التَورية…{ تـخبر عن ان الصحابة الكرام والتابعين سيبلغون مرتبة من العبادة بـحيث أن ما في ارواحهم من نور سيشع على وجوهم وستظهر على جباههم علامة ولايتهم وصلاحهم بكثرة السجود لله.

نعم، فلقد صدّق الـمستقبل هذا بكل يقين ووضوح وجلاء فان زين العابدين رضي الله عنه الذي كان يصلي الف ركعة ليلاً ونهاراً وطاووساً اليـماني رضي الله عنه الذي صلى الفجر بوضوء العشاء طوال اربعين سنة، رغم التقلبات السياسية والاوضاع الـمضطربة، وكثيرين كثيرين امثالـهما قد بينّوا سراً من اسرار هذه الآية الكريـمة: } مَثَلـهم في التَورية{ .





u الوجه السابع:

} وَمَثلـهم في الانـجيلِ كزَرعٍ أخرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فاستَغلَظَ فاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعجبُ الزرّاعَ ليَغيظَ بهمُ الكُفّارَ{ .

هذه الفقرة ايضاً فيها اخبار غيبي بـجهتين:

اولاها:

ان اخبار مافي الانـجيل من اوصاف الصحابة الكرام اخبار هي في حكم الغيب بالنسبة لرسول امي e .

نعم! لقد وردت آيات في الانـجيل تصف الرسول الذي سيأتي في آخر الزمان مثل: ((ومعه قضيب من حديد وامته كذلك)) بـمعنى انه صاحب سيف ويأمر بالـجهاد واصحابه كذلك اصحاب السيوف ومأمورون بالـجهاد وليس كسيدنا عيسى عليه السلام الذي لـم يك صاحب سيف. فضلاً عن أن ذلك الـموصوف معه قضيب من حديد سيصبـح سيد العالـم، لأن آية في الانـجيل تقول: ((سأذهب كي يـجىء سيد العالـم)).

فنفهم من هاتين الفقرتين من الانـجيل: ان الصحابة الكرام وإن بدا عليهم في بادىء الامر ضعف وقلة الاّ انهم سينـمون نـمو البذرة النابتة وسيعلون كالنبات النامي الناشىء ويقوون حتى يغتاظ منهم الكفار، بل يرُضخون العالـم بسيوفهم فيثبتون ان سيدهم الرسول الكريـم هو سيد العالـم. وهذا الـمعنى الذي تفيده آية الانـجيل هي معنى الآية في ختام سورة الفتـح.

الوجه الثاني:

تفيد هذه الفقرة: ان الصحابة الكرام وان كانوا قد قبلوا بصلـح الـحديبية، لقلتهم وضعفهم آنذاك فانهم بعد فترة وجيزة يكسبون بسرعة قوة وهيبة بـحيث ان البشرية التي انبتتها يد القدرة الإلـهية في مزرعة الارض تكون سنابلـها قصيرة وناقصة ومـمـحوقة بسبب غفلتهم ازاء سنابلـهم العالية الشامـخة القوية الـمثمرة الـمباركة، حتى انهم يكونون من القوة والكثرة بـحيث يتركون دولاً كبرى تتلظى بنار غيظها وحسدها.

نعم ان الـمستقبل قد بين هذا الاخبار الغيبي باسطع صورة. وفي هذا الاخبار الغيبي ايـماء خفي ايضاً وهو:

انه لـما اثنى على الصحابة الكرام لـما يتـحلون به من خصال فاضلة مهمة كان الـمقام يلزم وعد ثواب عظيـم ومكافأة جليلة لـهم، الاّ انه يشير بكلـمة ((مغفرة)) الى انه ستقع اخطاء وهفوات مهمة من جراء فتن تـحدث بين الصحابة، اذ الـمغفرة تدل على وجود تقصير في شيء وحينذاك سيكون اعظم مطلوب لـهم وافضل احسان عليهم هو الـمغفرة. لان اعظم إثابة هو: العفو، وعدم العقاب.

فكما أن كلـمة (مغفرة) تدل على هذا الايـماء اللطيف كذلك فهي ذات علاقة مع مافي بداية السورة: } ليغفرَ لكَ الله مَا تَقدّم مِن ذَنبكَ ومَا تأخّر{ (الفتـح:2) فالـمغفرة هنا ليست مغفرة ذنوب حقيقية لأن في النبوة العصمة، فلا ثمة ذنب. وانـما هي بشرى الـمغفرة بـما يناسب مقام النبوة. وما في ختام السورة من تبشير الصحابة الكرام بالـمغفرة يضم لطافة اخرى الى ذلك الايـماء.

وهكذا فوجوه الاعجاز العشرة للآيات الكريـمة الثلاث في ختام سورة الفتـح، لـم نبـحث فيها الاّ عن وجه الاعجاز في إخبارها الغيبي بل لـم نبـحث الا في سبع وجوه من الوجوه الكثيرة جداً عن هذا النوع من الإخبار.

وقد اشير الى لـمعة اعجاز مهمة في اوضاع حروف هذه الآية الاخيرة في ختام ((الكلـمة السادسة والعشرين)) الـخاصة بالقدر والـجزء الاختياري، فهذه الآية موجهة بـجـملـها الى الصحابة الكرام كما تشمل بقيودها احوالـهم ايضاً، ومثلـما تفيد بالفاظها اوصاف الصحابة فهي تشير بـحروفها وتكرار اعدادها الى اصحاب بدر وأحد وحنين واصحاب الصفة وبيعة الرضوان وامثالـهم من طبقات الصحابة الكرام. كما تفيد اسراراً كثيرة بـحساب الـحروف الابـجدية والتوافق الذي يـمثل نوعاً من علـم الـجفر ومفتاحه.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32 )





ان الاخبار الغيبي الذي تـخبر به آيات ختام سورة الفتـح بالـمعنى الاشاري، تـخبر به كذلك هذه الآية الآتية وتشير الى الـمعنى نفسه، لذا نتطرق اليها هنا.

تتـمة

} ولـهديناهُم صراطاً مُستَقيـماً ` ومَن يُطع الله والرسولَ فأولئكَ مَع الذينَ أنعَم الله عليهم مِنَ النَبيينَ والصِدّيقينَ والشُهداء والصالـحين وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً{ (النساء:68-69)

نشير الى نكتتين فقط من بين الوف نكات هذه الآية الكريـمة:

النكتة الاولى:

ان القرآن الكريـم مثلـما يبين الـحقائق بـمفاهيـمه وبـمعناه الصريـح يفيد كذلك معاني اشارية كثيرة باساليبه وهيئاته. فلكل آية طبقات كثيرة من الـمعاني؛ ولان القرآن الكريـم قد نزل من العلـم الـمـحيط، فيـمكن ان تكون جـميع معانيه مرادة، اذ معاني القرآن لاتنـحصر في واحد او اثنين من الـمعاني كما ينـحصر كلام الانسان الـحاصل بإرادته الشخصية وبفكره الـجزئي الـمـحدود.

فبناءً على هذا السر فقد بيّن الـمفسرون مالا يـحد من الـحقائق لآيات القرآن.

وهناك حقائق كثيرة جداً لـم يبينها الـمفسرون بعدُ. ولاسيـما حروف القرآن واشاراته ففيها علومٌ مهمة سوى معانيه الصريـحة..

النكتة الثانية:

تبين هذه الآية الكريـمة:

} مِنَ النَبيينَ والصدّيقينَ والشُهَداءِ والصالـحين وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً{ (النساء:69)

ان اهل الصراط الـمستقيـم والـمنعم عليهم بالنعم الإلـهية حقاً هم طائفة الأنبياء وقافلة الصديقين وجـماعة الشهداء واصناف الصالـحين وانواع التابعين. فكما تبين الآية هذه الـحقيقة فهي تفيد صراحة اكملَ مَن في تلك الاقسام الـخـمسة في عالـم الإسلام وتدل على أئمة تلك الاقسام الـخـمسة وعلى رؤسائهم الـمتقدمين بذكر صفاتهم الـمشهورة. ثم تعّين بـجهة بلـمعة اعجاز أئمة تلك الاقسام في الـمستقبل واوضاعهم بنوع من إخبار غيبي.

نعم! كما أن لفظ } مِنَ النَبيينَ{ ينظر صراحة الى الرسول الكريـم e فان فقرة } والصدّيقينَ{ تنظر الى ابي بكر الصديق، مشيرة الى أنه الشخص الثاني بعد الرسول الكريـم e ، واول من يـخلفه. وان اسم الصدّيق عنوانه الـخاص الذي لقّب به وهو الـمعروف لدى الأمة جـميعاً. وانه سيكون على رأس الصديقين.

كما تشير بكلـمة } والشُهَداءِ{ الى عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم اجـمعين وتفيد افادة غيبية ان هؤلاء الثلاثة سينالون الـخلافة بعد الصديق رضي الله عنه، وانهم سيستشهدون. مـما يزيد فضيلة الى فضائلـهم.

وكما تشير بكلـمة } والصالـحين{ الى اصحاب الصفة وبدر، وبيعة الرضوان وتشوّق بـجـملة } وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً{ وبـمعناه الصريـح على اتباعهم وتبين جـمال اتباع التابعين لـهم وحُسنه مشيرةً بالـمعنى الإشاري الى الـحسن رضي الله عنه انه خامس الـخلفاء الأربعة، مصدقة حكم الـحديث الشريف: ((الـخلافة بعدي في امتي ثلاثون سنة))(1). فمع قصر مدة خلافته فهي عظيـمة الشأن.

الـحاصل:

ان الآية الأخيرة من سورة الفتـح تنظر الى الـخلفاء الأربعة كما تنظر هذه الآية وتشير الى مستقبل اوضاعهم وتؤيدها بنوع من الاخبار الغيبي.

فالإخبار الغيبي الذي هو احد انواع اعجاز القرآن لـه لـمعات اعجازية كثيرة وكثيرة لاتعد ولاتـحصى، لذا فان حصر اهل الظاهر تلك الإخبارات الغيبية في اربعين او خـمسين آية فقط انـما هو ناشىء من نظر ظاهري سطحي بينـما في الـحقيقة هناك ما يربو على الألف منها بل قد تكون في آية واحدة فقط اربعة او خـمسة إخبار غيبية.

} ربـَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينَا أو أخطأنا{ (البقرة:286)

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

اللـمعة الثامنة

ستنشر ضمن مـجـموعة اخرى باذن الله


عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:49 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة التاسعة

لايسع كل واحد أن يرى نقائص وحدة الوجود الدقيقة ولا هو بـحاجة اليها، لذا لا حاجة لـه لقراءة هذه اللـمعة.

باسمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته

اخي العزيز الوفي الـمـخلص الـخالص!

ان سبب عدم ارسالي رسالة مستقلة الى اخينا ((عبدالـمـجيد))(1) هو ان رسائلي التي ابعثها اليكم تفي بالغرض، فان ((عبدالـمـجيد)) اخ قدير وطالب مـجد بعد ((خلوصي))(2)، وانا اذكره باسمه في دعائي كل صباح ومساء مع ((خلوصي)) واحياناً قبلـه. هذا وان ((صبري)) ثم ((حقي افندي)) يستفيدان من رسائلي، فلا ارى داعياً لأبعث إليهما رسائل مستقلة. فلقد أنعم الله عليك وجعلك اخاً كبيراً مباركاً لـهما، فراسل ((عبدالـمـجيد)) بدلاً مني، وطمئنه لئلا يقلق، فانا افكر فيه بعد ((خلوصي)).

سؤالكم الاول

وهو سؤال خاص يعود الى امضاء احد اجدادكم باسم ((السيد مـحـمد)) (أي من آل البيت).

اخي!

انني لا املك الاجابة عن هذا السؤال جواباً مبنياً على العلـم والتـحقيق والكشف، ولكن كنت اقول لاصحابي: ان ((خلوصي)) لا يشبه الاتراك الـحاليين، ولا الاكراد، فاني ارى فيه خاصية اخرى، وكانوا يصدّقونني. فكنا نقول: ان ظهور عراقة وأصالة في ((خلوصي)) دليل على نيلـه عطاء الـحق، بـمضمون القاعدة:

(( داد حق راقابليت شرط نيست ))(1)

واعلـم قطعاً ان للرسول الاكرم e نوعين من الآل:

الاول: آلـه النَسَبي.

والاخر: آلـه من حيث شخصه الـمعنوي النوراني، أي من حيث الرسالة.

فأنت داخل قطعاً في هذا الآل الثاني، فضلاً عن دخولك في الآل الأول حسب قناعتي بلا دليل. فان إمضاء جدّك باسم ((السيد)) ليس عبثاً ولا جزافاً.

خلاصة سؤالكم الثاني:

أخي العزيز!

ان مـحي الدين بن عربي(2) قد قال: (ان مـخلوقية الروح عبارة عن انكشافها). انك يا أخي بسؤالك هذا تضطرني الى ان اناقش وانا الضعيف العاجز خارقة الـحقيقة وداهية علـم الاسرار مـحي الدين بن عربي. ولكن لـما كنت سأخوض في البـحث معتـمداً على نصوص القرآن الكريـم فسوف استطيع ان احلق اعلى من ذلك الصقر وأسمى منه وإن كنت ذبابة!

أخي:

اعلـم ان مـحي الدين بن عربي لا يـخدع ولكن ينـخدع، فهو مهتد، ولكنه لا يكون هاديا لغيره في كل ما كتبه، فما رآه صدق وصواب ولكن ليس هو الـحقيقة.

ولقد وضحت ((الكلـمة التاسعة والعشرون)) في مبـحث الروح، الـحقيقة التي يدور عليها سؤالكم.

نعم! ان الروح من حيث الـماهية قانون أمري. ولكن اُلبست وجوداً خارجياً، فهي ناموس ذو حياة، وقانون ذو وجود خارجي.

فالشيـخ مـحي الدين قد نظر الى الروح من حيث ماهيتها فحسب، ويرى الاشياء خيالا حسب مشرب وحدة الوجود.

ولـما كان الشيـخ قد انتهج مسلكاً مستقلاً وكان صاحب مشرب مهم ولـه كشفيات ومشاهدات خارقة فانه يلـجأ باضطرار الى تأويلات ضعيفة وتكلـّف وتـمـحلّ ليطبق بعض الآيات الكريـمة حسب مشربه ومشهوداته، مـما يـخدش صراحة الآية الكريـمة ويـجرحها.

ولقد بينا في رسائل اخرى الـمنهج القرآني ومنهج أهل السنة السنية القويـم.

فالشيـخ ابن عربي لـه مقام خاص لذاته، وهو من الـمقبولين، إلا أنه بكشفياته التي لاضوابط لـها خرق الـحدود وتـجاوزها وخالف جـمهور الـمـحققين العلـماء في كثير من الـمسائل.

ولأجل هذا تكاد تقتصر طريقته الـخاصة به لفترة قصيرة جداً في ((صدر الدين القونوي))(1) ويندر أن يستفاد من آثاره استفادة ذات استقامة، مع كونه شيـخاً عظيـماً عالي القدر وقطباً خارقاً فريد زمانه. بل لا يبحث كثير من العلـماء الـمـحققين والاصفياء على قراءة آثاره القيـمة، بل قسم منهم يـمنعون قراءتها.

ان بيان الفرق الاساس بين مشرب الشيـخ مـحي الدين بن عربي واهل التـحقيق من العلـماء، وبيان منابعهما ومصادرهما يـحتاج الى دراسة عميقة وبـحث دقيق ونظر واسع رفيع.

نعم! ان الفرق دقيق جداً وعميق جداً الى درجة كبيرة، والـمصدر رفيع وسام الى حد كبير، بـحيث لـم يؤاخذ الشيـخ ابن عربي على خطئه، وانـما ظل مقبولا لدى العلـماء. اذ لو كان الفرق والـمصدر مشهودين واضحين علـماً وفكراً وكشفاً لكان سقوطاً مريعاً للشيـخ وخطأ جسيـما لـه.

ولكن لـما كان الفرق عميقا جداً، فاننا نـحاول أن نبين خطأ الشيـخ في تلك الـمسألة فحسب ونوضح ذلك الفرق وتلك الـمنابع في مثال باختصار شديد:

فمثلا: الشمس تشاهد في مرآة. فهذه الـمرآة هي مظروف الشمس، وموصوفها. بـمعنى ان الشمس توجد فيها من جهة، ومن جهة اخرى تزين الـمرآة حتى تكون صفتها اللامعة وصبغتها الساطعة.

فان كانت تلك الـمرآة، مرآة آلة تصوير فانها ستنقل صورة الشمس على ورقة حساسة بصورة ثابتة. ففي هذه الـحالة فالشمس الـمشهود في الـمرآة وماهيتها الـمرتسمة على الورقة وصفاتها، وتزيينها الـمرآة – حتى غدت كأنها صفتها – هي غير الشمس الـحقيقية. فهي ليست شمسا، بل هي دخول تـجلي الشمس في وجود آخر.

اما وجود الشمس الـمشهودة في الـمرآة فهو وان لـم يكن عين وجود الشمس الـموجودة في الـخارج الا انه قد ظن انه عين وجودها لارتباطه بها واشارته اليها.

فبناء على هذا الـمثال:

فان القول بأن: ((ليس في الـمرآة غير الشمس الـحقيقية)) يـمكن ان يكون صوابا باعتبار الـمرآة ظرفا وان الـمقصود من الشمس التي فيها وجودها الـخارجي. ولكن اذا قيل ان صورة الشمس الـمنبسطة على الـمرآة – التي اخذت حكم صفة الـمرآة – والصورة التي انتقلت الى الورقة الـحساسة انها الشمس، فهذا خطأ، أي ان عبارة ((ليس في الـمرآة غير الشمس)) تكون عبارة خطأ، ذلك لان هناك صورة الشمس التي تظهر على الـمرآة وهناك الصورة الـمرتسمة خلفها على الورق الـحساس، فكل منها لـها وجود خاص بها.

فمع أن ذينك الوجودين هما من تـجلي الشمس الا انهما ليسا الشمس نفسها.

وكذا فان ذهن الانسان وخيالـه شبيهان بـمثال الـمرآة هذا. وذلك:

ان الـمعلومات الـموجودة في مرآة فكر الانسان لـها وجهان ايضاً: فهي بوجه علـم، وبوجه آخر معلوم.

فاذا اعتبرنا الذهن ظرفاً لذلك الـمعلوم، اصبـح ذلك الـموجود الـمعلوم معلوما ذهنيا. فوجوده شيء آخر.

وان اعتبرنا الذهن موصوفا بذلك الشيء الذي حل فيه اصبـح صفة للذهن، وذلك الشيء يكون عندئذ علـما، ولـه وجود خارجي. وحتى لو كان لذلك الـمعلوم وجود وجوهر فسيكون وجوداً خارجياً عرضياً.

فبناء على هذين التـمثيلين:

الكون مرآة، وماهية كل موجود مرآة ايضا. هذه الـمرايا معرضة الى الإيـجاد الإلـهي بالقدرة الأزلية.

فكل موجود – من جهة – يصبـح مرآة لاسم من اسماء الله يبين نقشاً من نقوشه. فالذين هم على مشرب الشيـخ ابن عربي قد كشفوا العالـم من حيث الـمرآتية والظرفية والـموجود الـمثالي في الـمرآة – من زاوية النفي – ومن حيث منعكس صورة ذلك الشيء في الـمرآة هو عينه. وقالوا: لاموجود إلا هو، دون ان يفكروا بالـمراتب الاخرى، فأخطأوا حتى بلغ بهم الامر ان ينكروا القاعدة الاساسية الـمعروفة: (حقائق الاشياء ثابتة).

اما اهل الـحقيقة فانهم يرون بسر الوراثة النبوية وبصراحة القرآن الكريـم وآياته البينات:

ان النقوش التي توجد في مرايا الـموجودات بقدرة الله وارادته انـما هي من آثاره سبـحانه وتعالى. فكل موجود انـما هو منه تعالى وهو الذي يوجده، وليس كل موجود هو، حتى يقال: لا موجود إلا هو. اذ للاشياء وجود، وهو وجود ثابت الى حد ما، وان كان هذا الوجود وجوداً ضعيفاً كأنه وهمي وخيالي بالنسبة الى وجوده تعالى، إلا انه موجود بايـجاد القدير الأزلي وإرادته وقدرته.

ان للشمس الـمشهودة في الـمرآة وجودا مثالياً عدا وجودها الـخارجي الـحقيقي.

ولـها وجود خارجي عرضي آخر يلون الـمرآة بزينته اذ تنبسط عليها صورته.

ولـها وجود خارجي عرضي ايضاً، وهو وجود ثابت الى حد ما وهو الصورة الـمنتقشة على الورقة الـحساسة خلف الـمرآة.

فكما ان للشمس وجودات هكذا في الـمثال كذلك الامر في مرآة الكون ومرايا ماهية الاشياء. فان نقوش الـمصنوعات الظاهرة بتـجليات الاسماء الإلـهية الـحسنى الـحاصلة بالإرادة الإلـهية واختيارها وقدرتها، لـها وجود حادث غير وجود الواجب الوجود. وقد منـح بالقدرة الالـهية ثباتا لـهذا الوجود ولكن لو انقطع الارتباط فنيت الاشياء وانعدمت مباشرة. فكل شيء مـحتاج لبقائه في كل آن الى ابقاء خالقه لـه، فان حقائق الاشياء وان كانت ثابتة ولكن ثابتة باثباته سبـحانه لـها وتثبيته اياها.

وهكذا فان قول الشيـخ ابن عربي: ((ان الروح ليست مـخلوقة وانـما هي حقيقة آتية من عالـم الامر وصفة الارادة)) مـخالف لظاهر نصوص كثيرة، كما قد التبس عليه الامر في ضوء التـحقيقات الـمذكورة آنفاً وانـخدع اذ لـم يشاهد الـموجودات الضعيفة.

فلا يـمكن ان تكون مظاهر (الـخلاق والرزاق) من الاسماء الإلـهية الـحسنى مظاهر وهمية خيالية. فما دامت تلك الاسماء ذات حقيقة، فان مظاهرها ايضاً لـها حقائق خارجية.

سؤالكم الثالث:

تطلبون فيه درساً يكون مفتاحاً لعلـم ((الـجفر)).

الـجواب: اننا يا اخي لسنا في هذه الـخدمة القرآنية بارادتنا ولا بتدبيرنا للامور. بل ان اختياراً – وهو خير لنا – فوق اختيارنا وخارج ارادتنا يهيـمن على اعمالنا واختيارنا.

اعلـم ان علـم الـجفر يُشغل الانسان عن وظيفته الـحقيقية ويصرفه عنها، لـما فيه من ذوق وولع. حتى كانت تـحل لي أسرار تـخص القرآن بذلك الـمفتاح لـمرات عدة، ولكن ما ان اتوجه اليها بشوق وذوق توصد الابواب دوني. فوجدت في هذا الأمر حكمتين:

الاولى: احتـمال الوقوع في موضع ينافي الادب اللائق بالقاعدة الاساسية ((لا يعلـم الغيب الاّ الله)).

الثانية: ان العمل على ارشاد الامة الى حقائق الايـمان والقرآن بوساطة البراهين الدامغة، لـه من الفضائل والـمزايا يفوق مائة درجة على العمل بارشادهم بالعلوم الـخفية كعلـم الـجفر. حيث ان الـحـجـج القاطعة والدلائل الثابتة لا تدع مـجالا للإساءة في تلك الوظيفة السامية. بينـما علـم الـجفر وامثالـه من العلوم الـخفية غير الـمنضبطة بقواعد مـحكمة، قد يساء استعمالـه بولوج الـماكرين فيه. علـماً انه متى ما احتاج الامر اليه لـخدمة الـحقائق، فان الله سبـحانه يـحسن نبذة منه حسب الـحاجة.

واعلـم ان أيسر مفتاح من بين مفاتيـح علـم الـجفر، وانقاها، بل أجـملـها وأحسنها هو انواع التوافقات الناشئة من اسم ((البديع)) والتي اظهرت شعاعاً من نورها في توافق لفظ الـجلالة في القرآن الكريـم وزيـّنت الآثار التي نقوم بنشرها. علـماً انه وُضّح شيء منها في عدة مواضع من رسالة الكرامة الغوثية. نذكر منها:

ان التوافق اذا ما أظهر شيئاً في عدة جهات، فهو اشارة بدرجة الدلالة، علـماً أنه قد يكون توافق واحد احياناً مع بعض القرائن بـمثابة دليل ويـحل مـحلـه.

وعلى كل حال، يكفي هذا القدر من الاجابة عن سؤالك في الوقت الـحاضر. ومتى ما كانت الـحاجة جادة اليه ستُبلـّغون به.

سؤالكم الرابع:

أي سؤال امام الـجامع ((عمر أفندي)) وليس سؤالكم، وهو:

ان طبيباً شقياً يدّعي انه كان لعيسى عليه السلام والد، وزعم انه يستشهد لنفسه بآية كريـمة بتأويل جنوني(1).

ان ذلك العاجز قد سعى سابقاً لإحداث خط بـحروف مقطعة، بل سعى سعياً حثيثاً في الأمر. فعلـمت حينذاك أن ذلك الرجل قد استشعر من اطوار الزنادقة وتصرفاتهم انهم سيـحاولون رفع الـحروف الإسلامية وازالتها. وكأنه اراد ان يصدّ ذلك التيار الـجارف، ولكن دون جدوى.

وقد شعر الآن في هذه الـمسألة، وفي مسألة الثانية، بهجوم الزنادقة العنيف على الاسس الإسلامية. واظن انه يـحاول فتـح طريق للـمصالـحة والسلام، بـمثل هذه التأويلات السخيفة التي لا معنى لـها.

انه لا والد لعيسى عليه السلام، كما تبينه يقيناً الآية الكريـمة: } ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم{ (آل عمران:59) وامثالـها من النصوص القاطعة. لذا لا يؤبه بكلام من يـحاول تغيير هذه الـحقيقة الرصينة الراسخة، بل لا يقام لقولـه وزن ولايستـحق الاهتـمام به اصلاً، حيث يعدّ مـخالفة قانون في التناسل غير مـمكناً فيتشبث بتأويلات واهية.

لاشك انه لا قانونٍ دون شذوذ منه، ودون نوادر لـه، ودون افراد خارجة عنه، وليست هناك قاعدة كلية لـم تـخصص بافراد خارقة.

وانه لا يـمكن ألاّ يُشَّذ فرد – ايا كان – من قانون، ولا يـخرج منه، منذ زمن آدم عليه السلام.

فأولاً: ان هذا القانون، قانون التناسل قد خُرق باعتبار الـمبدأ، بـمبادىء مائتي الف نوع من انواع الـحيوانات وختـم بها. أي أن آباء تلك الـحيوانات الاولين، وهم بـمثابة أوادم لـها، قد خرقوا قانون التناسل. أي ان مائتي الف أب من اولئك الأباء لـم يأتوا الى الوجود من أب وأم. بل اُعطي لـهم وجودٌ خارج ذلك القانون.

ثم اننا نشاهد بابصارنا في كل ربيع، أن القسم الاعظم من مائة الف نوع من الكائنات الـحية ومـما لا تعد ولا تـحصى من افرادها، تـخلق خارج ذلك القانون، قانون التناسل، تـخلق على وجوه الاوراق وعلى الـمواد الـمتعفنة.

تُرى ان قانوناً يـخرق بشواذ، بهذه الكثرة الكاثرة، في مبدئه، بل في كل سنة. ثم يأتي احدهم ولا يتـمكن أن يسع عقلـه شذوذ فرد واحد لذلك القانون خلال الف وتسعمائة سنة، فيتشبث بتأويلات تافهة تـجاه النصوص القرآنية القاطعة.. اقول ترى كم يكون مرتكباً حـماقة وبلاهة! قس ذلك بنفسك. علـماً ان الاشياء التي يطلق عليها اولئك الشقاة اسم ((القوانين الطبيعية)) انـما هي قوانين عادة الله التي هي تـجلٍ كلي للامر الالـهي والارادة الالـهية، بـحيث يغيّر سبـحانه وتعالى عاداته تلك لبعض الـحكَم؛ مظهراً هيـمنة ارادته واختياره على كل شيء وعلى كل قانون. فيـخرق العادة في بعض الافراد الـخارقين، وقولـه تعالى: } ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم{ (آل عمران:59) يبيّن هذه الـحقيقة.

السؤال الثاني لعمر افندي فيـما يـخص ذلك الطبيب.

لقد تصرف ذلك الطبيب في تلك الـمسألة تصرف معتوه، وارتكب حـماقة بلـهاء بـحيث لا يستـحق إلقاء السمع لـه، ولا الاهتـمام به فضلاً عن الاجابة عن سؤالـه. اذ يريد هذا البائس ان يوجد الوسط بين الكفر والايـمان.

فأنا اقول جواباً عن استفسار عمر أفندي، وليس جواباً للكلام التافه لذلك الطبيب.

ان العلة في الاوامر والنواهي الشرعية هي الامر الإلـهي ونهيه. اما الـمصالـح والـحكم فهي مرجـحات يـمكن ان تكون اسباباً لـمتعلقات الامر الإلـهي ونهيه من زاوية اسمَ الله الـحكيـم..

فمثلاً: يقصر الـمسافر الصلاة. وهذا القصر لـه علة وحكمة، فالعلة هي السفر والـحكمة هي الـمشقة. فاذا وجد السفر تقصر الصلاة وان لـم تكن مشقة. ولكن لو وُجدت مائة مشقة في البيت فلا تقصر الصلاة دون سفرٍ. اذ وجوداً الـمشقة احياناً في عامة السفر كافية لتكون حكمةً لقصر الصلاة وكافية ايضاً لتـجعل علـّة للقصر.

فبناءً على هذه القاعدة الشرعية لا تتغير الاحكام الشرعية بـحسب الـحكم، بل بـحسب العلل الـحقيقية.

فان لـحـم الـخنزير – كما ذكره ذلك الطبيب – فيه ضرر، حسب قاعدة ((من أكل لـحـم الـخنزير يتصف بصفاته))(1) ففيه مالا يعلـمه ذلك الطبيب من اضرار وامراض. فذلك الـحيوان لا يشبه سائر الـحيوانات الاهلية النافعة التي لا ضرر لـها. بل اكل لـحـمه يورث اضراراً اكثر من نفعه.

علاوة على الشحـم القوي الـموجود في لـحـمه لـه اضرار طبيه كثيرة في غير بلاد الافرنـج الباردة. بل تـحقق ان لـه اضراراً كثيرة معنوية وحقيقية.

فمثل هذه الـحكَم، اصبـح حكمةً لتـحريـمه ولتعلق النهي الالـهي به، ولا يلزم ان تكون الـحكمة في كل فرد وفي كل وقت. ولا تتبدل العلة بتبدل تلك الـحكمة. وان لـم تتبدل العلة لا يتبدل الـحكم. فليُعلـم حسب هذه القاعدة مدى ما يتفوه به ذلك الطبيب البائس من كلام بعيد عن روح الشريعة.

لذا لايُعبأ بكلامه باسم الشريعة. فان للـخالق سبـحانه حيوانات لا يعقلون كثيرون في صور فلاسفة!.

























ذيل السؤال الوارد حول ابن عربي

سؤال:

ان ابن عربي يعد مسألة وحدة الوجود أرفع مرتبة ايـمانية، حتى ان قسماً من اولياء عظام من اهل العشق اتبعوه في مسلكه.

بيد انك تقول: ان هذا الـمسلك ليس هو من أرفع الـمراتب الإيـمانية، ولا هو بـمسلك حقيقي، وانـما هو مشرب اهل السكر والاستغراق واصحاب الشوق والعشق.

فان كان الامر هكذا كما تقول، فبين لنا باختصار: ما اعلى مرتبة من مراتب التوحيد التي بينتها وراثة النبوة وصراحة القرآن الكريـم؟.

الـجواب: ان عاجزاً مسكيناً مثلي، لا قيـمة لـه ولا أهمية، أنـّى لـه ان يقتـحـم غمار هذه الـمراتب السامية الرفيعة ويـجري فيها مـحاكمات عقلية بعقلـه القاصر، انـما هو امر فوق الـحد بـمائة مرة.. ولكني سأذكر فيها ذكرا مـختصرا جدا نكتتين فقط وردتا من فيض القرآن الكريـم الى القلب، فلعل فيهما فائدة ونفعاً.

النكتة الاولى:

ان هناك اسباباً عدة للانـجذاب نـحو مشرب وحدة الوجود. سأبين باختصار شديد سببين منها:

السبب الاول: انهم لـم يستطيعوا ان يستوعبوا في اذهانهم خلاقية الربوبية في اعظم مراتبها، وكذا لـم يستطيعوا ان يـمكـّنوا في قلوبهم تـمكينا تاما انه سبـحانه بأحديته مالك بالذات لزمام كل شيء في قبضة ربوبيته، وان كل شيء يـخلق بقدرته واختياره وارادته سبـحانه. فلأنهم لـم يستطيعوا ادراك ذلك فقد رأوا انفسهم مضطرين امام القول: كل شيء هو ((تعالى))، او: لا شيء موجود، او: ان الـموجود خيال، او: من التظاهر أو من الـجلوات.

السبب الثاني: ان صفة العشق لاتريد الفراق اصلا. وتفر منه بشدة، وترتعد فرائص العاشق من الافتراق، ويرهب من التنائي رهبته من جهنـم، وينفر من الزوال نفرة شديدة، ويـحب الوصال حبه لروحه ونفسه، ويرغب بشوق لاحد لـه – كشوقه للـجنة – للقرب الإلـهي، لذا يرى ان التشبث بتـجلى الأقربية الإلـهية في كل شيء، يـجعل الفراق والتنائي كأنهما معدومان، فيظن اللقاء والوصال دائمين بقولـه: لا موجود إلا هو.ولانهم يتصورون بسكر العشق وبـمقتضى شوق البقاء واللقاء والوصال، ان في وحدة الوجود مشرباً حالياً في منتهى الذوق، لذا يـجدون ملـجأهم في مسألة وحدة الوجود لأجل التـخلص من فراقات رهيبة.

أي ان منشأ السبب الاول:

هو عدم بلوغ العقل قسماً من حقائق الايـمان الواسعة للغاية والسامية جداً، وعدم استطاعته الاحاطة بها، مع عدم انكشاف العقل انكشافا تاماً من حيث الايـمان.

أما منشأ السبب الثاني:

فهو انكشاف القلب انكشافاً فوق الـمعتاد، بتأثير العشق وانبساطه انبساطاً خارقاً للعادة.

أما مرتبة التوحيد العظمى التي يراها بصراحة القرآن الاولياء العظام اعنى الاصفياء الذين هم اهل الصحو واهل وراثة النبوة، فانها مرتبة رفيعة عالية جداً، اذ تفيد الـمرتبة العظمى للربوبية والـخلاقية الإلـهية، وتبين ان جـميع الاسماء الـحسنى هي أسماء حقيقية، وهي تـحافظ على الاسس من دون اخلال بـموازنة أحكام الربوبية، لأن اهلـها يقولون:

ان الله سبـحانه باحديته الذاتية وتنزهه عن الـمكان قد أحاط – من دون وساطة – بكل شيء علـما وشخّصه بعلـمه ورجـحه وخصّصه بارادته واوجده وابقاه بقدرته. فانه سبـحانه يوجد جـميع الكون ويـخلقه ويدبر أموره كايـجاده لشيء واحد وارادته اياه، فكما انه يـخلق الزهرة بسهولة فانه يـخلق الربيع العظيـم بالسهولة نفسها. فلا يـمنع شيء شيئاً قط، فلا يـجزؤ في توجهه سبـحانه. فهو موجود بتصرفه وبقدرته وبعلـمه في كل مكان في كل آن. فلا انقسام ولا توزع في تصرفه سبـحانه.

ولقد وضحنا هذا الامر واثبتناه في الكلـمة السادسة عشرة، وفي الـمقصد الثاني من الـموقف الثاني من الكلـمة الثانية والثلاثين.

سأورد هنا مثالا ينطوي على نقص كثير (ولامشاحة في الامثال) وذلك لفهم شيء من الفرق بين الـمشربين:

لنفرض ان هناك طاووساً خارقاً لا مثيل لـه، وهو في غاية الكبر، ومنتهى الزينة وانه يتـمكن الطيران من الشرق الى الغرب في لـمـحة بصر، ولـه القدرة على بسط جناحيه الـمـمتدين من الشمال الى الـجنوب، وقبضهما في آن واحد، وعليه مئات ألوف النقوش البديعة حتى ان على كل ريش من جناحيه ابداعاً واتقاناً في منتهى الـجـمال والروعة.

ولنفرض الآن هناك شخصان يتفرجان على هذا الطاووس العجيب، ويريدان التـحليق بـجناحي العقل والقلب الى الـمراتب العالية الرفيعة لـهذا الطير وبلوغ زينته الـخارقة.

فطفق الأول يتأمل في وضع هذا الطاووس وهيكلـه ونقوش خوارق القدرة في كل ريشة منه، فيغمره العشق والشوق والـمـحبة تـجاه هذا الطير فيترك شيئاً من التفكير العميق الى جانب مستـمسكاً بالعشق، ولكنه يرى أن تلك النقوش الـمـحبوبة تتـحول وتتبدل يوما بعد يوم، وان تلك الـمـحبوبات التي يوليها الـحب والشغف تغيب وتزول كل يوم.

فكان ينبغي لـه ان يقول: ان هذه النقوش الـمتقنة انـما هي لنقاش مالك للـخلاقية الكلية مع احديته الذاتية، ولـه الربوبية الـمطلقة مع وحدانيته الـحقيقية. الا انه لـم يتـمكن من ان يستوعب هذا ويدركه، فبدأ يسلي نفسه ويقول بدلا من ذلك الاعتقاد:

((ان روح هذا الطاووس روح سامية عالية بـحيث ان صانعه فيه، أو قد أصبـح هو نفسه! وان تلك الروح العالية متـحدة مع جسد الطاووس، ولأن جسده مـمتزج مع صورته الظاهرة، فان كمال تلك الروح وعلو ذلك الـجسد هما اللذان يظهران هذه الـجلوات على هذه الصورة البديعة، حتى يظهر في كل دقيقة نقشاً جديداً وحسناً مـجدداً، فليس هذا ايـجاد باختيار حقيقي، بل هو جلوة وتظاهر)).

أما الشخص الاخر فيقول: ((ان هذه النقوش الـموزونة الـمنظمة الـمتقنة تقتضي يقينا ارادة واختياراً وقصداً ومشيئة، فلا يـمكن ان تكون جلوة بلا ارادة ولاتظاهرا بلا اختيار)).

نعم! ان ماهية الطاووس جـميلة ورائعة، ولكن ماهيته ليست فاعلة قطعاً وانـما منفعلة، ولا يـمكن ان تتـحد مع فاعلـه مطلقاً. وان روحه عالية سامية ولكن ليست موجدة ولا متصرفة، وانـما مظهر ومدار ليس الا. لأنه يشاهد في كل ريش منه اتقان قد تـم بـحكمة مطلقة بالبداهة، ونقش زينة نقشها بالقدرة الـمطلقة.

وهذا لا يـمكن ان يكون دون ارادة واختيار قطعاً.

فهذه الـمصنوعات البديعة التي تبين كمال الـحكمة في كمال القدرة، وكمال الربوبية والرحـمة في كمال الاختيار، لا يـمكن ان تكون هذه الـمصنوعات نتيـجة جلوة أو ماشابهها.

ان الكاتب الذي كتب سطور هذا السجل الـمذهب لا يـمكن أن يكون في السجل نفسه، ولا يـمكن ان يتـحد معه. وليس لذلك السجل الاّ تـماس بطرف قلـم ذلك الكاتب. لذا فان زينة جـمال ذلك الطاووس الـمثالي الذي هو يـمثل الكائنات، ليس إلا رسالة من قلـم خالق ذلك الطاووس.

فالآن تأمل في طاووس الكائنات واقرأ تلك الرسالة، وقل لكاتبها:

ماشاء الله..

تبارك الله..

سبـحان الله..

فالذي يظن الرسالة كاتبها أو يتـخيل الكاتب في الرسالة نفسها، أو يتوهم الرسالة خيالا لاشك انه قد ستر عقلـه بستار العشق ولـم يبصر الصورةالـحقيقية للـحقيقة.

ان أهم جهة من انواع العشق التي تسبب الانسلاك الى مشرب وحدة الوجود هي عشق الدنيا، اذ حينـما يتـحول عشق الدنيا الذي هو عشق مـجازي الى عشق حقيقي ينقلب الى وحدة الوجود.

ان شخصاً اذا أحب انساناً مـحبة مـجازية، ما ان يشاهد فناءه لا يستطيع ان يـمكـّن هذا الزوال في قلبه، تراه يـمنـح معشوقه عشقاً حقيقياً، فيتشبث بـحقيقة ليسلي بها نفسه، وذلك باضفاء البقاء على مـحبوبه بعشق حقيقي فيقول:

أنه مرآة جـمال الـمعبود والـمـحبوب الـحقيقي.

كذلك الامر فيـمن احب الدنيا العظيـمة وجعل الكون برمته معشوقه، فحينـما تتـحول هذه الـمـحبة الـمـجازية الى مـحبة حقيقة بسياط الزوال والفراق التي تنزل بالـمـحبوب، يلتـجىء ذلك العاشق الى وحدة الوجود انقاذاً لـمـحبوبه العظيـم من الزوال والفراق.

فان كان ذا ايـمان رفيع راسخ يكون لـه هذا الـمشرب مرتبة ذات قيـمة نورانية مقبولـة كما هي لدى ابن عربي وأمثالـه، وإلا فلربـما يسقط في ورطات وينغمس في الـماديات ويغرق في الاسباب.

أما وحدة الشهود فلا ضرر فيها، وهي مشرب عال لأهل الصحو.

اللهم أرنا الـحق حقاً وارزقنا اتباعه

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32)

عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:52 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة العاشرة

رسالة

((لطمات الرأفة وصفعات الرحـمة))

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} يومَ تـجدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مـحضَراً ومَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَداً بَعيداً ويـحذِّرُكـُمُ الله نَفْسَه والله رَؤوفٌ بالعِبادِ{ (آل عمران:30)

هذه اللـمعة تفسّر سراً من أسرار هذه الآية الكريـمة، وذلك بذكر لطمات تأديب رحيـمة وصفعات عتاب رؤوفة تلقاها اخوتي الاحبة العاملون في خدمة القرآن الكريـم، وذلك من جراء أخطاء ونسيان وغفلة وقعوا فيها بـمقتضى جبلتهم البشرية.

وستبين سلسلة من كرامات يـجريها الله سبـحانه في خدمة قرآنه العظيـم.. مع بيان نوع من كرامة الشيـخ الكيلاني الذي يـمدّ هذه الـخدمة الـمقدسة بدعائه وهمته ويراقبها بإذن إلـهي.

نبين هذه الكرامات لعل العاملين في سبيل القرآن يزدادون ثباتاً واقداماً وجدية واخلاصاً.

نعم، ان كرامة العمل للقرآن الكريـم، هذه الـخدمة الـمقدسة، ثلاثة أنواع:

النوع الاول: تهيئة وسائل العمل والـخدمة، وسوق العاملين فيها الى الـخدمة.

النوع الثاني: رد الـموانع من حولـها، ودفع الاضرار عنها، وتأديب من يعيق سيرها، بانزال عقوبات بهم.. هناك حوادث كثيرة جداً حول هذين القسمين، ويطول الـحديث عنهما(1) لذا نؤجل الكلام فيهما الى وقت آخر خشية السأم. ونشرع في البـحث عن النوع الثالث الذي هو أخفها تناولا وابسطها فهماً.

النوع الثالث: هو أن العاملين الـمـخلصين في هذه الـخدمة القرآنية لـما يعتريهم الفتور والاهمال في العمل يأتيهم التـحذير والتنبيه فيتلقون لطمة ذات رأفة وعطف، وينتبهون من غفلتهم، ويسرعون بـجد للـخدمة مرة أخرى. ان حوادث هذا القسم تربو على الـمائة، إلا أننا نسوق هنا ما يقرب من عشرين حادثة جرت على اخواننا، عشرٌ ونيف منهم تلقوا لطمة حنان رؤوفة، بينـما تلقى حوالي سبعة منهم لطمة زجر عنيفة.

فالاول منهم هو هذا الـمسكين.. سعيد، فكلـما انشغلت بـما يعود خاصة نفسي بـما يفتر عملي للقرآن، أو انهمكت في اموري الـخاصة، وقلت: مالي وللآخرين! أتاني التـحذير وجاءتني اللطمة؛ لذا بت على يقين من أن هذه العقوبة لـم تنزل الاّ نتيـجة اهمالي وفتوري في خدمة القرآن؛ لأنني كنت أتلقى اللطمة بـخلاف الـمقصد الذي ساقني الى الغفلة.. ثم بدأنا مع الاخوة الـمـخلصين نتابع الـحوادث ونلاحظ التنبيهات الربانية والصفعات التي نزلت باخوتي الآخرين.. فأمعنا النظر فيها، وتقصّينا كلاً منها، فوجدنا أن اللطمة قد أتتهم مثلي حيثما أهملوا العمل للقرآن وتلقوها بضد ما كانوا يقصدونه، لذا حصلتْ لدينا القناعة التامة بأن تلك الـحوادث والعقوبات انـما هي كرامة من كرامات خدمة القرآن. فمثلا هذا السعيد الفقير الى الله تعالى.. فعندما كنت منشغلا بالقاء دروس في حقائق القرآن على طلابي في مدينة ((وان)) كانت حوادث ((الشيـخ سعيد))(2) تقلق بال الـمسؤولين في الدولة. وعلى الرغم من ارتيابهم من كل شخص، لـم يـمسوني بسوء، ولـم يـجدوا عليَّ حجة مادمت مستـمراً في خدمة القرآن. ولكن ما أن قلت في نفسي: مالي وللآخرين! وفكرت في نفسي فحسب، وانسحبت الى جبل ((أرك)) لأنزوي في مغاراته الـخربة، وأنـجو بنفسي في الآخرة، اذا بهم يأخذوني من تلك الـمغارة وينفوني من ولاية شرقية الى أخرى غربية، الى ((بوردور)).

كان الـمسؤولون في هذه الـمدينة يراقبون الـمنفيين مراقبة شديدة، وكان على الـمنفيين اثبات وجودهم بـحضورهم مساء كل يوم لدى الشرطة الا أنني وطلابي الـمـخلصين أُستثنينا من هذا الامر ما دمت قائماً بـخدمة القرآن، فلـم أذهب لاثبات الـحضور ولـم أعرف أحداً من الـمسؤولين هناك. حتى أن الوالي شكا من عملنا هذا لدى ((فوزي باشا))(1) عند قدومه الى الـمدينة، فأوصاه: ((احترموه! لا تتعرضوا لـه!)). ان الذي أنطقه بهذا الكلام هو كرامة العمل القرآني ليس الا، اذ حينـما استولت عليَّ الرغبة في انقاذ نفسي واصلاح آخرتي، وفترت عن العمل للقرآن – مؤقتاً – جاءتني العقوبة بـخلاف ما كنت أقصده وأتوقعه، أي نُفيتُ من ((بوردور)) الى منفي آخر.. الى ((اسبارطة)).

توليت هناك العمل للقرآن العظيـم كذلك.. ولكن بعد مرور عشرين يوماً على الـخدمة القرآنية كثرت عليَّ التنبيهات من بعض الـمتـخوفين، حيث قالوا: ربـما لا يـحبذ مسؤولو هذه البلدة عملك هذا! فهلاَّ أخذت الامر بالتأني والتريث؟!.. سيطر عليَّ الاهتـمام بـخاصة نفسي وبـمصيري فحسب، فأوصيت الاصدقاء بترك مقابلتي وانسحبت من ميدان العمل.. وجاء النفي مرة أخرى.. فنفيت الى منفى ثالث.. الى ((بارلا)).

وكنت فيها كلـما اصابني الفتور في العمل للقرآن واستولى عليَّ التفكير بـخاصة نفسي واصلاح آخرتي، كان أحد ثعابين أهل الدنيا يتسلط عليَّ، وأحد الـمنافقين يتعرض لي. وأنا على استعداد الآن أن أسرد على مسامعكم ثمانين حادثة من هذا النوع خلال ثماني سنوات قضيتُها في ((بارلا)) ولكن خشية الـملل أقتصر على ما ذكرت.

فيا اخوتي! لقد ذكرت لكم ما أصابتني من لطمات الرأفة وصفعات الشفقة والـحنان، فاذا سمـحتـم بأن أسرد ما تلقيتـموه أنتـم من لطمات رؤوفة أيضاً فسأذكرها، وأرجو ألا تستاءوا، وان كان فيكم من لا يرغب في ذكرها فلن أصرح باسمه.

الـمثال الثاني: هو أخي ((عبدالـمـجيد)) وهو من طلابي العاملين الـمـخلصين الـمضحين.. كان يـملك داراً أنيقة جـميلة في ((وان)) وحالته الـمعاشية على مايرام، فضلاً عن أنه كان يزاول مهنة التدريس.. فعندما استوجبت خدمة القرآن ذهابي الى مكان بعيد عن الـمدينة، على الـحدود، أردت استصحابه، الا أنه لـم يوافق وكأنه رأى أنه من الافضل عدم ذهابي أنا كذلك، حيث قد يشوب العمل للقرآن شيء من السياسة وقد يعـّرضه للنفي، وفضّل الـمكوث حيث هو ولـم يشترك معنا. ولكن جاءته اللطمة الرحـمانية بـما هو ضد مقصوده، وعلى غير توقع منه، اذ أُخرج من الـمدينة وأُبعد عن منزلـه الـجـميل وأُرغم على الذهاب الى ((أركاني))(1).

الثالث: وهو ((خلوصي)) وهو من البارزين في خدمة القرآن، فعندما سافر من قضاء ((أطريدر)) الى بلدته، تيسرت لـه اسباب التـمتع بـمباهج الدنيا وسعادتها، مـما دفعه الى شيء من الفتور عن خدمة القرآن الـخالصة لله. حيث التقى والديه اللذين كان قد فارقهما منذ مدة مديدة، وحل في مدينته وهو بكامل بزّته العسكرية ورتبته العالية، فبدت الدنيا لـه حلوة خضرة.

نعم! ان العاملين في خدمة القرآن إما أن يُعرضوا عن الدنيا أو الدنيا تعرض عنهم، كي ينهضوا بالعمل بـجد ونشاط واخلاص.. وهكذا فعلى الرغم من أن قلب ((خلوصي)) ثابت لا يتزعزع، وهو رابط الـجأش، فقد ساقه هذا الوضع الـجـميل الذي ابتسم لـه، الى الفتور.. فجاءته لطمة ذات رأفة، اذ تعرض لـه عدد من الـمنافقين طوال سنتين متواليتين، فسلبوه لذة الدنيا وأفقدوه طعمها، حتى جعلوه يـمتعض منها ويعزف عنها، والدنيا تـمتعض منه وتعزف عنه، وعندها التف حول راية العمل القرآني واستـمسك بها بـجد ونشاط.

الرابع: هو ((الـحافظ أحـمد الـمهاجر)) وسيقص عليكم ما وقع لـه بنفسه.

نعم! لقد أخطأتُ في اجتهادي في خدمة القرآن، حيث فكرت لانقاذ آخرتي وحدي، فما أن بدا فيّ هذا النوع من الرغبة فترت عن العمل للقرآن. فأتتني لطمة رؤوفة، رغم ما فيها من قوة وشدة، بل كانت في الـحقيقة صفعة شديدة وزجراً عنيفاً، أرجو الله تعالى أن تكون كفارة عما بدر مني من غفلة عن العمل لقرآنه العظيـم. والـحادثة كانت كالآتي:

كان الاستاذ لا يوافق على مـحدثات الامور(1) وحيث ان الـجامع الذي أؤدي فيه الصلاة جـماعة يقع بـجوار مسكن الاستاذ، والشهور الـمباركة – رجب شعبان رمضان – مقبلة علينا، فقد حدثتني نفسي بالآتي:

ان لـم أؤد الصلاة على الوجه البدعي، أُمنع من عملي، وان تركتُ الـجامع ولـم أصلِّ فيه اماماً للـجـماعة، يضيع مني ثواب عظيـم ولاسيـما في هذه الشهور الثلاثة فضلاً عن أن أهل الـمـحلة سيعتادون على ترك الـجـماعة.. فرغبت في نفسي أن لو يغادر الاستاذ – وهو أحب اليَّ من روحي – القرية ((بارلا)) يغادرها مؤقتاً الى قرية اخرى كي أؤدي الصلاة وفق الامور الـمـحدثة. ولكن فاتني شيء هو أن لو غادر الاستاذ هذا الـمكان فسوف يفتر العمل للقرآن ولو مؤقتاً. فجاءتني العقوبة في هذه الاثناء، وكانت لطمة قوية جداً مع ما فيها من حنان ورأفة. حتى انني لـم أفق من شدتها منذ ثلاثة شهور.

فأملي عظيـم في سعة رحـمته تعالى أن يـجعل كل دقيقة من دقائق تلك الـمصيبة بـمثابة عبادة يوم كامل – كما أخبرني به الاستاذ بـما ألـهمه الله – حيث أن ذلك الـخطأ لـم يكن قد بدر مني لدوافع شخصية، وانـما هو خطأ اجتهادي في التفكير، ولـم ينـجـم الا عن تفكيري بآخرتي وحدها.

الـخامس: هو ((السيد حقي)). وحيث أنه ليس حاضراً معنا، فسأنوب عنه كما نُبْتُ عن ((خلوصي)) فأقول:

كان السيد حقي يوفي حق مهمته في العمل للقرآن أيـما ايفاء. ولكن عندما عُين قائمقام سفيه للقضاء، فكـَّر السيد حقي أن يـخبىء ما لديه من رسائل خشية أن تصيبه واستاذه أذىً منه، فترك خدمة النور مؤقتاً، واذا بلطمة ذات رحـمة وحنان تواجهه، اذ فُتـحت عليه دعوى كادت تلـجئه الى دفعٍ ألف ليرة كي يبرأ منها، فبات تـحت وطأة التهديد طوال سنة كاملة. حتى أتانا عائداً الى وظيفته طالباً في خدمة القرآن، فأنقذه الله من تلك الورطة ورُفع عنه الـحكم، وبرئت ساحته.

ثم عندما فُتـح أمام الطلاب ميدان عمل جديد للقرآن وهو استنساخه بـخط جـميل وبنـمط جديد، أُعطي للسيد حقي حصته من الاستنساخ، فأجاد القيام بـما كلف، وكتب جزءاً كاملا من القرآن الكريـم أحسن كتابة، ولكن لأنه كان يرى نفسه في حالة مضطرة من حيث ضروريات العيش، فقد لـجأ الى القيام بوكالة الدعاوى أمام الـمـحاكم، من دون علـمنا، واذا به يتلقى لطمة أخرى فيها الرأفة والرحـمة لـه، اذ انثنت اصبعه التي كان يكتب بها القرآن الكريـم. وحيث اننا لـم نكن نعلـم تورطه في هذا العمل فقد كنا حائرين أمام ما نزل باصبعه من بأسٍ، وعجزه عن الاستـمرار في كتابة القرآن.

ثم علـمنا أن الـخدمة الـمقدسة هذه لاتقبل أن تدخل تلك الاصابع الطاهرة في أمور ملوثة(1)، فكأن الاصبع تقول بهذا الانثناء: لا يـجوز لك أن تغمسني بنور القرآن الكريـم ثم تغرقني في ظلـمة الدعاوى. فنبهته..

وعلى كل حال، فقد وضعت نفسي موضع ((خلوصي))، وتكلـمت بدلاً منه، فالسيد حقي أيضاً مثلـه تـماماً. فان لـم يرض بوكالتي عنه فليكتب بنفسه اللطمة التي تلقاها.

السادس: هو ((السيد بكر))(2) وسأتولى مهمة الكلام عنه لعدم حضورة معنا مثلـما تكلـمت بدلاً عن أخي عبدالـمـجيد، فهو مثلـه أيضاً، أتوكل عنه معتـمداً على اخلاصه ووفائه وصداقته الصميـمة وثباته في الـخدمة، واستناداً الى ما يرويه ((السيد سليـمان))(3) و ((الـحافظ توفيق الشامي))(4) وأمثالـهم من الأخوة الأحبة:

ان السيد بكر هو الذي تولـّى القيام بطبع ((الكلـمة العاشرة)) في استانبول، فاردنا طبع ((رسالة الـمعجزات القرآنية)) أيضاً هناك قبل احداث الـحروف اللاتينية الـحديثة، أرسلت رسالة كتبت لـه فيها: سنرسل لك ثمن طبع هذه الرسالة مع ثمن الرسالة السابقة. ولكنه عندما لاحظ ان الطبع يكلـّف اربعمائة ليرة، وهو يعلـم ما انا فيه من فقر، اراد هو ان يدفع الـمبلغ من خالص مالـه وخطر ببالـه أنني لاأرضى بهذا العمل، فخدعته نفسه فلـم يباشر بالطبع، فاصاب الـخدمة القرآنية من جراء تفكيره هذا ضرر بالغ.. وبعد مرور شهرين سُرِقَت منه تسعمائة ليرة، فكانت لطمة رؤوفة وشديدة تـجاه ما أصاب العمل من فتور. نسأل الله ان يـجعل تلك الاموال الضائعة بـمثابة صدقة عن نفسه.

السابع: هو ((الـحافظ توفيق)) الـملقب بالشامي، وسيورد بنفسه الـحادثة:

نعم! لقد قمت بأعمال ساقتني الى الفتور في خدمة القرآن. فأتتني لطمة من جرائها، وتيقنت بـما لا يقبل الشك ان هذه اللطمة ليست الا من تلك الـجهة، اذ كانت نتيـجة خطأ مني في التفكير وجهل مني في التقدير.

اللطمة الاولى: عندما وزع الاستاذ أجزاء القرآن الكريـم علينا، كان حظي منها كتابة ثلاثة أجزاء، حيث قد أنعم الله عليَّ قدرة على كتابة الـحروف العربية وتـجويدها كخط القرآن الكريـم. فالشوق الى كتابة كتاب الله العزيز ولـَّد فيّ فتوراً عن كتابة مسودات الرسائل وتبييضها، فضلا عن أنه قد أصابني منه شيء من الغرور، حيث كنت أعدّ فائقاً على أقراني في هذا العمل، بـما أجده في نفسي من كفاية في حسن الـخط العربي. حتى أنه عندما اراد الاستاذ ارشادي الى أمور تـخص الكتابة العربية، قلت بشيء من الغرور: هذا الامر يعود لي، أعرف هذا فلا أحتاج الى توصية! فتلقيت لطمة عطف ورأفة نتيـجة خطأي هذا، وهي انني عجزت عن بلوغ أقراني في الكتابة، فسبقوني في الـجودة.. فكنت احار من أمري هذا، لـماذا تـخلفت عنهم رغم تـميزي عليهم؟! ولكن الآن أدركت أن ذلك كان لطمة رحـمانية، ضربتني بها كرامة خدمة القرآن، حيث لا تقبل الغرور!

ثانيتها: كانت لديَّ حالتان تـخلان بصفاء العمل للقرآن، تلقيت على أثرهما لطمة شديدة. والـحالتان هما:

كنت أعد نفسي غريباً عن البلد، بل غريباً حقاً، فلأجل تبديد وحشة الغربة جالست أناساً مغرورين بالدنيا، فتعلـمت منهم الرياء والتـملق، علاوة على تعرضي لفقر الـحال – ولا أشكو – حيث لـم اراع دستور الاستاذ الـمهم في الاقتصاد والقناعة، رغم تنبيه الاستاذ لي على هذه الامور وتـحذيري، بل توبيـخي أحياناً. فلـم أستطع – مع الاسف – انقاذ نفسي من هذه الورطة.. نسأل الله العفو والـمغفرة.. فهاتان الـحالتان استغلتهما شياطين الـجن والانس فاصاب العمل للقرآن الفتور، وتلقيت لطمة قوية، الا انها كانت لطمة حنان ورأفة، فأيقنت بـما لا يدع مـجالا للشك أن هذه اللطمة انـما هي من ذلك الوضع وكانت على الوجه الآتي:

على الرغم من أنني كنت موضع خطاب الاستاذ وكاتب مسودات رسائلـه وتبييضها طوال ثماني سنوات. فلـم أنل مع الاسف من نورها ما كان يفيض على غيري في ثـمانية شهور. فكنت انا والاستاذ حائرين أمام هذا الوضع! ونتساءل: لـماذا؟ أي لـماذا لا يدخلٍ نور حقائق القرآن شغاف قلبي.. بـحثنا عن الاسباب كثيراً، حتى علـمنا الآن علـماً جازماً، ان تلك الـحقائق انـما هي نور وضياء، ولا يـجتـمع النور مع ظلـمات الرياء والتصنع والتزلف للآخرين.. لذا ابتعدت معاني حقائق هذه الانوار عني وغدت كأنها غريبة عني. أسألـه سبـحانه وتعالى أن يرزقني الاخلاص الكامل اللائق للعمل، وينقذني من الرياء والتذلل لأهل الدنيا. وارجوكم جـميعاً – وفي الـمقدمة ارجو الاستاذ – ان تـجهدوا في الدعاء لي.

العبد الـمقصر

الـحافظ توفيق الشامي

الثامن: هو ((سيراني)): هذا الأخ صنو ((خسرو))(1) من الـمشتاقين لرسائل النور، ومن طلابي الأذكياء الـمـجدّين.

استطلعت ذات يوم رأي طلاب ((اسبارطة)) حول التوافق الذي يعدّ مفتاحاً مهما لأسرار القرآن ولعلـم الـحروف. اشترك الـجـميع في الـمناقشة بـجد، عدا هذا الشخص، ولـم يكتف بعدم الـمشاركة في الـمناقشة بل اراد أن يصرفني عمّا أنا اعلـمه من حقائق علـماً يقيناً، اذ كان لـه اهتـمامات بأمور أخرى، ثم بعث اليّ رسالة جارحة جداً، اصابتني في الصميـم. فقلت: وا أسفاه ! لقد ضيعت هذا الطالب النابه، فعلى الرغم من مـحاولتي توضيـح الأمر لـه الاّ أن شيئاً آخر خالط الـموضوع؛ فأتته اللطمة الرؤوفة.. ودخل السجن زهاء سنة.

التاسع: هو ((الـحافظ زهدي الكبير)).

كان هذا الاخ يشرف على عمل طلاب النور في قصبة ((أغروس)) ولكن كأنه لـم يكتف بالـمنزلة الـمعنوية الرفيعة والشرف السامي الذي يتـمتع به طلاب النور، لاتباعهم السنة الشريفة واجتنابهم البدع، فرغب في العثور على هذه الـمنزلة لدى أهل الدنيا فتسلـم وظيفة القيام بتعليـم بدعة سيئة، مرتكباً خطأً جسيـماً منافياً لـمسلكنا الذي هو اتباع السنة الشريفة. فتلقى لطمة رهيبة جداً. اذ تعرض لـحادثة كادت تـمـحو شرفه وشرف أهلـه، وقد مست الـحادثة ((الـحافظ زهدي الصغير)) أيضاً مع الاسف بالرغم من انه لا يستـحق اللطمة. نسأل الله ان تكون تلك الـحادثة الـمؤلـمة بـمثابة عملية جراحية لتصرف قلبه عن الدنيا وتدفعه للاقبال على العمل القرآني الـخالص لوجه الله، لتنفعه يوم القيامة.

العاشرة: هو ((الـحافظ أحـمد)).

كان هذا الاخ يستنسخ الرسائل وينهل من انوارها طوال ثلاث سنوات، وهو دؤوب شغوف في عملـه، ثم تعرض للاختلاط بأهل الدنيا لعلـه يدفع أذاهم عنه، ويتـمكن من ابلاغ الكلام الطيب لـهم وليكسب شيئاً من الـمنزلة لديهم، فضلاً عن انه كان يرغب في أن يوسّع ما ضاق عليه من أمور الدنيا وهموم العيش ففتر شوقهُ. واستغل اهل الدنيا ضعفه بهذا الـجانب فأصابه فتور في عملـه القرآني جراء تلك الأوضاع، فأتته لطمتان معاً.

اولاها: ضُمّ الى عائلته خـمسة اشخاص آخرين بالرغم من ضيق معيشته، فأصبـح حقاً في رهق شديد من العيش.

ثانيتها: على الرغم من أنه كان مرهف الـحس ولا يتـحـمل شيئاً من الكلام من أحد، فقد اصبـح وسيلة لدساسين من حيث لا يعلـم، حتى فقد موقعه ومنزلته كلياً، وأصبـح كثيرٌ من الناس يهجرونه، ففقد صداقتهم بل عادوه.. وعلى كل حال؛ نسأل الله أن يغفر لـه، ونسألـه ان يوفقه للافاقة من غفلته ويعي الامور ويعود الى مهمته في خدمة القرآن.

الـحادي عشر: لـم يسجّل ربـما لا يرضى!.

الثاني عشر: هو ((الـمعلـم غالب))(1) لقد خدم هذا الاخ باخلاص وصدق في تبييض الرسائل، فقام بـخدمات جليلة كثيرة، ولـم يبد منه ضعفٌ أمام أية مشكلة من الـمشاكل مهما كانت.

كان يـحضر الدرس في أغلب الاوقات وينصت بكل أهتـمام وشوق، ويستنسخ الرسائل لنفسه أيضاً، حتى استكتب لنفسه جـميع ((الكلـمات والـمكتوبات)) لقاء أجرة قدرها ثلاثون ليرة. كان يقصد من وراء هذا الاستنساخ نشر الرسائل في مدينته، وارشاد اصدقائه، وبعد ذلك فتر عن العمل ولـم يقم بنشر الرسائل كما هو دأبه، وذلك بسبب ما ساوره من الـهواجس، فحجب نور هذه الرسائل عن الانظار فأصابته على حين غرة حادثة أليـمة جداً، تـجرّع من جرائها العذاب غصصاً مدة سنة كاملة، فوجد أمامه عدداً غفيراً من أعداء ظالـمين بدلاً من عداوة بضعة موظفين لقيامه بنشر الرسائل، ففقد أصدقاء أعزاء عليه.

الثالث عشر: هو ((الـحافظ خالد))(2) وسيذكر لكم الـحادثة بنفسه:

عندما كنت أعمل بشوق وحـماسة في كتابة مسودات رسائل النور، كانت هناك وظيفة شاغرة، وهي أمامة الـمسجد في مـحلتنا. ورغبة مني – رغبة شديدة – لألبس جبتي العلـمية القديـمة وعمامتها فترتُ مؤقتاً عن العمل وضعفتْ همتي وشوقي في خدمة القرآن فانسحبتُ من ساحة العمل القرآني جهلاً مني، فاذا بي أتلقى لطمة ذات رأفة بـخلاف ما كنت أقصده. اذ رغم الوعود الكثيرة التي قطعها الـمفتي على نفسه بتعييني، ورغم أني كنت قد توليت هذه الوظيفة لـما يقرب من تسعة اشهر سابقاً الا انني حُرمت من لبس الـجبة والعمامة، فأيقنت أن هذه اللطمة انـما هي من ذلك التقصير في العمل للقرآن. اذ كان الاستاذ يـخاطبني بالذات في الدرس فضلاً عن قيامي بكتابة الـمسودة، فانسحابي من العمل، ولاسيـما من كتابة الـمسودة، اوقعهم في حرج وضيق.. وعلى كل حال فالشكر لله وحده الذي جعلنا نفهم فداحة تقصيرنا ونعلـم مدى سمو هذه الـخدمة، ونثق باستاذ مرشد كالشيـخ الكيلاني ظهيراً لنا كالـملائكة الـحفظة.

اضعف العباد

الـحافظ خالد

الرابع عشر: لطمات حنان ثلاث صغيرة، أصابت ثلاثة أشخاص كل منهم يسمى ((مصطفى)).

أولـهم: ((مصطفى جاويش))(1) كان هذا الاخ يتولى خدمة الـجامع الصغير، وتزويد مدفأته بالنفط، بل حتى علبة الكبريت كان يوفرها للـجامع، فخدم طوال ثماني سنوات، ويدفع كل ما تـحتاجه هذه الامور من خالص مالـه – كما علـمنا بعدئذٍ – ولـم يكن يتـخلف عن الـجـماعة ابداً، ولاسيـما في ليالي الـجـمع الـمباركة الاّ اذا اضطر الى ذلك بعمل ضروري جداً. أخبره أحد الأيام بعض أهل الدنيا مستغلين صفاء قلبه: بلـّغ الـحافظ فلاناً – وهو من كتّاب رسائل النور – لينزع عمامته قبل ان يتأذى ويـجبر على نزعها، وبلـّغ الـجـماعة ان يتركوا الآذان سراً(2). ولـم يعلـم هذا الدنيوي الغافل ان تبليغ هذا الكلام ثقيل جداً على شخص مثل مصطفى جاويش من ذوي الأرواح العالية. ولكن لصفاء سريرته بلـَّغ صاحبه الـخبر، فرأيت تلك الليلة في الـمنام ان يدي مصطفى جاويش ملطختان وهو يسير خلف القائمقام ويدخلان معاً غرفتي..! قلت لـه في اليوم التالي لذلك اليوم: أخي مصطفى! مَن قابلت اليوم؟ رأيتك في الـمنام وانت ملطخ اليدين سائراً خلف القائمقام. قال: واأسفاه، لقد أبلغني الـمـختار كلاماً وانا بلـّغته الـحافظ الكاتب، ولـم أعلـم ما وراءه من كيد.

ثم حدث في اليوم نفسه ان جاء بكمية من النفط للـمسجد. وعلى غير الـمعتاد فقد ظل باب الـمسجد مفتوحاً فدخل عناق (صغير العنز) الى حرم الـمسجد فلوث قريباً من سجادتي، وجاء احدهم فاراد تنظيف الـمكان فلـم يـجد غير اناء النفط، وحسبه ماءً فرشّ ما في الاناء الى أطراف الـمسجد والعجيب انه لـم يشم رائحته. فكأن الـمسجد يقول بلسان حالـه لـ((مصطفى ضاويش)): ((لا حاجة لنا الى نفطك بعد الآن، لقد أرتكبت خطأً جسيـماً)) واشارة لـهذا الكلام الـمعنوي لـم يشعر ذلك الشخص برائحة النفط بل لـم يتـمكن مصطفى من الاشتراك في صلاة الـجـماعة في ذلك اليوم وليلة الـجـمعة الـمباركة بالرغم من مـحاولاته. ثم ندم ندماً خالصاً لله، واستغفر الله كثيراً، فرجع اليه صفاء قلبه وخلوص عبادته والـحـمد لله.

الشخصان الآخران الـمسمى كل منهما بـ ((مصطفى)).

أولـهما: مصطفى من قرية ((قولـه أونلي)) وهو من الطلاب الـمـجدّين، والآخر صديقه الوفي هو ((الـحافظ مصطفى)).

كنت قد بلـّغت طلابي بان لا يأتوا حالياً لزيارتي عقب العيد لئلا يفتر العمل للقرآن من جراء مراقبة أهل الدنيا ومضايقاتهم. واستثنيت من ذلك من كان يأتي فرداً فلا بأس به، واذا بي أفاجأ بثلاثة اشخاص معاً يأتون لزيارتي ليلاً، ويزمعون السفر قبل الفجر – اذا سمـحت احوال الـجو بالسفر – فلـم نتـخذ تدابير الـحذر، لا أنا ولا سليـمان ولا مصطفى جاويش، بل نسيناها حيث ألقى كلٌ منا اتـخاذها على عاتق الآخر. وعلى كل حال غادرونا قبل الفجر، فجاءتهم اللطمة بعاصفة شديدة لـم نكن قد رأينا مثلـها في هذا الشتاء. استـمرت ساعتين متواليتين فقلقنا عليهم كثيراً، وقلنا لن ينـجوا منها، وتألـمت عليهم ألـماً ما تألـمت على أحد مثلـهم. ثم اردت ان ابعث سليـمان – لعدم أخذه بالـحذر – ليتلقى اخبارهم ويبلـّغنا عن سلامة وصولـهم. ولكن مصطفى جاويش قال: اذا ذهب سليـمان فسيبقى هناك ايضاً، ولا يتـمكن من العودة، وسأتبعه أنا ايضاً، وسيتبعني عبدالله جاويش وهكذا.. ولـهذا وكـّلنا الامر الى العلي القدير قائلين جـميعاً: توكلنا على الله. وفوضنا الامر اليه.

* * *

سؤال:

انك تعد الـمصائب التي تصيب اخوانك الـخواص واصدقاءك تأديباً ربانياً ولطمة عتاب لفتورهم عن خدمة القرآن، بينـما الذين يعادون خدمة القرآن ويعادونكم يعيشون في بـحبوحة من العيش وفي سلام وأمان. فلـم يتعرض صديق القرآن للـّطمة ولا يتعرض عدوه لشيء؟

الـجواب: يقول الـمثل الـحكيـم: (الظلـم لا يدوم والكفر يدوم) فأخطاء العاملين في صفوف خدمة القرآن هي من قبيل الظلـم تـجاه الـخدمة، لذا يتعرضون بسرعة للعقاب ويـجازون بالتأديب الرباني، فان كانوا واعين يرجعون الى صوابهم.

أما العدو فان صدوده عن القرآن وعداءه لـخدمته انـما هو لأجل الضلالة، وان تـجاوزه على خدمة القرآن – سواء شعر به أم لـم يشعر – انـما هو من قبيل الكفر والزندقة، وحيث ان الكفر يدوم، فلا يتلقى معظمهم الصفعات بذات السرعة، اذ كما يعاقب من يرتكب أخطاء طفيفة في القضاء او الناحية، بينـما يساق مرتكبو الـجرائم الكبيرة الى مـحاكم الـجزاء الكبرى، كذلك الاخطاء الصغيرة والـهفوات التي يرتكبها أهلُ الايـمان وأصدقاء القرآن يتلقون على إثرها جزاءاً من العقاب بسرعة في الدنيا ليكفـّر عن سيئاتهم ويتطهروا منها، أما جرائم أهل الضلالة فهي كبيرة وجسيـمة الى حد لا تسع هذه الـحياة الدنيا القصيرة عقابهم، فيـمهـّلون الى عالـم البقاء والـخلود والى الـمـحكمة الكبرى لتقتص منهم العدالة الإلـهية القصاص العادل، لذا لا يلقون غالباً عقابهم في هذه الدنيا.

وفي الـحديث الشريف: ((الدنيا سجن الـمؤمن وجنة الكافر))(1) اشارة الى هذه الـحقيقة التي ذكرناها، أي أن الـمؤمن ينال نتيـجة تقصيراته قسماً من جزائه في الدنيا، فتكون بـحقه كأنها مكان جزاء وعقاب، فضلا عن أن الدنيا بالنسبة لـما أعده الله لـه من نعيـم الآخرة سجن وعذاب. أما الكفار فلأنهم مـخلـّدون في النار، ينالون قسماً من ثواب حسناتهم في الدنيا، وتـمهَل سيئاتهم العظيـمة الى الآخرة الـخالدة، فتكون الدنيا بالنسبة لـهم دار نعيـم لـما يلاقونه من عذاب الآخرة. والا فالـمؤمن يـجد من النعيـم الـمعنوي في هذه الدنيا ما لا ينالـه أسعد انسان. فهو أسعد بكثير من الكافر من زاوية نظر الـحقيقة وكأن ايـمان الـمؤمن بـمثابة جنة معنوية في روحه وكفر الكافر يستعر جحيـماً في ماهيته.

عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:56 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة الـحادية عشرة

(مرقاة السنة وترياق مرض البدعة)

الـمقام الاول لـهذه الآية عبارة عن ((منهاج السنة)) والـمقام الثاني هو ((مرقاة السنة))

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} لَقدْ جَاءَكـُم رَسُولٌ من انفُسِكـُم عَزيزٌ عَليهِ ماعَنِتـم حَريصٌ عليكـُم بالـمؤمنينَ رؤوفٌ رَحيـم{ (التوبة:128)

} فإن تَولـّوا فَقُلْ حَسْبي الله لا الـه الاّ هو عَليهِ تَوكـّلْتُ وهوَ رَبُّ العَرشِ العَظيـم{ (التوبة:129)

} قُلْ إنْ كـُنتـم تـحبّون الله فاتّبعوني يـحببكـُم الله{ (آل عمران:31)

سنبين ((احدى عشرة)) نكتة دقيقة، بيانا مـجـملا، من بين مئات الـمسائل الدقيقة التي تتضمنها هاتان الآيتان العظيـمتان.

l النكتة الاولى:

قال الرسول e .

((من تـمسك بسنتي عند فساد امتي فلـه اجر مائة شهيد))(1).

اجل! ان اتباع السنة الـمطهرة لـهو حتـما ذو قيـمة عالية، ولا سيـما اتباعها عند استيلاء البدع وغلبتها، فان لـه قيـمة أعلى وأسمى، وبالاخص عند فساد الامة، اذ تُشعر مراعاة ابسط الآداب النبوية بتقوى عظيـمة وايـمان قوي راسخ؛ ذلك لأن الاتباع الـمباشر للسنة الـمطهرة يذكـّر بالرسول الاعظم e ، فهذا التذكر الناشيء من ذلك الاتباع ينقلب الى استـحضار الرقابة الإلـهية، بل تتـحول في الدقائق التي تراعى فيها السنة الشريفة أبسط الـمعاملات العرفية والتصرفات الفطرية – كآداب الاكل والشرب والنوم وغيرها – الى عمل شرعي وعبادة مثابة عليها؛ لأن الانسان يلاحظ بذلك العمل الـمعتاد اتباع الرسول e ، فيتصور أنه يقوم بأدب من آداب الشريعة، ويتذكر انه e صاحب الشريعة، ومن ثم يتوجه قلبه الى الشارع الـحقيقي وهو الله سبـحانه وتعالى، فيغنـم سكينة واطمئنانا ونوعا من العبادة.

وهكذا، في ضوء ما تقدم فان من يـجعل اتباع السنة السنية عادته، فقد حول عاداته الى عبادات، ويـمكنه ان يـجعل عمره كلـه مثمرا، ومثابا عليه.





l النكتة الثانية:

لقد قال الامام الرباني احـمد الفاروقي رحـمه الله(1):

((بينـما كنت اقطع الـمراتب في السير والسلوك الروحاني، رأيت ان أسطع ما في طبقات الاولياء، وارقاهم وألطفهم وآمنهم واسلـمهم هم اولئك الذين اتـخذوا اتباع السنة الشريفة اساسا للطريقة، حتى كان الاولياء العوام لتلك الطبقة يظهرون اكثر بهاءا واحتشاما من الاولياء الـخواص لسائر الطبقات)).

نعم ان الامام الرباني مـجدد الالف الثاني ينطق بالـحق، فالذي يتـمسك بالسنة الشريفة ويتـخذها اساساً لـه، لـهو أهل لـمقام الـمـحبوبية في ظل حبيب الله e .

l النكتة الثالثة:

عندما كان يسعى هذا السعيد الفقير الى الله، للـخروج من حالة (سعيد القديـم)(2) ارتـج عقلي وقلبي وتدحرجا ضمن الـحقائق ازاء اعصار معنوي رهيب، فقد شعرت كأنهما يتدحرجان هبوطا تارة من الثريا الى الثرى وتارة صعدا من الثرى الى الثريا، وذلك لانعدام الـمرشد، ولغرور النفس الامارة.

فشاهدت حينئذ ان مسائل السنة النبوية الشريفة بل حتى ابسط آدابها، كل منها في حكم مؤشر البوصلة الذي يبين اتـجاه الـحركة في السفن. وكل منها في حكم مفتاح يضيء ما لا يـحصر من الطرق الـمظلـمة الـمضرة.

وبينـما كنت ارى نفسي في تلك السياحة الروحية أرزح تـحت ضغط مضايقات كثيرة وتـحت اعباء أثقال هائلة، اذا بي أشعر بـخفة كلـمات تتبعت مسائل السنة الشريفة الـمتعلقة بتلك الـحالات، وكأنها كانت تـحـمل عني جـميع الاثقال وترفع عن كاهلي تلك الاعباء. فكنت أنـجو باستسلام تام بالسنة من هموم التردد والوساوس مثل: ((هل في هذا العمل مصلـحة؟ ترى هل هو حق؟)). وكنت ارى متى ما كففت يدي عن السنة تشتد موجات الـمضايقات وتكثر، والطرق الـمـجهولـه تتوعر وتغمض، والاحـمال تثقل.. وانا عاجز في غاية العجز ونظري قصير، والطريق مظلـمة. بينـما كنت اشعر متى ما اعتصمت بالسنة، وتـمسكت بها، تتنور الطريق من امامي، وتظهر كأنها طريق آمنه سالـمة والاثقال تـخف والعقبات تزول.

نعم، هكذا احسست في تلك الفترة فصدقت حكم الامام الرباني بالـمشاهدة.

l النكتة الرابعة:

غمرتني – في فترة ما – حالة روحية نبعت من التأمل في ((رابطة الـموت)) ومن الايـمان بقضية ((الـموت حق))، ومن طول التفكر بزوال العالـم وفنائه. فرأيت نفسي في عالـم عجيب، اذ نظرت فاذا انا جنازة واقفة على رأس ثلاث جنائز مهمة وعظيـمة:

الاولى: الـجنازة الـمعنوية لـمـجـموع الاحياء التي لـها ارتباط بـحياتي الشخصية، والتي ماتت ومضت ودفنت في قبر الـماضي.. وما أنا الا كشاهد قبرها موضوع على جثتها.

الثانية: جنازة عظيـمة تطوي مـجـموع انواع الاحياء الـمتعلقة بـحياة البشرية قاطبة، والتي ماتت ودفنت في قبر الـماضي الذي يسع الكرة الارضية، وما أنا الا نقطة تـمـحى عاجلا ونـملة صغيرة تـموت.. سريعا على وجه هذا العصر الذي هو شاهد قبر تلك الـجنازة.

الثالثة: الـجنازة الضخـمة التي تطوي هذا الكون عند قيام الساعة، وحيث ان موته عندئذ امر مـحقق لامناص منه، فقد اصبـح في نظري في حكم الواقع الآن. فاخذت الـحيرة جوانب نفسي، وبهت من هول سكرات تلك الـجنازة الـمهولة، وبدت وفاتي – التي هي الأخرى آتية لا مـحال – كأنها تـحدث الان، فادارت جـميع الـموجودات وجـميع الـمـحبوبات ظهرها لي ومضت، وتركتني وحيداً فريداً، مثلـما جاءت في الآية الكريـمة: } فإن تَولـّوا... { . واحسست كأن روحي تساق الى الـمستقبل الـمـمتد نـحو الأبد الذي اتـخذ صورة بـحر عظيـم لا ساحل لـه.. وكان لابد من القاء النفس في خضم ذلك البـحر العظيـم طوعاً او كرها.

وبينـما انا في هذا الذهول الروحي، والـحزن الشديد يعصر قلبي، اذا بـمدد يأتيني من القرآن الكريـم والايـمان. فمدتني الآية الكريـمة: } فإن تَولـّوا فَقُلْ حَسْبي الله لا الـه الاّ هو عَليهِ تَوكـّلْتُ وهوَ رَبُّ العَرشِ العَظيـم{ (التوبة:129) حتى غدت هذه الآية بـمثابة سفينة أمان في منتهى السلام والاطمئنان. فدخلت الروح آمنة مطمئنة في حـمى هذه الآية الكريـمة.. وفهمت في حينها ان هناك معنى غير الـمعنى الصريـح لـهذه الآية الكريـمة، وهو الـمعنى الاشاري. فلقد وجدت فيه سلوانا لروحي، حيث وهب لي الاطمئنان والسكينة.

نعم! ان الـمعنى الصريـح للآية الكريـمة يقول للرسول الكريـم e .

((اذا تولى اهل الضلالة عن سماع القرآن، واعرضوا عن شريعتك وسنتك، فلا تـحزن ولاتغتـم، وقل حسبي الله، فهو وحده كاف لي، وانا اتوكل عليه؛ اذ هو الكفيل بأن يقيض من يتبعني بدلا منكم، فعرشه العظيـم يـحيط بكل شيء، فلا العاصون يـمكنهم ان يهربوا منه، ولا الـمستعينون به يظلون بغير مدد وعون منه)).

فكما ان الـمعنى الصريـح لـهذه الآية الكريـمة يقول بهذا، فالـمعنى الاشاري للآية الكريـمة يقول:

((ايها الانسان، ويامن يتولى قيادة الانسان وارشاده؛ لئن ودعتك الـموجودات كلـها وانعدمت ومضت في طريق الفناء.. وان فارقتك الاحياء وجرت الى طريق الـموت.. وان تركك الناس وسكنوا الـمقابر.. وان اعرض اهل الغفلة والضلالة ولـم يصغوا اليك وتردوا في الظلـمات.. فلا تبال بهم، ولا تغتـم، وقل: حسبي الله، فهو الكافي، فاذا هو موجود فكل شيء موجود.. وعلى هذا، فان اولئك الراحلين لـم يذهبوا الى العدم، وانـما ينطلقون الى مـملكة اخرى لرب العرش العظيـم، وسيرسل بدلا منهم ما لا يعد ولا يـحصى من جنوده الـمـجندين.. وان اولئك الذين سكنوا الـمقابر لـم يفنوا ابدا، وانـما ينتقلون الى عالـم آخر، وسيبعث بدلا منهم موظفين آخرين يعمرون الدنيا، ويشغلون ما خلا من وظائفها.. وهو القادر على ان يرسل من يطيعه ويسلك الطريق الـمستقيـم بدلا مـمن وقعوا في الضلالة من الذاهبين..

فما دام الامر هكذا، فهو الكفيل، وهو الوكيل، وهو البديل عن كل شيء، ولن تعوّض جـميع الاشياء عنه، ولن تكون بديلا عن توجه واحد من توجهات لطفه ورحـمته لعباده..

وهكذا انقلبت صور الـجنازات الثلاث التي راعتني بهذا الـمعنى الاشاري الى شكل آخر من اشكال الانس والـجـمال وهو:

ان الكائنات تتهادى جيئة وذهابا في مسيرة كبرى، انهاء لـخدمات مستـمرة، واشغالا لواجبات مـجددة دائمة، عبر رحلة ذات حكمة، وجولة ذات عبرة، وسياحة ذات مهام، في ظل ادارة الـحكيـم الرحيـم العادل القدير ذي الـجلال، وضمن ربوبيته الـجليلة وحكمته البالغة ورحـمته الواسعة.

l النكتة الـخامسة:

قال تعالى: } قُلْ إنْ كـُنتـم تـحبّون الله فاتـّبعوني يـحببكـُم الله{ (آل عمران:31) تعلن هذه الآية العظيـمة اعلانا قاطعاً عن مدى اهمية اتباع السنة النبوية ومدى ضرورتها.

نعم! ان هذه الآية الكريـمة اقوى قياس واثبته من قسم القياس الاستثنائي، ضمن الـمقاييس الـمنطقية، اذ يرد فيه على وجه الـمثال: ((اذا طلعت الشمس فسيكون النهار)).

ويرد مثالا للنتيـجة الايـجابية: ((طلعت الشمس فالنهار اذاً موجود)). ويرد مثالا للنتيـجة. السلبية: ((لا نهار فالشمس اذاً لـم تطلع)). فهاتان النتيـجتان – الايـجابية والسلبية – ثابتتان وقاطعتان في الـمنطق.

وكذلك الامر في الآية الكريـمة، فتقول: ان كان لديكم مـحبة الله، فلابد من الاتباع لـ((حبيب الله)). وان لـم يكن هناك اتباع، فليس لديكم اذاً مـحبة الله. اذ لو كانت هناك مـحبة حقاً فانها تولد حتـماً اتباع السنة الشريفة لـ((حبيب الله)).

أجل! ان من يؤمن بالله يطعه. ولاريب ان اقصر طريق اليه واكثرها قبولا لديه، وأزيدها استقامة – ضمن طرق الطاعة الـمؤدية اليه – لـهي الطريق التي سلكها وبينها حبيب الله e .

نعم! ان الكريـم ذا الـجـمال الذي ملأ هذا الكون بنعمة وآلائه الى هذا الـمدى، بديهي – بل ضروري – ان يطلب الشكر من ذوي الـمشاعر تـجاه تلك النعم.

وان الـحكيـم ذا الـجلال الذي زيّن هذا الكون بـمعجزات صنعته الى هذا الـحد، سيـجعل بالبداهة من هو الـمـختار الـمـمتاز من ارباب الشعور مـخاطبا لـه، وترجـمانا لأوامره، ومبلغاً لعبادة، واماماً لـهم.

وان الـجـميل ذا الكمال الذي جعل هذا الكون مظهراً بـما لا يعد ولا يـحصى لتـجليات جـمالـه وكمالـه سيهب بالبداهة لـمن هو اجـمع نـموذج لبدائع صنعته، واكمل من يظهر ما يـحبه ويريد اظهاره من جـمال وكمال واسماء حسنى.. سيهب لـه اكمل حالة للعبودية جاعلا منه اسوة حسنة للآخرين ويـحثهم لاتباعه، ليظهر عندهم ما يـماثل تلك الـحالة اللطيفة الـجـميلة.

الـخلاصة:

ان مـحبة الله تستلزم اتباع السنة الـمطهرة وتنتـجه.

فطوبى لـمن كان حظه وافراً من ذلك الاتباع.

وويل لـمن لايقدر السنة الشريفة حق قدرها فيـخوض في البدع.

l النكتة السادسة:

قال الرسولe : ((كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار))(1)، أي: بعد ان كملتْ قواعد الشريعة الغراء ودساتير السنة الـمهطرة، واخذت تـمام كمالـها، بدلالة الآية الكريـمة: } اليومَ أكملتُ لكُم دينَكُم{ … (الـمائد:3) فان عدم استـحسان تلك الدساتير بـمـحدثات الامور، او ايـجاد البدع التي تشعر كأن تلك القواعد ناقصة – حاش لله – ضلال ليس لـه مستقر الا النار.

ان للسنة الـمطهرة مراتب:

قسم منها ((واجب)) لا يـمكن تركه، وهو مبين في الشريعة الغراء مفصلا، وهو من الـمـحكمات لي لا يـمكن باية جهة كانت ان تتبدل.

وقسم منها هو من قبيل ((النوافل))، وهذا بدوره قسمان:

قسم منه هو السنن التي تـخص العبادات، وهي مبينة ايضا في كتب الشريعة. وتغيير هذه السنن بدعة.

أما القسم الآخر فهو الذي يطلق عليه ((الآداب)) وهي الـمذكورة في كتب السير الشريفة، ومـخالفتها لاتسمى بدعة. الا انها من نوع مـخالفة الآداب النبوية، وعدم الاستفاضة من نورها، وعدم التأدب بالادب الـحقيقي، فهذا القسم هو: اتباع افعال الرسول e الـمعلومة بالتواتر في العرف والعادات والـمعاملات الفطرية، ككثير من السنن التي تبين قواعد ادب الـمـخاطبة وتظهر حالات الاكل والشرب والنوم أو التي تتعلق بالـمعاشرة. فمن يتـحر امثال هذه السنن التي تطلق عليها ((الآداب)) ويتبعها فانه يـحول عاداته الى عبادات، ويستفيض من نور ذلك الأدب النبوي، لأن مراعاة أبسط الآداب واصغرها تذكر بالرسول الاعظم e مـما يسكب النور في القلب.

ان اهم ما في السنة الـمطهرة هي تلك السنن التي هي من نوع علامات الاسلام والـمتعلقة بالشعائر اذ الشعائر هي عبادة من نوع الـحقوق العامة التي تـخص الـمـجتـمع.

فكما ان قيام فرد بها يؤدي الى استفادة الـمـجتـمع كلـه، فان تركها يـجعل الـجـماعة كلـها مسؤولة. فمثل هذه الشعائر يعلن عنها وهي أرفع من ان تنالـها ايدي الرياء واهم من الفرائض الشخصية ولو كانت من نوع النوافل.

l النكتة السابعة:

ان السنة النبوية الـمطهرة في حقيقة امرها لـهي أدب عظيـم، فليس فيها مسألة الا وينطوي على ادب ونور عظيـم. وصدق رسول الله e حين قال: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي))(1).

نعم، فمن يـمعن النظر في السيرة النبوية ويـحط علـماً بالسنة الـمطهرة، يدرك يقيناً ان الله سبـحانه وتعالى قد جـمع اصول الاداب وقواعدها في حبيبه e . فالذي يهجر سنته الـمطهرة ويـجافيها فقد هجر منابع الادب واصولـه، فيـحرم نفسه من خير عظيـم، ويظل مـحروماً من لطف الرب الكريـم، ويقع في سوء ادب وبيل. ويكون مصداق القاعدة: بي ادب مـحروم باشد أز لطف رب.

سؤال:

كيف نتأدب مع علام الغيوب، البصير العليـم، الذي لا يـخفى عليه شيء، حيث ان هناك حالات تدعو الانسان الى الـخجل، ولا يـمكن اخفاؤها عنه سبـحانه، ولا التستر منه، بينـما ستر مثل هذه الـحالات الـمستكرهة احد انواع الأدب؟.

الـجواب:

اولا: كما ان الصانع ذا الـجلال يظهر صنعته اظهاراً جـميلاً في نظر مـخلوقاته، ويأخذ الامور الـمستكرهة تـحت أستار وحجب، ويزين نِعَمه ويـجـملـها حتى لتشتاقها الابصار. كذلك يطلب سبـحانه من مـخلوقاته وعباده ان يظهروا امام ذوي الشعور بأجـمل صورهم واكثرها حسناً؛ اذ ان ظهورهم للـمـخلوقات في حالات مزرية قبيـحة، واوضاع مستهجنة، يكون منافياً للأدب الـجـميل ونوعاً من العصيان تـجاه قدسية اسمائه أمثال: الـجـميل، الـمزين، اللطيف، الـحكيـم. وهكذا فالادب الذي في السنة النبوية الطاهرة انـما هو تأدب بالادب الـمـحض الذي هو ضمن الاسماء الـحسنى للصانع الـجليل.

ثانياً: ان الطبيب لـه ان ينظر الى أشد الاماكن حرمة لـمن يـحرم عليه، من زاوية نظر الطب والعلاج. بل يكشف لـه – في حالات الضرورة – تلك الاماكن ولا يعد ذلك خلافاً للأدب، وانـما يعتبر ذلك من مقتضيات الطب. الا ان ذلك الطبيب نفسه لا يـجوز لـه ان ينظر الى تلك الاماكن الـمـحرمة من حيث كونه رجلا او واعظاً او عالـماً، فلا يسمـح الادب قطعاً باظهارها لـه بتلك العناوين والصفات. بل يعد ذلك انعداماً للـحياء.

((ولله الـمثل الاعلى)) فان للصانع الـجليل اسماء حسنى كثيرة، ولكل اسم تـجليه، فمثلا:

كما يقتضي اسم ((الغفار)) وجود الذنوب، واسم ((الستار) وجود التقصيرات، فان اسم ((الـجـميل)) لا يرضى برؤية القبـح. وان الاسماء الـجـمالية والكمالية، امثال: اللطيف، الكريـم، الـحكيـم، الرحيـم، تقتضى ان تكون الـموجودات في احسن الصور، وفي افضل الاوضاع الـمـمكنة. فتلك الاسماء الـجـمالية والكمالية تقتضى اظهار جـمالـها؛ بالاوضاع الـجـميلة للـموجودات وتأدبها بالاداب الـحسنة، امام انظار الـملائكة والعالـم الروحاني والـجن والانس.

وهكذا فالاداب التي تتضمنها السنة الـمطهرة اشارة الى هذه الاداب السامية، ولفتة الى دساتيرها ونـماذجها.

l النكتة الثامنة:

تبين الآية الكريـمة: } لقد جَاءكُم رسُولٌ من أنفُسِكُم..{ (التوبة:128) كمال شفقة الرسول الكريـم e ومنتهى رأفته نـحو أمته. أما التي تعقبها } فإن تَولـّوا فَقُلْ حَسْبي الله.. { فهي تقول:

((ايها الناس! ايها الـمسلـمون! اعلـموا كم هو انعدام للوجدان وفقدان للعقل اعراضكم عن سنن هذا النبي الرؤوف الرحيـم، وعما بلغ من احكام، لـحد انكاركم شفقته البديهية، واتهام رأفته الـمشاهدة، وهو الذي أرشدكم برأفته الواسعة وبذل كل ما اوتي لاجل مصالـحكم، مداوياً جراحاتكم الـمعنوية ببلسم سننه الطاهرة والاحكام التي اتى بها.

وانت ايها الرسول الـحبيب الرؤوف الرحيـم، ان لـم يعرف هؤلاء شفقتك العظيـمة هذه، لبلاهتهم، ولـم يقدروا رأفتك الواسعة هذه، فأداروا لك ظهورهم، ولـم يعيروا لك سمعاً.. فلا تبال ولا تهتـم فان رب العرش العظيـم الذي لـه جنود السموات والارض والذي تهيـمن ربوبيته من على العرش الاعظم الـمـحيط بكل شيء، لـهو كاف لك.. وسيـجـمع حولك الـمطيعين حقاً، ويـجعلـهم يصغون اليك ويرضون باحكامك)).

نعم، انه ليست في الشريعة الـمـحـمدية والسنة الاحـمدية مسألة الا وفيها حِكَمٌ عديدة، فانا هذا الفقير الى الله ادعى بهذا، رغم كل عجزي وقصوري. وانا على استعداد لإثبات هذه الدعوى. فما كتبته لـحد الآن من اكثر من سبعين رسالة من رسائل النور انـما هو بـمثابة سبعين شاهدا صادقا على مدى الـحكمة والـحقيقة التي تنطوي عليها السنة الاحـمدية والشريعة الـمـحـمدية، فلو قدر وكتب هذا الـموضوع فلا يكفي سبعون رسالة ولا سبعة آلاف رسالة لا يفاء تلك الـحكم حقها.

ثم اني قد شاهدت شخصياً، وتذوقته بنفسي، بل لي الف تـجربة وتـجربة: ان دساتير الـمسائل الشرعية والسنة النبوية افضل دواء وانفعه للامراض الروحية والعقلية والقلبية، ولا سيـما الاجـتـماعية منها، فأن اعلن بـمشاهدتي واحساسي هذا، وقد اشعرت الأخرين بشيء منها في الرسائل بأنه: لا يـمكن ان تسد مسد تلك الـمسائل اية حلول فلسفية ولا أية مسألة حكيـمة. فالذين يرتابون من ادعائي هذا عليهم مراجعة اجزاء رسائل النور.

فليقدر اذاً مدى الربـح العظيـم في السعي لاتباع سنة هذه الذات الـمباركة والـجد في طلبها على قدر الاستطاعة، ومدى السعادة للـحياة الابدية ومدى النفع في الـحياة الدنيا.

l النكتة التاسعة:

قد لا يتيسر اتباع كل نوع من انواع السنة الشريفة اتباعاً فعلياً كاملاً الاّ لأخص الـخواص، ولكن يـمكن لكل واحد الاتباع عن طريق: النية والقصد والرغبة في الالتزام والقبول. ومن الـمعلوم انه ينبغي الالتزام بأقسام الفرض والواجب. اما السنن الـمستـحبة في العبادة فتركها واهمالـها وان لـم يكن فيه اثم الا انه ضياع لثواب عظيـم، وفي تغييرها خطأ كبير. اما السنن النبوية في العادات والـمعاملات فانها تصيّر العادة عبادة رغم ان تاركها لايلام، الا أن استفادته تقل وتتضاءل من نور الاداب الـحياتية لـحبيب الله e .

اما البدع فهي: احداث امور في الاحكام العبادية، وهي مردودة حيث انها تنافي الآية الكريـمة: } اليومَ أكملتُ لكُم دينَكُم...{ (الـمائدة:3) غير ان تلك الامور الـمستـحدثة ان كانت من قبيل الاوراد والاذكار والـمشارب – كالتي في الطرق الصوفية – فهي ليست ببدعة ما دامت اصولـها مستقاة من الكتاب والسنة. اذ ان تلك الاصول والاسس الـمقررة رغم انها باشكال مـختلفة وانـماط متباينة الا انها مشروطة بعدم مـخالفتها للسنة النبوية وبعدم تغييرها لـها. وعلى الرغم من ذلك فقد ادخل قسم من اهل العلـم بعضاً من هذه الامور ضمن البدع، الا انهم اطلقوا عليها ((البدعة الـحسنة)). ولكن الامام الرباني يقول: ((كنت ارى في سيري عبر السلوك الروحاني ان الكلـمات الـمروية عن الرسول الاعظم e منورة متألقة بشعاع السنة الـمطهرة، في حين كنت ارى الاوراد العظيـمة والـحالات الباهرة غير الـمروية عنه ليس عليها ذلك النور والتألق. فما كان يبلغ اسطع ما في هذا القسم – الاخير – الى اقل القليل لـما في السنة … ففهمت من هذا: ان شعاع السنة الـمطهرة لـهو الاكسير النافذ، فالسنة الـمطهرة كافية ووافية لـمن يبتغي النور، فلا داعي للبـحث عن نور في خارجها…)).

فهذا الـحكم الصادر من هذا الرائد البطل من ابطال الـحقيقة والشريعة ليظهر لنا: ان السنة السنية هي الـحجر الاساس لسعادة الدارين ومنبع الكمال والـخير. اللهم ارزقنا اتباع السنة السنية.

} ربـّنا آمَنـّا بـما أنزلْتَ واتبَعنا الرسُولَ فاكتُبنا مَع الشّاهدين {

(آل عمران:53)

l النكتة العاشرة:

قال تعالى: } قُلْ إنْ كـُنتـم تـحبّون الله فاتّبعوني يـحببكـُم الله{

(آل عمران:31).

في هذه الآية الكريـمة ايـجاز معجز، حيث ان معاني كثيرة قد اندرجت في هذه الـجـمل الثلاث: تقول الآية الكريـمة: ((ان كنتـم تؤمنون بالله، فانكم تـحبونه، فما دمتـم تـحبونه فستعملون وفق ما يـحبه، وما ذاك الاتشبهكم بـمن يـحبه.. وتشبهكم بـمـحبوبه ليس الا في اتباعه، فمتى ما اتبعتـموه يـحبكم الله، ومن الـمعلوم انكم تـحبون الله كي يـحبكم الله)).

وهكذا فهذه الـجـمل ماهي الا بعض الـمعاني الـمـختصرة الـمـجـملة للآية، لذا يصح القول: ان أسمى مقصد للانسان واعلاه هو ان يكون اهلا لـمـحبة الله.. فنص هذه الاية يبين لنا ان طريق ذلك الـمقصد الاسنى انـما هو في اتباع ((حبيب الله)) والاقتداء بسنته الـمطهرة. فاذا ما اثبتنا في هذا الـمقام ثلاث نقاط فستتبين الـحقيقة الـمذكورة بوضوح.



النقطة الاولى:

لقد جُبل هذا الانسان على مـحبة غير متناهية لـخالق الكون، وذلك لان الفطرة البشرية تكنّ حباً للـجـمال، ووداً للكمال، وافتتاناً بالاحسان، وتتزايد تلك الـمـحبة بـحسب درجات الـجـمال والكمال والاحسان حتى تصل الى اقصى درجات العشق ومنتهاه.

نعم ان في القلب الصغير لـهذا الانسان الصغير يستقر عشق بكبر الكون. اذ ان نقل مـحتويات ما في مكتبة كبيرة من كتب، وخزنها في القوة الـحافظة للقلب – وهي بـحجـم حبة عدس – يبين ان قلب الانسان يـمكنه ان يضم الكون ويستطيع ان يـحـمل حباً بقدر الكون.

فما دامت الفطرة البشرية تـملك استعداداً غير مـحدود للـمـحبة تـجاه الاحسان والـجـمال والكمال.. وان لـخالق الكون جـمالاً مقدساً غير متناه، ثبوته متـحقق بداهة بآثاره الظاهرة في الكائنات.. وان لـه كمالا قدسياً لا حدود لـه، ثبوته مـحقق ضرورة بنقوش صنعته الظاهرة في هذه الـموجودات.. وان لـه احسانا غير مـحدود ثابت الوجود يقينا، يـمكن لـمسه ومشاهدته ضمن انعامه والآئه الظاهرة في جـميع انواع الاحياء.. فلابد انه سبـحانه يطلب مـحبة لاحد لـها من الانسان الذي هو اجـمع ذوي الشعور صفة، واكثرهم حاجة، واعظمهم تفكراً، واشدهم شوقاً اليه.

نعم، كما ان كل انسان يـملك استعداداً غير مـحدود من الـمـحبة تـجاه ذلك الـخالق ذي الـجلال، كذلك الـخالق سبـحانه هو اهل ليكون مـحبوبا، لاجل جـمالـه وكمالـه واحسانه اكثر من أي احد كان، حتى ما في قلب الانسان الـمؤمن من انواع الـمـحبة ودرجاتها للذين يرتبط بهم بعلاقات معينة، ولاسيـما ما في قلبه من حب تـجاه حياته وبقائه، وتـجاه وجوده ودنياه، وتـجاه نفسه والـموجودات بأسرها، انـما هي ترشحات من تلك الاستعدادات للـمـحبة الإلـهية. بل حتى اشكال الاحساسات العميقة – عند الانسان – ما هي الا تـحولات لذلك الاستعداد، وما هي الارشحاته التي اتـخذت اشكالا مـختلفة.

ومن الـمعلوم ان الانسان مثلـما يتلذذ بسعادته الذاتية، فهو يتلذذ ايضاً بسعادة الذين يرتبط بهم بعلاقة ومـحبة ومثلـما يـحب من ينقذه من البلاء، فهو يـحب من ينـجي مـحبيه من الـمصائب ايضاً.

وهكذا، فاذا ما فكر الانسان وروحه مفعمة بالامتنان لله، في احسان واحد فقط مـما لا يعد ولا يـحصى من الاحسانات العظيـمة التي قد غمر بها الله سبـحانه وتعالى الانسان وشملـه بها، فانه سيفكر على النـحو الآتي:

ان خالقي الذي انقذني من ظلـمات العدم الابدية، ومنـحني منـحة الـخلق والوجود، ووهب لي دنيا جـميلة استـمتع بـجـمالـها هنا على هذه الارض، فان عنايته ايضاً ستـمتد اليّ حين يـحين اجلي، فينقذني كذلك من ظلـمات العدم الابدي والفناء السرمدي، وسيهب لي – من فضل احسانه – عالـماً ابدياً باهرا زاهرا في عالـم البقاء في الآخرة.. وسينعم عليّ سبـحانه بـحواس ومشاعر ظاهرة وباطنة لتستـمتع وتتلذذ في تنقلـها بين انواع ملذات ذلك العالـم الـجـميل الطاهر.

كما انه سبـحانه سيـجعل جـميع الاقارب، وجـميع الاحبة من بني جنسي الذين اكن لـهم حباً عميقاً وارتبط معهم بعلاقة وثيقة، سيـجعلـهم اهلا لـهذه الآلاء والاحسانات غير الـمـحدودة.. وهذا الاحسان – من جهة – يعود عليّ كذلك، اذ انني اتلذذ بسعادة اولئك، واسعد بها.. فما دام في كل فرد حب عميق وافتتان بالاحسان كما في الـمثل: ((الانسان عبد الاحسان)) فلابد ان الانسان امام هذا الاحسان الابدي غير الـمـحدود سيقول:

لو كان لي قلب بسعة الكون لاقتضى ان يـملأ حباً وعشقاً تـجاه ذلك الاحسان الإلـهي، وانا مشتاق لـملئه، ولكن رغم انني لست على مستوى تلك الـمـحبة فعلا، الا انني أهل لـها بالاستعداد والايـمان، وبالنية والقبول، وبالتقدير والاشتياق، وبالالتزام والارادة.

وهكذا ينبغي قياس ما يظهره الانسان من الـمـحبة تـجاه ((الـجـمال)) وتـجاه ((الكمال)) بـمقياس ما اشرنا مـجـملا من الـمـحبة تـجاه ((الاحسان)).

اما الكافر الـملـحد، فانه يـحـمل عداء لاحد لـه فهو يستـخف بالـموجودات من حولـه، ويستهين بها، ويـمتهنها، ويناصبها العداء والكراهية.

النقطة الثانية:

ان مـحبة الله تستلزم اتباع السنة الطاهرة لـمـحـمد e ، لان حب الله هو العمل بـمرضياته، وان مرضاته تتـجلى بافضل صورها في ذات مـحـمد e . والتشبه بذاته الـمباركة في الـحركات والافعال يأتي من جهتين:

احداهما: جهة حب الله سبـحانه واطاعة اوامره، والـحركة ضمن دائرة مرضاته، هذه الـجهة تقتضي ذلك الاتباع، حيث ان اكمل امام وامثل قدوة في هذا الامر هو مـحـمد e .

وثانيتهما: جهة ((ذاته الـمباركة)) e التي هي أسمى وسيلة للاحسان الإلـهي غير الـمـحدود للبشرية، فهي اذاً اهل لـمـحبة غير مـحدودة لاجل الله وفي سبيلـه.

والانسان يرغب فطرة في التشبه بالـمـحبوب ما امكن، لذا فالذين يسعون في سبيل حب ((حبيب الله)) عليهم ان يبذلوا جهدهم للتشبه به باتباع سنته الشريفة.

النقطة الثالثة:

كما ان لله سبـحانه وتعالى رحـمة غير متناهية، فلـه سبـحانه كذلك مـحبة غير متناهية. وكما انه يـحبب نفسه – بصورة غير مـحدودة – بـمـحاسن الكائنات جـميعاً وبـجـمالـها وزينتها الى مـخلوقاته، فانه كذلك يـحب مـخلوقاته، ولا سيـما اصحاب الشعور منهم الذين يقابلون تـحببه لـهم بالـحب والتعظيـم. لذا فان اسمى مقصد الانسان في مرضاة ربه، واجلّ سعيه هو ان يكون موضع نظر مـحبة الله الذي خلق الـجنة بلطائفها ومـحاسنها ولذائذها ونعمها بتـجل من تـجليات رحـمته.

وبـما ان احدا لا يـمكنه ان يكون اهلا لـمـحبته سبـحانه الا باتباع السنة الاحـمدية كما نص عليه كلامه العزيز، اذن فاتباع السنة الـمـحـمدية هو اعظم مقصد انساني واهم وظيفة بشرية.

l النكتة الـحادية عشرة:

وهي ثلاث مسائل:

T الـمسألة الاولى:

أن لسنة الرسول الاعظم e ثلاثة منابع، هي:

اقوالـه، وافعالـه، واحوالـه. وهذه الاقسام الثلاثة هي كذلك ثلاثة اقسام:

الفرائض، النوافل، عاداته e .

ففي قسم الفرائض والواجب، لا مناص من الاتباع، والـمؤمن مـجبر على هذا الاتباع بـحكم إيـمانه. والـجـميع بلا استثناء مكلفون بأداء الفرض والواجب، ويترتب على اهمالـه او تركه عذاب وعقاب.

وفي قسم النوافل، فأهل الإيـمان هم مكلفون به ايضاً حسب الامر الاستـحبابي، ولكن ليس في ترك النوافل عذاب ولاعقاب. غير ان القيام بها واتباعها فيه اجر عظيـم. وتغيير النوافل وتبديلـها بدعة وضلالة وخطأ كبير.

اما عاداته e وحركاته وسكناته السامية فمن الافضل والـمستـحسن جداً تقليدها واتباعها حكمة ومصلـحة سواء في الـحياة الشخصية او النوعية او الاجتـماعية، لان هناك في كل حركة من حركاته الاعتيادية منافع حياتية كثيرة جداً فضلا عن انها بالـمتابعة تصير تلك الآداب والعادات بـحكم العبادة.

نعم، مادام – عليه الصلاة والسلام – متصف بأسمى مراتب مـحاسن الاخلاق، باتفاق الاولياء والاعداء. وانه e هو الـمصطفى الـمـختار من بين بني البشر، وهو اشهر شخصية فيهم باتفاق الـجـميع.. وما دام هو اكمل انسان، بل اكمل قدوة ومرشد بدلالة آلاف الـمعجزات، وبشهادة العالـم الإسلامي الذي كونه، وبكمالاته الشخصية بتصديق حقائق ما بلغة من القرآن الـحكيـم.. وما دام ملايين من اهل الكمال قد سموا في مراتب الكمالات، وترقوا فيها بثمرات اتباعه فوصلوا الى سعادة الدارين... فلابد ان سنة هذا النبي الكريـم e وحركاته هي افضل نـموذج للاقتداء واكمل مرشد للاتباع والسلوك واحكم دستور، واعظم قانون، يتـخذه الـمسلـم اساساً في تنظيـم حياته.

فالسعيد الـمـحظوظ هو من لـه أوفر نصيب من هذا الاتباع للسنة الشريفة.

ومن لـم يتبع السنة فهو في خسران مبين ان كان متكاسلا عنها.. وفي جناية كبرى ان كان غير مكترث بها.. وفي ضلالة عظيـمة ان كان منتقداً لـها بـما يوميء التكذيب بها.

T الـمسألة الثانية:

لقد وصف الله سبـحانه وتعالى الرسول e في القرآن الـحكيـم بقولـه:

} وإنـّكَ لَعلَى خُلُقٍ عَظيـم { (القلـم:4).

ووصفه الصحب الكرام كما وصفته الصحابية الـجليلة الصديقة عائشة رضي الله عنها قائلة: ((كان خُلُقُهُ القرآن))(1). أي: ((ان مـحـمدا e هو الـمثال النـموذج لـما بينه القرآن الكريـم من مـحاسن الاخلاق، وهو افضل من تـمثلت فيه تلك الـمـحاسن، بل انه خلق فطرة على تلك الـمـحاسن)). ففي الوقت الذي ينبغي ان يكون كل من افعال هذا النبي العظيـم e واقوالـه واحوالـه، وكل من حركاته نـموذج اقتداء للبشرية، فما اتعس اولئك الـمؤمنين من امته الذين غفلوا عن سنته e مـمن لا يبالون بها او يريدون تغييرها فما اتعسهم وما اشقاهم!

T الـمسألـه الثالثة:

لـما كان الرسول e قد خلق في افضل وضع وأعدلـه وفي اكمل صورة واتـمها، فحركاته وسكناته قد سارت على وفق الاعتدال والاستقامة، وسيرته الشريفة تبين هذا بياناً قاطعاً بوضوح تام، بأنه قد مضى وفق الاعتدال والاستقامة في كل حركة من حركاته متـجنباً الافراط والتفريط.

نعم لـما كان الرسول e قد امتثل امتثالا كاملا قولـه تعالى } فاستقم كما اُمرت{ (هود:112) فالاستقامة تظهر في جـميع افعالـه واقوالـه واحوالـه ظهوراً لا لبس فيه.

فمثلا: ان قواه العقلية قد سارت دائماً ضمن الـحكمة التي هي مـحور الاستقامة والـحد الوسط، مبرأة عما يفسدها ويكبتها من افراط وتفريط أي الغباء والـخب.

وان قواه الغضبية قد سارت دائماً ضمن الشجاعة السامية التي هي مـحور الاستقامة والـحد الوسط، منزهة عما يفسدها من افراط وتفريط أي الـجبن والتهور.

وان قوته الشهوية قد اتـخذت مـحور الاستقامة دائماً وهي العفة واستقامت عليها باسمى درجات العصمة، فصفت من فساد تلك القوة من افراط وتفريط أي الـخـمود والفجور.

وهكذا فانه e قد اختار حد الاستقامة في جـميع سننه الشريفة الطاهرة وفي جـميع احوالـه الفطرية وفي جـميع احكامه الشرعية، وتـجنب كليا من الظلـم والظلـمات أي الافراط والتفريط، والاسراف والتبذير، حتى انه قد اتـخذ الاقتصاد لـه دليلا متـجنبا الاسراف نهائيا، في كلامه وفي اكلـه وفي شربه.

وقد ألفت في تفصيل هذه الـحقائق آلاف الـمـجلدات، الا اننا اكتفينا بهذه القطرة من البـحر، اذ ((العارف تكفيه الاشارة)).

اللهم صل على جامع مكارم الاخلاق ومظهر سر } وإنـّكَ لَعلَى خُلُقٍ عَظيـم { (القلـم:4) الذي قال: ((من تـمسك بسنتي عند فساد امتي فلـه اجر مائة شهيد)).

} وقَالُوا الـحـمدُ لله الذي هَدينا لـهذا وما كُنا لنهتَدي لولا أنْ هدينا الله لقد جَاءتْ رُسُل ربنا بالـحقَ { (الاعراف:43).

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم {

(البقرة:32)

عبدالقادر حمود 02-01-2011 04:59 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة الثانية عشرة

تـخص نكتتين قرآنيتين لـمناسبة سؤالين جزئيين سألـهما الاخ رأفت

باسمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم وعلى اخوانكم ورحـمة الله وبركاته

اخي الصادق العزيز السيد رأفت(1)!

ان اسئلتك في هذا الوقت العصيب الذي يـحيطني، تـجعلني في وضع مـحرج لأن سؤاليكم – في هذه الـمرة – وإن كانا جزئيين، إلاّ انني رأيتهما على جانب من الاهمية، لـما لـهما من علاقة مع نكتتين قرآنيتين، ولأن سؤالكم حول الكرة الارضية يتعرض للشبهات التي ترد من علـمي الـجغرافية والفلك حول طبقات الارض السبع والسبع الطباق. لذا نبين هنا بياناً علـمياً وكلياً ومـجـملاً نكتتين قرآنيتين بغض النظر عن جزئية السؤال، وانت بدورك تأخذ حصتك منه ازاء سؤاليك الـجزئيين.



النكتة الاولى:

وهي عبارة عن نقطتين:

T النقطة الاولى:

قال تعالى: } وكأيّن دابّة لا تـحـملُ رزقَها الله يرزُقها واياكم { (العنكبوت:60)

} ان الله هو الرزاق ذو القوة الـمتين{ (الذاريات:58)

بدلالة هاتين الآيتين الكريـمتين، الرزق بيد القدير الـجليل وحده، ويـخرج من خزينة رحـمته دون وساطة. فرزق كل ذي حياة بعهدة ربه، فيلزم الاّ يـموت أحد جوعاً. ولكن يبدو ان الذين يـموتون جوعاً، أو من فقدان الرزق كثيرون. ان حل هذا السر وكشف هذه الـحقيقة هو:

ان التعهد الرباني بالرزق وتكفـّلـه لـه بنفسه حقيقة ثابتة. فلا أحد يـموت من عدم الرزق، لان الرزق الذي يرسلـه الـحكيـم ذو الـجلال الى جسم الكائن الـحي يدّخر قسمٌ منه احتياطاً على هيئة شحوم ودهون داخلية. بل يدّخر قسم من الرزق الـمرسل في زوايا حجيرات الـجسم كي يصرف منه واجبات الـجسم عند عدم مـجيء الرزق من الـخارج.

فالذين يـموتون اذاً، انـما يـموتون قبل نفاذ هذا الرزق الاحتياطي الـمدخر، أي أن ذلك الـموت لا ينـجـم من عدم وجود الرزق، وانـما من مرضٍ ناشيءٍ من ترك عادة سيئة من سوء الاختيار.

نعم! ان الرزق الفطري الـمدخر بصورة شحوم في جسم الكائن الـحي، انـما يدوم ويستمر بـمعدل اربعين يوماً كاملاً. بل قد يستمر ضعف ذلك، إثر مرض أو استغراق روحاني. حتى كتبت الصحف – قبل تسع وثلاثين سنة(1) – أن رجلاً قد قضى لعناد سبعين يوماً في سجن لندن دون ان يذوق شيئاً وظل على صحة وعافية.

فما دام الرزق الفطري يدوم اربعين يوماً بل سبعين وثمانين يوماً، وان تـجلي اسم الرزاق ظاهر على مدّ البسيطة بـجلاء، وان الرزق يتدفق من حيث لا يـحتسب من الاثداء ويـخرج من الاكمام. فلابد ان ذلك الاسم يـمدّ الكائن ويسعفه ويـحول بينه وبين الـموت جوعاً قبل انتهاء الرزق الفطري، مالـم يتدخل البشر الـمتلبس بالشر بسوء عملـه.

ولـهذا فالذين يـموتون جوعاً قبل اربعين يوماً، لا يـموتون بسبب عدم الرزق قطعاً، بل من عادة ناشئة من سوء الاختيار ومن مرض ناشيء من ترك العادة، اذ: ((ترك العادات من الـمهلكات)) قاعدة مطردة.

فيصح القول اذاً: انه لا موت من الـجوع.

نعم! انه مشاهد امام الانظار: ان الرزق يتناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار، فمثلاً. ان الطفل قبل ان يولد، وليس لـه من الاختيار والاقتدار شيء، ساكن في رحـم الام، يسيل اليه رزقه دون ان يـحتاج حتى الى حركة شفتيه. وحينـما يفتـح عينيه للدنيا، ولا يـملك اقتداراً ولا اختياراً، الاّ شيء من القابليات، وحسّ كامن فيه، فانه لا يـحتاج الاّ الى حركة إلصاق فمه بالثدي فحسب، واذا بـمنابع الثدي تتدفق برزق هو اكمل غذاء واسهلـه هضماً، وبألطف صورة واعجب فطرة. ثم كلـما نـما لديه الاقتدار والاختيار احتـجب عنه ذلك الرزق الـميسور الـجـميل شيئاً فشيئاً، حتى ينقطع النبع ويغور، فيرسل اليه رزقه من اماكن اخرى. ولكن لأن اقتداره واختياره ليسا على استعداد بعدُ لتتبع الرزق، فان الرزق الكريـم يـجعل شفقة والديه ورحـمتهما مـمدةً لاختياره ومسعفة لاقتداره. ثم لـما يتكامل الاقتدار والاختيار، فلا يعدو الرزق نـحوه، ولا يساق اليه، بل يسكن قائلاً: تعال اطلبني، فتش عني وخذني.

فالرزق اذاً متناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار، بل ان حيوانات لا اقتدار لـها ولا اختيار تعيش افضل واحسن من غيرها كما اوضحنا ذلك في رسائل عدة.

T النقطة الثانية:

للامكان انواع واقسام هي: الامكان العقلي والامكان العرفي والامكان العادي. فان لـم تكن الـحادثة الواقعة ضمن الامكان العقلي، فانها تردّ وترفض. وان لـم تكن ضمن الامكان العرفي ايضاً فإنها تكون معجزة، ولا تكون كرامةً بيسر. وان لـم تكن لـها نظير عُرفاً وقاعدةً فلا تقبل إلاّ ببرهان قاطع بدرجة الشهود.

فبناءً على هذا، فان الاحوال الـخارقة للعادة الـمروية عن السيد احـمد البدوي (قدس سره)(1) الذي لـم يذق طعاماً طوال اربعين يوماً، انـما هي ضمن دائرة الامكان العرفي، وتكون كرامة لـه، بل ربـما هي عادة خارقة لـه.

نعم! ان روايات متواترة تنقل عن السيد احـمد البدوي )قدس سره) أنه اثناء استغراقه الروحاني كان يأكل كل اربعين يوماً مرة واحدة. فالـحادثة وقعت فعلاً، ولكن ليست دائماً، وانـما حدثت بعض الاحيان من قبيل الكرامة. وهناك احتمال ان حالته الاستغراقية كانت غير مـحتاجة الى طعام، لذا اصبـحت بالنسبة اليه في حكم العادة.

وقد رويت حوادث كثيرة موثوقةً من هذا النوع من الاعمال الـخارقة عن اولياء كثيرين من امثال السيد احـمد البدوي (قدس سره).

فان كان الرزق الـمدّخر يدوم اكثر من اربعين يوماً – كما اثبتنا في النقطة الاولى – وان الانقطاع عن الطعام طوال تلك الفترة من الامور الـمـمكنة عادةً، وانه قد رويت تلك الـحالات روايات موثوقة من اشخاص افذاذ، فلابد الاّ تُنكر قطعاً.

السؤال الثاني:

لـمناسبة هذا السؤال نبين مسألتين مهمتين.

لـما عجز اصحاب علوم الـجغرافيا والفلك بقوانينها القاصرة ودساتيرها الضيقة وموازينها الصغيرة ان يرقوا الى سـموات القرآن وان يكشفوا عن الطبقات السبع لـمعاني نـجوم آياته الـجليلة، بدأوا يـحاولون الاعتراض على الآية الكريـمة وانكارها بـحـماقة وبلاهة.

l الـمسألة الـمهمة الاولى:

تـخص كون الارض ذات سبع طبقات كالسموات.

هذه الـمسألة تبدو لفلاسفة العصر الـحديث غير ذات حقيقة، لا تقبلـها علومهم التي تـخص الارض والسموات. فيتـخذون من هذه الـمسألة ذريعة للاعتراض على بعض الـحقائق القرآنية، لذا نكتب بضع اشارات مـختصرة تـخص هذه الـمسألة.

الاولى:

اولاً: ان معنى الآية شيء، وأفراد ذلك الـمعنى وما يشتمل عليه تلك الـمعاني من الـجزئيات شيء لآخر. فان لـم يوجد فرد من افراد كثيرة لذلك الـمعنى الكلي فلا يُنكر ذلك الـمعنى الكلي. علـماً ان هناك سبعة افراد ظاهرةً مصدّقة للافراد الكثيرة للـمعنى الكلي للسموات السبع والارضين السبع.

ثانياً: ان صراحة الآية الكريـمة: } الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلـهن..{ (الطلاق:12) لاتذكر أن الارض سبع طبقات. بل ظاهرها تفيد: ان الله خلق الارض جاعلاً منها مسكناً لـمـخلوقاته كالسموات السبع، فلا تقول الآية: خلقت الارض سبع طبقات. أما الـمثلية (للسموات)) فهي تشبيه بها من حيث كونها مـخلوقة ومسكناً للـمـخلوقات.

الاشارة الثانية:

ان الارض مهما كانت صغيرة جداً بالنسبة للسموات، الاّ انها تعدلـها وتوازيها من حيث انها في حكم معرض للـمصنوعات الإلـهية التي لاتـحد و موضع اشهارها ومركزها. فهي بهذا تعدل السموات العظيـمة وتوازيها، اذ هي كالقلب والـمركز الـمعنوي للسموات، كما يعدل قلب الانسان الـجسد.

ولـهذا فقد فُهم من الآيات الكريـمة: ان الارض سبع طبقات.

اذ الارض سبعة أقاليـم منذ القديـم بـمقياس مصغر.

ثم هي سبع قارات وهي الـمعروفة باسم اوروبا وافريقيا واوقيانوسيا (استراليا) وآسيتين وامريكتين.

ثم هي سبع قطع معروفة في هذا الوجه وفي الوجه الآخر العالـم الـجديد. وهي الشرق والغرب والشمال والـجنوب مع البـحار.

ثم هي سبع طبقات متصلة متبابية ابتداءً من مركزها الى قشرتها الظاهرة، كما هو ثابت علـماً.

ثم هي ذات عناصر سبة مشهورة تعبـّر عنها بالطبقات السبع والـمتضمنة لسبعين عنصراً من العناصر الـجزئية البسيطة التي اصبـحت هي مدار الـحياة.

ثم الطبقات السبع والعوالـم السبعة الـمتكونة من العناصر الاربعة – الـماء والـهواء والنار والتراب – والـمواليد الثلاثة وهي الـمعادن والنباتات والـحيوانات.

ثم عوالـم طبقات الارض السبع، الثابتة بشهادة كثير من اهل الكشف واصحاب الشهود والتي هي مساكن الـجن والعفاريت ومقرات مـخلوقات مـختلفة اخرى ذوات شعور وحياة.

ثم انها سبع طبقات اشارةً الى وجود سبع كرات اخرى شبيهة بكرتنا الارضية، هي مساكن ذوي الـحياة ومقرات لـها، أي ان كرة الارض سبع طبقات اشارة الى وجود سبع كرات ارضية.

هكذا فُهم من الآيات هذه الـمعاني. فاذاً يتـحقق وجود سبع طبقات للارض في سبعة انواع من الطبقات وفي سبعة اشكال وانـماط منها.

أما الـمعنى الثامن وهو الأخير فليس داخلاً في الـمعاني السبعة الـمعدودة وانـما لـه اهمية من ناحية اخرى.

الاشارة الثالثة:

لـما كان الـخالق الـحكيـم لا يسرف في شيء، ولا يـخلق عبثاً، وان الـموجودات انـما وجدت لذوي الشعور، وتـجد كمالـها بذوي الشعور، بل تعمّر بذوي الشعور، لتنقذ من العبث. وان ذلك الـحكيـم الـمطلق والقدير الـجليل يعمّر عنصر الـهواء وعالـم الـماء وطبقات التراب بـما لا يـحد من ذوي الـحياة، كما هو مشاهد. وان الـهواء والـماء لا يـحولان دون جولان الـحيوانات كما لا تمنع الـمواد الكثيفة كالتراب والـحجر سير الكهرباء واشعة رونتكن.. فلابد ان ذلك الـحكيـم ذا الكمال والصانع الباقي لا يترك طبقات الارض السبع الكلية الـمتصلة ببعضها ولا كهوفها وميادينها الواسعة وعوالـمها خالية خاوية ابتداءً من مركزها الى قشرتها الظاهرة التي هي مسكننا.

فلاجرم انه قد عمّر تلك العوالـم وخلق لـها مـخلوقات ذوات شعور يناسبها ويلائمها واسكنهم فيها، ويلزم ان تكون هذه الـمـخلوقات من اجناس الـملائكة والروحانيات التي تكون اكثف الطبقات واصلبها بالنسبة اليها كالبـحر الى السمك والـهواء الى الطير. بل يقتضي ان تكون نسبة النار الـهائلة الـمرعبة في مركز الارض الى تلك الـمـخلوقات الشاعرة كنسبة حرارة الشمس الينا، وحيث ان الروحانيات الشاعرة مـخلوقات من نور، فالنار تكون كالنور لـهم.

الاشارة الرابعة:

لقد ذكر في ((الـمكتوب الشامن عشر)) مثال حول تصويرات خارجة عن نطاق العقل بيـّنها اهلُ الكشف فيـما يـخص عجائب طبقات الارض، وخلاصته:

ان كرة الارض بذرة في عالـم الشهادة، بينـما هي كشجرة ضخـمة تضارع عظمتها السموات في عالـم الـمثال والبرزخ، فمشاهدة اهل الكشف لطبقة الارض الـخاصة بالعفاريت في كرة الارض بـمسافة الف سنة ليست مشاهدتهم لـها في بذرة الارض التي تـخص عالـم الشهادة، بل هي تظاهر لطبقات الارض وفروعها الـمـمتدة في عالـم الـمثال.

فان كانت طبقة واحدة – لا اهمية لـها ظاهراً – من طبقات الارض قد حازت هذه الاهمية العظمى في عالـم آخر، ألا يصح ان يقال اذاً ان الارض هي سبع طبقات تقابل سبع سموات؟. فالآيات الكريـمة تشير بايـجاز معجز، الى تلك النقاط الـمذكورة وتنبه عليها، وذلك باظهارها هذه الارض الصغيرة جداً مكافئة لطبقات السموات السبع.

l الـمسألة الـمهمة الثانية:

قولـه تعالى:} تسبـح لـه السموات السبع والارض ومن فيهن{ (الاسراء:44) و } ثم استوى الى السّماء فسويهن سبعَ سموات وهو بكل شيءٍ عليـم { (البقرة:29)

هاتان الآيتان وامثالـهما من الآيات الكريـمة تبين أن السموات سبع. نرى من الانسب اختصار ما ذكرناه في تفسير ((اشارات الاعجاز)) الذي الف في جبهة القتال اثناء السنة الاولى من الـحرب العالـمية الاولى، اذ جاءت فيه هذه الـمسألة في غاية الإجـمال والاختصار الشديد بسبب ظروف الـحرب.

ان الـحكمة القديـمة قد تصورت السموات انها تسعُ سموات، فزادت على السموات السبع، العرش والكرسي الواردين في الشرع، فكان تصويراً عجيباً لـها. ولقد استولت على البشرية طوال عصور مديدة تلك التعابير الرنانة لفلاسفة الـحكمة القديـمة وحكمائها حتى ان مفسرين كثيرين اضطروا الى امالة ظواهر الآيات الى مذهبهم مـما ادىّ الى اسدال ستار على اعجاز القرآن، الى حد ما.

أما الـحكمة الـجديدة الـمسماة الفلسفة الـحديثة فتقول بـما يفيد انكار السموات ازاء ما كانت تدّعيه الفلسفة القديـمة من ان السموات غير قابلة للاختراق والالتئام. فقد فرّط هؤلاء كما أفرط اولئك. وعجز الاثنان عن بيان الـحقيقة بياناً شافياً.

أما حكمة القرآن الكريـم الـمقدسة فانها تدع ذلك الافراط والتفريط متـخذة الـحد الوسط، فهي تقول:

ان الصانع جل جلالة خلق سبع سموات طباقاً، أما النـجوم السيارة فهي تسبـح وتسبـح في السماء كالاسماك في البـحر. وقد جاء في الـحديث الشريف ((ان السماء موج مكفوف))(1) أي كبـحر استقرت امواجه. هذه الـحقيقة نثبتها بسبع قواعد وبسبعة وجوه من الـمعاني، وباختصار شديد:

القاعدة الاولى:

انه قد ثبت علـماً وفلسفة ((حكمة)) ان هذا الفضاء الوسيع مـملوء بـمادة تُسمى الاثير، وليس خالياً فارغاً لانهاية لـه.

القاعدة الثانية:

انه ثابت علـماً وعقلاً بل مشاهدةً؛ ان رابطة قوانين الاجرام العلوية – كالـجاذبية والدافعة – وناشرةَ القوى الـموجودة في الـمادة وناقلتَها – كالضياء والـحرارة والكهرباء – انـما هي مادة موجودة في ذلك الفضاء مالئة لـه.

القاعدة الثالثة:

انه ثابت بالتـجارب ان مادة الاثير – مع بقائها أثيراً – لـها انـماط مـختلفة من الاشكال ولـها صور متنوعة كسائر الـمواد، فكما يـحصل ثلاثة انواع من اشكال الـمواد:

الغازية والسائلة والصلبة من الـمادة نفسها كالبـخار والـماء والثلـج، كذلك لا مانع عقلاً من أن تكون سبعة انواع من الطبقات من مادة اثيرية، ولا اعتراض عليه.

القاعدة الرابعة:

انه لو اُنعم النظر في الاجرام العلوية يُرى في طبقاتها تـخالفٌ، فكما ان الطبقة التي تـحوي درب التبانة الـمشاهد كسحاب، لا تشبه طبقة النـجوم الثوابت البتة، حتى كأن نـجوم طبقة الثوابت ثمار ناضجة مكتملة كفواكه الصيف، بينـما نـجوم لا تـحد لدرب التبانة الـمشاهد كسحاب تنعقد مـجدداً وتتكامل. وطبقة الثوابت نفسها لا تشبه ايضاً الـمنظومة الشمسية بـحدس صادق. وهكذا يُدرك بالـحدس والـحس تـخالف الـمنظومات السبع والطبقات السبع.

القاعدة الـخامسة:

لقد ثبت حدساً وحسّاً واستقراءً وتـجربة أنه اذا وقع التشكل والتنظيـم في مادة تتولد منها مصنوعات اخرى فانها تأخذ اشكالاً مـختلفة وطبقات متباينة.

فمثلاً حينـما تبدأ التشكلات في معدن الالـماس يتولد منه الرماد والفحـم والألـماس. وحينـما تبدأ النار بالتشكل تتميز جـمراً ولـهباً ودخاناً. وعندما يـمزج مولد الـماء ومولد الـحـموضة يتشكل منهما الـماء والثلـج والبـخار.

يفهم من هذا أنه اذا وقع التشكل في مادةٍ ما تنقسم الى طبقات، لذا فالقدرة الفاطرة لـما شرعت بالتشكيل في مادة الاثير خلقت منها سبعة انواع من سموات على طبقات مـختلفة كما جاءت في قولـه تعالى:

} فسويهن سبعَ سموات..{ (البقرة:29).



القاعدة السادسة:

ان هذه الامارات الـمذكورة تدل بالضرورة على وجود السموات وعلى تعددها، فالسموات اذاً متعددة قطعاً، وحيث أن الـمـخبر الصادق قد قال بلسان القرآن: هي سبعة، فهي سبعة.

القاعدة السابعة:

ان التعابير: سبعة، وسبعين وسبعمائة وامثالـها تفيد الكثرة في اساليب اللغة العربية، أي يـمكن ان يضم تلك الطبقات السبع الكلية طبقات كثيرة جداً.

حاصل الكلام:

ان القدير ذا الـجلال خلق سبع سـموات طباقاً من مادة الاثير، وسوّاها ونظـّمها بنظام عجيب دقيق، وزرع فيها النـجوم. ولـما كان القرآن الكريـم خطاباً ازلياً للـجن والانس بطبقاتهم كافة، فكل طبقة من البشر تأخذ اذاً حصتها من كل آية من القرآن الكريـم، وكل آية ايضاً تُشبع أفهام كل طبقة من الناس، أي لكل آية معان متنوعة متعددة ضمناً واشارة.

نعم! ان سعة خطاب القرآن وشمول معانيه واشاراته ومراعاته درجات افهام الطبقات عامة ومداركهم من ادنى العوام الى اخص الـخواص تبين: ان كل آية لـها وجه متوجه الى كل طبقة من الناس.

ولأجل هذا فقد فَهمتْ سبعُ طبقات بشرية سبع طبقات مـختلفة من الـمعاني ضمن الـمعنى الكلي للآية الكريـمة: } سبعَ سموات.. { (البقرة:29) . كالآتي:

بفهم ذوو النظر القاصر والفكر الـمـحدود من الناس انها: طبقات الـهواء النسيـمية.

والذين اغتروا بعلـم الفلك يفهمونها: النـجوم الـمعروفة بالسيارات السبع ومداراتها لدى الناس.

ومن الناس من يفهمها: سبع كرات سماوية اخرى شبيهة بارضنا التي هي مقر ذوي الـحياة.

وتفهمها طائفة من البشر: سبع منظومات شمسية اولاها منظومتنا هذه وانقسام الـمنظومة الشمسية الى سبع طبقات.

وطائفة اخرى من البشر تفهمها: انقسام تشكلات الاثير الى سبع طبقات.

وطبقة اخرى واسع الادراك والفهم، تفهم: ان السموات الـمرئية كلـها، الـمرصعة بالنـجوم ليست الاّ سماء واحدة وهي السماء الدنيا، وهناك ست سموات اخرى فوقها لا تُرى.

وطبقة سامية من الناس وهم الطبقة السابعة ذوو ادراك عالٍ لا يرون انـحصار سبع سموات في عالـم الشهادة فقط، بل هي سبع سموات تسقّف وتـحيط بالعوالـم الاخروية والغيبية والدنيوية والـمثالية.

وهكذا ففي كلية هذه الآية الكريـمة معان اخرى كثيرة جزئية جداً شبيهة بهذه الطبقات السبع الـمذكورة من الـمعاني التي تراعي افهام سبع طبقات من الناس. فكلٌ يستفيض بقدر استعداده من فيض القرآن ويأخذ رزقه من الـمائدة السماوية العامرة.

فما دامت هذه الآية الكريـمة تـحوي معاني مصدّقة لـها الى هذا الـحد، فان انكار الفلاسفة الـحاليين الـمـحرومين من العقل وجحود علـماء الفلك الـمـخـمورين، السموات واتـخاذ هذا الانكار وسيلة تعرضٍ لأمثال هذه الآية الـجليلة، ان هو الاّ كرمي الصبيان الفاسدي الـمزاج النـجومَ العوالي بالـحجارة بغية اسقاط واحدة منهاّ ذلك:

لأن معنى واحداً لـهذه الآية من بين تلك الـمعاني الكثيرة إن كان صدقاً فان الـمعنى الكلي يكون صدقاً وصواباً، حتى لو ان فرداً واحداً من تلك الـمعاني، لا وجود لـه في الواقع إلاّ في ألسنة الناس، يصح أن يكون داخلاً ضمن ذلك الـمعنى الكلي، رعايةً لأفكار العامة. فكيف ونـحن نرى كثيراً جداً من افراده صدقاً وحقيقةً.

الا ترى هؤلاء الـمغمورين بسُكر الـجغرافية وعلـم الفلك الذين لا ينصفون، كيف يقعون في خطأ فيغمضون عيونهم عن الـمعنى الكلي الذي هو حق وحقيقة وصدق، فلا يرون مصدّقات الآية الكثيرة جداً، ويتوهمون معنى الآية منـحصراً في فرد خيالي عجيب. فرشقوا الآية الكريـمة بالـحجارة، فارتدت على رؤوسهم فسكرتها، ففقدوا صوابهم وايـمانهم.



مـحصل الكلام:

لـما عجز ارباب الافكار الـمادية الـملـحدة كالشياطين والـجن، من الصعود الى الطبقات السبع للقرآن الكريـم النازل على القراءات السبع والوجوه السبعة والـمعجزات السبع والـحقائق السبع والاركان السبعة، جهلوا ما في الآيات من معان. فيـخبرون احكاماً كاذبة خاطئة. فينزل على رؤوسهم شهابٌ رصدٌ من نـجوم تلك الآيات بالتـحقيقات العلـمية الـمذكورة فتـحرقهم.

نعم! انه لا يـمكن الرقي الى تلك السموات القرآنية بفلسفة فلاسفة يـحـملون افكاراً شيطانية خبيثة. وانـما يـمكن الصعود الى نـجوم تلك الآيات بـمعراج الـحكمة الـحقيقية ويـمكن الطيران اليها بـجناح الإيـمان والإسلام.

اللهم صل على شـمس سـماء الرسالة وقمر فلك النبوة وعلى آلـه وصحبه نـجوم الـهدى لـمن اهتدى.

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم {

(البقرة:32)

اللهم يارب السموات والارضين زيّن قلوب كاتب هذه الرسالة ورفقائه بنـجوم حقائق القرآن والإيـمان.. آمين

عبدالقادر حمود 02-01-2011 05:02 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة الثالثة عشرة

حكمة الاستعاذة

تـخص حكمة ((اعوذ بالله من الشيطان الرجيـم))

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} وقل ربِّ اعوذ بك من هـمزات الشياطين ` واعوذ بك ربِّ ان يـحضرون { (الـمؤمنون:97-98)

هذا البـحث يـخصّ حكمة الاستعاذة من الشيطان. ستكتب ثلاث عشر إشارة بشكل مـجـمل، حيث أن قسماً منه قد اُثبت ووُضّح في ((الكلـمة السادسة والعشرين)) وفي رسائل اخرى بصورة متفرقة.

الاشارة الاولى:

سؤال: ان الشياطين ليس لـهـم تدخل في شؤون الـخلق والايـجاد في الكون، وأن الله سبـحانه وتعالى – برحـمته وعنايته – ظهيرٌ لأهل الـحق، فضلاً عن أن جـمال الـحق وحُسنه يشوّق أهلـه ويؤيدهـم، بعكس الضلالة الـمستهجنة بقبـحها الـمنفّر، فما الـحكمة في أن حزب الشيطان هو الغالب في اكثر الاحوال، وما السر في إستعاذة اهل الـحق في كل حين بالله سبـحانه من شرّ الشيطان؟.

الـجواب: السرّ والـحكمة هـما كما يأتي:

ان الضلالة والشرّ بأكثريتها الـمطلقة شيءٌ عدمي وسلبي وغير أصيل، وهي إخلال وتـخريب. أما الـهداية والـخير فهي بأكثريتها الـمطلقة ذات وجود وشيء ايـجابي واصيل وهي اعمارٌ وبناء. ومن الـمعلوم أنه يتـمكن رجلٌ واحد في يوم واحد ان يهدم ما بناه عشرون رجلاً في عشرين يوماً، وأن حياة الانسان التي تبقى باستـمرار اعضائه الاساس ضمن شرائط الـحياة، مع أنها تـخصّ قدرة الـخالق جلّ وعلا، الاّ أنها تتعرض الى الـموت – الذي هو عدمٌ بالنسبة لـها – إذا ما قطع ظالـم عضواً من جسم ذلك الانسان. ولـهذا سار الـمثل: ((التـخريبُ أسهلٌ)) من التعمير.

فهذا هو السرّ في أن اهل الضلالة بقدرتهـم الضعيفة حقاً يغلبون احياناً أهل الـحق الأقوياء جداً.

ولكن لأهل الـحق قلعة منيعة ما ان يتـحصنوا بها ويلوذوا بها، فلا يـجرؤا ان يتقرب اليهـم اولئك الأعداء الـمـخيفون ولا يـمكنهـم أن يـمسوهـم بسوء، ولئن اصابهـم شيء منهـم – مؤقتاً – فالفوز والثواب الأبدي الذي ينتظرهـم في بشرى القرآن الكريـم: } والعاقبَةُ للـمتـّقينَ { (الأعراف:128) يُذهب أثر ذلك الضرّ والقرح.

وتلك القلعة الشامـخة، وذلك الـحصن الـمنيع هي الشريعة الإلـهية وسنّة النبي e .

الاشارة الثانية:

وهي الـمسألة التي تـخطر في أذهان الكثيرين:

إن خلق الشياطين وهـم الشر الـمحض وتسليطَهـم على اهل الإيـمان، وسوقهـم كثيراً من الناس الى الكفر ودخولـهـم النار بـمكايدهـم، هو قبـح ظاهر. وأمرٌ مُرعب. فياتُرى كيف ترضى رحـمةُ ذلك الرحيـم الـمطلق، ويسمح جـمال ذلك الـجـميل الـمطلق وهو الرحـمن ذو الـجـمال، بهذا القُبـح غير الـمتناهي والـمصيبة العظمى؟!.

الـجواب:

انه إزاء الشرور الـجزئية للشياطين، تكمن في وجودهـم كثير من الـمقاصد الـخيّرة الكلية وكمالات، ترقى بالانسان في سلـم الكمال.

نعم، كما ان هناك مراتب كثيرة بدءاً من البذرة الى الشجرة الباسقة، كذلك للاستعدادات الفطرية الكامنة في ماهية الانسان من الـمراتب والدرجات ما تفوق ذلك، بل قد تصل الى الـمراتب الـموجودة بين الذرة والشمس. ولكي تظهر هذه الاستعدادات وتنبسط لابد لـها من حركة، ولابد لـها من تفاعل وتعامل. فحركة لولب الرقيّ ونابض السموّ في ذلك التعامل هي بـ ((الـمـجاهدة)). ولا تـحصل هذه ((الـمـجاهدة)) الاّ بوجود الشياطين والاشياء الـمضرّة، اذ لولا تلك ((الـمـجاهدة)) لظلـّت مرتبة الانسان ثابتة كالـملائكة، وعندها ما كانت لتظهر تلك الاصناف السامية من الناس التي هي بـحكم الآلاف من النواع في الانواع الانساني. وحيث انه ليس من الـحكمة والعدالة بشيء ان يُترك الـخير الكثير جداً تـجنباً لـحصول شرّ جزئي، فان انزلاق كثير من الناس بـخطوات الشيطان، لا يـحـمل اهـمية كبيرة مادام التقويـم والاهـمية يأخذ ((النوعية)) بنظر الاعتبار ولا ينظر الى الكمية الاّ قليلاً، بل قد لا ينظر اليها.

مثال ذلك:

شخص لديه ألف وعشرٌ من البذور، زرعها في التراب، فجعلـها تتعرض للتفاعلات الكيـمياوية. فاذا أنبتت عشرٌ من تلك البذور وأينعت، فان الـمنافع الـحاصلة منها تفوق – بلا شك – خسارة الألف بذرة التي تعرضت للتلف والفساد.

وهكذا، فان الـمنافع والـمنزلة والاهـمية التي حازتها البشرية من عشرة أشخاص كاملين يتلألأون كالنـجوم في سمائها، والذين أخذوا بيد الانسانية الى مراقي الفلاح، وأضاءوا السُبُل أمامهـم واخرجوهـم الى النور بـمـجاهدتهـم للنفس والشيطان.. لاشك أنها تزيل ما يلـحق بها من أثر الضرر الناجـم من كثرة الداخلين في حـمأة الكفر من الضالين الذين يعدّون من جنس الـحشرات لتفاهتهـم. لـهذا فقد رضيت العدالةُ الإلـهية وحكمتُها وسمحت الرحـمة الربـّانية بوجود الشياطين وتسلـّطها.

فيا معشر أهل الإيـمان! ان درعكم الـمنيع لصد اولئك الاعداء، هو التقوى الـمصنوعة في دوحة القرآن الكريـم. وان خنادقكم الـحصينة هي سُنـّة نبيـّكم عليه افضل الصلاة والسلام. وأما سلاحكم فهو الاستعاذة والاستغفار والالتـجاء الى الـحرز الإلـهي.

الاشارة الثالثة:

سؤال:

أين يكمن السرّ والـحكمة في وعيد القرآن الـمرعب وتهديده لأهل الضلالة تـجاه عملٍ جزئي صَدَر منهـم، مـما لا يتناسب بظاهر العقل مع بلاغته التي تتـّسم بالعدالة والانسجام وأسلوبه الـمعجز الرزين. اذ كأنه يـحشّد الـجيوش الـهائلة تـجاه شخص عاجز لا حظّ في الـملك، فيُكسِبُه منزلة شريك متـجاوز حدِّة؟

الـجواب: ان سر ذلك وحكمته:

ان في وسع الشياطين ومَن تبعهـم أن يقوموا بتـخريب مدمّر بـحركة بسيطة تصدر منهـم، لأنهـم يسلكون طريق الضلالة، فيلـحقون بفعل جزئي يصدر منهـم خسائر جسيـمة بـحقوق الكثيرين، مَثبهـم في هذا كمثل رجلٍ ركب سفينة تـجارية عامرة للـملك ثم خرقها خرقاً بسيطاً، او ترك واجباً كان عليه أن يؤديه، فأهدر بفعلـه هذا جهدَ مَن في السفينة، وأفسد عليهـم جنَي ثمار عملـهـم فيها، وأبطل نتائج أعمال كل مَن لـه علاقة بها، لذا سيهدده الـملك السفينة تهديداتٍ عنيفة، باسم جـميع رعاياه في السفينة وجـميع الـمتضررين فيها، وسيعاقب أشد العقاب حتـماً، لا لـحركته الـجزئية أو تركه الواجب، وانـما للنتائج الـمترتبة على تلك الـحركة أو الترك البسيط، وليس لتـجاوزه حـمى الـملك، وانـما لتعدّيه على حقوق الرعية جـميعها.

وكذلك سفينة الارض، ففيها مع الـمؤمنين اهل الضلال من حزب الشيطان الذين يستـخفّون بنتائج الوظائف الـحكيـمة الـموجودات الرائعة بل يعادونها عبثاً وباطلاً، فيـحقرون بذلك جـميعها، مـما تشكـّل خطيئاتهـم ومعاصيهـم – الـجزئية في الظاهر – تـجاوزاً واضحاً وتعدّياً صارخاً على حقوق الـموجودات كافةً، لذا فان الله سبـحانه وهو ملك الأزل والابد يـحشّد التهديدات الـمروّعة ضد ذلك التدمير الصادر من أهل الضلالة. وهذا هو الانسجام التام في اسلوب القرآن الكريـم والتوافق الرائع، وهو الـحكمة البالغة الـخالصة الـمستترة في روع البلاغة التي هي مطابقة الكلام لـمقتضى الـحال، وهي بعيدة كل البعد ومنزّهو كل التنزيه عن الـمبالغة التي هي الاسراف في الكلام.

فيا هلاك ويا ضياع مَن لا يـحصّن نفسه بـحصن منيع من اولئك الاعداء الألداء الذين يقومون بتـخريب مروّع وتدمير هائل بـحركاتهـم الـجزئية.

فيا اهل الإيـمان! أمامكم الـحصن السماوي الـمنيع.. انه القرآن الكريـم.. أدخلوا فيه، وانقذوا انفسكم..

الاشارة الرابعة:

لقد اتفق العلـماء الـمحققون وأهل الكشف على أن العدم شرٌ محض.. والوجود خيرٌ محض.

نعم، ان الـخير والـمحاسن والكمالات – بأكثريتها الـمطلقة – تستند الى الوجود وتعود اليه، فأساسها ايـجابي ووجودي، أي ذو اصالة وفاعلية، وإن بَدَت ظاهراً سلبية وعدمية.

وان اساس وأصل الضلالة والشر والـمصائب والـمعاصي والبلايا وامثالـها من الـمكاره هو عدمٌ وسلبي. وما فيها من القبـح والسوء فناجـمان من عدميتها، وان بدت ظاهراً ايـجابية ووجوداً، لأن اساسها عدم ونفي أي بلا اساس وبلا فعل ايـجابي.

ثم ان وجود البناء يتقرر بوجود جـميع أجزائه كما هو ثابت بالـمشاهدة، بينـما عدمه ودماره يـمكن ان يـحصل بتهدّم احد اركانه وعدمه.

أي أنّ الوجود يـحتاج الى علـّةٍ موجودة، ولابد أن يستند الى سبب حقيقي، بينـما العدمُ يـمكن أن يستند الى امور عدمية ويكون الامر العدمي علـّةً لشيء معدوم.

فبناءً على هاتين القاعدتين:

فان شياطين الانس والاجن ليس لـهـم ولو بـمقدار ذرة واحدة نصيبٌ في الـخلق والايـجاد وما تكون لـهـم اية حصة في الـملك الإلـهي، مع أن لـهـم آثاراً مـخيفة وانواعاً من الكفر والضلالة واعمالاً شريرة ودماراً هائلاً، اذ لا يقومون بتلك الامور بقدراتهـم وقوتهـم الذاتية، بل ان اغلب اعمالـهـم ليس فيها فعلٌ وقدرة حقيقية، وانـما هي من نوع: ترك الفعل، وتعطيل العمل: وصد للـخير، فيعملون الشرّ بالصرف عن الـخير، فتـحصل الشرور.

لأن الشرور والـمهالك هي من نوع الـهدم والتـخريب فلا يلزم أن تكون علـّتُها ايـجاداً فاعلاً، ولا قدرةً موجودة، اذ يـمكن التـخريب الـهائل بأمر عدمي، وبافساد شرط. ولعدم وضوح هذا السرّ عند الـمـجوس فقد اعتقدوا بوجود خالق للـخير وأسموه ((يزدان)) وخالق للشر وأسموه ((أهريـمان)) بينـما لا يعدو هذا الالـه الـموهوم سوى الشيطان الذي يكون سبباً للشرور ووسيلة لـها، بالارادة الـجزئية وبالكسب، دون الايـجاد.

فيا اهل الإيـمان! ان امضى سلاحكم ضد هذه الـمهالك الـمفزعة للشياطين واهـم وسيلتكم للبناء والتعمير هو: الاستغفار والالتـجاء الى الله سبـحانه وتعالى بقولكم:

أعوذ بالله. واعلـموا ان قلعتكم هي سنة رسولكم عليه افضل الصلاة والسلام.

الاشارة الـخامسة:

انه على الرغم من توفر اسباب الـهداية والاستقامة ووسائل الارشاد امام اهل الإيـمان بـما بيّنه الله سبـحانه لـهـم في كتبه الـمقدسة كافة من مثوبة وهي نعيـم الـجنّة ومن عقاب أليـم وهو نار جهنـم، ومع ما كرّرة سبـحانه من توجيه وتنبيه وترغيب وتـحذير.. يُغلبُ اهل الإيـمان امام الدسائس الدنيئة والضعيفة التافهة الصادرة عن حزب الشيطان!!.

كان هذا يأخذ قسطاً كبيراً من تفكيري، إذ كيف لا يهتـم صاحب الإيـمان بذلك الوعيد الـمـخيف من ربّ العالـمين؟. وكيف لا يزول ايـمانه وهو يعصي ربَّه مُتـَّبعاً خطوات الشيطان ومكايده الضعيفة كما في قولـه تعالى: } إنَّ كَيدَ الشّيطان كانَ ضَعيفاً{ (النساء:76)؟ حتى ان بعضاً من أصدقائي الـمقرّبين بعد أن سمع منّي مائةً من دروس الـحقائق الإيـمانية وصدَّق بها تصديقاً قلبياً، ومع شدة علاقته وحسن ظنّه بي فقد انـجرف لثناءٍ تافهٍ ورخيص من رجلٍ فاسد ميّت القلب، فانـجذب اليه، مـما دفعه ليكون في الصف الـمعادي لي. فقلتُ في نفسي: يا سبـحان الله!! هل يـمكن للانسان أن يهوي الى هذا الدرَك؟. كم كان هذا الرجل ذا معدن رخيص؟ فأثمت من اغتياب هذا الـمسكين.

ثم انكشفت ولله الـحـمد حقائق الاشارات السابقة فأنارت كثيراً من الامور الغامضة.. فعلـمتُ بذلك النور: ان تكرار الترغيب والـحث في القرآن الكريـم ضروري جداً، ومناسب وملائم للـحال.. وان انـخداع اهل الإيـمان بـمكايد الشيطان لا ينـجـم عن عدم الإيـمان، ولا من ضعفه.. وانه لا يكفـَّر من ارتكب الكبائر. فالـمعتزلة وقسمٌ من الـخوارج قد أخطأوا حين كفّروا مُرتكب الكبائر او جعلوه في منزلةٍ بين الـمنزلتين.. وان صديقي الـمسكين، الذي ضحّى بتلك الدروس الإيـمانية لثناء شخصٍ تافه، لـم يسقط في الـهاوية كثيراً، ولـم ينـحط الى الـحضيض كلياً – كما تصّورت – فشكرتُ الله سبـحانه الذي أنقذني من تلك الورطة.

ذلك لأن الشيطان – كما قلنا سابقاً – بأمر سلبي جزئي منه يورد الانسان الـمهالك الـخطيرة .. وأن النفس التي بين جَنبيّ الانسان دائمة الانصات الى الشيطان.. وان قوته الشهوانية والغضبية هـما بـمثابة جهاز لاقط وجهاز توصيل لـمكايد الشيطان. ولذلك فقد خصص الله سبـحانه وتعالى اسمين من اسمائه الـحسنى (الغفور، الرحيـم) ليتـجليـّا بالتـجليّ الاعظم ويتوجها الى اهل الإيـمان، واوضح في القرآن الكريـم ان أعظم اِحسانٍ لـه للأنبياء عليهـم السلام هو: الـمغفرة.. فدعاهـم الى: الاستغفار. وانه سبـحانه بتكراره ((بسم الله الرحـمن الرحيـم)) وجعلـها بدءاً لكل سورة ولكل أمرٍ ولكل ذي بال، جعل رحـمته التي وسعت كل شيء هي الـملاذ والـملـجأ لأهل الإيـمان، وهي الامان والنـجاة لـهـم من الشيطان. وجعل الـحاجز الـمانع لـهـم من الشيطان ودسائسه هو في: ((اعوذ بالله من الشيطان الرجيـم)) وذلك بأمره: } فاستَعِذْ بالله{ (النـحل:98).

الاشارة السادسة:

ان اخطر دسائس الشيطان هو أنه يُلبس على بعض ذوي القلوب الصافية والـحس الـمرهف: تـخيـّلَ الكفر بتصديق الكفر، ويُظهر لـهـم تصوّرَ الضلالة تصديقاً للضلالة نفسها، ويـجلب الى خيالـهـم خواطر قبيـحة في حق الاشخاص والامور الـمنزّهة الـمقدسة، ويوهـمهـم بالشك في بعض يقينيات الإيـمان بـجعل الامكان الذاتي في صورة الامكان العقلي. وعندئذ يظنّ هذا الـمسكين الـمرهف الـحسّ أنه قد هوى في الكفر والضلالة، ويتوهـم أنه قد زال يقينه الإيـماني، فيقع في اليأس والقنوط. ويكون بيأسه هذا اضحوكة للشيطان الذي ينفث في يأسه القاتل، ويضرب دوماً على وتره الـحسّاس، وينفخ في التباساته ويثيرها، فاما أن يـخلّ بأعصابه وعقلـه، أو يدفعه الى هاوية الضلالة.

وقد بـحثنا في بعض الرسائل مدى تفاهة هذه الـهـمزات والوساوس، وكيف أنها لاسند لـها و لا اساس، أما هنا فسنـجـملـها بـما يأتي:

كما ان صورة الـحيّة في الـمرآة لا تلدغ، وانعكاس النار فيها لا يـحرق، وظل النـجس فيها لا ينـجس، كذلك ما ينعكس على مرآة الـخيال او الفكر من صورِ الكفر والشرك، وظلال الضلالة، وخيالات الكلـمات النابية والشتـم، لا تفسد العقيدة واليقين ولا تغير الإيـمان، ولا تثلـم أدب التوقير والاحترام. ذلك لانه من القواعد الـمقررة: ((تـخيل الشتـم ليس شتـماً، وتـخيل الكفر ليس كفراً، وتصوّرَ الضلالة ليس ضلالةً)).

أما مسألة الشك في الإيـمان، فان الاحتـمالات الناشئة من ((الامكان الذاتي)) لا ينافي اليقين ولا يـخلّ به. اذ من القواعد الـمقررة في علـم اصول الدين: ((أن الامكان الذاتي لا ينافي اليقين العلـمي)).

فمثلاً: نـحن على يقين من أن بـحيرة ((بارلا)) مـملوة بالـماء ومستقرةٌ في مكانها، الاّ انه يـمكن أن تـخسف في هذه اللـحظة. فهذا امكان ذاتي واحتـمال، وهو من الـمـمكنات. ولكن لأنه لـم ينشأ من أمارة، او دليل، فلا يكون ((امكاناً ذهنياً)) حتى يوجب الشك. لأن القاعدة الـمقررة في علـم اصول الدين أنه: ((لاعبرة للاحتـمال غير الناشىء عن دليل)) بـمعنى: لا يكون الاحتـمال الذاتي الذي لـم ينشأ عن أمارة امكاناً ذهنياً، فلا أهـمية لـه كي يوجب الشك. فبمثل هذه الامكانات والاحتـمالات الذاتية يظن الـمسكين الـمبتلى انه قد فقد يقينَه بالـحقائق الإيـمانية. فيـخطر ببالـه مثلاً خواطر كثيرة من الامكان الذاتي من جهة بشرية الرسول e ، ولاشك أنها لا تـخلّ بيقينه وجزمه الإيـماني، ولكن ظنه أن هذا يضرّ هو الذي يسبب لـه الضرر.

واحياناً اخرى تُلقي لـمةُ الشيطان – التي هي على القلب – كلاماً لا يليق بـجلال الله سبـحانه وتعالى. فيظن صاحبه أن قلبه هو الذي فَسَد فصدر عنه هذا الكلام، فيضطرب ويتألـم. والـحال أن اضطرابه وخوفه وعدم رضاه دليلٌ على أن تلك الكلـمات لـم تكن صادرةً من قلبه، وانـما هي من اللـمة الشيطانية، او أن الشيطان يـخيّلـها اليه ويذكـّره بها.

وكذلك فان من بين اللطائف الانسانية – وهي بضع لطائف لـم استطع تشخيصها – ما لا ترضخ للارادة والاختيار، ولا تدخل تـحت وطأة الـمسؤولية – فتتـحكم احياناً وتسيطر دون أن تنصت لنداء الـحق، وتلـج في أمور خاطئة، عندئذ يُلقي الشيطان في رَوع هذا الانسان الـمبتلى: ان فطرتَك فاسدة لا تنسجـم مع الإيـمان والـحق، ألا ترى أنها تلـج بلا ارادة في مثل هذه الامور الباطلة؟ اذن فقد حكم عليك قَدَرك بالتعاسة وقضى عليك بالشقاء!!. فيهلك ذلك الـمسكين في هذا اليأس الـمدمّر.

وهكذا فان حصن الـمؤمن الـحصين من الدسائس الشيطانية الـمتقدّمة هي الـمـُحكمات القرآنية والـحقائق الإيـمانية الـمرسومةُ حدودُها بدساتير العلـماء الـمحققين والاصفياء الصالـحين. أما الدسائس الاخيرة فانها تُردّ بالاستعاذة بالله سبـحانه وتعالى وباهـمالـها، لأن من طبيعة الوساوس أنها تكبر وتتضخـم كلـما زاد الاهتـمام بها. فالسُنّة الـمحـمدية للـمؤمن هي البلسم الشافي لـمثل هذه الـجراحات الروحية.



الاشارة السابعة:

سؤال:

ان أئمة الـمعتزلة عندما اعتبروا أن ايـجاد الشر شرٌ، لـم يردّوا الى الله سبـحانه خلقُ الكفر والضلالة، فكأنهـم بهذا ينزّهونه سبـحانه ويقدسونه/ فقالوا: ((ان البشَر هو خالقُ لأفعالـه)) فضلـّوا بذلك. وكذلك قالوا: يزول ايـمان من ارتكب الكبائر لأن صدقَ العقيدة في الله لا يتلاءم واِرتكاب مثل هذه الـخطايا والذنوب، حيث أن الانسان الذي يـحذر مـخالفة القوانين في الدنيا رهبةً من السجن الوقتي، ان ارتكب الكبائر دون أن يبالي لغضب الـخالق العظيـم، ولا لعذاب جهنـم الأبدي، لابد أن يكون ذلك دليل عدم أيـمانه.

جواب الشـّق الاول من السؤال: هو ما أوضحناه في ((رسالة القدر)) وهو

ان خلق الشرّ ليس شرّاً، وانـما كسبُ الشرّ شرٌ، لأن الـخلق والايـجاد يُنظر اليه من حيث النتائج العامة. فوجود شرٍ واحد، اِن كان مقدمةً لنتائج خيّرة كثيرة، فان ايـجاده يصبـح خيراً باعتبار نتائجه، أي يدخل في حكم الـخير.

فمثلاً: النار لـها فوائد ومنافع كثيرة جداً، فلا يـحق لأحد أن يقول: ان ايـجاد النار شرّ اذا ما أساء استعمالـها باختياره وجعلـها شّـراً ووبالاً على نفسه.

وكذلك خلقُ الشياطين وايـجادهـم فيه نتائج كثيرة ذات حكمة للانسان، كسموّه في سلـم الكمال والرقي. فلا يسيغ لـمن استسلـم للشيطان – باختياره وكسبه الـخاطىء – ان يقول: ان خلق الشيطان شرٌ. اذ قد عمل الشر لنفسه بكسبه الذاتي.

أما الكسب الذي هو مباشرةٌ جزئيةٌ للامر، فانه يصبـح شراً لأنه وسيلةٌ تُفضي الى شرّ خاصٍ معين، فيكون كسبُ الشرّ بذلك شّراً، بينـما لا يكون الايـجاد شراً، بل يكون خيراً، لأنه يرتبط بـجـميع النتائج الـمترتبة فلا يكون اذن خلق الشرّ شّـراً.

وهكذا ولعدم ادراك الـمعتزلة هذا السرّ ضلـّوا، اِذ قالوا: إن خلق الشر شرٌ وايـجاد القُبـح قبـح. فلـم يردّوا الشر الى الله سبـحانه وتعالى تقديساً وتنزيهاً لـه، وتأولوا الركن الإيـماني: ((وبالقدر خيره وشرّه من الله تعالى)).

أما الشق الثاني: وهو كيف يبقى مؤمناً من ارتكب الكبائر؟

فجوابه:

اولاً: لقد اوضحت الاشارات السابقة أخطاءهـم بصورة قاطعة فلا حاجة للاعادة.

ثانياً: إن النفس الانسانية تُفضـّل درهـماً من اللذة الـحاضرة الـمعجـّلة على رطل من اللذة الغائبة الـمؤجـّلة، وهي تتـحاشى صفعةً حاضرة اكثر من تـحاشيها سنة من عذاب في الـمستقبل. وعندما تهيـج أحاسيسُ الانسان لا ترضخ لـموازين العقل، بل الـهوى هو الذي يتـحكم، فيرجح عندئذ لذةً حاضرةً ضئيلة جداً على ثواب عظيـم في العقبى، ويتـجنب ضيقاً جزئياً حاضراً اكثر من تـجنبه عذاباً أليـماً مؤجلاً. ولـما كانت الدوافع النفسانية لا ترى الـمستقبل بل قد تنكره، وان كان هناك حثـّـاً لـها من النفس وعوناً، فان القلب والعقل اللذين هـما محل الإيـمان، يسكتان، فيُغلبان على أمرهـما. فلا يكون عندئذ ارتكاب الكبائر ناتـجاً من عدم الإيـمان، بل من غلبة الـهوى وسيطرة الوهـم والـحسّ الـمادي، وانهزام العقل والقلب وغَلَبة كل اولئك عليهـما.

ولقد فُهـم من الاشارات السابقة بأن طريق الفساد والـهوى سهلة جداً لأنها تـخريب وهدم، لذا يسوق شيطانُ الانس والـجن الانسانَ اليها بكل سهولـه ويسر.

وانه لـمحيّر جداً أن ترى قسماً من الناس الضعفاء يتبعون خطوات الشيطان لتفضيلـهـم لذّة زائلة – بـمقدار جناح بعوضة – في هذه الدنيا الفانية، على لذائذ ذلك النعيـم الـخالد. في حين يفوق نورٌ أبدي بـمقدار جناح بعوضة من ذلك العالـم السرمدي الـخالد جـميع اللذات والنِعّم التي اكتسبها الانسان طوال حياته، كما هو ثابت في الـحديث الشريف(1).

وهكذا من اجل هذه الـحكَم والاسرار، كرر القرآن الكريـم الترغيب والترهيب واعادهـما ليزجر الـمؤمن ويـجنبه الذنوب والآثام ويـحثه على الـخير والصلاح.

ولقد جال في ذهني يوماً سؤالٌ حول هذا التكرار في التوجيه والارشاد القرآني وهو: ألا تكون هذه التنبيهات الـمستـمرة مدعاة لـجرح شعور الـمؤمنين في ثباتهـم وأصالتهـم واظهارهـم في موقف لا يليق بكرامة الانسان؟. لأن تكرار الامر الواحد على الـموظف من آمره يـجعلـه في موقف يظن كأنه متّهـم في اخلاصه وولائه! بينـما القرآن الكريـم يكـّرر أوامره باصرار على الـمؤمنين الـمـخلصين.

وحينـما كان هذا السؤال يعصر ذهني كان معي جـمعٌ من الاصدقاء الـمـخلصين فكنت أذكـّرهـم وانبـّههـم باستـمرار كي لا تغرّهـم دسائس شياطين الانس، فلـم أرَ امتعاضاً أو اعتراضاً منهـم قط، ولـم يقل أحدٌ منهـم: إنك تتـّهـمنا في اخلاصنا. ولكني كنت اخاطب نفسي وأقول: أخشى انني قد أسخطتهـم بتوجيهاتي الـمتكرر لـهـم وكأني أتهـمتهـم في وفائهـم وثباتهـم! وبينـما أنا في هذه الـحالة انكشفت الـحقائق الـمثبتة والـموضحة في الاشارات السابقة، فعلـمت ان اسلوب القرآن الـحكيـم في تكرار التنبيه مطابق لـمقتضى الـحال، وضروري جداً، وليس فيه أية مبالغة ولا إسراف قط، ولا اتهام للـمـخاطبين ، حاش لله، بل هو حكمةٌ خالصة، وبلاغة محضة. وعلـمت كذلك لـم لـم يـمتعض ويتكدّر اولئك الاصدقاء الاعزاء من ترديدي النصح لـهـم؟

وخلاصة تلك الـحقيقة هي:

ان الفعل الـجزئي القليل الذي يصدر عن الشياطين يكون سبباً لـحصول شرور كثيرة، لأنه تـخريب وهدم، لذا كان لابد لاولئك الذين يسلكون طريق الـحق والـهداية أن يـجنـّبوا ويُنَبهوا كثيراً. ويأخذوا حذرهـم ويـمدّلـهـم يدُ العون دائماً لكثرة حاجتهـم اليها. لـهذا يقدّم الله سبـحانه وتعالى في ذلك التكرار عوناً وتأييداً بعدد ألف اسم من اسمائه الـحسنى، ويـمدّهـم بآلاف من ايادي الرحـمة والشفقة لاسنادهـم وامدادهـم، فلا يقدح به كرامةَ الـمؤمن بل يقيه ويـحفظه، ولا يهوّن شأن الانسان بل يظهر ضخامة شر الشيطان.

فيا اهل الـحق واهل الـهداية! دونكم سبيل النـجاة والـخلاص من مكايد شيطان الـجن والانس الـمذكورة فاسلكوها.. اجعلوا مستقركم طريق الـحق وهوطريق اهل السنّة والـجـماعة.. واخلوا القلعة الـحصينة لـمحكمات القرآن الـمعجز البيان.. واجعلوا رائدكم السنّة النبوية الشريفة تَسلـموا وتنـجوا باذن الله..

الاشارة الثامنة:

سؤال:

لقد اثبتّ في الاشارات السابقة أن طريق الضلالة تـجاوزٌ وتعدٍّ وتـخريب، وسلوكها سهل وميسور للكثيرين، بينـما أوردت في رسائل أخرى دلائل قطعية على أن طريق الكفر والضلالة فيها من الصعوبة والـمشكلات ما لا يـمكن ان يسلكها أحد، وطريق الإيـمان والـهداية فيها من السهولة والوضوح بـحيث ينبغي ان يسلكها الـجـميع؟!.

الـجواب: ان الكفر والضلالة قسمان:

الاول: هو نفيٌ للأحكام الإيـمانية نفياً عملياً وفرعياً، فهذا الطراز من الضلالة سهلٌ سلوكه وقبولـه لأنه ((عدمُ قبول)) الـحق، فهو تركٌ وعدمٌ ليس الاّ، وهذا القسم هو الذي ورد بيان سهولة قبولـه في الرسائل.

أما القسم الثاني: فهو حكمٌ اعتقادي وفكرى وليس بعملي ولا فرعي، ولا نفيٌ للإيـمان وحده بل سلوك لطريق مضادٍ للإيـمان، وقبول للباطل واثباتُ نقيض الـحق. فهذا هو خلاف الإيـمان وضده، لذا فهو ليس ((بعدم قبولٍ)) كي يكون سهلاً وانـما هو ((قبولٌ للعدم)). وحيث انه لا يتـم الاّ بعد الاثبات، أي اثبات العدم. و ((العدم لا يثبت)) قاعدة اساسية، فليس من السهل اذن اثباته وقبولـه.

وهكذا فان ما بُينَ في سائر الرسائل هو هذا القسم من طريق الكفر والضلالة التي هي عسيرة وذات اشكال بل مـمتنع سلوكها بـحيث لا يسلكها من لـه ادنى شعور.

وكذلك أُثبتت في الرسائل اثباتاً قاطعاً أن في هذه الطريق من الآلام الـمـخيفة والظلـمات الـخانقة ما لا يـمكن ان يطلبها مَن عنده ذرة من العقل والادراك.

T واذا قيل:

ان كانت هذه الطريق الـملتوية مظلـمةٌ ومؤلـمة وعويصة الى هذا الـحد فلـم يسلكها الكثيرون؟.

فالـجواب: انهـم ساقطون فيها، فلا يـمكنهـم الـخروج منها، ولا يرغبون في الـخروج مـما هـم فيه، فيتسلـّون بلذة حاضرة مؤقتة، لأن قوى الانسان النباتية والـحيوانية لا تفكر في العاقبة ولا تراها، وأنها تتغلب على لطائفه الانسانية.

سؤال:

واذا قبل: لـما كان في الكفر هذا الالـم الشديد وهذا الـخوف الداهـم، وان الكافر – باعتباره انساناً – حريصٌ على حياته ومشتاق الى ما لا يـحصى من الاشياء وهو يرى بكفره: أن موته عدمٌ وفراقٌ ابدي. ويرى دوماً بعينه ان الـموجودات وجـميع احبـّـائه سائرون الى العدم والفراق الأبدي. فكل شيء أمامه – بهذا الكفر – اذن الى زوال، فالذي يرى بالكفر هذا، كيف لا يتفطـّر قلبه ولا ينسحق تـحت ضغط هذا الألـم؟ بل كيف يسمح لـه كفره ان يتـمتع بالـحياة ويتذوقَها؟.

الـجواب: انه يـخادع نفسه بـمغالطة شيطانية عجيبة، ويعيض مع الظن بتلذذ ظاهري، وسنشير الى ماهيتها بـمثال متداول:

يـحكى انه قيل للنعامة ((ابل الطير)): لـماذا لا تطيرين؟ فانك تـملكين الـجناح، فقبضتْ وطوتْ جناحيها قائلةً: أنا لست بطائر بل إبل، فأدخلت رأسها في الرمل تاركةً جسدها الضخـم للصياد فاستهدفها. ثم قالوا لـها: فاحـملي لنا اذن هذا الـحـمل ان كنتِ ابلاً كما تدّعين، فعندها صفّت جناحيها ونشرتهـما قائلة: أنا طائر. وتفلت من تعب الـحـمل. فظلت فريدة وحيدة دون غذاء ولا حـماية من أحد وهدفاً للصيادين.

وهكذا الكافر، بعد أن تزحزح من كفره الـمطلق أمام النُذر السماوية القرآنية تردّى في كفر مشكوك. فاذا سئُل: كيف تستطيع العيش وامامك الـموت والزوال اللذين تدعى أنهـما انعدام أبدي؟ فهل يتـمكن من الـحياة ويتـمتع بها من كان يسير بـخطاه الى حبل الـمشنقةَ؟ يـجيب: لا، ليس الـموت عَدَماً، بل هناك احتـمال للبقاء بعدَه، ذلك بعدما أخذ حَظَه من شمول نور القرآن للعالـمين ورحـمته لـهـم فبدأ يتشكك في كفره الـمطلق، او انه يدسّ رأسه في رمل الغفلة كالنعامة، كي لا يراه الأجل ولا ينظر اليه القبر، ولا يرميه الزوال بسهـم!.

والـخلاصة: ان الكافر شأنه شأن النعامة فهو حينـما يرى الـموت والزوال عَدَماً يـحاول أن ينقذ نفسه من تلك الآلام بالتـمسك والتشبث بـما أخبر به القرآن الكريـم والكتب السماوية جـميعها اخباراً قاطعاً من ((الإيـمان بالآخرة)) والذي ولّد عنده احتـمالاً للـحياة بعد الـموت.

واذا ما قيل لـه: فما دام الـمصير الى عالـم البقاء، فلـم اذاً لا تؤدي الواجبات التي يفرضها عليك هذا الإيـمان كي تسعد في ذلك العالـم؟.

يـجيب من زاوية كفره الـمشكوك: ربـما ليس هناك عالـم آخر، فلـم اذن أرهق نفسي؟!. بـمعنى انه ينقذ نفسه من آلام الاعدام الأبدي في الـموت بـما وعَد القرآن بالـحياة الباقية، فعندما تواجهه مشقـّة التكاليف الدينية، يتراجع ويتشبث باحتـمالات كفره الـمشكوك ويتـخلص من تلك التكاليف.

أي ان الكافر – من هذه الزاوية – يظن أنه يتـمتع اكثر من الـمؤمن في حياته الدنيا، لأنه يفلت من عناء التكاليف الدينية باحتـمالات كفره، وفي الوقت نفسه لا يدخل تـحت قساوة الالام الابدية باحتـمالـه الأيـماني. ولكن هذا في واقع الـحال مغالطة شيطانية مؤقتة تافهة بلا فائدة.

ومن هنا يتضح كيف أن هناك جانباً من الرحـمة الشاملة للقرآن الكريـم حتى على الكفار، وذلك بتشكيكه اياهـم في كفرهـم الـمطلق. فنـجاهـم – الى حَدّ ما – من حياة كالـجحيـم وجعلـهـم يستطيعون العيش في الـحياة الدنيا بنوعٍ من الشك في كفرهـم الـمطلق، وإلا كانوا يقاسون آلاماً معنوية تذكّر بعذاب الـجحيـم وقد تدفعهـم الى الانتـحار.

فيا اهل الإيـمان! احتـموا بـحـماية القرآن الكريـم الذي انقذكم من العدم الـمطلق ومن جحيـم الدنيا والآخرة بكل يقين وثقة واطمئنان، وادخلوا بالتسليـم الكامل في الظلال الوارفة للسنّة الـمحـمدية بكل استسلام واعجاب.. وانقذوا انفسكم من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة..

الاشارة التاسعة:

سؤال:

لـم غُلِبَ اهل الـهداية وهـم حزب الله في كثير من الاحيان امام اهل الضلالة الذين هـم حزب الشيطان؟ برغم أنهـم محاطون بعناية إلـهية ورحـمة ربـّانية، ويتقدم صفوفهـم الانبياء الكرام عليهـم السلام ويقود الـجـميع فخر الكائنات محـمد عليه الصلاة والسلام؟

وما بال قسم من اهل الـمدينة الـمنورة مَرَدوا على النفاق وأصروا على الضلالة ولـم يسلكوا الصراط السوي رغم انهـم كانوا يـجاورون الرسول الاعظم e الذي تسطع نبوّته ورسالتهُ كالشمس وهو يُذكـّرهـم بالقرآن الـمعجز الذي يؤثر في النفوس كالأكسير الاعظم ويرشدهـم بـحقائقه التي تشدّ الـجـميع بقوة اعظم من جاذبية الكون؟

الـجواب: للاجابة عن شقّي هذا السؤال الـمحيّر علينا أولاً أن نبين أساساً راسخاً متيناً وهو:

ان خالق الكون جلّ وعلا لـه من الاسماء الـحسنى اسماء جلالية وأسماءٌ جـمالية. وحيث أن كلاً منها يُظهر حُكمَه بتـجليات مـختلفة عن الاخرى، لذا فان الـخالق سبـحانه وتعالى قد مَزَجَ الأضداد ببعضها وجعل يقابل كلٌ منها الآخرَ، واعطى كلاً منها صفةَ التدافع والتـجاوز، فأوجد بذلك مبارزةً حكيـمة ذات منافع، بـما أوجد من الاختلافات والتغيّرات الناشئة من تـجاوز تلك الأضداد حدود بعضها البعض الآخر. فاقتضت حكمته سبـحانه أن يسير هذا الكون ضمن دستور السموّ والكمال وحسب قانون التغيّر والتـحول؛ لذا جعل الانسان وهو الثمرة الـجامعة لشجرة الـخليقة يَتبَعِ ذلك القانون، أي قانون التدافع والـمبارزة، اتباعاً شديد الغرابة حيث فَتـح أمامه بابَ ((الـمـجاهدة)) التي يدور عليها رقيّ جـميع الكمالات الانسانية وتكاملـها. فمن أجل هذا فقد اعطي سبـحانه وتعالى حزب الشيطان شيئاً من الاجهزة والوسائل ليتـمكن من مواجهة حزب الله ويقابلـه في ميدان الـمعركة. وهذا هو السبب، في تـمكـّن اهل الضلالة وهـم في اشد الضعف والوهن والعجز، من مقاومة أهل الـحق الأقوياء معنوياً الذين يتقدمهـم الانبياء عليهـم السلام والتغليب عليهـم تغلباً مؤقتاً.

أما سّر الـحكمة في هذه الـمقاومة الغريبة فهي: ان في الضلالة والكفر عَدَماً وتركاً، وهو سهلٌ لا يـحتاج الى دفعِ ولا الى تـحريك.. وفيها تـخريبٌ كذلك، وهو سهلٌ وهيّن ايضاً، اذ تكفيه حركة قليلة.. وفيها تـجاوزٌ وتعدٍ، فعمل قليل ويسير منه يؤدي الى ضرر بالكثيرين فيوهـم الآخرين أنهـم على شيء فيستـخفّون بهـم ويستعلون عليهـم بإرهابهـم وفرعونيتهـم.. ثم ان في الانسان حواس مادية وقوى نباتية وحيوانية لا ترى العاقبة ولا تفكر فيها وهي مفتونة بالتذوق الآني والتلذذ الـحاضر. فتلذذ هذه القوى، واشباع نهـمها وانطلاقها من عقالـها وتـحررها يـجعل اللطائف الانسانية كالعقل والقلب تعْدِل عن وظائفها الاساس التي هي الـمشاعر الانسانية السامية الساعية للعقبى.

أما طريق أهل الـهداية والـمسلك السامي للانبياء ((عليهـم السلام) وفي الـمقدمة حبيب ربّ العالـمين، الرسول الاكرم e فهي: وجودية وايـجابيةٌ وتعمير، كما أنها حركة واستقامة على الطريق والـحدود، وهي تفكر بالعقبى، وعبودية خالصة لله، كما أنها سحقٌ لفرعونية النفس الأمـّارة بالسوء وكبـح لـجـماحها؛ لذا أصبـح منافقو الـمدينة الـمنورة في ذلك الوقت أمام هذه الاسس الايـجابية الـمتينة وامثالـها كالـخفافيش أمام تلك الشمس الساطعة والسراج الـمنير فأغمضوا أعينهـم عنها، فارتـموا في احضان القوة الدافعة الشيطانية، وظلوا في الضلالة ولـم ينـجذبوا بـجاذبية القرآن العظمى وحقائقه الـخالدة.

T واذا قيل:

لـما كان الرسول الاكرم e حبيبً رب العالـمين ولا ينطق إلاّ بالـحقّ ولا يـملك إلاّ الـحقيقة، وقد أمدّه الله في غزواته بـملائكةٍ جنوداً مسوّمين، وارتوى جيش كامل من غرفة من ماء تفجّر من بين أصابعه، وشَبَعَ ألف من الناس بشاةٍ مطبوخة وحفناتٍ من قمح، وهزم الكفار بقبضة من تراب رماها على عيونهـم ودخلت تلك القبضة من التراب في عين كل كافر ان قائداً ربانياً يـملك امثال هذه الـمعجزات الباهرة وكثيراً غيرها، كيف يُغلب في نهاية اُحُد وبداية حُنَين؟.

الـجواب: ان الرسول e قد اُرسل الى البشرية كافة، قدوةً واماماً ورائداً، كي تتعلـم منه مناهج الـحياة الاجتـماعية والشخصية ودساتيرهَا، وتَتعود على الانقياد لقوانين الارادة الإلـهية الـحكيـمة وتنسجـم مع دساتيرها الربانية. فلو كان الرسول e مستنداً الى الـمعجزات وخوارق العادات في جـميع أفعالـه الشخصية منها والاجتـماعية لـما تسنّى لـه ان يكون إماماً مطلقاً ولا قدوةً كاملة حسنة للبشرية قاطبةً.

ولـهذا السبب لـم يُظهر e الـمعجزات الاّ تصديقاً لدعواه، بشكل متفرق، عند الـحاجة، لكسر عناد الـمنكرين. أما في سائر الأوقات فقد كان e مراعياً بكل دقة لقوانين عادة الله ولسننه الـجارية، ومطيعاً طاعة كاملة لنواميسه الـمؤسسّة على الـحكمة الربانية والـمشيئة الإلـهية، كطاعته ومراعاته للأوامر الإلـهية، لذا كان e يلبس الدرع في الـحروب، ويأمر الـجنود بالتتّرس بالـموانع ضد الاعداء، ويـجرَح ويتأذى ويتـحـمل الـمشقّات.. كل ذلك لكي يُبيّن مدى طاعته الكاملة ومراعاته للقوانين الإلـهية الـحكيـمة، وانقياده التام لشريعة الفطرة الكونية ونواميسها.

الاشارة العاشرة:

ان لأبليس دسيسة كبرى هي أنه يـجعل الذين اتبّعون يُنكرون وجودَه. سنذكر شيئاً حول هذه الـمسألة البديهية، وجود الشياطين. حيث يتردد في عصرنا هذا في قبولـها اولئك الذين تلوثت أفكارهـم بالفلسفة الـمادية، فنقول:

اولاً: مثلـما هو ثابت بالـمشاهدة ثبوتاً قطعياً وجود ارواحٍ خبيثة في اجساد بشرية في عالـم الانسان، تنـجز وظيفة الشيطان واعمالـه. كذلك ثابت ثبوتاً قطعياً وجود ارواحٍ خبيثة بلا اجساد في عالـم الـجن، فلو ان هؤلاء اُلبسوا أجساداً مادية لأصبـحوا تـماماً مثل اولئك البشر الاضرار. وكذلك لو تـمكن شياطين الانس – الذين هـم على صور بشرية – من نزع اجسادهـم لأصبـحوا أبالسة الـجن.

فبناء على هذه العلاقة الوطيدة ذهب أحد الـمذاهب الباطلة الفاسدة الى ((أن الارواح الـخبيثة الشريرة الـمتـجسدة بصورة اُناسي تتـحول الى شياطين بعد موتها))!.

ومن الـمعلوم انه اذا ما فسد الشيءُ الثمين يكون فسادهُ أشدَّ من فساد الشيءِ الرخيص، كما هو في فساد اللبن أوالـحليب حيث يـمكن ان يؤكلا، أما اذا فسد الدهنُ فلا يـمكن أكلـه، إذ قد يكون كالسمّ. وهكذا الانسان الذي هو اكرم الـمـخلوقات بل ذروتها وقمّتها، اذا فسد فانه يكون أفسد وأحط من الـحيوان الفاسد نفسه. فيكون كالـحشرات التي تأنس بالعفونة وتريـحها الروائح الكريهة، وكالـحيّات التي تلتذ بلدغ الآخرين. بل يتباهى بتلذذه بالأخلاق الدنيئة النابتة في مستنقع الضلالة، ويستـمرىء الاضرار والـجرائم الناجـمة في ظلـمات الظلـم. فيكون اذن قريناً للشيطان ومتقمصاً لـماهيته..

نعم، ان الدليل القاطع على وجود شياطين الـجنّ هو وجود شياطين الانس.

ثانياً: ان مئات الدلائل القطعية في ((الكلـمة التاسعة والعشرين)) لاثبات وجود الـملائكة والعالـم الروحاني، هي بدروها دلائل لاثبات وجود الشياطين ايضاً. نـحيل إليها.

ثالثاً: ان وجود الـملائكة الذين هـم بـحكم الـمـمثلين والـمشرفين على ما في أمور الـخير الـموجودة في الكون من قوانين كما أنه ثابت باتفاق الاديان، كذلك وجود الشياطين والارواح الـخبيثة الذين هـم مـمثلو الامور الشريرة والـمباشرون لـها وتدور حولـهـم قوانينها، فانه قطعي الثبوت حكمةً وحقيقة. بل قد يكون وجود سببٍ وستارٍ مستتر من كائن ذي شعور في مـمارسة الامور الشريرة اكثر ضرورةً، وذلك لعجز كل شخص أن يرى الـحسنَ الـحقيقي لـجـميع الامور، كما ذكرنا في مستهل ((الكلـمة الثانية والعشرين)). فلأجل الاّ تـحدّثه نفسُه باعتراضٍ على امور الـخالق سبـحانه بـما يُتوهـم من نقصٍ او شرّ ظاهريين، ويتهـم رحـمته او ينتقد حكمته او يشكو بغير حقٍ، جعل الـخالق الكريـم الـحكيـم العليـم وسائط واسباباً ظاهرية مادية ستاراً لأمور قَدَره، وحُجُباً لتتوجه اليها الاعتراضات والانتقادات والشكاوى، ولا تتوجه اليه سبـحانه وتعالى. فقد جعل الامراض والـمصائب مثلاً أسباباً وستاراً للأجل، لكي لا تتوجه الاعتراضات وتصل الى مَلَك الـموت ((عزرائيل عليه السلام)). وجعل مَلَكَ الـموت نفسه حجاباً لقبض الارواح، لئلا تتوجه الشكاوى والانتقادات الناتـجة من الأمور التى يُتوهـم أنها بغير رحـمة إليه سبـحانه وتعالى.. وهكذا وبقطعية اكثر اقتضت الـحكمة الرّبانية وجود الشياطين لتتوجه اليهـم الاعتراضات الناشئة من الشرور والأضرار والفساد.

رابعاً: كما ان الانسان عالـم صغير، كذلك العالـم انسانٌ كبير، فهذا الانسان يـمثّل خلاصة الانسان الكبير وفهرسه، فالنـماذج الـمصغّرة في الانسان لابد أن أصولـها الكبيرة الـمعظمة موجودةٌ في الانسان الأكبر بالضرورة.

فمثلاً: ان وجود القوة الـحافظة في الانسان دليل قطعي على وجود اللوح الـمحفوظ في العالـم. وكذلك يشعر كلٌ منا ويـحسّ أن في قرارة نفسه وفي زاوية من زوايا قلبه آلة وعضواً للوسوسة وهي اللـمة الشيطانية التي هي لسانُ شيطانٍ يتكلـم بتلقينات القوة الواهـمة، هذه القوة قد تـحولت بفسادها الى شيطان مصغر، لأنها لا تتـحرك الاّ ضدَ اختيار الانسان واِرادته وخلاف رغباته الـحقيقية. ان هذا الذي يشعر به كلُ انسان حساً وحَدْساً في نفسه دليلٌ قطعي على وجود الشياطين الكبيرة في العالـم الكبير. ثم ان هذه اللـمة الشيطانية وتلك القوة الواهـمة تُشعران بوجود نفسٍ شريرةٍ خارجية تنفث في الاُولى وتستنطق الثانية وتستـخدمها كالاذن واللسان.

الاشارة الـحادية عشرة:

يعبّر القرآن الكريـم باسلوب معجز عن غضب الكائنات وتغيّظ عناصر الكون جـميعها وتـهيـّـج الـموجودات كافة من شر اهل الضلالة، عندما يصف اشتراك السماء والارض بالـهجوم على قوم ((نوح عليه السلام)) في الطوفان، وعصفَ الرياح بقوم ((عاد)) والصيـحة على ((ثمود))، وهيـجان الـماء على قوم فرعون، ونقمة الارض على قارون.. عند رفضهـم الإيـمان حتى أن جهنـم } تكادُ تـميـّزُ من الغيظ{ (الـملك:8). وهكذا يبين القرآن الكريـم غَضَبَ الـموجودات وحدّتها على اهل الضلالة والعصيان ويزجرهـم بهذا الاسلوب الاعجازي الفريد.

سؤال:

لـم تـجلب هذه الأعمال التافهة الصادرة عن أشخاص لاوزن لـهـم باقترافهـم ذنوباً شخصية، سَخَطَ الكون وغضبه؟

الـجواب: لقد أثبتنا في الاشارات السابقة وفي رسائل متفرقة أخرى:

أن الكفر والضلالة تـجاوزٌ شنيع وتعدّ رهيب، وجريـمة تتعلق بـجـميع الـموجودات. ذلك لأن اهل الكفر والضلالة يرفضون الغاية السامية لـخلق الكائنات التي نتيـجتها العظمى عبودية الانسان وتوجّهه بالإيـمان والطاعة والانقياد للربوبية الإلـهية. فانكارهـم هذه النتيـجة العظمى للكون – التي هي العلـّة الغائية وسبب بقاء الـموجودات – نوعٌ من تعدٍ على حقوق جـميع الـمـخلوقات.

وحيث ان الـموجودات قاطبة تتـجلى فيها الاسماء الإلـهية الـحسنى وكأن كلُ جزء منها مرآة تعكس تـجليات أنوار تلك الاسماء الـمقدسة، فيكتسب ذلك الـجزء اهـميةً بها ويرتفع منزلةً، فان انكار الكافر لتلك الاسماء الـحسنى ولتلك الـمنزلة الرفيعة للـموجودات واهـميتها مو اِهانةٌ عظيـمة وتـحقير شديد فوق كونه تشويهاً ومسخاً وتـحريفاً ازاء تلك الاسماء.

وكذلك فان كل مـخلوق في هذا الكون قد أوكل اليه وظيفة، وكل جزء أُنيط به أمر، أي أن لكل شيءٍ في الوجود مهامّ معينة، فهو اذن بـمثابة مأمورٍ وموظف ربّاني. فالكافر بكفره يسلبه تلك الوظيفة الـمهـمة ويـجعلـه جامداً لا معنى لـه، وفانياً لا غاية لـه، فيهينه بذلك ويـحقّره. وهكذا يظهر تعدّي الكفر ويتبين تـجاوزه على حقوق الـموجودات جـميعها.

ولـما كانت الضلالة بأنواعها الـمـختلفة – كلٌ حسب درجتها – تنكر الـحكمة الرّبانية في خلق الكائنات، وترفض الـمقاصد الإلـهية في بقاء العالـم، فان الـموجودات بدورها تتهيـج، والـمـخلوقات تثور، والكائنات تغضب على الكفر وأهلـه.

فيا ايها الانسان العاجز الـمسكين!. ويا مَن جسمُه صغير وذنبه جسيـم وظلـمه عظيـم!. ان كنت راغباً في النـجاة من غضبة العالـم ونفور الـمـخلوقات وثورة الـموجودات فدونك سَبيل النـجاة: الدخول في دائرة القرآن الـحكيـم الـمقدسة.. واتـّباع الـمبلـّغ الامين e في سنـّته الـمطهـّرة. ادخل.. واتبع.

الاشارة الثانية عشرة:

جواب عن اربعة اسئلة:

السؤال الاول:

أين وجه العدالة في عذاب مقيـم في جهنـم لذنوبٍ محدودوة في حياة محدودة؟

الـجواب: لقد فُهـم بشكل واضح من الاشارات السابقة ولاسيـما الاشارة الـحادية عشرة، أن جريـمة الكفر والضلالة ليست محدودة، وانـما هي جناية لا نهاية لـها واعتداء على حقوقٍ لا حدّلـها.

السؤال الثاني:

ما سرّ الـحكمة فيـما جاء في الشرع: إن جهنـم جزاء عملٍ أما الـجنّة فهي فضلً إلـهي؟..

الـجواب: لقد تبين في الاشارات السابقة: أن الانسان يكون سبباً لتدمير هائل وشرور كثيرة بارادة جزئية بلا ايـجاد، وبكسبٍ جزئي، وبتشكيلـه أمراً عدمياً او اعتبارياً واعطاء الثبوت لـه. ولأن نفسَه وهواه يـميلان الى الأضرار والشرور دائماً، لذا يتـحـمل هو مسؤولية السيئات الناتـجة من ذلك الكسب الـجزئي اليسير. ذلك لأن نفسَه هي التي أرادت، وكسبَه الذاتي هو الـمسبـّب، ولأن ذلك الشرّ عدميٌ اصبـح العبدُ فاعلاً لـه، والله سبـحانه خَلَقَه فصار الانسان مستـحقاً لتـحـمل مسؤولية تلك الـجريـمة غير الـمحدودة بعذاب غير محدود.

أما الـحسنات فما دامت وجودية أصيلة، لا يكون الكسب الانساني والارادة الـجزئية علـّة موجدة لـها، فالانسان ليس فاعلاً حقيقياً لـها. لأن نفس الانسان الأمـّارة بالسوء لا تـميل الى الـحسنات، بل الرحـمة الإلـهية هي التي تريدها، وقدرتُه سبـحانه هي التي تـخلقها. الا أن الانسان يـمكن أن يكون مالكاً لتلك الـحسنات بالإيـمان وبالرغبة وبالنيّة. وأما بعَد تـملكها فان تلك الـحسنات هي بذاتها شكرٌ للنعم الإلـهية غير الـمحدودة التي أسبغها الله سبـحانه وتعالى على الانسان، وفي مقدمتها نعمة الوجود ونعمة الإيـمان. أي أن تلك الـحسنات شكرٌ للنعم السابقة، لذا فالـجنـّة التي وعَدَها الله لعباده تُوهَب بفضل رحـماني خالص، فهي وان كانت ظاهراً مكافأة للـمؤمن الاّ أنها في حقيقيتها تفضـّلٌ منه سبـحانه وتعالى.

إذن فالنفس الانسانية لكونها الـمسببة للسيئات فهي التي تستـحق الـجزاء. أما في الـحسنات فلـما كان السبب من الله سبـحانه وكذلك العلـّة منه وامتلكها الانسان بالإيـمان وحدَه فلا يـمكنه أن يطالب بثوابها، بل يرجو الفضل منه سبـحانه.

السؤال الثالث:

لـما كانت السيئات تتعدد بالتـجاوز والانتشار كما تبيـّن فيـما سبق، كان الـمفروض ان تُكتب كلُ سيئةٍ بألفٍ، أما الـحسنات فلأنها ايـجابية ووجودية فلا تتعدد مادياً، حيث أنها لا تـحـصل بايـجاد العبد ولا برغبة النفس، فكان يـجب ألاّ تُكتب، او تُكتَب حسنة واحدة. فلـم تُكتب السيئةُ بـمثلـها والـحسنةُ بعشرِ امثالـها او أحياناً بألف؟.

الـجواب: ان الله جلّ وعلا يبيـّن لنا – بهذه الصورة – كمالَ رحـمته وسعتَها وجـمالَ كونه رحيـماً بعباده.

السؤال الرابع:

ان الانتصارات التي يـحرزها اهل الضلالة والقوة والصلابة التي يظهرونها، وتغلـّبهـم على اهل الـهداية تُظهر لنا أنهـم يستندون الى حقيقة ويركنون الى قوة، فاما أن هناك ضعفاً ووهناً في أهل الـهداية، أو أن في هؤلاء الضالـّين حقيقة وأصالة!.

الـجواب: كلا ثم كلا.. فليس في أهل الـهداية ضعف ولا في أهل الضلالة حقيقة، ولكن مع الاسف يُبتلى جـمعٌ من قصيري النظر – من السذج الذين لا يـملكون موازين – بالتردد والانهزام، فيصيب عقيدتَهـم الـخللُ بقولـهـم: لو أنّ اهل الـحق على صدق وصواب لكان ينبغي الاّ يُغلَبوا ولا يُذَلـّوا الى هذا الـحد. اذ الـحقيقة قوية وان القاعدة الاساسية هي: ((الـحق يعلو ولا يُعلى عليه))(1) ولو لـم يكن اهل الباطل – الذين يصدّون ويغلبون اهل الـحق – على قوة حقيقة وقاعدة رصينة ونقطة استناد متين، لـما كانوا يَغلبوا اهل الـحق ويتفوقون عليهـم الى هذه الدرجة.

وجواب ذلك: لقد اثبتنا في الاشارات السابقة اثباتاً قاطعاً: ان انهزام اهل الـحق أمام أهل الباطل لا يتأتى من أنهـم ليسوا على حقيقة ولا من أنهـم ضعفاء، وان انتصار أهل الضالة وتغلـّبهـم ليس ناشئاً من قوتهـم ولا من وجود مستندٍ لـهـم. فمضمون تلك الاشارات السابقة بأجـمعها هو جواب هذا السؤال، ولكننا نكتفي هنا بالاشارة الى دسائسهـم وشيء من اسلـحتهـم الـمستعملة.

لقد شاهدتُ مراراً بنفسي ان عشرةً في الـمائة من أهل الفساد يَغلِبون تسعين في الـمائة من أهل الصلاح. فكنت أحار في هذا الامر، ثم بامعان النظر فيه، فهـمت يقيناً ان ذلك التغلب والسيطرة لـم يك ناتـجاً من قوة ذاتية ولا من قدرة اصيلة يـمتلكها أهل الباطل، وانـما من طريقتهـم الفاسدة، وسفالتهـم ودناءتهـم، وعملـهـم التـخريبي، واغتنامهـم اختلاف أهل الـحق والقاء الـخلافات والـحزازات فيـما بينهـم، واستغلال نقاط الضعف عندهـم والنفث فيها، واثارة الغرائز الـحيوانية والنفسانية والاغراض الشخصية عندهـم، واستـخدامهـم الاستعدادات الـمضرّة التي هي كالـمعادن الفاسدة الكامنة في سبيكة فطرة الانسان، والتربيت على فرعونية النفس باسم الشهرة والرتبة والنفوذ.. وخوف الناس من تـخريباتهـم الظالـمة الـمدمّرة… وامثال هذه الدسائس الشيطانية يتغلبون بها على أهل الـحق تغلباً مؤقتاً. ولكن هذا الانتصار الوقتي لـهـم لا قيـمة لـه ولا أهـمية أمام بشرى الله تعالى: } والعاقِبَةُ للـمتَقين{ (الأعراف: 128) والسر الكامن في (الـحقُ يعلو ولا يُعلى عليه). اذ يصبـح سَبباً لدخولـهـم النار وفوز أهل الـحق بالـجنـّة.

ان ظهور الضعيف الـهزيل في الضلالة بـمظهر القوة واكتساب التافهين فيها شهرة وصيتاً، يسلكها كل أناني مُراءٍ مولَع بالشُهرة فيقوم بارهاب الآخرين والاعتداء عليهـم واضرارهـم، للـحصول على منزلةٍ وكسبِ شهرة، فيقف في صف الـمعادين لأهل الـحق ليسترعي انتباه الناس ويـجلب انظارهـم، وليذكروه باسنادهـم اعمال التـخريب اليه تلك التي لـم تنشأ من قوة وقدرة ذاتية لـه بل من تركه الـخير وتعطيلـه لـه. حتى سار مثلاً أن احد الـمغرمين بالشهرة قد لـوّث الـمسجد الطاهر حتى يذكره الناس، وقد ذكروه فعلاً.. ولكن باللعنة، الاّ أن حبّه الشديد للشهرة زيـّن لـه هذا الذكر اللعين فرآه حسناً.

فيا أيها الانسان الـمسكين الـمـخلوق لعالـم الـخلود والـمبتلى بهذه الدنيا الفانية! أمعن النظر في الآية الكريـمة وانصت اليها: } فَما بَكتْ عَليهـم السـَّمَاء والأرض { (الدخان: 29) وانظر ماذا تفيد.. انها تعلن صراحة ان السموات والارض التي لـها علاقة بالانسان لاتبكي على جنازة أهل الضلالة عند موتهـم.. أي انها راضية لفراقهـم مرتاحةٌ بـموتهـم.

وانها تشير ضمناً ان السموات والارض تبكي على جنازة أهل الـهداية عند موتهـم، فلا تتـحـمل فراقهـم، إذ إن الكائنات جـميعاً مرتبطة مع أهل الإيـمان، وذات علاقة بهـم، وانها راضيةٌ عنهـم، ولأنهـم يعرفون بالإيـمان رب العالـمين فيـحـملون حبـّاً للـموجودات ويقدرون قيـمتها، وليسوا كاولئك الضالين الذين يضمرون العَداء للـموجودات ويـحقـّرونها.

فيا ايها الانسان! تأمل في عاقبتك، وفكـّر في مصيرك، فأنت لا محالة صائر الى الـموت، فان كنت مـمن جعل هواه تبعاً للشيطان، فان جـميع الذين حولك من الـجيران حتى الأقارب سيُسّرون بنـجاحهـم من شرورك، وان كنت مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيـم ومتـّبعاً لأوامر القرآن الكريـم وسنـّة حبيب رب العالـمين e فستـحزن عليك السموات والارض، وتبكي معنىً لفراقك الـموجوداتُ جـميعها فيشيعونك بهذا الـمأتـم العلوي والنعي الشامل الى باب القبر معبـّرين بذلك عما اُعدّ لك من حسن الاستقبال حسب درجتك في عالـم البقاء.

الاشارة الثالثة عشرة:

تتضمن ثلاث نقاط:

النقطة الاولى:

ان اعظم كيدٍ للشيطان هو خداعه لضيـّقي الصدر، وقاصدي الفكر من الناس، من جهة عظمة الـحقائق الإيـمانية بقولـه: كيف يـمكن تصديق ما يقال: أن واحداً أحداً هو الذي يدبـّر ضمن ربوبيته شؤون جـميع الذرات والنـجوم والسيارات وسائر الـموجودات ويدير أمورها بأحوالـها كافة؟ فكيف تُصدّق وتَقرُّ في القلب هذه الـمسألة العجيبة العظيـمة؟ وكيف يقنع بها الفكر؟.. مثيراً بذلك حسـّاً إنكارياً من نقظة عجز الانسان وضعفه.

الـجواب: ((الله اكبر)) هو الـجواب الـحقيقي الـمـُلـجـم لـهذه الدسيسة الشيطانية وهو الـمـُسكت لـها.

نعم، ان كثرة تكرار ((الله اكبر)) واعادتها في جـميع الشعائر الإسلامية، مـُزيلةٌ لـهذا الكيد الشيطاني، لأن الانسان بقوته العاجزة وقدرته الضعيفة وفكره الـمحدود يرى تلك الـحقائق الإيـمانية غير الـمحدودة ويصدّقُها بنور ((الله اكبر)) ويـحـمل تلك الـحقائق بقوة ((الله اكبر)) وتستقر عنده ضمن دائرة ((الله اكبر)) فيـخاطب قلبه الـمبتلى بالوسوسة قائلاً: ان تدبير شؤون هذه الكائنات وادارتها بهذا النظام الرائع الذي يراه كل ذي بصر لاتُفسّر الاّ بطريقتين:

الاولى: وهي الـمـمكنة، ولكنها معجزةٌ خارقة. لأن أثراً كهذا الأثر الـمـُعجز لاشك أنه ناتـج من عملٍ خارق وبطريقةٍ معجزة ايضاً. وهذه الطريقة هي ان الـموجودات قاطبة لـم تـخلق الاّ بربوبية الأحد الصـَّمد وبأرادته وقدرته، وهي شاهدة على وجوده سبـحانه بعدد ذراتها.

الثانية: وهي طريق الكفر والشرك، الـمـمتنعة والصعبة من جـميع النواحي، وغير الـمعقولة الى درجة الاستـحالة؛ لأنه يلزم أن يكون لكل موجود في الكون، بل في كل ذرّة فيه، ألوهيةٌ مطلقة وعلـم محيط واسعٌ، وقدرةٌ شاملة غير متناهية كي تظهر الى الوجود نقوشُ الصنعة البديعة الـمتكاملة بهذا النظام والاتقان الرائعين الـمشاهدين، وبهذا التقدير والتـميـّز الدقيقين.. وتلك هي ما بيـّنا امتناعها واستـحالتها واثبتناها بدلائل قاطعة كما في ((الـمكتوب العشرين)) و ((الكلـمة الثانية والعشرين)) وفي رسائل اخرى كثيرة.

والـخلاصة:

لو لـم تكن ربوبية ذات عظمة وكبرياء لائقة لتدبير الشؤون لَوجبَ حينئذٍ سلوك طريق مـمتنع وغير معقول من جـميع الـجهات. فحتى الشيطان نفسه لن يكلـّف أحداً الدخول في هذا الـمـجال الـمـمتنع بترك تلك العظمة والكبرياء اللائقة الـمستـحقة الضرورية.

النقطة الثانية:

ان دسيسة مهـمة للشيطان هي: دفع الانسان الى عدم الاعتراف بتقصيره. كي يسدّ عليه طريق الاستغفار والاستعاذة، مثيراً فيه أنانية النفس لتدافع كالـمحامي عن ذاتها، وتنزّهها عن كل نقص.

نعم، إن نفساً تصغي الى الشيطان لا ترغب في أن تنظر الى تقصيرها وعيوبها، حتى اذا رأتها فانها تؤوّلـها بتأويلات عديدة. فتنظر الى ذاتها واعمالـها بعين الرضا، كما قال الشاعر: ((وعينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ))(1) فلا ترى عيباً، لذا لا تعترف بتقصيرها، ومن ثم فلا تستغفر الله ولا تستعيذ به فتكون اضحوكة للشيطان. وكيف يوثق بهذه النفس الامارة بالسوء ويعتـمد عليها، وقد ذكرها القرآن الكريـم بلسان نبيّ عظيـم، يوسف عليه السلام: } وَمَا أُبَرِّيءُ نَفسي إنَ النفسَ لأمارِةٌ بالسوءِ إلاّ ما رحـم رَبـّي { (يوسف:53) فَمن يَتـّهم نفسه يرى عيوبها وتقصيرها، ومَن اعترفَ بتقصير نفسه يستغفر ربـَّه، ومن يستغفر ربَهُ يستَعذْ به من الشيطان الرجيـم وعندها ينـجو من شروره.. وانه لتقصير اكبر ألاّ يرى الانسانُ تقصيره، وانه لنقصٌ اعظم كذلك الاّ يعترف بنقصه. ومن يرى عيبه وتقصيره فقد اِنتفى عنه العيب، حتى اذا ما اعترف يصبـح مستـحقاً للعفو.

النقطة الثالثة:

ان ما يُفسد الـحياة الاجتـماعية للانسان هي الدسيسة الشيطانية الآتية:

انه يـحجب بسيئةٍ واحدة للـمؤمن جـميع حسناته. فالذين يلقون السمع الى هذا الكيد الشيطاني من غير الـمنصفين يعادون الـمؤمن. بينـما الله سبـحانه وتعالى عندما يزن اعمال الـمكلـّفين بـميزانه الأكبر وبعدالته الـمطلقة يوم الـحشر فانه يـحكم من حيث رجحان الـحسنات او السيئات. وقد يـمحو بـحسنة واحدة ويُذهب ذنوباً كثيرة حيث ان ارتكاب السيئات والآثام سهل ويسير ووسائها كثيرة.. فينبغي اذاً التعامل في هذه الدنيا والقياس بـمثل ميزان العدل الإلـهي، فان كانت حسناتُ شخصٍ اكثر من سيئاته كميةً او نوعيةً فانه يستـحق الـمحبة والاحترام. وربـما يُنظر الى كثير من سيئاته بعين العفو والـمغفرة والتـجاوز لـحسنة واحدة ذات نوعية خاصة.

غير ان الانسان ينسى، بتلقين من الشيطان، وبـما يكمن من الظلـم في جبلـّته، مئاتٍ من حسنات أخيه الـمؤمن لأجل سيئة واحدة بدرت منه فيبدأ بـمعاداته، ويدخل في الآثام. فكما ان وضع جناح بعوضة أمام العين مباشرة يـحجب رؤية جبل شاهق، فالـحقد كذلك يـجعل السيئة – التي هي بـحجـم جناح بعوضة – تـحجب رؤية حسناتٍ كالـجبل الشامـخ، فينسى الانسانُ حينذاك ذكر الـحسنات ويبدأ بعداء اخيه الـمؤمن، ويصبـح عضواً فاسداً وآلة تدمير في حياة الـمؤمنين الاجتـماعية.

وهناك دسيسة اخرى مشابهة لـهذه ومـماثلة لـها في افساد سلامة تفكير الـمؤمن والاخلال باستقامتها وبصحة النظرة الى الـحقائق الإيـمانية وهي انه يـحاول ابطال حكم مئات الدلائل الثبوتية – حول حقيقة إيـمانية – بشبهة تدل على نفيها. علـماً ان القاعدة هي: ان دليلاً واحداً ثبوتياً يرجـّح على كثير من النفي، وان حكماً لشاهدٍ ثبوتي واحد لدعوى، يؤخذ به ويُرجـّح على مائة من الـمنكرين النافين.

ولنوضح هذه الـحقيقة في ضوء هذا الـمثال:

بناية عظيـمة لـها مئات من الابواب الـمقفلة، يـمكن الدخول فيها بفتـح باب واحد منها، وعندها تفتـح بقية الأبواب، ولا يـمنع بقاء قسم من الابواب مقفلة من الدخول في البناية. فالـحقائق الإيـمانية هي كتلك البناية العظيـمة، وكل دليل ثبوتي هو مفتاح يفتـح باباً معيناً، فلا يـمكن انكار تلك الـحقيقة الإيـمانية او العدول عنها بـمـجرد بقاء باب واحد مسدود من بين تلك الـمئات من الابواب الـمفتوحة. ولكن الشيطان يقنع جـماعة من الناس – بناءً على اسباب كالـجهل او الغفلة – بقولـه لـهـم: لا يـمكن الدخول الى هذه البناية مشيراً الى أحد تلك الأبواب الـمسدودة ليُسقط من الاعتبار جـميع الادلة الثبوتية، فيغريهـم بقولـه: ان هذا القصر لا يـمكن الدخول فيه ابداً، فانت تـحسبه قصراً وهو ليس بقصر، وليس فيه شيء!.

فيا أيها الانسان الـمسكين!. الـمبتلى بدسائس الشيطان وكيده!. ان كنت ترجو سلامة حياتك الدينية وحياتك الشخصية وحياتك الاجتـماعية وتطلب صحة الفكر واستقامة الرؤية وسلامة القلب، فَزِنْ أعمالك وخواطرك بـموازين القرآن الـمحكمة والسنـّة الـمحـمدية الشريفة، واجعل رائدك القرآن الكريـم ومرشدك السنـّة النبوية الشريفة. وتَضَرّع الى الله العلي القدير بقولك: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيـم)).

فتلك ثلاث عشرة اشارة، وهي ثلاثة عشر مفتاحاً لتفتـح بها القلعة الـمتينة والـحصن الـحصين لآخر سورة من القرآن الـمعجز البيان في الـمصحف الشريف. وهي كنزُ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيـم وشرحٌ مفصل لـها.. فافتـحها بهذه الـمفاتيـح.. وادخل فيها تـجد السلامة والاطمئنان والامان.

اَعُوذُ بالله منَ الشـَّيطانِ الرَّجيـم

بسم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم

} قل اعوذ برب الناس ` ملك الناس ` اِلـه الناس ` من شر الوسواس الـخناس ` الذي يوسوس في صدور الناس ` من الـجنِة والناس{ (الناس)

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

} وقل رب أعوذ بك من هـمزات الشياطين ` واعوذ بك رب ان يـحضرون{ (الـمؤمنون:97-98)

عبدالقادر حمود 02-01-2011 05:14 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة الرابعة عشرة

عبارة عن مقامين

الـمقام الاول

جواب عن سؤالين

باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته،

اخي العزيز الصادق الوفي السيد رأفت!

ان ما سألتـموه من سؤال حول ((الثور والـحوت)) قد ورد جوابه في بعض الرسائل. وقد بينت في ((الغضن الثالث من الكلـمة الرابعة والعشرين)) اثنتا عشرة قاعدة مهمة ضمن اثني عشر أصلا حول هذا النوع من الاسئلة، تلك القواعد تـمثل اسساً مهمة لدفع الشبهات والاوهام الواردة على الاحاديث الشريفة، فكل قاعدة منها مـحكَ جيد لبيان التأويلات الـمـختلفة حول الاحاديث النبوية.

اخي! انني لا انشغل الا بالسوانـح القلبية، فهناك حالات طارئة في الوقت الـحاضر تـحول – مع الاسف – دون اشتغالي بالـمسائل العلـمية؛ لذلك لا استطيع الاجابة عن سؤالكم بـجواب شاف، وإن وفق الله وفتـح علينا سوانـح قلبية اضطر الى الانشغال بها. وربـما يـجاب عن أسئلة لتوافقها مع السوانـح، فلا تتضايقوا، اذ لا استطيع الاجابة عن كلّ من اسئلتكم اجابة وافية. فلأجب هذه الـمرة عن سؤالكم.

تذكرون يا اخي في سؤالكم:

ان علـماء الدين يقولون: الارض تقوم على الـحوت والثور، علـماً ان الـجغرافية تراها كوكباً معلقاً يدور في السـماء كأي كوكب آخر، فلا ثور ولا حوت!.

الـجواب: هناك رواية صحيـحة تُسند الى ابن عباس رضي الله عنهما، تقول: سُئل الرسول e : على أي شيء تقوم الارض؟. أجاب: على الثور والـحوت. وفي رواية اخرى، قال مرة: على الثور ومرة: على الـحوت. ولكن عدداً من الـمـحدثين طبقوا هذه الرواية على حكايات خرافية وقديـمة وردت عن الاسرائيليات، ولا سيـما من علـماء بني اسرائيل الذين اسلـموا فهؤلاء غيروا معنى الـحديث وحولوه الى معنى عجيب غريب جدا، حيث طبقوا الـحديث على ما شاهدوه من حكايات حول الثور والـحوت في الكتب السابقة.

ونـحن هنا نشير باختصار شديد الى ((ثلاثة اسس)) و ((ثلاثة وجوه)) لدى الاجابة عن سؤالكم:

الاساس الاول:

لقد حـمل قسـم من علـماء بني اسرائيل بعد إسلامهم معلوماتهم السابقة معهم الى الاسلام، فاصبـحت ملك الإسلام أي ضمن الـمعارف الإسلامية. علـماً أن معلوماتهم السابقة تـحوي اخطاء. فتلك الاخطاء بلاشك تعود اليهم لا الى الإسلام.

الاساس الثاني:

ان التشبيهات والتـمثيلات كلـما انتقلت من الـخواص الى العوام، أي كلـما سرت من يد العلـم الى يد الـجهل عُدّت حقائق ملـموسة بـمرور الزمن، أي كأنها حقائق واقعة وليست تشبيهات.

فمثلا: حينـما كنت صبياً خسف القمر، فسألت والدتي: ما هذا الذي حدث للقمر؟. قالت: ابتلعه الـحية!. قلت: ولكنه يتبين! قالت: ان الـحيات في السـماء شفافة كالزجاج تشف عما في بطنها. كنت اتذكر هذه الـحادثة كثيراً واسائل نفسي: كيف تدور خرافة بعيدة عن الـحقيقة الى هذه الدرجة على لسان والدتي الـحصيفة الـجادة في كلامها؟.

ولكن حينـما طالعت علـم الفلك رأيت ان الذين يقولون كما تقول والدتي، قد تلقوا التشبيه حقيقة واقعية؛ لان الفلكيين شبهوا القوسين الناشئين من تداخل دائرة الشمس، وهي منطقة البروج ومدار درجاتها، مع دائرة القمر وهي ميل القمر ومدار منازلـه، شبهوهما تشبيهاً لطيفاً بـحيتين ضخـمتين، وسـموهما تنينين، واطلقوا على احدى نقطتي تقاطع تلك الدائرتين ((الرأس)) والاخرى ((الذنب)). فحينـما يبلغ القمر الرأس والشمس الذنب تـحصل حيلولة الارض – كما يصطلـح عليها الفلكيون – أي: تقع الارض بينهما تـماماً، وعندها يـخسف القمر. أي كأن القمر يدخل في فم التنين، حسب التشبيه السابق.

وهكذا عندما سرى هذا التشبيه العلـمي الراقي بـمرور الزمن الى كلام العوام غدا التشبيه تنيناً عظيـماً مـجسـماً يبتلع القمر!.

وكذلك الـملَكان العظيـمان الـمسـميان بالثور والـحوت، قد اطلق عليهما هذان الاسـمان في تشبيه لطيف سام، وفي اشارة ذات مغزى. ولكن لـما انتقل التشبيه اللطيف، من لسان النبوة البليغ السامي الى لسان العوام، بـمرور الزمن، انقلب التشبيه الى حقيقة واقعة، فاتـخذ الـملكان صورة ثور ضخـم وحوت هائل.

الاساس الثالث:

كما ان القرآن الكريـم متشابهات، يرشد الـمسائل الدقيقة العميقة للعوام بالتشبيه والتـمثيل، كذلك للـحديث الشريف متشابهات يعبـّر عن الـحقائق الواسعة بتشبيهات مأنوسة لدى العوام. مثال ذلك ما ذكرناه في رسائل اخرى.

أنه عندما سـمع دوي في مـجلس الرسول e قال: هذا حجر يتدحرج منذ سبعين سنة في جهنـم فالآن حين وصل الى قعرها.

وبعد مضي دقائق جاء أحدهم وقال: ان الـمنافق الفلاني الـمعلوم الذي يبلغ سبعون سنة من العمر قد مات.

فأعلن عن الـحقيقة الواقعة للتشبيه البليغ الذي ذكره الرسول e .

أما عن سؤالك يا أخي فسنذكر لـه ثلاثة وجوه:

الوجه الاول:

ان الله سبـحانه قد عين اربعاً من الـملائكة العظام في العرش والسـموات للاشراف على سلطنة ربوبيته. اسـم واحد منهم ((النسر)) واسـم آخر ((الثور))(1).

أما الارض التي هي شقيقة صغيرة للسـموات ورفيقة أمينة للسيارات فقد عُين لـها ملكان مشرفان يـحـملانها، يطلق على احدهما: ((الثور)) وعلى الآخر ((الـحوت)). والـحكمة في تسـميتهما بهذين الاسـمين هي ان الارض قسـمان: البر والبـحر أي اليابسة والـماء، فالذي يعمر البـحر او الـماء هو الـحوت او السـمك، أما الذي يعمر البر والتراب فهو الثور، حيث أن مدار حياة الانسان هو الزراعة الـمـحـمولة على كاهل الثور.

فالـملكان الـموكلان بالارض اذن هما قائدان لـها ومشرفان عليها، لذا لـهما تعلق وارتباط ومناسبة – من جهة – مع طائفة الـحوت ونوع الثور. ولربـما – والعلـم عند الله – يتـمثلان في عالـم الـملكوت وفي عالـم الـمثال على صورة الـحوت والثور(2).

فاشارة الى هذه الـمناسبة والعلاقة، وايـماءاً الى ذينك النوعين من مـخلوقات الارض، قال الذي اوتي جوامع الكلـم e : ((الارض على ثور والـحوت)) فأفاد بـجـملة واحدة وجيزة بليغة عن حقيقة عظيـمة عميقة قد لا يعبر عنها في صحيفة كاملة.

الوجه الثاني:

لو قيل: بـم تقوم هذه الدولة؟ فالـجواب: على السيف والقلـم: أي تستند الى قوة سيف الـجيش وشجاعته واقدامه وعلى دراية قلـم الـموظفين وعدالتهم.

وحيث أن الارض مسكن الأحياء، وسيد الاحياء الانسان، والقسـم الاعظم من الناس يقطنون السواحل ومعيشتهم على السـمك، والباقون تدور معيشتهم على الزراعة التي هي على عاتق الثور ومـحور تـجارتهم على السـمك. فمثلـما يـمكن القول:

أن الدولة تقوم على السيف والقلـم يـمكن كذلك القول: ان الارض تقوم على الثور والـحوت؛ لأنه متى ما احجـم الثور عن العمل ولـم يلق السـمك ملايين البيوض دفعة واحدة، فلا عيش للانسان وتنهار الـحياة، ويدمر الـخالق الـحكيـم سبـحانه الارض.

وهكذا اجاب الرسول الكريـم e عن السؤال بـحكمة سامية وببلاغة معجزة وبكلـمتين اثنتين مبيناً حقيقة واسعة تتعلق بـمدى ارتباط حياة الانسان بالـحيوان فقال:

((الارض على الثور والـحوت)).

الوجه الثالث:

ان الشمس في نظر علـماء الفلك القديـم تدور والارض ثابتة، وعبروا عن كل ثلاثين درجة من درجات الشمس بـ ((البرج)) فلو مدت خطوط افتراضية بين نـجوم تلك البروج لـحصل ما يشبه صورة الاسد احياناً، او صورة الـميزان، او صورة الثور، او صورة الـحوت، لذا بينوا تلك البروج بتلك الاسـماء.

أما علـم الفلك الـحاضر فيرى أن الشمس لا تدور حول الارض، بل الارض تدور حولـها. أي يعطل العمل في تلك البروج، فلابد ان لتلك البروج العاطلة عن العمل والدوائر الـهائلة دوائر بـمقياس أصغر في مدار الارض السنوي، أي اصبـحت البروج السـماوية تتـمثل في مدار الارض السنوي، وعندئذ تدخل الارض كل شهر في ظل احد البروج وتكون ضمن انعكاسة، فكأن مدار الارض السنوى مرآة تتـمثل فيها صورة البروج السـماوية.

وهكذا بناء على هذا الوجه – من الـمسألة – فقد قال الرسول الاعظم e كما ذكرنا سابقاً ((على الثور)) مرة و ((على الـحوت)) مرة اخرى.

نعم انه حري بلسان ذلك النبي الكريـم الـمعجز ان يقول مرة: ((على الثور)) مشيراً به الى حقيقة عميقة لا تدرك الا بعد قرون عديدة. حيث أن الارض في تلك الفترة – أي فترة السؤال – كانت في الصورة الـمثالية لبرج الثور، بينـما عندما سئلe السؤال نفسه بعد شهر قال: ((على الـحوت)) لأن الارض كانت في ظل برج الـحوت.

وهكذا اشار e بقولـه: ((على الثور والـحوت)) الى هذه الـحقيقة العظيـمة التي ستظهر في الـمستقبل وتتوضح.. وأشار به الى حركة الارض وسياحتها.. ورمز به الى أن البروج السـماوية الـحقيقية والعاملة هي التي في مدار الارض السنوي، والارض هي القائمة بالوظيفة والسياحة في تلك البروج، بينـما التي بالنسبة للشمس عاطلة دون اجرام سيارة فيها. والله اعلـم بالصواب.

واما ما جاء من حكايات خارجة عن طور العقل في بعض الكتب الإسلامية حول الثور والـحوت. فاما انها من الاسرائيليات، أو هي تشبيهات وتـمثيلات، أو أنها تأويلات بعض الرواة، حسبها الذين لا يتـحرون الدقة أنها من الـحديث نفسه واسندوها الى كلام الرسول e .

} رَبـَّناَ لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نـَّسِينَا أَوْ أَخطَأنَا { (البقرة:286)

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

السؤال الثاني: يـخص اهل العباء(1)

أخي!

سنذكر حكمة واحدة فقط من الـحكم الكثيرة التي ينطوي عليها سؤالكم حول ((أهل العباء)) الذي ظل بلا جواب، وهي: ان اسراراً وحكماً كثيرة في إلقاء الرسول e عباءه (ملاءته) الـمبارك الذي كان يلبسه على علي وفاطمة والـحسن والـحسين رضي الله عنهم اجـمعين، ثم دعاؤه لـهم(2) في هذا الوضع وبهذه الآية الكريـمة: } ليُذهِبَ عَنكُم الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطَهـِّركُم تطهيراً{ (الاحزاب:33). ولكننا لانخوض في اسراره، ولانذكر الاّ حكمة من حكمه التي تتعلق بـمهمة الرسالة وهي:

ان الرسول الكريـم e قد رأى بنظر النبوة الانيس بالغيب، النافذ الى الـمستقبل، أنه بعد نـحو ثلاثين أو أربعين سنة ستقع فتن عظيـمة في صفوف الصحابة والتابعين، وستراق الدماء الزكية. فشاهد ان ابرز من فيها هم الاشخاص الثلاثة الذين سترهم تـحتعباءته. فلأجل الاعلان عن تبرئة علي في نظر الأمة.. وتسلية الـحسين وعزائه.. وتهنئة الـحسن واظهار شرفه ومكانته وعظيـم نفعه للأمة برفعه فتنة كبيرة بالصلـح.. وطهارة نسل فاطمة وشرافتهم واهليتهم بلقب أهل البيت، ذلك العنوان الشريف الرفيع.. لأجل كل ذلك ستر e اولئك الاربعة مع نفسه تـحت ذلك العباء واهباً لـهم ذلك العنوان الـمشرف: آل العباء الـخـمسة.

نعم! ان سيدنا علياً رضي الله عنه كان خليفة للـمسلـمين بـحقٍ، ولكن لأن الدماء الزكية التي اريقت جليلة فان براءته منها وتبرئته في نظر الامة لـها اهميتها من حيث وظيفة الرسالة. لذا يبريء الرسول الكريـم e ساحته بتلك الصورة، فيدعو الى السكوت بـحقه كلَّ من ينتقده ويـخطئه ويضلله من الـخوارج والـموالين للامويين الـمتـجاوزين عليه.

نعم ان الـخوارج واتباع الامويين الـمغالين يتفريطهم في حق سيدنا علي رضي الله عنه وتضليلـهم لـه وإفراط الشيعة وغلوهم وبدعهم وتبرّيهم من الشيـخين مع وقوع الفاجعة الاليـمة على الـحسين رضي الله عنه، قد اضرّ اهل الإسلام ايـمـّا ضرر. فالرسول الكريـم e ينـجي بهذا الدعاء والعباء علياً والـحسين من الـمسؤولية والتهم، وينقذ امته من سوء الظن في حقهما كما يهنيء – من حيث مهمة الرسالة – الـحسن الذي أحسن الى الامة بالصلـح الذي قام به، ويعلن ان النسل الـمبارك الذي يتسلسل من فاطمة سينالون شرفاً رفيعاً، وان فاطمة ستكون كريـمة من حيث ذريتها كما قالت ام مريـم في قولـه تعالى:

} واني اعيذها بكَ وذُريتها من الشيطان الرجيـم { (آل عمران:36)

اللهم صلّ على سيدنا مـحـمد وعلى آلـه الطيبين الطاهرين الابرار وعلى اصحابه الـمـجاهدين الـمكرمين الاخيار. آمين….

الـمقام الثاني

يضم هذا الـمقام ستةً من اُلوف اسرار

((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم))

تنبيه:

لقد ظهر عن بُعد لعقلي الـخامد نورٌ ساطع أشرق من أُفق رحـمة الله في البسـملة. فاردتُ تسجيلـه في صورة ملاحظات ومذكـّرِات خاصة بيّ، وقمت بـمـحاولة اقتناص ذلك النور الباهر باحاطته بسور من أسراره البالغة نـحو ثلاثين سراً، كي يسهل حصره ويتيسر تدوينه، إلاّ أنني مع الاسف لـم اوفـَّق تـماماً الآن في مسعاي، فانـحسرت الأسرار الى ستة فقط.

والـخطاب في هذا الـمقام موجّه الى نفسي بالذات. فحينـما اقول: ((أيها الانسان!)) أعني به نفسي.

فهذا الدرس مع كونه خاصاً بي الاّ انني اعرضه للانظار الصائبة لأخوتي الـمدققين ليكون ((الـمقام الثاني من اللـمعة الرابعة عشرة)) وعلـه يكون موضع فائدة لـمن ارتبط بي برباط روحي، والذي نفسُه اكثر يقظة مني وانتباهاً.

هذا الدرس متوجّه الى القلب اكثر منه الى العقل ومتطلـّع الى الذوق الروحي اكثر منه الى الدليل الـمنطقي.

بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم

} قَالتْ: يا ايُّها الـمـَلؤا اِني اُلقِيَ اِليَّ كِتابٌ كَريـم ` اِنـّه مِنْ سُلـَيـمنَ واِنه بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم { (النـمل:29-30)

سنذكر في هذا الـمقام بضعةً من الأسرار:

السر الأول:

اثناء تأملي في البسـملة رأيت نوراً من أنوار ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم))

على الصورة الآتية:

ان هناك ثلاث علامات نيـّرة ساطعة للربوبية على سيـماء الكائنات، وعلى قسـمات وجه الأرض، وعلى ملامـح وجه الانسان. هذه العلامات الزاهرة والأيات الساطعة متداخل بعضُها في البعض الآخر، حتى ان كلاً منها يبين نـموذجَ الآخر ومثالـه.

فالعلامة الاولى:

هي علامة الاُلوهية، تلك الآية الكبرى، الساطعة من التعاون والتساند والتعانق والتـجاوب الـجاري في اجزاء الكون كلـه؛ بـحيث يتوجه (بِسـم الله)) اليها ويدل عليها.

العلامة الثانية:

هي علامة الرحـمانية، تلك الآية العظمى، الزاهرة من التشابه والتناسب والانتظام والانسجام واللطف والرحـمة الساري في تربية النباتات والـحيوانات؛ بـحيث يتوجّه (بِسـم الله الرَّحـمنِ) اليها ويدل عليها.

ثم العلامة الثالثة:

وهي علامة الرحيـمية، تلك العلامة السامية، الظاهرة من لطائف الرأفة الإلـهية ودقائق شفقتها وأشعة رحـمتها الـمنطبعة على سيـماء الـماهية الـجامعة للانسان، بـحيث يتوجـّه اسـم ((الرحيـم)) الذي في ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) اليها ويدل عليها.

أي أن ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) عنوان قدسي لثلاث آيات من آيات الأحدية، حتى أنه يشكـّل سطراً نورانياً في كتاب الوجود، ويـخط خطاً ساطعاً في صحيفة العالـم، ويـمثل حبلاً متيناً بين الـخالق والـمـخلوق. أي أن ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) نزولاً من العرش الأعظم يرتبط طرفه ونهايته بالانسان الذي هو ثمرة الكائنات ونسخة العالـم الـمصغرة، فيربط الفرش بالعرش الأعظم، ويكون سبيلاً مـمهداً لعروج الانسان الى عرش كمالاته.

السر الثاني:

ان القرآن الكريـم يبين دوماً تـجلي ((الأحدية)) ضمن تـجلي ((الواحدية)) ليـحول دون غرق العقول وتشتتها في تلك ((الواحدية)) الظاهرة في مـخلوقات كثيرة لا يـحصرها العـّد.

ولنوضح ذلك بـمثال.

الشمس تـحيط بضيائها بـما لا يـحدّ من الاشياء. فلأجل ملاحظة ذات الشمس في مـجـموع ضيائها يلزم ان يكون هناك تصورٌ واسع جداً ونظر شامل. لذا تُظهرُ الشمس ذاتها بوساطة انعكاس ضوئها في كل شيء شفاف، أي يُظهِر كلُ لـماعٍ حسبَ قابليته جلوةَ الشمس الذاتية مع خواصِها كالضياء والـحرارة، وذلك لَئلا تُنسى ذاتُ الشمس. ومثلـما يُظهِر كلُ لـماع الشمسَ بـجـميع صفاتها حسب قابليته، تـحيط ايضاً كل صفةٍ من صفات الشمس كالـحرارة والضياء والوانه السبعة بكل ما يقابلـها من اشياء.

ولا مشاحة في الامثال (ولله الـمثل الأعلى) فكما ان لله سبـحانه الأحد الصمد تـجلٍ في كل شيء بـجـميع اسـمائه الـحسنى، ولا سيـما في الأحياء، وبـخاصة في مرآة ماهية الانسان. كذلك كل اسـم من اسـمائه الـحسنى الـمتعلقة بالـموجودات يـحيط بالـموجودات جـميعاً من حيث الوحدة والواحدية.

فيضع سبـحانه وتعالى طابعَ الأحدية في الواحدية نصبَ عين الانسان وامام نظره كيلا تغرق العقولُ وتغيب في سعة الواحدية ولئلا تنسى القلوبُ وتذهل عن الذات الإلـهية الـمقدسة.

فـ ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) يدل على ثلاثٍ من العقد الـمهمة لذلك الطابع الـمـميز ويبينها.

السر الثالث:

انه بديهي، بل مشاهَد ان الرحـمة الإلـهية هي التي أبهجت الكائنات التي لا يـحدها حدود..

وان الرحـمة نفسها هي التي أنارت هذه الـموجودات الـمغشية بالظلـمات..

وأن الرحـمة أيضاً هي التي ربـَّت في أحضانها هذه الـمـخلوقات الـمتقلبة في حاجات لا حد لـها..

وان الرحـمة أيضاً هي التي وجـّهت الكائنات من كل صَوب وحَدب وساقتها نـحو الانسان وسخـَّرتْها لـه، بل جعلتها تتطلع الى معاونته وتسعى لإمداده، كما تتوجه أجزاء الشجرة الى ثمرتها..

وان الرحـمة ايضاً هي التي عمـَّرت هذا الفضاء الواسع وزيـَّنت هذا العالـم الـخالي..

وان الرحـمة نفسها هي التي جعلت هذا الانسان الفاني مرشحاً للـخلود والبقاء، وأهـَّلته لتلقـّي خطاب رب العالـمين ومَنـحتْه فضل ولايته سبـحانه.

فيا أيها الانسان!

ما دامت الرحـمة مـحبوبة، ولـها من القوة والـجاذبية والإمداد الى هذا الـحد، فاستعصم بتلك الـحقيقة بقولك ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) وانقذ نفسك من هول الوحشة الـمطلقة، وخلـّصها من آلام حاجات لا نهاية لـها، وتقـّرب الى ذي العرش الـمـجيد، وكن مـخاطباً أميناً وخليلاً صادقاً لـه، بأنوار تلك الرحـمة ورأفتها.

نعم! ان حشدَ الكائنات وجـمعَها حول الانسان ضمن حكمةٍ مقدّرة، وجعلَ كلٍ منها يـمد يد العون اليه لدفع حاجاته الـمتزايدة، نابع بلاشك من احدى حالتين اثنتين: فإما أن كل نوع من أنواع الكائنات يعرف الانسان ويعلـم به فيطيعه ويسعى لـخدمته، أي أن هذا الانسان الغارق في عجز مطلق يـملك سلطان مطلق!! (وهذا بعيد كل البعد عن منطق العقل فضلاً عما فيه من مـحالات لا تـحد).. أو أن هذا التعاون والامداد انـما يتـم بعلـم مـحيط لقادر مطلق مـحتـجب وراء الكائنات.. أي أن أنواع والامداد انـما يتـم بعلـم مـحيط لقادر مطلق مـحتـجب وراء الكائنات.. أي أن أنواع الكائنات لا تعرف هذا الانسان لتـمد لـه يدَ العون، وانـما هي دلائل على مَن يعرف هذا الانسان ويرحـمه، ويعلـم بـحالـه.. وهو الـخالق الرحيـم.

فيا أيها الانسان!

عُدْ الى رشدك! أوَ يـمكن ألاّ يعلـم بك وألاّ يراك هذا الرب الرحيـم، وهو الذي دفع الـمـخلوقات لـمعاونتك ملبية جـميع حاجاتك؟

فما دام سبـحانه يَعلـم بك ويُعلـمك بعلـمه هذا باسباغ رحـمته عليك، فما عليك الا بذل الـجهد لـمعرفته، والسعي لاظهار معرفتك لـه بتوقير أوامره.

واعلـم يقيناً انه ليست الا حقيقة الرحـمة الإلـهية – التي تسع الـحكمة والعناية والعلـم والقدرة – قد سخـَّرتْ لك هذه الكائنات، وجَعَلَتها طوع ارادتك، وأنت الـمـخلوق الضعيف الصغير العاجز الفقير الفاني.

فرحـمةٌ عظيـمة الى هذا الـحد، واسعةٌ الى هذا القدر.. لاشك أنها تطلب منك شكراً كلياً خالصاً، وتعظيـماً لا يشوبه شيء.

فاعلـم انه لا يترجـم لك ذلك الشكر الكلي والتعظيـم الـخالص الاّ ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)). فقلـه واتـخذه وسيلة لبلوغك تلك الرحـمة الواسعة، واجعلـه شفيعاً لَك لدى الرحـمن الرّحيـم.

حقاً! ان وجود الرحـمة وظهورها أظهر من الشمس في كبد السـماء؛ اذ كما يـحصل نسجُ نقشٍ جـميل في الـمركز من تناسق لـحـمته وسُداه ومن انتظام اوضاع خيوطٍ تـمتد من كل جهة نـحو الـمركز.. فان خيوط شعاع النور النابع من تـجلي ألف اسـم واسـم من الاسـماء الـحسنى، والـمـمتدة الى هذا الكون الشاسع تنسج على سيـمائه نسيـجاً في غاية الروعة والـجـمال ضمن اطار الرحـمة السابغة، حتى يظهِر للعقول – أوضح من الشمس للعيون – ختـماً واضحاً للرحيـمية، ونقشاً رائعاً للشفقة والرأفة، وشعاراً بديعاً للعناية.

نعم، ان الذي ينظـّم الشمس والقمر والعناصر والـمعادن والنباتات والـحيوانات، وينسقها جـميعاً بأشعة ألف اسـم واسـم، كأنها لـحـمةُ نقشٍ وسُداه، وخيوطه النورانية، ويسخـّرها جـميعاً في خدمة الـحياة.. والذي يُظهر رأفته وشفقته على الـخلق اجـمعين بـما اودع في الوالدات – من نبات وحيوان – تلك الشفقة الـحلوة اللذيذة تـجاه صغارها.. والذي أظهر أسطع تـجليات رحـمته، وأجـمل نقوش ربوبيته سبـحانه، يتسخيره الأحياء لـحياة الانسان، مبيناً به منزلة الانسان لديه وأهميته عنده.. هو الرحـمن ذو الـجـمال الذي جعل رحـمته الواسعة هذه شفيعة مقبولة مأنوسة لدى غناه الـمطلق، يتشفـّع بها ذوو الـحياة والانسان الـمفتقر فقراً مطلقاً الى تلك الرحـمة.

فيا أيها الانسان!

ان كنت انساناً حقاً، فقل: ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) لتظفر بذلك الشفيع.

انه بديهي، بل مشاهَد ان الرحـمة هي التي تربي طوائف النباتات والـحيوانات التي تربو على أربعمائة ألف طائفة، رغم تباينها وتنوعها.. وهي التي تدير أمورها جـميعاً بلا التباس ولا نسيان ولا اختلاط، وفي أنسب وقت وأكمل نظام وأتـم حكمة وأوفق عناية، حتى وضَعَتْ بهذه الادارة والتربية طابعَ الاحدية وختـمها على سيـماء الارض.

نعم، ان وجود تلك الرحـمة ثابت وقطعي كوجود الـموجودات الـمبثوثة على الارض، كما أن دلائل تـحققها بعدد تلك الـموجودات.

ومثلـما نشاهد على وجه الارض آية الاحدية وسـمتها وختـم الرحـمة وطابعها، فان على سيـماء الـماهية الـمعنوية الانسانية أيضاً طابع الرحـمة.. هذا الطابع والـختـم ليس بأقل وضوحاً من ذلك الذي على وجه الارض، ولا من ذلك الذي على وجه الكائنات.. بل ان سـمة هذه الرحـمة لـها من الـجامعية والشمول حتى كأنها بؤرة لامـّة لأنوار تـجليات الاسـماء الـحسنى.

فيا أيها الانسان!

ان الذي وهب لك هذه السيـماء الـمعنوية، ووضع عليها الرحـمة وخَـتـمها بـختـم الاحدية، أمن الـمـمكن أن يتركك سدىً، ولا يكترث بك ولا يهتـم ولا يراقب أعمالك وحركاتك؟ أوَ من الـمـمكن أن يـجعل حركة جـميع الكائنات الـمتوجهة اليك عبثاً لا طائل من ورائها؟ أو يـجعل شجرة الـخلقة العظيـمة شجرة تافهة، وثمرتها ثمرة فاسدة؟ أم هل يـمكن أن يضع رحـمته الظاهرة ظهور الشمس - والتي لا تـحتـمل شكاً ولا ريباً – ويضع حكمته الواضحة وضوح النور، موضعَ الانكار والـجحود؟ كلا.. ثم كلا.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فيا أيها الانسان!

اعلـم ان لبلوغ عرش تلك الرحـمة معراجاً.. ذلك الـمعراج هو: ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)).

فان شئت أن تعرف مدى أهمية هذا الـمعراج ومدى عظمته ومكانته فانظر الى مستهل سور القرآن الكريـم البالغة مائة واربع عشرة سورة، وانظر بدايات كل كتاب قيـم، ولاحظ بدء كل أمر ذي بال. حتى يُعدّ حجة قاطعة على عظمة البسـملة وعلو قدرها ما قالـه الامام الشافعي رضي الله عنه وأمثالـه من الـمـجتهدين العظام: ان البسـملة رغم أنها آية واحدة فانها نزلت في القرآن مائة وأربع عشرة مرة.

السر الرابع:

ان تـجلي الواحدية في مـخلوقاتٍ لا حدّ لـها، لا يـحيط به كلُ مَن يقول: } اياك نعبد{ . حيث يتشتت الفكر ويتيه في تلك الكثرة، اذ يلزم لـملاحظة ذات الله الأحد من خلال مـجـموعِ الـمـخلوقات لدى خطاب } اياك نعبدُ واياك نستعين{ وجود قلبٍ واسعٍ يسع الارض كلـها.

فبناءً على هذا السر الدقيق فإن الله سبـحانه يبيـّن بـجلاء طابعَ الأحدية في كل جزءٍ

مثلـما يُظهره في كل نوعٍ، وذلك لتُشَد الانظارُ الى ذات الله الأحد، وليتـمكن كلُ شخص – مهما بلغتْ مرتبته – من التوجـّه الـمباشر في خطابه } اياك نعبد واياك نستعين{ الى ذات الله الأقدس سبـحانه من دون تكلـّف أو صعوبة.

فتبياناً لـهذا السر العظيـم فان القرآن الكريـم عندما يبـحث في آيات الله في اجواء الآفاق وفي اوسع الدوائر اذ به يذكُر أصغَر دائرةٍ من دوائر الـمـخلوقات وأدق جزئيةٍ من جزئياتها، اظهاراً لطابع الأحدية بوضوح في كل شيء.

مثال ذلك:

عندما يبين القرآن الكريـم آيات خلق السـماوات والأرض يعقبها بآيات خلق الانسان وبيان دقائق النعمة في صوته وبدائع الـحكمة في ملامـحه، كي لا يتشتت الفكرُ في آفاق شاسعة، ولا يغرق القلبُ في كثرة غير متناهية، ولتبلغ الروحُ معبودها الـحق دون وساطة.

فالآية الكريـمة الآتية تبين الـحقيقة السابقة بياناً معجزاً:

} ومِنْ آياتِه خَلْقُ السـمواتِ والأرضِ واختلافُ ألـْسِنَتِكُم وألوانِكُم { (الروم:22).

وكذا فان آيات الوحدانية واختامَها مع انها قد وُضعت في الـمـخلوقات بكثرة غير متناهية، ابتداءً من أوسع الاختام واكثرها كلية الى اصغرها جزئية، في دوائر متداخلة وفي مراتب متنوعة وانواع شتى، الاّ أن وضوح هذه الاختام للوحدانية – مهما بلغ من الظهور – فهو وضوحٌ ضمن كثرةٍ من الـمـخلوقات لا يُوفي حقَّ الوفاء حقيقة الـخطاب في } اياك نعبد{ . لذا يلزم وجود طابع الأحدية في ثنايا ختـم الوحدانية، كي يفتـح الطريق امام القلب للوصول الى ذات الله الأقدس من دون ان يذكـّره بالكثرة.

ثم، لأجل لفت الانظار الى طابع الأحدية، وجلب القلوب نـحوها، فقد وضُع فوق تلك السـمة للأحدية نقشٌ بديعٌ في منتهى الـجاذبية، ونورٌ باهر في منتهى السطوع، وحلاوةٌ لذيذة في منتهى الذوق، وجـمالٌ مـحبوب في منتهى الـحسن، وحقيقة رصينة في منتهى القوة، تلك هي سـمة الرحـمة وختـم الرحيـمية.

نعم! ان قوة تلك الرحـمة هي التي تـجلب انظار ذوي الشعور نـحوها فُتوصلـها الى طابع الأحدية وتـجعلـها تلاحظ ذات الاحد الأقدس حتى تـجعل الانسان يـحظى بالـخطاب الـحقيقي في } اياك نعبد واياك نستعين{ .

وهكذا فـ ((بسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) من حيث انه فهرس لفاتـحة الكتاب الـمبين وخلاصة مـجـملة لـه، قد اصبـح عنواناً لـهذا السر العظيـم الـمذكور، وترجـماناً لـه، فالذي يتـمكن من أن ينال هذا العنوان يستطيع ان يـجول في طبقات الرحـمة، والذي يستنطق هذا الترجـمان يتعرف على اسرار الرحـمة ويتعلـمها ويشاهد أنوار الرحيـمية والرأفة.

السر الـخامس:

لقد ورد في حديث شريف ((ان الله خلق آدمَ على صورة الرحـمن))(1) أو كما قال e .

فسـَّرَ قسـم من اهل الطرق الصوفية هذا الـحديث الشريف تفسيراً عجيباً لا يليق بالعقائد الإيـمانية، ولا ينسجـم معها. بل بلغ ببعض من أهل العشق ان نظروا الى السيـماء الـمعنوي للانسان نظرتهم الى صورة الرحـمن! ولـما كان في اغلب اهل العشق حالة استغراقية ذاهلة والتباس في الامور، فلربـما يُعذَرون في تلقـّياتهم الـمـخالفة للـحقيقة. الاّ أن اهل الصحو، واهل الوعي والرشاد يرفضون رفضاً باتاً تلك الـمعاني الـمنافية لاسس عقائد الإيـمان، ولا يقبلونها قطعاً. ولو رضي بها أحدٌ فقد سقط في خطأ وجانَبَ الصواب.

نعم، ان الذي يدبر امور الكون ويهيـمن على شؤونه بسهولة ويسر كادارة قصر أو بيت.. والذي يـحرك النـجوم واجرام السـماء كالذرات بـمنتهى الـحكمة والسهولة.. والذي تنقاد اليه الذرات وتأتـمر بأمره وتـخضع لـحكمة..

نعم، ان الذي يفعل هذا كلـه هو الله القدوس سبـحانه.. فكما انه منزّه ومقدّس عن الشرك؛ فلا شريكَ لـه، ولا نظيرَ، ولا ضدّ ولا ندّ، فليس لـه قطعاً مثيلٌ ولا مثالٌ ولا شبيهٌ ولا صورةٌ ايضاً، وذلك بنص الآية الكريـمة: } ليس كَمِثْلـه شيءٌ وهو السـميعُ البَصيرُ { (الشورى:11) الاّ أن شؤونه الـحكيـمة وصفاته الـجليلة واسـماءه الـحسنى ينظر اليها بـمنظار التـمثيل والـمثَل حسب مضمون الآية الكريـمة: } ولـه الـمثَلُ الأعلى في السـموات والأرض وهو العزيزُ الـحكيـم{ (الروم:27), أي ان الـمثَل والتـمثيل واردٌ في النظر الى شؤونه الـحكيـمة سبـحانه.

ولـهذا الـحديث الشريف مقاصد جليلة كثيرة، منها: ان الانسان مـخلوق على صورة تُظهر تـجلي اسـم الله ((الرحـمن)) اظهاراً تاماً.

نعم، لقد بينا في الأسرار السابقة انه مثلـما يتـجلى اسـم ((الرحـمن)) من شعاعات مظاهر ألف اسـم واسـم من الأسـماء الـحسنى على وجه الكون، ومثلـما يُعْرَض اسـم ((الرحـمن)) بتـجليات لاتـحد للربوبية الـمطلقة على سيـماء الأرض، كذلك يُظهِر سبـحانه التـجلي الأتـم لذلك الأسـم ((الرحـمن)) في الصورة الـجامعة للأنسان، يُظهِر بـمقياس مصغر بـمثلِ ما يُظهره في سيـماء الأرض وسيـماء الكون بـمقياس اوسع واكبر.

وفي الـحديث الشريف اشارة كذلك الى ان في الانسان والاحياء من الـمظاهر الدالة على ((الرحـمن الرحيـم)) ما هو بـمثابة مرايا عاكسة لتـجلياته سبـحانه، فدلالة الانسان عليه سبـحانه ظاهرة قاطعة جلية، تشبه في قطعيتها وجلائها دلالة الـمرآة الساطعة بصورة الشمس وانعكاسها على الشمس نفسها. فكما يـمكن ان يقال لتلك الـمرآة: انها الشمس، اشارةً الى مدى سطوعها ووضوح دلالتها عليها، كذلك يصح أن يقال – وقد قيل في الـحديث – ان في الانسان صورة ((الرحـمن))، اشارة الى وضوح دلالته على اسـم ((الرحـمن)) وكمال مناسبته معه ووثوق علاقته به. هذا وان الـمعتدلين من اهل وحدة الوجود قد قالوا: ((لا موجود الاّ هو)) بناء على هذا السر من وضوح الدلالة، وعنواناً على كمال الـمناسبة.

اللهمَ يارحـمن يارَحِيـم بـحق ((بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) إرحـمنا كما يليق برحيـميتك، وفهـّمنا أسرار ((بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) كما يليق برحـمانيتك آمين.

السر السادس:

أيها الانسان الـمتقلب في خضم عجز لانهاية لـه وفقر لاحد لـه، اذا أردت أن تفهم كيف أن الرحـمة أعظم وسيلة وأرجى شفيع، فاعلـم:

أن الرحـمة أقوى وسيلة للوصول الى سلطان عظيـم ذي جلال، تنقاد لـه النـجوم والذرات معاً جنوداً مطيعين طاعة تامة في انتظام تام.. ذلك السلطان ذو الـجلال والاكرم رب العالـمين الـمستغني عن الـخلق أجـمعين، الكبير الـمتعالي عن الـموجودات، فلا حاجة لـه أصلاً الى الـموجودات، بل كل شيء قد تواضع لعظمته واستسلـم لقدرته وذل لعزته وخضع لـهيبة جلالـه.. فالرحـمة أيها الانسان ترفعك الى ديوان حضور ذلك الغني الـمطلق، وتـجعلك خليلاً لذلك السلطان السرمدي الاعظم، بل تعرج بك الى مقام خطابة الـجليل، وتـجعلك عبداً مكرماً مـحبوباً عنده.

ولكن، كما انك لا تصل الى الشمس لبُعدك عنها، بل لا يـمكنك التقرب اليها بـحال، فان ضوءها يُسِلـم اليك تـجليها وصورتها بواسطة مرآة.. (ولله الـمثلُ الأعلى) فنـحن على الرغم من بُعدّنا الـمطلق عن الله سبـحانه وتعالى، فان نور رحـمته يقربه الينا.

فيا ايها الانسان! ان من يظفر بهذه الرحـمة فقد ظفر بكنز عظيـم لا يفنى، كنزٍ ملؤه النور..

أما طريق الوصول الى ذلك الكنز العظيـم فاعلـم: ان اسطع مثالٍ للرحـمة، وأفضل مَن يـمثلـها، وأبلغَ لسانٍ ناطقٍ بها، وأكرم داعٍ اليها، هو الذي سـمي في القرآن الكريـم } رحـمة للعالـمين{ وهو رسولنا الـحبيب e . فالطريق الامثل لبلوغ تلك الـخزينة الابدية هو اتباع سنته الـمطهرة.

ولكن كيف الوصول الى الرسول الـحبيب e ، وما الوسيلة اليه؟

فاعلـم ان الوسيلة هي الصلاة عليه.

نعم! الصلاة عليه تعني الرحـمة، فالصلاة عليه دعاء بالرحـمة لتلك الرحـمة الـمـجسـمة الـحية، وهي وسيلة الوصول الى مَن هو رحـمة للعالـمين.

فيا أيها الانسان! اجعل الصلاة عليه وسيلة الوصول اليه، ثم استـمسك به ليبلغك رحـمة الرحـمن الرحيـم. فان الامة جـميعها بدعائها وصلواتها على الرسول الكريـم e انـما تثبت بوضوح مدى قيـمة هذه الرحـمة ومدى أهمية هذه الـهدية الإلـهية، ومدى سعتها وعظمتها.

الـخلاصة:

ان حاجب خزينة الرحـمة الإلـهية وأكرم داع اليها هو الرسول الكريـم e كما أن أسـمى مفتاح لتلك الـخزينة هو ((بسـم الله الرحـمن الرحيـم)) واسلس ما يفتـحها هو الصلوات على الرسول الـحبيب e .

اللهم بـحق اسرار بسـم الله الرحـمن الرحيـم صلِّ على مَن أرسلته رحـمة للعالـمين كما يليق برحـمتك وبـحرمته وعلى آلـه وأصحابه أجـمعين، وارحـمنا رحـمة تغنينا عن رحـمة من سواك من خلقك.. آمين.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

عبدالقادر حمود 02-01-2011 05:26 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة الـخامسة عشرة

وهي فهارس كليات رسائل النور: الكلـمات، الـمكتوبات، واللـمعات – الى اللـمعة الرابعة عشرة – وحيث أن كل مـجـموعة خصـّت بفهرستها لذا لـم تدرج هنا.

اللـمعة السادسة عشرة

باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته!

اخوتي الأعزاء الصدّيقين: العالـم صبري، الـحافظ علي، مسعود، الـمصطفون، خسرو، رأفت، بكر بك، رشدي، لطفيون، الـحافظ احـمد، الشيـخ مصطفى وآخرون.

لقد احسست احساساً قلبياً أن أبيـّن لكم باختصار أربع مسائل صغيرة ولكنها مهمة، تلك التي اصبـحت موضع تساؤل.. ابيـّنها لكم للعلـم والاطلاع.

السؤال الاول الـمثير:

أخبر احد اخواننا وهو السيد عبدالله جابرازادة كما اخبر أناس آخرون ايضاً عن أن اهل الكشف قد قالوا بـحدوث بشارات وفتوح لاهل السنة والـجـماعة وتكشف عنهم الغمة في رمضان الـماضي، ولكن لـم يظهر شيء من هذا القبيل!

فسألوني: كيف يـخبر امثال هؤلاء من اهل الولاية والكشف عما هو خلاف الواقع؟

وخلاصة ما اجبتهم مباشرةً، وهو من سوانـح القلب، هي:

لقد ورد في الـحديث الشريف ما معناه: ان البلاء ينزل وتقابلـه الصدقة فتردّه(1).

يتبين من هذا الـحديث الشريف: ان الـمقدرات عندما تأتي من الغيب للوقوع، تأتي مرتبطة ببعض الشروط. فتتأخر عن الوقوع بتأخر الشروط. فتتأخر ايضاً الـمقدّرات التي اطلع عليها الاولياء من اصحاب الكشف اذ ليست مقدرات مطلقة، بل مقيدة ببعض الشروط، فلعدم حدوث تلك الشروط لا تقع تلك الـحادثة. إذ تلك الـحادثة كالأجل الـمعلق، قد كتبت في لوح الـمـحو والاثبات، الذي هو نوع من انواع سجل اللوح الازلي. فالكشف قلـما يرقي الى اللوح الازلي، بل لا يستطيع معظم الكشوف الرقي الى هناك. فبناءً على هذا:

ان الاخبار التي اُخبرت عنها في شهر رمضان الفائت وعيد الاضحى وفي اوقات اخرى، وبناء على الاستنباط أو بنوع من الكشفيات، لـم تـجد شروطها الـمعلقة بها، لذا لـم تأت الى ميدان الواقع. فالـمـخبرون عنها لا يُكذّبون، لأن تلك الـحوادث كانت مقدّرة، الاّ انها لا تقع الاّ بـمـجيء شروطها، واذ لـم تأت الشروط فلا تقع الـحادثة.

نعم! ان الدعاء الـخالص الذي يرفعه معظم اهل السنة والـجـماعة في رمضان الـمبارك دفعاً للبدع، كان شرطاً وسبباً مهماً لـه، ولكن دخول البدع في الـجوامع في الشهر الـمبارك مع الاسف حجبت الاستـجابة والقبول، فلـم تفرج الكربة ولـم تكشف الغمة؛ اذ كما تدفع الصدقةُ البلاءَ – بدلالة الـحديث الشريف – فالدعاء الـخالص من الاكثرين يـجذب الفرج العام الشامل. ولكن لأن القوة الـجاذبة لـم تأتِ الى الوجود، فلـم توهب الفرج والفتـح.

السؤال الثاني الـمثير:

بينـما كان ينبغي القيام بـمـحاولة، والشروع بتدبير، ازاء وضع سياسي مهيـج، في غضون هذين الشهرين، إذ كانت تؤدي تلك الـمـحاولة – باحتـمال قوي – الى ما يفرحني ويدخل البهجة في قلوب الكثيرين من اخوتي الـمقربين؛ لـم أعبأ بذلك الوضع، بل قمت خلافاً لـه احـمل فكراً في صالـح اهل الدنيا الذين يضايقونني! فظلّ البعض في حيرة مضاعفة من امري، اذ قالوا: ان السياسة التي يتبعها ضدك هذا الـمبتدع وثلة من الـمنافقين الرؤساء، كيف تـجدها حتى لا تهاجـمها؟

وخلاصة جوابي:

ان اعظم خطر على الـمسلـمين في هذا الزمان هو فساد القلوب وتزعزع الإيـمان بضلال قادم من الفلسفة والعلوم. وان العلاج الوحيد لإصلاح القلب وانقاذ الإيـمان انـما هو النور واراءة النور. فلو عُمل بهراوة السياسة وصولـجانها واُحرز النصر، تدنى اولئك الكفار الى درك الـمنافقين. والـمنافق – كما هو معلوم – أشد خطراً من الكافر وأفسد منه. فصولـجان السياسة اذاً لا يصلـح القلب في مثل هذا الوقت، حيث يُنزل الكفر الى اعماق القلب ويتستر هناك وينقلب نفاقاً.

ثم ان شخصاً عاجزاً مثلي، لا يـمكنه ان يستعمل النور والـهراوة معاً في هذا الوقت، لذا فانا مضطر الى الاعتصام بالنور بـما املك من قوة، فيلزم عدم الالتفات الى هراوة السياسة اياً كان نوعها. أما ما يقتضيه الـجهاد الـمادي، فتلك الوظيفة ليست مناطة بنا حالياً. نعم! ان الـهراوة هي لوقف تـجاوز الكافر أو الـمرتد عند حدّه، ولكن لا نـملك سوى يدين، بل لو كانت لنا مائة من الايدي ما كانت تكفي الاّ للنور فلا يد لنا تـمسك بهراوة السياسة.

السؤال الثالث الـمثير:

ان هجوم الاجانب كانكلترا وايطاليا على هذه الـحكومة في الآونة الأخيرة يؤدي الى إثارة الـحـمية الإسلامية وهي ركيزة حقيقية ومنبع قوة معنوية لـحكومات خلت في هذا الوطن منذ أمد بعيد وستصبـح وسيلة لإحياء الشعائر الإسلامية – الى حدٍ ما – ولدفع شيء من البدع.. فلـم عارضتَ هذه الـحرب بشدة وسألت الله أن تـحل القضية بسلام وأمان. فقد اصبـحت منـحازاً لـحكومة الـمبتدعين، وهذا بذاته وبنتائجه موالاة للبدع!؟

الـجواب: نـحن نسأل الله الفرج والبشارة والسرور والفتـح، ولكن ليس بسيف الكفار.. فسحقاً لسيوفهم ولتكن وبالاً عليهم. نـحن لسنا بـحاجة ولا نرجو الفائدة من سيوفهم، لأن اولئك الاجانب الـمتـمردين هم الذين سلطوا الـمنافقين على أهل الأيـمان، وهم الذين ربّوا الزنادقة في احضانهم.

أما مصيبة الـحرب وبلاؤها، فهي ضرر بالغ لـخدمتنا القرآنية، لأن معظم اخواننا العاملين الـمضحين الفضلاء لا يتـجاوز اعمارهم الـخـمس والاربعين سنة، فيضطرون الى الذهاب للـحرب تاركين الـخدمة القرآنية الـمقدسة. ولو أن لي مبلغاً من الـمال، لكنت ادفعه – بكل رضاي – لأجل انقاذ هؤلاء الاخوة الاكارم، حتى لو كان البدل النقدي ألف ليرة! ان انـخراط مئات من اخواننا العاملين في الـجندية، ومزاولتهم الـجهاد الـمادي خسارة فادحة لـخدمتنا، أشعر أنها تعدل اكثر من مائة ألف ليرة. بل ان ذهاب ((ذكائي)) الى الـجندية خلال السنتين الـماضيتين، أفقدنا اكثر من ألف ليرة من الفوائد الـمعنوية.

وعلى كل حال فان القدير ذا الـجلال الذي يطهـّر وجه السـماء الـملبـّد بالغيوم ويبرز الشمس الساطعة في وجه السـماء اللامع خلال دقيقة واحدة، هو القادر ايضاً على ان يزيل هذه الغيوم السوداء الـمظلـمة الفاقدة للرحـمة، ويُظهر حقائق الشريعة كالشمس الـمنيرة بكل يسر وسهولة وبغير خسارة.

اننا نرجو هذا من رحـمته الواسعة، ونسألـه سبـحانه الاّ يكـّلفنا ذلك ثمناً غالياً. وان يـمنـح رؤوس الرؤساء العقل ويهب لقلوبهم الإيـمان. وهذا حسبنا، وحينها تتعدل الامور بنفسها وتستقيـم.

السؤال الرابع الـمثير:

يقولون: ما دام الذي في ايديكم نور، وليس هراوة وصولـجاناً، فالنور لايُعارض ولايُهرب منه، ولا ينـجـم من إظهاره ضرر، فلـم اذاً توصون اصدقاءكم بأخذ الـحذر وتـمنعونهم من ابراز رسائل نيّرة كثيرة للناس كافة؟.

مضمون جواب هذا السؤال باختصار هو:

ان رؤوس كثير من الرؤساء مـخـمورة، لا يقرأون، واذا قرأوا لا يفهمون، فيؤولونه الى معنى خطأ، ويعترضون ويهاجـمون. لذا، وللـحيلولة دون الـهجوم ينبغي عدم اظهار النور لـهم لـحين افاقتهم واسترجاع رشدهم.

ثم ان هناك غير منصفين كثيرين، ينكرون النور، أو يغمضون اعينهم دونه، لاغراض شخصية خاصة، أو خوفاً أو طعماً..

ولأجل هذا اوصى اخوتي ايضاً ليأخذوا حذرهم ويـحتاطوا للأمر، وعليهم الاّ يعطوا الـحقائق احداً من غير اهلـها، والاّ يقوموا بعمل يثير اوهام اهل الدنيا وشبهاتهم عليهم(1).

























خاتـمة

تسلـمت اليوم رسالة من السيد رأفت، ولـمناسبة سؤالـه عن اللـحية النبوية الشريفة اقول: انه ثابت في الـحديث الشريف: ان عدد الشعرات التي سقطت من لـحيته الشريفة e مـحدود، وهو عدد قليل، يتراوح بين ثلاثين الى اربعين، أو لا يتـجاوز الـخـمسين والستين من الشعرات، ولكن وجود الشعرات في الوف الاماكن، استوقفني ودفعني الى التأمل والتفكر في حينه، فورد الى خاطري في ذلك الوقت:

ان شعرات اللـحية الشريفة الـموجودة الآن – في كل مكان – ليست هي شعرات اللـحية الشريفة وحدها، بل ربـما شعرات من رأسه الـمبارك e ، اذ الصحابة الكرام الذين ما كانوا ليضيعوا شيئاً منه e قد حافظوا على تلك الشعرات الـمنورة الـمباركة – كلـما حلق – والتي تبقى دائماً، فتلك الشعرات تربو على الألوف وهذا يـمكن ان يكون مكافئاً للـموجود الـحاضر.

وورد ايضاً الى خاطري: تُرى هل الشعر الـموجود في كل جامع بسند صحيـح هو ثابت ايضاً انه من شعره e حتى تكون زيارتنا لـه معقولة؟

فسنـح ببالي فجأة: ان زيادة تلك الشعرات انـما هي وسيلة، وهي سبب لقراءة الصلوات على الرسول الكريـم e ، وهي مدار مـحبته وتوقيره. فلا تُنظر الى ذات الوسيلة، وانـما الى جهة كونها وسيلة، لذا فإن لـم تكن هي شعرة حقيقية من شعراته e فهي تؤدي وظيفة تلك الوسيلة ما دامت تـحسب – في الظاهر – هكذا، وتلقاها الناس شعره من شعراته e . فتكون تلك الشعره وسيلة لتوقيره e ومـحبته واداء الصلوات عليه، فلا يلزم السند القطعي لتشخيص ذات الشعر وتعينيه بل يكفي الاّ يكون هناك دليل قاطع بـخلافه، لأن ما يتلقاه الناس وما قبلته الامة ورضيت به يكون في حكم نوع من الـحجة. وحتى لو اعترض بعض اهل التقوى على مثل هذه الامور سواءً من جهة التقوى أو الأخذ بالاحوط أو العمل بالعزيـمة فانـما يعترضون على شعرات خاصة، ولو قيل انها بدعة، فانها داخلة ضمن البدعة الـحسنة، لأنها الوسيلة للصلوات على الرسول الكريـم e .

ويقول السيد رأفت في رسالته: ((ان هذه الـمسألة قد اصبـحت مثار الـمناقشة بين الاخوان)). فاوصي اخواني: الاّ يناقشوا فيـما يـمكن ان ينـجـم عنه الانشقاق والافتراق، وانـما عليهم أن يتعلـموا تباحث الامور من دون نزاع، وعلى نـمط التداول في الافكار.

باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته

اخوتي الاعزاء من ((سنركنت))(1) السادة: ابراهيـم، شكري، الـحافظ بكر، الـحافظ حسين، الـحافظ رجب.

ان الـمسائل الثلاث التي ارسلتـموها بيد الـحافظ توفيق، يعترض عليها الـملـحدون منذ أمد بعيد:

اولاها: ان الـمعنى الظاهري لقولـه تعالى:

} حتى اذا بَلَغَ مَغْربَ الشَمْس وَجَدَها تَغْرُبُ في عَينٍ حـمئةٍ {

(الكهف:86)

هو: انه رأى غروب الشمس في ماء عينٍ ذي طين وحرارة.

ثانيتها: اين يقع سد ذي القرنين؟

ثالثتها: نزول سيدنا عيسى عليه السلام وقتلـه الدجال في آخر الزمان.

ان اجوبة هذه الاسئلة طويلة، الاّ اننا نشير اليها باختصار فنقول:

ان آيات القرآن الكريـم مبينة على اساليب اللغة العربية، وبوجه يفهمه عموم الناس بظاهر النظر، لذا كثيراً ما بينت الـمسائل بالتشبيه والتـمثيل.

فقولـه تعالى: } تَغْرُبُ في عَينٍ حـمئةٍ {

يعني: ان ذا القرنين قد شاهد الشمس تغرب في ما يشبه عيناً موحلة وحامية، عند ساحل البـحر الـمـحيط الغربي، أو شاهد غروبها في عين جبل بركاني ذي لـهيب ودخان.

أي انه شاهد في ظاهر النظر غروبها في سواحل البـحر الـمـحيط الغربي، وفي جزء منه الذي تراءى لـه من بعيد كأنه بُركة او حوض عينٍ واسعة، فشاهد غروبها الظاهري خلف الابـخرة الكثيفة الـمتصاعدة من مياه الـمستنقعات الواقعة عند سواحل البـحر الـمـحيط الغربي، لشدة حرارة شمس الصيف.. او شاهد اختفاء الشمس – التي هي عين السـماء (1)– في عين ملتهبة انفلقت حديثاً على قمة جبل بركاني تقذف بـحـمـمها مازجة التراب والصخور والـمعادن السائلة.

نعم ان تعابير القرآن الكريـم البليغة الـمعجزة ترشد بهذه الـجـملة الى مسائل كثيرة:

فاولاً ان سياحة ذي القرنين كانت الى جهة الغرب.. وفي وقت عزّ الـحر.. ونـحو الـمستنقعات.. وموافقتها أوان غروب الشمس.. وحين انفلاق جبل بركاني.. كل هذا تشير به الآية الكريـمة الى مسائل مليئة بالعبر منها استيلاء ذي القرنين على افريقيا استيلاءً تاماً.

ومن الـمعلوم ان الـحركة الـمشهورة للشمس انـما هي حركة ظاهرية، وهي دليل على حركة الارض الـخفية – غير الـمـحسوس بها – وهي تـخبر عن تلك الـحركة. وليس الـمراد حقيقة الغروب(2).

ثم ان كلـمة ((عين)) انـما هي للتشبيه، اذ البـحر العظيـم يُرى من بعيد كحوض صغير، فتشبيه البـحر الـمشاهد من خلف الضباب والابـخرة الـمتولدة من الستنقعات والبرك بلفح الـحرارة بـ((عين حـمئة)) أي عين تنبع من طين، وكذا استعمال كلـمة ((عين)) التي تعني في اللغة العربية: الينبوع والشمس والبصر، ينطوي على سرّ بلاغي دقيق وعلاقة وثيقة(3).

فكما بدا الغروب لنظر ذي القرنين من بُعد هكذا. فان الـخطاب القرآني النازل من العرش الاعظم الـمهيـمن على الاجرام السـماوية، حرىّ بهذا الـخطاب السـماوي ومنسجـم مع عظمته ورفعته قولـه بأن الشمس الـمسخرة سراجاً في مضيف رحـماني، تـختفي في ((عين)) ربانية وهي البـحر الـمـحيط الغربي، معبراً باسلوبه الـمعجز ان البـحر ((عين)) حامية. نعم هكذا يبدو البـحر للعيون السـماوية.

حاصل الكلام:

ان التعبير بـ((عين حـمئة)) للبـحر الـمـحيط الغربي انـما هي بالنسبة لذي القرنين الذي رأى من بُعد ذلك البـحر العظيـم كأنه عين ماء. أما النظر القرآني الذي هو قريب الى كل شيء، فلا ينظر نظر ذي القرنين من بعيد الذي يداخلـه خداع البصر، بل لانه نزل من السـماء مطلعاً عليها، ولانه يرى الارض ميداناً او قصراً واحياناً مهداً او صحيفة، فان تعبيره بـ((عين)) للبـحر العظيـم وهو الـمـحيط الاطلسي الغربي الـمغطى بالضباب والابـخرة انـما يبين علوه ورفعته وسـموه وعظمته.

سؤالكم الثاني:

اين يقع سد ذي القرنين؟ ومَن يأجوج ومأجوج؟

الـجواب: لقد كتبت سابقاً رسالة حول هذه الـمسألة، فألزمت الـحجة ملاحدة ذلك الوقت. إلاّ انني لا املك تلك الرسالة، فضلاً عن ان حافظتي لاتـمدني بشيء فقد عطلت اشغالـها. علاوة على أن هذه الـمسألة قد تطرق اليها ((الغصن الثالث من الكلـمة الرابعة والعشرين)) لـهذا نشير اشارة في غاية الاختصار الى نكتتين او ثلاث فحسب تعود الى هذه الـمسألة وهي:

انه بناءً على ما بيـّنه اهل العلـم الـمـحققون، وابتداء اسـماء عدد من ملوك اليـمن بكلـمة ((ذي)) – كذي يزن – وما يشير اليه عنوان ((ذي القرنين)) فان ذا القرنين هذا ليس هو الاسكندر الرومي (الـمقدوني) وانـما هو احد ملوك اليـمن الذي عاصر سيدنا ابراهيـم عليه السلام وتلقى الدرس من سيدنا الـخضر عليه السلام. بينـما جاء الاسكندر الرومي قبل الـميلاد بـحوالي ثلاثمائة سنة ودرس على يد ارسطو.

ان التاريـخ الذي دوّنه الانسان يضبط الـحوادث الى حد ما قبل ثلاثة آلاف عام. لذا فان نظر هذا التاريـخ الناقص القاصر لا يستطيع ان يـحكم بصواب على حوادث ما قبل زمن سيدنا ابراهيـم عليه السلام، فإما يذكرها مشوبة بالـخرافات، أو ينكرها او يوردها باختصار شديد.

أما سبب اشتهار ((ذي القرنين)) اليـماني هذا في التفاسير بالاسكندر، فيعود الى:

أن احد اسـماء ذي القرنين هو الاسكندر، فهو الاسكندر الكبير، والاسكندر القديـم. او نظراً لأن القرآن الكريـم لدى ذكره لـحادثة جزئية يذكرها لكونها طرفاً لـحوادث كلية، فان الاسكندر الكبير الذي هو ذو القرنين؛ مثلـما اسس سدّ الصين الشهير بارشاداته النبوية بين الاقوام الظالـمة والـمظلومة وليصدّ عنهم غاراتهم فان قواداً عظاماً عديدين كالاسكندر الرومي وملوكاً اقوياء اقتدوا بذي القرنين – في الـجهة الـمادية – وان قسـماً من الانبياء والاقطاب الاولياء – وهم ملوك معنويون للانسانية، ساروا على اثره في الـجهة الـمعنوية والارشاد.. فهؤلاء اسسوا السدود بين الـجبال(1) التي هي من الوسائل الـمهمة لإنقاذ الـمظلومين من شر الظالـمين. ثم بنوا القلاع في قمـم الـجبال، فشيـّدوا تلك الـموانع إما بقوتهم الـمادية الذاتية أو بارشاداتهم وتوجيهاتهم وتدابيرهم. حتى بنوا الاسوار حول الـمدن والـحصون في اواسطها، الى ان بلغ الامر الى استعمال وسيلة أخيرة هي الـمدافع الثقيلة والـمدرعات الشبيهة بالقلاع السيارة.

فذلك السد الذي بناه ذو القرنين وهو اشهر سد في العالـم ويبلغ طولـه مسيرة ايام انـما بناه ليصد به هجـمات اقوام شريرة اطلق عليهم القرآن الكريـم اسـم يأجوج ومأجوج ويعبر عنهم التاريـخ بقبائل الـمانـجور والـمغول الذين دمـّروا الـحضارة البشرية مرات ومرات. وظهروا من وراء جبال هملايا فأهلكوا العباد وخرّبوا البلاد شرقاً وغرباً. فصار ذلك السد الـمبني بين جبلين قريبين من سلسلة هملايا مانعاً امام هجـمات هؤلاء الاقوام الـهمـجية، وحائلاً دون غاراتهم العديدة على الـمظلومين في الصين والـهند.. ومثلـما اسس ذو القرنين هذا السد فقد بنيت سدود كثيرة اخرى بهمة ملوك ايران القدماء في جبال القفقاس في منطقة الـمضيق صداً للنهب والسلب والغارات التي امتهنتها اقوام التتر. وهناك سدود كثيرة من هذا النوع.

فالقرآن الكريـم لأنه يـخاطب البشرية كافةً، فانه يذكر ظاهراً حادثة جزئية ويذكـّر بها احداثاً مشابهة لـها.

فمن زاوية النظر هذه تـختلف الروايات واقوال الـمفسرين حول السد ويأجوج ومأجوج.

ثم ان القرآن الـحكيـم قد ينتقل من حادثة الى اخرى بعيدة عنها وذلك من حيث الـمناسبات الكلامية وعلاقاتها. فالذي لا يعرف هذه العلاقات يظن ان زمانَي الـحادثتين قريبان. وهكذا فإخبار القرآن عن قيام الساعة عقب خراب السد، ليس هو لقرب الزمان، وانـما لأجل نكتتين من حيث الـمناسبات الكلامية، أي: كما ان هذا السد سيُدمر فستدمـّر الدنيا كذلك.

ثم ان الـجبال التي هي سدود فطرية إلـهية راسخة وقوية لا تُنسف الاّ بقيام الساعة، فهذا السد ايضاً قوي كالـجبال لا يدكّ الاّ بقيام الساعة، وسيبقى الكثير منه ويدوم حتى لو عملت فيه عوامل التغيير على مدى الزمان من خراب وهدم.

نعم! ان سد الصين الذي هو فرد من كلية سد ذي القرنين ما زال باقياً مشاهداً على الرغم من مرور الوف السنين، وانه يُقرأ كسطر طويل كـُتب بيد الانسان على صحيفة الارض، يـُقرأ سطراً مـجسـماً متـحجراً ذا مغزى من التاريـخ القديـم.

سؤالكم الثالث:

وهو حول قتل عيسى عليه السلام للدجال. ففي ((الـمكتوب الاول والـخامس عشر)) جواب شافٍ لكم وهما في غاية الاختصار.















باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته

اخويّ الوفيين الصدّيقين الـمضحيين العزيزين: العالـم صبري، والـحافظ علي.

ان سؤالكما الـمهم حول الـمغيبات الـخـمسة الـموجودة في ختام سورة لقمان، يـحتاج الى جواب في غاية الاهمية، الاّ أنني – مع الاسف – اعاني من حالة روحية واحوال مادية.. تـحول بيني وبين الـجواب الشافي. ومع هذا سأشير اشارة فحسب، في غاية الاجـمال الى بضع نقاط يتعلق بها سؤالكما:

ان فحوى سؤالكما هذا هو ان الـملـحدين يعترضون على كون وقت نزول الغيث ونوعية الـجنين في الرحـم من الـمغيبات الـخـمسة فينتقدون قائلين: ان وقت نزولـه يُكشف عنه في الـمراصد الـجوية، فاذن يعلـمه كذلك غيرُ الله، وان جنس الـجنين في رحـم الام يـمكن معرفته، ذكراً كان أم انثى باشعة رونتكن. بـمعنى انه يـمكن الاطلاع على الـمغيبات الـخـمسة!

الـجواب: لـما كان وقت نزول الغيث غير مرتبط بقاعدة مطردة، فانه يرتبط مباشرة بالـمشيئة الإلـهية الـخاصة، ويتبع الارادة الإلـهية الـخاصة، فينزل من خزينة رحـمته تعالى دون وساطة. وإن سرّ حكمته هو الآتي:

ان اهم حقيقة في الكون واثمن ماهية فيه هي الوجود، الـحياة، النور، الرحـمة وان هذه الاربعة متوجهة مباشرة ودون وسائط وحجب الى القدرة الإلـهية ومشيئتها الـخاصة، بينـما تـحجب الاسباب الظاهرة في الـمصنوعات الإلـهية الاخرى تصرّف القدرة الإلـهية، وتستر القوانين الـمطردة والقواعد الثابتة – الى حدٍ ما – الارادة الإلـهية ومشيئتها، الاّ ان تلك الـحجب والاستار لـم توضح امام الـحياة والنور والرحـمة؛ لعدم جريان حكمة وجودها في تلك الامور.

وحيث ان الرحـمة والـحياة اهم حقيقتين في الوجود، وان الغيث منشأ الـحياة ومدار الرحـمة بل هو عين الرحـمة، فلابد الاّ تكون الوسائط حجباً أمامها، ولابد الاّ تستر القاعدة الـمطردة الـمشيئة الإلـهية الـخاصة بها، وذلك ليضطر كل فرد في كل وقت، وفي كل امر الى الشكر واظهار العبودية والى السؤال والتضرع والدعاء؛ اذ لو كانت تلك الامور على وفق قاعدة معينة لانسدّ باب الشكر والرجاء منه تعالى استناداً الى القاعدة الـمطردة. فطلوع الشمس مع ما فيه من منافع معلومة، لانه مرتبط بقاعدة معينة، فلا يُسأل الله سبـحانه عن طلوعها ولا يشكر عليه شكراً خاصاً ولا يعدّ ذلك من امور الغيب، لأن البشر يعرفون بالعلـم الذي توصلوا اليه وبوساطة تلك القاعدة موعد شروق الشمس غداً.

ولكن جزئيات الغيث ليست مرتبطة بقاعدة معينة، لذا يضطر الناس في كل وقت الى التضرع والتوسل الى رحـمته تعالى. ولـما كان علـم البشر، لا يستطيع ان يـحدد وقت نزول الغيث، فقد تلقاه الناس نعمة خاصة لا تصدر الاّ من خزينة الرحـمة الإلـهية، فيشكرون ربهم شكراً حقيقياً عليها. وهكذا فهذه الآية الكريـمة تُدخل وقت نزول الغيث بين الـمغيبات الـخـمسة من هذه الزاوية التي ذكرناها. أما الاحساس بالاجهزة في الـمراصد عن مقدمات وقت نزولـه، ومن ثم تعيين وقته فهذا ليس علـماً بالغيب، بل هو علـم بالاطلاع على بعض مقدمات نزولـه حينـما يقترب الى عالـم الشهادة بعد صدوره من الغيب، مثلـما يُعلـم بنوع من احساس مسبق أخفى الامور الغيبية حينـما تـحصل، أو بعد قربه من الـحصول ولا يعدّ ذلك معرفة بالغيب، وانـما هو معرفة بذلك الـموجود، او بالـمقرّب الى الوجود.

حتى انني اشعر احياناً بشعور مرهف في اعصابي، بـما سيأتي من الغيث قبل مـجيئه باربع وعشرين ساعة. بـمعنى ان الغيث مقدمات ومبادىء، فتلك الـمبادىء تبدي نفسها على صورة رطوبة تُشعر ما وراءها من الغيث، فيكون هذا الـحال وسيلة لوصول علـم البشر كالقاعدة الـمطردة، الى امور قد صدرت عن الغيب وخرجت منه ولـمـّا دخلت الى عالـم الشهادة.

اما معرفة نزول الغيث الذي لـم يطأ قدمه عالـم الشهادة، ولـم يـخرج بعدُ من الرحـمة الإلـهية الـخاصة بـمشيئتها الـخاصة، فانـما هو خاص بعلـم علام الغيوب.

بقيت الـمسألة الثانية التي هي:

معرفة جنس الـجنين في رحـم الام باشعة رونتكن، هذه الـمعرفة لا تنافي قطعاً ما تفيده الآية الكريـمة: } ويَعْلـم مَا في الأرحَام { (لقمان:34) من معنى الغيب. لأن الـمراد من العلـم الـمذكور فيها لا ينـحصر في ذكورة الـجنين وانوثته وانـما الـمراد منه معرفة الاستعدادات البديعة الـخاصة بذلك الطفل والتي هي مبادىء الـمقدرات الـحياتية، وهي مدار ما سيكسبه في الـمستقبل من اوضاع. وحتى معرفة ختـم الصمدية وسكتها الرائعة البادية على سيـماه.. كلـها مرادة في ذلك الـمعنى بـحيث ان العلـم بالطفل وبهذه الوجوه من الامور خاص بعلـم علام الغيوب وحده، فلو اتـحدت مئات الالوف من افكار البشر النافذة كأشعة رونتكن لـما كشفت ايضاً عن ملامـح الطفل الـحقيقية في وجهه وحده تلك الـملامـح التي تـحـمل من العلامات التي تفرقها وتـميزها عن كل فرد من افراد البشرية قاطبة، فكيف اذن يـمكن كشف السيـماء الـمعنوية في استعداداته وقابلياته التي هي خارقة بـمئات الالوف من الـمرات عن ملامـح الوجه!

ولقد قلنا في الـمقدمة: ان الوجود والـحياة والرحـمة من اهم حقائق الكون ولـها اعلى مقام ومرتبة فيه. لذا تتوجه تلك الـحقيقة الـحياتية الـجامعة بـجـميع دقائقها ولطائفها الى ارادة الله الـخاصة ورحـمته الـخاصة ومشيئته الـخاصة.

واحد اسرار ذلك هو ان الـحياة بـجـميع اجهزتها منشأ للشكر، ومدار للعبادة والتسبيـح، ولذلك لـم توضع دونها القاعدة الـمطردة التي تـحجب رؤية الارادة الإلـهية الـخاصة ولا الوسائط الظاهرية التي تستر رحـمته الـخاصة سبـحانه.

ان الله سبـحانه وتعالى تـجليين اثنين في سيـماء الـجنين الـمادي والـمعنوي.

الاول:

يدل على وحدته سبـحانه وأحديته وصمديته، اذ الـجين يشهد على وحدانية خالقه وصانعه بتطابق اعضائه الاساس وتوافق اجهزته الانسانية مع سائر البشر. فذلك الـجنين ينادي بصراحة هذا اللسان قائلاً: من الذي وهب لي هذه السيـماء في الاعضاء هو ذلك الصانع الذي وهب لـجـميع البشر الذين يشبهونني في أساسات الاعضاء. وهو سبـحانه صانع جـميع ذوي الـحياة.

فهذا اللسان الذي يدل به الـجنين على الصانع الـجليل ليس لساناً غيبياً، بل هو معلوم يـمكن معرفته والوصول اليه، حيث انه يتبع قاعدة مطردة ويسير على وفق نظام معين ويستند الى نوعية الـجنين، فهذا العلـم لسان ناطق وغصن قد تدلى من عالـم الغيب الى عالـم الشهادة.

الـجهة الثانية:

وهي ان الـجنين ينادي بلسان سيـماء استعداداته الـخاصة وسيـماء وجهه الشخصية فيدل على اختيار صانعه ومشيئته الـمطلقة وارادته الـخاصة ورحـمته الـخاصة. فهذا اللسان لسان غيبي آت من هناك، فلا يستطيع ان يراه احد قبل وجوده غير العلـم الازلي، ولا يـمكن ان يـحيط به سواه. فبـمشاهدة جهاز من الف جهاز من سيـماء الـجنين في الرحـم، لا يُعلـم هذا الانسان.

الـحاصل:

ان سيـماء الاستعدادات في الـجنين، وسيـماء وجهه دليل الوحدانية وحجة الاختيار والارادة الإلـهية.

وستكتب إن وفق الله تعالى بضع نكات حول الـمغيبات الـخـمسة. اذ لا يسـمـح الوقت الـحاضر ولا حالتي باكثر من هذا. واختـم كلامي.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي



















باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته

اخي العزيز الصدّيق الـمتلـهف رأفت بك!

أنك تسأل في رسالتك عن اللطائف العشر، وحيث أنني لست في حالة تدريس الطريقة الصوفية، ولعلـماء الطريقة النقشبندية مؤلفات تـخص اللطائف العشر، وان وظيفتنا في الوقت الـحاضر هي استـخراج الاسرار القرآنية واستنباطها، لا نقل الـمسائل الـموجودة في بطون الكتب! فلا تـمتعض من عدم استطاعتي تقديـم التفاصيل. إِلاّ انني اقول:

ان الامام الرباني قد عبـّر عن اللطائف العشر بالقلب والروح والسر والـخفي والأخفى. وذكر ان لكل عنصر من العناصر الاربعة في الانسان لطيفة انسانية ملائمة ومنسجـمة معه. وذكر اجـمالاً عن رقي كل لطيفة من تلك اللطائف واحوالـها في كل مرتبة اثناء السير والسلوك. وبالنسبة لي ارى أن لطائف كثيرة مندرجة في ماهية الانسان الـجامعة وفي استعداده للـحياة الاّ ان عشراً منها قد اشتهرت حتى أن الـحكماء والعلـماء الظاهريين ايضاً قد جعلوا تلك اللطائف العشر اساساً لـحكمتهم في صورة اخرى حيث قالوا: أن الـحواس الـخمس الظاهرة نوافذ أو نـماذج لـحواس خـمس باطنة. حتى ان ما اشتهر لدى العوام والـخواص من لطائف الانسان العشر منسجـمة مع اللطائف العشر لدى ارباب الطرق الصوفية. فمثلاً: الوجدان والاعصاب والـحس والعقل والـهوى والقوى الشهوية والقوة الغضبية، اذا الـحقت هذه اللطائف بالقلب والروح والسر، تُظهر اللطائف العشر في صورة اخرى. وهناك لطائف اخرى كثيرة غير هذه اللطائف، امثال: السائقة، الشائقة، الـحس قبل الوقوع.

فلو كتبت حقيقة هذه الـمسألة لطالت كثيراً، لذا اضطر الى قطع التفاصيل نظراً لضيق وقتي.

اما سؤالك الثاني الذي يتعلق ببـحث الـمعنى الاسـمي والـمعنى الـحرفي، فمثلـما اشارت كتب النـحو عامة اليه في بداياتها، فقد وضحته توضيـحاً كافياً بالامثلة كتب علـم الـحقيقة كالكلـمات والـمكتوبات ويعدّ من الاسراف الاسهاب في الايضاح لـمن يـملك ذكاءً ودقة ملاحظة مثلك.

فانك اذا نظرت الى الـمرآة من حيث انها زجاجة، ترى مادتها الزجاجية، وتكون الصورة الـمتـمثلة فيها شيء ثانوي، بينـما ان كان القصد من النظر الى الـمرآة رؤية الصورة الـمتـمثلة فيها، فالصورة تتوضح امامك حتى تدفعك الى القول: } فتبارك الله احسن الـخالقين { (الـمؤمنون:14) بينـما تبقى زجاجة الـمرآة أمر ثانوي.

النظرة الأولى تـمثل ((الـمعنى الاسـمي)) أي: زجاجة الـمرآة معنى مقصود، وصورة الشخص الـمتـمثلة فيها ((معنى حرفي)) غير مقصود.

أما النظرة الثانية فصورة الشخص هي الـمقصود، فهي اذن معنى ((إسـمى)) أما الزجاج فمعنى ((حرفي)).

وهكذا ورد في كتب النـحو تعريف الاسـم أنه: دلّ على معنى في نفسه. أما الـحرف فهو: ما دلّ على معنى في غيره.

فالنظر القرآنية الى الـموجودات تـجعل الـموجودات جـميعها حروفاً، أي انها تعبـّر عن معنى في غيرها، بـمعنى انها تعبتّر عن تـجليات الاسـماء الـحسنى والصفات الـجليلة للـخالق العظيـم الـمتـجلية على الـموجودات.

اما نظرة الفلسفة الـميتة فهي تنظر على الاغلب بالنظر الاسـمي الى الـموجودات، فتزل قدمها الى مستنقع الطبيعة.

وعلى كل حال فلا متسع لي من الوقت كي اتكلـم كثيراً، حتى أنني لا استطيع ان اكتب القسـم الأخير الـمهم من الفهرس الذي هو سهل يسير. بلـّغ سلامي الى رفقائك في الدرس وبـخاصة خسرو، بكر، رشدي، لطفي، الشيـخ مصطفى، الـحافظ احـمد، سزائي، الـمـحـمدون والعلـماء واني لادعو للاطفال الابرياء الـمباركين في بيتكم الـمبارك.

الباقي هو الباقي

اخوكم

سعيد النورسي

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:11 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة السابعة عشرة

(عبارة عن سبع عشرة مذكـِّرة تألقت من الزُّهرة)

بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم

الـمقدمة

قبل اثنتي عشرة سنة(1) من تأليف هذه اللـمعة وفقني الـمولى الكريـم وشـملني بعنايته ولطفه، فكتبتُ بعض ما تألق من مسائل التوحيد وبعض ما تظاهر منها اثناء تأملٍ فكري، وتـجوالٍ قلبي، وانكشافٍ روحي عبر العروج في مراتب الـمعرفة الإلـهية، كتبتُها باللغة العربية على صورة مذكـّرات في رسائل موسومة بـ((زُهرة)) و ((شعلة)) و ((حبـّة)) و ((شـمـّة)) و ((ذرة)) و ((قطرة)) وامثالـها.

وحيث ان تلك الـمذكـِّرات قد كتبتْ لاجل اراءة بداية حقيقة عظيـمة واسعة، وابراز مقدمتها فحسب، ولأجل اظهار شعاع من اشعة نور ساطع باهر، فقد جاءت على شكل خواطر وملـحوظات وتنبيهات. سجلتها لنفسي وحدها، مـما حددّتْ الاستفادة منها، وبـخاصة أن القسـم الاعظم من اخلص اخواني وخلاصتهم لـم يدرسوا اللغة العربية، فاضطررتْ أزاء إصرارهم والـحاحهم الى كتابة ايضاحات باللغة التركية لقسـم من تلك الـمذكرات واللـمعات. واكتفي بترجـمة القسـم الاخر منها(1).

ولقد جاءت الترجـمة الى التركية نصاً دون تغيير حيث تراءت ((لسعيد الـجديد)) هذه الـخواطر الواردة في الرسائل العربية رؤية أشبه ما يكون بالشهود، وذلك حينـما شرع بالاغتراف من منهل علـم ((الـحقيقة)).. ولأجل هذا فقد ذُكر بعض الـجـمل بالرغم من أنه مذكور في رسائل اخرى بينـما ذُكر البعض الآخر في غاية الاجـمال ولـم يوضـّح التوضيـح الـمطلوب وذلك لئلا يفقد لطافته الاصلية.

سعيد النورسي

الـمذكرة الاولى

كنت قد خاطبتُ نفسي قائلاً: اعلـم ايها السعيد الغافل! انه لا يليق بك ان تربط قلبك وتعلـّقه بـما لا يرافقك بعد فناء هذا العالـم، بل يُفارقُك بـخراب الدنيا! فليس من العقل في شيء ربطُ القلب بأشياء فَانية!

فكبف بـما يتركك بانقراض عصرك ويدير ظهره لك؟

بل فكيف بـما لا يصاحبك في سَفر البرزخ؟

بل فكيف بـما لا يشيـّعك الى باب القبر؟

بل فكيف بـما يفارقك خلال سنة او سنتين فراقاً ابدياً، مُورّثِاً اِثـمَه ذمـَّتَك، مـحـملاً خطاياه على ظهرك؟

بل فكيف بـما يتركك على رغمك في آنِ سرورك بـحصولـه؟

فان كنت فطناً فلا تهتـم ولا تغتـم، واترك ما لا يقتدر ان يرافقك في سفر الابد والـخلود، بل يضمـحل ويفنى تـحت مصادمات الدنيا وانقلاباتها، وتـحت تطورات البرزخ، وتـحت انفلاقات الآخرة.

ألا ترى ان فيك لطيفةً لا ترضى الاّ بالأبد والأبدي، ولاتتوجه الاّ الى ذلك الـخالد، ولاتتنزل لـما سواه؟ حتى اذا ما اُعطيت لـها الدنيا كُلـها، فلا تُطَمأن تلك الـحاجة الفطرية.. تلك هي سلطان لطائفك ومشاعرك.. فأطع سلطان لطائفك الـمطيع لأمر فاطره الـحكيـم جلّ جلالـه، وانجُ بنفسك..

الـمذكـِّرة الثانية

لقد رأيت في رؤيا صادقةٍ ذات حقيقة، أنني أخاطب الناس:

ايها الانسان! ان من دساتير القرآن الكريـم واحكامه الثابتة: أن لاتـحسبنَّ ما سوى الله تعالى اعظَم منك فترفعَه الى مرتبة العبادة، ولاتـحسَبنَّ انك اعظم من شيء من الاشياء بـحيث تتكـّبر عليه. اذ يتساوى ما سواه تعالى في العبد عن ((الـمعبودية)) وفي نسبة الـمـخلوقية.

الـمذكـِّرة الثالثة

اعلـم ايها السعيد الغافل! انك ترى الدنيا الزائلة سريعاً، كأنها دائمة لا تـموت، فعندما تنظر ما حولك من الآفاق وتراها ثابتةً مستـمرةً – الى حد ما – نوعاً وجـملةً، ومن ثم ترجع بالـمنظار نفسه فتنظر الى نفسك الفانية، تظنـّها ثابتةً ايضاً. وعندها لا تندهش الاّ من هَول القيامة، وكأنك تدوم الى أن تقوم الساعة!.

عُدْ الى رشدك، فانت ودنياك الـخاصة بك معـّرضان في كلّ آن الى ضربات الزوال والفناء.. ان مَثَلَكَ في خطأ شعورك وغَلَط حسـِّك هذا، يشبه مَن في يده مرآة تواجه قصراً او بلداً او حديقةً، وترتسـم الصورة الـمثاليةُ للقصر او البلد او الـحديقة فيها، فاذا ما تـحركت الـمرآة أدنى حركة، وتغيرت اقلّ تغـّير، فسيـحدث الـهرج والـمرج في تلك الصورة الـمثالية، فلا يفيدك بعدُ البقاءُ والدوام الـخارجيان في نفس القصر او البلد او الـحديقة، اذ ليس لك منها الاّ ما تعطيك مرآتُك بـمقياسها وميزانها.

فاعلـم ان حياتك وعمرك مرآة! وانها عماد دنياك وسندها ومرآتها ومركزها. فتأمل في مرآتك، وإمكان موتها، وخرابِ ما فيها في كل دقيقة، فهي في وضع كأن قيامتك ستقوم في كل دقيقة.

فما دام الامر هكذا فلا تـحـمـّل حياتك ودنياك ما لا طاقة لـهما به.

الـمذكـِّرة الرابعة

اعلـم ان من سنّة الفاطر الـحكيـم – في الاكثر – ومن عاداته الـجارية اعادة ما لـه اهمية وقيـمة غالية بعينه لا بـمثلـه . فعندما يـجدد اكثر الاشياء بـمثلـها عند تبدل الفصول وتعيـّر العصور، يُعيد تلك الاشياء الثمينة بعينها. فانظر الى الـحشر اليومي – أي الذي يتـم في كل يوم – والى الـحشر السنوي، والى الـحشر العصري، تَر هذه القاعدة الـمطـّردة واضحة جلية في الكل. وبناء على هذه القاعدة الثابتة نقول:

قد اتفقت الفنون وشهدت العلوم على أن الانسان هو أكمل ثمرةٍ في شجرة الـخليقة، وانه أهم مـخلوق بين الـمـخلوقات، وأغلى موجود بين الـموجودات، وأن فرداً منه بـمثابة نوع من سائر الاحياء، لذا يـحكم بالـحدس القطعي على أن كلّ فردٍ من أفراد البشر سيعاد في الـحشر الاعظم والنشر الاكبر بعينهِ وجسـمهِ واسـمهِ ورسـمهِ.

الـمذكـِّرة الـخامسة

حينـما سار ((سعيد الـجديد)) في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلوم الاوروبية الفلسفية وفنونها التي كانت مستقرة الى حدٍّ ما في افكار ((سعيد القديـم)) الى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلاتٌ كثيرة في تلك السياحة القلبية. فما كان من ((سعيد الـجديد)) الاّ القيام بتـمـخيض فكره والعمل على نفضه من أدران الفلسفة الـمزخرفة ولوثات الـحضارة السفيهة. فرأى نفسه مضطراً الى اجراء الـمحاورة الآتية مع الشخصية الـمعنوية لأوروبا لكبح جـماح ما في روحه من احاسيس نفسانية منـحازة لصالـح اوروبا، فهي مـحاورة مقتضبة من ناحية ومُسهبةٌ من ناحية اخرى.

ولئلا يُساء الفهمُ لابد أن ننبه: ان اوروبا اثنتان.

احداها: هي اوروبا النافعة للبشرية، بـما استفاضت من النصرانية الـحقة، وأدّت خدماتٍ لـحياة الانسان الاجتـماعية، بـما توصلت اليه من صناعاتٍ وعلومٍ تـخدم العدل والانصاف، فلا أخاطب – في هذه الـمـحاورة – هذا القسـم من اوروبا. وانـما أخاطب اوروبا الثانية تلك التي تعفـّنت بظلـمات الفلسفة الطبيعية وفسدت بالـمادية الـجاسية، وحَسبِتْ سيئات الـحضارة حسناتٍ لـها، وتوهـّمت مساوءها فضائل. فساقت البشرية الى السفاهة وأردتها الضلالة والتعاسة.

ولقد خاطبتُ في تلك السياحة الروحية الشخصية الـمعنوية الاوروبية بعد أن لستثنيت مـحاسن الـحضارة وفوائد العلوم النافعة، فوجـّهت خطابى الى تلك الشخصية التي اخذت بيدها الفلسفة الـمضرّة التافهة والـحضارة الفاسدة السفيهة.. وخاطبتها قائلاً:

يا اوروبا الثانية! اعلـمي جيداً أنكِ قد اخذتِ بيـمينكِ الفلسفة الـمضلـّة السقيـمة، وبشـمالك الـمدنية الـمضرّة السفيهة، ثم تدّعين ان سعادة الانسان بهما. ألا شُلـّت يداكِ، وبئست الـهدية هديتكِ، ولتكن وبالاً عليكِ، وستكون.

ايتها الروح الـخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الـجحود! تُرى هل يـمكن ان يسعد انسانٌ بـمـجرد تـملـّكه ثروة طائلة، وترفـّلـه في زينة ظاهرة خادعة، وهو الـمصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقلـه وفي قلبه بـمصائب هائلة؟ وهل يـمكن ان نطلق عليه أنه سعيد؟! ألا ترين أنّ من يِئس من امرٍ جزئي، وانقطع رجاؤه من أملٍ وهمي، وخاب ظنـّه من عملٍ تافه، كيف يتـحول خيالـه العذبُ مُراً علقماً، وكيف يتعذّب مـما حولـه من اوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا كالسجن بـما رحُبت!. فكيف بـمن أُصيب بشؤمك بضربات الضلالة في اعمق اعماق قلبه، وفي أغوار روحه، حتى انقطعت – بتلك الضلالة – جـميعُ آمالـه، فانشقت عنها جـميعُ آلامه، فايُّ سعادةٍ يـمكنك ان تضمَني لـمثل هذا الـمسكين الشَقي؟ وهل يـمكن ان يُطلَق لـمن روحه وقلبُه يُعذبان في جهنـم، وجسـمه فقط في جنةٍ كاذبة زائلة.. أنه سعيد؟..

لقد أفسدتِ – ايتها الروح الـخبيثة – البشريةَ حتى طاشت بتعاليـمك، فتقاسي منك العذاب الـمريَر، باذاقتك اِياها عذابَ الـجحيـم في نعيـم جنة كاذبة.

ايتها النفس الامارة للبشرية! تأملي في هذا الـمثال وافهمي منه الى اين تسوقين البشرية:

هب أن امامنا طريقين، فسلكنا احدهما، واذا بنا نرى في كل خطوة نـخطوها في الطريق الاول، مساكين عَجَزة يهجـم عليهم الظالـمون، يغصبون اموالـهم ومتاعهم، يـخرّبون بيوتهم واكواخهم، بل قد يـجرحونهم جرحاً بليغاً تكاد السـماء تبكي على حالتهم الـمفجعة، فاينـما يـمد النظر تُرى الـحالة نفسها فلا يُسـمع في هذا الطريق الاّ ضوضاء الظالـمين وصَخبَهم، وأنينُ الـمظلومين ونُواحهم، فكأن مأتـماً عاماً قد خيـم على الطريق.

ولـما كان الانسان – بـمقتضى انسانيته – يتألـم بألـم الآخرين، فلا يستطيع ان يتـحـمل ما يراه في هذا الطريق من ألـم غير مـحدود، اذ الوجدان لا يطيق ألـماً الى هذا الـحد، لذا يضطر سالك هذا الطريق الى أحد أمرين: اِما ان يتـجرد من انسانيته، ويـحـمل قلباً قاسياً غارقاً في منتهى الوحشة لا يتألـم بهلاك الـجـميع طالـما هو سالـم معافىً، او يُبطل ما يقتضيه القلبُ والعقلُ!.

فيا اوروبا التي نأتْ عن النصرانية وابتعدت عنها، وانغمست في السفاهة والضلالة! لقد اهديتِ بدهائك الاعور كالدجال لروح البشر حالة جهنـمية، ثم ادركتِ ان هذه الـحالة داءٌ عضال لا دواءَ لـه. إذ يهوي بالانسان من ذروة أعلى عليين الى درك اسفل سافلين، والى أدنى درجات الـحيوان وحضيضها، ولا علاج لك امام هذا الداء الوبيل الاّ ملاهيكِ الـجذابة التي تدفع الى اِبطال الـحسّ وتـخدير الشعور مؤقتاً، وكمالياتك الـمزخرفة واهواؤك الـمنوِّمة… فتعساً لكِ ولدوائكِ الذي يكون هو القاضي عليك.. نعم، ان ما فتـحتيه امام البشرية من طريق، يشبه هذا الـمثال الـمذكور.

اما الطريق الثاني فهو ما أهداه القرآن الكريـم من هديةٍ الى البشرية، فهداهم الى الصراط السوي، فنـحن نرى:

في كل منزل من منازل هذا الطريق، وفي كل موضع من مواضعه، وفي كل مدينة تقع عليه، جنود مطيعون أُمناء لسلطانٍ عادل، يتـجولون في كل جهة ينتشرون في كل ناحية، وبين فينة واخرى يأتي قسـم من مأموري ذلك الـملك العادل وموظفيه فيعفي بعض اولئك الـجنود من وظائفهم بأمر السلطان نفسه ويتسلـم منهم اسلـحتهم ودوابـّهم ومعدّاتهم الـخاصة بالدولة ويسلـم اليهم بطاقة الاعفاء. وهؤلاء الـمعفون يبتهجون ويفرحون – من زاوية الـحقيقة – على اعفائهم فرحاً عظيـماً لرجوعهم الى السلطان وعودتهم الى دار قرار سلطنته، والـمثول بزيارته الكريـمة، مع انهم يـحزنون في ظاهر الامر على ما أُخذ منهم من دابة ومعدات ألِفوها.. ونرى ايضاً أنه قد يلتقي اولئك الـمأمورون مَن لا يعرفهم من الـجنود، فعندما يـخاطبونه: أن سلـم سلاحك! يردّ عليهم الـجندي: انا جندي لدى السلطان العظيـم وتـحت امره وفي خدمته، واليه مصيري ومرجعي، فمن انتـم حتى تسلبوا مني ما وهبني السلطان العظيـم؟ فان كنتـم قد جئتـم باذنه ورضاه فعلي العين والرأس فأروني أمره الكريـم، والاّ تنـحـَّوا عني فلأقاتلنـّكم ولو كنت وحدي وانتـم أُلوف، اذ لا اقاتل لنفسي لانها ليست لي، بل اقاتل حفاظاً لأمانة مالكي ومولاي وصيانةً لعزته وعظمته. فانا لا ارضخ لكم!!.

فدونك مثالاً واحداً من ألوف الامثلة على ما في هذا الطريق الثاني من مصدر فرح ومدار سعادة. فانسج على منوالـه.

وعلى طول الطريق الثاني، وطوال مدة السفرة كلـها نرى سَوقاً الى الـجندية، يتـم في فرح وابتهاج وسرور.. تلك هي التي تسـمى بـ ((الـمواليد)). وهناك اعفاءات ورُخَص من الـجندية، تتـم في فرح وحبور ايضاً، وسط تهليل وتكبير.. تلك هي التي تسـمى بـ ((الوفيات)).

هذا هو الذي اهداه القرآن الكريـم للبشرية، فمن اهتدى به فقد سعد في الدارين ويـمضي في طريقه – الثاني – على هذه الصورة اللطيفة بلا حزن وكدّرٍ على ما فات منه، وبلا خوف ووجل مـما سيأتي عليه، حتى تنطبق عليه الآية الكريـمة: } لاخَوفٌ عَليهِم ولا هُمْ يـحزَنون { (البقرة:262).

يا اوروبا الثانية الفاسدة! انك تستندين الى اسس واهية نـخرة، فتزعمين:

أن كلّ كائن حي مالكٌ لنفسه، ابتداءً من اعظم ملَكَ وانتهاء الى اصغر سـمك. كلٌ يعمل لذاته فقط، ولأجل نفسه فحسب، ولا يسعى أحدٌ الاّ للذته الـخاصة، ولأجل هذا لـه حق الـحياة. فغاية همته وهدف قصده هو ضمان بقائه واستـمرار حياته. ثم انك ترين ((قانون التعاون)) جارياً فيـما بين الـمـخلوقات امتثالاً لأمر الـخالق الكريـم الذي هو واضح جلي في أرجاء الكون كلـه كامداد النباتات للـحيوانات والـحيوانات للانسان، ثم تـحسبين هذا القانون والسنـّة الإلـهية وتلك التـجليات الكريـمة الرحيـمة الـمنبعثة من ذلك التعاون العام جدالاً وخصاماً وصراعاً، حتى حكمتِ ببلاهة ان الـحياة جدال وصراع!

فيا سبـحان الله!! كيف يكون امدادُ ذرات الطعام امداداً بكمال الشوق لتغذية خلايا الـجسـم جدالاً وخصاماً؟ بل مَا هو الاّ سنـّة التعاون، ولا يتـم الاّ بأمر ربّ حكيـم كريـم!

وان ما تستندين اليه من ((أن كل شيء مالك لنفسه)) واضح البطلان. وأوضح دليل عليه هو ان اشرف الاسباب واوسعها ارادة واختياراً هو الانسان. والـحال ليس في يد اختياره ولا في دائرة اقتداره من أظهر افعالـه الاختيارية كالاكل والكلام والتفكر، الاّ جزءٌ واحد مُبهَمٌ من بين الـمائة. فالذي لا يـملك واحداً من الـمائة من مثل هذا الفعل الظاهر، كيف يكون مالكاً لنفسه؟! واذا كان الاشرف والاوسع اختياراً مغلولَ الايدي عن التـملك الـحقيقي والتصرف التام فكيف بسائر الـحيوانات والـجـمادات؟ أليس الذي يطلق هذا الـحكم ((بأن الـحيوان مالك لزمام نفسه)) أضلُّ من الانعام وأفقدُ للشعور من الـجـمادات؟

فيا اوروبا! ما ورطكِ في هذا الـخطأ الـمشين الاّ دهاءك الأعور، أي ذكاؤك الـمنـحوس الـخارق، فلقد نسيت بذكائك هذا ربَّ كل شيء وخالقه، اذ أسندتِ آثاره البديعة الى الاسباب والطبيعة الـموهومة! وقسـمتِ مُلك ذلك الـخالق الكريـم على الطواغيت التي تُعبَد من دون الله .. فانطلاقاً من هذه الزاوية التي ينظر منها دهاؤك الاعور يضطر كلُّ ذي حياة وكل انسان يصارع وحده ما لا يعد من الاعداء، ويـحصل بنفسه على ما لا يـحد من الـحاجات، بـما يـملك من اقتدارٍ كذرة، واختيارٍ كشعرة، وشعورٍ كلـمعة تزول، وحياة كشعلة تنطفي، وعمرٍ كدقيقة تنقضي، مع أنه لا يكفي كلُ ما في يده لواحدٍ من مطالبه. فعندما يصاب – مثلاٍ – بـمصيبة لا يرجو الدواء لدائه الاّ من اسباب صم، حتى يكون مصداق الآية الكريـمة: } وما دُعاءُ الكافرين إلاّ في ضلالٍ { (الرعد:14). ان دهاءك الـمظلـم قد قَلب نهارَ البشرية ليلاً، ذلك الليل البهيـم بالـجور والـمظالـم، ثم تريدين ان تنوري ذلك الظلام الـمـخيف بـمصابيـح كاذبة مؤقتة!.. هذه الـمصابيـح لا تبتسـم لوجه الانسان، بل تستهزى به، وتستـخف من ضحكاته التي يطلقها ببلاهة وهو متـمرغ في اوحال اوضاع مؤلـمة مُبكية! فكل ذي حياة في نظر تلاميذك، مسكينٌ مبتلىً بـمصائب ناجـمة من هجوم الظلـمة. والدنيا مأتـم عمومي، والاصوات التي تنطلق منها نعيـّات الـموت، وأناتُ الآلام، ونياحات اليتامى.

ان الذي يتلقى الدرس منك ويسترشد بهدْيك يصبـح ((فرعوناً)) طاغية.. ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس الاشياء، ويتـخذ كل شيء ينتفع منه رباً لـه.

وتلـميذك هذا ((متـمردٌ)) ايضاً.. ولكنه متـمرد مسكين، إذ لأجل لذةٍ تافهة يقبـّل قدَمَ الشيطان، ولأجل منفعة خسيسة يرضى بـمنتهى الذل والـهوان.

وهو ((جبـّار)) ولكنه جبار عاجز في ذاته لأنه لا يـجد مرتكزاً في قلبه يأوي اليه.

ان غاية ما يصبو اليه تلـميذك وذروة همـّته: تطمينُ رغبات النفس واشباعُ هواها، حتى انه دسّاس يبـحث تـحت ستار الـحـمية والتضحية والفداء عن منافعه الذاتية، فيطمئن بدسيسته وخبثه حرصَه ويُشبع نَهمَ غروره، إذ لا يـحب حقاً الاّ نفسه، بل يضحي بكل شيء في سبيلـها.

اما التلـميذ الـمـخلص الـخالص للقرآن الكريـم فهو ((عبدٌ)) ولكنه لا يتنزل لعبادةِ اعظم مـخلوق، فهو ((عبدٌ عزيزٌ)) لا يرضى حتى بالـجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

وهو ((لـّين هيـّن)) ولكنه لا يتذلل لغير فاطره الـجليل، ولغير أمره وإذنه، فهو صاحب همة عليا وعزيـمة صادقة.

وهو ((فقير)) ولكنه مستغن عن كل شيء بـما ادّخر لـه مالكُه الكريـم من الثواب الـجزيل.

وهو ((ضعيف)) ولكنه يستند الى قوة سيـّده الـمطلقة. فلا يرضى تلـميذ القرآن الكريـم الـخالص حتى بالـجنة الـخالدة مقصداً وغاية لـه، فكيف به بهذه الدنيا الزائلة؟ فافهم من هذا مدى التفاوت الكبير والبونَ الشاسع بين همـّة هذين التلـميذين!.

وكذلك يـمكنكم ان تقيسوا مدى الفرق الـهائل بين تلاميذ الفلسفة السقيـمة وتلاميذ القرآن الـحكيـم من حيث مدى التضحية والفداء في كل منهما بـما يأتي:

إن تلـميذ الفلسفة يفـّر من أخيه أثـّرَة لنفسه، ويقيـم عليه الدعوى. اما تلـميذ القرآن فانه يرى جـميع عباد الله الصالـحين في الارض والسـموات اخواناً لـه، ويشعر من اعماق روحه باواصر شوق تشدّه نـحوهم، فيدعو لـهم دعاءً خالصاً نابعاً من صميـم قلبه (اللهم اغفر للـمؤمنين والـمؤمنات) فهو يسعد بسعادتهم. حتى انه يرى ما هو اعظم الاشياء كالعرش الاعظم والشـمس الضخـمة مأموراً مسخـَّراً مثلـه.

ثم يـمكنك قياس سـموّ الروح وانبساطها لدى التلـميذين بـما يأتي:

ان القرآن الكريـم يـمنـح تلاميذه نـماءاً سامياً للروح وانبساطاً واسعاً لـها، اذ يسلـم الى ايديهم بدلاً من تسع وتسعين حبةٍ من حبـّات الـمسبـحة، سلسلة مركبة من ذراتٍ تسع وتسعين عالـماً من عوالـم الكون التي يتـجلى فيها تسعٌ وتسعون اسـماً من الاسـماء الـحسنى، ويـخاطبهم: هاؤم اقرأوا أورادكم بهذه السلسلة، وهم بدورهم يقرأون اورادهم بتلك الـمسبـحة العجيبة، ويذكرون ربـّهم الكريـم باعدادها غير الـمـحدودة.

فان شئت فانظر الى تلاميذ القرآن من الاولياء الصالـحين امثال الشيـخ الكيلاني والشيـخ الرفاعي والشيـخ الشاذلي (رضي الله عنهم)(1)، وانصت اليهم حينـما يقرأون اورادهم، وانظر كيف أخذوا في اياديهم سلاسل الذرات، وعدد القطرات، وانفاس الـمـخلوقات فيذكرون الله بها ويسبـحونه ويقدّسونه.. تأمل كيف يتعالى ذلك الانسان الـهزيل الصغير الذي يصارعه اصغر ميكروب ويصرعه أدنى كَرْب! وكيف يتسامي في التربية القرآنية الـخارقة فتنبسط لطائفُه وتسطع بفيض إرشادات القرآن حتى انه يستصغر اضخـم موجودات الدنيا من ان يكون مسبـحةً لأوراده، بل يستقل الـجنة العظمى ان تكون غاية ذكره لله سبـحانه، مع انه لا يرى لنفسه فضلاً على أدنى شيء من خلق الله.. انه يـجـمع منتهى التواضع في منتهى العزة.. ومن هنا يـمكنك ان تقدّر مدى انـحطاط تلاميذ الفلسفة ومدى دناءتهم.

وهكذا فالـحقائق التي تراها الفلسفة السقيـمة الاوروبية بدهائها الاعور مشوهةً زائفةً يراها الـهديُ القرآني واضحةً جلية، ذلك النور الذي ينظر الى كلا العالـمين بعينين براقتين نافذتين الى الغيب، ويشير بكلتا يديه الى السعادتين، ويـخاطب البشرية:

ايها الانسان! إن ما تـملكه من نفسٍ ومال ليس ملكاً لك، بل هو أمانةٌ لديك، فمالكُ تلك الامانة قديرٌ على كل شيء، عليـم بكل شيء، رحيـم كريـم، يشتري منك ملكه الذي عندك لسحفَظَه لك، لئلا يضيع في يدك، وسيكافؤك به ثمناً عظيـماً، فانت لست الاّ جندياً مكلفاً بوظيفة، فاعمل لاجلـه واسعَ باسـمه، فهو الذي يرسل اليك رزقَك الذي تـحتاجه، ويـحفظك مـما لا تقدر عليه.

ان غاية حياتك هذه ونتيـجتها هي أن تكون مظهراً لتـجليات اسـماء ذلك الـمالك، ومعكساً لشؤونه الـحكيـمة.. واذا ما اصابتك مصيبةٌ فقل: } إنـّا لله وإنـّا اليهِ رَاجعُون { (البقرة:156). أي أنا طوعُ أمر مولاي، فان كنت قادمةً ايتها الـمصيبة باذنه وباسـمه، فأهلاً ومرحباً بكِ، فنـحن لا مـحالة راجعونَ اليه لا مناص من ذلك. وسنـحظى بالـمثول بين يديه، فنـحن حقاً مشتاقون اليه.. فما دام سيُعتقنا يوماً من تكاليف الـحياة فليكن ذلك على يديك ايتها الـمصيبة.. انا مستسلـم راضٍ. ولكن إن كان الامر والارادة قد صدر اليك منه سبـحانه لأجل الابتلاء والاختبار لـمدى مـحافظتي على الامانة ولـمدى قيامي بواجباتي، فلا أسلـم ما استطعت امانة مالكي لأيدٍ غير أمينة. ولا استسلـم لغير أمره ورضاه سبـحانه.

فدونك مثالاً واحداً من بين الالوف منه على معرفة قيـمة ما تلقـّنه دهاءُ الفلسفة، ومرتبة ما يرشده هدي القرآن من دروس.

نعم ان الوضع الـحقيقي لكلا الطرفين هو على هذا الـمنوال، بيد أن درجات الناس متفاوتةٌ في الـهداية والضلالة ومراتب الغفلة مـختلفة متباينة، فلا يشعر كلُّ واحد بهذه الـحقيقة في كل مرتبة، إذ الغفلة تُبطل الـحس والشعور وتـخدّرهما، وقد أبطلتْ في هذا الزمان الـحسَ والشعورَ الى حدٍ لـم يَعُد يَشعر بألـم ومرارة هذا العذاب الاليـم اولئك السائرون في ركاب الـمدنية الـحاضرة. ولكن ستار الغفلة يتـمزق بتزايد الاحساس العلـمي، علاوةً على نذير الـموت يعرض جنازة ثلاثين ألف شخص يومياً.

فيا اسفى! وياويل من ضلّ بطواغيت الاجانب وعلومهم الـمادية الطبيعية، ويا خسارةَ اولئك الذين يقلـّدونهم تقليداً اعمى، ويتبعونهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

فيا ابناء هذا الوطن! لا تـحاولوا تقليد الافرنـج! وهل بعد كل ما رأيتـم من ظلـم اوروبا الشنيع وعداوتهم اللدودة، تتبعونهم في سفاهتهم، وتسيرون في ركاب أفكارهم الباطلة؟ وتلتـحقون بصفوفهم، وتنضمـّون تـحت لوائهم بلا شعور؟ فانتـم بهذا تـحكمون على انفسكم، وعلى اخوانكم بالاعدام الابدي.. كونوا راشدين فطنين! انكم كلـما اتبعتـموهم في سفاهتهم وضلالـهم ازددتـم كذباً وافتراءً في دعوى الـحـمية والتضحية، لأن هذا الاتباع استـخفافٌ بأمتكم واستهزاء بـملـّتكم.

هدانا الله واياكم الى الصراط الـمستقيـم.

الـمذكـِّرة السادسة

يامَن يضطرب ويقلق من كثرة عدد الكفار، ويامَن يتزلزل باتفاقهم على إنكار بعض حقائق الإيـمان، اعلـم ايها الـمسكين!

اولاً:

ان القيـمة والاهمية ليستا في وفرة الكمية وكثرة العدد، اذ الانسان إن لـم يكن انساناً حقاً انقلب حيواناً شيطاناً، لأن الانسان يكسب حيوانية هي أشدُّ من الـحيوان نفسه كلـما توغل في النوازع الـحيوانية، كبعض الاجانب او السائرين في ركابهم. فبينـما ترى قلة عدد الانسان قياساً الى كثرة عدد الـحيوانات إذا بك تراه قد أصبـح سلطاناً وسيداً على جـميع انواعها، وصار خليفةً في الارض.

فالكفار الـمنكرون والذين يتـّبعون خطواتهم في السفاهة، هم نوعٌ خبيث من انواع الـحيوانات التي خَلَقَها الفاطر الـحكيـم سبـحانه لعمارة الدنيا. وجعلـهم ((واحداً قياسياً)) لـمعرفة درجات النعمة التي اسبغها على عباده الـمؤمنين، وسوف يسلـّمهم الى جهنـم وبئس الـمصير التي يستـحقونها، حينـما يرثُ الارضَ ومَن عليها.

ثانياً:

ليس في إنكار الكفار والضالين لـحقيقة من الـحقائق الإيـمانية قوة، ولا في نفيهم لـها سندٌ، ولا في اتفاقهم اهميةٌ، لانه نفيٌ. فالفٌ من النافين هم في حكم نافٍ واحد فقط. مثال ذلك:

اذا نَفى اهل استانبول جـميعهم رؤيتهم للهلال في بداية رمضان الـمبارك، فان إثبات اثنين من الشهود، يُسقط قيـمة إتفاق كل ذلك الـجـمع الغفير. فلا قيـمة اذن في اتفاق الكفار الكثيرين ما دامت ماهيةُ الكفر والضلالة نفياً، وانكاراً، وجهلاً، وعدماً. ومن هنا يُرجـّح حُكمُ مؤمنين اثنين يستندان الى الشهود في الـمسائل الإيـمانية الثابتة اثباتاً قاطعاً على إتفاق ما لا يـحد من اهل الضلالة والانكار ويتغلب عليهم.

وسرّ هذه الـحقيقة هو ما يأتي:

ان دعاوى النافين متعددة، برغم انها تبدو واحدة في الظاهر، إذ لا يتـحد بعضها مع بعض الآخر كي يعززه ويشدّ من عضده. بينـما دعاوى الـمثبتين تتـحد وتتساند ويـمدّ بعضها البعض الآخر ويقـّويه ويدعمه، فالذي لا يرى هلال رمضان في السـماء يقول: ان الـهلال في نظري غير موجود، وعندي غير موجود.. والآخر يقول مثلـه، فكلٌ منهم ينفي من زاوية نظره، وليس من واقع الـحال، ومن الامر بذاته، لذا فاختلافُ نظرهم وتنوعُ الاسباب الداعية الى حَجب الرؤية، وتعدد موانع النظر لدى الاشخاص، يـجعل دعاواهم متباينة ومـختلفة لا تسند احداهما الاخرى.

اما الـمثبتون فلا يقول احدهم: الـهلال موجود في نظري، او عندي، بل يقول: ان الـهلال موجود فعلاً، وهو في السـماء بذاته.. والـمشاهدون جـميعاً يصدّقونه في دعواه هذه، ويؤيدونه في الامر نفسه قائلين: الـهلال موجود في واقع الـحال.. أي ان جـميع الدعاوى واحدة.

ولـما كان نظر النافين مـختلفاً، فقد اصبـحت دعاواهم كذلك مـختلفة، فلا يسري حُكمهم على الامر بذاته، لأنه لا يـمكن اثبات النفي في الـحقيقة، إذ يلزم الاحاطةُ. ومن هنا صارت من القواعد الاصولية أن ((العَدَم الـمطلق لا يُثبَتُ إلاّ بـمشكلات عظيـمة)).

نعم! اذ قلت: إن شيئاً ما موجود في الدنيا، فيكفي لاثباته إراءته فقط. ولكن ان قلتَ: انه معدومٌ، غير موجود في الدنيا. أي اذا نفيت وجوده، فينبغي لإثبات هذا النفي او العدم ان تبـحث عنه في اطراف الدنيا كافة وإراءتها واشهادها.

وبناء على هذا السر: يتساوى في انكار الكفار لـحقيقة واحدة الواحد مع الالف، لعدم وجود التساند فيه. يشبه ذلك، حل مسألة ذهنية، أو الـمرور من ثقب، او القفز من فوق الـخندق، التي لا تساند فيها.

اما الـمثبتون فلأنهم ينظرون الى الامر نفسه، أي الى واقع الـحال، فان دعاواهم تتـحد وتتعاون ويـمدُّ بعضها البعض الآخر قوةً، بـمثل التعاون الـحاصل في رفع صخرةٍ عظيـمة، فكلـما تكاثرت الايدي عليها، سهُل رفعُها اكثر، حيث يستـمد كلٌ منهم القوة من الآخر.

الـمذكـِّرة السابعة

يامن يـحثّ الـمسلـمين ويشوّقهم على حُطام الدنيا ويسوقهم قسراً الى صنائع الاجانب والتـمسك بأذيال رقيـّهم. ويا مدّعي الـحـمية، ايها الشقي!. تـمهـّل، وتأمـّل! واحذر من إنقطاع عُرى الدين لبعض أفراد هذه الامة وانفصام روابطهم معه، لانه اذا انقطعت تلك الروابط لدى البعض تـحت سطوة مطارق التقليد الاعمى والسلوك الارعن، فسيكونون مُلـحدين مضرّين بالـمـجتـمع، مُفسرين للـحياة الاجتـماعية كالسـم القاتل، اذ الـمرتد سـم زعاف للـمـجتـمع، حيث قد فسد وجدانه وتعفنت طويته كلياً، ومن هنا ورد في علـم الاصول: ((الـمرتد لا حقَّ لـه في الـحياة، خلافاً للكافر الذميّ او الـمعاهِد فان لـه حقاً في الـحياة)) وأن شهادة الكافر من اهل الذمة مقبولةٌ عند الاحناف بينـما الفاسقُ مردود الشهادة لانه خائن.

ايها الفاسق الشقي! لا تغتر بكثرة الفسـّاق، ولا تقل ان افكار اكثرية الناس تساندني وتؤيدني، ذلك لانه لـم يدخل الفسقَ فاسقٌ برغبةٍ فيه وطلباً بذات الفسق، بل وقع فيه ولا يستطيع الـخروج منه، إذ ما من فاسقٍ الاّ ويتـمنى ان يكون تقياً صالـحاً، وان يكون رئيسه وآمرهُ ذا دينٍ وصلاح، اللهـّم من اُشربَ قلبُه بالردة – والعياذ بالله – ففسد وجدانه بها، واصبـح يلتذ بلدغ الآخرين وإيذائهم كالـحيـّة.

ايها العقل الابلـه والقلب الفاسد! أتظنُّ ان الـمسلـمين لا يرغبون في الدنيا، ولا يفكرون فيها، حتى اصبـحوا فقراءَ مُعْدَمين، فتراهم بـحاجة الى مَن يوُقظهم من رقدتهم كيلا ينسوا نصيبهم من الدنيا.؟

كلا.. ان ظنك خطأ.. بل لقد اشتدّ الـحرص، فهم يقعون في قبضة الفقر وشباك الـحرمان نتيـجة الـحرص، اذ الـحرص للـمؤمن سببُ الـخيبة وقائد الـحرمان والسفالة. وقدْ ذهب مثلاً: الـحريص خائب خاسر.

نعم، ان الاسباب الداعية الى الدنيا كثيرة، والوسائل السائقة اليها وفيرة، وفي مقدمتها ما يـحـملـه كلُّ انسان من نفس أمـّارة بالسوء، وما يكمن فيه من هوىً وحاجةٌ وحواس ومشاعر وشيطانٍ عدو، فضلاً عن اقران السوء – من امثالك – وحلاوة العاجلة ولذّتها … وغيرها من الدعاة اليها كثير، بينـما الدعاة الى الآخرة وهي الـخالدة والـمرشدون الى الـحياة الابدية قليلون.

فان كان لديك ذرةٌ من الـحـميـّة والشـّهامة تـجاه هذه الامة، وان كنت صادقاً في دعواك الى التضحية والفداء والايثار، فعليك بـمدّ يد الـمساعدة الى اولئك القلـّة من الداعين الى الـحياة الباقية. والاّ فان عاونت الكثرة، وكمـمت أفواه اولئك الدعاة القلة، فقد اصبـحت للشيطان قريناً. فساء قريناً.

أوَ تظن أن فقرنا ناجـمٌ من زُهد الدين او من كسلٍ ناشيء من ترك الدنيا؟ انك مـخطيء في ظنك أشدَّ الـخطأ.. ألا ترى ان الـمـجوس والبراهمة في الصين والـهند والزنوج في افريقيا وامثالـهم من الشعوب الـمغلوبة على أمرها والواقعة تـحت سطوة اوروبا، هم أفقر منـّا حالاً.

أوَ لا ترى انه لا يبقى بأيدي الـمسلـمين سوى ما يسدّ رَمَقَهم ويقيـم أوَدَهم حيث يغصبه كفار اوروبا الظالـمون منهم او يسرقه منافقو آسيا بـما يـحيكون من دسائس خبيثة.

ان كانت غايتكم من سَوق الـمؤمنين قسراً الى الـمدينة التي هي الدنيـّة (أي بلا ميـم) تسهيلاً لارادة دفة النظام وبسط الامن في ربوع الـمـملكة، فاعلـموا جيداً انكم على خطأ جسيـم، اذ تسوقون الامة الى هاوية طريق فاسد. لان ادارة مائة من الفاسقين الفاسدين اخلاقياً والـمرتابين في إعتقادهم وإيـمانهم، وجعل الامن والنظام يسود فيـما بينهم لـهو أصعبُ بكثير من ادارة اُلوف من الصالـحين الـمتقين ونشر الامن فيـما بينهم.

وبناء على ما تقدم من الاسس فليس الـمسلـمون بـحاجة الى ترغيبهم وحثـّهم على حب الدنيا والـحرص عليها، فلا يـحصل الرقي والتقدم ولاينشر الامن والنظام في ربوع البلاد بهذا الاسلوب، بل هم بـحاجة الى تنظيـم مساعيهم، وبث الثقة فيـما بينهم، وتسهيل وسائط التعاون فيـما بينهم، ولاتتـم هذه الامور الاّ باتباع الاوامر الـمقدسة في الدين، والثبات عليها، مع التزام التقوى من الله سبـحانه وابتغاء مرضاته.

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:15 PM

رد: اللمعات
 
الـمذكـِّرة الثامنة

يامَن لا يدرك مدى اللذة والسعادة في السعي والعمل.. ايها الكسلان! اعلـم، ان الـحق تبارك وتعالى قد ادرج لكمال كرمه جزاءَ الـخدمة في الـخدمة نفسها، وادمـج ثوابَ العمل في العمل نفسه.

ولأجل هذا كانت الـموجودات قاطبة بـما فيها الـجـمادات – من زاوية نظر معينة – تـمتثل الأوامر الربانية بشوق كامل، وبنوع من اللذة، عند ادائها لوظائفها الـخاصة بها والتي تطلق عليها((الاوامر التكوينية)). فكل شيء ابتداءً من النـحل والنـمل والطير.. وإنتهاء الى الشـمس والقمر، كلٌّ منها يسعى بلذة تامة في اداء مهماتها. أي: اللذة كامنة في ثنايا وظائف الـموجودات، حيث انها تقوم بها على وجه من الاتقان التام، برغم أنها لا تعقل ما تفعل ولا تدرك نتائج ما تعمل.

T فان قلت: ان وجود اللذة في الاحياء مـمكنٌ، ولكن كيف يكون الشوقُ واللذةُ موجودين في الـجـمادات؟

فالـجواب: ان الـجـمادات تطلب شَرَفاَ ومقاماً وكمالاً وجـمالاً وانتظاماً، بل تبـحث عن كل ذلك وتفتش عنه لأجل إظهار الاسـماء الإلـهية الـمتـجلية فيها، لا لذاتها، لذا فهي تتنور وتترقى وتعلو اثناء إمتثالـها تلك الوظيفة الفطرية، حيث أنها تكون بـمثابة مرايا ومعاكس لتـجليات اسـماء ((نور الانوار)).

فمثلاً: قطرةٌ من الـماء – وقطعة من الزجاج – رغم أنها تافهةٌ وقاتـمة في ذاتها، فإذا ما توجهت بقلبها الصافي الى الشـمس، تتـحول الى نوع من عرشٍ لتلك الشـمس، فتلقاك بوجه مضيء!

وكذلك الذرات والـموجودات – على غرار هذا الـمثال – من حيث قيامها بوظيفة مرايا عاكسة لتـجليات الاسـماء الـحسنى لذي الـجلال والـجـمال والكمال الـمطلق، فانها تسـمو وتعلو الى مرتبة من الظهور والـجلاء والتنوّر هي غاية في العلو والسـمو، إذ ترتفع تلك القطرة وتلك القطعة من حضيض الـخـمود والظلـمة الى ذروة الظهور والتنور. لذا يـمكن القول: بأن الـموجودات تقوم باداء وظائفها في غاية اللذة والـمتعة ما دامت تكتسب بها مرتبة نورانية سامية، واللذة مـمكنة ان كانت للـموجود حصة من الـحياة العامة. وأظهر دليل على ان اللذة كامنة في ثنايا الوظيفة نفسها هو ما يأتي:

تأمل في وظائف اعضائك وحواسـّك، ترَ أن كلاً منها يـجد لذائذ متنوعة اثناء قيامه بـمهامه – في سبيل بقاء الشخص او النوع – فالـخدمة نفسها، والوظيفةُ عينها تكون بـمثابة ضربٍ من التلذذ والـمتعة بالنسبة لـها، بل يكون ترك الوظيفة والعمل عذاباً مؤلـماً لذلك العضو.

وهناك دليل ظاهر آخر هو: ان الديك – مثلاً – يؤثر الدجاجات على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه إليهن دون ان يأكل منها. ويُشاهد انه يقوم بهذه الـمهمة وهو في غاية الشوق وعزّ الافتـخار وذروة اللذة.. فهناك إذن لذةٌ في تلك الـخدمة اعظم من لذة الاكل نفسه. وكذا الـحال مع الدجاجة – الراعية لأفراخها – فهي تُؤثْرها على نفسها، إذ تدع نفسَها جائعةً في سبيل اشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الافراخ، قتهاجـم الكلب الـمغير عليها لأجل الـحفاظ على الصغار.

ففي الـخدمة اذن لذة تفوق كل شيء، حتى انها تفوق مرارة الـجوع وترجـّح على ألـم الـموت. فالوالدات من الـحيوانات تـجد منتهى اللذة في حـمايتها لصغارها طالـما هي صغيرة. ولكن ما إن يكبر الصغير حتى تنتهي مهمة الأم فتذهب اللذة ايضاً. وتبدأ الأم بضرب الذي كانت ترعاه، بل تأخذ الـحب منه.. هذه السنـّة اللإلـهية جاريةٌ في الـحيوانات الاّ في الانسان إذ تستـمر مهمة الام نوعاً ما، لأن شيئاً من الطفولة يظل في الانسان حيث الضعف والعجز يلازمانه طوال حياته، فهو بـحاجة الى الشفقة والرأفة كل حين.

وهكذا، تأمل في جـميع الذكور من الـحيوانات كالديك، وجـميع الوالدات منها كالدجاج، وافهم كيف انها لا تقوم بتلك الوظيفة ولا تنـجز أي شيء لأجل نفسها ولالكمالـها بالذات حيث تفدي نفسها اذا احتاج الامر. بل انها تقوم بتلك الـمهمة في سبيل الـمنعم الكريـم الذي انعم عليها، وفي سبيل الفاطر الـجليل الذي وظـّفها في تلك الوظيفة فأدرج برحـمته الواسعة لذةً ضمن وظيفتها، ومتعةً ضمن خدمتها.

وهناك دليل آخر ان الاجرة داخلةٌ في العمل نفسه وهو ان النباتات والاشجار تـمتثل اوامر فاطرها الـجليل بـما يُشعر ان فيه شوقاً ولذة، لأن ما تنشره من روائح طيبة، وما تتزين به من زينة فاخرة تستهوي الانظار، وما تقدمه من تضحيات وفداء حتى الرَمَق الاخير لأجل سنابلـها وثمارها.. كل ذلك يعلن لأهل الفطنة:

ان النباتات تـجد لذةً فائقة في إمتثالـها الاوامر بـما يفوق اية لذة اخرى، حتى انها تـمـحو نفسها وتهلكها لأجل تلك اللذة.. ألا ترى شجرة جوز الـهند، وشجرة التين كيف تُطعم ثمرتها لبناً خالصاً تطلبه من خزينة الرحـمة الإلـهية بلسان حالـها وتتسلـمه منها وتظل هي لا تُطعم نفسها غير الطين. وشجرة الرمان تسقي ثمرتها شراباً صافياً، وَهبَها لـها ربـُّها، وهي ترضى قانعةً بشراب ماءٍ عكر. حتى انك ترى ذلك في الـحبوب كذلك، فهي تُظهر شوقاً هائلاً للتسنبل، بـمثل اشتياق السجين الى رحب الـحياة.

ومن هذا السرّ الـجاري في الكائنات الـمسـمى بـ ((سُنـّة الله)) ومن هذا الدستور العظيـم، يكون العاطل الكسلان الطريـح على فراش الراحة أشقى حالاً وأضيق صدراً من الساعي الـمـجدّ، ذلك لأن العاطل يكون شاكياً من عمره، يريد ان يـمضي بِسرعة في اللهو والـمرح. بينـما الساعي الـمـجدّ شاكرٌ لله وحامدٌ لـه، لا يريد ان يـمضي عمره سدىً. لذا اصبـح دستوراً عاماً في الـحياة: ((الـمستريـح العاطل شاك من عمره والساعي الـمـجدّ شاكرٌ)). وذهب مثلاً: ((الراحةُ مندمـجة في الزحـمة والزحـمة مندمـجة في الراحة)). نعم اذا ما أُمعن النظر في الـجـمادات فان السنة الإلـهية الـمذكورة تظهر بوضوح؛ فالـجـمادات التي لـم تتكشف استعداداتُها وباتت ناقصةً من هذه الناحية، تراها تسعى بشدة، وتبذل جهداً عظيـماً لكي تنبسط وتنتقل من طور ((القوة)) الكامنة الى طور ((الفعل)). وعندها يشاهد عليها ما يشير الى أن في تلك الوظيفة الفطرية شوقاً، وفي ذلك التـحول لذةً، جرياً بدستور سنـّة الله، فان كانت لذلك الـجامد حصة في الـحياة العامة، فالشوق يعود اليه، والاّ فهو يعود الى الذي يـمثل ذلك الـجامد ويشرف عليه، بل يـمكن أن يقال بناء على هذا السر: ان الـماء اللطيف الرقراق ما ان يتسلـم امراً بالانـجـماد، حتى يـمتثل ذلك الامر بشدة وشوق الى حدّ انه يكسر الـحديد ويـحطـّمه. فاذن عندما تبلـّغ البرودةُ ودرجاتُ الانـجـماد أمراً ربانياً بالتوسع، الى الـماء الـموجود داخل كرة حديدٍ مقفلة، فان الـماء يـمتثل الامر بشدة وشوق بـحيث يـحطـّم كرة الـحديد تلك، وينـجـمد.

وعلى هذا فقس جـميع ما في الكون من سعي وحركة، ابتداءً من دوران الشـموس في افلاكها وانتهاءً الى دوران الذرات – كالـمولوي العاشق – ودوراتها واهتزازاتها.. فلا تـجد أحداً الاّ ويـجري على قانون القَدَر الإلـهي، ويظهر الى الوجود بالامر التكويني الصادر من يد القدرة الإلـهية والـمتضمن العلـم الإلـهي وأمره وارادته.. حتى ان كل ذرة، وكل موجود، وكل ذي حياة، انـما هو كالـجندي في الـجيش، لـه علاقات متباينة ووظائف مـختلفة، وارتباطات متنوعة مع كل دائرة من دوائره. فالذرة الـموجودة في عينيك – مثلاً – لـها علاقة مع خلايا العين، ومع اعصاب العين في الوجه، ومع الشرايين والاوردة في الـجسـم، وعلى اساس هذه العلاقات والروابط تُعَيـَّنُ لـها وظيفة، وعلى ضوئها تنتـج فوائد ومصالـح وهكذا..

فقس على هذا الـمنوال كل شيء في الوجود.

وعلى هذا الاساس فان كل شيء في الوجود يشهد على وجوب وجود القدير الـمطلق من جهتين:

الاولى: قيامه بوظائف تفوق طاقته الـمـحدودة بالآف الـمرات، مع أنه عاجزٌ عن ذلك، فيشهد بلسان عجزه إذن على وجود ذلك القدير الـمطلق.

الثانية: توافق حركته مع الدساتير التي تكوّن نظام العالـم، وانسجام عملـه مع القوانين التي تديـم توازن الـموجودات، فيشهد – بهذا الانسجام والتوافق – على وجود ذلك العليـم القدير.

ذلك لان جـماداً كالذرة – او حشرة كالنـحل – لا تستطيع ان تعرف النظام والـموازنة اللذين هما من الـمسائل الدقيقة الـمهمة الـمسطورة في الكتاب الـمبين.. إذ اين الذرة والنـحلة من قراءة ذلك الكتاب الذي هو في يدِ من يقول: } يوم نطوي السـماء كطيّ السِجل للكتب { (الانبياء:104) فلا يـجرؤ أحد أن يردّ هذه الشهادة للذرة الاّ مَن يتوهم بـحـماقة متناهية انها تـملك عيناً بصيرة تتـمكن بها قراءة الـحروف الدقيقة لذلك الكتاب الـمبين؟.

نعم، ان الفاطر الـحكيـم يدرج دساتيرَ الكتاب الـمبين واحكامه دَرجاً في غاية الـجـمال، ويـجـملـها في غاية الاختصار، ضمن لذةٍ خاصةٍ لذلك الشيء، وفي ثنايا حاجةٍ مـخصوصة لـه. فاذا ما عمل الشيء وفق تلك اللذة الـخاصة والـحاجة الـمـخصوصة، فانه يـمتثل – من حيث لا يشعر – احكام ذلك الكتاب الـمبين.

فمثلاً: ان البعوضة في حين مولدها ومـجيئها الى الدنيا تنطلق من بيتها وتهاجـم وجه الانسان وتضربه بعصاها الطويلة وخرطومها الدقيق وتفجـّر به السائل الـحيوي، وتـمصـّه مصاً، وهي في هذا الـهجوم تُظهر براعة عسكرية فائقة..

تُرى مَن علـم هذا الـمـخلوق الصغير الذي اتى حديثاً الى الدنيا وليس لـه من تـجربة سابقة، هذه الـمهارة البارعة، وهذه الفنون الـحربية الدقيقة، وهذا الاتقان في التفجير، فمن اين اكتسب هذه الـمعرفة؟.. فانا هذا السعيد الـمسكين اعترف بأني لو كنت بدلاً منه، لـما كنت أتعلـم تلك الـمهارة، وتلك الفنون العسكرية من كرّ وفرّ، وتلك الامور الدقيقة في استـخراج السائل الـحيوي الاّ بعد تـجارب طويلة، ودروس عديدة، ومدة مديدة.

فقس على البعوضة النـحل الـملـهمة والعنكبوت والبلبل الناسج لعشه نسجاً بديعاً، بل يـمكنك قياس النباتات على الـحيوانات ايضاً.

نعم ان الـجواد الـمطلق جل جلالـه قد سلـم بيد كل فردٍ من الاحياء ((بطاقة تذكرة)) مكتوبةً بـمداد اللذة وحبر الاحتياج، فاودع سبـحانه فيها منهاج اوامره التكوينينة، وفهرس ما يقوم به الفردُ من وظائف.. فسبـحانه من حكيـم ذي جلال، كيف أدرج ما يـخص النـحل من دساتير الكتاب الـمبين في تلك ((التذكرة)) الصغيرة وسطرَها في رأس النـحلة، وجعل مفتاحها لذةً خاصة بالنـحلة الدائبة، لتفتـح به تلك ((التذكرة)) الـمودعة في دماغها وتقرأ منهاج عملـها فيها وتدرك وظيفتها، وتسعى وتـجدّ وفقها، وتبرز حكمةً من الـحكم الـمكنونة في الآية الكريـمة:

} وأوحى ربـُّك الى النـحل { (النـحل:68).

فيا مَن يقرأ او يسـمع هذه الـمذكـِّرة الثامنة! ان كنت قد فهمتها حقَّ الفهم فقد فهمت إذن سراً من اسرار:

} ورحـمتي وسعت كلَ شيء { (الاعراف:156).

وأدركت حقيقةً من حقائق:

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ { (الاسراء:44).

وتوصلت الى دستور من دساتير:

} انـما أمره اذا ارادَ شيئاً ان يقول لـه كُن فيكون { (يس:82).

وتعلـمت مسألة لطيفة من مسائل:

} فسبـحان الذي بيده ملكوت كلّ شيءٍ وإليه تُرجعون {

(يس:83).

الـمذكـِّرة التاسعة

اعلـم ان النبوة في البشرية فذلكة الـخير وخلاصة الكمال واساسه. وأن الدين الـحق فهرس السعادة. وأن الايـمان حُسنٌ منزَّه وجـمال مـجرّد. وحيث ان حسناً ساطعاً، وفيضاً واسعاً سامياً، وحقاً ظاهراً، وكمالاً فائقاً مشاهَدٌ في هذا العالـم، فبالبداهة يكون الـحقُ والـحقيقة في جانب النبوة، وفي يد الانبياء عليهم السلام، وتكون الضلالة والشر والـخسارة في مـخالفيهم.

فان شئت فانظر الى مثال واحد من بين الوف الامثلة على مـحاسن العبودية التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام وهو:

ان النبي e يوحـِّد بالعبادة قلوبَ الـموحدين في صلاة العيد والـجـمعة والـجـماعة، ويـجـمع ألسنتهم جـميعاً على كلـمة واحدة. حتى يقابل هذا الانسانُ عظمة الـخطاب الصادر من الـمعبود الـحق سبـحانه بأصوات قلوبٍ وألسنةٍ لا تـحد وبدعواتها، متعاوناً متسانداً، بـحيث يـُظهر الـجـميع عبوديةً واسعةً جداً ازاء عظمة أُلوهية الـمعبود الـحق فكأن كرة الارض برمـَّتها هي التي تنطق ذلك الذكر، وتدعو ذلك الدعاء، وتصلـّي لله باقطارها وتـمتثل بارجائها الامر النازل بالعزة والعظمة من فوق السـموات السبع: } وأقيـموا الصلاة{ (البقرة:43).

وبهذا الاتـحاد صار الانسان وهو الـمـخلوق الضعيف الصغير الذي هو كالذرة في هذه العوالـم، عبداً مـحبوباً لدى السـموات والارض من جهة وعظمة عبوديته لـه، واصبـح خليفة الارض وسلطانها، وسيد الـحيوانات ورئيسها، وغاية خلق الكائنات ونتيـجتها. أرأيت لو اجتـمعت في عالـم الشهادة ايضاً – كما هو في عالـم الغيب – اصوات الـمكبرين البالغين مئات الـملايين من الـمؤمنين بـ ((الله اكبر)) عقب الصلوات ولا سيـما صلاة العيد، واتـحدت جـميعها في آن واحد أما كانت متساوية لصوت تكبيرة ((الله اكبر)) تطلقها كرةُ الارض ومتناسبةً مع ضخامتها والتي اصبـحت كأنها إنسان ضخـم، إذ باتـحاد تكبيرات اولئك الـموحـّدين في آن واحد يكون هناك تكبيرةٌ عظيـمة جداً كأن الارض تطلقها، بل كأن الارض تتزلزل زلزالـها في صلاة العيد. اذ تكبـّر الله بتكبير العالـم الاسلامي باقطارها واوتادها وتسبـحه بتسبيـحهم واذكارهم فتنوي من صميـم قلب كعبتها الـمشرّفة التي هي قِبلتها، وتكبـّر بـ ((الله اكبر)) بلسان عَرَفة من فم مكة الـمكرمة. فتتـموّج صدى ((الله اكبر)) متـمثلةً في هواء كهوف أفواه جـميع الـمؤمنين الـمنتشرين في العالـم بـمثل تـموج ما لا يـحد من الصدى في كلـمة واحدة من ((الله اكبر)). بل تتـموج تلك التكبيرات والاذكار في اقطار السـموات وعوالـم البرزخ. فالـحـمد لله الذي جعل هذه الارض ساجدةً عابدةً لـه وهيأها لتكون مسجداً لعباده ومهداً لـمـخلوقاته. فنـحـمده سبـحانه ونسبـحه ونكبـّره بعدد ذرات الارض ونرفع اليه حـمداً بعدد موجوداته أن جعلنا من أمة مـحـمد e الذي علـمنا هذا النوع من العبادة.

الـمذكـِّرة العاشرة

ايها السعيد الغافل الـمتـخبط بسوء حالـه! اعلـم، ان الوصول الى نور معرفة الـحق سبـحانه، والى مشاهدة تـجلياته في مرايا الآيات والشواهد والنظر اليه من مسامات البراهين والدلائل يقتضي الاّ تتـجسّس بأصابع التنقيد على كل نورٍ جرى عليك، وورَد الى قلبك، وتظاهر الى عقلك، والاّ تنقده بيد التردد. فلا تـمدّن يدك لأخذ نورٍ اضاء لك. بل تـجرّد من اسباب الغفلة، وتعرّض لذلك النور، وتوجّه اليه، فاني قد شاهدت أن شواهد معرفة الله وبراهينها ثلاثة اقسام:

قسـم منه: كالـماء يُرى ويـحسّ، ولكن لا يـمسك بالاصابع. ففي هذا القسـم عليك بالتـجرّد عن الـخيالات، والانغماس فيه بكليتك، فلا تتـجسس باصبع التنقيد، فانه يسيل ويذهب، اذ لا يرضى ماءُ الـحياة ذلك بالاصبع مـحلاً.

القسـم الثاني: كالـهواء، يـحسّ ولكن لا يُرى، ولا يُتـخذ ولا يُستـمسك، فتوجه لنفحات تلك الرحـمة، وتعرّض لـها، وقابلـها بوجهك وفمك وروحك، فان نظرت الى هذا القسـم بيد التردد والريب ومددت اليه يد التنقيد، بدلاً من الانتعاش روحياً، فانه ينطلق، إذ لا يتـخذ يدك مسكناً لـه ولا يرضى بها منزلاً.

القسـم الثالث: فهو كالنور، يُرى ولكن لا يـحس، ولا يؤخذ ولا يستمسك، فتعرّض لـه وقابلـه ببصيرة قلبك ونظر روحك، وتوجـّه اليه ببصرك، ثم انتظر، فلربـما يأتي بذاته ومن نفسه. لان النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالاصابع، بل بنور البصيرة يُصاد. فاذا مددت اليه يداً مادية حريصةً، ووزنته بـموازين مادية، فانه يـختفي وإن لـم ينطفىء، لان نوراً كهذا مثلـما انه لا يرضى بالـماديّ حبساً، ولا يدخل بالقيد ابداً، فانه لا يرضى بالكثيف مالكاً وسيداً عليه.

الـمذكـِّرة الـحادية عشرة

انظر الى درجة رحـمة القرآن الواسعة وشفقته العظيـمة على جـمهور العوام ومراعاته لبساطة افكارهم ونظرهم غير الثاقب الى امور دقيقة، انظر كيف يكرر ويُكثر الآيات الواضحة الـمسطورة في جباه السـموات والارض، فيقرئهم الـحروف الكبيرة التي تُقرأ بكمال السهولة، كخلق السـموات والارض وانزل الـماء من السـماء، واحياء الارض.. وامثالـها من الآيات. ولا يوجـّه الانظار الى الـحروف الدقيقة الـمكتوبة في الـحروف الكبيرة الاّ نادراً، كيلا يصعب عليهم الامر.

ثم انظر الى جزالة بيان القرآن وسلاسة اسلوبه وفطريته، كيف يتلو على الانسان ما كتبتْهُ القدرة الإلـهية في صحائف الكائنات من آيات حتى كأن القرآن قراءةٌ لـما في كتاب الكائنات وانظمتها، وتلاوةٌ لشؤون بارئها الـمصـّور وافعالـه الـحكيـمة. فان شئت استـمع بقلبٍ شهيد لقولـه تعالى:

} عَمّ يِتَساءَلون{ (النباء:1) } قل اللهم مالك الـملك { (آل عمران:26) وأمثالـهما من الآيات الكريـمة.

الـمذكـِّرة الثانية عشرة

يا احبائي الـمستـمعين لـهذه الـمذكـِّرات، اعلـموا!

اني قد اكتب تضرّع قلبي الى ربـّي مع ان من شأنه ان يُستَر ولا يُسطَر، رجاءً من رحـمته تعالى ان يقبل نُطق كتابي، بدلاً عني إذ أسكت الـموت لساني.. نعم، لا تسع توبة لساني في عمري القصير كفارة لذنوبي الكثيرة. فنطقُ الكتاب الثابت الدائم أوفى لـها. فقبل ثلاث عشرة سنة واثناء اضطراب روحي عارم وفي غمرة تـحول ضحكات ((سعيد القديـم)) الى بكاء ((سعيد الـجديد)) أفقت من ليل الشباب على صبـح الـمشيب فسطرت هذه الـمناجاة باللغة العربية، اوردها هي:

ياربي الرحيـم وياإلـهي الكريـم!

قد ضاع بسوء اختياري عمري وشبابي، وما بقي من ثمراتها في يدي الاّ آثام مؤلـمة مُذلـّة، وآلام مضرّة مُضلـّة، ووساوسٌ مزعجة معجزة، وانا بهذا الـحـمل الثقيل، والقلب العليل، والوجه الـخجيل متقربٌ – بالـمشاهدة – بكمال السرعة، بلا انـحراف وبلا اختيار كآبائي واحبابي واقاربي واقراني الى باب القبر، بيت الوحدة والانفراد في طريق ابد الآباد، للفراق الابدي من هذه الدار الفانية الـهالكة باليقين، والآفلة الراحلة بالـمشاهدة، ولا سيـما الغدارة الـمكارة لـمثلي ذي النفس الامارة.

فيا ربي الرحيـم ويا ربي الكريـم!

أراني عن قريب لبستُ كفني وركبت تابوتي، وودعت أحبابي، وتوجهت الى باب قبري، فأنادي في باب رحـمتك: الأمان الأمان ياحنان يامنـّان، نـجني من خجالة العصيان.

آهٍ.. كفني على عنقي، وانا قائم عند رأس قبري، أرفع رأسي الى باب رحـمتك اُنادي: الأمان الأمان يارحـمن ياحنـّان، خلصني من ثقل حـمل العصيان.

آهٍ.. انا ملتف بكفني وساكن في قبري وتركني الـمشيعون، وانا منتظر لعفوك ورحـمتك.. ومشاهدٌ بأن لا ملـجأ ولا منـجأ الاّ اليك، وأُنادي: الأمان الأمانَ من ضيق الـمكان، ومن وحشة العصيان، ومن قبـح وجه الآثام. يارحـمن ياحنان.. يا منـّان.. ويا ديان نـجني من رفاقة الذنوب والعصيان..

الـهي! رحـمتك ملـجئي ووسيلتي، واليك ارفع بثي وحزني وشكايتي.

يا خالقي الكريـم، وياربي الرحيـم، وياسيدي، ويامولاي.. مـخلوقك، ومصنوعك وعبدك العاصي العاجز، الغافل، الـجاهل العليل الذليل الـمسيء الـمسن الشقي الآبق، قد عاد بعد اربعين سنة الى بابك ملتـجأً الى رحـمتك، معترفاً بالذنوب والـخطيئات مبتلى بالاوهام والاسقام، متضرعاً اليك.. فان تقبل وتغفر وترحـم فانت لذاك اهلٌ وانت ارحـم الراحـمين والاّ فايّ بابٍ يُقصد غير بابك.. وانت الرّبُ الـمقصود والـحق الـمعبود. ولا الـه الاّ انت وحدك لا شريك لك.. آخر الكلام في الدنيا واول الكلام في الآخرة وفي القبر: اشهد ان لا إلـه الاّ الله وأشهد أن مـحـمداً رسول الله e .

الـمذكـِّرة الثالثة عشرة

عبارة عن خـمسِ مسائل قد صارت مدار الالتباس.

T اولاها:

ان الذين يعملون في طريق الـحق ويـجاهدون في سبيلـه، في الوقت الذي ينبغي لـهم أن يفكروا في واجبهم وعملـهم فانهم يفكرون فيـما يـخص شؤون الله سبـحانه وتدبيره، ويبنون اعمالـهم عليه فيـخطئون.

ورد في كتاب ((ادب الدنيا والدين)) أن إبليس – لعنة الله عليه – حين ظهر لعيسى بن مريـم عليه السلام قال: ألستَ تقول: إنه لن يُيبك الاّ ما كتبه الله عليك؟ قال: نعم. قال: فارمِ نفسك من ذروةِ هذا الـجبل فانه إن يقدِّر لك السلامة تسلـم، فقال لـه: يا ملعون! إن لله أن يـختبر عبده وليس للعبد أن يـختبر ربـّه.

أي: ان الله سبـحانه هو الذي يـختبر عبده ويقول لـه: إذا عملت هكذا سأوافيك بكذا، أرأيتك تستطيع القيام به؟. يـختبره.. ولكن العبد ليس لـه الـحق ولا في طوقه اصلاً أن يـختبر ربـّه ويقول: اذا قمتُ بالعمل هكذا فهل تعمل لي كذا؟. فهذا الاسلوب من الكلام الذي يوميء بالاختبار سوءُ ادبٍ تـجاه الربوبية، وهو منافٍ للعبودية. فما دام الامر هكذا، فعلى الـمرء أن يؤدي واجبه ولا يتدخل بتدبير الله سبـحانه وقَدَره.

كان جلال الدين خوارزم شاه(1) وهو احد ابطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة. كان يتقدم جيشه الى الـحرب، فخاطبه وزراؤه ومقـّربوه: سيُظهرك الله على عدوك، وتنتصر عليهم!

فاجابهم: ((عليَّ الـجهاد في سبيل الله إتباعاً لأمره سبـحانه ولا حق لي فيـما لـم أُكلف به من شؤونه، فالنصر والـهزيـمة من تقديره سبـحانه)) ولبلوغ هذا البطل العظيـم ادراك هذا السر الدقيق في الاستسلام الى امر الله والانقياد اليه، كان النصرُ حليفه في اغلب الاحيان نصراً خارقاً.

نعم انه ينبغي الاّ يفكر الانسان – بـما لديه من الـجزء الاختياري – بالنتائج التي يتولاّها الله سبـحانه.

فمثلاً: يزداد حـماس بعض الاخوة وشوقهم الى رسائل النور باستـجابة الناس لـها، فينشطون اكثر.. ولكن عندما لا يستـجيب لـها الناس، تفتُر قوة الضعفاء الـمعنوية وتنطفىء جذوة شوقهم. والـحال ان سيدنا الرسول الاعظم e وهو الاستاذ الاعظم ومقتدي الكل والرائد الاعلى قد اتـخذ الامر الإلـهي: } وما على الرسول الاّ البلاغُ الـمبينُ{ (النور:54) دليلاً ومرشداً لـه، فكلـما أعرض الناس عن الاصغاء وتولـّوا عنه ازداد جهاداً وسعياً في سبيل التبليغ. لانه عَلـم يقيناً ان جعل الناس يصغون ويهتدون انـما هو من شؤون الله سبـحانه، وفق الآية الكريـمة: } إنك لا تهدي مَن أحببتَ ولكنَ الله يَهدي مَن يشاءُ{ (القصص:56). فما كان يتدخل e في شؤونه سبـحانه.

لذا فيا اخوتي! لا تتدخلوا في اعمال وشؤون لا تعود اليكم ولا تبنوا عليها اعمالكم ولا تتـخذوا طور الاختبار تـجاه خالقكم.

T الـمسألة الثانية:

ان غاية امتثالُ امر الله ونيلُ رضاه، فالداعي الى العبادة هو الامر الإلـهي، ونتيـجتها نيلُ رضاه سبـحانه. اما ثمرتها وفوائدها فأخروية. الاّ انه لا تنافي العبادة اذا مُنـحت ثمراتٌ تعود فائدتها الى الدنيا، بشرط الاّ تكون علـّتها الغائية، وألاّ يُقصد في طلبها. فالفوائد التي تعود الى الدنيا والثمرات التي تترتب عليها من نفسها وتـمنـح من دون طلب لاتنافي العبادة، بل تكون بـمثابة حث ((وترجيـح)) للضعفاء. ولكن اذا صارت الفوائد الدنيوية او منافعها علـةً، او جزءاً من العلة لتلك العبادة او لذلك الورد او الذكر فانها تُبطل قسـماً من تلك العبادة. بل تـجعل ذلك الورد الذي لـه خصائص عدة عقيـماً دون نتيـجة.

فالذين لا يفهمون هذا السر، ويقرأون ((الاوراد القدسية للشاه النقشبند)) مثلاً التي لـها مئات من الـمزايا والـخواص، او يقرأون ((الـجوشن الكبير)( الذي لـه ألفٌ من الـمزايا والفضائل وهم يقصدون بعض تلك الفوائد بالذات، لا يـجدون تلك الفوائد، بل لن يـجدوها ولن يشاهدوها، وليس لـهم الـحق لـمشاهدتها البتة؛ لأنه لا يـمكن ان تكون تلك الفوائد علـّة لتلك الاوراد، فلا تُطلب منها تلك الفوائد قصداً، لان تلك الفوائد تترتب بصورة فضل إلـهي على ذلك الوِرد الذي يُقرأ قراءة خالصةً دون طلب شيءٍ. فأما اذا نواها القاريء فان نيـّتها تُفسد اخلاصه جزئياً، بل تـخرجها من كونها عبادةً، فتسقط قيـمتها.

بيد ان هناك امراً آخر، هو أن اشخاصاً ضعفاء بـحاجة دائمة الى مشوّق ومرجـّح فاذا ما قرأ الاوراد قراءة خالصة لله متذكراً تلك الفوائد فلا بأس في ذلك، بل هو مقبول.

ولعدم ادراك هذه الـحكمة، يقع الكثيرون فريسة الريب والشك عند عدم وجدانهم تلك الفوائد التي رُويت عن الاقطاب والسلف الصالـحين، بل قد ينكرونها.

T الـمسألة الثالثة:

((طُوبى لـمنْ عَرَف حدّه ولـم يتـجاوز طَوره)).

ان هناك تـجليات للشـمس على كل شيء. ابتداءً من اصغر ذرة وبلورة زجاج وقطرة ماء ومن الـحوض الكبير والبـحر العظيـم، وانتهاءً بالقمر والكواكب السيارة. كل منها يعرف حدّه ويطبع على نفسه انعكاس الشـمس وصورتها حسب قابليته. فتستطيع قطرة ماءٍ أن تقول: عندي انعكاسٌ للشـمس، وذلك حسب قابليتها. ولكن لا تـجرؤ على القول: انا مرآة للشـمس كالبـحر.

كذلك الامر في مقامات الاولياء، ففيها مراتبٌ عدّة، حسب تنوّع تـجليات الاسـماء الإلـهية الـحسنى، فكلُ اسـم من الاسـماء الـحسنى لـه تـجلياتٌ – كالشـمس في الـمثال – ابتداءً من القلب وانتهاءً بالعرش. فالقلب عرشٌ، ولكن لا يستطيع ان يقول: ((أنا كالعرش الاعظم)). ومن هنا كان السالك في سبيل الفخر والغرور يلتبس عليه الامر فيـجعل قلبه الصغير جداً كالذرة مساوياً للعرش الاعظم، ويعتبر مقامه الذي هو كالقطرة كفواً مع مقام الاولياء العظام الذي هو كالبـحر.فبدلاً من أن يصرف همـّه لـمعرفة اساس العبادة الذي هو العجز والفقر وادراك تقصيره ونقصه امام بارئه القدير والتضرع امام عتبة ألوهيته سبـحانه والسجود عندها بكل ذل وخضوع، وتراه يبدر منه التصنـّع والتكلف لأجل أن يلائم نفسه ويـحافظ عليها مع مستوى تلك الـمقامات السامية، فيقع فيـما لا طائل وراءه من الغرور والانانية والـمشاكل العويصة.

الـخلاصة:

لقد ورد في الـحديث الشريف: ((هَلَك الناس الاّ العالـمون وهلك العالـمون الاّ العاملون وهلك العاملون الاّ الـمـخلصون والـمـخلصون على خطرٍ عظيـم))(1).

أي ان مـحور النـجاة ومدارها الاخلاص، فالفوز به اذن امر في غاية الاهمية لأن ذرة من عمل خالص أفضل عند الله من أطنانٍ من الاعمال الـمشوبة. فالذي يـجعل الانسان يـحرز الاخلاص هو تفكـّره في ان الدافع الى العمل هو الامر الإلـهي لا غير، ونتيـجته كسب رضاه وحده، ثم عدم تدخلـه في الشؤون الإلـهية.

ان هناك اخلاصاً في كل شيء. حتى أن ذرةً من حُبٍ خالص تفضل على اطنان من الـحب الصوري الشكلي. وقد عبـّر احدهم شعراً عن هذا النوع من الـحب:

وما انا بالباغي على الـحب رشوةً ضعيفٌ هوىً يُبغى عليه ثوابُ

أي لا أطلب على الـحب رشوة ولا أجرة ولا عوضاً ولا مكافأة، لأن الـحب الذي يطلب ثواباً ومكافأة حبٌ ضعيف لا يدوم. فهذا الـحب الـخالص قد أودعه الله سبـحانه في فطرة الانسان ولاسيـما الوالدات عامة، فشفقة الوالدة مثال بارز لـهذا الـحب الـخالص.

والدليل على ان الوالدات لا يطلبن تـجاه مـحبتهن لأولادهن مكافأة ولا رشوة قط هو جُودُهن بانفسهن لأجل اولادهن، بل فداؤهن حتى باخراهن لأجلـهم. حتى ترى الدجاج تهاجـم الكلب انقاذاً لأفراخها من فمها – كما شاهدها خسرو – علـماً أن حياتها هي كل مالديها من رأسـمال.

T الـمسألة الرابعة:

ينبغي ألاّ تؤخذ النِعم التي تَرِدُ بأسباب ووسائل ظاهرية على حساب تلك الاسباب والوسائل، لأن ذلك السبب وتلك الوسيلة، إما لـه اختيار او لا اختيار لـه. فان لـم يكن لـه اختيار – كالـحيوان والنبات – فلا ريب انه يعطيك بـحساب الله وباسـمه. وحيث أنه يذكر الله بلسان حالـه، أي يقول: بسـم الله، ويسلـمك النعمة، فخذها باسـم الله وكُلـها.

ولكن إن كان ذلك السبب لـه اختيار، فعليه أن يذكر الله ويقول: بسـم الله، فلا تأخذ منه الاّ بعد ذكره اسـم الله، لأن الـمعنى الاشاري – فضلاً عن الـمعنى الصريـح – للآية الكريـمة: } ولا تأكلوا مـما لـم يُذكر اسـم الله عليه{ (الانعام:121) يرمز الى: لا تأكلوا من نعمةٍ لـم يُذكر اسـم مالكها الـحقيقي عليها وهو الله، ولـم يسلـّم اليك باسـمه.

وعلى هذا فعلى الـمعطي ان يذكر اسـم الله، وعلى الآخذ ان يذكر اسـم الله. فان كان الـمعطي لا يذكر اسـم الله، وانت في حاجة الى الأخذ، فاذكر انت اسـم الله، ولكن ارفع بصرك عالياً فوق رأس الـمعطي وانظر الى يد الرحـمة الإلـهية التي انعمت عليه وعليك معاً، وقبـّلـها بالشكر، وتسلـم منها النعمة. أي انظر الى الإنعام من خلال النعمة، وتذكـّر الـمنعم الـحقيقي من خلال الإنعام، فهذا النظر والتذكر شكرٌ. ومن ثم ارجع بصرك – ان شئت – وانظر الى السبب او الوسيلة، وادع لـه بالـخير واثنِ عليه، لورود النعمة على يديه.

ان الذي يوهم عَبَدة الاسباب ويـخدعهم هو: اعتبارُ احد الشيئين علةً للآخر عند مـجيئهما معاً، او عند وجودهما معاً. وهذا هو الذي يسـمى بـ ((الاقتران)).

وحيث ان عدم وجود شيء ما، يصبـح علةً لعدم وجود نعمة، لذا يتوهم الـمرء ان وجود ذلك الشيء هو علة لوجود تلك النعمة، فيبدأ بتقديـم شكره وامتنانه الى ذلك الشيء فيـخطيء؛ لأن وجودَ نعمة ما يترتبُ على مقدمات كثيرة وشرائط عديدة، بينـما إنعدامُ تلك النعمة يـحدث بـمـجرد انعدام شرط واحد فقط.

مثلاً: ان الذي لا يفتـح مـجرى الساقية الـمؤدية الى الـحديقة يصبـح سبباً وعلةً لـجفاف الـحديقة ووسيلةً لـموتها، وبالتالي الى انعدام النعم التي فيها. ولكن وجود النعم في تلك الـحديقة لا يتوقف على عمل ذلك الشخص وحده، بل يتوقف ايضاً على مئاتٍ من الشرائط الاخرى، بل لا تـحصل تلك النعم كلـها الاّ بالعلـّة الـحقيقية التي هي القدرةُ الربانية والارادة الإلـهية.

فافهم من هذا مدى الـخطأ في هذه الـمغالطة،واعلـم فداحة خطأ عبدةِ الاسباب. نعم! ان الاقتران شيءٌ والعلة شيء آخر. فالنعمة التي تأتيك وقد اقترنت بنيـّة احسان من أحدهم اليك، علـّتها الرحـمة الإلـهية. وليس لذاك الشخص الاّ الاقتران دون العلة.

نعم، لو لـم ينو ذلك الشخص تلك النيـّة في الاحسان اليك لـما كانت تأتيك تلك النعمة، أي ان عدم نيته كان علةً لعدم مـجيء النعمة، ولكن ذلك الـميل للاحسان لا يكون علةً لوجود النعمة ابداً، بل ربـما يكون مـجرد شرطٍ واحد من بين مئات الشروط الاخرى. ولقد التبس الامر على بعض طلاب رسائل النور، مـمن افاض الله عليهم من نعَمه (امثال خسرو ورأفت..) فالتبس عليهم الاقتران بالعلـّة، فكانوا يبدون الرضى باستاذهم ويثنون عليه ثناءً مفرطاً. والـحال ان الله سبـحانه قد قَرنَ نعمةَ استفادتهم من الدروس القرآنية مع احسانه الى استاذهم من نعمة الافادة، فالامر اقترانٌ ليس الاّ.

فهم يقولون: لو لـم يقدم استاذنا الى هنا، ما كنا لنأخذ هذا الدرس الإيـماني، فافادته اذن هي علـّةٌ لاستفادتنا نـحن. وانا اقول: يا اخواني الاحبة، ان الـحق سبـحانه وتعالى قد قَرَن النعمة التي انعمها عليّ بالتي انعمها عليكم، فالعلـّة في كلتا النعمتين هي الرحـمة الإلـهية.

وقد كنت يوماً اشعر بامتنان بالغ نـحو طلاب يـملكون قلـماً سيالاً مثلكم ويسعون الى خدمة النور. فالتبس عليّ الاقتران بالعلـّة، فكنت اقول: تُرى كيف كان ينهض في أداء خدمة القرآن الكريـم من كان مثلي في رداءة الـخط، لولا هؤلاء الطلبة؟. ولكن فَهمتُ بعدئذ ان الـحق سبـحانه وتعالى بعد ما أنعم عليكم النعمة الـمقدسة بـجودة الكتابة، مَنّ عليّ بالتوفيق في السير في هذه الـخدمة القرآنية، فاقترن الامران معاً، فلا يكون احدهما علـّة للآخر قط، لذا فلا أقدم شكري وامتناني لكم، بل ابشـّركم واهنئكم. وعليكم انتـم كذلك ان تدعوا لي بالتوفيق والبركة بدلاً من الرضى والثناء.

ففي هذه الـمسألة ميزانٌ دقيقٌ تُعرف به درجات الغفلة والشرك الـخفي.

T الـمسألة الـخامسة:

كما انه ظلـم عظيـم اذا ما أعطي الى شخص واحد ما تـملكه الـجـماعة، ويكون الشخص مرتكباً ظلـماً قبيـحاً اذا ما غصبَ ما هو وقفٌ للـجـماعة، كذلك الامر في النتائج التي تتـحصل بـمساعي الـجـماعة وعملـهم، والشرف والـمنزلة الـمترتبة على مـحاسن الـجـماعة وفضائلـها، اذ ما أُسند الى رئيسها او استاذها او مرشدها يكون ظلـماً واضحاً بـحق الـجـماعة، كما هو ظلـم بيـّن بـحق الاستاذ او الرئيس نفسه، لأن ذلك يداعب أنانيته الـمستترة فيه ويسوقه الى الغرور. فبينـما هو حارسٌ بوابٌ للـجـماعة، إذ به يتزيا يزيّ السلطان ويُوهم الاخرين بزيـّه، فيظلـم نفسه. بل ربـما يفتـح لـه هذا طريقاً الى نوع من شرك خفي. نعم، انه لا يـحق ان يأخذ آمرُ طابورٍ الغنائم التي حصل عليها الـجنود من فتـحهم قلعةً حصينة، ولا يـمكنه أن يُسند إنتصارهم الى نفسه.

لأجل هذا يـجب الاّ يُنظر الى الاستاذ او الـمرشد على انه الـمنبع او الـمصدر بل ينبغي اعتباره والنظر اليه على انه مَعكَس ومظهرٌ فحسب. كالـمرآة التي تعكس اليك حرارة الشـمس وضوءها، فمن البلاهة ان تتلقى الـمرآة كأنها مصدرٌ لـهما فتنسى الشـمس نفسها، ومن ثم تُولى اهتـمامك ورضاك الى الـمرآة بدلاً عن الشـمس!.

نعم، انه لابد من الـحفاظ على الـمرآة لانها مَظهرٌ يظهر تلك الصفات. فروح الـمرشد وقلبه مرآةٌ، تصبـح مَعكَساً للفيوضات الربانية التي يفيضها الـحق سبـحانه عليها، فيصبـح الـمرشد وسيلة لانعكاس تلك الفيوضات الى مريده.

لذا يـجب الاّ يُسند اليه مقام اكثر من مقام الوسيلة – منِ حيث الفيوضات – بل يـُحتـمل الاّ يكون ذلك الاستاذ الذي ينظر اليه كأنه مصدر مظهراً ولا مصدراً. وانـما يرى مريده ما أخذه من فيوضات – في طريق آخر – يراها في مرآة روح شيـخه، وذلك لـما يـحـمل من صفاء الاخلاص نـحوه وشدة العلاقة به ودنو صلته به وحصر نظره فيه. مَثَلـه في هذا كمثل الـمنوّم مغناطيسياً إذ ينفتـح في خيالـه نافذةً الى عالـم الـمثال بعد إمعانه النظر في الـمرآة، فيشاهد فيها مناظر غريبة عجيبة، علـماً ان تلك الـمناظر ليست في الـمرآة وانـما فيـما وراء الـمرآة مـما يتراءى لـه من نافذة خيالية التي انفتـحت نتيـجة إمعان النظر في الـمرآة.

لـهذا يـمكن ان يكون مريدٌ مـخلصٌ لشيـخ غير كامل أكمل من شيـخه، فينبرى الى ارشاد شيـخه، ويصبـح شيـخاً لشيـخه.

الـمذكـِّرة الرابعة عشرة.

تتضمن اربعة رموز صغيرة تـخصّ التوحيد:

الرمز الاول:

يا من يستـمدّ من الاسباب، إنك ((تنفخ من غيرِ ضَرم وتستسـمن ذا ورم))(1) اذا رأيت قصراً عجيباً يُبنى من جواهر غريبة، لا يوجد وقت البناء بعضُ تلك الـجواهر الاّ في الصين، وبعضها الاّ في الاندلس، وبعضها الاّ في اليـمن، وبعضها الاّ في سيبريا. واذا شاهدت ان البناء يتـم على أحسن ما يكون، وتـجلب لـه تلك الاحجار الكريـمة من الشرق والغرب والشـمال والـجنوب باسرع وقت وبسهولة تامة وفي اليوم نفسه.. فهل يبقى لديك ريب في ان بنـّاء ذلك القصر باسط هيـمنته على الكرة الارضية؟.

وهكذا كلُ كائنٍ، بناءٌ، وقصر إلـهي، ولاسيـما الانسان. فهو من اجـمل تلك القصور ومن اعجبها، لأن قسـماً من الاحجار الكريـمة لـهذا القصر البديع من عالـم الارواح، وقسـم منها من عالـم الـمثال واللوح الـمـحفوظ، وقسـم آخر من عالـم الـهواء، ومن عالـم النور، ومن عالـم العناصر. كما امتدت حاجاته الى الابد، وانتشرت آمالـه في اقطار السـموات والارض، وشرّعت روابطه وعلاقاته في طبقات الدنيا والآخرة.

فيا هذا الانسان الذي يـحسب نفسهُ انساناً، انت قصر عجيب جداً، وعمارة غريبة جداً. فما دامت ماهيتُك هكذا، فلا يكون خالقك اذاً الاّ ذلك الذي يتصرف في الدنيا والآخرة بيسر التصرف في منزلين اثنين، ويتصرف في الارض والسـماء كتصرفه في صحيفتين، ويتصرف في الازل والابد كأنهما الامس والغدُ، فلا معبود يليق بك، ولا ملـجأ لك، ولا منقذ الاّ ذلك الذي يـحكم على الارض والسـماء ويـملك أزمة الدنيا والعقبى.

الرمز الثاني:

هناك بعضُ الـحـمقى يتوجهُ بـحبه الى الـمرآة اذا ما رأى الشـمس فيها. وذلك لعدم معرفته الشـمس نفسها، فيـحافظ على الـمرآة بـحرصٍ شديد لاستبقاء الشـمس، ولكيلا تضيع! ولكن اذا تفطـّن أن الشـمس لا تـموت بـموت الـمرآة، ولا تفنى بإنكسارها توجـّه بـمـحبته كلـها الى الشـمس التي في السـماء. وعندئذٍ يُدرك أن الشـمس التي تشاهَد في الـمرآة ليست تابعة للـمرآة، ولا يتوقف بقاؤها ببقاء الـمرآة، بل ان بقاء حيوية الـمرآة وتلألأها إنـما هو ببقاء تـجليات الشـمس ومقابلتها. فبقاء الـمرآة تابعٌ لبقاء الشـمس.

فيا ايها الانسان! ان قلبك وهويتك وماهيتَك مرآةٌ، وما في فطرتك من حبّ البقاء ليس لأجلـها، بل لأجل ما فيها من تـجلٍ لأسـم الباقي ذي الـجلال، الذي يتـجلـّى فيها حسب استعداد كل انسان. ولكن صُرفَ وجهُ تلك الـمـحبة الى جهة اخرى نتيـجة البلاهة. فما دام الأمر هكذا فقل: ياباقي انت الباقي. فاذ انت موجود وباقٍ، فليفعل الفناء بنا ما شاء فلا نبالي بـما نلاقي.

الرمز الثالث:

ايها الانسان! إن من غرائب ما أودع الفاطر الـحكيـم في ماهيتك انه: بينـما لا تسعك الدنيا احياناً فتقول: أفّ! أفّ! ضجراً كالـمسجون الـمـخنوق، وتبـحث عن مكان اوسعَ منه، اذ بك تسعك خردلة من عمل، من خاطرة، من دقيقة، حتى تفنى فيها. فقلبك وفكرُك اللذان لا تسَعهما الدنيا الضخـمة، تسَعهما الذرة الصغيرة، فتـجول بأشد احاسيسك ومشاعرك في تلك الـخاطرة الدقيقة الصغيرة.

وقد اودع الباريء سبـحانه في ماهيتك أجهزةً ولطائف معنوية دقيقة، اذا ابتلع بعضها الدنيا فلا يشبع، ويضيق بعضها ذرعاً عن ذرة ولا يتـحـمل شُعيرة – كالعين التي لا تتـحـمل شعرة والرأس الذي يتـحـمل اثقالاً هائلة. فتلك اللطيفة لا تتـحـمل ثقلاً كالشعرة الدقيقة، أي لا تتـحـمل حالة هينة جداً نشأت من الضلالة ونـجـمت من الغفلة. بل قد تنظفىء جذوتها وتـموت.

فاحذر! وخفف الوطء، وخِفْ من الغَرق، فيغرق معك ألطف لطائفك التي تبتلع الدنيا في أكلة، او كلـمة، او لـمعةَ، او شارة، او بقلة، او قبلة. فهناك اشياء صغيرة جداً تتـمكن – في جهة – ان تستوعب ما هو ضخـم جداً. فانظر ان شئت كيف تغرق السـماء بنـجومها في مرآة صغيرة، وكيف كتب الـحق سبـحانه في خردلة حافظتك اكثر ما في صحيفة اعمالك واغلب ما في صحائف اعمارك. فسبـحانه من قادر قيوم!.

الرمز الرابع:

يا عابد الدنيا! ان دنياك التي تتصورها واسعةً فسيـحةً ما هي الاّ كالقبر الضيـّق، ولكن جدرانه من مرآةٍ تتعاكس فيها الصور، فتراه فسيـحاً رحباً واسعاً مدّ البصر، فينـما منزلك هذا هو كالقبر تراه كالـمدينة الشاسعة، ذلك لأن الـجدار الأيـمن والايسر لتلك الدنيا واللذين يـمثلان الـماضي والـمستقبل – رغم انهما معدومان وغير موجودين – فانهما كالـمرآة تعكسان الصور في بعضهما البعض الآخر فتوسّعان وتبسطان اجنـحة زمان الـحال الـحاضرة الذي هو قصيرة جداً وضيق جداً. فتـختلط الـحقيقة بالـخيال، فترى الدنيا الـمعدومة موجودةً. فكما ان خطاً مستقيـماً وهو في حقيقته رفيعٌ جداً، إذا ما تـحرك بسرعة يظهر واسعاً كأنه سطح كبير، كذلك دنياك انت، هي في حقيقتها ضيقـّة جداً، جدرانها قد توسعت ومـُدّت بغفلتك وتوهم خيالك، حتى اذا ما تـحرك رأسك من جراء مصيبة اصابتك، تراه يصدم ذلك الـجدار الذي كنت تتصوره بعيداً جداً. فيطـّير ما تـحـملـه من خيال، ويطرد نومك. وعندئذ تـجد دنياك الواسعة أضيقَ من القبر، وترى زمانك وعمرك يـمضي اسرع من البرق، وتنظر الى حياتك تراها تسيل اسرع من النهر.

فما دامت الـحياة الدنيا والعيش الـمادي والـحياة الـحيوانية هكذا، فانسلْ اذن من الـحيوانية، ودع الـمادية، وادخل مدارج حياة القلب.. تـجد ميدان حياةٍ أرحب، وعالـم نورٍ اوسع مـما كنت تتوهمه من تلك الدنيا الواسعة.

وما مفتاح ذلك العالـم الأرحب الاّ معرفةُ الله، وانطاقُ اللسان وتـحريك القلب، وتشغيل الروح بـما تفيده الكلـمة الـمقدسة (لا إلـه الاّ الله) من معانٍ واسرار.

الـمذكـِّرة الـخامسة عشرة

وهي ثلاث مسائل:

الـمسألة الاولى(1):

يامَن يريد ان يرى دليلاً على حقيقة الآيتين الكريـمتين: } فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَره ` ومَن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يَره { (الزلزال:7-8) اللتين تشيران الى التـجلي الأتـم لاسـم الله ((الـحفيظ)).

ان التـجلي الاعظم لاسـم الله الـحفيظ ونظير الـحقيقة الكبرى لـهاتين الآيتين مبثوثٌ في الارجاء كافة، يـمكنك أن تـجده بالنظر والتأمل في صحائف كتاب الكائنات، وذلك الكتاب الـمكتوب على مسطر الكتاب الـمبين وعلى موازينه ومقاييسه.

خذ – مثلاً – غُرفةً بقبضتك من اشتات بذور الازهار والاشجار، تلك البذيرات الـمـختلطة والـحبتّات الـمـختلفة الاجناس والانواع وهي الـمتشابهة في الاشكال والاجرام، أدفن هذه البُذيرات في ظلـمات تراب بسيط جامد، ثم اسقها بالـماء الذي لاميزان لـه ولايـميز بين الاشياء فاينـما توجهه يسيل ويذهب. ثم عُدْ اليه عند الربيع الذي هو ميدان الـحشر السنوى، وانظر وتأمل كيف ان مَلَك الرعـّد ينفخُ في صُوره في الربيع كنفخ اسرافيل، مُنادياً الـمطر ومُبشراً البذيرات الـمدفونة تـحت الارض بالبعث بعد الـموت. فانت ترى ان تلك البذيرات التي هي في منتهى الاختلاط والامتزاج مع غاية التشابه تـمتثل تـحت انوار تـجلـّي اسـم ((الـحفيظ))، إمتثالاً تاماً بلا خطأ الأوامر التكوينية الآتية اليها من بارئها الـحكيـم. فتلائم اعمالـها وتوافق حركاتها مع تلك الاوامر بـحيث تستشف منها لـمعان كمال الـحكمة والعلـم والارادة والقصد والشعور.

الا ترى كيف تتـمايز تلك البذيرات الـمتـماثلة، ويفترق بعضها عن البعض الآخر. فهذه البُذيرة قد صارت شجرةَ تينٍ تنشر نِعم الفاطر الـحكيـم فوق رؤوسها وتنثرها عليها وتـمدّها الينا بايدي اغصانها. وهاتان البُذيرتان الـمتشابهتان بها قد صارتا زهرة الشـمس وزهرة البنفسج.. وامثالـها كثير من الازهار الـجـميلة التي تتزين لأجلنا وتواجهنا بوجه طليق مبتسـم متوددةً الينا.. وهناك بذيراتٌ اخرى قد صارت فواكه طيبة نشتهيها، وسنابل ملأى، واشجاراً يافعة، تثير شهيتنا بطعومها الطيبة، وروائحها الزكية، واشكالـها البديعة فتدعونا الى انفسها، وتُفديها الينا، كي تصعد من مرتبة الـحياة النباتية الى مرتبة الـحياة الـحيوانية. حتى نـمت تلك البذيرات نـمواً واسعاً الى حد صارت تلك الغرفة منها – باذن خالقها – حديقة غنـّاء وجنةً فيحاء مزدهرة بالازهار الـمتنوعة والاشجار الـمـختلفة، فانظر هل ترى خطأ او فطوراً } فارجع البصر هل ترى من فطور { (الـملك:3).

لقد اظهرت كلُ بذرة بتـجلي اسـم الله الـحفيظ واحسانه ما ورثَته من ميراث ابيها واصلـها بلا نقصان وبلا التباس.

فالـحفيظ الذي يفعل هذا الـحفظ الـمعجز يشير به الى إظهار التـجلي الاكبر للـحفيظية يوم الـحشر الاكبر والقيامة العظمى.

نعم، ان اظهار كمال الـحفظ والعناية في مثل هذه الامور الزائلة التافهة بلا قصور، لـهو حجةٌ بالغة على مـحافظة ومـحاسبة ما لـه اهمية عظيـمة وتأثير ابدي كأفعال خلفاء الارض وآثارهم، واعمال حـملة الامانة واقوالـهم، وحسنات عبدة الواحد الاحد وسيئاتهم..

} أيـحسَبُ الانسانُ أنْ يُترَكَ سُدىً.. { (القيامة:36) بلى إنه لـمبعوثٌ الى الابد، ومرشـّحٌ للسعادة الابدية او الشقاء الدائم، فيـحاسَبُ على السَبَد واللـَّبَد(1) فاما الثواب واما العقاب.

وهكذا فهناك ما لا يـحد ولا يُعد من دلائل التـجلي لإسـم الله الـحفيظ، وشواهد حقيقة الآية الـمذكورة.

فهذا الـمثال الذي تنسج على منوالـه ليس الاّ قبضة من صُبرة(2)، او غرفة من بـحر، او حبة من رمال الدهناء، ونقطة من تلال الفيفاء(3)، وقطرة من زلال السـماء، فسبـحانه من حفيظ رقيب وشهيد حسيب.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

اللـمعة الثامنة عشرة

ستدرج باذن الله ضمن مـجـموعة اخرى.

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:23 PM

رد: اللمعات
 
اللـمعة التاسعة عشرة

((رسالة الاقتصاد))

(هذه الرسالة تـحضّ على الاقتصاد والقناعة وتـحذّر من مغبة الاسراف والتبذير)

بِسْمِ اِللهِ الرَّحـْمنِ الرَّحيمْ

} وكلوا واشربُوا وَلا تُسرِفُوا{ (الاعراف:31)

(هذه الآية الكريـمة تلقـّن درساً في غاية الاهمية وترشد إرشاداً حكيـماً بليغاً بصيغة الأمر الى الاقتصاد، ونهي صريـح عن الاسراف. تتضمن هذه الـمسألة سبع نكات).

النكتة الاولى:

ان الـخالق الرحيـم سبـحانه يطلب من البشرية شكراً وحـمداً إزاء ما اغدق عليها من النعم والآلاء، الاّ ان الاسراف منافٍ للشكر واستـخفاف خاسر وخيـم تـجاه النعمة، بينـما الاقتصاد توقيرٌ مربـح ازاء النعمة.

اجل! إن الاقتصاد كما هو شكر معنوي، فهو توقير للرحـمة الإلـهية الكامنة في النعم والاحسان.. وهو سبب حاسـم للبركة والاستكثار.. وهو مدار صحة الـجسد كالـحـمية.. وهو سبيل الى العزة بالابتعاد عن ذلّ الاستـجداء الـمعنوي وهو وسيلة قويةَ لإحساس ما في النعم ولآلاء من لذة.. وهو سبب متين لتذوق اللذائذ الـمـخبأة في ثنايا نعمٍ تبدو غير لذيذة.. ولكون الاسراف يـخالف الـحِكَم الـمذكورة آنفاً باتت عواقبه وخيـمة.

النكتة الثانية:

لقد خلق الفاطر الـحكيـم جسـم الانسان بـما يشبه قصراً كامل التقويـم وبـما يـماثل مدينة منتظمة الاجزاء، وجعل حاسة الذوق الـمغروزة في فمه كالبـّواب الـحارس، والاعصاب والاوعية بـمثابة اسلاك هاتف وتلغراف (تتـم خلالـها دورة الـمـخابرة الـحساسة بين القوة الذائقة والـمعدة التي هي في مركز كيان الانسان) بـحيث تقوم حاسة الذوق تلك إبلاغ ما حلّ في الفم من الـمواد، وتـحجز عن البدن والـمعدة الاشياء الضارة التي لا حاجة للـجسـم لـها قائلة: ((مـمنوع الدخول)) نابذةً اياها، بل لاتلبث أن تدفع وتبصق باستهجان في وجه كل ما هو غير نافع للبدن فضلاً عن ضرره ومرارته.

ولـما كانت القوة الذائقة في الفم تؤدي دور الـحارس. وان الـمعدة هي سيدة الـجسد وحاكمته من حيث الادارة، فلو بلغت قيـمة هديةٍ تُقدَّم الى حاكم القصر مائة درجة فان خـمساً منها فقط يـجوز أن يعطى هبةً للـحارس لا اكثر، كيلا يـختال الـحارس وينسى وظيفته ويقحـم في القصر كل مـخلّ عابث يرشوه قرشاُ اكثر.

وهكذا، بناءً على هذا السرّ، نفترض الآن امامنا لقمتان، لقمة منها من مادة مغذّية – كالـجبن والبيض مثلاً – يُقدّر ثـمنها بقرش واحد، واللقمة الاخرى حلوى من نوع فاخر يُقدّر ثـمنها بعشرة قروش، فهاتان اللقمتان متساويتان قبل دخولـهما الفم ولا فرق بينهما، وهما متساويتان كذلك من حيث إنـماء الـجسـم وتغذيته بعد دخولـهما الفم ونزولـهما عبر البلعوم. بل قد يغذّي الـجبن – الذي هو بقرش واحد – تغذية افضل وتنـمية أقوى من اللقمة الاخرى اذن ليس هناك من فرق الاّ ملاطفة القوة الذائقة في الفم التي لا تستغرق سوى نصف دقيقة. فليقدر إذن مدى ضرر الاسراف ويوازن مدى التفاهة في صرف عشرة قروش بدلاً عن قرش واحد في سبيل الـحصول على لذة تستغرق نصف دقيقة!

وهكذا فان اثابة الـحارس تسعة اضعاف ما يُقدّم الى حاكم القصر من هدايا تُفضي به لا مـحالة الى الغرور والـجشع وتدفعه بالتالي الى القول: انـما انا الـحاكم. فمن كافأه بهبة اكثر ولذة أزيد دفعه الى الداخل، مسبـّبـاً إخلال النظام القائم هناك، مضرماً فيه ناراً مستعرة وملزماً صاحبه الاستغاثة صارخاً: هيـّا اسرعوا اليّ بالطبيب حالاً ليـخفف شدة حرارتي ويطفيء لظى نارها.

فالاقتصاد والقناعة منسجـمان انسجاماً تاماً مع الـحكمة الإلـهية، اذ يتعاملان مع القوة الذائقة معاملة الـحارس، ويقفانها عند حدّها، ويكافئانها حسب تلك الوظيفة. اما الاسراف فلأنه يسلك سلوكاً مـخالفاً لتلك الـحكمة، فسرعان ما يتلقـّى الـمسرف صفعات موجِعة، اذ تـحدث الاختلاطات الـمؤلـمة في الـمعدة التي تؤدي الى فقدان الشهية الـحقيقية نـحو الاكل، فيأكل بشهية كاذبة مصطنعة بتنويع الاطعمة مـما يسبب عسراً في الـهضم.

النكتة الثالثة:

قلنا في النكتة الثانية آنفاً: ان القوة الذائقة تؤدي دور الـحارس. نعم، هي كذلك عند الغافلين الذين لـم يَسـموا بعدُ روحياً والذين لـم يتقدموا في مضمار الشكر والعروج في مدارجه، نعم إنه لا ينبغي اللـجوء الى الاسراف – كصرف عشرة أضعاف الثمن، لأجل تلذذ تلك الـحاسة الـحارسة. ولكن القوة الذائقة لدى الشاكرين حقاً ولدى اهل الـحقيقة واهل القلوب واولى الابصار بـمثابة راصدة وناظرة مفتشة لـمطابـخ الرحـمة الإلـهية (كما وضح ذلك في الـمقارنة الـمعقودة في الكلـمة السادسة). وان ما يتـم في تلك القوة الذائقة من عملية تقدير قيـمة النعم الاَلـهية ومن التعـّرف عليها بأنواعها الـمـختلفة بـما فيها من موازين دقيقة حساسة عديدة بعدد الاطعمة، انـما هو لإبلاغ الـجسد والـمعدة، بـما ينـم عن شكر معنوي.

فلا تقتصر وظيفة القوة الذائقة على رعاية الـجسد رعاية مادية وحدها، بل هي ايضاً أرقى حكماً من وظيفة الـمعدة وأرفع منزلة منها، لـما لـها من رعاية للقلب والروح والعقل ومن عناية لكل منها، علـماً أنها تستطيع ان تـمضي في سبيل الـحصول على لذتها – بشرط عدم الاسراف – انـجازاً لـمهمة الشكر الـخالص الـمقدرة لـها، وبنيـّة التعرف والاطلاع على انواع النعم الإلـهية بتذوقها والشعور بها بشرط مشروعيتها وعدم كونها وسيلة للتذلل والاستـجداء، أي اننا نستطيع ان نستعمل ذلك اللسان الـحامل للقوة الذائقة في الشكر لاجل التفضيل بين الاطعمة اللذيذة.

واليكم هذه الـحادثة اشارة الى هذه الـحقيقة، وهي كرامة من كرامات الشيـخ الكيلاني ((قُدس سره)): كان لعجوز رقيقة لطيفة ابنٌ وحيد يتربـّى على يد الشيـخ، دخلت تلك العجوز الـموقرة ذات يوم على ابنها ورأت انه يأكل من كسرة خبز يابس أسـمر مزاولاً رياضة روحية حتى ضعف ونـحل جسـمه. أثارت هذه الـحالة شفقة والدته الرؤوم ورقـّت لـحالة فذهبت لتشتكيه الى الشيـخ الكيلاني واذا بها ترى الشيـخ يأكل دجاجاً مشوياً. ولشدة رقتها ولطافتها قالت: ايها الشيـخ ان ابني يكاد يـموت جوعاً وها انت ذا تأكل الدجاج؟! فخاطب الشيـخ الدجاج قائلاً: ((قم باذن الله)) فوثب ذلك الدجاج الـمطبوخ الى خارج الوعاء بعد ان اكتـمل دجاجاً حياً بالتئام عظامه. لقد نقل هذا الـخبر بالتواتر الـمـعنوي ثقاتٍ كثيرون(1) اظهاراً لكرامة واحدة من صاحب الكرامات الـمشهورة في العالـم، الشيـخ الكيلاني قُدس سرّه. ومـما قالـه الشيـخ لتلك العجوز: متى ما بلغ إبنك هذه الدرجة.. فليأكل الدجاج هو الآخر.

فمغزى هذا الامر الصادر من الشيـخ الكيلاني هو: متى حَكمت روحُ ابنك جَسَدَهُ وهيـمن قلبُه على نفسه، وسادَ عقلـه معدته، والتـمس اللذةَ لاجل الشكر.. عندئذ يـمكنه أن يتناول ما لذّ وطاب من الاطعمة.

النكتة الرابعة:

ان الـمقتصد لا يعاني فاقة العائلة وعوزها كما هو مفهوم الـحديث الشريف: ((لا يعول من اقتصد))(1). اجل هناك من الدلائل القاطعة التي لا يـحصرها العدّ بأن الاقتصاد سبب جازم لإنزال البركة، واساس متين للعيش الافضل. أذكر منها ما رأيته في نفسي وبشهادة الذين عاونوني في خدمتي وصادقوني باخلاص فأقول:

لقد حصلتُ احياناً وحصل اصدقائي على عشرة اضعاف من البركة بسبب الاقتصاد. حتى انه قبل تسع سنوات(2) عندما أصرّ عليّ قسـم من رؤساء العشائر الـمنفيين معي الى ((بوردور)) على قبول زكاتهم كي يـحولوا بيني وبين وقوعي في الذلة والـحاجة لقلة ما كانت عندي من النقود، فقلت لاولئك الرؤساء الاثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً الاّ انني املك الاقتصاد، وقد تعودت على القناعة، فانا أغنى منكم بكثير فرفضتُ تكليفهم الـمتكرر الـملـح.. ومن الـجدير بالـملاحظة ان قسـماً من اولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الذَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، الاّ أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني – ولله الـحـمد – ببركة الاقتصاد الى ما بعد سبع سنوات، فلـم تُرق مني ماء الوجه، ولـم تدفعني لعرض حاجتي الى الناس، ولـم تفسد عليّ ما اتـخذته دستوراً لـحياتي وهو ((الاستغناء عن الناس)).

نعم ان من لايقتصد، مدعوّ للسقوط في مهاوي الذلّة، ومعرض للانزلاق الى الاستـجداء والـهوان معنىً.

ان الـمال الذي يستعمل في الاسراف في زماننا هذا لـهو مال غالٍ وباهظ جداً، حيث تدفع احياناً الكرامة والشرف ثـمناً ورشوة لـه، بل قد تُسلب الـمقدسات الدينية، ثم يُعطى نقوداً منـحوسة مشؤومة، أي يقبش بضعة قروش من نقود مادية، على حساب مئات الليرات من النقود الـمعنوية.

بينـما لو اقتصر الانسان على الـحاجات الضرورية واختصرها وحصر همـّه فيها، فسيـجد رزقاً يكفل عيشه من حيث لا يـحتسب وذلك بـمضمون الآية الكريـمة:

} ان الله هو الرزاق ذو القوة الـمـتين { (الذاريات:58) وأن صراحة الآية الكريـمة:

} وما من دابة في الارض الاّ على الله رزقها { (هود:6) تتعهد بذلك تعهداً قاطعاً.

نعم، ان الرزق قسـمان:

القسـم الاول: وهو الرزق الـحقيقي الذي تتوقف عليه حياة الـمرء، وهو تـحت التعهد الرباني بـحكم هذه الآية الكريـمة، يستطيع الـمرء الـحصول على ذلك الرزق الضروري مهما كانت الاحوال، ان لـم يتدخل سوء اختياره، دون ان يضطر الى فداء دينه ولا التضحية بشرفه وعزته.

القسـم الثاني: هو الرزق الـمـجازي، فالذي يسيء استعمالـه لا يستطيع ان يتـخلـّى عن الـحاجات غير الضرورية، التي غدت ضرورية عنده نتيـجة الابتلاء التقليد. وثـمن الـحصول على هذا الرزق باهظ جداً ولاسيـماء في هذا الزمان، حيث لا يدخل ضمن التعهد الرباني، اذ قد يتقاضى ذلك الـمال لقاء تضحيته بعزته سلفاً راضياً بالذل، بل قد يصل به حد السقوط في هاوية الاستـجداء الـمعنوي، والتنازل الى تقبيل اقدام أناس منـحطين وضيعين، لا بل قد يـحصل على ذلك الـمال الـمنـحوس الـمـمـحوق بالتضحية بـمقدساته الدينية التي هي نور حياته الـخالدة. ثم ان الألـم الذي ينتاب ذوي الوجدان من حيث العاطفة الانسانية – بـما برونه من آلام يقاسيها الـمـحتاجون البائسون في هذا الزمان الذي خيـم عليه الفقر والـحاجة – يشوّب لذاتَهم التي يـحصلونها بأموال غير مشروعة، وتزداد مرارتها ان كانت لـهمضمائر. انه ينبغي في هذا الزمان العجيب الاكتفاء بـحدّ الضرورة في الاموال الـمريبة، لانه حسب قاعدة ((الضرورة تقدر بقدرها)) يـمكن ان يؤخذ باضطرارٍ من الـمال الـحرام حدَّ الضرورة وليس اكثر من ذلك. وليس للـمضطر ان يأكل من الـميتة الى حدّ الشبع، بل لـه ان يأكل بـمقدار ما يـحول بينه وبين الـموت. وكذا لا يؤكل الطعام بشراهة امام مائة من الـجائعين.

نورد هنا حادثة واقعية للدلالة على كون الاقتصاد سبب العزة والكمال:

اقام ((حاتـم الطائي)) الـمشهور بكرمه وسخائه ضيافة عظيـمة ذات يوم واغدق هدايا ثـمينة على ضيوفه ثـم خرج للتـجول في الصحراء، فرأى شيـخاً فقيراً يـحـمل على ظهره حـملاً ثقيلاً من الـحطب والكلأ والشوك والدم يسيل من بعض جسـمه.. فـخاطبه قائلاً:

- ايها الشيـخ، ان حاتـماً الطائي يقيـم اليوم ضيافة كريـمة ويوزع هدايا ثـمينة، بادرْ اليه لعلك تنال منه اموالاً اضعاف أضعاف ما تنالـه من هذا الـحـمل!!.

قال لـه ذلك الشيـخ الـمقتصد: سأحـمل حـملي هذا بعزة نفسي وعرق جبيني، ولا أرضى ان أقع تـحت طائل منّة حاتـم الطائي.

ولـما سُئل حاتـم الطائي يوماً:

- مَن من الناس وجدتهم اعزَّ منك واكرم؟

قال: ذلك الشيـخ الـمقتصد الذي لقيته في الـمفازة ذات يوم، لقد رأيته حقاً اعزّ مني واكرم.

النكتة الـخامسة:

ان من كمال كرم الله سبـحانه وتعالى، أنه يُذيقُ لذّة نِعمه لأفقر الناس، كما يذيقها أغناهم، فالفقير يستشعر اللذة ويتذوقها كالسلطان.

نعم ان اللذة التي ينالـها فقير من كسرة خيز اسود يابس بسبب الـجوع والاقتصاد تفوق ما ينالـه السلطان او الثري من اكلـه الـحلوى الفاخرة بالـملل وعدم الشهية النابعين من الاسراف.

ومن العجيب حقاً ان يـجرؤ بعض الـمسرفين والـمبذّرون على اتهام الـمقتصدين بالـخسـّة.. حاشَ لله، بل الاقتصاد هو العزة والكرم بعينه، بينـما الـخسة والذلة هما حقيقة ما يقوم به الـمسرفون والـمبذرين من سخاء ظاهري.

وهناك حادثة جرت في غرفتي في ((اسبارطة)) في السنة التي تـم فيها تأليف هذه الرسالة، تؤيد هذه الـحقيقة وهي:

اصرّ احد طلابي اصراراً شديداً على ان أقبل هديته التي تزن اوقيتين ونصف الاوقية(1) من العسل، خرقاً لدستور حياتي(2)، ومهما حاولت في بيان ضرورة التـمسك على قاعدتي لـم يقنع، فاضطررت الى قبولـها مرغما على نية ان يشترك ثلاثة اخوةٍ معي في الغرفة فيها ويأكلوا منه باقتصاد طوال اربعين يوماً من شهري شعبان ورمضان الـمبارك، ليكسب صاحبه الـمهدي ثواباً، ولا يبقوا دون حلاوة. لذا أوصيتهم بقبول الـهدية لـهم علـماً انـّي كانت عندي أوقية من العسل.

وبرغم ان اصدقائي الثلاثة كانوا على استقامة حقاً ومـمن يقدّرون الاقتصاد حق قدره، لاّ انهم – على كل حال – نَسوه نتيـجة قيامهم باكرام بعضهم بعضاً ومراعاتهم شعور الآخرين والايثار فيـما بينهم، وامثالـها من الـخصال الـحـميدة، فانفدوا ما عندهم من العسل في ثلاث ليالٍ فقط، فقلت مبتسـماً:

- لقد كانت نبتي ان اجعلكم تتذوقون طعم العسل ثلاثين يوماً او اكثر، ولكنكم انفذتـموه في ثلاثة ايام فقط.. فهنيئاً لكم!. في حين انني بت اصرف ما كنتُ املكه من العسل بالاقتصاد، فتناولته طوال شهري شعبان ورمضان، فضلاً عن انه اصبـح ولله الـحـمد سبباً لثواب عظيـم، حيث اعطيتُ كل واحد من اولئك الاخوة ملعقة واحدة منه(1) وقت الافطار.

ولربـما حَسِب الذين شاهدوا حالي تلك انها خسّة، واعتبروا اوضاع اولئك الاخوة في الليالي الثَلاث حالة عزيزة من الكرم! ولكن شاهَدنا تـحت تلك الـخسة الظاهرية عزةً عاليةً وبركة واسعة وثواباً عظيـماً من زاوية الـحقيقة. وتـحت ذلك الكرم والاسراف – ان لـم يكن قد تُرك – استـجداءً وترقباً لـما في ايدي الآخرين بطمع وامثالـها من الـحالات التي هي أدني بكثير من الـخسة.

النكتة السادسة:

هناك بون شاسع وفوق هائل بين الاقتصاد والـخسة، اذ كما أن التواضع الذي هو من الاخلاق الـمـحـمودة يـخالف معنىً التذللَ الذي هو من الاخلاق الـمذمومة مع أنه يشابهه صورة. وكما ان الوقار الذي هو من الـخصال الـحـميدة يـخالف معنىً التكبـّر الذي هو من الاخلاق السيئة مع أنه يشابهه صورة.

فكذا الـحال في الاقتصاد الذي هو من الاخلاق النبوية السامية بل هو من الـمـحاور التي يدور عليها نظام الـحكمة الإلـهية الـمهيـمن على الكون، لا علاقة لـه أبداً بالـخسة التي هي مزيـج من السفاهة والبـخل والـجشع والـحرص. بل ليست هناك من رابطة بينهما قطعاً، الاّ ذلك التشابه الظاهري. واليكم هذا الـحدث الـمؤيد لـهذه الـحقيقة:

دخل عبدالله بن عمر بن الـخطاب رضي الله عنهما وهو اكبر ابناء الفاروق الاعظم خليفة رسول الله e وأحد العبادلة السبعة الـمشهورين ومن البارزين بين علـماء الصحابة الأجلاء، دخل هذا الصحابي الـجليل يوماً في مناقشة حادة لدى تعاملـه في السوق على شيء لا يساوي قرشاً واحداً، حفاظاً على الاقتصاد وصوناً للأمانة والاستقامة اللتين تدور عليهما التـجارة. في هذه الاثناء رآه صحابي آخر، فظنّ فيه شيئاً من خسّة فاستعظمها منه، اذ كيف يصدر هذا الامر من ابن أمير الـمؤمنين وخليفة الارض. فتبعه الى بيته ليفهم شيئاً من احوالـه، فوجد أنه قضى بعض الوقت مع فقير عند الباب وتبادلا حديثاً في لطف ومودة، ثم خرج من الباب الثاني وتـجاذب اطراف الـحديث مع فقير آخر هناك. اثار هذا الامر لـهفة ذلك الصحابي فأسرع الى الفقيرين للاستفسار منهما:

- هلاّ تفهماني ماذا فعل ابن عمر حينـما وقف معكما؟.

- لقد اعطى كلاً منا قطعة ذهب.

فراعه الامر وقال شدهاً: يا سبـحان الله.. ما أعجب هذا الامر، انه يـخوض في السوق في نِقاش شديد لأجل قرش واحد، ثم ها هو ذا يغدق في بيته بـمئات أضعافه على مـحتاجين اثنين عن رضىً دون ان يشعر به أحد، فسار نـحو ابن عمر رضي الله عنهما ليسألـه:

- ايها الإمام: ألا تـحل لي معضلتي هذه؟ لقد فعلتَ في السوق كذا وكذا وفي البيت كذا وكذا؟! فردّ عليه قائلاً:

- ان ما حدث في السوق هو نتيـجة الاقتصاد والـحصافة، فعلتُه صوناً للامانة وحفظاً للصدق اللذين هما اساس الـمبايعة وروحها وهو ليس بـخسّةٍ ولا ببـخل، وان ما بدر مني في البيت نابع من رأفة القلب ورقـّته ومن سـمو الروح واكتـمالـها.. فلا ذاك خسّة ولا هذا اسراف.

واشارةً الى هذا السرّ قال الامام الاعظم ((ابو حنيفة النعمان)) رضي الله عنه: ((لا اسراف في الـخير كما لا خير في الاسراف)) أي كما لا اسراف في الـخير والاحسان لـمن يستـحقه كذلك لا خير في الاسراف قط.

النكتة السابعة:

ان الاسراف ينتـج الـحرص، والـحرص يوَلد ثلاث نتائج:

اولاها: عدم القناعة.

وعدم القناعة هذا يُثنى الشوقَ عن السعي وعن العمل، بـما يبثّ في نفس الـحريص من الشكوى بدلاً من الشكر، قاذفاً به الى احضان الكسل، فيترك الـمال الزهيد النابع من الكسب الـحلال(1) ويبادر بالبـحث عما لا مشقة ولا تكليف فيه من مال غير مشروع، فيهدر في هذه السبيل عزتَه بل كرامته.

النتيـجة الثانية للـحرص: الـخيبة والـخسران.

اذ يفوت مقصود الـحريص ويتعرض للاستثقال ويـحرم من التيسير والـمعاونة حتى يكون مصداق القول الـمشهور: ((الـحريصُ خائب خاسر)).

ان تأثير الـحرص والقناعة يـجري في عالـم الاحياء على وفق دستور شامل وسنـّة مطردة فمثلاً:

ان وصول ارزاق النباتات الـمضطرة الى الرزق اليها هو لقناعتها الفطرية، وسعي الـحيوانات بنفسها بالـحرص وراء الـحصول على رزقها في عناء ونقص، يبديان مدى الضرر الـجسيـم الكامن في الـحرص، ومدى النفع العظيـم الكامن في القناعة.

وان سيلان الـحليب – ذلك الغذاء اللطيف – الى أفواه الصغار الضعفاء عامة ومن حيث لا يـحتسبون بـما يبدونه من قناعة ينطق بها لسان حالـهم، وانقضاض الوحوش بـحرص وجشع على ارزاقها الناقصة الـملوّثة، يثبت ما ندّعيه اثباتاً ساطعاً.

وان اوضاع الاسـماك البدينة البليدة التي تنـم عن القناعة الباعثة لوصول ارزاقها اليها كاملة وعجز الـحيوانات الذكية كالثعالب والقردة عن تـحصيل غذائها كاملاً مع حرصها سعياً وراءها وبقاءها هزيلة نـحيفة، ليبيـّن كذلك مدى ما يسببه الـحرص من الـمشقة والعناء ومدى ما تسببه القناعة من الراحة والـهناء.

كما ان حصول اليهود على ارزاقهم كفافاً بطرق غير مشروعة مـمزوجاً بالذل والـمسكنة بسبب حرصهم وتعاملـهم بالربا واتباعهم اساليب الـمكر والـخدع، وحصول البدويين الـمتـحلين بالقناعة على رزقهم الكافي وعيشهم العيش الكريـم العزيز يؤيد دعوانا ايضاً تأييداً كاملاً.

كما أن تردّي كثير من العلـماء(1) والادباء(2) بـما يـمنـحهم ذكاؤهم ودهاؤهم من الـحرص في فقر مدقع وعيش كفاف، وغناء اكثر الاغبياء العاجزين واثرائهم لـما لـهم من حالة فطرية قنوعة ليثبت اثباتاً قاطعاً: ان الرزق الـحلال يأتي حسب العجز والافتقار لا بالاقتدار والاختيار. بل هو يتناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار. ذلك ان ارزاق الاطفال تتضائل وتبتعد ويصعب الوصول اليها كلـما ازدادوا اختياراً وارادةً واقتداراً.

نعم، ان القناعة كنز للعيش الـهنيء الرغيد ومبعث الراحة في الـحياة، بينـما الـحرص معدن الـخسران والسفالة كما يتبين ذلك من الـحديث الشريف: ((القناعة كنز لا يفنى))(3).

النتيـجة الثالثة: ان الـحرص يتلف الاخلاص ويفسد العمل الاخروي؛ لانه لو وُجد حرص في مؤمن تقي لرغب في توجه الناس واقبالـهم اليه، ومن يرقب توجه الناس وينتظره لا يبلغ الاخلاص التام قطعاً ولا يـمكنه الـحصول عليه، فهذه النتيـجة ذات اهمية عظمى جديرة بالدقة والـملاحظة.

مـحصل الكلام: ان الاسراف ينتـج عدم القناعة أي الطمع، اما الطمع فيـخبت وهج الشوق والتطلع الى العمل ويقذف بالانسان الى التقاعس والكسل، ويفتـح امامه ابواب الشكوى والـحسرة في حياته حتى ليـجعلـه يئن دوماً تـحت مضض الشكوى والسأم(1). كما انه يفسد اخلاصه ويفتـح دونه باباً للرياء والتصنع فيكسر عزته ويريه طريق الاستـجداء والاستـخذاء.

اما الاقتصاد فانه يثمر القناعة، والقناعة تنتـج العزة، استناداً الى الـحديث الشريف: ((عزّ مَن قنع وذلّ مَن طمع)). كما انه يشحذ الشوق بالسعي والعمل ويـحث عليهما ويسوق سوقاً الى الكدّ وبذل الـجهد فيهما؛ لانه اذا ما سعى الـمرء في يوم ما وتقاضى اجره مساءً فسيسعى في اليوم التالي لـه بسر القناعة التي توافرت لديه. اما الـمسرف فانه لا يسعى في يومه الثاني لعدم قناعته وحتى اذا سعى فانه يسعى دون شوق.

وهكذا فان القناعة الـمستفيضة من الاقتصاد تفتـح باب الشكر وتوصد باب الشكوى، فيظل الانسان في شكر وحـمد مدى حياته. وبالقناعة لايتلفت الى توجه الناس اليه لإستغنائه عنهم، فينفتـح امامه باب الاخلاص وينغلق باب الرياء.

ولقد شاهدت الاضرار الـجسيـمة والـخسائر الفادحة التي تسفر عن الاسراف وعدم الاقتصاد شاهدتها متـجسدة في نطاق واسع مـمتد وهي كما يأتي:

جئت الى مدينة مباركة – قبل تسع سنوات – كان الـموسـم شتاءً فلـم اتـمكن من رؤية منابع الثروة وجوانب الانتاج في تلك الـمدينة، قال لي مُفتيها رحـمه الله: ان أهالينا فقراء مساكين. أعاد قولـه هذا مراراً. أثـّر فيّ هذا القول تأثيراً بالغاً مـما أجاش عطفي، فبت استرحـم وأتألـم لأهالي تلك الـمدينة فيـما يقرب من ست سنوات. وبعد ثماني سنوات عدتُ اليها وهي في اجواء الصيف، وأجلت نظري في بساتينها فتذكرت قول الـمفتي رحـمه الله فقلت متعجباً:

سبـحان الله! ان مـحاصيل هذه البساتين وغلاتها تفوق حاجة الـمدينة بأسرها كثيراً، وكان حرياً بأهاليها ان يكونوا أثرياء جداً! بقيت في حيرة من هذا الامر.. ولكن ادركت بـحقيقة لـم تـخدعني عنها الـمظاهر، فهي حقيقة استرشد بها في ادراك الـحقائق، وهي: ان البركة قد رفعت من هذه الـمدينة بسبب الاسراف وعدم الاقتصاد. مـما حدا بالـمفتي رحـمه الله الى القول: ان اهالينا فقراء ومساكين، برغم هذا القدر الواسع من منابع الثروة وكنوز الـموارد.

نعم، انه ثابت بالتـجربة وبالرجوع الى وقائع لاتـحد بأن دفعَ الزكاة، والأخذ بالاقتصاد سببان للبركة والاستزادة. بينـما الاسراف ومنع الزكاة يرفعان البركة.

ولقد فسّر ((ابن سينا)) وهو افلاطون فلاسفة الـمسلـمين وشيـخ الاطباء واستاذ الفلاسفة فسّر هذه الآية الكريـمة: } وكلوا واشربُوا وَلا تُسرِفُوا{ (الاعراف:31). من زاوية نظر الطب فقط بالابيات الآتية:

جـمعتُ الطبَّ في بيتين جـمعاً وحُسن القولِ في قِصَر الكلام

فقلـّل إن اكلتَ وبعد أكل تـجنـّب، والشفاءُ في الإنهضام

وليس على النفوس أشدُّ حالاً من إدخال الطعامِ على الطعام(1)

واليكم هذا التوافق الغريب الباعث على الـحيرة والـجالب للعبرة:

انه مع قيام خـمسة وستة من الـمستنسخين الـمـختلفين – ثلاثة منهم لا يتقنون الكتابة – باستنساخ ((رسالة الاقتصاد)) فقد توافق كل (واحد وخـمسين) ألفاً من ألفات كل نسخة – خالية من الدعاء – وكل (ثلاثة وخـمسين) ألفاً – مع الدعاء – رغم اختلاف امكنة اولئك الـمستنسخين واختلاف النسخ التي كانوا ينقلون منها واختلاف خطهم في الكتابة ومع عدم التفكر في تلكم الألفات إطلاقا!.

فان توافق عدد الألفات مع تاريـخ تأليف ((رسالة الاقتصاد)) واستنساخها وهو بالتاريـخ الرومي واحدة وخـمسون (1351) وبالتاريـخ الـهجري ثلاث وخـمسون (1353) لا يـمكن ان يـحال ذلك الى الصدفة دون ريب، بل هو اشارة الى صعود البركة الكامنة في (الاقتصاد) الى درجة الكرامة. وانه لـحرّي حقاً ان يطلق على هذا العام ((عام الاقتصاد)).

نعم لقد اثبت الزمان فعلاً هذه الكرامة الاقتصادية وذلك عندما شهدت البشرية بعد عامين الـحرب العالـمية الثانية.. تلك الـحرب التي بثت الـجوع والتـخريب وضروب الاسراف الـمقيت في كل انـحاء العالـم مـما أرغم البشرية على التشبث بالاقتصاد والالتفاف حولـه عنوةً.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:25 PM

رد: اللمعات
 
اللمعة العشرون

((تـخص الإخلاص))

((احرز هذا البحث اهمية خاصة اهـّلته ليكون ((اللمعة العشرين)) بعد ان كان النقطة الاولى من خـمس نقاط من الـمسألة الثانية من الـمسائل السبع للـمذكـّرة السابعة عشرة من اللمعة السابعة عشرة)).

بِسْمِ اِللهِ الرَّحـْمنِ الرَّحيمْ

} انـّا أنزَلنا اليكَ الكتاب بالـحقّ فاعبد الله مـخلِصاً لـه الدِّين` اَلا لله الدِّينُ الـخالصُ { (الزمر:2-3)

وقال الرسول الاعظم e : ((هَلَكَ النـَّاسُ إلاَّ الْعَالِـمُونَ وَهَلَكَ الْعَالِـمونَ إلاَّ العَامِلُونَ وهَلَكَ الْعَامِلوُنَ إلاَّ الْـمـخلِصُونَ وَالْـمـخلِصُونَ عَلى خَطَرٍ عَظيمٍ)) او كما قال: *

تدلنا هذه الآية الكريـمة والـحديث النبوي الشريف معاً على مدى اهمية الاخلاص في الاسلام، ومدى عظمته اساساً تستند اليه امور الدين. فـمن بين النكت التي لا حصر لـها لـمبحث ((الاخلاص)) نبين باختصار خـمس نقاط فقط.

النقطة الاولى:

سؤال مهم ومثير للدهشة:

لـماذا يختلف اصحاب الدين والعلماء وارباب الطرق الصوفية وهم اهل حق ووفاق ووئام بالتنافس والتزاحم في حين يتفق اهل الدنيا والغفلة بل اهل الضلالة والنفاق من دون مزاحـمة ولا حسد فيما بينهم. مع ان الاتفاق هو من شأن اهل الوفاق والوئام، والـخلاف ملازم لاهل النفاق والشقاق. فكيف استبدل الـحق والباطل مكانهما، فأصبح الـحق بـجانب هؤلاء والباطل بـجانب اولئك؟

الـجواب: سنبين سبعة من الاسباب العديدة لـهذه الـحالة الـمؤلـمة التي تقض مضجع الغيارى الشهمين.

السبب الاول:

ان اختلاف اهل الـحق غير نابع من فقدان الـحقيقة، كما ان اتفاق اهل الغفلة ليس نابعاً من ركونهم الى الـحقيقة، بل ان وظائف اهل الدنيا والسياسة والـمثقفين وامثالـهم من طبقات الـمجتمع قد تعيـّنت وتـميزت. فلكل طائفة وجـماعة وجـمعية مهمة خاصة تنشغل بها، وما ينالونه من اجرة مادية – لقاء خدماتهم ولإدامة معيشتهم – هي كذلك متميزة ومتعينة، كما ان ما يكسبونه من اجرة معنوية كحب الـجاه وذيوع الصيت والشهرة، هي الاخرى متعينة ومـخصصة ومتميزة(1). فليس هناك اذن ما يولد منافسة او مزاحـمة او حسداً فيما بينهم. وليس هناك ما يوجب المناقشة والـجدل، لذا تراهم يتمكنون من الاتفاق مهما سلكوا من طرف الفساد.

أما اهل الدين واصحاب العلم وارباب الطرق الصوفية فان وظيفة كل منهم متوجهة الى الجميع، وأن اجرتهم العاجلة غير متعينة وغير متـخصصة، كما ان حظهم من المقام الاجتماعي وتوجه الناس اليهم والرضى عنهم لم يتـخصص ايضاً.

فهناك مرشحون كثيرون لـمقام واحد، وقد تـمتد أيد كثيرة جداً الى اية اجرة – مادية كانت او معنوية – ومن هنا تنشأ الـمزاحـمة والـمنافسة والـحسد والغيرة. فيتبدل الوفاق نفاقاً والانفاق اختلافاً وتفرقاً.

فلا يشفى هذا الـمرض العضال الا مرهم الاخلاص الناجع، أي:

ان ينال الـمرء شرف امتثال الآية الكريـمة: } إنْ اَجرِيَ إلاَّ عَلَى الله{ (يونس:72) بايثار الـحق والـهدى على اتباع النفس والـهوى، وبترجيح الـحق على أثرة النفس.. وان يـحصل لـه امتثال بالآية الكريـمة: } وَمَا عَلى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبينُ { (النور:54): باستغنائه عن الاجر الـمادي والـمعنوي – الـمقبلين من الناس –(1) مدركاً ان استحسان الناس كلامه وحسن تأثيره فيهم ونيل توجههم اليه هو مـما يتولاه الله سبحانه وتعالى ومن احسانه وفضلـه وحده، وليس داخلاً ضمن وظيفته التي هي منحصرة في التبليغ فـحسب. بل لا يلزمه ذلك ولا هو مكلف به اصلا.

فمن وفـّقه الله الى ما ذُكر آنفاً يـجد لذة الاخلاص، وإلاّ يفوته الـخير الكثير.

السبب الثاني:

ان اتفاق اهل الضلالة نابع من ذلتهم، بينما اختلاف اهل الـهداية نابع من عزتهم، اذ لـما كان اهل الدنيا والضلالة الغافلون لا يستندون الىالـحق والـحقيقة فهم ضعفاء واذلاء، يشعرون بـحاجة ماسة الى اكتساب القوة ويتشبثون بشدة الى معاونة الآخرين والاتفاق معهم، ويـحرصون على هذا الاتفاق ولو كان مسلكهم ضلالة، فكأنهم يعملون حقاً في تساندهم على الباطل، ويـخلصون في ضلالـهم، ويبدون ثباتاً واصراراً على إلـحادهم، ويتفقون في نفاقهم، فلاجل هذا يوفـّقون في عملـهم، لان الاخلاص التام ولو كان في الشر لا يذهب سدى، ولا يكون دون نتيجة. فما من سائل يسأل باخلاص امراً الا قضاه الله لـه(1).

اما اهل الـهداية والدين واصحاب العلم والطريقة فلانهم يستندون الى الـحق والـحقيقة، ولان كلاً منهم اثناء سيره في طريق الـحق لا يرجو الا رضى ربه الكريـم ويطمئن اليه كل الاطمئنان، وينال عزة معنوية في مسلكه نفسه، اذ حالـما يشعر بضعف ينيب الى ربه دون الناس، ويستمد منه وحدة القوة، زد على ذلك يرى امامه اختلاف الـمشارب مع ما هو عليه، لذا تراه لا يستشعر بدواعي التعاون مع الآخرين بل لا يتمكن من رؤية جدوى الاتفاق مع مـخالفيه ظاهراً ولايـجد في نفسه الـحاجة اليه.

واذا ما كان ثـمة غرور وانانية في النفس يتوهم الـمرء نفسه مـحقاً ومـخالفيه على باطل فيقع الاختلاف والـمنافسة بدل الاتفاق والـمـحبة، وعندها يفوته الاخلاص ويـحبط عملـه ويكون اثراً بعد عين.

والعلاج الوحيد لـهذه الـحالة والـحيلولة دون رؤية نتيجتها الوخيمة هو في تسعة امور آتية:

العمل الايـجابي البنـّاء، وعو عمل الـمرء بـمقتضى مـحبته لـمسلكه فـحسب، من دون ان يرد الى تفكيره، او يتدخل في علمه عداء الآخرين او التهوين من شأنهم، أي لا ينشغل بهم اصلاً.
بل عليه ان يتـحرى روابط الوحدة الكثيرة التي تربط الـمشارب الـمعروضة في ساحة الإسلام – مهما كان نوعها – والتي ستكون منابع مـحبة ووسائل اخوة واتفاق فيما بينها فيتفق معها.
واتـخاذ دستور الانصاف دليلاً ومرشداً، وهو ان صاحب كل مسلك حق يستطيع القول: ((ان مسلكي حق وهو افضل واجـمل)) من دون ان يتدخل في امر مسالك الآخرين، ولكن لا يـجوز لـه ان يقول: ((الـحق هو مسلكي فـحسب)) او ((ان الـحسن والـجمال في مسلكي وحده)) الذي يقضي على بطلان الـمسالك الاخرى وفسادها.
العلم بان الاتفاق مع اهل الـحق هو احد وسائل التوفيق الإلـهي وأحد منابع العزة الإسلامية.
الـحفاظ على الـحق والعدل بايـجاد شخص معنوي، وذلك بالاتفاق مع اهل الـحق للوقوف تـجاه اهل الضلالة والباطل الذين اخذوا يغيرون بدهاء شخص معنوي قوي في صورة جـماعة على اهل الـحق – بـما يتمتعون به من تساند واتفاق – ثم الادراك بان اية مقاومة فردية – مهما كانت قوية – مغلوبة على امرها تـجاه ذلك الشخص الـمعنوي للضلالة.
ولاجل انقاذ الـحق من صولـه الباطل.
ترك غرور النفس وحظوظها.
وترك ما يُتصور خطأً انه من العزة والكرامة.
وترك دواعي الـحسد والـمنافسة والاحاسيس النفسانية التافهة.
بهذه النقاط التسع يُظفر بالاخلاص ويوفي الانسان وظيفته حق الوفاء ويؤديها على الوجه الـمطلوب(1).

السبب الثالث:

ان اختلاف اهل الـحق ليس ناشئاً عن الوضاعة وفقدان الـهمة، كما ان اتفاق اهل الضلالة ليس ناشئاً عن علو الـهمة، بل ان اختلاف اهل الـهداية نابع من سوء استعمال علو الـهمة والافراط فيه، واتفاق اهل الضلالة مردّه الضعف والعجز الـحاصلان من انعدام الـهمة.

والذي يسوق اهل الـهداية الى سوء استعمال علو الـهمة وبالتالي الى الاختلاف والغيرة والـحسد، انـما هو الـمبالغة في الـحرص على الثواب الاخروي – الذي هو في حد ذاته خصلة مـمدوحة – وطلب الاستزادة منها دون قناعة وحصرها على النفس. وهذا يستدرج الـحريص شيئاً فشيئاً حتى يصل به الامر ان يتـخذ وضعاً منافساً ازاء اخيه الـحقيقي الذي هو بأمس الـحاجة الى مـحبته ومعاونته واخوته والاخذ بيده، كأن يقول – مثلاً – لأغنم انا بـهذا الثواب، ولأرشد أنا هؤلاء الناس وليسـمعوا مني وحدي الكلام، وامثالـها من طلب الـمزيد من الثواب لنفسه. او يقول: لـماذا يذهب تلاميذي الى فلان وعلان؟ ولـماذا لا يبلغ تلاميذي عدد تلاميذه وزيادة؟ فتـجد روح الانانية لديه – بهذا الـحوار الداخلي - الفرصة سانـحة لترفع رأسها وتبرز، فتسوقه تدريـجاً الى التلوث بصفة مذمومة، تلك هي التطلع الى حب الـجاه، فيفوته الاخلاص وينسد دونه بابه، بينما ينفتح باب الرياء لـه على مـصراعيه.

ان علاج هذا الـخطأ الـجسيم والـجرح البليغ والـمرض الروحي العضال هو:

العلم بان رضى الله لا ينال الا بالاخلاص، فرضاه سبحانه ليس بكثرة التابعين ولا باطراد النجاح والتوفيق في الاعمال، ذلك لان تكثير التابعين والتوفيق في الاعمال هو مـما يتولاه الله سبحانه بفضلـه وكرمه، فلا يُسأل ولا يطلب بل يؤتيه الله سبحانه من يشاء.

نعم، رُبّ كلمة واحدة تكون سبباً للنجاة من النار وتصبح موضع رضى الله سبحانه، ورُبّ ارشاد شخص واحد يكون موضع رضى الله سبحانه بقدر ارشاد الف من الناس. فلا ينبغي أن يُؤخذ الكمية كثيراً بنظر الاعتبار.

ثم ان الاخلاص في العمل ونشدان الـحق فيه انـما يُعرف بصدق الرغبة في افادة الـمسلمين عامةً اياً كان مصدر الاستفادة ومن أي شخص صدر. وإلا فحصر النظر بان يؤخذ الدرس والارشاد مني فقط لأفوز بالثواب الاخروي هو حيلة النفس وخديعة الانانية.

فيامن يـحرص على الـمزيد من الثواب ولا يقنع بـما قام به من اعمال للآخرة! اعلم ان الله سبحانه قد بعث انبياء كراماً، وما آمن معهم إلاّ قليل. ومع ذلك نالوا ثواب النبوة العظيم كاملاً غير منقوص. فليس السبق والفضل اذن في كثرة التابعين الـمؤمنين، وانـما في نيل شرف رضى الله سبحانه. فمن انت ايها الـحريص حتى ترغب ان يسـمعك الناس كلـهم، وتتغافل عن واجبك وتـحاول ان تتدخل في تدبير الله وتقديره؟ اعلم واجبك، ولا تـحاول ان تتدخل في تدبير الله وتقديره؟ اعلم ان تصديق الناس كلامك وقبولـهم دعوتك وتـجمعهم حولك انـما هو من فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا تُشغل نفسك فيما يخصه سبحانه من تقدير وتدبير، بل اجمع همك في القيام بـما انيط بك من واجب.

ثم ان الاصغاء الى الـحق والـحقيقة، ونوال الـمتكلم بهما الثواب ليس منحصراً على الـجنس البشري وحده، بل لله عباد من ذوي الشعور ومن الروحانيين والـملائكة قد ملأوا اركان الكون وعمروها. فان كنت تريد مزيداً من الثواب الاخروي فاستمسك بالاخلاص واتـخذه اساساً لعملك واجعل مرضاة الله وحدها الـهدف والغاية في عملك، كي تـحيا افراد تلك الكلمات الطيبة الـمنطوقة من شفتيك منتشرة في جو السـماء بالاخلاص وبالنية الـخالصة لتصل الى اسـماع مـخلوقات من ذوي الـمشاعر الذين لا يحصرهم العد، فتنوّرهم، وتنال بها الثواب العظيم اضعافاً مضاعفة. ذلك لانك اذا قلت: ((الـْحَمْدُ لله)) مثلا فستُكتب بأمر الله على اثر نطقك بهذه الكلمة ملايين الـملايين من ((الـْحَمْدُ لله)) صغيرة وكبيرة في الفضاء. فلقد خلق سبحانه مالا يعد من الآذان والاسـماع تصغي الى تلك الكلمات الكثيرة الطيبة، حيث لا عبث ولا اسراف في عمل الباريء الـحكيم. فاذا ما بعث الاخلاصُ والنية الصادقة الـحياةَ في تلك الكلمات الـمنتشرة في ذرات الـهواء فستدخل اسـماع اولئك الروحانيين لذيذة طيبة كلذة الفاكهة الطيبة، ولكن اذا لم يبعث رضى الله والاخلاص الـحياة في تلك الكلمات، فلا تستساغ، بل تنبو عنها الاسـماع، ويبقى ثوابه منحصراً فيما تفوّه به الفم.

فليصغ الى هذا قراء القرآن الكريـم الذين يتضايقون من افتقار اصواتهم الى الـجودة والاحسان فيشكون من قلة السامعين لـهم!.

السبب الرابع:

ان اختلاف اهل الـهداية وتـحاسدهم ليس كائناً من عدم التفكر في مصيرهم ولا من قصر نظرهم، كما ان الاتفاق الـجاد بين اهل الضلالة ليس كائناً من القلق على الـمصير ولا من سـمو نظرهم وعـمق رؤيتهم. بل ان عجز اهل الـهداية عن الثبات على الاستقامة في السير، وتقصيرهم عن الاخلاص في العمل يـحرمهم من التمتع بـمزايا ذلك الـمستوى الرفيع، فيسقطون في هوة الاختلاف رغم كونهم يسترشدون بالعقل والقلب البصيرين للعاقبة ويستفيضون من الـحق والـحقيقة ولا يـميلون مع شهوات النفس بـمقتضى أحاسيسهم الكليلة عن رؤية العقبى.

اما اهل الضلالة فباغراء النفس والـهوى وبـمقتضى الـمشاعر الشهوية والاحاسيس النفسانية الكليلة عن رؤية العقبى والتي تفضل درهـما من لذة عاجلة على ارطال من الآجلة، تراهم يتفقون فيما بينهم اتفاقاً جاداً ويـجتمعون حول الـحصول على منفعة عاجلة ولذة حاضرة.

نعم، ان عبيد النفس السفلة من ذوي القلوب الـميتة والـهائمين على الشهوات الدنيئة يتـحدون ويتفقون فيما بينهم على منافع دنيوية عاجلة.. بينما ينبغي لأهل الـهداية الاتفاق الـجاد والاتـحاد الكامل والتضحية الـمثمرة والاستقامة الرصينة فيما بينهم، حيث انهم يتوجهون بنور العقل وضياء القلب الى جني كمالات ثـمرات اخروية خالدة آجلة، ولكن لعدم تـجرّدهم من الغرور والكبر والافراط والتفريط يضيـّعون منبعاً عظيماً ثراً يـُمدهم بالقوة، ألا هو الاتفاق. فيضيع بدوره الاخلاص ويتـحطم، وتتضعضع الاعمال الاخروية وتذهب سدى، ويصعب الوصول الى نيل رضى الله سبحانه.

وعلاج هذا الـمرض الوبيل ودواؤه هو:

الافتـخار بصحبة السالكين في منهج الـحق، وربط عرى الـمحبة معهم تطبيقاً للـحديث الشريف: ((الـحب في الله))(1) ثـم السير من خلفهم وترك شرف الامانة لـهم وترك الاعجاب بالنفس والغرور، بناء على احتمال كون سالك الـحق اياً كان هو خيراً

T منه وافضل، وذلك ليسهل نيل الاخلاص. ثـم العلم بأن درهماً من عمل خالص لوجه الله اولى وارجح من ارطال من اعمال مشوبة لا اخلاص فيها. ثـم ايثار البقاء في مستوى التابع دون التطلع الى تسلم الـمسؤولية التي قلـما تسلم من الاخطار.

بهذه الامور يعالج هذا الـمرض الوبيل ويعافى منه، ويظهر بالاخلاص، ويكون الـمؤمن مـمن ادى اعمالـه الاخروية حق الأداء.

السبب الـخامس:

ان اختلاف اهل الـهداية وعدم اتفاقهم ليس نابعاً من ضعفهم، كما أن الاتفاق الصارم بين اهل الضلالة ليس نابعاً من قوتهم. بل ان عدم اتفاق اهل الـهداية ناجم عن عدم شعورهم بالـحاجة الى القوة، لـما يـمدهم به أيـمانهم الكامل من مرتكز قوي. وان اتفاق اهل الغفلة والضلالة ناجم عن الضعف والعجز، حيث لا يـجدون في وجدانهم مرتكزاً يستندون الى قوته. فلفرط احتياج الضعفاء الى الاتفاق تـجدهم يتفقون اتفاقاً قوياً، ولضعف شعور الاقوياء بالـحاجة الى الاتفاق يكون اتفاقهم ضعيفاً. مثلـهم في هذا كمثل الاسُود والثعالب التي لا تشعر بالـحاجة الى الاتفاق فتراها تعيش فرادى. بينما الوعل والـماعز الوحشي تعيش قطعاناً خوفاً من الذئاب. أي ان جـمعية الضعفاء والشخص الـمعنوي الـممثل لـهم قوي كما ان جـمعية الاقوياء والشخص الـمعنوي الـممثل لـهم ضعيف(1). وهناك اشارة لطيفة الى هذا السر في نكتة قرآنية ظريفة وهي: انه اسند الفعل ((قَالَ)) بصيغة الـمذكر الى جـماعة الإناث مع كونها مؤنثة مضاعفة، وذلك في قولـه تعالى: } وَقَالَ نِسْوَةٌ في الْـمَدينَةِ { (يوسف:30)، بينما جاء الفعل ((قالت)) بصيقة الـمؤنث في قولـه تعالى: } قَالَتِ الاَعْرَابُ{ (الحجرات:14)، وهم جماعة من الذكور، مـما تشير اشارة لطيفة الى ان جـماعة النساء الضعيفات اللطيفات تتـخاشن وتتقوى وتكسب نوعاًُ من الرجولة، فاقتضت الـحال صيغة الـمذكر، فجاء فعل ((قال)) مناسباً وفي غاية الـجمال. أما الرجال الاقوياء فلانهم يعتمدون على قوتهم ولا سيما الاعراب البدويون فتكون جـماعتهم ضعيفة كأنها تكسب نوعاً من خاصية الانوثة من توجس وحذر ولطف ولين فـجاءت صيغة التأنيث للفعل ملائمة جداً في قولـه تعالى: } قَالَتِ الاَعْرَابُ { (الحجرات:14).

نعم ان الذين ينشدون الـحق لايرون وجه الـحاجة الى معاونة الآخرين لـما يـحملون في قلوبهم من إيـمان قوي يـمدهم بسند عظيم ويبعث فيهم التوكل والتسليم، حتى لو احتاجوا الى الآخرين فلا يتشبثون بهم بقوة. اما الذين جعلوا الدنيا همـّهم، فلغفلتهم عن قوة استنادهم ومرتكزهم الـحقيقي يـجدون في انفسهم الضعف والعجز في انـجاز امور الدنيا، فيشعرون بـحاجة ملحة الى من يـمد لـهم يد التعاون فيتفقون معهم اتفاقاً جاداً لا يـخلو من تضحية وفداء.

وهكذا فلأن طلاب الـحق لا يقدرون قوة الـحق الكامنة في الاتفاق ولا يبالون بها ينساقون الى نتيجة باطلة وخيمة تلك هي الاختلاف، بينما اهل الباطل والضلالة فلأنهم يشعرون – بسبب عجزهم وضعفهم – بـما في الاتفاق من قوة عظيمة فقد نالوا امضى وسيلة توصلـهم الى اهدافهم تلك هي الاتفاق.

وطريق النـجاة من هذا الواقع الباطل الاليم، والتـخلص من هذا الـمرض الفتاك، مرض الاختلاف الذي الـمّ بأهل الـحق هو اتـخاذ النهي الإلـهي في الآية الكريـمة: } وَلاَ تَنَازَعـُوا فَتْفشَلواُ وَتَذْهَبَ ريحـُكُم { (الانفال:46) واتـخاذ الامر الرباني في الآية الكريـمة: } وَتَعَاوَنـُوا عَلَى البِرِّ وَالتـَّقْوى { (الـمائدة:2) دستورين للعمل في الـحياة الاجتماعية.. ثـم العلم بـمدى ما يسببه الاختلاف من ضرر بليغ في الإسلام والـمسلمين وبـمدى ما ييسر السبيل امام اهل الضلالة ليبسطوا ايديهم على اهل الـحق.. ثـم الالتحاق بقافلة الإيـمان التي تنشد الـحق والانـخراط في صفوفها بتضحية وفداء وبشعور نابع من عجز كامل وضعف تام، وذلك مع نكران الذات والنجاة من الرياء ابتغاء الوصول الى نيل شرف الاخلاص.

السبب السادس:

ان اختلاف اهل الـحق ليس ناشئاً من فقدان الشهامة والرجولة ولا من انـحطاط الـهمة وانعدام الـحمية، كما ان الاتفاق الـجاد بين الغافلين الضالين الذين يبغون الدنيا في امورهم ليس ناشئاً من الشهامة والرجولة ولا من الـحمية وعلو الـهمة. بل ان اهل الـحق وجـّهوا نظرهم الى ثواب الآخرة – على الاكثر – فتوزع مالديهم من حـمية وهـمة وشهامة الى تلك الـمسائل الـمهمة والكثيرة، ونظراً لكونهم لايصرفون اكثر وقتهم – الذي هو رأس مالـهم الـحقيقي – الى مسألة معينة واحدة، فلا ينعقد اتفاقهم عقداً مـحكماً مع السالكين في نهج الـحق، حيث ان الـمسائل كثيرة والـميدان واسع جداً.

اما الدنيويون الغافلون، فلكونهم يـحصرون نظرهم حصراً في الـحياة الدنيا – فهي اكبر هـمهم ومبلغ علمهم – تراهم يرتبطون معها بأوثق رباط وبكل مالديهم من مشاعر وروح وقلب. فأيـما شخص يـمد لـهم يد الـمساعدة يستمسكون بـها بقوة، فهم يـحصرون وقتهم الثـمين جداً في قضايا دنيوية لا تساوي شيئاً في الـحقيقة لدى اهل الـحق. مثلـهم في هذا كمثل ذلك الصائغ اليهودي الـمجنون الذي اشترى قطعاً زجاجية تافهة بأثـمان الاحجار الكريـمة الباهظة. فابتياع الشيء بأثـمان باهظة، وصرف الـمشاعر كلـها نـحوه يؤدي حـتماً الى النـجاح والتوفيق ولو كان في طريق باطل، لان فيه اخلاصاً جاداً. ومن هنا يتغلب اهل الباطل على اهل الـحق، فيفقد اهل الـحق الاخلاص ويسقطون في مهاوي الذل والتصنع والرياء، ويضطرون الى التـملق والتزلف الى ارباب الدنيا الـمحرومين من كل معاني الشهامة والـهمة والغيرة.

فيا اهل الـحق! ويا اهل الشريعة والـحقيقة والطريقة! ويا من تنشدون الـحق لاجل الـحق! أسعوا في دفع هذا الـمرض الرهيب، مرض الاختلاف بتأدبكم بالادب الفرقاني العظيم، الا وهو: } وَاِذَا مَرُّوا بِاللـَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً{ (الفرقان:72)، فاعفوا عن هفوات اخوانكم واصفحوا عن تقصيراتهم، وغضوا ابصاركم عن عيوب بعضكم البعض الآخر، ودعوا الـمناقشات الداخلية جانباً. فالاعداء الـخارجيون يغيرون عليكم من كل صوب، واجعلوا انقاذ اهل الـحق من السقوط والذلة من اهم واجباتكم الاخروية واولاها بالاهتمام، وامتثلوا بـما تأمركم به مئات الآيات الكريـمة والاحاديث الشريفة من التآخي والتـحابب والتعاون، واستمسكوا بكل مشاعركم بعرى الاتفاق والوفاق مع اخوانكم في الدين ونهج الـحق الـمبين باشد مـما يستمسك به الدنيويون الغافلون، واحذروا دائماً من الوقوع في شباك الاختلاف. ولا يقولن احدكم: ((سأصرف وقتي الثمين في قراءة الاوراد والاذكار والتأمل، بدلاً من ان أصرفه في مثل هذه الامور الجزئية)) فينسحب من الـميدان ويصبح وسيلة في توهين الاتفاق والاتـحاد وسبباً في اضعاف الـجماعة الـمسلمة، ذلك لان الـمسائل التي تظنونها جزئية وبسيطة ربـما هي على جانب عظيم من الاهمية في هذا الـجهاد الـمعنوي. فكما ان مرابطة جندي في ثغر من الثغور الإسلامية – ضمن شرائط خاصة مهمة – لساعة من الوقت قد تكون بـمثابة سنة من العبادة، فان يومك الثـمين هذا الذي تصرفه في مسألة جزئية من مسائل الجهاد الـمعنوي ولا سيما في هذا الوقت العصيب الذي غلب اهل الـحق فيه على أمرهم، اقول ان يومك هذا ربـما يأخذ حكم ساعة من مرابطة ذلك الـجندي، أي يكون ثوابه عظيماً، بل ربـما يكون يومك هذا كألف يوم. اذ ما دام العمل لوجه الله وفي سبيلـه فلا يُنظر الى صغره وكبره ولا الى سـموه وتفاهته، فالذرة في سبيل رضاه سبحانه مع الاخلاص تصبح نـجمة متلألئة، فلا تؤخذ ماهية الوسيلة بنظر الاعتبار وانـما العبرة في النتيجة والغاية، وحيث انـها رضى الله سبحانه، وأن اساس العمل هو الاخلاص، فلن تكون تلك الـمسألة اذن مسألة صغيرة، بل هي كبيرة وعظيمة.

السبب السابع:

ان اختلاف اهل الـحق والـحقيقة ومنافستهم ليس ناشئاً من الغيرة فيما بينهم ولا من الـحرص على حطام الدنيا، كما ان اتفاق الدنيويين الغافلين ليس من كرامتهم وشهامتهم. بل ان اهل الـحقيقة لـم يتمكنوا من الـحفاظ على الفضائل والـمكارم التي يـحصلون عليها من تـمسكهم بالـحقيقة ولـم يستطيعون البقاء والثبات ضمن منافسة شريفة نزيهة في سبيل الـحق بتسلل القاصرين منهم في هذا الـميدان؛ لذا فقد اساءوا – بعض الاساءة – الى تلك الصفات الـمحمودة، وسقطوا في الاختلاف والـخلاف نتيجة التـحاسد فأضروا انفسهم وجـماعة الـمسلمين أيـما ضرر.

اما الصالون والغافلون فنظراً لفقدانهم الـمروءة والـحمية لعجزهم ولذلتهم فقد مدوا ايديهم واتـحدوا اتـحاداً صادقاً مع اناس اياً كانوا، بل مع الدنيئين الوضيعين من الناس كيلا تفوتهم منافع يلـهثون وراءها، ولا يُسخطوا اصدقاءهم ورؤساءهم الذين يأتـمرون بأوامرهم الى حد العبادة لاجلـها، لذا اتفقوا مع من يشاركهم في الامر اتفاقاً جاداً واجتـمعوا مع من يـجتمع حول تلك الـمنافع بأي شكل من اشكال الاجـتماع، فبلغوا الى ما يصبون اليه من جراء هذا الـجد والـحزم في الامر.

فيا اهل الـحق واصحاب الـحقيقة ويا من ابتليتهم ببلوى الاختلاف! لقد ضيعتم الاخلاص في هذا الظرف العصيب ولـم تـجعلوا رضى الله غاية مسعاكم فمهدتـم السبل لاسقاط اهل الـحق مغلوبين على امرهم، وجرعتموهم مرارة الذل والـهوان.

اعلموا انه ما ينبغي ان يكون حسد ولا منافسة ولاغيرة في امور الدين والآخرة، فليس فيها في نظر الـحقيقة امثال هذه الامور. ذلك لان منشأ الـحسد والـمنافسة انـما هو من تطاول الايدي الكثيرة على شيء واحد وحصر الانظار الى مقام واحد وشهية الـمعدات الكثيرة الى طعام واحد، فتؤول الـمناقشة والـمسابقة والـمزاحمة الى الغبطة والـحسد.. ولـما كانت الدنيا ضيقة ومؤقتة ولا تشبع رغبات الانسان ومطاليبه الكثيرة، وحيث ان هناك الكثيرون يتهالكون على شيء واحد، فالنتيجة اذن السقوط في هاوية الـحسد والـمنافسة. اما في الآخرة الفسيحة فلكل مؤمن جنة عرضها السـموات والارض تـمتد الى مسافة خـمسـمائة سنة(1)، ولكل منهم سبعون الفاً من الـحور والقصور، فلا موجب هناك اذن الى الـحسد والـمنافسة قط، فيدلنا هذا على انه لاحسد ولا مشاحنة في اعمال صالـحة تفضي الى الآخرة، أي لامـجال للمنافسة والتـحاسد فيها، فمن تـحاسد فهو لاشك مراء أي انه يتحرى مغانـم دنيوية تـحت ستار الدين ويبحث عن منافع باسـم العمل الصالـح. او انه جاهل صادق لا يعلم اين وجهة الاعمال الصالـحة ولـم يدرك بعد ان الاخلاص روح الاعمال الصالـحة واساسها، فيتهم سعة الرحـمة الإلـهية كأنها لا تسعه، ويبدأ بالـحسد والـمنافسة والـمزاحـمة منطوياً في قرارة نفسه على نوع من العداء مع اولياء الله الصالـحين الصادقين.

وسأذكر هنا حادثة تؤيد هذه الـحقيقة: كان احد اصدقائنا السابقين يـحمل في قلبه ضغينة وعداء نـحو شـخص معين. وعندما أُثني على هذا الشخص امامه في مـجلس وقيل في حقه: ((انه رجل صالـح، انه ولي من اولياء الله)) رأينا ان هذا الكلام لـم يثر فيه شيئاً فلـم يبد ضيقاً من الثناء على عدوه. ولكن عندما قال احدهم: ((انه قوي وشجاع)) رأيناه قد انتفض عرق الـحسد والغيرة لديه. فقلنا لـه: ((يا هذا ان مرتبة الولاية والتقوى من اعظم الـمراتب في الآخرة فلا يقاس عليها شيء آخر، فأين الثرى من الثريا؟!. لقد شاهدنا ان ذكر هذه الـمرتبة لـم يـحرك فيك ساكنا بينما ذكر القوة العضلية التي تـملكها حتى الثيران والشجاعة التي تـملكها السباع قد اثارتا فيك نوازع الـحسد)). اجاب: ((لقد استهدفنا كلانا هدفاً ومقاماً معيناً في هذه الدنيا، فالقوة والشجاعة وامثالـهما هي من وسائل الوصول الى ما استهدفناه من مرتبة دنيوية، فلاجل هذا شعرت بدواعي الـمنافسة والـحسد. اما منازل الآخرة ومراتبها فلا تـحد بـحدود، وربـما يصبح هناك من كان عدواً لي احب صديق واعزه.

فيا اهل الـحقيقة والطريقة! ان خدمة الـحق ليس شيئاً هيناً، بل هو اشبه ما يكون بـحمل كنز عظيم ثقيل والقيام بالـمحافظة عليه، فالذين يـحملون ذلك الكنز على اكتافهم يستبشرون بأيدي الاقوياء الـممتدة اليهم بالعون والمساعدة ويفرحون بها اكثر. فالواجب يـحتـّم ان يُستقبل اولئك الـمقبلون بـمحبة خالصة، وان يُنظر الى قوتهم وتأثيرهم ومعاونتهم اكثر من ذواتهم وان يتلقوا بالافتـخار اللائق بهم، فهم اخوة حقيقيون ومؤازرون مضحون. ولئن كان الواجب يـحتم هذا، فلِـمَ اذن ينظر اليهم نظر الـحسد ناهيك عن الـمنافسة والغيرة، حتى يفسد الاخلاص نتيجة هذه الـحالة، وتكون اعمالكم ومهمتكم موضع تهم الضالـين. فيضعونكم في مستوى اقل منكم واوطأ من مسلككم بكثير، بل يقرنونكم مع اولئك الذين يأكلون الدنيا بالدين ويضمنون عيشهم تـحت ستار علـم الـحقيقة ويـجعلونكم من الـمتنافسين الـحريصين على حطام الدنيا، وامثالـها من الاتهامات الظالـمة؟!

ان العلاج الوحيد لـهذا المرض هو: اتهْام الـمرء نفسه، والانـحياز الى جـهة رفيقه في نهج الـحق الذي ازاءه وعدم الانـحراف عن دستور الانصاف وابتغاء الـحق، الذي ارتضاه علماء فن الآداب والـمناظرة والذي يتضمن: ((اذا اراد الـمرء ان يظهر الـحق على لسانه دون غيره – في مناظرة معينة – وانسرّ لذلك واطمأن ان يكون خصمه على باطل وخطأ فهو ظالـم غير منصف)) فضلاً عن انه يتضرر نتيجة ذلك لانه لـم يتعلـم شيئاً جديداً – من تلك الـمناظرة – بظهور الـحق على لسانه، بل قد يسوقه ذلك الى الغرور فيتضرر، بينما اذا ظهر الـحق على لسان خصمه فلا يضره شيء ولا يبعث فيه الغرور بل ينتفع بتعلمه شيئاً جديداً. أي ان طالب الـحق الـمنصف يسخط نفسه لاجل الـحق، واذا ما رأى الـحق لدى خصمه رضى به وارتاح اليه.

فلو اتـخذ اهل الدين والـحقيقة والطريقة والعلـم هذا الدستور دليلاً في حياتهم وعملـهم فانهم يظفرون بالاخلاص بأذن الله ويفلحون في اعمالـهم الاخروية، وينجون برحـمة منه سبحانه وفضلـه من هذه الـمصيبة الكبرى التي الـّمت بهم واحاطتهم من كل جانب.

} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:30 PM

رد: اللمعات
 
اللمعة الـحادية والعشرون

((تـخص الإخلاص))

((كانت هذه اللمعة الـمسألة الرابعة للـمسائل السبع للـمذكرة السابعة عشرة من اللمعة السابعة عشرة الا انها اصبحت النقطة الثانية من اللمعة العشرين. لـمناسبة موضوعها – الاخلاص – وبناء على نورانيتها صارت اللمعة الـحادية والعشرين، فدخلت في كتاب (اللمعات) )).

[ تُقرأ هذه اللمعة كل خـمسة عشر يوماً في الاقل ]

بسم الله الرحمن الرحيم

} وَلاَ تَنَازَعـُوا فَتْفشَلواُ وَتَذْهَبَ ريحـُكُم { (الانفال:46)

} وَقوُمُوا للهِ قَانتِينَ { (البقرة:238)

} قَدْ اَفـْلَحَ مَنْ زَكـّاها ` وَقَد خَابَ مَنْ دَسـّاها {

(الشمس:9-10)

} وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً { (البقرة:41)

يا اخوة الآخرة! ويا اصحابي في خدمة القرآن! اعلموا – وانتم تعلمون – ان الاخلاص في الاعمال ولا سيما الاخروية منها، هو اهم اساس، واعظم قوة، وارجى شفيع، واثبت مرتكز، واقصر طريق للـحقيقة، وأبرّ دعاء معنوي، واكرم وسيلة للمقاصد، واسـمى خصلة، واصفى عبودية.

فما دام في الاخلاص انوار مشعة، وقوى رصينة كثيرة امثال هذه الـخواص.. ومادام الاحسان الإلـهي قد القى على كاهلنا مهمة مقدسة ثقيلة، وخدمة عامة جليلة، تلك هي وظيفة الإيـمان وخدمة القرآن.. ونـحن في غاية القلة والضعف والفقر، ونواجه اعداء ألدّاء ومضايقات شديدة، وتـحيط بنا البدع والضلالات التي تصول وتـجول في هذا العصر العصيب.. فلا مناص لنا إلاّ بذل كل مافي وسعنا من جهد وطاقة كي نظفر بالاخلاص.. فنـحن مضطرون اليه، بل مكلفون به تكليفاً، واحوج ما نكون الى ترسيخ سر الاخلاص في ذواتنا، اذ لو لـم نفز به لضاع منا بعض ما كسبناه من الـخدمة الـمقدسة – لـحد الآن – ولـَما دامت ولا استمرت خدمتنا، ثـم نـحاسب عليها حساباً عسيراً، حيث نكون مـمن يشملهم النهي الإلـهي وتهديده الشديد في قوله تعالى: } وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً { (البقرة:41) بـما اخللنا بالاخلاص فأفسدنا السعادة الابدية، لاجل مطامع دنيوية دنيئة، مقيتة، مضرة، مكدرة، لاطائل من ورائها ولافائدة، ارضاء لـمنافع شخصية جزئية تافهة، امثال الاعجاب بالنفس والرياء، ونكون ايضاً من الـمتجاوزين حقوق اخواننا في هذه الـخدمة ومن الـمتعدين على نهج الـخدمة القرآنية، ومن الذين اساءوا الادب فلـم يقدروا قدسية الـحقائق الإيـمانية وسـموها حق قدرها.

فيا اخوتي! ان الامور الـمهمة للخير والدروب العظيمة للصلاح، تعترضها موانع وعقبات مضرة كثيرة. فالشياطين يكدون انفسهم ويـجهدونها مع خدام تلك الدعوة الـمقدسة، لذا ينبغي الاستناد الى الاخلاص والاطمئنان اليه، لدفع تلك الـموانع وصد تلك الشياطين. فاجتنبوا – يااخوتي – من الاسباب التي تقدح الاخلاص وتثلمه كما تـجتنبون العقارب والـحيات. فلا وثوق بالنفس الامارة ولا اعتماد عليها قط، كما جاء في القرآن الكريـم على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: } وَمَآ اُبـَرِىّءُ نَفْسي اِنَّ النـّفْسَ لاَمـَّارَةٌ بِالسـُّوءِ اِلاّ مَارَحِمَ رَبـّي { (يوسف:53) فلا تـخدعنكم الانانية والغرور ولا النفس الامارة بالسوء ابداً. ولاجل الوصول الى الظفر بالاخلاص وللحفاظ عليه، ولدفع الـموانع وازالتها اجعلوا الدساتير الآتية رائدكم:

دستوركم الاول:

ابتغاء مرضاة الله في عملكم. فاذا رضى هو سبحانه فلا قيمة لإعراض العالـم اجمع ولا اهمية له. واذا ما قبل هو سبحانه فلا تأثير لردّ الناس اجـمعين. واذا اراد هو سبحانه واقتضته حكمته بعد ما رضى وقبل العمل، وجعل الناس يقبلونه ويرضون به، وان لم تطلبوه انتم، لذا ينبغي جعل رضى الله وحده دون سواه القصد الاساس في هذه الـخدمة.. خدمة الإيـمان والقرآن.

دستوركم الثاني:

هو عدم انتقاد اخوانكم العاملين في هذه الـخدمة القرآنية، وعدم اثارة نوازع الغبطة بالتفاخر والاستعلاء. لانه كما لا تـحاسد في جسم الانسان بين اليدين، ولا انتقاد بين العينين، ولا يتعرض اللسان على الاذن، ولا يرى القلب عيب الروح، بل يكمـّل كلّ منه نقصَ الآخر ويستر تقصيره ويسعى لـحاجته، ويعاونه في خدمته.. والا انطفأت حياة ذلك الجسد، ولغادرته الروح وتـمزق الجسم.

وكما لاحسد بين تروس الـمعمل ودوليبه، ولا يتقدم بعضها على بعض ولايتحكم، ولايدفع احدها الآخر الى التعطل بالنقد والتجريح وتتبع العورات والنقائص، ولا يثبط شوقه الى السعي، بل يعاون كل منها الآخر بكل مالديه من طاقة موجهاً حركات التروس والدواليب الى غايتها المرجوة، فيسير الـجميع الى ما وجدوا لاجله، بالتساند التام والاتفاق الكامل. فلو تدخل شيء غريب او تـحكم في الامر – ولو بـمقدار ذرة – لا ختل الـمعمل واصابه العطب ويقوم صاحبه بدوره بتشتيت اجزائه وتقويضه من الاساس.

فيا طلاب رسائل النور ويا خدام القرآن! نـحن جـميعاً اجزاء واعضاء في شخصية معنوية جديرة بأن يطلق عليها: الانسان الكامل.. ونـحن جـميعاً بـمثابة تروس ودواليب معمل ينسج السعادة الابدية في حياة خالدة. فـنحن خدام عاملون في سفينة ربانية تسير بالامة الـمحمدية الى شاطيء السلامة وهي دار السلام.

نـحن اذن بـحاجة ماسة بل مضطرون الى الاتـحاد والتساند التام والى الفوز بسر ((الاخلاص)) الذي يهيء قوة معنوية بـمقدار الف ومائة واحد عشر ((1111)) ناتـجة من اربعة افراد. نعم.. ان لـم تتـحد ثلاث ((الفات)) فستبقى قيمتها ثلاثاً فقط، اما اذا اتـحدت وتساندت بسر العددية، فانها تكسب قيمة مائة واحد عشر ((111))، وكذا الـحال في اربع ((اربعات)) عندما تكتب كل ((4)) منفردة عن البقية فان مـجموعها ((16)) اما اذا اتـحدت هذه الارقام واتفقت بسر الاخوة ووحدة الـهدف والـمهمة الواحدة على سطر واحد فعندها تكسب قيمة اربعة آلاف واربعمائة واربع واربعين ((4444)) وقوتها. هناك شواهد ووقائع تاريـخية كثيرة جداً اثبتت ان ستة عشر شخصاً من الـمتآخين الـمتحدين الـمضحين بسر الاخلاص التام تزيد قوتهم الـمعنوية وقيمتهم على اربعة آلاف شخص.

اماحكمة هذا السر فهي: ان كل فرد من عشرة اشخاص متفقين حقيقة يـمكنه ان يرى بعيون سائر اخوانه ويسمع بأذانهم أي ان كلاً منهم يكون له من القوة والقيمة ما كأنه ينظر بعشرين عيناً ويفكر بعشرة عقول ويسمع بعشرين اذناً ويعمل بعشرين يداً(1).

دستوركم الثالث:

اعلموا ان قوتكم جميعاً في الاخلاص والـحق.

نعم! ان القوة في الـحق والاخلاص، حتى ان اهل الباطل يـحرزون القوة لـما يبدون من ثبات واخلاص في باطلهم.

نعم! ان خدمتنا هذه في سبيل الإيـمان والقرآن هي دليل بذاتها على ان القوة في الـحق والاخلاص. فشيء يسير من الاخلاص في سبيل هذه الـخدمة يثبت دعوانا هذه ويكون دليلاً عليه. ذلك: لان ما قمنا به في ازيد من عشرين سنة في مدينتي(2) وفي استانبول من خدمة في سبيل الدين والعلوم الشرعية، قد قمنا معكم باضعافه مائة مرة هنا(3) في غضون ثـماني سنوات. علماً بأن الذين كانوا يعاونونني هناك هم اكثر مائة مرة بل الف مرة مـمن يعاونونني هنا. ان خدماتنا هنا في ثـماني سنوات مع انني وحيد غريب شبه امي(4) وتـحت رقابة موظفين لا انصاف لـهم وتـحت مضايقاتهم قد اكسبتنا بفضل الله قوة معنوية اظهرت التوفيق والفلاح بـمائة ضعف مـما كان عليه سابقاً، لذا حصلت لدى قناعة تامة من ان هذا التوفيق الإلـهي ليس الا من صميم اخلاصكم.

وانني اعترف بانكم انقذتـموني باخلاصكم التام – الى حد ما – من الرياء، ذلك الداء الوبيل الذي يداعب النفس تـحت ستار الشهرة والصيت.

نسأل الله ان يوفقكم جـميعاً الى الاخلاص الكامل وتقحموني فيه معكم.

تعلمون ان الامام علياً رضى الله عنه والشيخ الكيلاني قدس الله سره، قد توجها اليكم ونظرا بعين اللطف والاهتمام والتسلية في كراماتهما الـخارقة، ويباركان خدماتكم معنىً. فلا يسارونـّكم الشك في ان ذلك التوجه والالتفات والتسلية ليس الا بـما تتمتعون به من اخلاص. فان افسدتـم هذا الاخلاص متعمدين، تستحقون اذن لطماتهم. تذكروا دائماً ((لطمات الرأفة والرحـمة)) التي هي في ((اللمعة العاشرة)). ولو أردتـم ان يظل هذان الفاضلان استاذين وظهيرين معنويين لكم فاظفروا بالاخلاص الاتـم بامتثالكم الآية الكريـمة: } وَيُؤِثْروُنَ عَلى اَنْفُسِهِمْ { (الحشر:9).

أي عليكم ان تفضلوا اخوانكم على انفسكم في الـمراتب والـمناصب والتكريـم والتوجه، حتى في الـمنافع الـمادية التي تهش لـها النفس وترتاح اليها. بل في تلك الـمنافع التي هي خالصة زكية كتعليم حقائق الإيـمان الى الآخرين، فلا تتطلعوا ما استطعتم ان يتم ذلك بأيديكم، بل ارضوا واطمئنوا ان يتم ذلك بيد غيركم لئلا يتسرب الاعجاب الى انفسكم.

وربـما يكون لدى احدكم التطلع للفوز بالثواب وحده، فيحاول ان يبين امراً مهماً في الإيـمان بنفسه، فرغم ان هذا الا اثـم فيه ولاضرر فقد يعكر صفو الاخلاص فيما بينكم.

دستوركم الرابع:

هو الافتخار شاكرين بـمزايا اخوانكم، وتصورها في انفسكم، وعد فضائلهم في ذواتكم.

فهناك اصطلاحات تدور بين الـمتصوفة أمثال: الفناء في الشيخ، الفناء في الرسول. وانا لست صوفياً، ولكن ((الفناء في الاخوان)) دستور جميلٌ يناسب مسلكنا ومنهجنا تـماماً. أي ان يفنى كل في الاخر، أي ان ينسى كل اخ حسياته النفسانية، ويعيش فكراً مع مزايا اخوانه وفضائلهم. حيث ان اساس مسلكنا ومنهجنا هو ((الاخوة)) في الله، وان العلاقات التي تربطنا هي الاخوة الـحقيقية، وليست علاقة الاب مع الابن ولا علاقة الشيخ مع الـمريد. وان كان لابد فمـجرد العلاقة بالاستاذ. وما دام مسلكنا هو ((الـخليلية)) فمشربنا اذاً ((الـخلة)). والـخلة تقتضي صديقاً صدوقاً ورفيقاً مضحياً، وأخاً شهماً غيوراً.. وأس الاساس لـهذه الـخلة هو ((الاخلاص التام)). فـمن يقصّر منكم فيه فقد هوى من على برج الـخلة العالي، ولربـما يتردى في واد سحيق، اذ لا موضع في الـمنتصف.

نعم! ان الطريق طريقان، فمن يفارقنا الآن في مسلك الاخلاص التام – وهو الـجادة الكبرى للقرآن الكريـم – فربـما يكون من الذين يـخدمون الالـحاد اعداء القرآن دون ان يشعر.

فالذين دخلوا ميدان خدمة القرآن الكريـم الـمقدسة بوساطة رسائل النور لا يهوون بإذن الله في مثل تلك الـهاوية، بل سيمدون النور والاخلاص والإيـمان قوة.

فيا اخوتي في خدمة القرآن!

ان اهم سبب لكسب ((الاخلاص)) واعظم وسيلة مؤثرة للمحافظة عليه هو:

((رابطة الـموت)).

فكما ان طول الامل يثلم الاخلاص ويفسده ويسوق الناس الى حب الدنيا والى الرياء، فان ((رابطة الـموت)) تنفـّر من الرياء، وتـجعل الـمرابط معه يحرز الاخلاص. اذ تـخلصه من دسائس النفس الأمارة، وذلك بتذكر موته وبـملاحظة فناء الدنيا وزوالـها. هذا ولقد اتـخذ المتصوفة واهل الـحقيقة العلمية ((رابطة الـموت)) اساساً في منهج سلوكهم، وذلك بـما تعلموه من الآية الكريـمة:

} كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الـْمَوْت { (آل عمران:185) } اِنـَّكَ مَيِّتٌ وَاِنـَّهُمْ مَيـّتُون { (الزمر:30) فازالوا بتلك الرابطة توهم البقاء وحلم الابدية الذي يولد طول الامل، حيث افترضوا خيالاً وتصوروا انفسهم امواتاً.. فالان يُغسلون.. والآن يوضعون في القبر.. وحينما يتفكرون بهذه الصورة تتأثر النفس الامارة بهذا التخيل اكثر فتتخلى شيئاً فشيئاً عن آمالـها العريضة. فلهذه الرابطة اذن فوائد جـمة ومنافع شتى. ويكفي ان الـحديث الشريف يرشدنا اليـها بقولهe ((اَكْثِروُا ذِكْرَ هَاذِمِ الـَّلذَّاتِ))(1). وحيث ان مسلكنا حقيقة علمية وليست طريقة صوفية، فلا نرى انفسنا مضطرين مثلهم الى مباشرة تلك الرابطة بالافتراض والـخيال. فضلاً عن ان هذا الاسلوب لايلائم منهج الـحقيقة. اذ التفكر بالعقبى ليس هو بـجلب الـمستقبل الى الـحاضر خيالاً، بل الذهاب فكراً من الـحاضر الى الـمستقبل، ومشاهدة الـمستقبل من خلال الـحاضر الواقع كما هو الـحقيقة، فلا حاجة الى الـخيال، ولا يلزم الافتراض، اذ الانسان يـمكنه مشاهدة جنازته وهي ثـمرة مـحمولة على شجرة عمره القصير، واذا ما حول نظره قليلاً لا يرى موته وحده، بل يرى ايضاً موت عصره، حتى اذا جال بنظره اكثر يرى موت الدنيا ودمارها، وعندها ينفتح امامه الطريق الى ((الاخلاص التام)).

والسبب الثاني في احراز الاخلاص هو: ان يكسب الـمرء حضوراً وسكينة بالإيـمان التحقيقي وباللمعات الواردة عن التفكر الإيـماني في الـمخلوقات.

وهذا التأمل يسوق صاحبه الى معرفة الـخالق سبحانه، فتنسكب الطمأنينة والسكينة في القلب. حقاً ان تلمع هذا النوع من التأمل في فكر الانسان يـجعله يفكر دائماً في حضور الـخالق الرحيم سبحانه ورؤيته له، أي انه حاضر وناظر اليه دائماً. فلا يلتفت عندئذٍ الى غيره، ولا يستمد من سواه. حيث ان النظر والالتفات الى ما سواه يـخل بأدب الـحضور وسكينة القلب. وبهذا ينجو الانسان من الرياء ويتخلص منه، فيظفر بالاخلاص باذن الله.

وعلى كل حال فان في هذا ((التأمل)) درجات كثيرة ومراتب عدة. فحظ كل شخص ما يكسبه، وربـحه ما يستفيد منه حسب قابلياته وقدراته.

نكتفي بهذا القدر ونـحيل الى رسائل النور حيث ذكرت كثيراً من الـحقائق حول النـجاة من الرياء واحراز الاخلاص.

سنبين باختصار بعضاً من الاسباب العديدة التي يـخل بالاخلاص وتـمنعه، وتسوق الى الرياء وتدفع اليه:

((الـمانع الاول للاخلاص))

الـحسد الناشيء من الـمنافع الـمادية. هذا الـحسد يفسد الاخلاص تدريـجياً، بل يشوه نتائج العمل، بل يفوّت حتى تلك الـمنافع الـمادية ايضاً.

نعم، لقد حملت هذه الامة دائماً التوقير والقدر للعاملين بـجد للـحقيقة والآخرة، ومدت لـهم يد العون فعلاً، وذلك بنية مشاركتهم في تلك الاعمال والـخدمات الصادقة الـخالصة لوجه الله. فقدمت لـهم هدايا وصدقات لدفع حاجاتهم الـمادية ولئلا ينشغلوا بها عن خدماتهم الـجليلة، فأظهروا بذلك ما يكنونه من احترام للعاملين في سبيل الله. الا ان هذه الـمساعدات والـمنافع يـجب ألا تُطلب قط، بل تُوهب. فلا يُسأل حتى بلسان الـحال كـمن ينتظرها قلباً. وانـما تـُعطى من حيث لا يـحتسب وإلاّ اختلّ اخلاص الـمرء وانتقض، وكاد ان يدخل ضمن النهي الإلـهي في قوله تعالى: } وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً{ (البقرة:41) فيحبط قسم من اعماله.

فالرغبة في هذه الـمنافع الـمادية وترقبها بدافع من اثره النفس الامارة وحرصها على كسب الـمنافع لذاتها، تثير عرق الـحسد وتـحرك نوازعه تـجاه اخيه الـحقيقي وصاحبه الـمخلص في الـخدمة الإيـمانية، فيفسد اخلاصه ويفقد قدسية دعوته لله، ويتخذ طوراً منفراً لدى اهل الـحقيقة، بل يفقد الـمنافع الـمادية ايضاً.. وعلى كل حال فالـمسألة طويلة.

وسأذكر ما يزيد سرّ الاخلاص ويديم الوفاق الصادق بين اخوتي الصادقين. اذكره ضمن مثالين:

الـمثال الاول ((لإدامة الاخلاص)):

لقد اتـخذ ارباب الدنيا ((الاشتراك في الاموال)) قاعدة يسترشدون بها لاجل الـحصول على ثروة طائلة او قوة شديدة، بل اتـخذ من لـهم التأثير في الـحياة الاجتماعية – من اشخاص او جماعات وبعض الساسة – هذه القاعدة رائداً لـهم. ولقد كسبوا نتيجة اتباعهم هذه القاعدة قوة هائلة وانتفعوا منها نفعاً عظيماً، رغم ما فيها من اضرار واستعمالات سيئة، ذلك لان ماهية الاشتراك لا تتغير بالـمساوىء والاضرار التي فيها، لأن كل شخص – وفق هذه القاعدة – يـحسب نفسه بـمثابة الـمالك لـجميع الاموال، وذلك من زاوية مشاركته في الـمال ومن جـهة مراقبته واشرافه عليه، برغم انه لا يـمكنه ان ينتفع من جـميع الاموال.. وعلى كل حال فان هذه القاعدة اذا دخلت في الاعمال الاخروية فستكون مـحوراً لـمنافع جليلة بلا مساوىء ولا ضرر. لان جـميع تلك الاموال الاخروية تـحمل سر الدخول بتمامها في حوزة كل فرد من اولئك الافراد الـمشتركين فيها، دون نقصان او تـجزئة.

ولنفهم هذا بـمثال:

اشترك خـمسة اشخاص في اشعال مصباح زيتى. فوقع على احدهم احضار النفط، وعلى الآخر الفتيلة، وعلى الثالث زجاجة الـمصباح، وعلى الرابع الـمصباح نفسه وعلى الاخير علبة الكبريت.. فعندما اشعلوا الـمصباح اصبح كل منهم مالكاً لـمصباح كامل. فلو كان لكل من اولئك الـمشتركين مرآة كبيرة معلقة بـحائط، اذن لاصبح منعكساً في مرآته مصباح كامل – مع ما في الغرفة – من دون تـجزؤ او نقص..

وهكذا الامر في الاشتراك في الامور الاخروية بسر الاخلاص، والتساند بسر الاخوة، وضم الـمساعي بسر الاتـحاد، اذ سيدخل مـجموع اعمال الـمشتركين، وجـميع النور النابع منها، سيدخل بتمامه في دفتر اعمال كل منهم.. وهذا امر مشهود وواقع بين اهل الـحقيقة، وهو من مقتضيات سعة رحـمة الله سبحانه وكرمه الـمطلق.

فيا اخوتي..! آمل اَلاّ تسوقكم الـمنافع الـمادية الى الـحسد فيما بينكم ان شاء الله تعالى. الا انكم قد تنخدعون كما انـخدع قسم من اهل الطرق الصوفية، من باب الـمنافع الاخروية. ولكن تذكروا.. اين الثواب الشخصي والـجزئي من ذلك الثواب العظيم الناشىء في افق الاشتراك في الاعمال الـمذكورة في الـمثال، واين النور الـجزئي من ذلك النور الباهر.

الـمثال الثاني ((لإدامة الاخلاص)):

يـحصل الصناعيون واهل الـحرف على الانتاج الوفير وعلى ثروة هائلة نتيجة اتباعهم قاعدة ((الـمشاركة في الصنعة والـمهارة)). واليك الـمثال:

قام عشرة من صناعي ابر الـخياطة بعملهم، كل على انفراد، فكانت النتيجة ثلاث ابر فقط لكل منهم في اليوم الواحد.. ثم اتفق هؤلاء الاشخاص حسب قاعدة ((توحيد الـمساعي وتوزيع الاعمال)) فأتى احدهم بالـحديد والاخر بالنار، وقام الثالث بثقب الابرة والاخر ادخلها النار والاخر بدأ يـحدها.. وهكذا. فلم يذهب وقت احد سدى، حيث انصرف كل منهم الى عمل معين وانـجزه بسرعة، لانه عمل جزئي بسيط اولاً ولاكتسابه الخـبرة والمـهارة فيه ثانياً. وحينما وزعوا حصيلة جهودهم رأوا ان نصيب كل منهم في يوم واحد ثلاثـمائة ابرة بدلاً من ثلاث ابر.. فذهبت هذه الـحادثة انشودة يترنـم بها اهل الصناعة والـحرف، الذين يدعون الى توحيد الـمساعي وتوزيع الاعمال.

فيا اخوتي! ما دامت تـحصل مثل هذه الفوائد العظيمة نتيجة الاتـحاد والاتفاق في امور دنيوية وفي مواد كثيفة، فكم يكون يا ترى ثواب اعمال اخروية ونورانية! وكم يكون الثواب الـمنعكس من اعمال الـجماعة كلها بالفضل الإلـهي في مرآة كل فرد منها! تلك الاعمال التي لا تـحتاج الى تـجزئة ولا انقسام. فلكم ان تقدروا ذلك الربح العظيم.. فإن مثل هذا الربح العظيم لا يُفـوّات بالـحسد وعدم الاخلاص..!

((الـمانع الثاني للاخلاص)):

هو اعطاء ما يداعب انانية النفس الامارة بالسوء وما تستشرفه من منزلة ومكانة، تتوجه اليها الانظار، وحب اقبال الناس وطلب توجههم بدافع من حب الشهرة وذياع الصيت الناشىء من التطلع الى الـجاه وحبه.. فكما ان هذا داء روحي وبيل، فهو باب الى ((الشرك الـخفي)) الذي هو الرياء والاعـجاب بالنفس الـماحق للاخلاص.

يا اخواني! لـما كان مسلكنا في خدمة القرآن الكريـم مبنياً على الـحقيقة وعلى الاخوة، وان سر الاخوة هو في افناء الفرد شخصيته في شخصية اخوانه(1) وايثارهم على نفسه، فما ينبغي ان يؤثر فينا مثل هذا الـحسد الناجم من حب الـجاه، حيث هو مناف كلياً لـمسلكنا، اذ مادامت كرامة جـميع الاخوان وشرفهم تعود الى كل اخ في الـجماعة، فلا يـمكن ان تُضحي بتلك الـمنزلة الرفيعة والكرامة الفائقة والشرف الـمعنوي السامي للـجماعة، لاجل شهرة جزئية وعزة شخصية ناجـمة من الانانية والـحسد.. فأنا على ثقة وامل ان ذلك بعيد كل البعد عن طلاب النور.

نعم، ان قلوب طلاب النور وعقولـهم وارواحهم لا تنحدر الى مثل هذه الامور السافلة، الا انه ما من احد لا يـحمل نفساً امارة بالسوء، فقد تسري امورٌ ونوازع نفسانية في العروق وتتعلق بالاعصاب وتـجري احكاماً برغم العقل والقلب والروح. فاعتماداً على ما تتركه رسائل النور فيكم من آثار، فلا اتهم قلوبكم وعقولكم وارواحكم. الا ان النفس والـهوى والـحس والوهم قد يُخدع؛ لذا يأتيكم التـحذير والتنبيه احياناً بشدة وعنف. فتلك الشدة موجهة الى النفس والـهوى والـحس والوهم، فكونوا على حذر دائماً.

نعم لو كان مسلكنا طريقة خاصة ومشيخة، لكان هناك اذاً مقام واحد، او عدد مـحدود منه، ولكان هناك مرشحون كثيرون لذلك الـمقام. وعندها كان يـمكن ان تـحدث الغبطة والانانية في النفوس. ولكن مسلكنا هو الاخوة، لا غير. فلا يدعي الاخ على اخيه الابوة، ولا يتزيا بزي الـمرشد له. فالـمقام هنا في الاخوة فسيح واسع، لا مـجال فيه للـمزاحـمة بالغبطة، وان كان لابد فالاخ معاون لاخيه مكمـّل لعمله، وظهير له.

ومـما يدل على ان في الـمسالك التي فيها مقام الابوة والارشاد والاستاذية نتائج خطرة مهلكة تنجم من الـمنافسة والـحسد حرصاً على الثواب وتطلعاً الى علو الـهمة، اقول ان الدليل على ذلك هو تلك الاختلافات والـمشاحنات الدائرة في ثنايا الـمزايا الـجليلة والـمنافع العظيمة التي يتمتع بها اهل الطرق الصوفية، والتي ادّت بهم الى نتائج وخيمة جعلت قواهم السامية الـهائلة لا تثبت امام اعاصير البدع.

(الـمانع الثالث للاخلاص)):

هو الـخوف والطمع. نـحيل الى رسالة ((الـهجمات الست))(1) حيث شرحت هذا الـمانع مع موانع اخرى بوضوع تام.

نسأل الله الرحـمن الرحـيم سبحانه مشفـّعين جـميع اسمائه الـحسنى أن يوفقنا الى الاخلاص التام. آمين.

اَللـّهُمَّ بِحَقِّ سُوَرَةِ الاِخلاصِ اِجعَلـْنَا مِنْ عِبـَادِكَ الـْمُخْلِصينَ الـْمُخلَصينَ.

آمينْ.. آمين.

} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )





رسالة خاصة الى قسم من اخواني

سأذكر نكتة لطيفة لـحديثين شريفين لاولئك الاخوة الذين يـملـّون من كتابة رسائل النور، والذين يفضـّلون قراءة الاوراد في الشهور الثلاثة وهي شهور العبادات على كتابة رسائل النور التي تعدّ عبادة بـخمس جهات(1).

الـحديث الاول: ((يُوزن مداد العلماء بدماء الشهداء))(2) – او كما قال. أي ان ما يصرفه علماء الـحقيقة من حبر يوزن يوم القيامة مع دماء الشهداء ويعادلـها.

الـحديث الثاني: ((مَن تـمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد)) او كما قال، أي ان من يتمسك بالسنة الشريفة والـحقائق القرآنية وعمل لأجلها عند استيلاء البدع وتغلب الضلالة، فله أجر مائة شهيد.

فيا مَن يـملّ تكاسلاً عن الكتابة ويا ايها الاخوة الذين ينحون منحى التصوف! ان حصيلة مفهومي الـحديثين الشريفين هي ان درهماً مـما يقطر من نور اسود وماء باعث للـحياة من الاقلام الـمباركة الزكية لاولئك الذين يـخدمون حقائق الإيـمان واسرار الشريعة والسنة النبوية الشريفة في مثل الظروف يـمكن ان يفيد كمائة درهم من دم الشهداء يوم الـحشر الاكبر.

فاسعوا يا اخوتي لتظفروا بهذا الثواب العظيم.

فان قلتم: ان ما ورد في الـحديث هو العالـم بينما قسم منا كتـّاب فـحسب؟

الـجواب: ان الذي يقرأ هذه الرسائل، وهذه الدروس في غضون سنة واحدة ويفهمها ويقبل بها، يـمكن ان يكون عالـماً مهماً ذا حقيقة في هذا الزمان. واذا ما قرأها ولم يفهمها، فان طلاب النور الذين لـهم شخصية معنوية، لاشك انها احد علماء هذا الزمان. أما اقلامكم فهي اصابع تلك الشخصية الـحقيقية، وهب انكم قد ارتبطتم بهذا الفقير ومنحتموه بـحُسن ظنكم مكانة عالـم واستاذ في نظركم وان كنت ارى انني لا استحقها ولكن لـما كنت امياً لا اجيد الكتابة، فان اقلامكم تعدّ اقلامي انا. فتثابون بالاجر الـمبـّين في الـحديث الشريف.



سعيد النورسي

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:32 PM

رد: اللمعات
 
اللمعة الثانية والعشرون

باسـمه سبحانه

هذه الرسالة الصغيرة التي كتبتها قبل اثنتين وعشرين سنة، وانا نزيل ناحية ((بارلا)) التابعة لولاية اسبارطة، هي رسالة خاصة لأخلص اخوتي واخصـّهم. وقد كتبتها في غاية السرية ومنتهى الكتمان. ولكن لـما كانت ذات علاقة بأهالي ((اسبارطة)) والـمسؤولين فيها، فاني اقدّمها الى واليـّها العادل والى مسؤولي دوائر العدل والامن والانضباط فيها. واذا ما ارتؤي انها تستحق الطبع، فلتُطبع منها نسخ معدودة بالـحروف القديـمة او الـحديثة بآلة الطابعة كي يعرف اولئك الـمترصدون الباحثون عن اسراري منذ اكثر من خـمس وعشرين سنة، أنه لا سرّ لنا في الـخفاء، وان اخفى اسرارنا هو هذه الرسالة.

سعيد النورسي

الاشارات الثلاث

كانت هذه الرسالة الـمسألة الثالثة من الـمذكرة السابعة عشرة للمعة السابعة عشرة، الاّ ان قوة اسئلتها وشمولها وسطوع اجوبتها وسدادها جعلتها اللمعة الثانية والعشرين من المكتوب الـحادي والثلاثين، فدخلت ضمن ((اللمعات)) وامتزجت بها. وعلى ((اللمعات)) ان تفسح لها موضعاً بينها، فهي رسالة سرية خاصة لأخص اخواننا واخلصهم واصدقهم.

بِسم الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} وَمَن يَتوكـّل على الله فهو حَسْبُه إن الله بالغُ أمْره قَدْ جَعَل اللهُ لكلّ شيء قدْراً{

(الطلاق:3)

هذه الـمسألة ثلاث اشارات

الاشارة الاولى:

سؤال مهم يـخصـّني بالذات ويـخص رسائل النور. يقول كثيرون:

لِم يتدخل اهل الدنيا بامور آخرتك كلما وجدوا لـهم فرصة، مع أنك لاتتدخل في شؤون دنياهم؟ علماً انه لا يـمسّ قانون اية حكومة كانت شؤون تاركي الدنيا الـمعتزلين الناس!

الـجواب: ان جواب ((سعيد الـجديد)) عن هذا السؤال هو: السكوت؛ اذ يقول: ليُجب عني القدر الإلـهي. ومع هذا يقول بعقل ((سعيد القديـم)) الذي اضطر الى استعارته: ان الذي يـجيب عن هذا السؤال هو حكومة مـحافظة اسبارطة واهالي هذه الـمحافظة؛ لان هؤلاء – الـمسؤولين والناس كافة – اكثر علاقة مني بالـمعنى الذي ينطوي عليه السؤال.

وما دامت حكومة افرادها يربون على الالوف، واهلون يزيدون على مئات الالوف مضطرين الى التفكير والدفاع عوضاً عني، فلِمَ اذاً احاور – دون جدوى – المدّعين دفاعاً عن نفسي؟.

فها أنذا منذ تسع سنوات في هذه الـمحافظة، وكلما مرّ الزمان ادرت ظهري الى دنياهم. ولم تبق لي حال من احوالي مخفية عنهم مستورة عليهم، بل حتى اخص رسائلي واكثرها سرية يتداولها الـمسؤولون في الدولة وهي في متناول عدد من النواب. فلو كان لي شيء من تدخلٍ او مـحاولة ما لتعكير صفو دنياهم والاخلال بها، او حتى التفكير في هذا الامر، لـما آثر الـمسؤولون في هذه الـمحافظة والاقضية السكوت تـجاهي وعدم الاعتراض عليّ على الرغم من مراقبتهم اياي وترصدهم لي وتـجسسهم عليّ طوال تسع سنوات، وعلى الرغم من انني ابوح دون تردد بأسراري الى من يزورني.

فان كان لي عمل مـخل بسعادة الامة وسلامة الوطن ويلـحق الضرر بـمستقبلها، فالـمسؤول عنه جـميع افراد الـحكومة طوال تسع سنوات ابتداءً من الـمحافظ الى اصغر موظف في مـخفر القرية.

فعلى هؤلاء جـميعاً يقع الدفاع عني، وعليهم ان يستصغروا ما استهوله واستعظمه الآخرون، وذلك لينجوا من تبعات الـمسؤولية. ولاجل هذا احيل جواب هذا السؤال اليهم.

أما ما يدفع مواطني هذه الـمحافظة عامة للدفاع عني اكثر من نفسي فهو:

ان هذه تسع سنوات، ومئات الرسائل التي نسعى لنشرها، قد اثبتت تأثيرها في هذا الشعب الاخ الصديق الـمبارك الطيب، واظهرت مفعولـها الفعلي والـمادي في حياته الابدية وفي دعم قوة أيـمانه وسعادة حياته، ومن غير ان تـمسّ احد بسوء او تولد أي اضطراب او قلق كان، اذ لـم يشاهد منها ما يؤمىء الى غرض سياسي ونفع دنيوي مهما كان، حتى ان هذه الـمحافظة، اسبارطة، قد اكتسبت ولله الـحمد بوساطة رسائل النور مقام البركة من حيث قوة الإيـمان والصلابة في الدين، من نوع البركة التي نالتها الشام الطيبة في السابق ومن نوع بركة الـجامع الازهر الذي هو مدرسة العالـم الإسلامي عامة.

فهذه الـمحافظة لـها فضل ومزيـّة على الـمحافظات الاخرى، حيث قد كسبت من رسائل النور التـمسك باذيال الدين، فتهيمن فيها قوة الإيـمان ازاء الاهمال، وتسيطر فيها الرغبة في العبادة تـجاه السفه والغي؛ ولاجل هذا كله فالناس كلهم في هذه الـمحافظة، حتى لوكان فيهم ملحد (فرضاً) مضطرون الى الدفاع عني وعن رسائل النور.

وهكذا لا يسوقني حقي الـجزئي الذي لا اهمية له ضمن حقوق دفاع ذات أهمية الى هذا الـحد، ان ادافع عن نفسي ولا سيما انني قد انهيت خدماتي ولله الـحمد ويسعى لـها الوف من الطلاب عوضاً عن هذا العاجز. فمن كان له وكلاء دعوى ومـحامون يربون على الالوف، لا يدافع عن دعواه بنفسه.

الاشارة الثانية:

جواب عن سؤال يتسم بالنقد.

يقال من جانب اهل الدنيا:

لِمَ استأت منـّا وسكتّ فلا تراجعنا ولو لـمرة واحدة. ثـم تشكو منا شكاية شديدة قائلاً: ((انتم تظلمونني)). فنـحن اصحاب مبدأ، لنا دساتيرنا الـخاصة نسير في ضوئها على وفق ما يتطلبه هذا العصر بينما انت لا تنفذ هذه الدساتير على نفسك وترفضها علماً أن من ينفذ القانون لا يكون ظالـماً، بينما الرافض له يكون عاصياً. ففي عصرنا هذا، عصر الـحرية – مثلاً – وفي عهد الـجمهوريات التي بدأنا به حديثاً يـجري دستور رفع الاكراه والتسلط على الاخرين. اذ الـمساواة قانون اساس لدينا، بينما انت تكسب اقبال الناس نـحوك وتلفت انظارهم اليك تارة بزيّ العلم واخرى بالتزهد، فتحاول تكوين قوةٍ وكسب مقامٍ خارج نطاق نفوذ الدولة.

هكذا يُفهم من ظاهر حالك وهكذا يدلنا مـجرى حياتك السابقة، فهذه الـحالة ربـما تُستصوب في نطاق تـحكـّم البرجوازيين – بالتعبير الـحديث – الاّ ان صحوة طبقة العوام وتغلبها جعلت جميع دساتير الاشتراكية والبلشفية تسيطر وتهيمن، وهي التي تلائم امورنا اكثر من غيرها. فنـحن في الوقت الذي رضينا بدساتير الاشتراكية نشمئز من اوضاعك، اذ هي تـخالف مبادئنا. لذا لا حق لك في الاستياء منا ولا الشكوى من مضايقاتنا لك.

الـجواب: ان من يشق طريقاً في الـحياة الاجتماعية ويؤسس حركة، لايستثمر مساعيه ولن يكون الـنجاح حليفه في امور الـخير والرقي ما لـم تكن الـحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تـحكم الكون، بل تكون جـميع اعماله في سبيل التـخريب والشر.

فـما دام الانسجام مع قانون الفطرة ضرورياً، فان تنفيذ قانون الـمساواة الـمطلقة لا يـمكن الاّ بتغيير فطرة البشر ورفع الـحكمة الاساسية في خلق النوع البشري.

نعم! انني من حيث النسب ونـمط معيشة الـحياة من طبقة العوام، ومن الراضين بالـمساواة في الـحقوق فكراً ومشرباً، ومن العاملين على رفض سيطرة طبقة الـخواص. الـمسلمين بالبرجوازيين واستبدادهم منذ السابق وذلك بـمقتضى الرحـمة وبـموجب العدالة الناشئة من الاسلام.

لذا فانا بكل ما اوتيت من قوة بـجانب مع العدالة التامة، وضد الظلم والسيطرة والتحكم والاستبداد.

بيد ان فطرة النوع البشري وحكمة خلقه تـخالفان قانون الـمساواة الـمطلقة، اذ الفاطر الـحكيم سبحانه كما يستحصل من شيء قليل مـحاصيل كثيرة، ويكتب في صحيفة واحدة كتباً كثيرة، ويُجرى بشيء واحد وظائف جـمة، كذلك يُنجز بنوع البشر وظائف الوف الانواع، وذلك اظهاراً لقدرته الكاملة وخكمته التامة.

فلاجل تلك الـحكمة العظيمة، خلق سبحانه الانسان على فطرة جامعة، لها من القدرة ما يثمر الوف سنابل الانواع، وما يعطى طبقات كثيرة بعدد انواع سائر الـحيوانات؛ اذ لـم يحدِّد سبحانه قوى الانسان ولطائفه ومشاعره كما هو الـحال في الـحيوانات، بل اطلقها واهباً له استعداداً يتمكن به من السياحة والـجولان ضمن مقامات لاتـحد، فهو في حكم الوف الانواع، وان كان نوعاً واحداً.

ومن هنا اصبح الانسان في حكم خليفة الارض.. ونتيجة الكون.. وسلطان الاحياء.. وهكذا فان اجلّ خـميرة لتنوع النوع البشري واهم نابض مـحرك له هو التسابق لإحراز الفضيلة الـمتسمة بالإيـمان الـحقيقي . فلا يـمكن رفع الفضيلة الاّ بتبديل الـماهية البشرية واخماد العقل وقتل القلب وافناء الروح.

((لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الـحرية

ارفع الادراك ان كنت مقتدراً من الانسانية!))

هذا الكلام الرصين اُثير خطأً في وجه رجل ذي شأن ما كان يليق به مثل هذه الصفعة، بل جدير بهذا الكلام أن يصفع به الوجه الغدار لهذا العصر الـحامل لاستبداد رهيب يتستر بهذه الـحرية.

فانا اقول بدلاً من هذا الكلام:

لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الـحقيقة

إرفع القلب ان كنت مقتدراً من الانسانية!

او اقول:

لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الفضيلة

إرفع الوجدان ان كنت مقتدراً من الانسانية!

نعم! ان الفضيلة الـمتسمة بالإيـمان، كما لا تكون وسيلة للاكراه، لا تكون سبباً للاستبداد قطعاً. اذ الاكراه والقسر والتسلط على الآخرين، رذيلة ليس الاّ، بل ان اهم مشرب لدى اهل الفضيلة هو الاندماج في الـمجتمع بالعجز والفقر والتواضع. ولقد مضت حياتنا ولله الـحمد وما زالت كذلك تـمضي على وفق هذا الـمشرب. فانا لا أدعي متفاخراً انني صاحب فضيلة، ولكن اقول تـحدثاً بنعمة الله عليّ وبنية الشكر له سبحانه: قد احسن اليّ جلّ وعلا بفضله وكرمه فوفقني الى العمل للعلوم الإيـمانية والقرآنية وادراكها وفهمها. فتصرفت طوال حياتي – لله الـحمد – هذا الاحسان الإلـهي بتوفيق منه تعالى، في مصالح هذه الامة الـمسلمة وبذلته في سبيل سعادتها، ولـم يك في أي وقت كان وسيلة للاكراه والتسلط على الآخرين. كما انني – بناء على سرّ مهم – أنفر من اقبال الناس وجلب استحسانهم الـمرغوبتين لدى اهل الغفلة؛ اذ قد ضيـّعا عليّ عشرين سنة من عمري السابق، فلهذا اعدّهما مضَّرين لي. الاّ انني اراهمـا أمارة على اقبال الناس على رسائل النور فلا أُسخطهم.

فيا اهل الدنيا!

في الوقت الذي لا اتدخل في دنياكم قط؛ ولا علاقة لي بأية جهة كانت بـمبادئكم. ولست عازماً على التدخل مـجدداً بالدنيا، بل ولا لي رغبة فيها اصلاً كما تشهد بذلك حياتي، هذه التي قضيتها اسير الـمنفى طوال تسع سنوات. فلماذا تنظرون اليّ وكأنني متجبـّر سابق، يضمر التسلط على الآخرين ويتحين الفرص لذلك. بأي قانون يُجرى وعلى اية مصلحة يُبنى هذا الـمدى من الترصد والـمراقبة والعنت؟

فلا توجد في العالم كله، حكومة تعمل فوق القانون، وتسمح بهذه الـمعاملة القاسية التي اعامل بها والتي لا يرضى بها فرد مهما كان.

فهذه الـمعاملات السيئة التي تعاملونني بها لا تولد سخطي وحده، بل سخط نوع الانسان – إن ادرك – بل سخط الكائنات.





الاشارة الثالثة:

سؤال يرد على وجه البلاهة والـجنون وينطوي على مغالطة.

يقول قسم من افراد الدولة واهل الـحكم:

مادمت قائماً في هذه البلاد، فعليك الانقياد لقوانين الـجمهورية الصادرة فيها، فلماذا تنجي نفسك من تلك القوانين تـحت ستار العزلة عن الناس.؟

فمثلاً: ان من يـجري نفوذه على الآخرين خارج وظيفة الدولة متقلداً فضيلة ومزية لنفسه ينافي قانون الـحكومة الـحاضرة ودستور الـجمهورية الـمبني على اساس الـمساواة. فلماذا تتقلد صفة من يريد جلب الاعجاب بنفسه وكأن على الناس الانقياد له وطاعته. وتـجعلهم يقبـّلون يدك مع أنك لا وظيفة لك في الدولة؟

الـجواب: ان على منفـّذي القانون تنفيذه على انفسهم اولاً ثـم يـمكنهم اجراؤه على الاخرين. فاجراء دستور على الآخرين دون انفسكم يعني مناقضتكم لدستوركم وقانونكم قبل كل احد لانكم تطلبون اجراء قانون الـمساواة الـمطلقة هذا عليّ بينما لم تطبقوه انتم على انفسكم.

وانا أقول: متى ما صعد جندي اعتيادي الى مقام الـمشير الاجتماعي، وشارك الـمشير فيما يوليه الناس من احترام واجلال، ونال مثله ذلك الاقبال والاحترام.. او متى ما صار الـمشير جندياً اعتيادياً وتقلد احواله الـخامدة، وفقد اهميته كلها خارج وظيفته.. وايضاً متى ما تساوى رئيس ذكي لاركان الـجيش قادهم الى النصر مع جندي بليد في اقبال الناس عامة والاحترام والـمحبة له، فلكم ان تقولوا حينذاك، حسب قانونكم، قانون الـمساواة: لا تسم نفسك عالـماً. ارفض احترام الناس لك، انكر فضيلتك، إخدم خادمك ، رافق الـمتسولين.

فان قلتم: ان هذا الاحترام والـمقام والاقبال الذي يوليه الناس، انـما هو خاص بالـموظفين واثناء مزاولتهم مهنتهم، بينما انت انسان لا وظيفة لك، فليس لك ان تقبل احترام الامة كالـموظفين.

فالـجواب: لو اصبح الانسان مـجرد جسد فقط.. وظل في الدنيا خالداً مـخلداً.. واُغلق باب القبر.. وقُتل الـموت.. فانـحصرت الوظائف في العسكرية والـموظفين الاداريين.. فكلامكم اذاً يعني شيئاً. ولكن لـما كان الانسان ليس مـجرد جسد، ولا يُجرد من القلب واللسان والعقل ليعطى غذاءً للجسد، فلا يـمكن افناء تلك الـجوارح. فكل منها يطلب التغذية والعناية. ولـما كان باب القبر لا يغلق، بل ان اجلّ مسألة لدى كل فرد هو قلقه على ما وراء القبر. لذا لا تنحصر الوظائف التي تستند الى احترام الناس وطاعتهم في وظائف اجتماعية وسياسية وعسكرية تـخص حياة الامة الدنيوية. اذ كما ان تزويد الـمسافرين بتذاكر سفر وجواز مرور وظيفة، فان منح وثيقة سفر للـمسافرين الى ديار الابد ومناولتهم نوراً لتبديد ظلمات الطريق وظيفة جليلة، بـحيث لا ترقى اية وظيفة اخرى الى اهميتها. فانكار وظيفة جليلة كهذه لا يـمكن الاّ بانكار الـموت، وبتكذيب شهادة ثلاثين الف جنازة يومياً تُصدق دعوى: أن الـموت حق.

فـما دامت هناك وظائف معنوية تستند الى حاجات ضرورية معنوية، وان اهم تلك الوظائف هي الإيـمان وتقويته والارشاد اليه، اذ هو جواز سفر في طريق الابدية ومصباح القلب في ظلمات البرزخ ومفتاح دار السعادة الابدية. فلاشك ان الذي يؤدي تلك الوظيفة، وظيفة الإيـمان، من اهل الـمعرفة لا يبخس قيمة النعمة التي انعم الله عليه كفراناً بها، ولا يهوّن من فضيلة الإيـمان التي منحها الله اياه، ولا يتردى الى درك السفهاء والفسقة، ولا يلوث نفسه بسفاهة السافلين وبدعهم. فالانزواء واعتزال الناس الذي لا يروق لكم وحسبتموه مـخالفاً للـمساواة انـما هو لاجل هذا.

ومع هذه الـحقيقة، فلا اخاطب – بكلامي هذا – اولئك الذين يذيقونني العنت بتعذيبهم اياي، من امثالكم الـمتكبرين الـمغترين بنفوسهم كثيراً حتى بلغوا الفرعونية في نقض هذا القانون، قانون الـمساواة. اذ ينبغي عدم التواضع امام الـمتكبرين لـما يُظن تذللاً لـهم.. وانـما اخاطب الـمنصفين الـمتواضعين العادلين من اهل الـحكم فاقول:

انني ولله الـحمد على معرفة بقصوري وعجزي، فلا ادّعى مستعلياً على احد من الناس مقاماً للاحترام فضلاً عن ان ادّعيه على الـمسلمين! بل ابصر بفضل الله تقصيراتي التي لاتـحد، واعلم يقيناً اني لست على شيء يُذكر، فأجد السلوان والعزاء في الاستغفار ورجاء الدعاء من الناس، لا التماس الاحترام منهم. واعتقد ان سلوكي هذا معروف لدى اصدقائي كلهم. الا ان هناك امراً وهو انني، اتقلد مؤقتاً وضعاً عزيزاً يتطلبه مقام عزة العلم ووقاره، وذلك اثناء القيام بـخدمة القرآن ودرس حقائق الإيـمان، اتقلده موقتاً في سبيل تلك الـحقائق وشرف القرآن ولأجل الاّ أحني رأسي لأهل الضلالة. اعتقد أنه ليس في طوق قوانين أهل الدنيا معارضة هذه النقاط.

معاملة تـجلب الـحيرة:

ان اهل العلم والـمعرفة في كل مكان – كما هو معلوم – يزنون الامور بـميزان العلم والـمعرفة. فاينما وجدوا معرفة وفي أي شخص تلمسوا علماً يولون له الاحترام ويعقدون معه الصداقة باعتبار مسلك العلم. بل حتى لو قدم عالم – بروفسور – لدولة عدوة لنا، الى هذه البلاد، لزاره اهل الـمعرفة واصحاب العلوم، وقدروه واحترموه لعلمه ومعرفته.

والـحال أنه عندما طلب اعلى مـجلس علمي كَنَسي انكليزي من الـمشيخة الإسلامية الاجابة عن ستة اسئلة عهدت الى الـمشيخة، بستمائة كلمة، قام احد اهل العلم – الذي تلقى عدم الاحترام من اهل هذه البلاد – بالاجابة عن تلك الاسئلة بست كلمات حتى نالت اجابته التقدير والاعجاب.

وهو الذي قاوم بالعلم الـحقيقي والـمعرفة الصائبة اهم دساتير الاجانب واسس حكمائهم وتغلب عليهم.

وهو الذي تـحدى فلاسفة اوروبا استناداً الى ما استلهمه من القرآن الكريـم من قوة الـمعرفة والعلم.

وهو الذي دعا العلماء واهل الـمدارس الـحديثة في استانبول – قبل اعلان الـحرية بستة شهور – الى الـمناظرة والـمناقشة، والاجابة عن اسئلتهم دون ان يسأل احداً شيئاً. فاجاب عن جـميع استفساراتهم اجابة شافية صائبة(1).

وهو الذي وقف حياته لإسعاد هذه الامة. فنشر مئات الرسائل بلغتها، اللغة التركية، ونورّهم بها.

هذا الذي قام بهذه الاعمال، وهو ابن هذا الوطن، والصديق لأهله، والاخ في الدين، قابله قسم من الـمنسوبين الى العلم والـمعرفة مع عدد من علماء الدين الرسـميين بالاضطهاد واضمار العداء نـحوه، بل اهين.

فتعال، وتأمل هذه الـحالة! ماذا تسميها؟

أهي مدنية وحضارة؟ أم هي مـحبة للعلم والـمعرفة؟ أم هي وطنية؟ أم هي قومية؟ أم هي دعوة الى التمسك باهداف الـجمهورية؟..

حاش لله وكلا لاشيء من هذا قط!

بل هي قدر إلـهي عادل أظهر من اهل العلم العداء لذلك الشخص فيما كان يتوقع الصداقة منهم لكيلا يدخل في علمه الرياء بسبب توقع الاحترام، وليفوز بالاخلاص.



الـخاتـمة

اعتداء محيـّر لي يوجب الشكران!

ان اهل الدنيا الـمتكبرين الـمغرورين غروراً فوق الـمعتاد، لهم حساسية شديدة في معرفة الانانية والغرور، بـحيث لو كانت تلك الـمعاملة بشعور منهم لكانت تعدّ كرامة او دهاء عظيماً. وهي كالآتي:

ان ما لا تشعر به نفسي وعقلي من حالة غرور جزئية متلبسة بالرياء، كأنهم يشعرون بها بـميزان غرورهم وتكبرهم الـحساس فيجابهون غروري الذي لا اشعر به.

ففي غضون هذه السنين التسع تقريباً لي ما يقارب التسع من الـتجارب، حتى انني عقب معاملتهم الـجائرة نـحوي، كنت افكر في القدر الإلـهي واقول: لـماذا سلـّط القدر الإلـهي هؤلاء عليّ؟ فاتـحرى بهذا السؤال عن دسائس نفسي.

ففي كل مرة، كنت افهم، إما انها مالت فطرياً الى الغرور والتكبر من غير شعور مني. او انها غرّتني على علم.

فكنت اقول حينذاك: ان القدر الإلـهي قد عدل في حقي من خلال ظلم اولئك الظالـمين. فمنها:

في هذا الصيف، اركبني اصدقائي حصاناً جميلاً، فذهبت به الى متنزه، وما ان تنبهت رغبة في نفسي نـحو اذواق دنيوية مشوبة بالغرور من غير شعور مني حتى تعـّرض اهل الدنيا لتلك الرغبة بشدة بـحيث قطعوا دابرها بل دابر كثير من رغبات اخرى في النفس.

وفي هذه الـمرة، بعد شهر رمضان الـمبارك وفي جو من اخلاص الاخوة الكرام وتقواهم واحترام الزائرين وحسن ظنهم، عقب الالتفات الذي اولاه إمام عظيم سامٍ من السابقين نـحونا بكرامة غيبية، رغبت نفسي في ان تتقلد – دون شعور مني – حالة غرور مـمزوج بالرياء، فأبدت رغبَتها مفتخرة تـحت ستار الشكر، وفي هذه الاثناء تعّرض ليَ فجأة اهل الدنيا بـحساسية شديدة، حتى كأنها تتحسس ذرات الرياء.

فالى الـمولى القدير ابتهل شاكراً لأنعمه، إذ اصبح ظلم هؤلاء وسيلة للاخلاص.

} وقُل ربِ أعوذُ بكَ من هَمزاتِ الشياطين ` وأعوذُ بك ربِ أن يحضُرون { (المؤمنون:97-98).

اللهم يا حافظ يا حفيظ يا خير الـحافظين، احفظني واحفظ رفقائي من شر النفس والشيطان ومن شر الـجن والانسان ومن شر اهل الضلالة واهل الطغيان. آمين.. آمين.. آمين.







} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:35 PM

رد: اللمعات
 
اللمعة الثالثة والعشرون

((رسالة الطبيعة))

كانت هذه الرسالة هي الـمذكـّرة السادسة عشرة من اللمعة السابعة عشرة الاّ أن اهميتها الفائقة جعلتها ((اللمعة الثالثة والعشرين)) فهي تُبيد تيار الكفر النابع من مفهوم ((الطبيعة)) إبادة تامة وتُفتـّت حجر زاوية الكفر وتـحطـّم ركيزته الاساس.

تنبيـه

لقد بيـَّنت هذه الـمذكرة ماهية الـمذهب الذي يسلكه الـجاحدون من الطبيعيين، واوضحت مدى بُعد مسلكهم عن موازين العقل، ومدى سماجته وخرافيته، وذلك من خلال تسعة محالات مستخلصة من تسعين محالاً في الاقل، ولـما كان قسم من تلك الـمحالات قد وضـّح في رسائل اخرى فقد جاء هنا مدرجاً ضمن محالات اخرى، او جاء مـختصراً بعضَ الشيء.

والسؤال الذي يرد للخاطر هو:

كيف ارتضى فلاسفة مشهورون وعلماء معروفون بهذه الـخرافة الفاضحة وسلـّموا لـها زمام عقولهم؟!

والـجواب: ان اولئك لـم يتبينوا حقيقة مسلكهم(1)، ولا باطن مذهبهم، ولـم يدركوا مايقتضيه مسلكهم من ((مـحالات)) وما يستلزمه مذهبهم من امور فاسدة ومـمتنعة عقلاً، والتي ذكرت في بداية كل مـحال يرد في هذه الرسالة.

وانا على استعداد كامل لإقامة البراهين الدامغة ونصب الـحجج البديهية الواضحة لإثبات ذلك لكل مَن يساوره الشك، وابينها لـهم باسهاب وتفصيل.

بِسمِ الله الـرَّحـمنِ الـرَّحـيمِ

} قَالتْ رُسُلـُهم أفيِ اللهِ شكٌ فاطِرِ السَمواتِ والارض{ (ابراهيم:10)

هذه الآية الكريـمة بـما فيها من استفهام إنكارى تدل دلالة قاطعة على وجود الله ووحدانيته بوضوح وجلاء بدرجة البداهة.

وقبل ان نوضح هذا السرّ نودّ ان ننبه الى ما يأتي:

دعيتُ لزيارة ((انقرة)) سنة 1338 (1922م) وشاهدت فرح الـمؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان امام الـجيش الإسلامي، الاّ أنني ابصرتُ – خلال الفرح هذه – زندقة رهيبة تدب بـخبث ومكر، وتتسلل بـمفاهيمها الفاسدة الى عقائد اهل الإيـمان الراسخة بغية افسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من اعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسور هذه الآية الكريـمة، من هذا الغول الرهيب الذي يريد ان يتعرض لأركان الإيـمان، فكتبت برهاناً قوياً حاداً يقطع رأس تلك الزندقة، في رسالة باللغة العربية واستقيت معانيها وافكارها من نور هذه الآية الكريـمة لاثبات بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة ((يني كون)) في انقرة.. الاّ انني لـم ألـمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها الى أذهان الناس. وسبب ذذلك كونه مـختصراً ومـجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يُتقنون العربية في تركيا وندرة الـمهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت اوهام ذلك الالـحاد واستشرت في صفوف الناس مع الاسف الشديد، مـما اضطرني الى اعادة كتابة تلك الرسالة ببراهينها بالتركية، مع شيء من البيان والتوضيح فكانت هذه الرسالة.

ولـما كان بعض اقسام تلك البراهين قد وضحت توضيحاً كافياً في بعض ((رسائل النور)) فسنذكرها هنا مـجملة، كما ان البعض من البراهين الاخرى الـمبثوثة في ثنايا رسائل اخرى تبدو مندرجة في هذه الرسالة، وكأن كل برهان منها جزء من هذه الرسالة.







الـمقدمة

أيها الانسان!

اعلم ان هناك كلمات رهيبة تفوح منها رائحة الكفر النتنة، تـخرج من افواه الناس، وترددها ألسنة اهل الإيـمان دون علمهم بـخطورة معنى ما يقولون، وسنبين ثلاثاً منها هي الغاية في الـخطورة:

اولاها: قولـهم عن الشيء: ((أوجدته الاسباب)) أي أن الاسباب هي التي توجد الشيء الـمعين.

ثانيها: قولـهم عن الشيء: ((تشكـّل بنفسه)) أي أن الشيء يتشكل من تلقاء نفسه، ويوجِد نفسَهُ بنفسه، وينتهي الى صورته التي انتهى اليها كما هي:

ثالثتها: قولـهم عن الشيء: ((اقتضته الطبيعة)) أي أن الشيء طبيعي، والطبيعة هي التي اوجدته واقتضته.

نعم! مادامت الـموجودات موجودة وقائمة امامنا بـما لا يـمكن إنكارها مطلقاً، وان كل موجود يأتي الى الوجود في غاية الاتقان والـحكمة، وهو ليس بقديـم أزلي، بل هو مـحدث جديد.

فيا ايها الـملحد! إما انك تقول ان هذا الـموجود – وليكن هذا الـحيوان مثلاً – توجده أسبابُ العالـم، أي أنه يكتسب الوجود نتيجة اجتماع الاسباب الـمادية، او أنه تشكل بنفسه، او أنه يرد الى الوجود بـمقتضى الطبيعة ويظهر بتأثيرها! او عليك ان تقول: ان قدرة الـخالق القدير ذي الـجلال هي التي توجده.

لأنه لاسبيل الى حدوثه غير هذه الطرق الاربعة، حسب موازين العقل، فاذا ما أثبت – اثباتاً قاطعاً – ان الطرق الثلاثة الاولى مـحالة، باطلة مـمتنعة، غير مـمكنة، فبالضرورة والبداهة يثبت الطريق الرابع، وهو طريق وحدانية الـخالق بيقين جازم لاريب فيه.

n اما الطريق الاول:

وهو القول بأن: ((اجتماع اسباب العالـم يـخلق الـموجودات ويوجدها، ويؤدي الى تشكيل الاشياء)) نذكر منه ثلاثة مـحالات فقط، من بين مـحالاته الكثيرة جداً.

T الـمحال الاول:

ولنوضحة بهذا الـمثال: تـحوي الصيدلية مئات الدوارق والقناني الـمملوءة بـموادَّ كيمياوية متنوعة، وقد احتجنا – لسبب ما – الى معجون حيوي من تلك الادوية والـمواد لتركيب مادة حيوية خارقة مضادة للسموم.. فلما دخلنا الصيدلية وجدنا فيها اعداداً هائلة من انواع ذلك الـمعجون الـحيوي، ومن تلك الـمادة الـحيوية الـمضادة للسموم وعندما بدأنا بتحليل كل معجون رأيناه مركباً مستحضراً بدقة متناهية من موادَّ مـختلفة طبق موازين مـحسوبة، فقد اخذ من تلك القناني: درهم (غرام واحد) من هذه.. وثلاثة غرامات من تلك.. وعشرة غرامات من الاخرى.. وهكذا فقد أخذَ من كل منها مقادير مـختلفة، بـحيث لو كان ما أخذَ من هذه الـمقادير اقل منها بـجزء من الغرام، او ازيد، لفقد الـمعجون خواصه الـحيوية…

والآن جئنا الى ((الـمادة الـحيوية الـمضادة للسموم)) ودققنا فيها نظراً كيمياوياً، فرأيناها قد ركبت بـمقادير معينة اُخذت من تلك القناني على وفـْق موازين حساسة بـحيث أنها تفقد خاصيتها لو غلطنا في الـحساب فزادت الـمواد الـمركبة منها او نقصت بـمقدار ذرة واحدة. نـخلص من هذا:

ان الـمواد الـمتنوعة قد استحضرت بـمقادير مـختلفة على وفق موازين دقيقة. فهل يـمكن او يُعقل ان يتكون ذلك الـمعجون الـمحسوب كل جزء من اجزائه حساباً دقيقاً من جرّاء مصادفة غريبة، او من نتيجة تصادم القناني بـحدوث زلزالٍ عاصف في الصيدلية يؤدي الى سيلان تلك الـمقادير بـموازينها الـمعينة، واتـحادها بعضها بالبعض الآخر مكوناً مـعجوناً حيوياً؟!. فهل هناك مـحال أغرب من هذا واكثر بعداً عن العقل والـمنطق؟! وهل هناك خرافة اخرف منها؟! وهل هناك باطل اوضح بطلاناً من هذا؟! والـحمار نفسه لو تضاعفت حـماقته ونطق لقال: يالـحماقة من يقول بهذا القول!.

وفي ضوء هذا الـمثال نقول:

ان كل كائن حي هو مركب حيوي، ومـعجون ذو حياة. وان كل نبات شبيه بترياق حيوي مضاد للسموم إذ ركـّب من اجزاء مـختلفة ومن مواد متباينة، على وفق موازين دقيقة في منتهى الـحساسية.. فلا ريب ان اسناد خلق هذا الكائن البديع الى الاسباب الـمادية والعناصر، والقول بان ((الاسباب اوجدته)) باطل ومـحال وبعيد عن موازين العقل بـمثل بُعدِ وبطلان ومـحالية تكون الـمعجون الـحيوي بنفسه من سيلان تلك الـمواد من القناني.

وحصيلة الذي قلناه آنفاً:

ان الـمواد الـحيوية الـمستحضرة بـميزان القضاء والقدر للـحكيم العليم في هذا العالـم الكبير الذي هو صيدلية ضخمة رائعة لا يـمكن ان توجد الاّ بـحكمة لا حدّ لـها، وبعلم لانهاية له، وبارادة تشمل كل شيء وتـحيط بكل شيء، والاّ فما أشقاه من يتوهم ((ان هذه الـموجودات هي نتاج عناصر الكون الكلية)) وهي العمياء الصماء في جريانها وتدفقها، او هي ((من شؤون طبائع الـمواد)) او ((من عمل الاسباب الـمادية))!.

لاشك ان صاحب هذا الوهم هو اشقى اشقياء العالـم، واعظمهم حـماقة، واشدّ هذياناً من هذيان مـخمور فاقد للوعي عندما يـخطر بباله ان ذلك الترياق العجيب قد وجد نفسه بنفسه من جراء تصادم القناني وسيلان ما فيها!

نعم، ان ذلك الكفر هذيان احـمق وجنون سكران.

T الـمحال الثاني:

إن لـم يُسند خلق كل شيء الى الواحد الاحد القدير ذي الـجلال، وأسند الى الاسباب الـمادية، يلزم عندئذ ان يكون لاغلب عناصر العالـم واسبابه دخلٌ وتأثير في وجود كل ذي حياة.

والـحال ان اجتماع الاسباب الـمتضادّة والـمتباينة فيما بينها، بانتظام تام، وبـميزان دقيق وباتفاق كامل في جسم مـخلوق صغير – كالذباب مثلاً – هو مـحال ظاهر الى حد يرفضه مَن له عقل بـمقدار جناح ذبابة، ويُردّه قائلاً: هذا مـحال .. هذا باطل.. هذا غير مـمكن..!

ذلك لان جسم الذباب الصغير ذو علاقة مع اغلب عناصر الكائنات، ومع مظاهرها واسبابها الـمادية، بل هو خلاصة مستخلصة منها، فان لـم يُسند أيـجادُه الى القدرة الإلـهية الـمطلقة، يلزم ان تكون تلك الاسباب الـمادية حاضرة ومـحتشدة جَنبَ ذلك الـجسم مباشرة عند أيـجاده، بل يلزم ان تدخل في جسمه الضئيل، بل يـجب دخولها في حجيرة العين تـمثل نـموذج الـجسم، ذلك لان الاسباب ان كانت مادية يلزم ان تكون قرب الـمسبَّب ودخلة فيه، وعندئذٍ يقتضي قبول دخول جـميع العناصر في جـميع اركان العالـم مع طبائعها الـمتباينة في ذلك الـمسبّب دخولاً مادياً، وعملها في تلك الـحجيرة الـمتناهية في الصغر بـمهارة واتقان! أفلا يـخجل ويستحي من هذا القول حتى اشد السوفسطائيين بلاهةً؟

T الـمحال الثالث:

ان الـموجود إن كانت له وحدة واحدة، فلابدّ ان يكون صادراً من مؤثر واحد، ومن يد واحدة، حسب مضمون القاعدة البديهية الـمقررة: (الواحد لا يصدر الاّ عن الواحد). فإن كان ذلك الـموجود في غاية الانتظام والـميزان، وفي منتهى الدقة والاتقان، وكان مالكاً لـحياة جامعة، فمن البداهة انه لـم يصدر من أيد متعددة قط – التي هي مدعاة الاختلاف والـمنازعة – بل لابد أنه صادر من يد واحدة لواحد أحد قدير حكيم؛ لذا فان اسناد الـموجود، الـمنتظم، الـمتناسق، الـموزون، الواحد، الى ايدي الاسباب الطبيعية العمياء الصمـّاء الـجامدة غير الـمنضبطة، والتي لا شعور لـها ولا عقل، وهي في اختلاط شديد يزيد من عماها وصممها، ثم الادعاء بإن تلك الاسباب هي التي تقوم بـخلق ذلك الـموجود البديع واختياره من بين امكانات واحتمالات لاحدّ لـها، اقول ان قبول هذا الاسناد والادعاء هو – في الـحقيقة - قبول لـمائة مـحال ومـحال، اذ هو بعيد كل البعد عن جـميع مقاييس العقل وموازينه..

دعنا نترك هذا الـمحال ونتجاوزه مؤقتاً، لننظر الى تأثير ((الاسباب الـمادية)) الذي يتم بالتـماس والـمباشرة. فبينما نرى ان تـماس تلك الاسباب الطبيعية هو تـماس بظاهر الكائن الـحي فحسب، ونرى ان باطن ذلك الكائن الذي لا تصل اليه ايدي تلك الاسباب الـمادية ولا يـمكنها ان تـمسّه بشيء، هو ادق نظاماً، واكثر انسجاماً، من الظاهر بل ألطف منه خلقاً واكمل اتقاناً. بل الاحياء الصغيرة والـمخلوقات الدقيقة التي لا يـمكن ان تستوعب تلك الاسباب الـمادية قطعاً ولاتصل اليها ايديها ولا وسائلها هي اعجب إتقاناً من اضخم الـمخلوقات وابدع خلقاً منها.

فلا يكون إذن اسناد خلقها الى تلك الاسباب العمياء الصماء الـجامدة الـجاهلة الغليظة الـمتباعدة الـمتضادّة الاّ عمى ما بعدها عمى، وصمم ليس وراءه صمم.

n اما المسألة الثانية:

وهي قولهم عن الشيء: ((تشكـّل بنفسه)). فهي تنطوي على مـحالات كثيرة، ويتضح بطلانها ومـحاليتها من نواح كثيرة جداً الاّ اننا نتناول هنا ثلاثة مـحالات منها كنماذج ليس الاّ:

l الـمحال الاول:

ايها الـجامد العنيد! ان طغيان غرورك، جعلك تتردى في احضان حـماقة متناهية، فتقدم على قبول مائة مـحال ومـحال!

انك ايها الـجاحد العنيد موجود بلا شك، وانك لست من مادة بسيطة وجامدة تأبى التغير، بل انت معمل عظيم متقن الصنع، اجهزته دائمة التـجدد، وانت كالقصر الـمنيف، انـحاؤه دائمة التحول.. فذرات وجودك انت تعمل دوماً وتسعى دون توقف، وترتبط بوشائج واواصر مع مظاهر الوجود في الكون من حولك، فهي في اخذ وعطاء مع الكائنات، وبـخاصة من حيث الرزق، ومن حيث بقاء النوع.

ان الذرات العاملة في جسدك تـحتاط من ان تـخل بتلك الروابط، وتتحاشى ان تنفصم تلك العلاقات، فهي حذرة في تصرفها هذا، وتتخذ موقفاً ملائماً لـها على وفق تلك العلاقات كأنها تنظر الى جـميع الكائنات وتشاهدها، ثـم تراقب موقعك انت منها، وانت بدورك تستفيد حسب ذلك الوضع الـخارق لتلك الذرات وتنتفع وتتمتع بـمشاعرك وحواسك الظاهرة والباطنة.

فان لـم تعتقد ان تلك الذرات موظفات صغيرات لدى القدير الازلي، ومأمورات مسخرات منقادات لقوانينه سبحانه، او هي جنود مـجندة في جيشه الـمنظم، او هي نهايات قلم القدر الإلـهي، او هي نقاط ينقطها قلم القدرة الإلـهية.. لزمك ان تقول ان لكل ذرة عاملة – في عينك مثلاً – عيناً واسعة بصيرة، ترى جـميع اجزاء جسدك ونواحيه، وتشاهد جـميع الكائنات التي ترتبط بها، وتعلم جـميع ماضيك ومستقبلك، وتعرف اصلك وآباءك واجدادك مع نسلك واحفادك وتدرك منابع عناصرك، وكنوز رزقك.. فهي اذن ذات عقل جبار!!

فيا معطل عقله في مثل هذه الـمسائل! أليس في اسناد هذا العلم والشعور والعقل الذي يسع ألفاً من مثل ((افلاطون)) الى ذرة في عقل مَن لا يـملكه مثلك، خرافة خرقاء، وبلاهة بلهاء؟!.

l الـمحال الثاني:

ان جسمك ايها الانسان يشبه قصراً فخماً عامراً، له من القباب الف قبة وقبة، وكل قبة من قبابه معلقة فيها الاحجار، ومرصوصة بعضها الى البعض الآخر في بناء مـحكم دون عمد. بل ان وجودك لو فكرت – هو اعجب من هذا القصر بالوف الـمرات، لان قصر جسمك انت في تـجدد مستمر يبلغ الكمال في الانتظام والروعة.

فلو صرفنا النظر عما تـحمله من روح ومن قلب ومن لطائف معنوية وهي معجزة بذاتها، واخذنا بنظر الاعتبار والتفكر عضواً واحداً فقط من أي عضو كان من بين اعضاء جسدك نراه شبيهاً بـمنزلٍ ذي قباب. فالذرات التي فيه قد تعاونت وتعانقت بعضها مع البعض الاخر، في انتظام تام، وموازنة كاملة – كالاحجار في تلك القباب – وكونت بناءً خارقاً، وصنعة رائعة بديعة، فاظهرت للعيان مـعجزة عجيبة من معجزات القدرة الإلـهية ((كالعين واللسان)) مثلاً.

فلو لـم تكن هذه الذرات مأمورة منقادة لامر الصانع القدير، فان كل ذرة منها اذن لابد ان تكون حاكمة حكماً مطلقاً على بقية ذرات الـجسد ومحكومة لـها حكماً مطلقاً كذلك، وان تكون مثل كلٍ منها، وضدّ كل منها – من حيث الـحاكمية – في الوقت نفسه! وان تكون مناط اغلب الصفات الـجليلة التي لا يتصف بها الاّ الله سبحانه وتعالى، وان تكون مقيدة كلياً، وطليقة كلياً في الوقت نفسه..!

فالـمصنوع الواحد الـمنتظم والـمنسق الذي لا يـمكن ان يكون – بسر الوحدانية – الاّ أثراً من آثار الواحد الاحد مـحال ان يسند الى تلك الذرات غير الـمحدودة بل هو مائة مـحال في مـحال..! يدرك ذلك كل من له مسكة من عقل!

l الـمحال الثالث:

ان لم يكن وجودك هذا قد كتب بقلم الواحد الاحد القدير الأزلي، وكان مطبوعاً بـمطابع الطبيعة والاسباب، فيلزم عندئذٍ وجود قوالب طبيعية بعدد الوف الالوف من الـمركبات الـمنتظمة العاملة في جسمك، والتي لا يـحصرها العد، ابتداءً من اصغر الـخلايا العاملة بدقة متناهية وانتهاءً بأوسع الاجهزة العاملة فيه.

ولفهم هذا الـمحال نأخذ الكتاب الذي بين ايدينا مثالاً، فنقول:

إن اعتقدت ان هذا الكتاب مستنسخ باليد، فيكفي اذن لاستنساخه قلم واحد، يـحركه علمُ كتابه ليدوّن به ما يشاء، ولكن إن لـم يُعتقد انه مستنسخ باليد ولـم يُسند الى قلـم الكاتب، واُفُترض انه قد تشكـّل بنفسه، او اسندت كتابته الى الطبيعة، فيلزم عندئذٍ ان يكون لكل حرف من حروفه قلـم معدني خاص به، ويكون عدد الاقلام بعدد تلك الـحروف – بـمثل وجود الـحروف الـمعدنية في الـمطبعة والتي هي بعدد الـحروف وانـماطها – أي يلزم وجود اقلام بعدد الـحروف بدلاً من قلم واحد للاستنساخ، وقد يكون هناك في تلك الـحروف، حروفٌ كبيرة مكتوب فيها بـخط دقيق ما في صحيفة كاملة، فيلزم اذن لكتابة مثل هذه الـحروف الكبيرة الوف الاقلام الدقيقة!

والان ماذا تقول لو كانت تلك الـحروف متداخلة بعضها بالبعض الآخر بانتظام كامل متخذةً هيأة جسدك وشكله؟! فيلزم عندئذٍ ان يكون لكل جزء من اجزاء كل دائرة من دوائر الـمذكورة قوالب عديدة بعدد تلك الـمركبات التي لا يـحصرها العدّ!

هَبْ انك تقول لـهذه الـحالة الـمتضمنة لـمائة مـحال في مـحال، انها مـمكنة الـحدوث! فحتى في هذه الـحالة – على فرض إمكانها – افلا يلزم لصنع تلك الاقلام وعمل تلك القوالب والـحروف الـمعدنية اقلاماً وقوالب وحروفاً بعددها لتصبّ وتسكب فيها إنْ لـم يُسند صنعها جـميعاً الى قلـم واحد؟ ذلك لان جـميعها مصنوعة ومـحدثة منتظمة، ومفتقرة الى صانع ليصنعها، ومـُحدثٍ ليحدثها، وهكذا الامر يتسلسل كلما اوغلت فيه. فافهم من هذا مدى سقم هذا الفكر الذي يتضمن مـحالات وخرافات بعدد ذرات جسمك!

فيا ايها الـجاحد… عُد الى عقلك وانبذ هذه الضلالة الـمشينة!

n الكلمة الثالثة:

والتي هي قولهم عن الشيء: ((اقتضته الطبيعة)). فهذا الـحكم له مـحالات كثيرة جداً، نذكر ثلاثة منها على سبيل الـمثال:

m الـمحال الاول:

ان الاتقان والايـجاد الـمتـَّسمَين بالبصيرة والـحكمة الظاهرين في الـموجودات ظهوراً جلياً، ولا سيما في الاحياء، إن لـم يُسند الى قلـم ((القدرة الإلـهي)) والى قدرته الـمطلقة، واسندا الى ((الطبيعة)) العمياء الصماء الجاهلة والى (القوة)) يلزم ان توجد الطبيعة – من اجل الـخلق – مطابع ومكائن معنوية لاحد لـها في كل شيء او تدرج في كل شيء قدرة قادرة على خلق الكون كله، وحكمة مدبرة لادارة شؤونه كلها.

مثال ذلك:

ان تـجليات الشمس وانعكاساتها الضوئية، وبريق لـمعانها الـمشاهد على قطرات الـماء الرقراقة الـمتلألئة، او على القطع الزجاجية الـمتناثرة هنا وهناك على سطح الارض، مـما يخيل للناظر السطحي النظر انها صورٌ لشميسات مثالية. فان لـم تنسب هذه الانعكاسات واللمعات الى الشمس الـحقيقية التي تطالعنا بشعاعها الغامر يلزم الاعتقاد بشمس طبيعية فطرية صغيرة ظاهرية تـملك صفات الشمس نفسها وتتصف بـخصائصها، موجودة وجوداً فعلياً في تلك القطعة الزجاجية الصغيرة – التي لا تسع لأدنى شيء – أي يلزم الاعتقاد بوجود شـموس بعدد ذرات القطع الزجاجية.

وفي ضوء هذا الـمثال نقول:

ان لـم يُسند خلق الـموجودات والاحياء اسناداً مباشراً الى تـجليات اسـماء الله الـحسنى الذي هو نور السموات والارض يلزم الاعتقاد اذن بوجود طبيعة وقوة تـملكان قدرة مطلقة وارادة مطلقة مع علم مطلق وحكمة مطلقة في كل موجود من الـموجودات، ولا سيما الاحياء، أي يلزم قبول ألوهية وربوبية في كل موجود!

فهذا النـمط من التفكير الـمعوج لـهو اشد بطلاناً من أي مـحال آخر، واكثر خرافة منه، فالذي يُسند ما ابدعه الـخالق العظيم من صنعة رائعة دقيقة، ظاهرة جلية حتى في اصغر مـخلوق الى يد الطبيعة الـموهومة، التافهة التي لا تـملك شعوراً لاشك انه يتردى بفكره الى درك أضل عن الـحيوان.



m الـمحال الثاني:

ان هذه الـموجودات التي هي في غاية الانتظام، وفي منتهى الروعة والـميزان، وفي تـمام الاتقان، وكـمال الـحكمة والاتـّزان؛ ان لـم تسند الى من هو قدير مطلق القدرة وحيكم مطلق الـحكمة، واسندت الى الطبيعة، يلزم الطبيعة ان تـحضر في كل حفنة تراب، معامل ومطابع بعدد معامل اوروبا ومطابعها، كي تتمكن تلك الـحفنة من ان تكون منشأ الازهار والاثـمار الـجميلة اللطيفة؛ لان تلك الـحفنة من التراب التي تقوم بـمهمة مشتل صغير للازهار تظهر قابلية فعلية لاستنبات وتصوير ما يلقى فيها بالتناوب من بذور جـميع ازهار العالـم وثـماره، وبأشكالـها وهيئاتها الـمتنوعة، والوانها الزاهية.

فإن لـم تسند هذه القابلية الى قدرة الفاطر الـجليل القادر على كل شيء.. فلابد اذن ان توجد في تلك الـحفنة ماكنة معنوية طبيعية خاصة لكل زهرة من ازهار العالـم والاّ لا يـمكن ان يظهر ما نشاهده من انواع الازهار والثـمار الى الوجود! اذ البذور – كالنطف والبيوض ايضاً – موادها متشابهة اختلط وعجن بعضها ببعض بلا شكل معين وهي مولد الـماء ومولد الـحموضة والكربون والآزوت. علماً ان كلاً من الـهواء والـماء والـحرارة والضوء اشياء بسيطة لا تـملك عقلاً او شعوراً، وهي تتدفق كالسيل في كل شيء دونـما ضابط. فتشكيل تلك الازهار التي لاتـحد من تلك الـحفنة من التراب بصورها الـمتنوعة البديعة واشكالـها الـمختلفة الزاهية وبهيئاتها الـمتباينة الرائعة وهي في منتهى الانتظام والاتقان تقتضي بالبداهة وبالضرورة ان توجد في تلك الـحفنة من التراب مصائع ومطابع معنوية بـمقايس صغيرة جداً اكثر مـما في اوروبا من مصانع ومطابع، كي تتمكن ان تنسج تلك الـمنسوجات الـحية التي لاتعد، وتطرز تلك النقوش الزاهية الـمتنوعة التي لاتـحصى!

فيا لبعد ما يـحمله الطبيعيون من فكر إلـحادي عن جادة العقل السليم! اعلم هذا، وقس مدى بُعد اولئك الذين يدّعون انهم عقلاء وعلميون عن موازين العقل والعلم بتوهمهم ان الطبيعة موجدةٌ للاشياء.. اولئك الذين اتخذوا خرافة مـمتنعة وغير مـمكنة اطلاقاً، مسلكاً لـهم، فاسخر منهم، واحتقرهم.

ولسائل ان يسأل:

صحيح ان مـحالات كثيرة، ومعضلات عظيمة تنجم عندما يُسند خلق الـموجودات الى الطبيعة، ولكن كيف تزول هذه الـمشكلات، وتنحل هذه الـمعضلات عندما نسند عملية الـخلق برمتها الى الواحد الاحد الفرد الصمد؟ وكيف ينقلب ذلك الامتناع الصعب الى الوجوب السهل؟

الـجواب: ان تـجليات الشمس وانعكاساتها – كما ذُكرَ في الـمحال الاول – أظهرت نفسها بكل سهولة، ومن دون تكلف او صعوبة في جـميع الـمواد ابتداءً من الـجامد الصغير الـمتناهي في الصغر – كقطع الزجاج – الى اوسع السطوح للبحار والـمحيطات، فأظهرت على الكل فيضها وأثرها في منتهى السهولة، وكأن كلاً منها شـميسات مثالية. فلو قُطعت نسبة تلك الانعكاسات الى الشمس الـحقيقية، فلابد من الاعتقاد بوجود شـمس طبيعية في كل ذرة من الذرات وجوداً ذاتياً خارجياً. وهذا ما لايقبله عقل، بل هو مـمتنع ومـحال.

فكما ان الامر في الـمثال هو هكذا، كذلك اسناد خلق كل موجود اسناداً مباشراً الى الواحد الاحد الفرد الصمد فيد من السهولة الـمتناهية بدرجة الوجوب، اذ يـمكن ايصال مايلزم ايّ موجود اليه، بكل سهولة ويسر، وذلك بالانتساب وبالتـجلي. بينما اذا ما قطع ذلك الانتساب، وانقلب الاستخدام والتوظيف والطاعة الى الانفلات من الاوامر والعصيان، وترك كل موجود طليقاً يسرح كيفما يشاء، او اسند الامر الى الطبيعة، فستظهر مئات الالوف من الـمشكلات والـمعضلات بدرجة الامتناع، حتى نرى ان خلق ذبابة صغيرة يقتضي ان تكون الطبيعة العمياء التي فيها مالكة لقدرة مطلقة تتمكن بها من خلق الكون كله، وان تكون – مع ذلك – ذات حكمة بالغة تتمكن بها من ادارته، حيث ان الذبابة – رغم صغرها – بديعة الصنع، تنطوي على أغلب مكونات الكائنات وكأنها فهرس مـختصر لـها..

وهذا ليس بـمحال واحد فـحسب بل الف مـحال ومـحال..!

الـخلاصة:

كما انه مـحالٌ ومـمتنعٌ وجود نظير او شريك لله سبحانه وتعالى في ألوهيته، كذلك مـمتنع ومـحال مثله ان يكون هناك مداخلة من غيره في ربوبيته، او مشاركة له من احد في أيـجاده الاشياء وخلقها..

أما الـمشكلات التي في ((الـمحال الثاني)) التي اثبتناها في عديد من الرسائل؛ فهي: انه اذا ما نُسِبَ خلق جـميع الاشياء الى الواحد الاحد، يسهل ذلك الـخلق كما يسهل خلق شيء واحد. بينما اذا ما نُسِبَ الـخلق الى الاسباب والى الطبيعة يصبح خلق الشيء الواحد وايـجاده مشكلاً وصعباً، كـخلق الـجميع. وحيث اننا سبق ان اثبتنا هذا ببراهين دامغة، نورد هنا ملـخص برهان واحد فقط:

اذا انتسب احدٌ الى السلطان بالـجندية او بالوظيفة الـحكومية، فانه يتمكن ان ينجز من الامور والاعمال اضعاف اضعاف ما يـمكنه انـجازه بقدرته الشخصية، وذلك بقوة ذلك الانتساب السلطاني. فمثلاً يستطيع ان يأسر قائداً كبيراً باسم سلطانه، مع انه جندي. حيث تـحمل خزائن السلطان وقطعات الـجيش الاجهزة والاعتدة لـما يقوم به من اعمال، فلا يـحملها هو وحده، كما انه ليس مضطراً الى حـملها. كل ذلك بفضل إنتسابه الى السلطان، لذا تظهر منه اعمالٌ خارقة كأنها اعمال سلطان عظيم، وتبدو له آثار – فوق ما تبدو منه عادةً – وكأنها آثار جيش كبير رغم انه فرد. فالنملة – من حيث تلك الوظيفة – تتمكن من تدمير قصر فرعون طاغٍ، والبعوضة تستطيع ان تهلك نـمروداً جبارا بقوة ذلك الانتساب.. والبذرة الصغيرة للصنوبر الشبيهة بـحبة الـحنطة تنشىء بذلك الانتساب جـميع اجهزة شـجرة الصنوبر الضخـمة(1). فلو انقطع ذلك الانتساب، واعفي الـموجود من تلك الوظيفة، فعلية ان يـحمل على كتفه قوة ما ينجزه من اعمال وينوء كاهله بلوازمها ومعداتها. وبذلك لا يـمكنه القيام بأعمال سوى اعمال تتناسب مع تلك القوة الضئيلة الـمحدودة الـمحمولة على ذراعه، بـما يناسب كمية الـمعدات واللوازم البسيطة التي يـحملها على ظهره، فلو طلب منه ان يقوم بأعمال كان يقوم بها بسهولة ويسر في الـحالة الاولى لأظهر عجزه، الاّ اذا استطاع ان يُحمّل ذراعه قوة جيش كامل، ويردف على ظهره معامل اعتدة الدولة الـحربية!!

إن صاحب هذا الـخيال السابح في فضاء الوهم والـخرافة يتوارى خجلاً مـما يقول.

نـخلص من كل ما تقدم الى ان تسليم أمر كل موجود وتنسيبه الى واجب الوجود سبحانه فيه السهولة التامة بدرجة الوجوب.

اما اسناد ايـجاده الى الطبيعة فهو معضل الى حد الامتناع وخارج عن دائرة العقل.

m الـمحال الثالث:

نوضح هذا الـمحال بـمثالين قد بيـّناهما في بعض الرسائل؛ هـما:

الـمثال الاول:

يدخل انسان بدائي ساذج التفكير، لـم يكن يـملك ايّ تصور حضاري مسبقٍ؛ يدخل هذا الشخص قصراً فخماً بديعاً، يزهو بزينته، ويـختال بأرقى ما وصلت اليه الـحضارة من وسائل الابـهـَّة والراحة، ويتلألأ بأضوائه في عتمة فلاةٍ خاليةٍ موحشة، فيدلف اليه، ويدور في ارجائه، فتشدُّهُ براعة بنائه، ونقوش جدرانه، وروعة إتقانه.. وبكل سذاجة تصوره وبلاهته يـمنح القصر حياةً، ويعطيه قدرة تشييد نفسه بغرفه وابهائه وصوره الـجميلة، ونقوشه الاخـّاذة، لا لشيء الاّ لكونه قاصراً عن تصور وجود احد – خارج هذا القصر – وفي هذه الفلاة يـمكنه ان ينسب اليه بناء هذا القصر، لذا فقد طفق يتحرى عن ((الباني)) داخل القصر لعله يعثر عليه بين اشياء القصر، فما من شيء وقع عليه بصره الاّ وتردد فيه وشكّ في كونه قادراً على ايـجاد مثل هذا القصر الذي يـملأ اقطار النفس والعقل بروعة صنعه، وجـمال بنائه. وتقوده قدماه الى زاوية من زوايا القصر ويعثر فيها فجأةً على دفتر ملاحظات كان قد دونت فيه خطة مفصلة لعملية بناء القصر، وخُطّ فيه ايضاً فهرس موجوداته وقوانين ادارة مـمتلكاته. ورغم ان ذلك الدفتر كمـحتوياته، ليس من شأنه تشييد القصر وتزيينه، اذ لا يـملك يداً يعمل بها، ولا بصيرةً يبصر بها، الاّ انه تعلق به اذ وجده متطابقاً بـمحتوياته، مع مـجاميع اشياء القصر، ومنسجماً مع سير العمل فيه – اذ هو عنوان قوانين الله العلمية – لذا قال مضطراً: ((إن هذا الدفتر هو الذي شيـّد هذا القصر ونظـّمه وزينه، وهو الذي اوجد الاشياء فيه ورتبها هذا الترتيب ونسقها هذا التنسيق))… فكشف بهذا الكلام عن مدى عمق جهله، وتأصل حماقته.

وعلى غرار هذا الـمثال تـماماً، يدلف الى قصر العالم العظيم – الذي هو ادق نظاماً واكمل إتقاناً، واجـمل صنعاً، وازهى جـمالاً، من ذلك القصر الصغير الـمحدود الـمذكور آنفاً في الـمثال، حيث لا يقبل الـمقايسة والـموازنه معه، فكل ناحية من نواحيه تشع مـعجزاتٍ بديعةً وحكماً ساميةٌ – يدلف واحد مـّمن يدينون بفكرة الطبيعة وبنكرون عظمة الالوهية الى هذا القصر، واضعاً في ذهنه – مسبقاً – الإعراض عما هو مبثوث امامه من آثار صنعه الله سبحانه الـمنزه عن الـمخلوقات، الـمتعالي عن الـمكنات.. ويبدأ بالبحث والتحري عن السبب ((الـموجد)) ضمن الـممكنات والـمخلوقات! فيرى قوانين السنن الإلـهية، وفهارس الصنعة الربانية. والتي يطلق عليها خطأ – وخطأ جسيماً – اسم الطبيعة التي يـمكن ان تكون شبيهة بصفحة من كراسة ((التغيير والتبديل)) لقوانين اجراءات القدرة الإلـهية، وبـمثابة لوحة ((الـمحو والاثبات)) للقدر الإلـهي، ولكنه ينبري الى القول:

مادامت هذه الاشياء مفتقرة الى علـّةٍ موجدةٍ، ولا شيء اعظمُ ارتباطاً بها، من هذه ((الكراسة)) فاني أخلصُ من ذلك الى ان هذه ((الكراسة)) – بـما تتضمنه من قوانين الـمحو والاثبات – هي التي اوجدت الاشياء، مادامت، لا يطيبُ لي الاعتقاد والإيـمان بالصانع الـجليل سبحانه. برغم ان العقل الـمنزه عن الهوي يرفض كلياً – ضمن منطقة – ان ينسب شؤون الربوبية الـمطلقة – والتي تقتضي قدرةً مطلقةً – الى هذه ((الكراسة)) العمياء الصماء العاجزة.

ونـحن نقول:

يا أحـمق من ((هَبَنـَّقة))!(1).

أطلَّ برأسك من تـحت مستنقع الطبيعة.. لترى الصانع الـجليل الذي تشهد له جـميع الـموجودات، من الذرات الى الـمجرات، بألسنة متنوعة، وتشير اليه اشارات مـختلفة.. وشاهد تـجليات ذلك الـمصور الـجليل الذي شيـّد قصر العالـم الباذخ، ودوّن خطته وبرنامـجه وقوانينه في تلك الكراسة.. وانقذ نفسك من ذلك الـهذيان الآثـم الرخيص!

الـمثال الثاني:

يدخل انسانٌ معزولٌ عن عالـم الـمدنية والـحضارة، وسط معسكر مهيب، فيبهره ما يشاهد من تدريبات متنوعة يؤديها – بغاية الانتظام والاتقان ومنتهى الطاعة والانقياد – جنود هذا الـمعسكر، فيلاحظ حركاتهم الـمنسقة وكأنها حركة واحدة يتحرك الـجميع – فوجاً ولواءً وفرقةً – بـحركة فرد واحد منهم، ويسكن الـجميع بسكونه، يطلق الـجميع النار اطلاقاً واحداً إثر امر يصدره ذلك الفرد.. فـحارَ في أمره، ولـم يكن عقله الساذج ليدرك ان قيادة قائد عظيم هو الذي ينفذ اوامره بأنظمة الدولة واوامر السلطان، فتخيل حبلاً يربط اولئك الـجنود بعضهم بالبعض الآخر.. ثـم بدأ يتأمل خيالاً، مدى اعجوبة هذا الـحبل الـموهوم. فزادت حيرته واشتدّ ارتباكه. ثـم يـمضي الى شأنه.

ويدخل جامع ((أياصوفيا)) العظيم، يوم الـجمعة ويشاهد جـموع الـمصلـّين خلف رجل واحد يـمتثلون لندائه في قيامهم وقعودهم وسجودهم وركوعهم، ولـمّا لـم يكن يعرف شيئاً عن الشريعة الإلـهية، والدساتير الـمعنوية لأوامر صاحب الشريعة، فانه يتصور، بأن هذه الـجماعة مرتبطة ببعضها البعض بـحبال مادية، وان هذه الـحبال قد قيدت حركة الـجماعة واسرتهم، وهي التي تـحركهم وتوقفهم عن الـحركة.

وهكذا يـمضي الى سبيله وقد امتلأ ذهنه بأخطاء تصوراته، التي تكاد تثير الهزء والسخرية حتى لدى أشد الناس وحشية وهمجية.

ففي ضوء هذا الـمثال:

يأتي ملـحدٌ الى هذا العالـم الذي هو معسكر مهيب رائع لـجنود السلطان الـجليل، وهو مسجد عظيم بارع يعظـّم فيه ذلك الـمعبود الازلي ويقدّس؛ يأتيه وهو يـحمل فكرة ((الطبيعة)) الـجاحدة ذلك الـجهل الـمطبق..

فيتصور ((القوانين الـمعنوية)) التي يشاهد آثارها في ربط انظمة الكون البديع، والنابعة من ((الـحكمة)) البالغة للبارىء الـمصور سبحانه، يتصورها كأنها قوانين مادية، فيتعامل معها في ابـحاثه كما يتعامل مع الـمواد، والاشياء الـجامدة..

ويتخيل احكام قوانين الربوبية التي هي قوانين اعتبارية ودساتير الشريعة الفطرية الكونية للـمعبود الازلي، والتي هي بـمجموعها معنوية بـحتة، وليس لـها وجود سوى وجود علمي، يتخيلها وكأنها موجودات خارجية ومواد مادية..

ويقيم تلك القوانين الصادرة من العلم الإلـهي والكلام الرباني التي لـها وجود علمي فقط مقام القدرة الإلـهية، ويـملـّكها الـخلق والايـجاد، ويطلق عليها اسم ((الطبيعة))، متصوراً القوة التي هي تـجلٍ من تـجليات القدرة الربانية، انها صاحب قدرة فاعلة، وقديراً مستقلاً بذاته:

أفبعد هذا جهالة وغباء؟ اَوَ ليس هذا جهلاً باضعاف اضعاف ما في الـمثال؟!

الـخلاصة:

ان الطبيعة التي يتعلق بها الطبيعيون ذلك الأمر الـموهوم الذي ليس له حقيقة، إن كان ولابد أنها مالكة لوجود حقيقي خارجي فان هذا ((الوجود)) انـما هو:

صنعة صانع ولن يكون صانعاً، وهو نقشٌ ولن يكون نقاشاً، ومـجموعة احكام ولن يكون حاكماً، وشريعة فطرية ولن يكون شارعاً، وستار مـخلوق للعزة، ولن يكون خالقاً، وفطرة منفعلة ولن يكون فاطراً فاعلاً، ومـجموعة قوانين ولن يكون قادراً، ومِسطَر ولن يكون مصدراً.

وحاصل الكلام:

مادامت الـموجودات موجودةً فعلاً، والعقل يعجز عن تصور اكثر من اربعة طرق للوصول الى حدوث الـموجود – كما ذكرنا ذلك في الـمقدمة – وقد اثبتَ إثباتاً قاطعاً بطلان ثلاثة من تلك الطرق الاربعة، وذلك ببيان ثلاثة مـحالات ظاهرة جلية في كل منها، فلابد وبالضرورة والبداهة ان يثبت بيقين لاسبيل مطلقاً الى الشك فيه الطريق الرابع، وهو طريق الوحدانية ذلك الطريق الذي تنيره الآية الكريـمة: } أفيِ اللهِ شَكٌ فاطرِ السمواتِ والارضِ.. { (ابراهيم:10).

والتي تدل بداهةً ويقيناً على وجود واجب الوجود، وعلى ألوهيته الـمهيمنة، وعلى صدور كل شيء من يد قدرته، وعلى ان مقاليد السموات والارض بيده سبحانه وتعالى.

فيا عابد الاسباب!

ايها الـمسكين الـمفتون بالطبيعة!

مادامت طبيعة كل شيء مـخلوقة كالشيء نفسه، لأن تكونها مـحدثٌ – غير قديـم – وعليها علامة الصنعة والاتقان، وان سبب وجود هذا الشيء الظاهري هو ايضاً مصنوع حادثٌ. ولـما كان وجود أي شيء مفتقراً الى وسائل وآلات واجهزة كثيرة جداً..

فلابُدّ من قدير مطلق القدرة ليتخلق تلك الطبيعة في الشيء، ويُوجِد ذلك السبب له، ولابد ان يكون – هذا القدير الـمطلق القدرة – مستغنياً غناءً مطلقاً، فلا يشرك الوسائط العاجزة في أيـجاده للشيء وفي هيمنة ربوبيته عليه.

فـحاش لله ان يكون سواه القدير الـمستغني الـمتعال، بل هو سبحانه وتعالى يـخلق الـمسبـّب والسبب معاً من علوه خلقاً مباشراً، ويوجد بينهما سببية ظاهرية وصورية، ويقرن بينهما من خلال ترتيب وتنظيم، جاعلاً من الاسباب والطبيعة ستاراً ليد قدرته الـجليلة، وحجاباً لعظمته وكبريائه، ولتبقى عزتهُ منزهةً مقدسة في عليائها، ويجعل تلك الاسباب موضع الشكوى لـما يتراءى من نقائص، ولـما يتصور من ظلم ظاهري في الاشياء.

ايهما اسهل على الفهم، واقرب معقوليةً الى الذهن: تصور ((ساعاتي)) يصنع تروس الساعة ومعداتها، ثـم ينظمها على وفق ترتيب تروسها، ويوازن بين حركات عقاربها بدقة متناهية، ام ان نتصور الساعاتي يصنع في تروس الساعة وعقاربها ودقيق آلاتها ماكنة خارقة الفعال يُسلـّمُ صنع الساعة الى جمادية ايديها؟! قل معي: أليس هذا كلاماً فارغاً ومـحالاً وخارجاً عن حدود الامكان؟ فهيا خاطب انت عقلك الـمجحف وكن انت القاضي والـحكم.

وايهما يكون مستساغاً ومقبولاً في منطق العقل: تصور كاتب يخط كتاباً بنفسه بعد ان يحضر لوازم الكتابة؛ من مداد وقلم وورق، ام تصور ايـجاد ذلك الكاتب مطبعة خاصة بذلك الكتاب وهي اعقد وادق من الكتاب نفسه يترك لـها امر كتابة هذا الكتاب فيخاطبها قائلاً:

هيا اشرعي انت بكتابة الكتاب.. من دون تدخل من قبله؟

أليس مثل هذا التصور السقيم معضلاً عقلاً؟ ومشكلاً باضعاف امر الكتابة نفسها؟!

واذا قلت: ان أيـجاد مطبعة لطبع الكتاب اعقد واصعب من الكتاب نفسه، إلاّ أنّ ماكنة الـمطبعة، قادرة على اصدار الآف النسخ من الكتاب في مدة قصيرة.وهذا وسيلة التيسير.

الـجواب: ان البارىء الـمصور سبحانه قد خلق بقدرته الـمطلقة، بتجديد تـجليات اسـمائه الـحسنى واظهارها على اشكال مـختلفة، تشخصات الاشياء وملامـحها، الـخاصة بها، بـحث لا يشبه مـخلوق مـخلوقاً آخر تشابهاً تاماً ومتطابقاً قط، وهو كتابٌ صمداني، ومكتوبٌ رباني.

نعم، انه لاجل ان يفي كل مـخلوق بـمعاني وجوده، لابدّ ان يـملك سيماءً يعرف بها ويـخالف بها الآخرين، وملامح تباين ملامح غيره، فانظر ودقق النظر في وجه الانسان تَر ان علامات فارقة قد احتشدت في هذا الوجه الصغير، بـحيث تـميز هذه العلامات صاحبها عن جـميع الوجوه الاخرى الـمتتابعة منذ زمن آدم عليه السلام حتى اليوم، والى الابد، رغم التشابه والاتفاق في الـماهية الانسانية، والكينونة البشرية، وهذا واضح جلي وثابت قطعاً.

فملامح كلّ وجه كتابٌ خاص بالوجه نفسه، وهو كتابٌ مستقلٌ بذاته عن غيره.. فلاجل إخراج هذا الكتاب الـخاص، واتقان صنعه وتنظيمه، يستوجب الامر وجود مـجموعة ابـجدية كاملة من الـحروف، والـمناسبة حـجماً له، ويتطلب تنضيد هذه الـحروف في مواضعها من لوحة التنضيد، ليتم بعد ذلك مؤلف خاص بهذا الوجه يـخالف تأليف الاخرين.

ويلزم هذا الامر جلب مواد صنعه الـخاصة به، ثم وضعها في اماكنها الـمخصصة لـها، ثمّ إدراج كل مايلزم وجود هذا الوجه – في الوجه نفسه – من عناصر البناء. وهذا كله لاشك يـحتاج الى مصنع مستقل خاص به أي الى مطبعة خاصة في كل اشيائها لكل وجه من الوجوه!!

ثم الا تـحتاج هذه الـمطبعة الـخاصة – على فرض وجودها – الى تنظيم معين، وتنسيق مـخصوص، فأمر الطبع نفسه – دع عنك تنسيق الـحروف وترتيبها وتنظيمها – هو ايضاً بـحاجة الى تنظيم؟..

فالـمواد الـموجودة في جسم كل كائن حي هي اكثر تعقيداً وادق تنظيماً من مواد الـمطبعة وتنظيمها بـمئات الاضعاف، فـجلب هذه الـمواد من اقطار العالـم، ضمن حسابات معينة، وموازين دقيقة، ثم تنضيدها حسب مقتضيات الـحاجة اليـها، واخيراً وضعها تـحت يد تلك الـمطبعة… هذه السلسلة الطويلة من الاجراءات تـحتاج – اولاً وقبل كل شيء – الى موجد يوجد تلك الـمطبعة الـمفترضة، وليس هو الاّ القدرة الفاطرة للخالق القدير وارادته النافذة.

اذن فاحتمال كون الطبيعة كأنها مطبعة، خرافة فاضحة لا معنى لـها على الاطلاق..!!

وهكذا على غرار ما شاهدناه في مثال ((الساعة والكتاب)): ان الصانع ذا الـجلال وهو القادر على كل شيء، هو نفسه خالق الاسباب، وخالق الـمسبـّبات، وهو الذي يربط الـمسبـّبات بالاسباب بـحكمته سبحانه، وقد عين بإرادته طبيعة الاشياء، وجعلها مرآة عاكسة لتجليات الشريعة الفطرية الكبرى التي فطر عليها الكون، والتي هي قوانين الله وسننه الـجارية التي تـخص تنظيم شؤون الكون، وقد اوجد بقدرته وجه ((الطبيعة)) التي يقوم عليها عالـم الشهادة الـخارجي الوجود، ثم خلق الاشياء وانشأها على تلك الطبيعة ومازج بينهما بتمام الـحكمة.

والآن نـحيل الامر الى انصاف عقلك الـمجحف ليرى: ايهما يستسيغه عقلك ويسهل عليه الاعتقاد به؟ أهذه الـحقيقة الـمعقولة النابعة من براهين دامغة غير مـحدودة – وهي مُلزمة الى حدّ الوجوب – أم اعطاء ما يلزم للاشياء من اجهزة واعضاء لا تـحد، واسناد اعمالٍ تتسم بالـحكمة والبصيرة الى الشيء نفسه؟! او تنسيبها الى ما تسمونه بـ ((الطبيعة)) والاسباب التي هي مواد جامدة خالية من الشعور وهي مـخلوقة مصنوعة؟ أليست هذه خرافة مـمتنعة وخارجة عن نطاق الامكان؟

يـجيب عابد الطبيعة – ذلك الـجاحد – قائلاً: مادمت تدعوني الى الانصاف فانا اعترف: ان ما سلكناه من طريق مضلّ الى الآن مثلما انه مـحال بـمائة مـحال فهو مضر أيـما ضرر، وهو في منتهى القبح والفساد. إنَّ مَن كان له مسكة من عقل يدرك من مـحاكماتكم العقلية، وتـحقيقاتكم العلمية الـمسندة بالبراهين والـمذكورة آنفاً، ان اسناد الايـجاد والـخلق الى الاسباب والى الطبيعة مـمتنع عقلاً ومـحال قطعاً، بل الواجب والضروري الـملزم للعقل هو اسناد كل شيء مباشرة الى واجب الوجود سبحانه، فاحمد الله الذي هداني الى هذا الإيـمان.

ولكن بقيتْ لدىّ شبهة واحدة فقط وهي: انني أؤمن بالله ربـّاً وانه خالق كل شيء، ولكني أتساءل:

ماذا يضر عظمته سبحانه، وماذا يضر سلطانه جلّ وعلا، ان نتوجه ببعض الـمدح والثناء الى بعض الاسباب الـجزئية في ايـجادها الاشياء الصغيرة التافهة، فهل ينقص ذلك شيئاً من سلكانه سبحانه وتعالى؟!

والـجواب: كما اثبتنا في قسم من الرسائل إثباتاً قاطعاً:

ان شأن الـحاكمية ((ردّ الـمداخلة)) ورفضها كلياً، بل إن أدنى حاكم، او أي موظف بسيط لايقبل تدخلاً حتى من ابنه ضمن حدود حاكميته، بل ان توهم التدخل في الـحاكمية قد دفع بعض السلاطين الي قتل اولادهم الابرياء رغم انهم كانوا على شيء من التقوى والصلاح، مـمّا يظهر مدى اصالة هذا القانون – قانون ردّ الـمداخلة – في الـحاكمية، فهو سارٍ في كل شيء ابتداءً من متخاصمين في تسنم إدارة ناحية صغيرة الى سلطانين يتنازعان للتفرد بالسلطة في البلاد، وكذلك فقد اظهر – بـما لا يقبل الشك – ما يقتضيه استقلال الـحاكمية من قانون ((منع الاشتراك))، واوشح نفوذه وقوته خلال تاريخ البشرية الطويل، وما ادى اليه من اضطراب وقتل وتشريد وانهار من الدماء الـمهراقة.

تأمل في الانسان الذي هو عاجز عن ادارة نفسه ومفتقر الى التعاون مع الآخرين، ولايـملك من الـحاكمية والآمرية إلاّ ظِلاً باهتاً، فهو يردُّ الـمداخلة الى هذه الدرجة، ويـمنع تدخل الآخرين الى هذا الـحد، ويرفض مشاركة الآخرين في حاكميته، ويسعى بـما لديه من قوة للتشبث باستقلالية مقامه، تأمل في هذا، ثم انظر الى الـحاكم الـمطلق وهو مستوٍ على عرش الربوبية، والآمر الـمطلق وهو الـمهيمن بالالوهية، والـمستقل الـمطلق بالفردية والاحدية، وهو الـمستغني الـمطلق بقادرية مطلقة، ذلكم الله ربنا ذو الـجلال..

فكم يكون لازماً وضرورياً ((ردّ الـمداخلة)) هذه بالنسبة اليه، ومنع الاشتراك وطرد الشريك في حاكميته الـمطلقة، وكم هو من لوازم هذه الـحاكمية ومن اوجب وجائبها؟

فقايسْ الآن ووازن بين حاكمية الانسان الـمحدودة الضيقة الـمفتقرة الى الآخرين وحاكمية الله الـمطلقة الغنية الـهيمنة الشاملة.

أما الشق الثاني من شبهتك والذي هو:

اذا قُصِدَ ((بعض الاسباب)) ببعض العبادة من بعض الامور الـجزئية، فهل بنقص ذلك شيئاً من عبادة الـمخلوقات الـمتوجهة جـميعاً الى الله القدير، ابتداءً من الذرات وانتهاءً بالسيارات والـمجرّات؟!

الـجواب: ان الـخالق الـحكيم العليم سبحانه، قد خلق هذا الكون بـمثابة شـجرة، وجعل ارباب الشعور ثـمارها الكاملة، وكـّرم الانسان باعتباره اجـمع ثـمرة لأرباب الـمشاعر، وجعل الشكر والعبادة افضل ما تثمره حياة الانسان، بل هما – الشكر والعبادة - نتيجة خلقه وغاية فطرته وثـمرة حياته.

فهل يـمكن عقلاً لـهذا الـحاكم الـمطلق والآمر الفرد، وهو الواحد الاحد، أن يسلـّم امر الانسان الذي هو ثـمرة الكون كله الى غيره من ((الاسباب)) ويسلم ثـمرة حياته – وهي الشكر والعبادة – الى الآخرين، بعدما خلق الكون كله لـمعرفة ألوهيته، ولـمحبة ربوبيته، فهل يـمكن ان يـجعل نتيجة الـخلق، وثـمرة الكون تسقط بين اشداق عفونه العبث؟! حاش لله وكلا، سبحان الله عمـّا يشركون.

ثـم هل يـمكن ان يرضى سبحانه بـما يـخالف حكمته وربوبيته بـجعل بعض الاسباب مقصوداً لعبادة الـمخلوقات؟ علماً بأنه سبحانه وتعالى قد اشهر نفسه وعرّفها وحببها بافعاله وألطافه في هذا العالـم.

فكيف يرضى سبحانه – بعد هذا كله – ان يدع تـحبـّب افضل مـخلوقاته واكملهم عبودية وشكراً وحـمداً الى غيره من الـمخلوقات، وكيف يسمح لـمخلوقاته ان تنساه بعد أن اظهر بافعاله مقاصده السامية في الكون: وهي معرفته، ثـم عبادته؟ حاش وكلا، فسبحان الله عما يقولون علواً كبيراً.

ماذا تقول ايها الصديق بالذي سمعته آنفاً؟

وإذا به يـجيب فيقول:

الـحمد لله الذي سهل لي حل هاتين الشبهتين، فقد اظهرت لي في وحدانية الله، الـمعبود الـحق والـمستحق للعبادة وحده، ودليلين قويين ساطعين لا يـمكن انكارهما، وهل بنكر ضوء الشمس والنهار إلاّ مكابر معاند؟!









الـخاتـمة

يقول ((رجل الطبيعة)) وقد ترك وراءه فكره وتصوراته، ودخل ((حظيرة الإيـمان)) بفكر أيـماني جديد:

الـحمد لله.. اشهد أنّ شبهاتي قد زالت كلها، ولكن مازال في النفس ما يـحيرني ويثير الـمزيد من هواجسي، مـما يرد على خاطري من اسئلة لا اعرف جواباً عنها.

السؤال الاول:

نسمع من كثير من الكسالى الـمتقاعسين عن العبادات، ومن تاركي الصلاة بـخاصة، انهم يقولون:

ما حاجة الرب سبحانه وتعالى – الغني بذاته – الى عبادتنا حتى يزجرنا في محكم كتابه الكريـم، ويتوعدنا بأشد العذاب في نار جهنم، فكيف يتساوق هذا الاسلوب – التهديدي الصاعق في مثل هذا الـخطأ الـجزئي التافه – مع اسلوبه الاعجازي اللين الـهاديء الرقيق في الـمواضع الاخرى؟

الـجواب: حقاً ان الله سبحانه وتعالى – الغني بذاته – لا حاجة له قط الى عبادتك انت – ايها الانسان – بل هو سبحانه لا حاجة له لشيء قط، ولكنك انت الـمحتاج الى العبادة، وانت الـمفتقر اليها.

فأنت مريض معنى، والعبادة هي البلسم الشافي لـجراحات روحك، واوجاع ذاتك، وقد اثبتنا هذا الكلام في عديد من الرسائل.

ترى لو خاطب مريضٌ طبيباً رحـيماً يشفق عليه ويصر عليه ليتناول دواءً شافياً يـخص مرضه، لو خاطبه تـجاه اصراره عليه قائلاً: ما حاجتك انت الى هذا الدواء حتى تلح عليّ هذا الالـحاح الشديد بتناول الدواء؟ الا يفهم من كلامه مدى تفاهته وسخفه وغباء منطقه؟

اما نذير القرآن الكريـم فيما يـخص ترك العبادة وتهديده الـمخيف بعقاب اليم، فاليك تفسيره:

فكما ان سلطاناً يعاقب شخصاً سافلاً يرتكب جريـمةً تـمس حقوق الآخرين بعقاب صارم لاجل الـحفاظ على حقوق رعاياه، كذلك سلطان الازل والابد يعاقب تارك العبادة والصلاة عقاباً صارماً، لانه يتجاوز تـجاوزاً صارخاً على حقوق الـموجودات ويظلمها ظلماً معنوياً بشعاً ويهضم حقوقها هضماً مـجحفاً، تلك الـموجودات التي هي رعاياه وخلقه. وذلك لان كمالاتها تتظاهر على صورة تسبيح وعبادة في وجهها الـمتوجه الى البارىء الـحكيم سبحانه. فتارك العبادة لا يرى عبادة الـموجودات ولن يراها، بل ينكرها وفي هذا بـخس عظيم لقيمة الـموجودات التي كلّ منها مكتوب سامٍ صمداني، قد خطّ بأيات العبادة والتسبيح وهو متوجه باياته وتسبيحه نـحو الـموجد الـخالق جلّ وعلا.. وكل منها – ايضاً – مرآة لتجلي الاسـماء الربانية الـمشعة بالانوار.. فينزل هذه الـموجودات - بهذا الانكار - من مقامها الرفيع السامي، ولايرى في وجودها سوى العبث الخالي من المعنى، ويـجردها من وظائفها الـخلقية، ويظنها شيئاً هادماً ضائعاً لا اهمية له، فيكون بذلك قد استهان بالـموجودات واستخف بها، واهان كرامتها وانكر كمالاتها، وتعدى على مصداقية وجودها.

نعم، ان كل انسان انـما ينظر الى الكون بـمنظاره الـخاص وعلى وفق ما تصوره له مرآته الـخاصة، فلقد خلقه البارىء الـمصور سبحانه على صورة يستطيع قياس الكون عليها، ويزنه بـميزانها. فمنحه عالـماً خاصاً به من هذا العالـم العظيم فيصطبغ عالـمه الـخاص بـحسب ما يتعقده الانسان من عقيدة في قلبه.

فالانسان الـحزين اليائس الباكي يرى الـموجودات باكية بائسة، بينما السعيد الـجذلان يراها مبتسمة ضاحكة ومسرورة.

كذلك الذي يؤدي العبادة والاذكار بصورة جادّة ويشعور تام وبتفكر وتأمل، فانه يكشف شيئاً من عبادة الـموجودات وتسابيحها بل قد يراها وهي حقيقة موجودة ثابتة اما الذي يترك العبادة غافلاً او منكراً لـها فأنه يتوهم الـموجودات توهماً خاطئاً جداً ومنافياً كلياً ومـخالفاً تامة لـحقيقة كمالاتها، فيكون متعدياً على حقوقها معنىً.

زد على ذلك، فان تارك الصلاة يظلم نفسه كذلك بتركه الصلاة، حيث انه غير مالك لذات نفسه، فهي – أي النفس – عبد مـملوك لدى مالكها ومولاها وخالقها وفاطرها، لذا ينذره مولاه الـحق انذاراً شديداً ويهدده بعنف ليأخذ حقّ عبده ذاك من نفسه الامارة بالسوء، فضلاً عن انه عندما ترك العبادة التي هي نتيجة خلقته وغاية فطرته يكون متجاوزاً حدّه تـجاه الـحكمة الإلـهية والـمشيئة الربانية، لذا يعاقب على هذا عقاباً شديداً.

نـحصل مـما تقدم:

ان تارك العبادة مثلما انه يظلم نفسه، والنفس مـملوك الـحق سبحانه وعبده فهو يتعدى على حقوق كمالات الكائنات ويظلمها ايضاً. نعم، فكما ان الكفر استهانة بالـموجودات واستخفاف بها، فترك العبادة انكار لكمالات الكائنات، وتجاوزٌ على الـحكمة الإلـهية، لذا يستحق تاركها تهديداً عنيفاً، وعقاباً صارماً.

ومن هنا يـختار القرآن الكريـم اسلوب التهديد والانذار ليعبر عن هذا الاستحقاق وعن هذه الـحقيقة الـمذكورة آنفاً، فيكون الاسلوب حقاً ومطابقاً تـماماً لـمقتضى الـحال الذي هو البلاغة بعينها.

السؤال الثاني:

يقول صاحبنا الذي نبذ فكرة ((الطبيعة)) وتبرأ منها، وشَرُفَ بالإيـمان بالله:

إن انقياد كل موجود، في كل شأن من شؤونه، وفي كل جزء من جزئياته، وفي كل ما يقوم به وينجزه، انقياداً مطلقاً للمشيئة الإلـهية، والقدرة الربانية، هو حقيقة عظيمة جليلة، فهي لعظمتها وسعتها لاتستوعبها اذهاننا الكليلة القاصرة، علماً اننا نطالع عياناً وفرةً متناهيةً من الـموجودات، وسهولة مطلقة في خلق الاشياء، وقد تـحققت ((السهولة في الايـجاد)) التي هي من مستلزمات ((الوحدانية)) بـما اقمتموه من براهين وحـجج قاطعة، فضلاً عن أن، القرآن الكريـم قد قرر السهولة الـمطلقة صراحة في آيات كريـمة كثيرة امثال:

} مَا خَلقُكمْ ولا بَعثُكمْ الاّ كنفَسٍ واحدةٍ { (لقمان:28)

} ومَا اَمرُ الساعَةِ إلاّ كلـمحِ البَصرِ او هوَ اقرَبُ { (الـنحل:77).

كل ذلك يـجعل تلك الـحقيقة العظيمة ((سهولة الايـجاد)) مسألة مقبولة جداً ومستساغة عقلاً، فأين يكمن سرُّ هذه السهولة ياترى وما الـحكمة من ورائها؟

الـجواب: لقد وضح ذلك السرّ وضوحاً تامـّاً ومقنعاً في ((المكتوب العشرين)) عند شرحه الآية الكريـمة: } وَهُوَ على كُلِ شَيءٍ قَديرٌ { بـما يفي بالغرض، وبـخاصة في ذيله، حيث جاء التوضيح وافياً وشافياً جداً، ومقنعاً بالدليل والبرهان والاثبات القاطع، وخلاصته.

عندما يسند ايـجاد الـموجودات جميعها الى الصانع الواحد، يسهل الامر كسهولة أيـجاد مـخلوق واحد، بينما اذا اسند للكثرة يصعبُ - على هذه الكثرة – امر أيـجاد مـخلوق واحد بقدر صعوبة ايـجاد جـميع الـموجودات .. فيكون خلق بذرة واحدة صعباً ومشكلاً كـخلق شـجرة.. ولكن اذا اسند ((الايـجاد)) الى صانعه الـحق سبحانه، يسهل الامر حتى يصبح أيـجاد الكائنات كلـها كايـجاد شـجرة واحدة، والشـجرة كالبذرة، والـجنة كالربيع، والربيع كالزهرة، فالامر يسهل ويكون هيناً.

وسنشير هنا اشارة مـختصرة الى دليل او دليلين من بين مئات الادلة التي اوضحناها بالتفصيل في رسائل اخرى، تلك الادلة التي تبين ما يدور من الاسرار والـحكم الكامنة فيما نشاهده من وفرة الـموجودات التي لاحصر لـها ورخصها، وكثرة افراد كل نوع منها، وورودها الى الوجود منتظمةً، متقنةً، وبكل سهولة ويسر.

مثال هذا: إن ادارة مائة جندي تـحت إمرة ضابط واحد، اسهل بـمائة ضعف من ادارة جندي واحد تـحت إمرةمائة ضابط.

وعندما يُودَعُ أمرُ تـجهيز جيش كامل باللوازم العسكرية، من مركز واحد، وبقانون واحد، ومن مصنع واحد، الى امرٍ يصدره قائد واحد، فان ذلك يكون سهلاً وهيناً من حيث الكمية والوفرة، بسهولة تـجهيز جندي واحد.

بينما يكون ايداع أمر تـجهيز جندي واحد باللوازم العسكرية الكاملة من مراكز متعددة ومصانع متعددة، الى قواد عديدين مشكلاً وصعباً من حيث الكمية والوفرة ايضاً بصعوبة تـجهيز جيش كامل. اذ ينبغي عندئذ وجود مصانع كثيرة للتـجهيزات بعدد ما يلزم جيشاً كاملاً، لاجل تـجهيز الـجندي الواحد.

ويشاهد ايضاً ان الشـجرة الواحدة، التي تتزود بالـمواد الضرورية لـها من جذر واحد، ومن مركز واحد، وعلى وفق قانون واحد، تثـمر الوف الثـمرات، ويتم ذلك بسهولة ويسر كأن للشجرة ثـمرة واحدة. بينما اذا استبدلت الكثرة بالوحدة، وسلك طريق الكثرة عوضاً عن طريق الوحدة، فزوّدت كل ثـمرة بالـمواد الضرورية للـحياة من مراكز مـختلفة، وجذور متباينة، يكون أيـجاد ثـمرة واحدة مشكلا وصعباً كايـجاد الشجرة نفسها، بل قد يكون ايـجاد البذرة التي هي أنـموذج الشـجرة وفهرستها – صعباً ومعضلاً كايـجاد الشجرة نفسها. لان ما يلزم حياة الشـجرة من مواد ضرورية يلزم البذرة ايضاً.

فهناك الـمئات من امثال هذه الامثلة، وكلها تبين: ان ورود الوف الـموجودات بسهولة مطلقة الى الوجود – في الوحدة – اسهل من ورود موجود واحد الى الوجود بالتعدد والكثرة.

ولـما كنا قد اثبتنا هذه الـحقيقة في رسائل اخرى بيقين قاطع نـحيل اليها، ولكننا نبين هنا فقط سراً عظيماً يتعلق بهذه السهولة واليسر من زاوية نظر العلم الإلـهي، والقدر الإلـهي، والقدرة الربانية، وهذا السر هو:

انت موجود من الـموجودات فاذا سلـّمتَ نفسك الى يد القدير الـمطلق القدرة، فانه يـخلقك بأمر واحد وبقدرته الـمطلقة بلمح البصر من العدم، من غير شيء. ولكن ان لـم تسلم نفسك اليه، بل اسندتها الى ((الطبيعة)) واسلمتها الى الاسباب الـمادية، فيلزم عندئذ لايـجادك انت، عملية بـحث دقيق – لـجمع جـميع الـمواد التي في وجودك – في اقطار العالـم كله، والتفتيش عنها في زوايا الكون كله، وامرارها في مصاف واختبارات دقيقة جداً، ووزنها بـموازين حساسة، ذلك لانك خلاصة منتظمة للكون، وثـمرته اليانعة، وفهرسته الـمصغرة، ومـحفظته الـمنطوية على مواد الكون كله.

لأن الاسباب الـمادية ليس لـها الاّ التركيب والـجمع، اذ هو ثابت لدى ارباب العقول انه لا يـمكن للأسباب الـمادية أيـجاد ما لا يوجد فيها، من العدم ومن غير شيء، لذا فهي مضطرة الى جـمع الـمواد اللازمة لـجسم كائن حي صغير من اقطار العالـم كله.

فافهم من هذا مدى السهولة الـمطلقة في الوحدة والتوحيد. ومدى الصعوبات والـمشكلات في الشرك والضلالة.

ثانيها:

ان هناك سهولة مطلقة في الـخلق والايـجاد تنبع من زاوية نظر ((العلم الإلـهي)) وتفصيلها كالآتي:

ان القدر الإلـهي هو نوع من العلم الإلـهي، يعيـّن مقدار كل شيء كأنه قالب معنوي له وخاص به، فيكون ذلك الـمقدار القَدَري بـمثابة خطّة لذلك الشيء، وبـحكم ((موديل)) انـموذج له، فعندما توجده ((القدرة الإلـهية)) توجده على ذلك الـمقدار القدري بكل سهولة ويسر.

فان لـم يُنسب ايـجاد ذلك الشيء الى مَن له علم مـحيط مطلق ازلي وهو الله القدير ذو الـجلال لاتـحصل الوف الـمشكلات فـحسب، بل تقع مئات الـمحالات ايضاً – كما ذكر آنفاً – لانه إن لـم يكن هناك ذلك الـمقدار القدري، والـمقدار العلمي، يلزم استعمال ألوف القوالب الـمادية والـخارجية للـجسم الصغير للـحيوان!

فافهم من هذا سراً من اسرار السهولة الـمطلقة في الوحدة والتوحيد وكثرة الـمشكلات غير الـمتناهية في التعدد والكثرة والشرك.

واعلم مدى الـحقيقة السامية الصائبة التي تعبر عنها الآية الكريـمة: } ومَا اَمرُ الساعَةِ إلاّ كلـمحِ البَصرِ او هوَ اقرَبُ { (الـنحل:77).

السؤال الثالث:

يقول الذي كان يعادي سابقاً ووُفـّق الى الإيـمان الآن واهتدى:

مابال بعض الفلاسفة الـمغالين في عصرنا هذا يطلقون مقولة: ((لا يُستحدث شيء من العدم ولايفنى شيء من الوجود)) وان مايدير هذا الكون، انـما هو تركيب الـمادة وتـحليلها ليس الاّ!

الـجواب:

ان هؤلاء الفلاسفة الذين لـم يتسنّ لـهم النظر الى الـموجودات بنور القرآن الـمبين، عندما نظروا اليها بـمنظار ((الطبيعة)) و ((الاسباب)) توصلوا الى ان وجود هذه الـموجودات، وافتراض تشكلها بعوامل ((الطبيعة)) و ((الاسباب) مسألة تطرح مشكلات عويصة بدرجة الامتناع – على غرار ما ذكرناه في بيان الاحتمالات ومـحالاتها – فانقسم هؤلاء الفلاسفة إزاء هذه العقبة الكأداء الى قسمين:

قسم منهم صاروا سوفسطائيين وعافوا العقل الذي هو خاصة الانسان وسقطوا الى درك أدنى من الـحيوانات، اذ وصل بهم امر فكرهم الى انكار الوجود عموماً، بل حتى انكار وجودهم، وذلك عندما رأوا ان هذا الانكار اجدى على العقل وايسر عليه واسلم من تصور ((الطبيعة) و((الاسباب)) مالكة لزمام الايـجاد، فانكروا وجود انفسهم ووجود الـموجودات جـميعاً، فسقطوا في هاوية الـجهل الـمطلق.

اما القسم الثاني: فقد نظروا الى الـموجودات انها لو سلـّم ايـجادها الى ((الاسباب)) و((الطبيعة)) كما هو شأن اهل الضلالة فان ايـجاد شيء صغير جداً كالبعوضة او البذرة فيه من الـمشكلات مالا يـحد، ويقتضي قدرة عظيمة لا يبلغ مداها العقل، فوجدوا انفسهم مضطرين الى انكار ((الايـجاد)) نفسه، فقالوا: ((لايستحدث شيء من العدم)) ورأوا ان اعدام الشيء مـحال ايضاً فقرروا انه ((لايفنى الـموجود)). وتـخيلوا جـملة من الاوضاع الاعتبارية ساريةً ما بين تـحليل وتركيب وتفريق وتـجميع، ناتـجة عن حركات الذرات، وسيل الـمصادفات!

فتأمل في هؤلاء الذين يظنون انفسهم في ذروة العقل، قد سقطوا في حضيض من الـحماقة والـجهل، واعلم من هذا كيف تضع الضلالة هذا الانسان الـمكـرّم – حين يلغي ايـمانه – موضع سخرية وازدراء من كل احد..

وبدورنا نسأل هؤلاء:

ترى كيف يـمكن استبعاد ايـجاد شيء ما من القدرة الـمطلقة التي توجدُ على سطح الارض في كل سنة اربـعمائة الف نوع من الاحياء؟ والتي خلقت السموات والارض في ستة ايام؟ والتي تنشىء في كل ربيع تـحت بصر الانسان وسـمعه، على سطح الارض كوناً حياً من النبات والـحيوان هو اظهر اتقاناً واجلى حكمةً من الكون كله، في ستة اسابيع؟ كيف يستبعد منها ان تـخلق الـموجودات العلمية – التي تعينت خططها ومقاديرها ضمن دائرة العلم الازلي – فتخلقها بسهولة مطلقة سهولة اظهار الكتابة غير الـمنظورة بإمرار مادة كيمياوية عليها. فاستبعاد إضفاء الوجود الـخارجي على الـموجودات العلمية – والتي هي معدومات خارجياً – من تلك القدرة الازلية، ثـم انكار الايـجاد نفسه لـهو حـمافة وجـهالة اشد من حـماقة السوفسطائيين الـمعروفين وجـهالتهم!

وحيث ان نفوس هؤلاء التعساء الـمتفرعنة العاجزة عجزاً مطلقاً والتي لا تـملك إلاّ جزءاً يسيراً من الاختيار غير قادرة على إفناء أي شيء كان واعدامه، وايـجاد اية ذرة كانت او مادة من غير شيء ومن العدم.. ولـما كانت الطبيعة والاسباب التي يـفخرون بعبوديتهم لـها عاجزة هي الاخرى وليس في طوقها امر ((الايـجاد)) من غير شيء.. نراهم يصدرون حـكماً عاماً: ((ان الـمادة لاتفنى ولا تستحدث)) ويـحالون ان يعمموا حكم هذه القاعدة الباطلة الـخاطئة حتى على قدرة القدير الـمطلق القدرة سبحانه.

نعم، ان القدير الـطلق ذا الـجلال له طرازان من الايـجاد:

الاول:

هو بالاختراع والابداع، أي انه سبحانه يبْدع الوجود من العدم إبداعاً من غير شيء، ويوجِدُ كل ما يلزم – هذا الوجود – من اشياء من العدم ويسلـّمها اياه.

الاخر:

هو بالانشاء والصنعة والاتقان. أي ينشىء قسماً من الـموجودات من عناصر الكون نفسه، إظهاراً لكمال حكمته، وتبياناً لـجليات اسـمائه الـحسنى.. وامثالـها من الـحكم الدقيقة، فيرسل الى تلك الـموجودات الذرات والـمواد الـمنقادة الى اوامره ضمن سنن الرزاقية الكونية، ويسخرها لـها ليكمل انشاء هذا الوجود، وهكذا فالقدير الـمطلق القدرة له اسلوبان من الايـجاد وصورهما:

الابداع.. والانشاء..

فإفناء الـموجود، وايـجاد الـمعدوم، امر سهل جداً لديه، وهيـّنٌ جداً بل هو قانونه الدائم العام.

فالذي يستبعد من القدرة الفاطرة التي تـخلق من العدم ثلاث مائة الف نوع من الـمخلوقات والاحياء، وتـمنحها اشكالـها وصفاتها وكيفياتها واحوالـها مـما سوى ذراتها. ويقول: ((انها لن تقدر على ايـجاد الـمعدوم)) لابد ان يهوي في ظلمة العدم.

بقول الذي نَبَذَ ((الطبيعة)) ونفذ الى طريق الـحقيقة:

الـحمد لله حـمداً كثيراً بعدد الذرات، الذي وفقني للفوز بكمال الإيـمان، وانقذني من الاوهام والضلالات، فزالت بفضله جـميع ما لديّ من شبهات وريب.

الـحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيـمان

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:38 PM

رد: اللمعات
 
اللمعة الرابعة والعشرون

رسالة الـحجاب

كانت هذه هي الـمسألة الثانية والثالثة من ((الـمذكرة الـخامسة عشرة)) الا ان اهميتها جعلتها ((اللمعة الرابعة والعشرين)).

بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيم

} يا أيُها النَبيُّ قُل لأزواجِكَ وبَنَاتكَ ونسَاء الـمؤمنينَ يُدنينَ عَليهِنَ من جَلابيبهن{ (الاحزاب:59)

هذه الآية الكريـمة تأمر بالـحجاب، بينما تذهب الـمدنية الزائفة الى خلاف هذا الحكم الرباني، فلا ترى الـحجاب أمر فطرياً للنساء، بل تعده اسراً وقيداً لـهن(1).

وسنبين جواباً اربعاً من الـحكم فقط من بين حكم غزيرة دالة على كون هذا الـحكم القرآني تقتضيه فطرة النساء وخلافه غير فطري.

الـحكمة الاولى:

ان الـحجاب امر فطرى للنساء، تقتضيه فطرتهن، لان النساء جُبلـْن على الرقة والضعف، فيجدن في انفسهن حاجة الى رجل يقوم بـحمايتهن وحـماية اولادهن الذين يؤثرنهم على انفسهن، فهن مسوقات فطريا نـحو تـحبيب انفسهن للاخرين وعدم جلب نفرتهم وتـجنب جفائهم واستثقالـهم.

ثم، ان ما يقرب من سبعة اعشار النساء: اما متقدمات في العـمر، او دميمات لا يرغبن في اظهار شيبهن او دمامتهن، او أنهن يـحملن غيرة شديدة في ذواتهن يـخشن ان تفضل عليهن ذوات الـحسن والـجمال، او أنهن يتوجسن خيفة من التجاوز عليهن وتعرضهن للتهم.. فهؤلاء النساء يرغبن فطرة في الـحجاب حذراً من التعرض والتجاوز عليهن وتـجنباً من ان يكن موضع تهمة في نظر أزواجهن، بل نـجد ان الـمسنات احرص على الـحجاب من غيرهن.

وربـما لا يتجاوز الاثنتين او الثلاث من كل عشر من النساء هن: شابات وحسناوات لايتضايقن من ابداء مفاتنهن اذ من الـمعلوم ان الانسان يتضايق من نظرات من لايـحبه. وحتى لو فرضنا ان حسناء جميلة ترغب في ان يراها اثنان او ثلاثة من غير الـمحارم فهي حتما تستثقل وتنزعج من نظرات سبعة او ثـمانية منهم، بل تنفر منها.

فالـمرأة لكونها رقيقة الطبع سريعة التأثر تنفر حتماً – ما لـم تفسد اخلاقها وتتبذّل – من نظرات خبيثة تصوب اليها والتي لـها تأثير مادي كالسم – كما هو مـجرب – حتى اننا نسمع: أن كثيرا من نساء اوروبا وهي موطن التكشف والتبرج، يشكين الى الشرطة من ملاحقة النظرات اليهن قائلات: ان هؤلاء السفلة يزجوننا في سجن نظراتهم!

نـخلص مـما تقدم:

ان رفع الـمدنية السفيهة الـحجاب وافساحها الـمجال للتبرج يناقض الفطرة الانسانية. وان امر القرآن الكريـم بالـحجاب – فضلاً عن كونه فطرياً – يصون النساء من الـمهانة والسقوط، ومن الذلة والاسر الـمعنوي ومن الرذيلة والسفالة، وهن معدن الرأفة والشفقة والرفيقات العزيزات لازواجهن في الأبد.

والنساء – فضلاً عما ذكرناه – يـحملن في فطرتهن تـخوفاً من الرجال الاجانب وهذا التـخوف يقتضي فطرة التحجب وعدم التكشف، حيث تتتنغص لذة غير مشروعة لتسع دقائق بتحمل اذى حـمل جنين لتسعة اشهر، ومن بعده القيام بتربية ولد لا حامي له زهاء تسع سنين! ولوقوع مثل هذه الاحتمالات بكثرة تتخوف النساء فطرة خوفاً حقيقياً من غير الـمحارم. وتتجنبهم جبلة، فتنبهها خلقتها الضعيفة تنبيها جادا، الى التحفظ وتدفعها الى التستر، ليحول دون اثارة شهوة غير الـمحارم، وليمنع التجاوز عليها، وتدلـها فطرتها على ان حـجابها هو قلعتها الـحصينة وخندقها الامين.

ولقد طرق سمعنا: ان سباغ أخذية قد تعرض لزوجة رجل ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة الـمفاتن، وراودها نهاراً جهاراً في قلب العاصمة ((انقرة)) ! أليس هذا الفعل الشنيع صفعة قوية على وجوه اولئك الذين لا يعرفون معنى الـحياء من اعداء العفة والـحجاب؟

الـحكمة الثانية:

إن العلاقة الوثيقة والـحب العميق بين الرجل والـمرأة ليسا ناشئين عما تتطلبه الـحياة الدنيا من الـحاجات فـحسب، فالمرأة ليست صاحبة زوجها في حياة دنيوية وحدها، بل هي رفيقته ايضاً في حياة ابدية خالدة.

فما دامت هي صاحبته في حياة باقية فينبغي لـها ألاّ تلفت نظر غير رفيقها الابدي وصديقها الـخالد الى مفاتنها، وألا تزعجه، ولا تـحمله على الغضب والغيرة.

وحيث ان زوجها الـمؤمن، بـحكم ايـمانه لا يـحصر مـحبته لـها في حياة دنيوية فقط ولا يوليها مـحبة حيوانية قاصرة على وقت جـمالـها وزمن حسنها، وانـما يكنّ لـها حباً واحتراماً خالصين دائمين لا يقتصران على وقت شبابها وجـمالـها بل يدومان الى وقت شيخوختها وزوال حسنها، لأنها رفيقتها في حياة ابدية خالدة.. فإزاء هذا لابد للمرأة ايضاً أن تـخص زوجها وحده بـجمالـها ومفاتنها وتقصر مـحبتها به، كما هو مقتضى الانسانية، وإلاّ ستفقد الكثير ولا تكسب الا القليل.

ثم ان ما هو مطلوب شرعاً: ان يكون الزوج كفوءا للمرأة، وهذا يعني ملاءمة الواحد للآخر ومـماثلتهما، واهم ما في الكفاءة هذه هي كفاءة الدين كما هو معلوم.

فما اسعد ذلك الزوج الذي يلاحظ تدين زوجته ويقوم بتقليدها، ويصبح ذا دين، لئلا يفقد صاحبته الوفية في حياة ابدية خالدة!

وكم هي مـحظوظة تلك الـمرأة التي تلاحظ تدين زوجها وتـخشى ان تفرط برفيق حياتها الامين في حياة خالدة، فتتمسك بالإيـمان والتقوى.

والويل ثم الويل لذلك الرجل الذي ينغمس في سفاهة تفقده زوجته الطبية الصالـحة.

ويا لتعاسة تلك الـمرأة التي لا تقلد زوجها التقي الورع، فتخسر رفيقها الكريـم الابدي السعيد.

والويل والثبور لذينك الزوجين الشقيين اللذين يقلدان بعضهما البعض الآخر في الفسوق والفحشاء، فيتسابقان في دفع احدهما الآخر في النار.

الـحكمة الثالثة:

ان سعادة العائلة في الـحياة واستمرارها انـما هي بالثقة الـمتبادلة بين الزوجين، والاحترام اللائق والود الصادق بينهما، الا أن التبرج والتكشف يـخل بتلك الثقة ويفسد ذلك الاحترام والـمحبة الـمتبادلة. حيث تلاقي تسعة من عشرة متبرجات امامهن رجالاً يفوقون ازواجهن جـمالاً، بينما لاترى غير واحدة منهن مَن هو اقل جـمالاً من زوجها ولا تـحبب نفسها اليه. والامر كذلك في الرجال فلا يرى الاّ واحدٌ من كل عشرين منهم مَن هي اقل جـمالاً من زوجته، بينما الباقون يرون امامهم من يفقن زوجاتهن حسنا وجـمالا. فهذه الـحالة قد تؤدي الى انبعاث احساس دنىء وشعور سافل قبيح في النفس فضلاً عما تسببه من زوال ذلك الـحب الـخالص وفقدان ذلك الاحترام، وذلك:

ان الانسان لايـمكنه ان يـحمل فطرة شعوراً دنيئاً حيوانياً تـجاه الـمحارم – كالاخت – لان سيماء الـمحارم تشعر بالرأفة والـمحبة الـمشروعة النابعين من صلة القربى. فهذا الشعور النبيل يـحدّ من ميول النفس الشهوية، الا أن كشف ما لايـجوز كشفه كالساق، قد يثير لدى النفوس الدنيئة حساً سافلاً خبيثاً لزوال الشعور بالـحرمة، حيث ان ملامح الـمحارم تشعر بصلة القرابة، وكونها مـحرماً وتتميز عن غيرهم، لذا فكشفُ تلك الـمواضع من الـجسد يتساوى فيه الـمحرم وغيره، لعدم وجود تلك العلامات الفارقة التي تستوجب الامتناع عن النظر الـمحرّم، ولربـما يهيج لدى بعض الـمحارم السافلين هوى النظرة الـحيوانية! فمثل هذه النظرة سقوط مريع للانسانية تقشعر من بشاعتها الـجلود.

الـحكمة الرابعة:

من الـمعلوم أن كثرة النسل مرغوبة فيها لدى الـجميع، فليس هناك امة ولا دولة لاتدعو الى كثرة النسل، وقد قال الرسول الكريـم e : ((تناكحوا تكثروا فاني أباهي بكم الامـم يوم القيامة))(1). بيد ان رفع الـحجاب وافساح الـمجال امام التبرج والتكشف يـحد من الزواج، بل يقلل من التكاثر كثيراً، لان الشاب مهما بلغ فسوقه وتـحلله، فانه يرغب في ان تكون صاحبته في الـحياة مصونة عفيفة، ولا يريدها ان تكون مبتذلة متكشفة مثله، لذا تـجده يفضل العزوبة على الزواج. وربـما ينساق الى الفساد. اما الـمرأة فهي ليست كالرجل حيث لاتتمكن من ان تـحدد اختيار زوجها.

والـمرأة من حيث كونها مدبرة لشؤون البيت الداخلية، ومأمورة بالـحفاظ على اولاد زوجها وامواله وكل ما يـخصه، فان اعظم خصالـها هي: الوفاء والثقة. الا ان تبرجها وتكشفها يفسد هذا الوفاء ويزعزع ثقة الزوج بها، فتجرع الزوج آلاماً معنوية وعذاباً وجدانياً.

حتى ان الشجاعة والسخاء وهما خصلتان مـحمودتان لدى الرجال اذ ما وجدتا في النساء عدتا من الاخلاق الـمذمومة، لاخلالـهما بتلك الثقة والوفاء، اذ تفضيان الى الوقاحة والاسراف. وحيث ان وظيفة الزوج غير قاصرة على الائتمان على اموالـها، وعلى الارتباط بها بل تشمل حـمايتها والرحـمة بها والاحترام لـها فلا يلزمه ما يلزم الزوجة، أي لا يقيد اختياره بزوجة واحدة، ويـمكنه ان ينكج غيرها من النساء.

ان بلادنا لاتقاس ببلدان اوروبا، فهناك وسائل صارمة للـحفاظ – الى حد ما – على الشرف والعفاف في وسط متبرج متكشف، منها الـمبارزة وامثالـها، فالذي ينظر بـخبث الى زوجة احد الشرفاء عليه ان يعلق كفنه في عنقه مقدماً. هذا فضلاً عن ان طبائع الاوروبيين باردة جامدة كمناخهم. اما هنا في بلاد العالـم الإسلامي خاصة فهي من البلدان الـحارة قياسا الى اوروبا، ومعلوم مدى تأثير البيئة في اخلاق الانسان. ففي تلك الاصقاع الباردة، ولدى أناس باردين قد لايؤدي التبرج الذي يثير الهوى الـحيوانى ويهيج الرغبات الشهوانية الى تجاوز الـحدود مثلما يؤدي الى الافراط والاسراف في اناس حساسين يثارون بسرعة في الـمناطق الـحارة.

التبرج وعدم الـحجاب الذي يثير هوى النفس، ويطلق الشهوات من عقالـها يؤدي حتما الى الافراط وتـجاوز الـحدود والى ضعف النسل وانهيار القوى. حيث ان الرجل الذي يـمكنه ان يقضي وطره الفطري في شهر او في عشرين يوما يظن نفسه مضطرا الى دفعه كل بضعة ايام. وحيث ان هناك عوارض فطرية – كالـحيض – تـجنبه عن اهله وقد تطول خـمسة عشر يوما، تراه ينساق الى الفحش ان كان مغلوبا لنفسه.

ثم ان اهل الـمدن لا ينبغي لهم انّ يقلدوا اهل القرى والارياف في حياتهم الاجتماعية ويرفعوا الـحجاب فيما بينهم، لان اهل القرى يشغلهم شاغل العيش وهم مضطرون الى صرف جهود بدنية قوية لكسب معيشتهم، وكثيرا ما تشترك النساء في اشغال متعبة، لذا لا يهيج ما قد ينكشف من اجزاء اجسامهن الـخشنة شهوات حيوانية لدى الآخرين، فضلاً عن انه لا يوجد في القرى سفهاء عاطلون بقدر ما هو موجود في الـمدن. فلا تبلغ مفاسدها الى عشر ما في الـمدينة، لـهذا لا تقاس الـمدن على القرى والارياف.









[ مسألة مهمة اخطرت على القلب فجأة ]

تنبيـه:

ان دأب رسائل النور في الـخطاب هو الرحـمة والشفقة والرأفة، لذا يرتبط معها النساء اللاتي يتميزن بالشفقة والـحنان اكثر من الرجال. اما هذا الـبحث فانه موجه الى اللاتي يقلدن الاجنبيات تقليداً اعمى، لذا تبدو فيه الشدة في الكلام، وليس ذلك الا لتنبيه الغافلات وايقاظهن. أما اخواتنا رائدات الشفقة والـحنان فنرجو الا تشغلهن شدته في الكلام.

يُفهم من رويات الاحاديث النبوية ان النساء وفتنتهن ستؤدى أخطر دور وأرهبه في فتنة آخر الزمان.

نعم، كما تنقل لنا كتب التاريخ: انه كانت في القرون الاولى طائفة من النساء اشتهرن بالشجاعة وحـمل السلاح يعرفن بـ (نساء الامازون) حتى تشكلت منهن فرقة عسكرية اقتحمت حروباً ضارية، كذلك في عصرنا هذا، لدى تصدى ضلالة الزندقة للإسلام وحربها معه فان أرهب فرقة من الفرق الـمغيرة على الإسلام والتي تسير وفق مخطط النفس الامارة بالسوء، وسلمت قيادها وامرتها الى الشيطان، هي طائفة من النساء الكاسيات العاريات اللائي يكشفن عن سيقانهن ويـجعلنها سلاحاً قاسياً جارحاً ينزل بطعناته على أهل الإيـمان! فيغلقن بذلك باب النكاح ويفتحن أبواب السفاح، اذ يأسرن بغتة نفوسَ الكثيرين ويـجرحنهم جروحاً غائرة في قلوبهم وأرواحهم بارتكابهم الكبائر، بل ربـما يصرعن قسماً من تلك القلوب ويقضين عليها.

وانه لعقاب عادل لهن، أن تصبح تلك السيقانُ الـمدججة بسلاح الفتنة الـجارح حطب جهنم وتـحرق في نارها أول ما يـحرق، لـما كن يكشفنها لبضع سنوات أمام من يـحرم عليهن.

فضلاً عن ذلك فانهن يفقدن الزوج الـمناسب لهن، بل لايستطعن الـحصول عليه وهن في أمس الـحاجة اليه بـحكم الفطرة والـخلقة، لـما كن قد ضيـّعن الثقة والوفاء في الدنيا، بل يصبحن في حالة من الابتذال وفقدان الرعاية والاهمية – نتيجة عدم الرغبة في النكاح وعدم الرعاية لـحقوقه 0 أن يكون رجل واحد قيـّماً على أربعين من النساء، كما ورد ذلك في الـحديث الشريف(1).

فما دامت الـحقيقة هكذا.. وما دام كلُّ جميل يـحب جـماله، ويـحاول جهده الـمحافظة عليه، ولا يريد أن يُمَسّ بسوء.. وما دام الـجمال نعمة مهداة، والنعمة إن حُمدت عليها زادت وان قوبلت بالنكران تغيـّرت.. فلاشك ان الـمرأة الـمالكة لرشدها ستهرب بشدة وبكل مالديها من قوة من ان تـجعل جمالـها وسيلة لكسب الـخطايا والذنوب وسوق الآخرين عليها.. وستفر حتماً من ان تـجعل جمالـها يتحول الى قبح دميم وجـمال منحوس مسموم.. وستنهزم بلاشك من ان تـجعل بالنكران تلك النعمة الـمهداة مدار عذاب وعقاب.

لذا ينبغي للمرأة الـحسناء استعمال جمالـها على الوجه الـمشروع ليظل ذلك الـجمال الفاني خالداً دائماً بدلاً من جمال لا يدوم سوى بضع سنين، فتكون عندئذ قد أدت شكر تلك النعمة. والاّ ستتجرع الآلام والعذاب في وقت شيخوختها، وستبكي وتندب على نفسها يائسة نادمة لشدة ما ترى من استثقال الآخرين لـها واعراضهم عنها.

أما اذا زُين ذلك الـجمال بزينة آداب القرآن الكريـم وروعي الرعاية اللائقة ضمن نطاق التربية الإسلامية، فسيظل ذلك الـجمال الفاني باقياً – معنى – وستمنح الـمرأة جـمالاً هو أجـمل وأبهى وأحلى من جـمال الـحور العين في الـجنة الـخالدة كما هو ثابت في الـحديث الشريف(2). فلئن كانت لتلك الـمرأة مسكة من عقل، فلن تدع هذه النتيجة الباهرة الـخالدة قطعاً ان تضيع منها.







حوار مع الـمؤمنات، اخواتي في الآخرة



باسـمه سبحانه

حينما كنت اشاهد في عدد من الولايات اهتمام النساء برسائل النور اهتماماً حاراً خالصاً وعلمت اعتمادهن على دروسي التي تـخص النور بـما يفوق حدي بكثير، جئت مرة ثالثة الى مدرسة الزهراء الـمعنوية، هذه الـمدينة الـمباركة ((اسبارطة))، فسمعت ان اولئك النساء الطيبات الـمباركات، اخواتي في الآخرة، ينتظرون مني ان القي عليهن درسا، على غرار ما يلقى في الـمساجد من دروس الوعظ والارشاد. بيد أني اعاني امراضاً عدة، مع ضعف وانهاك شديدين حتى لا استطيع الكلام ولا التفكر. ومع ذلك فقد سنحت بقلبي هذه الليلة خاطرة قوية، هي:

انك قد كتبت قبل خـمس عشرة سنة رسالة (مرشد الشباب) بطلب من الشباب انفسهم، وقد استفاد منها الكثيرون، بينما النساء هن احوج الى مثل هذا ((الـمرشد)) في هذا الزمان.

فازاء هذه الـخاطرة وعلى الرغم مـما اعانيه من اضطراب ومن عجز وضعف كتبت في غاية الاختصار لأخواتي الـمباركات ولبناتي الـمعنويات الشابات بعض ما يلزمهن من مسائل، ضمن نكات ثلاث.

النكتة الاولى:

لـما كان اهم اساس من اسس رسائل النور هو ((الشفقة)) وان النساء هن رائدات الشفقة وبطلات الـحنان، فقد اصبحن اكثر ارتباطاً برسائل النور فطرة. فهذه العلاقة الفطرية تُحس بها في كثير من الاماكن ولله الـحمد والـمنة.

ولقد غدت التضحية التي تنطوي عليها الشفقة والـحنان ذات اهمية عظمى في زماننا هذا، اذ انها تعبر عن اخلاص حقيقي وفداء دون عوض ومقابل.

نعم! ان فداء الام بروحها انقاذاً لولدها من الـهلاك من دون انتظار لأجر، وتضحيتها بنفسها باخلاص حقيقي لاولادها باعتبار وظيفتها الفطرية، تدلان على وجود بطولة سامية رفيعة في النساء، بـحيث يستطعن ان ينقذن حياتهن الدنيوية والاخروية بانكشاف هذه البطولة وانـجلائها في انفسهن، إلا ان تيارات فاسدة تـحول دون ظهور تلك السجية القيمة القويـمة وتـمنع انكشافها، او تصرف تلك التيارات هذه السجية الطبية الى غير مـحالـها فتسىء استعمالـها.

نورد هنا مثالا واحدا من مئات امثلتها:

ان الوالدة الـحنونة تضع نصب عينها كل فداء وتضحية لتمنع عن ولدها الـمصائب والـهلاك، لتـجعله يستفيد في الدنيا. فتربي ولدها على هذا الاساس، فتنفق جـميع اموالـها ليكون ابنها عظيماً وسيداً آمراً. فتراها تأخذ ولدها من الـمدارس العلمية الدينية وترسله الى اوروبا، من دون ان تفكر في حياة ولدها الابدية التي تصبح مهددة بالـخطر.

فهي اذ تسعى لتنقذه من سجن دنيوي، لا تهتم بوقوعه في سجن جهنم الابدي، فتتصرف تصرفا مـخالفة لفطرتها مـخالفة كلية، اذ بدلا من ان تـجعل ولدها البرىء شفيعا لـها يوم القيامة تـجعله مدعياً عليها، اذ سيشكو ذلك الولد هناك قائلا لـها: ((لِمَ لـم تقوى ايـماني حتى سببت في هلاكي هذا؟!)).

وحيث انه لـم يأخذ قسطاً وافراً من التربية الإسلامية، فلا يبالي بشفقة والدته الـخارقة، بل قد يقصر في حقها كثيراً.

ولكن اذا ما سعت تلك الوالدة الى انقاذ ولدها الضعيف من السجن الابدي الذي هو جهنم، ومن الاعدام الابدي الذي هو الـموت في الضلالة، بشفقتها الـحقيقية الـموهوبة دون الاساءة في استعمالـها، فان ولدها سيوصل الانوار دوما الى روحها بعد وفاتها، اذ يسجل في صحيفة اعمالـها مثل جـميع الـحسنات التي يعملها الولد. كما سيكون لـها ولداً طيبا مباركا ينعمان معا حياة خالدة، شفيعا لـها عند الله ما وسعها، لا شاكيا منها ولامدعيا عليها.

نعم! ان اول استاذ الانسان واكثر من يؤثر فيه تعليماً، انـما هو والدته.

سأبين بهذه الـمناسبة هذا الـمعنى الذي اتـحسسه دائماً احساساً قاطعاً في شخصي، وهو:

اقسم بالله ان ارسخ درس اخذته، وكأنه يتجد عليّ، انـما هو تلقينات والدتي رحـمها الله ودروسها الـمعنوية، حتى استقرت في اعماق فطرتي واصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين رغم اني قد اخذت دروساً من ثمانين الف شخص، بل ارى يقينا ان سائر الدروس انـما تبنى على تلك البذور.

بـمعنى اني اشاهد درس والدتي – رحـمها الله – وتلقيناتها لفطرتي وروحي وانا في السنة الاولى من عمري، بذور اساس ضمن الـحقائق العظيمة التي اراها الآن وانا في الثمانين من عمري.

مثال ذلك:

ان ((الشفقة)) التي هي اهم اساس من الاسس الاربعة في مسلكي ومشربي في الـحياة.. وان ((الرأفة والرحـمة)) التي هي حقيقة عظمى ايضاً من حقائق رسائل النور، اشاهدهما يقينا بانهما نابعتان من افعال تلك الوالدة الرؤوف ومن احوالـها الشفيقة ومن دروسها الـمعنوية.

نعم! ان الشفقة والـحنان الكامنين في الامونة والتي تـحملها باخلاص حقيقي وتضحية وفداء قد أسىء استعمالـها في الوقت الـحاضر، اذ لا تفكر الام بـما سينال ولدها في الآخرة من كنوز هي اثمن من الالـماس، بل تصرف وجهه الى هذه الدنيا التي لاتعدل قطعاً زجاجية فانية، ثـم تشفق على ولدها وتـحنو عليه في هذا الـجانب من الـحياة. وما هذا الااساءة في استعمال تلك الشفقة.

ان مـما تثبت بطولة النساء في تضحيتهن العظيمة دون انتظار لأجر ولاعوض، من دون فائدة يجنينها لانفسهن ومن دون رياء واظهار لأنفسهن، هي استعدادهن للفداء بأرواحهن لأجل الولد، اقول ان مـما يثبت ذلك هو ما نراه في الدجاجة التي تـحمل مثالا مصغراً من تلك الشفقة، شفقة الامومة وحنانها، فهي تهاجم الاسد، وتفدي بروحها، حفاظا على فراخها الصغار.

وفي الوقت الـحاضر، ان ألزم شيء واهم اساس في التربية الإسلامية واعمال الآخرة، انـما هو ((الاخلاص)) فمثل هذه البطولة الفائقة في الشفقة تضم بين جوانـحها الاخلاص الـحقيقي.

فاذا ما بدت هاتان النقطتان في تلك الطائفة الـمباركة، طائفة النساء، فانهما سيكونان مدار سعادة عظمى في الـمحيط الإسلامي.

اما تضحية الآباء فلا تكون دون عوض قطعاً، وانـما تطلب الاجر والـمقابل من جهات كثيرة تبلغ الـمائة، وفي الاقل تطلب الفخر والسمعة. ولكن مع الاسف فان النساء الـمباركات يدخلن الرياء والتملق بطراز آخر وبنوع آخر نتيجة ضعفهن وعجزهن، وذلك خلاصا من شر ازواجهن الظلمة وتسلطهم عليهن.

النكتة الثانية:

لـما كنت في هذه السنة معتزلا الناس مبتعداً عن الـحياة الاجتماعية، نظرت الى الدنيا نزولا لرغبة اخوة واخوات من النوريين، فسمعت من اغلب من قابلني من الاصدقاء، شكاوى عن حياتهم الاسرية. فتأسفت من الاعماق وقلت: ((اوَ دَبّ الفسادُ في هذه الـحياة ايضاً؟ ان الـحياة الاسرية هي قلعة الانسان الـحصينة، ولاسيما الـمسلم، فهي كجنته الـمصغرة ودنياه الصغيرة)).

فتشت عن السبب الذي ادى الى فسادها. علمت ان هناك منظمات سرية تسعى لاضلال الشباب وافسادهم بتذليل سبل الشهوات امامهم وسوقهم الى السفاهة والغواية لافساد الـمجتمع الإسلامي والاضرار بالدين الإسلامي، كما احسست ان منظمات ايضاً تعمل في الـخفاء وتسعى سعياً جاداً مؤثراً لدفع الغافلات من النساء اللطيفات الى طرق خاطئة آثمة. وادركت ان ضربة قاصمة على هذه الامة الإسلامية تأتي من تلك الـجهة.

فانا ابين بيانا قاطعا، يا اخواتي ويا بناتي الـمعنويات الشابات!

ان العلاج الناجح لانقاذ سعادة النساء من الافساد في دنياهن واخراهن معا، وان الوسيلة الوحيدة لصون سجاياهن الراقية اللاتي في فطرتهن من الفساد، ليس الا في تربيتهن تربية دينينة ضمن نطاق الإسلام الشامل.

انكن تسمعن ما آلت اليه حال تلك الطائفة الـمباركة في روسيا!

وقد قيل في جزء من رسائل النور:

ان الزوج الرشيد لايبني مـحبته لزوجته على جـمال ظاهري زائل لا يدوم عشر سنوات، بل عليه ان يبني مودته لـها على شفقتها التي هي اجـمل مـحاسن النساء وادومه، ويوثقها بـحسن سيرتها الـخاصة بانوثتها، كي تدوم مـحبته لـها كلما شابت تلك الزوجة الضعيفة، اذ هي ليست صاحبته ورفيقته في حياة دنيوية مؤقتة، وانـما هي رفيقته الـمحبوبة في حياة ابدية خالدة. فيلزم ان يتحابا باحترام ازيد ورحـمة أوسع، كلما تقدما في العمر. اما حياة الاسرة التي تتربى في احضان الـحديثة فهي معرضة للانهيار والفساد، حيث تبنى العلاقة فيها على صحبة مؤقتة يعقبها فراق ابدي.

وكذلك قيل في جزء من رسائل النور:

ان السعيد هو ذلك الزوج الذي يقلد زوجته الصالـحة فيكون صالـحاً مثلها، لئلا يفقد رفيقته في حياة ابدية خالدة.

وكم هي سعيدة تلك الزوجة التي ترى زوجها متدينا فتتمسك بأهداب الدين لئلا تفقد رفيقها الابدي، فتفوز بسعادة آخرتها ضمن سعادة دنياها!

وكم هو شقي ذلك الزوج الذي يتبع زوجته التي ارتـمت في احضان السفاهة فيشاركها ولا يسعى لانقاذها!

وما اشقاها تلك الزوجة التي تنظر الى فجور زوجها وفسقه وتقلده بصورة اخرى!

والويل ثم الويل لذينك الزوجين اللذين يعين كل منهما الآخر في دفعه الى النار، أي يغري كل منهما الآخر للانغماس في زخارف الـمدنية.

وفـحوى هذه الـجمل التي وردت بهذا الـمعنى في رسائل النور هو:

انه لا يـمكن ان يكون – في هذا الزمان – تنعمّ بـحياة عائلية وبلوغ لسعادة الدنيا والآخرة وانكشاف لسجايا راقية في النساء الا بالتأدب بالآداب الإسلامية التي تـحددها الشريعة الغراء.

ان اهم نقطة وجانب في حياة الاسر في الوقت الـحاضر هي:

انه اذا ما شاهدت الزوجة فسادا في زوجها وخيانة منه وعدم وفاء، فقامت هي كذلك – عنادا له – بترك وظيفتها الاسرية وهي الوفاء والثقة فتفسدهما، يختل عندئذٍ نظام تلك الاسرة كليا ويذهب هباء منثوراً، كالاخلال بالنظام في الـجيش.

فلابد للزوجة ان تسعى جادة لإكمال نقص زوجها واصلاح تقصيره كي تنقذ صاحبها الابدي، والا فهي تـخسر وتتضرر في كل جانب اذا ما حاولت اظهار نفسها وتـحبيبها للآخرين بالتكشف والتبرج، لان الذي يتخلى عن الوفاء يـجد جزاءه في الدنيا ايضاً. لان فطرتها تتجنب غير الـمحارم وتشمئز منهم. فهي تـحترز من ثمانية عشرة شخصاً من كل عشرين شخصاً اجنبياً، بينما الرجل قد لا يشمئز من النظر الى امرأة واحدة من كل مائة اجنبية.

فكما ان الزوجة تعاني من العذاب من هذه الـجهة فهي تضع نفسها موضع اتهام ايضا بعدم الوفاء وفقدان الثقة والوفاء فلا تستطيع الـحفاظ على حقوقها فضلا عن ضعفها.

حاصل الكلام:

كما ان النساء لايشبهن الرجال – من حيث الشفقة والـحنان – في التضحية ولا في الاخلاص، وان الرجال لا يبلغون شأوهن في التضحية والفداء. كذلك لا تدرك الـمرأة الرجل في السفاهة والغي بأي وجه من الوجوه، لذا فهي تـخاف كثيراً بفطرتها وخلقتها الضعيفة من غير الـمحارم وتـجد نفسها مضطرة الى الاحتماء بالـحجاب. ذلك لان الرجل اذا غوى لاجل تلذذ ثماني دقائق لايتضرر الا بضع ليرات، بينما الـمرأة تـجازى على ثـماني دقائق من اللذة ثقلاً ثمانية اشهر وتتحمل تكاليف تربية طفل لا حامي له طوال ثـماني سنوات. بـمعنى ان الـمرأة لاتبلغ مبلغ الرجال في السفاهة، وتعاقب عليها اضعاف اضعاف عقاب الرجل.

ان هذه الـحوادث ليست نادرة وهي تدل على ان النساء مـخلوقات مباركة خُلقن ليكنّ منشأ للاخلاق الفاضلة، اذ تكاد تنعدم فيهن قابلية في الفسق والفجور للتمتع باذواق الدنيا. بـمعنى ان النساء نوع من مـخلوقات طبية مباركة، خلقن لاجل قضاء حياة اسرية سعيدة ضمن نطاق التربية الإسلامية.

فتباً وسحقاً لتلك الـمنظمات التي تسعى لافساد هؤلاء الطيبات.

واسأله تعالى ان يـحفظ اخواتي من شرور هؤلاء السفهاء الفاسدين.. آمين..

اخواتي! اقول لكـُنّ هذا الكلام بشكل خاص:

اعملن على كسب نفقاتكن بعمل ايديكن كما تفعل نساء القرى الطيبات واكتفين بالاقتصاد والقناعة الـمغروزتين في فطرتكن. وهذا اولى من بـخس انفسكن بسبب هموم العيش بالرضوخ لسيطرة زوج فاسد، سيء الـخلق، متفرنـج. واذا ما كان حظ احداكن وقسمتها زوجا لا يلائمها، فلترض بقسمتها ولتقنع، فعسى الله ان يصلح زوجها برضاها وقناعتها. والاّ ستراجع الـمحاكم لاجل الطلاق – كما اسمع في الوقت الـحاضر – وهذا لا يليق قطعاً بعزة الإسلام وشرف الامة.

النكتة الثالثة:

اخواتي العزيزات!

اعلمن قطعاً! ان الاذواق والـمتع الـخارجة عن حدود الشرع فيها من الآلام والـمتاعب اضعاف اضعاف لذائذها. وقد اثبتت رسائل هذه الحقيقة بـمئات من الدلائل القوية والـحوادث القاطعة. ويـمكنكن ان تـجدن تفاصيلها في رسائل النور.

فمثلاً: الكلمة السادسة والسابعة والثامنة من ((الكلمات الصغيرة)) و ((مرشد الشباب)) تبين لكن هذه الـحقيقة بوضوح تام نيابة عني. فعليكن اذاً القناعة والاطمئنان والاكتفاء بـما في حدود الشرع من اذواق ولذائذ، فملاطفة اودكن الابرياء ومداعبتهم ومـجالستهم في بيوتكن متعة نزيهة تفضل مئات الـمرات متعة السينما.

واعلمن يقيناً! ان اللذة الـحقيقية في هذه الدنيا انـما هي في الإيـمان وفي حدود الإيـمان. وان في كل عمل صالح لذة معنوية، بينما في الضلالة والغي آلاما منغصة في هذه الدنيا ايضاً. هذه الـحقيقة اثبتتها رسائل النور بـمئات من الادلة القاطعة. فانا شخصياً شاهدت بعين اليقين عبر تـجارب كثيرة وحوادث عديدة: ان في الإيـمان بذرة جنة، وفي الضلالة والسفه بذرة جهنم. وقد كتبت هذه الـحقيقة مرارا في رسائل النور حتى عجز اعتى الـمعاندين والـخبراء الرسميون والـمحاكم عن جرح هذه الـحقيقة.

فلتكن الآن ((رسالة الـحجاب)) في الـمقدمة و ((مرشد الشباب)) و ((الكلمات الصغيرة)) نائبة عني في القاء الدرس عليكن يا اخواتي الطيبات الـمباركات ويا من هن بـمثابة بناتي الصغيرات. فلقد سـمعت انكن ترغبن في ان القي عليكن درساً في الـجامع، ولكن مرضي الشديد، فضلاً عن ضعفي الشديد، واسباب اخرى، تـحول دون ذلك. لذا فقد قررت ان اجعلكن يا اخواتي اللاتي تقرأن درسي هذا الذي كتبته لكنّ مشاركات لي في جـميع مكاسبي الـمعنوية وفي دعواتي، كطلاب النور.

واذا استطعتن الـحصول على رسائل النور وقرأتنها او استمعتن اليها، نيابة عني، فانكن تصبحن مشاركات لإخوانكن طلاب النور في جـميع مكاسبهم الـمعنوية وادعيتهم حسب قاعدتنا الـمقررة.

كنت ارغب ان اكتب اليكن اكثر من هذا ولكن اكتفيت بهذا القدر لـمرضي الشديد وضعفي الشديد وشيخوختي وهرمي، وواجبات كثيرة تنتظرني كتصحيح الرسائل.

الباقي هو الباقي

اخوكم الـمحتاج الى دعائكن

سعيد النورسي

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:43 PM

رد: اللمعات
 
اللمعة الـخامسة والعشرون

وهي خـمسة وعشرون دواء

هي عيادة للمريض، وبلسم للمرضىـ ومرهم تسلية لهم، ووصفة معنوية، وقد كتبت بـمثابة القول الـمأثور: ((ذهب البأس وحـمداً لله على السلامة)).

تبنيـه واعتذار

تـم تأليف هذه الوصفة الـمعنوية بسرعة تفوق جـميع ما كتبناه(1) ولضيق الوقت كان تصحيحها وتدقيقها – بـخلاف الـجميع – بنظرة خاطفة في غاية السرعة كتأليفها، فظلت مشوشة كالـمسودة الاولى، ولـم نَرَ حاجة للقيام بتدقيقات جديدة، حيث ان الـخواطر التي ترد القلب فطرياً ينبغي عدم افسادها بزخرف القول والتفنن والتدقيق، فالرجاء من القراء وبـخاصة الـمرضى منهم الاّ يضجروا من العبارات غير الـمأنوسة والـجمل الصعبة وان يدعوا لي بظهر الغيب.

سعيد النورسي

بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} الذينَ اذا أصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إنا للهِ وإنا إليهِ راجعون{ (البقرة:156)

} والذين هُوَ يُطعِمُني ويَسقينِ ` واذا مَرِضتُ فهوَ يَشْفين { (الشعراء:79-80)

((في هذه اللمعة نبين خـمسة وعشرين دواءً بياناً مـجملاً تلك الادوية التي يـمكن ان تكون تسلية حقيقية ومرهماً نافعاً لاهل البلاء والـمصائب وللمرضى العليلين الذين هـم عُشر اقسام البشرية)).

الدواء الاول

ايها الـمريض العاجز! لا تقلق، اصبر! فان مرضك ليس علـّة لك بل هو نوع من الدواء؛ ذلك لان العمر رأس مال يتلاشى، فان لـم يُستثمر فيسضيع كل شيء، وبـخاصة اذا انقضى بالراحة والغفلة وهو يـحث الـخطى الى نهايته، فالـمرض يكسب رأس مالك الـمذكور أرباحاً طائلة، ولا يسمح بـمضيـّه سريعاً، فهو يُبطىء خطوات العمر، ويـمسكه، ويطوّله، حتى يؤتي ثـماره، ثـم يغدو الى شأنه. وقد ذهب طول العمر بالامراض مثلاً، فقيل: ((ألا ما أطول زمن النوائب وما اقصر زمن الـهناء!)).

الدواء الثاني

ايها الـمريض النافد الصبر! تـحمـّل بالصبر! بل تـجمـّل بالشكر، فان مرضك هذا يـمكنه ان يـجعل من دقائق عمرك في حكم ساعات من العبادة، ذلك لان العبادة قسمان:

الاولى: العبادة الايـجابية الـمتجسـّدة في اقامة الصلاة والدعاء وامثالـها.

الثانية: العبادة السلبية التي يتضرع فيها الـمصاب ملتجأ الى خالقه الرحيم مستجيراً به متوسلاً اليه، منطلقاً من احاسيسه التي تُشعره بعجزه وضعفه امام تلك الامراض والـمصائب. فينال بذلك التضرع عبادةً معنوية خالصة متجردة من كل انواع الرياء.

نعم، هناك روايات صحيحة على ان العمر الـممزوج بالـمرض والسقم يعدّ للـمؤمن عبادة(1) على شرط عدم الشكوى من الله سبحانه. بل هو ثابت بعدة روايات صحيحة وكشفيات صادقة كون دقيقة واحدة من مرض قسم من الشاكرين الصابرين هي بـحكم ساعة عبادة كاملة لـهم، وكون دقيقة منه لقسم من الكاملين هي بـمثابة يوم عبادة كاملة لـهم. فلا تشكُ – يا اخي – من مرض يـجعل من دقيقة عصيبة عليك الف دقيقة ويـمدك بعمر طويل مديد! بل كن شاكراً له.

الدواء الثالث

ايها الـمريض الذي لا يطيق! ان الانسان لـم يأت الى هذه الدنيا للتمتع والتلذذ. والشاهد على ذلك: رحيل كل آت، وتشيـّب الشباب، وتدحرج الـجميع في دوّامة الزوال والفراق. وبينا ترى الانسان اكمل الاحياء واسماها واغناها اجهزة بل هو السيد عليها جميعاً، اذا به بالتفكر في لذات الـماضي وبلايا الـمستقبل، يقضي حياته في كدر ومشقة هاوياً بنفسه الى دركات ادنى من الـحيوان.

فالانسان اذاً لـم يأت الى هذه الدنيا لقضاء عيش ناعم جـميل مغمور بنسمات الراحة والصفاء، بل جاء الى هنا ليغنم سعادة حياةٍ ابدية دائمة بـما يُسـّر له من سبل التـجارة برأس ماله العظيم الذي هو العمر. فاذا انعدم الـمرضُ، وقع الانسان في الغفلة نتيجة الصحة والعافية، وبدت الدنيا في عينيه حلوة خضرة لذيذة، فيصيبه عندئذ مرضُ نسيان الآخرة، فيرغب عن ذكر الـموت والقبر، ويهدر رأس مال عمره الثمين هباءً منثورا.. في حين ان الـمرض سرعان ما يوقظه مفتحاً عينيه، قائلاً له: ((انت لست خالداً ولست سائباً، بل انت مسخـّر لوظيفة، دع عنك الغرور، اذكر خالقك.. واعلم بانك ماض الى القبر، وهيىء نفسك وجهـّزها هكذا)).

فالـمرض اذاً يقوم بدور مرشد ناصح امين موقظ، فلا داعي بعدُ الى الشكوى منه، بل يـجب التفيـّؤ في ظلال الشكر – من هذه الناحية – واذا ما اشتدت وطأته كثيراً فعليك بطلب الصبر منه تعالى.

الدواء الرابع

ايها الـمريض الشاكي! اعلم انه ليس لك حق في الشكوى، بل عليك الشكر، عليك الصبر؛ لان وجودك واعضاءك واجهزتك ليست بـملكك انت، فانت لـم تصنعها بنفسك، وانت لـم تبتعها من اية شركة او مصنع ابتياعاً، فهي اذن ملكٌ لآخر. ومالك تلك الاشياء يتصرف في ملكه كيف يشاء، كما ورد ذلك في مثال في ((الكلمة السادسة والعشرين الـخاصة بالقَدَر)) وهو:

أن صانعاً ثرياً ماهراً بكلـّف رجلاً فقيراً لقاء اجرة معينة ليقوم له لـمدة ساعة بدور ((الـموديل)) الـنموذج. فلاجل اظهار صنعته الـجميلة وثروته القيمة يُلبسه القميص الـمزركش الذي حاكه، والـحلة القشيبة الـمرصعة التي نسجها في غاية الـجمال والصنعة، وينجز عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لبيان خوارق صنعته وبدائع مهارته، فيقصّ ويبدل، ويطوّل، ويقصر، وهكذا..

فيا تُرى أيـحق لذلك الفقير الاجير ان يقول لذلك الصانع الـماهر: ((انك تتعبني وترهقني وتضيـّق عليّ بطلبك مني الانـحناء مرة والاعتدال اخرى.. وانك تشوّه الـجمال الـمتألق على هذا القميص الذي يـجمـّل هندامي ويزيـّن قامتي بقصـّك وتقصيرك له.. إنك تظلمني ولا تنصفني؟)).

وكذلك الـحال بالنسبة للصانع الـجليل سبحانه وتعالى – ولله الـمثل الاعلى – الذي البسك ايها الـمريض قميص الـجسد، واودع فيه الـحواس النورانية الـمرصعة كالعين والاذن والعقل، فلأجل اظهار نقوش اسـمائه الـحسنى، يبدّلك ضمن حالات متنوعة ويضعك في اوضاع مـختلفة. فكما انك تتعرف على اسـمه ((الرزاق)) بتجرعك مرارة الـجوع، تتعرف على اسـمه ((الشافي)) بـمرضك.

ونظراً لظهور قسم من احكام اسـمائه الـحسنى بالآلام وانكشافه بالـمصائب، ففيها لـمعات الـحكمة وشعاعات الرحـمة وأنوار الـجمال. فاذا ما رُفع الـحجاب فستجد فيما وراء مرضك الذي تستوحش منه وتنفر، معاني عميقة جـميلة مـحببة ترتاح اليها، تلك التي كانت تنزوي خلف حـجاب الـمرض.

الدواء الـخامس

ايها الـمبتلى بالـمرض! لقد توافرت لديّ القناعة التامة خلال تـجربتي في هذا الزمان، بان الـمرض نوع من الاحسان الإلـهي والـهدية الرحـمانية لقسم من الناس(1). فقد التقاني بعضُ الشباب في هذه السنوات الثـماني او التسع، لـمعاناتهم الـمرض، ابتغاء دعاء لـهم، رغم اني لست اهلاً لذلك. فلاحظت أن مَن كان منهم يعاني مرضاً هو اكثر تفكراً في الآخرة وتذكراً لـها، وليس ثملاً بغفلة الشباب، بل كان يقي نفسه – الى حدّ ما – تـحت اوجاع الـمرض وأوصابه ويـحافظ عليها من الشهوات الـحيوانية. وكنت اذكـّرهم بأني ارى أن أمراضهم هذه، ضمن قابليتهم على الـحمـّل انـما هي احسان إلـهي وهبة منه سبحانه. وكنت اقول: ((يااخي ! انا لست ضد مرضك هذا ولاعليه، فلا اشعر بشفقة عليك ورأفة لاجل مرضك، كي اقوم بالدعاء لك، فـحاول التجمل بالصبر والثبات امام هذا الـمرض، حتى تتحقق لك الافاقة والصحوة؛ إذ بعد أن ينهي الـمرض مهامه سيشفيك الـخالق الرحيم ان شاء)). وكنت اقول ايضاً: (( ان قسماً من امثالك يزعزعون حياتهم الابدية بل يهدمونها مقابل متاع ظاهري لساعة من حياة دنيوية، وذلك لـمضيـّهم سادرين في الغفلة الناشئة من بلاء الصحة، هاجرين الصلاة ناسين الـموت وغافلين عن الله عز وجل. اما انت فترى بعين الـمرض القبرَ الذي هو منزلك الذي لا مناص من الذهاب اليه، وترى كذلك ما وراءه من الـمنازل الاخروية الاخرى، ومن ثـم تتحرك وتتصرف على وفق ذلك. فمرضك اذاً انـما هو بـمثابة صحةٍ لك، والصحة التي يتمتع بها قسم من امثالك انـما هي بـمثابة مرضٍ لـهم)).

الدواء السادس

ايها الـمريض الشاكي من الالـم! أسألك أن تعيد في نفسك ما مضى من عمرك وان تتذكر الايام الهانئة اللذيذة السابقة من ذلك العمر والاوقات العصيبة والاليمة التي فيه.

فلا جرم انك ستنطق لساناً أو قلباً: إما بـ((أوه)) او ((آه)). أي اما ستتنفس الصعداء وتقول: ((الـحمد لله والشكر له)) او ستتنهد عميقاً قائلاً: ((واحسرتاه!. واسفاه!)). فانظر كيف ان الآلام والنوائب التي عانيت منها سابقاً عندما خَطَرتْ بذهنك غمرتك بلذة معنوية، حتى هاج قلبك بـ((الـحمد لله والشكر له))؛ ذلك لان زوال الالـم يولـّد لذة وشعوراً بالفرح. ولان تلك الآلام والـمصائب قد غَرست بزوالـها لذةً كامنة في الروح سالت بتخطرها على البال وخروجها من مكمنها حلاوةً وسروراً وتقطرت حـمداً وشكراً. اما حالات اللذة والصفاء التي قضيتها والتي تنفث عليها الآن دخان الالـم بقولك: ((واأسفاه، واحسرتاه)) فانها بزوالـها غَرست في روحك ألـماً مضمراً دائمياً، وها هو ذا الالـم تتجدّد غصـّاتُه الآن بأقل تفكرٍ في غياب تلك اللذات، فتنهمر دموع الاسف والـحسرة. فما دامت اللذة غير الـمشروعة ليوم واحد تذيق الانسان – احياناً – ألـماً معنوياً طوال سنة كاملة، وان الالـم الناتـج من يوم مرض موقت يوفر لذة معنوية لثواب ايام عدة فضلاً عن اللذة الـمعنوية النابعة من الـخلاص منه، فتذكر جيداً نتيجة الـمرض الـموقت الذي تعانيه وفكـّر في الثواب الـمرجو الـمنتشر في ثناياه، وتشبث بالشكر وترفـّع عن الشكوى وقل: ((ياهذا.. كل حالٍ يزول..)).

الدواء السادس (1)

ايها الاخ الـمضطرب من الـمرض بتذكر اذواق الدنيا ولذائذها! لوكانت هذه الدنيا دائمة فعلاً، ولو انزاح الـموت عن طريقنا فعلاً، ولو انقطعت اعاصير الفراق والزوال عن الهبوب بعد الآن، ولو تفرغ الـمستقبل العاصف بالنوائب عن مواسم الشتاء الـمعنوية، لانـخرطتُ في صفك ولرثيتك باكياً لـحالك. ولكن مادامت الدنيا ستخرجنا منها قائلة: ((هيا اخرجوا..!)) صامـّة اذانها عن صراخنا واستنجادنا. فعلينا نـحن قبل ان تطردنا هي نابذة لنا، ان نهجر عشقها والاخلاد اليها من الآن، بايقاظات الامراض والسعي لاجل التـخلي عن الدنيا قلباً ووجداناً قبل ان تتخلى هي عنـّا.

نعم، ان الـمرض بتذكيره ايانا هذا الـمعنى اللطيف والعميق، يهمس في سرائر قلوبنا قائلاً:

((بنيتك ليست من الصلب والـحديد بل من مواد متباينة مركبة فيك، ملائمة كل التلاؤم للتحلل والتفسخ والتفرق حالاً، دع عنك الغرور وادرك عجزك وتعرّف على مالكك، وافهم ما وظيفتك وتعلـّم ما الـحكمة والغاية من مـجيئك الى الدنيا؟)).

ثم ما دامت ان اذواق الدنيا ولذاتها لاتدوم، وبـخاصة اذا كانت غير مشروعة، بل تبعث في النفس الالـم وتكسبه ذنباً وجريرة، فلا تبك على فقدك ذلك الذوق بـحجة الـمرض، بل تفكـّر في معنى العبادة الـمعنوية التي يتضمنها مرضك والثواب الاخروي الذي يـخفيه لك، واسع لتنال ذلك الذوق الـخالص الزكي.

الدواء السابع

ايها الـمريض الفاقد لنعمة الصحة! ان مرضك لا يذهب بلذة النعمة الإلـهية في الصحة بل على العكس، انه يذيقك أيـّاها ويطيـّبها ويزيدها لذة، ذلك ان شيئاً ما اذا دام واستمر على حاله يفقد طعمه وتأثيره. حتى اتفق أهل الـحق على القول: ((انـما الاشياء تُعرف بأضدادها..)) فمثلاً: لولا الظلمة لـما عُرف النور ولظل دون لذة، ولولا البرودة لـما عُرفت الـحرارة ولبقيت دون استساغة، ولولا الـجوع لـما اعطى الاكل لذته وطعمه، ولولا حرارة الـمعدة لـما وَهَبنا احتساء الـماء ذوقاً، ولولا العلـّة لكانت العافية بلا ذوق، ولولا الـمرض لباتت الصحة عديـمة اللذة.

ان الفاطر الـحكيم لـمـّا اراد اشعار الانسان واحساسه مـختلف احسانه واذاقته انواع نَعمه سوقاً منه الى الشكر الدائم، جهـّزه بأجهزة في غاية الكثرة لتُقبل على تذوق تلك اَلآلاف الـمؤلفة من انواع النعم الـمختلفة، لذا فلابد من انه سيُنزل الامراضَ والاسقام والعلل ايضاً مثلما يُلطف ويرزق بالصحة والعافية.

واسألك: ((لو لـم يكن هذا الـمرض الذي اصاب رأسك او يدك او معدتك.. هل كان يـمقدورك ان تتحسس اللذة الكامنة في الصحة التي كانت باسطة ظلالـها على رأسك او يدك او معدتك؟ وهل كنت تتمكن ان تتذوق وتشكر النعمة الإلـهية التي جسّدتها تلك النـعمة؟ بل كان الغالب عليك النسيان بدلاً من الشكر، او لكنت تصرف تلك الصحة بطغيان الغفلة الى سفاهة دون شعور!)).

الدواء الثامن

ايها الـمريض الذاكر لآخرته! ان مرضك كمفعول الصابون، يطهـّر ادرانك، ويـمسح عنك ذنوبك، وينقيك من خطاياك. فقد ثبت أن الامراض كفـّارات للذنوب والـمعاصي، وورد في الـحديث الصحيح:

((ما من مسلم يصيبه اذىً الاّ حاتّ الله خطاياه كما تـحاتّ ورق الشـجر))(1) والذنوب هي امراض دائمة في الـحياة الابدية. وهي في هذه الـحياة الدنيا امراضٌ معنوية في القلب والوجدان والروح. فاذا كنت صابراً لا تشكو نـجوت بنفسك اذاً بـهذا الـمرض العابر من امراض دائمة كثيرة جداً. واذا كنت لاهياً عن ذنوبك، ناسياً آخرتك غافلاً عن ربك، فاني أؤكد معاناتك من داءٍ خطير، هو أخطر وأفتك واكبر بـمليون مرة من هذه الامراض الـمؤقتة، ففـّر منه واصرخ.. ! لان قلبك وروحك ونفسك كلها مرتبطة بـموجودات الدنيا قاطبة، وان تلك الاواصر تنقطع دوماً بسيوف الفراق والزوال فاتـحة فيك جروحاً عميقة، وبـخاصة انك تتخيل الـموت اعداماً ابدياً لعدم معرفتك بالآخرة. فكأن لك كياناً مريضاً ذا جروح وشروخ بـحجم الدنيا، مـما يـحتم عليك قبل كل شيء ان تبحث عن العلاج التام والشفاء الـحقيقي لكيانك الـمعنوي الكبير الذي تفسـّخه العلل غير الـمحدودة والكلوم غير الـمعدودة، فما اظنك تـجدها الاّ في علاج الإيـمان وبلسمه الشافي، واعلم ان اقصر طريق لبلوغ ذلك العلاج هو الاطلال من نافذتي ((العجز والفقر)) اللتين تتفتحان بتمزيق الـمرض الـمادي لـحجاب الغفلة واللتين جُبلَ الانسان عليهما، وبالتالي تبلغ معرفة قدرة القادر ذي الـجلال ورحمته الواسعة.

نعم ان الذي لا يعرف الله يـحمل فوق رأسه هموماً وبلايا بسعة الدنيا وما فيها، ولكن الذي عرف ربه تـمتلىء دنياه نوراً وسروراً معنوياً، وهو يشعر بذلك بـما لديه من قوة الإيـمان – كل حسب درجته – نعم ان ألـم الامراض الـمادية الـجزئية يذوب وينسحق تـحت وابل السرور الـمعنوي والشفاء اللذيذ القادمين من الإيـمان.

الدواء التاسع

ايها الـمريض الـمؤمن بـخالقه! ان سبب التألـم من الامراض والـخوف والفزع منها ينبع من كون الـمرض احياناً وسيلة للموت والـهلاك، ولكون الـموت – بنظر الغفلة – مرعباً مـخيفاً ظاهراً، فان الامراض التي يـمكن ان تكون وسائل له، تبعث على القلق والاضطراب. فاعلم:

اولاً: آمن قطعاً:

ان الاجل مقدّر لا يتغيـّر. فقد حدث ان مات اولئك الباكون عند الـمحتضرين في مرضهم. مع انهم كانوا يتمتعون بصحة وعافية، وشفي اولئك الـمرضى الذين كانت حالتهم خطرة وعاشوا بعد ذلك احياءً يرزقون.

ثانيا:

ان الـموت ليس مـخيفاً في ذاته، كما يبدو لنا في صورته الظاهرية، وقد اثبتنا في رسائل كثيرة اثباتاً قاطعاً – دون ان يترك شكاً ولا شبهة – بـموحيات نور القرآن الكريـم.

أن الـموت للـمؤمن اعفاء وانهاء من كلفة وظيفة الـحياة ومشقتها.. وهو تسريح من العبودية التي هي تعليم وتدريب في ميدان ابتلاء الدنيا.. وهو باب وصال لالتقاء تسعة وتسعين من الاحبة والـخلاّن الراحلين الى العالـم الآخر.. وهو وسيلة للدخول في رحاب الوطن الـحقيقي والـمقام الابدي للسعادة الـخالدة.. وهو دعوة للانتقال من زنزانه الدنيا الى بساتين الـجنة وحدائقها.. وهو الفرصة الواجبة لتسلم الاجرة ازاء الـخدمة الـمؤداة، تلك الاجرة التي تغدق سخية من خزينة فضل الـخالق الرحيم.

فما دامت هذه هي ماهية الـموت – من زاوية الـحقيقة – فلا ينبغي ان يُنظر اليه كأنه شيء مـخيف، بل يـجب اعتباره تباشير الرحـمة والسعادة. حتى أن قسماً من ((اهل الله)) لـم يكن خوفهم من الـموت بسبب وحشة الـموت ودهشته، وانـما بسبب رغبتهم في كسب الـمزيد من الـخير والـحسنات بادامة وظيفة الـحياة.

نعم ان الـموت لاهل الإيـمان باب الرحـمة. وهو لاهل الضلالة بئر مظلمة ظلاماً ابدياً.

الدواء العاشر

ايها الـمريض القلق دون داع للقلق! انت قلقٌ من وطأة الـمرض وشدته، فقلقك هذا يزيد ثقل الـمرض عليك. فاذا كنت تريد ان تـخفف الـمرض عنك، فاسع جاهداً للابتعاد عن القلق. أي: تفكـّر في فوائد الـمرض، وفي ثوابه، وفي حثه الـخطى الى الشفاء. فاجتث جذور القلق من نفسك لتجتث الـمرض من جذوره.

نعم، ان القلق (او الوسوسة) يضاعف مرضك ويـجعله مرضين. لان القلق يبث في القلب – تـحت وطأة الـمرض الـمادي – مرضاً معنوياً، فيدوم الـمرض الـمادي مستنداً اليه، فاذا ما أذهبتَ عنك القلق والـهواجس بتسليم الامر لله والرضا بقضائه، وباستحضار حكمة الـمرض، فان مرشك الـمادي سيفقد فرعاً مهماً من جذوره فيُخفف، وقسمٌ منه يزول، واذا ما رافقت الـمرض الـمادي اوهام وهواجس فقد يكبر عشر معشار تلك الاوهام بوساطة القلق الى معشار، ولكن بانقطاع القلق يزول تسعٌ من عشرة من مفعول ذلك الـمرض، وكما ان القلق يزيد الـمرض، كذلك يـجعل الـمريض كأنه يتهم الـحكمة الإلـهية وينتقد الرحـمة الإلـهية ويشكو من خالقه الرحيم، لذا يؤدَّب الـمريض بلطمات التأديب – بـخلاف ما يقصده هو – مـما يزيد مرضه. اذ كما ان الشكر يزيد النعم فالشكوى كذلك تزيد الـمرض والـمصيبة. هذا وان القلق في حد ذاته مرض، وعلاجه انـما هو في معرفة حكمة الـمرض. واذا ما عرفت حكمته وفائدته، فامسح قلقك بذلك الـمرهم وانـج بنفسك وقل بدلاً من ((واآسفاه)): ((الـحمد لله على كل حال)).

الدواء الـحادي عشر

ايها الاخ الـمريض النافذ صبره! مع ان الـمرض يعطيك ألـماً حاضراً فهو يـمنحك في الوقت نفسه لذة معنوية مستدرة من زوال مرضك السابق، مع لذةٍ روحية نابعة من الثواب الـحاصل من جراء ذلك الـمرض. فالزمان القابل بعد اليوم، بل بعد هذه الساعة لا يـحمل مرضاً. ولاشك أن لا ألمٍ من غير شيء، وما لـم يكن هناك ألـمٌ فلا توجـّع ولا شكوى. ولكن لانك تتوهم توهماً خطأً فان الـجوع ينتابك، اذ مع زوال فترة الـمرض الـمادي قد ذاب ألـم تلك الفترة ايضاً وثبت ثواب الـمرض وبقيت لذة زواله.. فمن البلاهة بل من الـجنون ان تتذكر بعد الآن الـمرض السابق وتتألـم منه، فتفقد صبرك وتنفده، في حين بلزمك الانشراح بذهابه والارتياح بثوابه. اما الايام القابلة فانها لـم تأت بعد. أليس من البلاهة إشغال النفس من الآن بالتفكير في يوم لـم يولد بعد، وفي مرض لـم ينزل بعد وفي الـم لـم يقع بعد؟. فهذا النوع من التوهم – نتيجة التفكر الـمرير وتكليف النفس ألـماً مبرحاً - يدفع الى فقدان الصبر ويُصبغ ثلاثة انواعٍ من العدم بثلاث مراتب من الوجود. أليس هذا جنوناً؟. فما دامت أزمنة الـمرض التي سبقت هذه الساعة تبعث على النشوة والـحبور، وما دام الزمان القابل بعد هذه الساعة معدوماً، فالـمرض معدوم والالـم معدوم.

فلا تبذّر يا اخي ما وهب لك الـحق سبحانه وتعالى من قوة الصبر يـميناً وشمالاً. بل احشدها جـميعاً مقابل الالـم الذي يعتريك في هذه الساعة وقل: ((ياصبور)) وتـحمل صابراً محتسباً!…

الدواء الثاني عشر

ايها الـمريض الـمحروم من العبادة واورادها بسبب الـمرض! ويا ايها الآسف على ذلك الـحرمان! اعلم انه ثابت في الـحديث الشريف(1) ما معناه: ان الـمؤمن التقي يأتيه ثواب ما كان يؤديه من العبادة حتى في اثناء مرضه، فالـمرض لا يـمنع ثوابه. فان الـمريض الـمؤدي للفرائض – على قدر استطاعته – سينيب الـمرض عن سائر السنن ويـحل مـحلـّها اثناء شدة الـمرض إنابة خالصة، لـما يتجمل ذلك الـمريض بالصبر والتوكل والقيام بالفرائض، وكذا يشعر الـمرضُ الانسان بعجزه وضعفه، فيتضرع الـمريض بذلك العجز وذلك الضعف بالدعاء حالاً وقولاً. وما اودع الله سبحانه وتعالى في الانسان عجزاً غير مـحدود وضعفاً غير متناه الا ليلتجىء دائماً الى الـحضرة الإلـهية بالدعاء سائلا راجياً، حيث ان الـحكمة من خلق الانسان والسبب الاساس لأهميته هو الدعاء الـخالص بـمضمون الآية الكريـمة:

} قُل مَا يَعبَؤا بِكُم رَبـّي لَولا دُعاؤكُم { (الفرقان:77) ولكون الـمرض سبباً للدعاء الـخالص، فلا تصح الشكوى منه، بل يـجب الشكر لله؛ اذ لا ينبغي ان تُجَفـّف ينابيع الدعاء التي فجـّرها الـمرض عند كسب العافية.

الدواء الثالث عشر

ايها الـمسكين الشاكي من الـمرض! ان الـمرض يغدو كنزاً عظيماً لبعض الناس، وهدية إلـهية ثـمينة لـهم. وباستطاعة كل مريض ان يتصور مرضه من هذا النوع، حيث ان الـحكمة الإلـهية اقتضت ان يكون الاجلُ مـجهولاً وقته، انقاذاً للانسان من اليأس الـمطلق ومن الغفلة الـمطلقة، وابقاءاً له بين الـخوف والرجاء، حفظاً لدنياه وآخرته من السقوط في هاوية الـخسران.. أي أن الاجل متوقع مـجيئه كل حين، فإن تـمكـّن من الانسان وهو سادر غفلته يكـّبده خسائر فادحة في حياته الاخروية الابدية. فالـمرض يبدد تلك الغفلة ويشتتها، وبالتالي يذكـّر بالآخرة ويستحضر الـموت في الذهن فيتأهب له. بل يـحدث ان يربـّحه ربـحاً عظيماً، فيفوز خلال عشرين يوماً ما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين سنة كاملة. فعلى سبيل الـمثال:

كان هناك فَتَيان – يرحـمهما الله – احدهما يدعى ((صبري)) من قرية ((إيلاما)) والآخر ((مصطفى وزير زادة)) من ((اسلام كوي)) ورغم كونهما اُميين من بين طلابي، فقد كنتُ الـحظُ باعجاب موقعَهما في الصف الاول في الوفاء والصدق وفي خدمة الإيـمان، فلـم ادرك حكمة ذلك في حينها، ولكن بعد وفاتهما علمت انهما كانا يعانيان من داءين عضالين، وبارشاد من ذلك الـمرض اصبحا على تقوى عظيمة يسعيان في خدمة راقية، وفي وضع نافع لآخرتهما، على خلاف سائر الشباب الغافلين الساهين حتى عن فرائضهم. فنسأل الله أن تكون سنتا الـمرض والـمعاناة اللتان قضياهما في الـحياة الدنيا قد تـحولتا الى ملايين السنين من سعادة الـحياة الابدية.

والآن فقط أفهم أنّ دعائي لـهما بالشفاء قد اصبح دعاء عليهما من زاوية الدنيا، ولكن ارجو الله ان يكون دعائي مستجاباً لصحتهما الاخروية.

وهكذا استطاع هذان الشخصان – حسب اعتقادي – الـحصول على ربح يساوي الكسب الذي يـحققه الانسان بالسعي والتقوى لعشر سنين في الاقل(1)، فلو كانا متباهيين بصحتهما كبعض الشباب وسائقين لنفسيهما الى شراك الغفلة والسفاهة حتى يأتيهما الـموت الـمترصد، وهـما يتخبطان في اوحال الـخطايا وظلماتها، لكان قبراهما الان حـجور العقارب والافاعي بدلاً من كونهما الآن دفائن النور وكنوز البهجة.

فما دامت الامراض تـحمل في مضامينها هذه الـمنافع الكبيرة فلا يـجوز الشكوى منها، بل يـجب الاعتماد على الرحـمة الإلـهية بالتوكل والصبر بل بالـحمد والشكر.

الدواء الرابع عشر

ايها الـمريض الـمسدل على عينيه! اذا ادركت ان هناك نوراً، واي نور! وعيناً معنوية تـحت ذلك الـحجاب الـمسدل على أعين أهل الإيـمان، فستقول: ((شكراً والف شكر لربي الرحـيم)). وتوضيحاً لـهذا الـمرهم سأورد الـحادثة الآتية:

لقد اصيبت عمة ((سليمان)) وهو من ((بارلا)) الذي ظل يـخدمني دون أن يـملـّني يوماً او يضيق مني بشيء طوال ثـماني سنوات خدمة مقرونة بكمال الوفاء والاحترام… اصيبت هذه الـمسكينة بالعمى فانطفأ نور عينها، ولفرط حسن ظن تلك الـمرأة الصالـحة بي اكثر مـما استحق بكثير تشبثت بي وانا اغادر الـمسجد قائلة: ((بالله عليك ادع الله لي من اجل عيني))، وانا بدوري جعلت صلاح تلك الـمرأة الـمباركة الـمؤمنة قريباً وشفيعاً لدعائي فدعوت الله بتضرع وتوسل قائلاً: ((اللهم ياربنا بـحرمة صلاحها اكشف عن بصرها)). وفي اليوم التالي جاء طبيب من ولاية ((بوردور)) القريبة، وهو مـختص بالعيون، فعالـجها، فردّ الله عليها بصرها، وبعد اربعين يوماً عادت عينها الى حالتها الاولى، فتألـمت لذلك كثيراً ودعوت دعاءً كثيراً، وارجو ان يكون دعائي مستجاباً على حساب آخرتها والاّ فان دعائي ذلك سيصبح - خطأ- دعاءً عليها، حيث قد بقيت لتستوفي اجلـها اربعين يوماً فقط، اذ بعد اربعين يوماً مضت الى رحـمة الله.

وهكذا، فان حرمان هذه الـمرأة الـمرجوة لـها الرحـمة من نعمة النظر ببصر الشيخوخة العطوف والاستمتاع بـجمال الـحدائق الـحزينة لـ((بارلا)) واسدال الـحجاب بينها وبين الـمروج اللطيفة خلال اربعين يوماً، قد عوض عنها الآن في قبرها، إطلالـها على الـجنة ومشاهدة ألفاف حدائقها الـخضراء لاربعة آلاف يوم و يوم.. ذلك لان أيـمانها كان راسخاً عميقاً وصلاحها كان مشعاً عظيماً.

نعم ان الـمؤمن اذا ما اُسدل على عينيه حجاب ودخل القبر هكذا، فانه يستطيع ان يشاهد عالم النور – حسب درجته – بنظر اوسع من نظر اهل القبور. اذ كما اننا نرى بعيوننا اكثر الاشياء في هذه الدنيا، والـمؤمنون العميان لا يستطيعون رؤيتها، ففي القبر ايضاً سيرى اولئك العميان – بتلك الدرجة – ان كانوا اصحاب ايـمان – اكثر مـما يراه اهل القبور، وسيشاهدون بساتين الـجنة ونعيمها كأنهم مزوّدون بـمراصد – كل حسب درجته – تلتقط مناظر الـجنة الرائعة وتعرضها كالشاشة السينمائية امام اعين اولئك الـمكفوفين الذين حرموا من نور ابصارهم في الدنيا.

فبامكانك ايها الاخ الـحصول على هذه العين النورانية التي تكشف عن الـجنة فيما فوق السموات العلى وانت بعدُ تـحت الثرى، وذلك بالصبر والشكر على ذلك الـحجاب الـمسدل على عينيك، واعلم ان الـحكيم الـمختص بالعين والقادر على رفع ذلك الـحجاب عن عينينك لترى بتلك العين النورانية، انـما هو القرآن الـحكيم.

الدواء الـخامس عشر

ايها الـمريض الـمتأوه بالانين! لاتتأوه ابداً ولا تئن ناظراً الى صورة الـمرض القبيحة الـمذمومة، بل انظر الى معناه وفـحواه وانبسط قائلاً: الـحمد لله.

فلو لـم يكن معنى الـمرض شيئاً جـميلاً لـما كان الـخالق الرحيم يبتلي احبّ احبائه من عباده بالامراض والاسقام، فقد جاء في الـحديث الشريف: ((أشدّ الناس بلاءً الانبياء ثـم الاولياء، ثـم الامثل فالامثل))(1) او كما قال. ويقف في مقدمة الـمبتلين النبي الصابر ايوب عليه السلام، ثـم الانبياء الباقون عليهم السلام، ثـم الاولياء ثـم الصالـحون. وقد تلقوا جـميعاً تلك الامراض التي قاسوها عبادة خالصة وهدية رحـمانية، فأدوا الشكر من خلال الصبر، وكانوا يرونها نوعاً من العمليات الـجراحية تـمنح لـهم من لدن الرحـمن الرحيم.

فانت ايها الـمريض الـمتأوه الـمتألـم! إن كنت تروم الالتحاق بهذه القافلة النورانية، فأد الشكر في ثنايا الصبر، والاّ فان شكواك ستجعلهم يـحجمون عن ضمـّك الى قافلتهم، وستهوي بنفسك في هوة الغافلين! وستسلك درباً تـخيم عليه الظلمات.

نعم، هناك امراض اذا اعقبتها الـمنية، يكلل صاحبها شهادة معنوية تـحرزه مقام الولاية لله، وهي تلك الامراض التي تتمخض عن الولادة(2) وغصص البطن، والغرق والـحرق والطاعون، فهذه الامراض اذا مات بها صاحبها فانه سيرتفع الى درجة الشهيد الـمعنوي، فهناك امراض كثيرة ذات بركة تكسب صاحبها درجة الولاية بالـموت الذي تنتهي به، ولـما كان الـمرض يـخفف من شدة حب الدنيا وغلوائها ومن عشقها والعلاقة الشديدة بـها فهو يـخفف كذلك الفراق الاليم والـمرّلاهل الدنيا وهـم يغادرونها بالـموت بل قد يحببه اليهم.

الدواء السادس عشر

ايها الـمريض الشاكي من الضجر! ان الـمرض يلقـّن صاحبه اهم عرى الـحياة الاجتماعية والانسانية واجمل اواصرها وهما الاحترام والـمحبة، لانه ينقذ الانسان من الاستغناء عن الآخرين، ذلك الاستغناء الذي يسوق الى الوحشة ويـجرد الانسان من الرحـمة، لانه يتبيتّن من الآية الكريـمة } إنَ الانسانَ ليطغى ` أن رآهُ استغنى { (العلق:6-7) ان النفس الامارة الواقعة في شباك الاستغناء – الناجـم عن الصحة والعافية – لن تشعر بالاحترام اللائق تـجاه العلاقات الاخوية، ولن تـحس بالرحـمة والرأفة بالـمبتلين يالـمصائب والامراض الـجديرين بالرحـمة والعطف، ولكن متى ما انتاب الانسان الـمرض وادرك مدى عجزه، ومدى فقره، تـحت ضغوط الـمرض وآلامه واثقاله فانه يشعر بالاحترام باشقائه الـمؤمنين اللائقين بالاحترام الذين يقومون برعايته، او الذين يأتون لعيادته، ويشعر كذلك بالرأفة الانسانية وهي خصلة إسلامية تـجاه اهل الـمصائب والبلايا – قياساً على نفسه – فتفيض من قلبه الرحـمة والرأفة بكل معناهما تـجاههم، وتضطرم عنده الشفقة حارة ازاءهم، واذا استطاع قدّم لـهم يد العون، وان يقدر عليه شرع بالدعاء لـهم، او بزيارتهم والاستفسار عن راحتهم واحوالـهم مؤدياً بذلك سنةً مشروعة كاسباً ثوابها العظيم.

الدواء السابع عشر

ايها الـمريض الشاكي من العجز عن القيام باعمال البر! كن شاكراً! فاني ابشرك: بان الذي يفتح ابواب اخلص الـخيرات، انـما هو الـمرض نفسه، فالـمرض فضلاً عن انه يورث ثواباً مستمراً للـمريض وللذين يرعونه لله، فهو يـمثل اهم وسيلة لقبول الدعاء.

نعم، ان رعاية الـمرضى تـجلب لاهل الإيـمان ثواباً عظيماً، وان زيارتهم والسؤال عن صحتهم وراحتهم بشرط عدم تنغيصهم لـهي من السنة الشريفة(1)، وهي كفارة للذنوب في الوقت نفسه. وقد ورد حديث بهذا الـمعنى: اطلبوا دعاء الـمريض فدعاؤه مستجاب(2)، وبـخاصة اذا كان الـمريض من الاقربين، وبـخاصة اذا كان والداً او والده، فان خدمتهما هي عبادة مهمة وهي مثوبة كبرى ايضاً. وان تطمين افئدة الـمرضى وبث السلوان في قلوبهم، يعتبر بـحكم صَدَقة مهمة. فما أسعد اولئك الابناء الذين يقومون برعاية آبائهم او أمهاتهم عند مرضهم ويدخلون البهجة في قلوبهم الرقيقة الـمرهفة فيفوزون بدعاء الوالدين لـهم.

نعم، ان الـحقيقة التي تستحق احتراماً اكثر ومكانة اسمى في الـحياة الاجتماعية هي شفقة الوالدين، وتعويض الابناء الطيبين لتلك الشفقة، بتوجيه الاحترام اللائق والعاطفة البارّة الزكية اليهما حينما يعانون من مرض. وهي لوحة وفية تظهر الوضع الـجيد للابناء وسـمو الانسانية بـحيث تثير اعجاب كل الـمخلوقات حتى الـملائكة، فيحيـّونها مهللين مكبرين وهاتفين: ((ماشاء الله، بارك الله)).

نعم ان العواطف والرأفة والرحـمة الـمحلقة حوالي الـمريض لتذيب ألـم الـمريض وتـحوله الى لذاتٍ حلوة مفرحة.

ان قبول دعاء الـمريض والاستجابة له مسالة مهمة جديرة بالاهتمام. فمنذ حوالي اربعين سنة كنت ادعو للشفاء من مرض في ظهري، ثم ادركتُ ان الـمرض انـما يُمنح لاجل الدعاء، وكما ان الدعاء لا يرفع دعاء، أي ان الدعاء لعدم تـمكنه من إزالة نفسه فان نتيجته اُخروية(1). والدعاء بذاته نوع من العبادة، اذ يلتجىء الـمريض الى الـملاذ الإلـهي عند ادراكه لعجزه.

ولـهذا فان عدم القبول الظاهري لدعوتي بالشفاء من مرضي طوال ثلاثين سنة لـم يصرفني ابداً من ان افكر في يوم من الايام بتركه والتخلي عنه، ذلك لان الـمرض أوان الدعاء ووقته، والشفاء ليس نتيجة الدعاء بل اذا وهب الله سبحانه – وهو الـحكيم الرحيم – الشفاء فانه يهبه من فضله وكرمه، وان عدم قبول الدعاء بالشكل الذي نريده لا يقودنا الى القول بأن الدعاء لـم يُستَجب، فالـخالق الـحكيم يعلم افضل منا ونـحن نـجهل، وانه سبحانه يسوق الينا ما هو خير لنا وانفع، وانه يدّخر لنا الادعية الـخاصة بدنيانا احياناً لتنفعنا في أُخرانا، وهكذا يقبل الدعاء. ومهما يكن فان الدعاء الذي اكتسب الاخلاص والنابع من سرّ الـمرض والآتي من الضعف والعجز والتذلل والاحتياج، قريبٌ جداً من القبول. والـمرض اساس لـمثل هذا الدعاء الـخالص ومداره. فالـمريض والذين يقومون برعايته من الـمؤمنين ينبغي ان يستفيدوا من هذا الدعاء.

الدواء الثامن عشر

ايها الـمريض التارك للشكر والـمستسلم للشكوى!

ان الشكوى تكون نابعة من وجود حق يعود اليك، وانت لـم يذهب حَقـّكَ سدىً حتى تشكو، بل عليك حقوقٌ كثيرة لـم تؤدّ بعدُ شكرها، انك لـم تؤدّ حق الله عليك، وفوق ذلك تقوم بالشكوى بالباطل وكأنك على حق، فليس لك ان تشكو ناظراً الى مَن هو اعلى منك مرتبة من الاصحاء، بل عليك النظر – من زاوية الصحة – الى اولئك العاجزين من الـمرضى الذين هم ادنى منك درجة.

فانت مكلف اذاً بالشكر الـجزيل. فاذا كانت يدُك مكسورةً فتأمل الايدي الـمبتورة ـ واذا كنت ذا عين واحدة فتأمل الفاقدين لكلتا العينين.. حتى تشكر الله سبحانه.

نعم، فليس لأحد في زاوية النعمة حق بـمدّ البصر الى من هو فوقه، لتتأجج نار الشكوى الـمحرقة عنده، الاّ انه عند الـمصيبة يتحتم على الـمرء من زاوية الـمصيبة النظر الى من هو اشد منه مصيبة واعظم مرضاً ليشكر بعد ذلك قانعاً بـما هو فيه. وقد وضح هذا السرّ في بعض الرسائل بـمثال مقتضاه كالآتي:

((شخص يأخذ بيد مسكين ليُصعدهُ الى قمة منارة، ويهدي اليه في كل درجة من درجات المنارة هدية. واخيراً يـختم تلك الـهدايا بأعظم هدية يهبها له عند قمة الـمنارة. واذ كان الـمفروض على هذا الـمسكين ان يقدم الشكر والامتنان ازاء الهدايا الـمتنوعة، تراه يتناسى كل تلك الـهدايا التي اخذها عند تلك الدرجات، او يعدّها غير ذات بال، فلا يشكر، رافعاً ببصره الى مَن هو اعلى منه شاكياً قائلاً: لو كانت هذه الـمنارة اعلى مـما هي عليه، لأبلغ اعلى درجة من هذه الدرجات! لِـمَ لـم تصبح مثل ذلك الـجبل الشاهق ارتفاعاً او الـمنارة الـمجاورة؟…)).

وهكذا اذا قام هذا الرجل بهذه الشكوى، فما اعظم ما يرتكبه من كفران بالنعمة وما اعظم ما يقترف من تـجاوز على الـحق!

وكذا حال الانسان الذي اتي الى الوجود من العدم ولـم يصبح حجراً ولاشجراً ولا حيواناً، بل كان انساناً مسلماً وقد تـمتع كثيراً بالصحة والعافية، ونال درجة من النعمة سامية… مع هذا يأتي هذا الانسان ويُظهر الشكوى من عدم تـمتعه بالصحة والعافية نتيجة بعض العوارض، او لاضاعته النِعَم بسوء اختياره، او من سوء الاستعمال، او لعجزه عن الوصول اليها، ثم يقول: ((ياويلتا ماذا جنيت حتى حلّ بي ما حلّ))، ناطقاً بـما يشيء بانتقاد للربوبية الإلـهية. فهذه الـحالة هي مرض معنوي ومصيبة اكبر من الـمرض الـمادي والـمصيبة التي هو فيها، فهو يزيد مرضه بالشكوى كمن يتصارع ويده مرضوضة. لكن العاقل يتمثل قوله تعالى: } الذينَ اذا أصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إنا للهِ وإنا إليهِ راجعون{ (البقرة:156) فيسلـّم الامر لله صابراً حتى ينتهي ذلك الـمرض من اداء وظيفته ويـمضي الى شأنه.

الدواء التاسع عشر

ان التعبير الصمداني باطلاق ((الاسـماء الـحسنى)) على جـميع اسـماء الله الـجميل ذي الـجلال يدل على ان تلك الاسـماء جـميلة كلـّها. وحيث ان الـحياة هي اجـمل مرآة صمدانية وألطفها واجـمعها في الـموجودات، وان مرآة الـجميل جـميلة ايضاً، وان الـمرآة التي تعكس مـحاسن الـجميل تصبح جـميلة ايضاً، وان كل شيء يصيب تلك الـمرآة من ذلك الـجميل هو جـميل كذلك، فكل ما يصيب الـحياة جـميل ايضاً من زاوية الـحقيقة؛ ذلك لانه يُظهر النقوش الـجميلة لتلك ((الاسـماء الـحسنى)) الـجميلة.

فلو مضت الـحياة بالصحة والعافية على نسق واحد، لاصبحت مرآة ناقصة، بل قد تُشعر – في جهة ما – بالعدم والعبث فتذيق العذاب والضيق، وتهبط قيمة الـحياة، وتنقلب لذة العمر وهناؤه الى ألـم وغصـّة، فيلقي الانسان بنفسه إما الى اوحال السفاهة او الى اوكار اللهو والعربدة ليقضي وقته سريعاً، مَثَله كمثل الـمسجون الذي يعادي عمره الثمين ويقتله بسرعة، بغية انهاء مدة السجن. ولكن الـحياة التي تـمضي بالتـحولات والـحركة وتقضي اطواراً شتى فانها تُشعر ان لـها قيمة ووزناً وتنتج – هذه الـحياة – للعمر اهمية وتُكسبه لذة، حتى ان الانسان لا يرغب في ان يـمضي عمره، رغم ما يعانيه من اصناف الـمشاق والـمصائب ولا يتأوه ولا يتحسر قائلاً: ((أنـّى للشمس ان تغيب وأنـّى لليل أن ينجلي)).

نعم، ان شئت فاسأل شخصاً ثرياً عاطلاً، كل شيء عنده على مايرام. اسأله: كيف حالك؟ فستسمع منه حتماً عبارات أليمة وحسرة مثل: آه من هذا الوقت.. انه لا يـمرّ.. ألا تأتي لنبحث عن لـهو نقضي به الوقت.. هلم لنلعب النرد قليلاً..!. او تسمع شكاوى ناجـمة عن طول الامل مثل: ان أمري الفلاني ناقص.. ليتني افعل كذا وكذا.. اما اذا سألت فقيراً غارقاً في الـمصائب او عاملاً كادحاً: كيف حالك؟ فان كان رشيداً فسيقول لك: اني بـخير والـحمد لله وألف شكر لربي، فاني في سعي دائم.. ياحبذا لو لـم تغرب الشمس بسرعة لا قضي ما في يدي من عمل. فالوقت تـمر حثيثاً والعمر يـمضي دون توقف، ورغم اني منهمك في الواقع، الا أن هذا سيمضي ايضاً، فكل شيء يـحث خطاه على هذا الـمنوال..!. فهو بهذه الاقوال انـما يعبـّر عن قيمة العمر واهميته ضمن اسفه على العمر الذي يهرب منه، آسفاً على ذلك.. فهو يدرك اذاً ان لذة العمر وقيمة الـحياة بالكدّ والـمشقة، اما الراحة والدعة والصحة والعافية فهي تـجعل العمر مراً وتثقله بـحيث يتمنى الـمرء الـخلاص منه بسرعة.

ايها الاخ الـمريض! اعلم ان اصل الـمصائب والشرور بل حتى الذنوب انـما هو العدم كما اثبت ذلك اثباتاً قاطعاً ومفصلاً في سائر الرسائل، والعدم هو شرّ محض وظلمة تامة. فالتوقف والراحة والسكون على نسق واحد ووتيرة واحدة حالات قريبة جداً من العدم والعبث، ودنوّها هذا هو الذي يُشعر بالظلمة بالـموجودة في العدم ويورث ضجراً وضيقاً. اما الـحركة والتـحول فهما وجودان ويُشعران بالوجود، والوجود هو خيرٌ خالص ونور.

فـما دامت الـحقيقة هكذا، فان الـمرض فيك انـما هو ضيف مُرسلٌ اليك ليؤدي وظائفه الكثيرة فهو يقوم بتصفية حياتك القيمة وتقويتها ويرتقي بها ويوجه سائر الاجهزة الانسانية الاخرى في جسدك الى معاونة ذلك العضو العليل ويبرز نقوش اسـماء الصانع الـحكيم، وسينتهي من وظيفته قريباً، ان شاء الله ويـمضي الى شأنه مـخاطباً العافية: تعالى الآن لتمكثي مكاني دائماً، وتراقبي اداء وظيفتك من جديد، فهذا مكانك تسلـّميه واسكنيه هنيئاً.

الدواء العشرون

ايها الـمريض الباحث عن دوائه! اعلم ان الـمرض قسمان: قسم حقيقي وقسم آخر وهمي.

اما القسم الـحقيقي: فقد جعل الشافي الـحكيم الـجليل جلّ وعلا لكل داءٍ دواءً، وخزَنَه في صيدليته الكبرى التي هي الكرة الارضية، فتلك الادوية تستدعي الادواء، وقد خلق سبحانه لكل داء دواء، فاستعمال العلاج وتناوله لغرض التداوي مشروع اصلاً. ولكن يـجب العلم بأن الشفاء وتأثير الدواء لا يكونان الا من الـحق تبارك وتعالى، فمثلما انه سبحانه يهب الدواء فهو ايضاً يهب الشفاء. وعلى الـمسلم الالتزام بارشاد الاطباء الـحاذقين الـمسلمين وتوصياتهم. وهذا الامتثال علاج مهم؛ لان اكثر الامراض تتولد من سوء الاستعمال، وعدم الـحمية، واهمال الارشاد، والاسراف، والذنوب، والذنوب، والسفاهة، وعدم الـحذر. فالطبيب الـمتدين لاشك انه ينصح ضمن الدائرة الـمشروعة ويقدم وصاياه، ويـحذر من سوء الاستعمال والاسراف ويبث في نفس الـمريض التسلية والامل، والـمريض بدوره اعتماداً على تلك الوصايا والسلوان يـخفّ مرضه ويغمره الفرح بدلاَ من الضيق والضجر.

اما القسم الوهمي من الـمرض: فان علاجه الـمؤثر الناجع هو: ((الاهمال)) اذ يكبر الوهم بالاهتمام وينتفش، وان لـم يُعبأ به يصغر وينزوي ويتلاشى. فكما اذا تعرض الانسان لوكر الزنابير فانها تتجمع وتهجم عليه، وان لـم يهتم تتفرق عنه وتتشتت.

وكما ان الذي يلاحق باهتمام خيالاً في الظلمات من حبلٍ متدلٍ، سيكبر امامه ذلك الـخيال حتى قد يوصله الى الفرار كالـمعتوه، واذا لـم يهتم فسينكشف لـه ان ذلك انـما هو حبل وليس بثعبان.. ويبدأ بالسخرية من اضطراب ذهنه وتوهمه. فهذا الـمرض الوهمي كذلك اذا دام كثيراً فسينقلب الى مرض حقيقي، فالوهم عند مرهف الـحس، عصبي الـمزاج مرض وبيل جداً، حيث يستهوله ويـجعل له الـحبة قبة، فتنهار قواه الـمعنوية، وبـخاصة اذا صادف أنصاف الاطباء ذوي القلوب الغلاظ الـخالية من الرحـمة، او الاطباء غير الـمنصفين، الذين يثيرون اوهامه ويـحركونها اكثر من ذي قبل حتى تذهب امواله وتنضب ان كان غنياً، او يفقد عقله او يـخسر صحته تـماماً.

الدواء الـحادي والعشرون

ايها الاخ الـمريض! حقاً ان في مرضك الـماً مادياً، الا أن لذة معنوية مهمة تـحيط بك، تـمحو كل آثار ذلك الالـم الـمادي؛ لان ألـمك الـمادي لايفوق تلك الرأفة او الشفقة اللذيذة التي نسيتها منذ الصغر، والتي تتفجر الآن من جديد في اكباد والديك واقاربك نـحوك، ان كان لك والدان واقارب. حيث ستستعيد تلك العواطف والنظرات الابوية الـحنونة الـحلوة التي كانت تتوجه اليك في الطفولة، وينكشف الـحجاب عن احبائك من حواليك ليرعوك من جديد وينطلقوا اليك بـمحبتهم ورأفتهم بـجاذبية الـمرض التي أثارت تلك العواطف الداخلية، فما أرخص تلك الآلام الـمادية التي تعاني منها امام ما يؤديه لك من خدمات جليلة مـمزوجة بالرحـمة والرأفة بـحكم مرضك اولئك الذين سعيتَ انت – بكل فـخر – لـخدمتهم ونيل رضاهم، فاصبحت بذلك سيداً وآمراً عليهم وفزت ايضاً بـمرضك في كسب الـمزيد من الاحبة الـمعاونين والاخلاء الـمشفقين. فتضمهم اليك للرقة والرأفة الانسانية التي جُبل عليهما الانسان.

ثم انك قد اخذت بـمرضك هذا اجازة من الوظائف الشاقة الـمهلكة، فأنت الآن في غنى عنها وفي راحة منها… فلا ينبغي ان يسوقك ألـمك الـجزئي الى الشكوى بل الى الشكر تـجاه هذه اللذات الـمعنوية.

الدواء الثاني والعشرون

ايها الاخ الـمريض بداء عضال كالشلل! انني ابشّرك اولاً بأن الشلل يعدّ من الامراض الـمباركة للـمؤمن.. لقد كنت اسمع هذا منذ مدة من الاولياء الصالـحين فكنت اجهل سرّه، ويـخطر الآن احد اسراره على قلبي هكذا:

ان اهل الولاية قد تعقبـّوا بارادتهم اساسيَن مهميـّن للوصول الى الـحق تبارك وتعالى نـجاةً من اخطار معنوية عظيمة ترد من الدنيا وصماناً للسعادة الابدية. والاساسان:

اولـهما: رابطة الـموت، أي أنهم سعوا لاجل سعادتهم في الـحياة الابدية بالتفكر في فناء الدنيا وبأنهم ضيوف يُستخدمون لوظائف موقتة.

وثانيهما: اماتة النفس الامارة بالسوء بالـمجاهدات والرياضة الروحية لاجل الـخلاص من مهالك تلك النفس، والاحاسيس التي لاترى العقبى.

فيا اخي الذي فقد من كيانه نصف صحته، لقد اُودع فيك دون اختيار منك اساسان قصيران سهلان، يـمهـّدان لك السبيل الى سعادت الابدية، ويذكـّرانك دائماً بزوال الدنيا وفناء الانسان. فلا تتمكن الدنيا بعدئذ من حبس انفاسك وخنقك، ولاتـجرؤ الغفلة على غشيان عيونك. فالنفس الامارة لاتتمكن بالشهوات الرذيلة ان تـخدع مَن هو نصف انسان، فينجو من بلائها وشرها بسرعة. والـمؤمن بسر الإيـمان والاستسلام والتوكل يستفيد من داء عضال كالشلل بأقصر وقت استفادة الـمجاهدين من اهل الولاية بالرياضة في الـمعتكفات، فيتضاءل عندئذ ذلك الداء ويزهد.

الدواء الثالث والعشرون

ايها الـمريض الوحيد الغريب العاجز! ان كانت غربتك وعدم وجود من يعيلك فضلاً عن مرضك سبباً في لفت القاوب القاسية نـحوك وامتلائها بالرقة عليك، فكيف بنظر رحـمة خالقك الرحيم ذي الـتجليات الذي يقدم نفسه اليك في بدء سور القرآن بصفته الـجليلة ((الرحـمن الرحيم)) والذي يـجعل جـميع الامهات – بلمعةٍ من لـمعات شفقته ورأفته الـخارقة – يقمن بتربية اولادهن.. والذي يـملأ وجه الدنيا ويصبغه في كل ربيع بتجلٍ من رحـمته ويـملأه بانواع نعمه وفضله.. وبتجلٍ من رحـمته كذلك تتجسم الـجنة الزاخرة بكل مـحاسنها. فانتسابك اليه بالإيـمان والالتجاء اليه بلسان العجز الـمنبعث من مرضك، ورجاؤك منه وتضرعك اليه يـجعل من مرضك في وحدتك وغربتك هدفاً ووسيلة تـجلب اليك نظر الرحـمة منه سبحانه تلك النظرة التي تساوي كل شيء.

فما دام هو موجوداً ينظر اليك فكل شيء موجود لك. والغريب حقاً والوحيد اصلاً هو ذلك الذي لاينتسب اليه بالإيـمان والتسليم، او لايرغب في ذلك الانتساب.

الدواء الرابع والعشرون

ايها الـممرضون الـمعتنون بالاطفال الـمرضى الابرياء وبالشيوخ الذين هم بـحكم الاطفال عجزاً وضعفاً‍ ان بين ايديكم تـجارة اخروية مهمة، فاغتنموا تلك التجارة وليكن شوقكم اليها عظيماً وسعيكم حثيثاً. ان امراض الاطفال الابرياء هي حقنات تربية ربانية لاجسادهم الرقيقة للاعتياد عليها وترويضهم بها لـمقاومة مشتقات الـحياة في الـمستقبل، وهي تـحمل حكماً وفوائدَ تعود عليهم في حياتهم الدنيوية وفي حياتهم الروحية، فتصفي حياة الصغار تصفية معنوية مثلما تصفى حياة الكبار بكفارة الذنوب. فهذه الـحقن اسس للرقي الـمعنوي ومداره في مستقبل اولئك الصغار او في آخرتهم.

والثواب الـحاصل من مثل هذه الامراض يُدرج في صحيفة اعمال الوالدين او في صحيفة حسنات الوالدة التي تفضلُ صحة ولدها – بسر الشفقة – على نفسها، كما هو ثابت لدى اهل الـحقيقة.

اما رعاية الشيوخ والاعتناء بهم، فضلاً عن كونه مداراً لثواب عظيم وبـخاصة الوالدين والظفر بدعائهم واسعاد قلوبهم والقيام بـخدمتهم بوفاء واخلاص، يقود صاحبه الى سعادة الدنيا والآخرة، كما هو ثابت بروايات صحيحة وفي حوادث تأريـخية كثيرة. فالولد السعيد البار بوالديه العاجزين سيرى الطاعة نفسها من ابنائه، بينما الولد العاق الـمؤذي لأبويه مع ارتداده الى العذاب الاخروي سيجد كذلك في الدنيا مهالك كثيرة.

نعم انه ليست رعاية الشيوخ والعجائز والابرياء من الاقربين وحدهم، بل حتى اذا صادف الـمؤمن شيخاً مريضاً ذا حاجة جديراً بالاحترام فعليه القيام بـخدمته بهمة واخلاص، مادامت هنالك اخوة ايـمانية حقيقية وهذا مـما يقتضيه الإسلام.

الدواء الـخامس والعشرون

ايها الاخوان الـمرضى‍ اذا كنتم تشعرون بـحاجة الى علاج قدسي نافع جداً، والى دواءٍ لكل داء يـحوي لذة حقيقية، فـمدّوا ايـمانكم بالقوة واصقلوه، أي تناولوا بالتوبة والاستغفار والصلاة والعبادة العلاج القدسي الـمتمثل في الإيـمان.

نعم، ان الغافلين بسبب حبـّهم للدنيا والتعلق بها بشدة كأنهم قد اصبحوا يـملكون كياناً معنوياً عليلاً بـحجم الدنيا كلها، فيتقدم الإيـمان ويقدّم لـهذا الكيان العليل الـمكلوم بضربات الزوال والفراق، مرهم شفائه منقذاً إياه من تلك الـجروح والشروخ، وقد أبتنا في رسائل عدة بأن الإيـمان يهب شفاءً حقيقياً، وتـجنباً للاطالة أوجز قولي بـما يأتي:

ان علاج الإيـمان يتبين تأثيره بأداء الفرائض ومراعاة تنفيذها ما استطاع الانسان اليها سبيلاً، وان الغفلة والسفاهة وهوى النفس واللهو غير الـمشروع يبطل مفعول ذلك العلاج وتأثيره.

فما دام الـمرض يزيل الغشاوة، ويقطع دابر الاشتهاء، ويتمنع ولوج اللذات غير الـمشروعة، فاستفيدوا منه واستعملوا علاج الإيـمان الـحقيقي وانواره القدسية بالتوبة والاستغفار والدعاء والرجاء.. منـحكم الـحق تبارك وتعالى الشفاء ويـجعل من امراضكم مكفرات للذنوب.. آمين.. آمين.. آمين.

} وقَالُوا الـحـمدُ لله الذي هَدينا لـهذا وما كُنا لنهتَدي لولا أنْ هدينا الله لقد جَاءتْ رُسُل ربنا بالـحقَ { (الاعراف:43)

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)

اللهم صلّ على سيدنا مـحمد، طب القلوب ودوائها،

وعافية الابدان وشفائها،

ونور الابصار وضيائها،

وعلى آله وصحبه وسلم.

ذيل اللمعة الـخامسة والعشرين

وهو ((الـمكتوب السابع عشر)) ادرج ضمن الـمكتوبات

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:47 PM

رد: اللمعات
 
اللمعة السادسة والعشرون

((رسالة الشيوخ))

((هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين نور رجاء وضياء تسلٍ))(1).

تنبيه

ان السبب الذي دعاني الى تسجيل ما كنت اعانيه من آلام معنوية في مستهل كل رجاء بأسلوب مؤثر جداً الى حد يثير فيكم الألـم ايضاً، انـما هو لبيان مدى قوة مفعول العلاج الوارد من القرآن الـحكيم وشدة تأثيره الـخارق.

بيد ان هذه ((اللمعة)) التي تـخصّ الشيوخ لـم تـحافظ على حسن البيان، وجـمال الافادة لعدة اسباب:

اولـها: لأنها تـخص احداث حياتي الشخصية ووقائعها، فالذهاب عبر الـخيال الى تلك الازمنة، ومعايشة احداثها، ومن ثـم تناولـها بالكتابة بتلك الـحالة، سبـّب عدم الـمحافظة على الانتظام في البيان والتعبير.

ثانيها: اعترى البيان شيء من الاضطراب، لأن الكتابة كانت بعد صلاة الفجر، حيث كنت اشعر حينها بتعب وانهاك شديدين، فضلاً عن الاضطرار الى الاسراع في الكتابة.

ثالثها: لـم يكن لدينا متسع من الوقت للقيام بالتصحيح الكامل؛ فالكاتب الذي كان معي مرهق بشؤون ((رسائل النور)) وكثيراً ما كان يعتذر عن الـحضور مـما أفقد الـمضمون التناسق الـمطلوب.

رابعها: لـم نستطع الاّ الاكتفاء بالتصحيحات والتعديلات العابرة دون التوغل في اعماق الـمعاني؛ لـما كنا نـحسّ به من تعب ونصب عقب التأليف، فلا جرم ان رافق الـموضوع شيء من التقصير في التعبير والأداء.

لذا نهيب بالشيوخ الكرام أن ينظروا بعين الصفح والسماح الى قصوري في الاداء، وان يـجعلوني ضمن دعواتهم عندما يرفعون اكـّفهم متضرعين الى الله الرحـيم الذي لا يردّ دعوات الشيوخ الطيبين…





بِسْمِ اللهِ الـرَّحـمنِ الـرَّحيْمِ

} كهيعص ` ذِكـْرُ رَحأْمَتِ رَبـِّكَ عَبـْدَهُ زكريـّا ` إذْ نادى رَبـَّهُ نِداءً خَفِيـّاً ` قال ربّ إني وهَنَ العـَظمُ مِنـّي واشَتـَعَلَ الرَّأسُ شَيباً ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيـّاً{ (مريـم:1-4)

(هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين رجاء)

الرجاء الاول

يا من بلغتم سنّ الكمال، ايها الاخوة الشيوخ الاعزاء، ويا ايتها الاخوات العجائز الـمحترمات! انني مثلكم شيخ كبير، سأكتب لكم بعض مامرّ عليّ من احوال، وما وجدته بين حين وآخر من ابواب الامل، وبوارق الرجاء في عهد الشيخوخة، لعلكم تشاركونني في انوار السلوة الـمشعة من تلكم الرجايا والآمال. ان ما رأيته من الضياء، وما فتحه الله عليّ من ابواب النور والرجاء، انـّما شاهدته حسب استعدادي الناقص وقابلياتي الـمشوشة، وستجعل استعداداتكم الـخالصة الصافية – بإذن الله – ذلك الضياء اسطع وأبهر مـما رأيته، وذلكم الرجاء اقوى وامتن مـما وجدته.

ولاريب انّ منبع ماسنذكره من الاضواء ومصدر ما سنورده من الرجايا ما هو الاّ ((الإيـمان)).

الرجاء الثاني

حينما شارفت على الشيخوخة، وفي احد ايام الـخريف، وفي وقت العصر، نظرت الى الدنيا من فوق ذروة جبل، فشعرت فجأة حالة في غاية الرقة والـحزن مع ظلام يكتنفها، تدب في اعماقي.. رأيت نفسي: انني بلغت من العمر عتياً، والنهار قد غدا شيخاً، والسنة قد اكتهلت، والدنيا قد هرمت.. فهزّني هذا الهرم الذي يغشى كل شيء حولي هزّاً عنيفاً. فلقد دنا أوان فراق الدنيا، واوشك أوان فراق الاحباب ان يحلّ.. وبينما اتـململ يائساً حزيناً اذا بالرحـمة الإلـهية تنكشف امامي انكشافاً حوّل ذلك الـحزن الـمؤلـم الى فرحة قلبية مشرقة، وبدّل ذلك الفراق الـمؤلـم للاحباب الى عزاء يضىء جنبات النفس كلها.

نعم يا امثالي من الشيوخ! ان الله سبحانه وتعالى الذي يقدّم ذاته الـجليلة الينا، ويعرّفها لنا في اكثر من مائة موضع في القرآن الكريـم، بصفة ((الرحـمن الرحيم)).. والذي يرسل رحـمته بـما يسبغ على وجه الارض دوماً من النعم، مدداً وعوناً لـمن استرحـمه من ذوي الـحياة، والذي يبعث بهداياه من عالـم الغيب فيغمر الربيع كل سنة بنعم لاتعد ولاتـحصى، يبعثها الينا نـحن الـمحتاجين الى الرزق، مظهراً بها بـجلاء تـجليات رحـمته العميقة، وفق مراتب الضعف ودرجات العجز الكامنة فينا. فرحـمة خالقنا الرحيم هذه اعظمُ رجاءً، واكبر أملاً في عهد شيخوختنا هذه، بل هي اسطع نوراً لنا.

ان ادراك تلك الرحمة والظفر بها، انـّما يكون بالانتساب الى ذلك ((الرحـمن)) بالإيـمان، وبالطاعة له سبحانه باداء الفرائض والواجبات.

الرجاء الثالث

حينما أفقت على صبح الـمشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت الى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر سعياً من علٍ الى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي الـمصري(1):

بناء العمر يذوي حجراً إثر حجر غافلاً يغط الروح وبناؤه قد اندثر

فجسمي الذي هو مأوى روحي، بدأ يتداعى ويتساقط حجراً إثر حجر على مرّ الايام.. وآمالي التي كانت تشدّني بقوة الى الدنيا، بدأت اوثاقها تنفصم وتنقطع. فدب فيّ شعور بدنو وقت مفارقة من لايـحصى من الاحبة والاصدقاء، فاخذت ابـحث عن ضماد لـهذا الـجرح الـمعنوي الغائر، الغائر، الذي لا يرجى له دواء ناجع كما يبدو!. لـم استطع أن اعثر له على علاج، فقلت ايضاً كما قال نيازي الـمصري:

حكمة الاله تقضـي فناء الـجسد والقلــب تواق الـى الابـــــد

لـهف نفـســي من بلاء وكـمــد حار لـقمان في أيـجاد الضمد

وبينما كنت في هذه الـحالة اذا بنور الرسول الكريـم e الذي هو رحـمة الله على العالـمين، ومثالها الذي يعبـّر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، واذا بشفاعته، وبـما أتاه من هداية الـهداية الى البشرية، يصبح يلسماً شافياً، ودواءاً ناجعاً لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويبدل ذلك اليأس القاتـم الذي احاطني الى نور الرجاء الساط.

اجل، ايها الشيوخ وايتها العجائز الـموقرون، ويامن تشعرون كلكم بالشيخوية مثلي!. اننا راحلون ولامناص من ذلك.. ولن يُسمح لنا بالـمكوث هنا بـمخادعة النفس واغماض العين، فنحن مساقون الى الـمصير الـمحتوم. ولكن عالـم البرزخ، ليس هو كما يتراءى لنا بظلمات الاوهام الناشئة من الغفلة، وبـما قد يصوره اهل الضلالة، فليس هو بعالـم الفراق، ولا بعالـم مظلم بل هو مـجمع الأحباب، وعالـم اللقاء مع الاحبة والاخلاّء، وفي طليعتهم حبيب رب العالـمين وشفيعنا عنده يوم القيامة عليه افضل الصلاة والسلام.

نعم، ان مَن هو سلطان ثلاثـمائة وخـمسين مليوناً من الناس في كل عصر، عبر ألف وثلاثـمائة وخـمسين سنة وهو مربـّى ارواحهم، ومرشد عقولـهم، ومـحبوب قلوبهم، والذي يُرفع الى صحيفة حسناته يومياً امثال ما قدمت أمته من حسنات، اذ ((السبب كالفاعل)) والذي هو مدار الـمقاصد الربانية، ومـحور الغايات الإلـهية السامية في الكون، والذي هو السبب لرقي قيمة الـموجودات وسـمـّوها، ذلك الرسول الاكرم e ، فكما أنه قال في الدقائق الاولى التي تشرّف العالـم به ((امتي.. امتي..)) كما ورد في الروايات الصحيحة والكشفيات الصادقة، فانه e يقول في الـمحشر ايضاً: ((امتي.. امتي..)) ويسعى بشفاعته الى امداد امته واغاثتها باعظم رحـمة واسـماها واقدسها واعلاها، في الوقت الذي يقول كلّ فرد من الـجموع العظيمة: ((نفسي.. نفسي)). فنـحن اذن ذاهبون الى العالـم الذي ارتـحل اليه هذا النبي الكريـم، راحلون الى العالـم الذي استنار بنور ذلك السراج الـمنير وبـمن حوله من نـجوم الاصفياء والاولياء الذين لايـحصرهم العد.

نعم، ان اتباع السنة الشريفة لـهذا النبي الكريـم e هو الذي يقود الى الانضواء تـحت لواء شفاعته والاقتباس من انواره، والنـجاة من ظلمات البرزخ.

الرجاء الرابع

حينما وطأت قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الـجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتـمدّها قد اعتلـّت ايضاً فاتفقت الشيخوخة والـمرض معاً على شن الـجوم عليّ، ومازالا يكيلان على راسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنـّي. ولـم يكن لي ثـمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت ان عصارة عمري الذي اضعته بغفلة الشباب، انـما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلـما صاح نيازي الـمصري:

ذهب العُمر هباءً، لـم أفز فيه بشيء

ولقد جئت اسير الدرب، لكنْ

رحل الرّكبُ بعيداً

وبقيتْ

ذلك النائي الغريب

وبكيتْ

همتُ وحدي تائهاً اطوي الطريق

وبعينيّ ينابيع الدموع

وبصدري حرقة الشوق

حار عقلي..!

كنت حينها في غربة مضنية، فشعرت بحزن يائس، واسف نادم، وحسرة ملتاعة على ما فات من العمر. صرخت من اعماقي اطلب امداد العون، وضياء الرجاء.. واذا بالقرآن الـحكيم الـمعجز البيان يـمدّني، ويسعفني، ويفتح امامي باب رجاء عظيم، ويـمنحني نوراً ساطعاً من الامل والرجاء يستطيع ان يزيل اضعاف اضعاف يأسي، ويـمكنه ان يبدد تلك الظلمات القاتـمة من حولي.

نعم، ايها الشيوخ وايتها العجائز الـمحترمون، يامَن بدأت اوثاق صلتهم بالانفصام عن الدنيا مثلي! ان الصانع ذا الـجلال الذي خلق هذه الدنيا كأكمل مدينة وأنظمها، حتى كأنها قصر منيف، هل يـمكن لـهذا الـخالق الكريـم الاّ يتكلم مع احبائه واكرم ضيوفه في هذه الـمدينة او في هذا القصر؟ وهل يـمكن الاّ يقابلهم؟!!

فما دام قد خلق هذا القصر الشامخ بعلم، ونظمه بارادة، وزيـّنه باختيار، فلابد انه يتكلم؛ اذ كما ان الباني يعلم، فالعالـم يتكلم. وما دام قد جعل هذا القصر دار ضيافة جـميلة بهيجة، وهذه الـمدينة متجراً رائعاً، فلابد ان يكون له كتب وصحف يبين فيها مايريده منا، ويوضح علاقاته معنا.

ولاشك ان اكمل كتاب من تلك الكتب الـمقدسة التي انزلـها، انـما هو القرآن الـحكيم الـعجز، الذي ثبت اعجازه بأربعين وجهاً من وجوه الاعـجاز، والذي يتلى في كل دقيقة بألسنة مائة مليون شخص في الاقل، والذي ينشر النور ويـهدي السبيل. والذي في كل حرف من حروفه عشر حسنات، وعشر مثوبات في الاقل، واحياناً عشرة آلاف حسنة، بل ثلاثين ألف حسنة، كما في ليلة القدر. وهكذا يـمنح من ثـمار الـجنة ونور البرزخ ما شاء الله ان يـمنح. فهل في الكون اجـمع كتاب يناظره في هذا الـمقام، وهل يـمكن ان يدّعي ذلك احد قط؟

فـما دام هذا القرآن الكريـم الذي بين ايدينا هو كلام رب العالـمين، وهو أمره الـمبلـّغ الينا، وهو منبع رحـمته التي وسعت كل شيء، وهو صادر من خالق السـموات والارض ذي الـجلال، من جهة ربوبيته الـمطلقة، ومن جهة عظمة ألوهيته، ومن جانب رحـمته الـمحيطة الواسعة، فاستمسك به واعتصم، ففيه دواء لكل داء، ونور لكل ظلام، ورجاء لكل يأس.. وما مفتاح هذه الـخزينة الابدية الاّ الإيـمان والتسليم، والاستماع اليه، والانقياد له، والاستمتاع بتلاوته.

الرجاء الـخامس

في بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منـّي في الانزواء والاعتزال عن الناس، بـحثَت روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على تل ((يوشع)) الـمطل على البسفور. فلما كنت – ذات يوم – اسرح بنظري الى الافق من على ذلك التل الـمرتفعـ رأيت بنذير الشيخوخة لوحة من لوحات الزوال والفراق تتقطر حزناً ورقة، حيث جُلتُ بنظري من قمة شـجرة عمري، من الغصن الـخامس والاربعين منها، الى ان انتهيت الى اعماق الطبقات السفلى لـحياتي، فرأيت ان في كل غصن من تلك الاغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة، جنائز لاتـحصر من جنائز احبائي واصدقائي وكل مَن له علاقة معي. فتأثرت بالغ التأثر من فراق الاحباب وافتراقهم، وترنـمت بأنين ((فضولي البغدادي))(1) عند مفارقته الاحباب قائلاً:

كلــما حــنَّ الوصـال عَذبٌ دمعي مادام الشهيق

لقد بـحثتُ من خلال تلك الـحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلـّى بها نفسي. فاذا بنور الإيـمان بالاخرة يغيثني ويـمدّني بنور باهر. انه منحني نوراً لاينطفىء ابداً، ورجاءً لا يـخيب مطلقاً.

اجل يا اخواني الشيوخ ويا اخواتي العجائز! مادامت الآخرة موجودة، ومادامت هي باقية خالدة، ومادامت هي اجـمل من الدنيا، ومادام الذي خلقنا حكيماً ورحيماً؛ فما علينا اذاً إلاّ عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛ ذلك لان الشيخوخة الـمشرّبة بالإيـمان والعبادة، والـموصلة الى سنّ الكمال، ماهي الاّ علامة انتهاء واجبات الـحياة ووظائفها، واشارة ارتـحال الى عالـم الرحـمة للخلود الى الراحة. فلابدّ اذن من الرضا بها اشدّ الرضا.

نعم ان اخبار مائة واربعة وعشرين ألفاً من الـمصطفين الاخيار وهم الانبياء والـمرسلون(2) عليهم الصلاة والسلام – كما نص عليه الـحديث – اخباراً بالاجـماع والتواتر مستندين الى الشهود عند بعضهم والى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، واعلانهم بالاجـماع ان الناس سيساقون اليها، وان الـخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

وان تصديق مائة واربعة وعشرين مليوناً من الاولياء كشفاً وشهوداً ما اخبر به هؤلاء الانبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين، دليل قاطع وايّ دليل على وجود الآخرة.

وكذا، فان تـجليات جـميع الاسـماء الـحسنى لـخالق الكون الـمتجلـّية في ارجاء العالـم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالـم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

وكذا القدرة الإلـهية وحكمتها الـمطلقة، التي لا اسراف فيها ولا عبث، والتي تـحيي جنائز الاشـجار الـميتة وهياكلها الـمنتصبة، تـحييها وهي لاتعد ولاتـحصى على سطع الارض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ((كن فيكون)) وتـجعلها علامة على ((البعث بعد الـموت)) فتحشر ثلاثـمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمـم الـحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الالوف من نـماذج الـحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

وكذا الرحـمة الواسعة التي تديـم حياة جـميع ذوي الارواح الـمحتاجة الى الرزق، وتعيـّشها بكنال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر انواع الزينة والـمحاسن بـما لا يُعد ولايـحصى، في فترة قصيرة جداً في كل ربيع. لاشك انهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.

وكذا عشق البقاء، والشوق الى الابدية وآمال السرمدية الـمغروزة غرزاً لا انفصام لـها في فطرة هذا الانسان الذي هو اكمل ثـمرة لـهذا الكون، واحب مـخلوق الى خالق الكون، وهو اوئق صلة مع موجودات الكون كله، لاشك انه يشير بالبداهة الى وجود عالـم باقٍ بعد هذا العالـم الفاني، والى وجود عالـم الآخرة ودار السعادة الابدية.

فـجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة – الى حدّ يستلزم القبول – وجود الآخرة بـمثل بداهة وجود الدنيا(1).

فما دام أهم درس يلقننا القرآن أيـّاه هو ((الإيـمان بالآخرة)) وهذا الدرس رصين ومتين الى هذه الدرجة، وفي ذلك الإيـمان نور باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم مالو اجتمعت مائة الف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء وذلك السوان النابع من هذا الإيـمان؛ لذا علينا نـحن الشيوخ ان نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: ((الـحمد لله على كمال الإيـمان)).

الرجاء السادس

حينما كنت في منفاي ذلك الاسر الاليم بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل ((جام)) الـمطلة على مراعي ((بارلا)).. كنت ابـحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير الـمسقفة، الـمنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك الـمرتفع، اذا بشيخوختي تشعرني بألوان وانواع من الغربة الـمتداخلة – كما جاء ذلك في الـمكتوب السادس بوضوح – ففي سكون تلك الليلة حيث لا اثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الـحزين لـحفيف الاشجار وهمهمتها.. احسست بأن ذلك الصدى الاليم قد اصاب صميم مشاعري، ومس اعماق شيخوختي وغربتي، فهمّست الشيخوخةُ في اذني منذرةً:

ان النهار قد تبدل الى هذا القبر الـحالك، ولبست الدنيا كفنها الاسود، فسوف يتبدل نهار عمرك الى ليل، وسف ينقلب نهار الدنيا الى ليل البرزخ، وسوف يتحول نهار صيف الـحياة الى ليل شتاء الـموت.

فأجابتها نفسي على مضض:

نعم، كما انني غريبة هنا عن بلدتي ونائية عن موطني، فان مفارقتي لاحبائي الكثيرين خلالا عمري الذي ناهز الـخمسين ولا املك سوى تذراف الدموع وراءهم هي غربة تفوق غربتي عن موطني.. واني لأشعر في هذه الليلة غربة اكثر حزناً واشد ألـماً من غربتي على هذا الـجبل الذي توشح بالغربة والـحزن، فشيخوختي تنذرني بدنوي من موعد فراق نهائي عن الدنيا وما فيها، ففي هذه الغربة الـمكتنفة بالـحزن، ومن خلال هذا الـحزن الذي يـمازجه الـحزن، بدأتُ ابحث عن نور، وعن قبس امل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء ((الإيـمان بالله)) لـنجدتي ولشد ازري، ومنحني أنساً عظيماً بـحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي اضعافاً مشاعفة لكان ذلك الانس كافياً لإزالتها.

نعم، ايها الشيوخ، ويا ايتها العجائز!.. فـما دام لنا خالق رحيم، فلا غربة لنا اذاً ابداً.. ومادام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود اذاً، ومادام هو موجوداً وملائكته موجودة. فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولاحسيس، وهذه الـجبال الـخاوية، وتلك السحارى الـمقفرة كلها عامرة ومأهولة بعبادة الله الـمكرمين، بالـملائكة الكرام. نعم، ان نور الإيـمان بالله سبحانه، والنظرة الى الكون لاجله، يـجعل الاشجار بل حتى الاحجار كأنها اصدقاء مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يـمكن لتلك الـموجودات ان تتكلم معنا – بلسان الـحال – بـما يسلينا ويروّح عنا.

نعم، ان الدلائل على وجوده سبحانه بعدد موجودات هذا الكون، وبعدد حروف كتاب العالـم الكبير هذا، وهناك دلائل وشواهد على رحـمته بعدد اجهزة ذوي الارواح وما خصهم من نِعَمه ومطعوماته التي هي مـحور الشفقة والرحـمة والعناية، فجميعها تدل على باب خالقنا الرحيم والكريـم، وصانعنا الانيس، وحامينا الودود، ولاشك ان العجز والضعف هما ارجى شفيعين عند ذلك الباب السامي. وان عهد الشيب أوانهما، ووقت ظهورهما، فعلينا إذن ان نوّد الشيخوخة، وان نـحبها، لا ان نعرض عنها؛ اذ هي شفيع مرتـجى امام ذلك الباب الرفيع.

الرجاء السابع

حينما تبدلت نشوة ((سعيد القديـم)) وابتساماته الى نـحيب ((سعيد الـجديد)) وبكائه، وذلك في بداية الـمشيب، دعاني ارباب الدنيا في ((انقرة)) اليها، ظناً منهم انني ((سعيد القديـم)) فاستجبت للدعوة.

ففي ذات يوم من الايام الاخيرة للخريف، صعدت الى قمـّة قلعة انقرة، التي اصابها الكبر والبلى اكثر مني، فتمثـلـّت تلك القلعة امامي كأنها حوادث تأريـخية متحجرة، واعتراني حزن شديد واسى عميق من شيب السنة في موسم الـخريف، ومن شيبي انا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الـخلافة، ومن شيخوخة الدنيا، فاضطرتني تلك الـحالة الى النظر من ذروة تلك القلعة الـمرتفعة الى اودية الـماضي وشواهق الـمستقبل، أنقب عن نور، وابـحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من اكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم الـمتداخل الـمحيط(1).

فـحينما نظرت الى اليـمين الذي هو الـماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الـجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي واجدادي والنوع الانساني، فأوحشتني بدلاً من ان تسلـّيني.

ثم نظرت الى يسار الذي هو الـمستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من ان يؤنسني.

ثـم نظرت الى زمني الـحاضر بعد ان امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الـحسير ونظرتي التأريـخية على شكل نعش لـجنازة جسمي الـمضطرب كالـمذبوح بين الـموت والـحياة.

فلما يئست من هذه الـجهة ايضاً، رفعت رأسي ونظرت الى قمة شـجرة عمري، فرأيت ان على تلك الشجرة ثـمرة واحدة فقط، وهي تنظر اليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً الى جذور شجرة عمري، فرأيت ان التراب الذي هناك ما هو الاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تـحت الاقدام، فأضافا الى دائي داء من دون ان يـمنحاني دواءً.

ثـم حوّاتُ نظري على مضض الى ما ورائي، فرأيت ان هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في اودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من ان تواسيها بالـمرهم والعلاج الشافي.

ولـما لـم أجد في تلك الـجهة خيراً ولا أملاً، ولـّيت وجهي شطر الامام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت ان القبر واقف لي بالـمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يـحدق بي، وخلفه الصراط الـممتد الى حيث الابد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد امام هذه الـمصائب الـمدهشة التي تأتيني من الـجهات الست، ولا املك سلاحاً يدفع عني غير جزء ضئيل من الارادة الـجزئية. فليس لي اذن امام كل اولئك الاعداء الذين لا حصر لـهم، والاشياء الـمضرة غير الـمحصورة، سوى السلاح الانساني الوحيد وهو الـجزء الاختياري. ولكن لـما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على ايـجاد شيء، وليس في طوقه الاً الكسب فحسب، حيث لا يستطيع ان يـمضي الى الزمان الـماضي ويذبّ عني الاحزان ويسكتها، ولايـمكنه ان ينطلق الى الـمستقبل حتى يـمنع عنّي الاهوال والـمخاوف الواردة منه، أيقنت الاّ جدوى منه فيما يـحيط بي من آلام وآمال الـماضي والـمستقبل.

وفيما كنت مضطرباً وسط الـجهات الست تتولى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، اذ بأنوار الإيـمان الـمتألقة في وجه القرآن الـمعجز البيان، تـمدني وتضيء تلك الـجهات الست وتنورها بانوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وانواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الانوار كافية ووافية لإحاطتها.

فبدّلت – تلك الانوار – السلسلة الطويلة من الوحشة الى سلوان ورجاء، وحولـّت كل الـمخاوف الى انس القلب، وامل الروح الواحدة تلو الاخرى.

نعم، ان الإيـمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالـمقبرة الكبرى، وحوّلـها الى مـجلس منوّر أنوس والى ملتقى الاحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين…

ثـم ان الإيـمان قد أظهر بعلم اليقين ان الـمستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة، كقبر واسع كبير ما هو الاّ مـجلس ضيافة رحـمانية اعدّت في قصور السعادة الـخالدة.

ثـم ان الإيـمان قد حطـّم صورة التابوت والنعش للزمن الـحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، واشهدني ان اليوم الـحاضر انـما هو متجر اخروي، ودار ضيافة رائعة للرحـمن.

ثم ان الإيـمان قد بصـّرني بعلم اليقين ان ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شـجرة العمر على شكل نعش وجنازة. انها ليست كذلك، وانـما هي انطلاق لروحي – التي هي اهل للـحياة الابدية ومرشحة للسعادة الابدية – من وكرها القديـم الى حيث آفاق النـجوم للسياحة والارتياد.

ثـم ان الإيـمان قد بيـّن باسراره؛ ان عظامي ورميمها وتراب بداية خلقتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تـحت الاقدام، وانـما ذلك التراب باب للرحـمة، وستار لسرادق الـجنة.

ثم ان الإيـمان أراني بفضل اسرار القرآن الكريـم ان احوال الدنيا واوضاعها الـمنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم – كما ظنّ في بادىء الامر – بل انها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للاسـماء السبحانية قد اتـّمت مهامها، وأفادت معانيها، واخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيـمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين.

ثم ان الإيـمان قد اوضح لي بنور القرآن ان ذلك القبر الذي احدق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وانـما هو باب لعالـم النور. وان ذلك الطريق الـمؤدي الى الابد ليس طريقاً مـمتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل انه سبيل سوي الى عالـم النور، وعالـم الوجود وعالـم السعادة الـخالدة.. وهكذا اصبحت هذه الاحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.

ثـم، ان الإيـمان يـمنح ذلك الـجزء الضئيل من – الـجزء الاختياري – الذي يـملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها الى قدرة مطلقة، وينتسب بها الى رحـمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الاعداء والظلمات الـمحيطة، بل ان الإيـمان نفسه يكون وثيقة بيد الـجزء الاختياري. ثـم ان هذا الـجزء الاختياري الذي هو السلاح الانساني، وان كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، الاّ أنه اذا استعمل باسم الـحق سبحانه، وبذل في سبيله، ولاجله، يـمكن ان ينال به – بـمقتضى الإيـمان – جنة ابدية بسعة خـمسمائة سنة. مَثَلُ الـمؤمن في ذلك مثل الـجندي اذا استعمل قوته الـجزئية باسم الدولة فانه يسهل له ان يؤدي اعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف الـمرات.

وكما ان الإيـمان يـمنح الـجزء الاختياري وثيقة، فانه يسلب زمامه من قبضة الـجسم الذي لايستطيع النفوذ في الـماضي ولا في الـمستقبل، ويسلمه الى القلب والروح، ولعدم انـحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الـحاضر كما هو في الـجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من الـمستقبل في دائرة تلك الـحياة، فان ذلك الـجزء الاختياري ينطلق من الـجزئية مكتسباً الكلية. فكما انه يدخل بقوة الإيـمان في اعمق اودية الـماضي مبدداً ظلمات الاحزان، كذلك يصعد مـحلقاً بنور الإيـمان الى ابعد شواهق الـمستقبل مزيلاً اهواله ومـخاوفه.

فيا ايها الاخوان الشيوخ، ويا ايتها الاخوات العجائز، ويا من تتألـمون مثلي من تعب الـمشيب! ما دمنا والـحمد لله من اهل الإيـمان، والإيمان فيه خزائن حلوة نيرة لذيذة مـحبوبة الى هذا الـحد، وان شيبنا يدفعنا الى هذه الـخزائن دفعاً اكثر، فليس لنا التشكي من الشيخوخة اذاً، بل يـجب علينا ان نقدم ألف شكر وشكر الى الله عزّ وجلّ، وان نـحمده تعالى على شيبنا الـمنوّر بالإيـمان.

الرجاء الثامن

حينما خالط بعض شعرات رأسي البياض الذي هو علامة الشيخوخة، وكانت اهوال الـحرب العالـمية الاولى وما خلفه الاسر لدى الروس من آثار عميقة في حياتي عمـّقت فيّ نوم غفلة الشباب. وتلا ذلك استقبال رائع عند عودتي من الاسر الى استانبول، سواء من قبل الـخليفة او شيخ الإسلام، او القائد العام، او من قبل طلبة العلوم الشرعية، وما قوبلت به من تكريـم وحفاوة اكثر مـما استحق بكثير.. كل ذلك ولـّد عندي حالة روحية فضلاً عن سكرة الشباب وغفلته، وعمـّقتْ فيّ ذلك النوم اكثر، حتى تصورت معها ان الدنيا دائمة باقية، ورأيت نفسي في حالة عجيبة من الالتصاق بالدنيا كأنني لا أموت.

ففي هذا الوقت، ذهبت الى جامع بايزيد في استانبول، وذلك في شهر رمضان الـمبارك لأستمع للقرآن الكريـم من الـحفاظ الـمخلصين، فاستمعت من لسان اولئك الـحفاظ ما اعلنه القرآن الـمعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الانسان وزواله، ووفاة ذوي الـحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريـمة:

} كُلُّ نَفس ذائِقةُ الموْت { (آل عمران:185).

نفذ هذا الاعلان الداوي صماخ أذني مـخترقاً ومـمزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في اعماق اعماق قلبي.

خرجت من الـجامع، رايت نفسي لبضعة ايام، كأن اعصاراً هائلاً يضطرم في رأسي بـما بقي من آثار ذلك النوم الـمستقر فيّ منذ امد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البـحر الـمضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت انظر الى الـمرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تـخاطبني قائلة: انتبه!!!.

نعم ان الامور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت ان الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً باذواقه يقول لي: الوداع! وان الـحياة الدنيا التي كنت ارتبط بـحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت اتشبث بها، بل كنت مشتاقاً اليها وعاشقاً لـها، رأيتها تقول لي: الوداع!! الوداع!! مشعرة اياي، بانني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها – أي الدنيا – هي الاخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل. وانفتح الى القلب من كلية هذه الآية الكريـمة } كُلُّ نَفس ذائِقةُ الموْت { (آل عمران:185) ومن شـموليتها، ذلك الـمعنى الذي يتضمنها وهو:

ان البشرية قاطبة انـما هي كالنفس الواحدة، فلابد انها ستموت كي تبعث من جديد، وان الكرة الارضية كذلك نفسٌ فلابد انها سوف تـموت ويصيبها البوار كي تتخذ هيأة البقاء وصورة الـخلود، وان الدنيا هي الاخرى نفسٌ وسوف تـموت وتنقضي كي تتشكل بصورة (آخرة).

فكرت فيما أنا فيه؛ فرأيت:

أن الشباب الذي هو مدار الاذواق واللذائذ، ذاهب نـحو الزوال، تارك مكانه للشيخوخة التي هي منشأ الاحزان. وان الـحياة الساطعة الباهرة لفي ارتـحال، ويتهيأ الـموت الـمظلم الـمخيف – ظاهراً – لـيحل مـحلها.

ورأيت الدنيا التي هي مـحبوبة وحلوة ومعشوقة الغفاة وتُظن انها دائمة، رأيتها تـجري مسرعة الى الفناء. ولكي انغمس في الغفلة واخادع نفسي ولـّيت نظري شطر اذواق الـمنزلة الاجتماعية ومقامها الرفي الذي حظيت به في استانبول والذي خُدعت به نفسي وهو فوق حدى وطوقي من حفاوة واكرام وسلوان واقبال واعجاب.. فرأيت أن جـميعها لا تصاحبني الاّ الى حد باب القبر القريب مني، وعنده تنطفىء.

ورأيت أن رياءً ثقيلاً، وأثرة باردة وغفلة مؤقتة، تكمن تـحت الستار الـمزركش للسمعة والصيت، التي هي الـمثل الاعلى لارباب الشهرة وعشاقها، ففهمت ان هذه الامور التي خدعتني حتى الآن لن تـمنحني أي سلوان، ولا يـمكن ان اتلمس فيها أي قبس من نور.

ولكي استيقظ من غفلتي مرة اخرى وانتبه منها نهائياً، بدأت بالاستماع كذلك لأولئك الـحفاظ الكرام في ((جامع بايزيد)) لأتلقى الدرس السماوي للقرآن الكريـم.. وعندها سمعت بشارات ذلك الارشاد السماوي من خلال الاوامر الربانية الـمقدسة في قوله تعالى:

} وبـَشـِّر الذين آمنوا… { (البقرة:25).

وبالفيض الذي اخذته من القرآن الكريـم تـحريت عن السلوة والرجاء والنور في تلك الامور التي ادهشتني وحيـّرتني في يأس ووحشة، دون البحث عنها في غيرها من الامور. فألف شكر وشكر للـخالق الكريم على ما وفقني لان أجد الدواء في الداء نفسه، وأن أرى النور في الظلمة نفسها، وان اشعر بالسلوان في الالـم والرعب ذاتهما.

فنظرت اول ما نظرت الى ذلك الوجه الذي يُرعب الـجميع ويُتوهم أنه مخيف جداً.. وهو وجه ((الـموت)) فوجدت بنور القرآن الكريم، ان الوجه الـحقيقي للـموت بالنسبة للمؤمن صبوح منور، على الرغم من ان حجابة مظلم والستر الذي يخفيه يكتنفه السواد القبيح الـمرعب. وقد اثبتنا واوضحنا هذه الـحقيقة بصورة قاطعة في كثير من الرسائل وبـخاصة في ((الكلمة الثامنة)) و ((الـمكتوب العشرين)) من ان الـموت: ليس اعداماً نهائياً، ولا هو فراقاً ابدياً، وانـما مقدمة وتـمهيد للحياة الابدية وبداية لـها. وهو إنهاء لأعباء مهمة الـحياة ووظائفها ورخصة منها وراحة واعفاء، وهو تبديل مكان بـمكان، وهو وصال ولقاء مع قافلة الاحباب الذين ارتـحلوا الى عالـم البرزخ.. وهكذا، بـمثل هذه الـحقائق شاهدت وجه الـموت الـمليح الصبوح. فلا غرو لـم انظر اليه خائفاً وجلاً، وانـما نظرت اليه بشيء من الاشتياق – من جهة – وعرفت في حينها سراً من اسرار ((رابطة الـموت)) التي يزاولـها اهل الطرق الصوفية.

ثم تأملت في ((عهد الشباب)) فرأيت أنه يُحزن الـجميع بزواله، ويـجعل الكل يشتاقون اليه وينبهرون به، وهو الذي يـمر بالغفلة والآثام، وقد مرّ شبابي هكذا! فرأيت أن ثـمة وجهاً دميماً جداً بل مسكراً ومـحيراً تـحت الـحلة القشيبة الفضفاضة الـملقاة عليه، فلو لـم اكن مدركاً كنهه لكان يبكيني ويـحزنني طوال حياتي الدنيا، حتى لو عمرت مائة سنة حيال بضع سنين تـمضي بشنوة وابتسامة، كما قال الشاعر الباكي على شبابه بـحسرة مريرة:

ألا ليت الشبابَ يعود يوماً فأُخبره بـما فعلَ الـمشيبُ

نعم ان الذين لـم يتبينوا سر الشباب وماهيته من الشيوخ يقضون شيخوختهم بالـحسرة والنـحيب على عهد شبابهم كهذا الشاعر. والـحال ان فتوة الشباب ونضارته اذا ما حلت في الـمؤمن الـمطمئن الـحصيف ذي القلب الساكن الوقور، واذا ما صُرفت طاقة الشباب وقوته الى العبادة والاعمال الصالـحة والتـجارة الاخروية، فانها تصبح اعظم قوة للخير وتغدو افضل وسيلة للتجارة، واجمل وساطة للحسنات بل ألذها.

نعم، ان عهد الشباب نفيس حقاً وثـمين جداً، وهو نعمة إلـهية عظمى، ونشوة لذيذة لـمن عرف واجبه الإسلامي ولـمن لـم يسىء استعماله. ولكن الشباب ان لـم تصحبه الاستقامة، ولـم ترافقه العفة والتقوى، فدونه الـمهالك الوبيلة، اذ يصدّع طيشه ونزواته سعادة صاحبه الابدية، وحياته الاخروية، وربـما يـحطم حياته الدنيا ايضاً. فيجرعه الآلام غصصاً طوال فترة الهرم والشيخوخة لـما أخذه في بضع سنين من اذواق ولذائذ.

ولـما كان عهد الشباب لا يـخلو من الضرر عند اغلب الناس، فعلينا اذن نـحن الشيوخ ان نشكر الله شكراً كثيراً على ما نـجّانا من مهالك الشباب واضراره. هذا وان لذات الشباب زائلة لا مـحالة، كما تزول جـميع الاشياء. فلئن صُرف عهد الشباب للعبادة، وبذل للخير والصلاح لكان دونه ثـماره الباقية الدائمة، وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة ابدية.

ثـم نظرت الى ((الدنيا)) التي عشقها اكثر الناس، وابتلوا بها. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هناك ثلاث دنىً كلية قد تداخل بعضها في البعض الآخر:

الاولى: هي الدنيا الـمتوجهة الى الاسـماء الإلـهية الـحسنى، فهي مرآة لـها.

الثانية: هي الدنيا الـمتوجهة نـحو الآخرة، فهي مزرعتها.

الثالثة: هي الدنيا الـمتوجهة الى ارباب الدنيا واهل الضلالة، فهي لعبة اهل الغفلة ولهوهم.

ورأيت كذلك ان لكل احد في هذه الدنيا دنيا عظيمة خاصة به، فهناك اذن دنىً متداخلة بعدد البشر. غير ان دنيا كل شخص قائمة على حياته الشخصية، فمتى ما ينهار جسم شخص فإن دنياه تتهدم وقيامته تقوم. وحيث ان الغافلين لايدركون انهدام دنياهم الـخاصة بهذه السرعة الـخاطفة؛ فهم يفتنون بها، ويظنونها كالدنيا العامة الـمستقرة من حولـهم.

فتأملت قائلاً: لاشك أن لي ايضاً دنيا خاصة – كدنيا غيري – تتهدم بسرعة – فما فائدة هذه الدنيا الـخاصة اذن في عمري القصير جداً؟!.. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هذه الدنيا – بالنسبة لي ولغيري – ما هي الاّ متجر مؤقت، ودار ضيافة تـملأ كل يوم وتـخلى، وهي سوق مقامة على الطريق لتجارة الغادين والرائحين، وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارىء الـمصور، فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بـحكمة. وكل ربيع فيها رسالة مرصعة مذهـّبة، وكل صيف فيها قصيدة منظومة رائعة، وهي مرايا تتجدد مظهرة تـجليات الاسـماء الـحسنى للصانع الـجليل، وهي مزرعة لغراس الآخرة وحديقتها، وهي مزهرة الرحـمة الإلـهية، وهي مصنع موقت لتجهيز اللوحات الربانية الـخالدة التي ستظهر في عالـم البقاء والـخلود. فشكرتُ الله الـخالق الكريم اجزل شكر على خلقه الدنيا بهذه الصورة. بيد ان الانسان الذي مُنح حباً مقبلاً الى وجهي الدنيا الـحقيقيين الـمليحين الـمتوجهين الى الاسـماء الـحسنى والى الآخرة، اخطأ الـمرمى وجانب الصواب عندما استعمل تلك الـمحبة في غير مـحلها، فصرفها الى الوجه الفاني القبيح ذي الغفلة والضرر حتى حق عليه الـحديث الشريف ((حب الدنيا رأس كل خطيئة))(1).

فيا ايها الشيوخ ويا ايها العجائز!.

انني رأيت هذه الـحقيقة بنور القرآن الـحكيم، وبتذكير من شيخوختى، وبـما منحه الإيـمان لبصيرتي من نور، وقد اثبتـُّها في رسائل كثيرة مع براهين دامغة.. رايت أن هذه الـحقيقة هي السلوان الـحقيقي لي، وهي الرجاء القوي والضياء الساطع.. فرضيت بشيخوختي وهرمي وسررت من رحيل الشباب.

فلا تـحزنوا اذن، ولا تبكوا يا اخوتي الشيوخ على شيخوختكم بل احـمدوا الله واشكروه. وما دمتم تـملكون الإيـمان، والـحقيقة تنطق هكذا، فليبك اولئك الغافلون، وليحزن الضالون ولينتحبوا..

الرجاء التاسع

كنت اسيراً اثناء الـحرب العالـمية الاولى في مدينة قصية، في شمال شرقي روسيا تدعى ((قوصترما)). كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر ((فولغا)) الـمشهور.. كنت ضجراً من بين زملائي الضباط الاسرى، فآثرت العزلة، الاّ أنه لـم يكن يسمح لي بالتجوال في الـخارج دون اذن ورخصة، ثم سـمح لي بأن أظل في ذلك الـجامع بضمانة اهل حيّ التتار وكفالتهم، فكنت انام فيه وحيداً، وقد اقترب الربيع، وكانت الليالي طويلة جداً في تلك البقعة النائية..

كان الارق يصيبني كثيراً في تلك الليالي الـحالكة السواد، الـمتسربلة باحزان الغربة القاتـمة، حيث لا يُسمع الاّ الـخرير الـحزين لنهر ((فولغا))، والاصوات الرقيقة لقطرات الامطار، ولوعة الفراق في صفير الرياح.. كل ذلك ايقظني – مؤقتاً – من نوم الغفلة العميق..

ورغم انني لـم اكن اعدّ نفسي شيخاً بعدُ، ولكن من يرى الـحرب شيخ، حيث ايامها يشيب من هولـها الولدان، وكأن سراً من اسرار الآية الكريـمة: } يَوماً يَجعلُ الوِلدانَ شيباً { (الـمزمل:17) قد سرى فيها. ومع انني كنت قريباً من الاربعين الاّ انني وجدتُ نفسي كأنني في الثمانين من عمري..

في تلك الليالي الـمظلمة الطويلة الـحزينة، وفي ذلك الـجو الغامر بأسى الغربة، ومن واقعي الـمؤلـم الاليم، جثم على صدري يأس ثقيل نـحو حياتي وموطني، فكلما التفتُّ الى عجزي وانفرادي انقطع رجائي واملي. ولكن جائني الـمدد من القرآن الكريم..

فردد لساني: } حسبنا الله ونعم الوكيل { (آل عمران:173)

وقال قلبي باكياً:

انا غريب.. انا وحيد.. انا ضعيف.. انا عاجز.. انشد الامان.. اطلب العفو.. اخطب العون.. في بابك يا إلـهي.

اما روحي التي تذكرت احبابي القدامى في بلدي، وتـخيلت موتي في هذه الغربة، فقد تـمثلت بأبيات نيازي الـمصري، وهي التي تبحث عن صديق:

مررت بأحزان الدنيا، واطلقت جناحي

للحرمان

طائراً في شوق، صائحاً في كل لـحظة:

صديق!.. صديق..!

على أي حال.. فقد اصبح ((عجزي)) و ((ضعفي)) في تلك الليالي الـمحزنة الطويلة والـحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب الى عتبة الرحـمة الإلـهية، وشفيعين لدى الـحضرة الإلـهية، حتى انني لا ازال مندهشاً كيف استطعت الفرار بعد ايام قليلة. واقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يـمكن قطعها مشياً على الاقدام الاّ في عام كامل، ولـم اكن ملمـّاً باللغة الروسية. فلقد تـخلصت من الاسر بصورة عجيبة مـحيـّرة، بفضل العناية الإلـهية التي ادركتني بناء على عجزي وضعفي، ووصلت استانبول ماراً بـ((وارشو)) و ((فينا)). وهكذا نـجوت من ذلك الاسر بسهولة تدعو الى الدهشة، حيث اكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيرين، بـحيث لـم يكن لينجزها اشجع الاشخاص وأذكاهم وامكرهم ومـمن يلمـّون باللغة الروسية.

ولكن حالتي في تلك الليلة التي قضيتها في الـجامع على ضفاف ((فولغا)) قد ألـهمتني هذا القرار:

((سأقضي بقية عمري في الكهوف والـمغارات معتزلاً الناس.. كفاني تدخلاً في امورهم. ولـما كانت نهاية الـمطاف دخول القبر منفرداً وحيداً، فعليّ ان اختار الانفراد والعزلة من الآن، لأعوّد نفسي عليها!.)).

نعم، هكذا قررت.. ولكن – وياللأسف – فان احبابي الكثيرين الـمخلصين في استانبول، والـحياة الاجتماعية البهيجة البرّاقة فيها، ولاسيما ما لا طائل فيه من اقبال الناس والشهرة والصيت.. كل ذلك أنساني قراري ذلك لفترة قصيرة. فكأن ليلة الغربة تلك هي السواد الـمنوّر البصير لعين حياتي، وكأن النهار البهيج لـحياة استانبول هي البياض غير البصير لعين حياتي. فلـم تتمكن تلك العين من رؤية البعيد، بل غطت ثانية في نوم عميق، حتى فتحها الشيخ الكيلاني بكتابه ((فتوح الغيب)) بعد سنتين.

وهكذا ايها الشيوخ، ويا ايتها العجائز!.. اعلموا ان ما في الشيخوخة من العجز والضعف ليسا الاّ وسيلتين لدرّ الرحـمة الإلـهية وجلب العناية الربانية.. فانني شاهد على هذه الـحقيقة في كثير من حوادث حياتي، وان تـجلي الرحمة على سطح الارض يظهرها كذلك بشكل واضح ابلج؛ لان اعجز الـحيوانات واضعفها هي صغارها، والـحال ان ألطف حالات الرحمـة وألذها واجملها تتجلى في تلك الصغار، فعجزُ الفرخ الساكن في عشـّه على شجرة باسقة، يستخدم والدته – بتجلي الرحـمة – كأنها جندية تنتظر الاوامر. فتحوم حول الزروع الـخضر لتجلب الرزق الوفير لفرخها الصغير، ولكن ما ان ينسى الفرخ الصغير عجزه – بنموّ جناحيه وتكامله – حتى تقول له والدته: عليك ان تبحث عن رزقك بنفسك. فلا تعود تستجيب لندائه بعد ذلك.

فكما يـجري سرّ الرحـمة هذا على هذه الصورة بـحق الصغار، يـجري كذلك من زاوية الضعف والعجز، بـحق الشيوخ الذين اصبحوا في حكم الصغار.

ولقد اعطتني تـجاربي الـخاصة القناعة التامة ان رزق الصغار مثلما يأتي بناء على عجزهم، وترسله الرحـمـة الإلـهية لـهم بشكل خارق، فتفجـّر ينابيع الاثداء وتسيلـّها لـهم سيلاً، فان رزق الشيوخ الـمؤمنين الذين اكتسبوا العصمة يُرسل اليهم من قبل الرحـمة على صورة بركة، وأن عمود البركة لأي بيت وسندها انـما هو اولئك الشيوخ الذين يأهلونه، وان الذي يـحفظ ذلك البيت من البلايا والـمصائب انـما هم اولئك الشيوخ الركع الذين يعمرونه. يثبت هذه الـحقيقة اثباتاً كاملاً جزء من حديث شريف: لولا الشيوخ الركع لصبّ عليكم البلاء صبـّاً(1).

وهكذا فما دام الضعف والعجز اللذان في الشيخوخة يصبحان مـحورين لـجلب الرحـمة الإلـهية الواسعة، وان القرآن الكريم يدعو الاولاد الى الاحترام والرأفة بالوالدين في خـمس مراتب، وبأسلوب غاية في الاعجاز، في قوله تعالى:

} إمـّا يَبلـُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحدُهُما أو كلاهما فلا تَقُل لـهما أفّ ولاتَنهَرهُما وقُل لُهما قولاً كريـماً ` واخفِضْ لُهما جَناحَ الذُلّ من الرحـمة وقُل ربّ ارحَمهُما كما ربـَّياني صغيرا { (الاسراء:23-24).

وما دام الإسلام يأمر بتوقير الشيوخ والرحـمة بهم، والفطرة الانسانية تقضي الاحترام والرحـمة تـجاه الشيوخ.. فلا بد لنا – نـحن الشيوخ – ألا! نستبدل شيخوختنا هذه بـمائة عهد من عهود الصبا؛ ذلك لان لنا فيها اذواقاً معنوية دائمة جديرة، بدلاً من الذوق الـمادي الناشيء من نزوة الشباب، حيث نأخذ اذواقاً روحية نابعة من الرحـمة الصادرة من العناية الإلـهية ومن الاحترام النابع من فطرة الانسانية.

نعم، انى اُطمئنكم بأنه لو اُعطيتُ عشر سنوات من عهد شباب ((سعيد القديـم)) فلن استبدلـها بسنة واحدة من شيب ((سعيد الـجديد)). فانا راضٍ عن شيخوختي، فارضوا عنها انتهم كذلك..

الرجاء العاشر

بعدما رجعت من الأسر، سيطرت الغفلة عليّ مرة اخرى طوال سنتين من حياتي في استانبول، حيث الأجواء السياسية وتياراتها صرفت نظري عن التأمل في نفسي، وحدثت تشتتاً في ذهني وفكري.

فحينما كنت جالساً ذات يوم في مقبرة ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه وعلى مرتفع مطلّ على وادٍ سحيق، مستغرقاً في تأمل الافاق الـمحيطة باستانبول، اذا بي أرى كأن دنياي التخاصة اوشكت على الوفاة، حتى شعرت – خيالاً – كأن الروح تنسل منها انسلالاً من بعض نواحيّ. فقلت: تُرى هل الكتابات الـموجودة على شواهد هذه القبور هي التي دعتني الى هذا الـخيال؟

أشحتُ نظري عن الـخارج وانعمت النظر في الـمقبرة دون الآفاق البعيدة فألقى في روعي:

((ان هذه الـمقبرة الـمحيطة بك تضم مائة استانبول! حيث ان استانبول قد أفرغت فيها مائة مرة، فلن تُستثنى انت وحدك من حكم الـحاكم القدير الذي افرغ جـميع اهالي استانبول هنا، فانت راحل مثلهم لا مـحالة..!)).

غادرت الـمقبرة وانا احـمل هذا الـخيال الـمخيف، ودخلت الغرفة الصغيرة في مـحفل جامع ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه والتي كنت ادخلها مراراً في السابق فاستغرقت في التفكير في نفسي: إنـما انا ضيف! وضيف من ثلاثة اوجه؛ اذ كما انني ضيف في هذه الغرفة الصغيرة، فانا ضيفٌ كذلك في استانبول، بل انا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى الـمسافر ان يفكر في سبيله ودربه.

نعم، كما انني سوف اخرج من هذه الغرفة واغادرها، فسوف اترك استانبول ذات يوم واغادرها، وسوف اخرج من الدنيا كذلك.

وهكذا جثمت على قلبي وفكري وانا في هذه الـحالة، حالة أليمة مـحزنة مكدّرة. فلا غرو انني لا أترك احباباً قليلين وحدهم، بل سأفارق ايضاً آلاف الاحبة في استانبول، بل سأغادر استانبول الـحبيبة نفسها وسأفترق عن مئات آلالاف من الاحبة كما افترق عن الدنيا الـجميلة التي ابتلينا بها.

ذهبتُ الى الـمكان الـمرتفع نفسه في الـمقبرة مرة اخرى، فبدا لي اهالي استانبول، جنائز يـمشون قائمين مثلما يظهر الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الافلام السينمائية، فقد كنت اتردد اليها احياناً للعبرة! فقال لي خيالي: مادام قسم من الراقدين في هذه الـمقبرة يـمكن ان يظهروا متحركين كالشخوص السينمائية، ففكـّر في هؤلاء الناس كذلك انهم سيدخلون هذه الـمقبرة حتماً، واعتبرهم داخلين فيها من الآن.

وبينما كنت اتقلب في تلك الـحالة الـمحزنة الـمؤلـمة اذا بنور من القرآن الـحكيم وبارشاد من الشيخ الكيلاني (قدس سرّه) يقلب تلك الـحالة الـمحزنة ويـحولـها الى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكـّرني النور القادم من القرآن الكريـم ونبهني الى ما يأتي:

كان لك صديق أو صديقين من الضباط الاسرى عند اسرك في ((قوسترما)) في شمال شرقي روسيا، وكنتَ تعلم حتماً أنهما سيرجعان الى استانبول. ولو خَيـّرك احدهما قائلاً: أتذهب الى استانبول أم تريد ان تبقى هنا؟. فلا جرم انك كنت تـختار الذهاب الى استانبول لو كان لك مسكة من عقل، بفرح وسرور حيث ان تسعمائة وتسعة وتسعين من الف حبيب وحبيب لك هـم الآن في استانبول، وليس لك هنا الاّ واحد او اثنان، وهم بدورهم سيرحلون الى هناك. فالذهاب الى استانبول بالنسبة لك اذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت اليها، ألـم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نـجوتَ من بلد الاعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدمت استانبول الزاهية الـجميلة، كأنها جنة الدنيا!. وهكذا الامر حيث ان تسعاً وتسعين من مائة شخص مـمن تـحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتـحلوا الى الـمقبرة. تلك تبدو لك موحشة مدهشة، ولـم يظل منهم في هذه الدنيا الاّ واحد او اثنان، وهم في طريقهم اليها كذلك. فوفاتك في الدنيا اذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وانـما هي وصال ولقاء مع اولئك الاحبة الاعزاء.

نعم ان اولئك – أي الارواح الباقية – قد تركوا مأواهم وعشهم الـمندرس تـحت الارض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالـم البرزخ.

وهكذا ذكـّرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الـحقيقة اثباتاً قاطعاً كلٌ من القرآن الكريـم، والإيـمان، بـحيث مَن لـم يفقد قلبه وروحه، او لـم تغرقه الضلالة لابد ان يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زيـّن هذه الدنيا بأنواع ألطافه التي لاتـحد وبأشكال آلائه التي لاتُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريـمة الرؤوف، حفيظاً حتى على الاشياء الصغيرة الـجزئية جداً – كالبذور مثلاً – ذلك الصانع الكريـم الرحيم، لابد – بل بالبداهة – لايُفني هذا الانسان الذي هو اكمل مـخلوقاته واكرمها واجمعها واهمـّها واحبها اليه، ولا يـمحوه بالفناء والاعدام النهائي، بلا رحـمة وبلا عاقبة – كما يبدو ظاهراً – ولا يضيـّعه ابداً.. بل يضع الـخالق الرحيم ذلك الـمخلوق الـمحبوب تـحت التراب الذي هو باب الرحـمة موقتاً، كي يعطي ثـماره في حياة اخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الارض(1).

وبعد ان تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك الـمقبرة عندي مؤنسة اكثر من استانبول نفسها، واصبحت الخلوة والعزلة عندي اكثر لطافة من الـمعاشرة والـمؤانسة، مـما حدا بي ان اجد مكاناً للعزلة في ((صاري ير)) على البسفور. واصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه استاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه ((فتوح الغيب))، وصار الامام الرباني رضي الله عنه(1) كذلك بـمثابة استاذ أنيس ورؤوف شفيق بكاتبه ((مكتوبات)) فاصبحت راضياً كلياً ومـمتنـّاً من دخولي الـمشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الـحضارة البراقة ومتعها الزائفة،ومن إنسلالي من الـحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرت الله على ذلك كثيراً.

فيا من يدلف الى الـمشيب مثلي.. ويا من يتذكر الـموت بنذير الشيب.. ! ان علينا ان نرضى بالشيخوخة وبالـموت وبالـمرض، ونراها لطيفة بنور الإيـمان الذي أتى به القرآن الكريـم، بل علينا ان نـحبها – من جهة – فما دمنا نـملك إيـماناً وهو النعمة الكبرى، فالشيخوخة اذن طيبة والـمرض طيب، والـموت طيب ايضاً.. وليس هناك شيء قبيح محض في حقيقة الامر الاّ الاثم والسفه والبدع والضلالة.

عبدالقادر حمود 02-01-2011 09:57 PM

رد: اللمعات
 
الرجاء الـحادي عشر

عندما رجعت من الاسر، كنت أسكن مع ابن اخي ((عبدالرحـمن))(2) في قصر على قمة ((جاملجة)) في استانبول. ويـمكن ان تعتبر هذه الـحياة التي كنت احياها حياة مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لانني قد نـجوت من الاسر، وكانت وسائل النشر مفتوحة امامي في ((دار الـحكمة الإسلامية))(1) وبـما يناسب مهنتي العلمية، وان الشهرة والصيت والاقبال عليّ تـحفّ بي بدرجة لا استحقها، وانا ساكن في اجـمل بقعة من استانبول ((جاملجة))، وكل شيء بالنسبة لي على مايرام، حيث أن ابن اخي (عبدالرحـمن)) – رحـمه الله – معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحّ وخادم وكاتب معاً، حتى أعدّه ابناً معنوياً لي.

وبينما كنت احس بأني اسعد انسان في العالـم، نظرت الى الـمرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لـحيتي، واذا بتلك الصحوة الروحية التي احسست بها في الاسر في جامع ((قوصترما)) تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وافكر مدققاً في تلك الـحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت اظنها انها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة او سبب دققت النظر فيه، الا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الاثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حـميم، يُعدّ من أوفى الاصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لاتـخطر على بال.. كل ذلك أدى الى النفرة والامتعاض من الـحياة الدنيا، فقلت لقلبي:

- ياتُرى هل انا منخذع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون الى حياتنا التي يُرثى لـها من زاوية الـحقيقة نظر الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جـميع هؤلاء الناس؟ أم انا في طريقي الى الـجنون، لرؤيتي هؤلاء الـمفتونين بالدنيا مـجانين بلهاء؟! وعلى كل حال.. فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني ارى اولاً: فناء ما ارتبط به من الاشياء الـمعرّضة للفناء والزوال!!

ثم التفتّ الى نفسي، فوجدتها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وتشبثت بالاشياء الفانية متوهمة فيها البقاء، صرخت من اعماقها: ((مادمتُ فانية جسماً فأي فائدة ارجوها من هذه الفانيات؟ وما دمتُ عاجزة فماذا انتظر من العاجزين؟.. فليس لدائي دواء الاّ عند الباقي السرمدي، عند القدير الازلي)) فبدأت أبـحث وأستقصي.. راجعت اول ماراجعت، تلك العلوم التي اكتسبتها سابقاً، أبـحث فيها السلوة والرجاء. ولكن كنت – وباللاسف- الى ذلك الوقت مغترفاً من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظناً مني – ظناً خطأ جداً – أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدر الرقي والتكامل ومـحور الثقافة وتنوّر الفكر، بينما تلك الـمسائل الفلسفية هي التي لوثت روحي كثيراً، بل اصبحت عائقة امام سـموي الـمعنوي.

نعم، بينما كنت في هذه الـحالة، اذا بـحكمة القرآن الـمقدسة تسعفني، رحـمةً من العلي القدير، وفضلاً وكرماً من عنده سبـحانه، فغسلتْ أدران تلك الـمسائل الفلسفية وطهرت روحي منها – كما هو مبين في كثير من الرسائل – اذ كان الظلام الروحي الـمنبثق من العلوم الفلسفية، يغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فاينما كنت اتوجه بنظري في تلك الـمسائل فلا أرى نوراً ولا اجد قبساً، ولـم أتـمكن من التنفس والانشراح، حتى جاء نور التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريـم الذي يلقن ((لا اله الا هو)) فـمزق ذلك الظلام وبدده. فانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان.. ولكن النفس والشيطان، شنـّا هجوماً عنيفاً على العقل والقلب وذلك يـما أخذاه من تعليمات وتلقياه من دروس من اهل الضلالة والفلسفة. فبدأت الـمناظرة النفسية في هذا الـهجوم حتى اختتمت – ولله الـحمد والـمنـّة – بانتصار القلب وفوزه.

ولـما كان قسم من تلك الـمناظرات قد ورد في اغلب الرسائل، فنـحن نكتفي به، الا أننا نبين هنا برهاناً واحداً فقط من بين آلاف البراهين، لنبين انتصار القلب وفوزه على النفس والشيطان، وليقوم ذلك البرهان بتطهير ارواح اولئك الشيوخ الذين لوثوا أرواحهم، واسقموا قلوبهم، واطغوا انفسهم، حتى تـجاوزت حدودها، تارة بالضلالة، وتارة بـما لايعنيهم من أمور تتستر تـحت ستار العلوم الاجنبية والفنون الـحضارية ولينجوا – باذن الله – في حق التوحيد، من شرور النفس والشيطان. والـمناظرة هي كالآتي:

قالت نفسي مستفسرة باسم العلوم الفلسفية الـمادية: ان الاشياء الـموجودة في الكون، بطبيعتها تتدخل في الـموجودات فكل شيء متوجه الى سبب وصادر منه، فالثـمرة تؤخذ من الشـجرة، والـحبوب تطلب من التراب، فماذا يعني التضرع الى الله وطلب اصغر شيء واكثره جزئية منه سبحانه؟!

انكشف حالا سر التوحيد بنور القرآن الكريـم بالصورة الآتية:

أجاب قلبي لنفسي الـمتفلسفة: ان اصغر شيء واكثره جزئية انـما هو كأكبر شيء واعظمه، فهو يصدر من قدرة خالق الكائنات مباشرة، ويأتي من خزينته سبحانه.. فليس هناك صورة اخرى قط، وما الاسباب الاّ ستائر؛ ذلك لان اصغر الـمخلوقات وأتفهها – حسب ظننا – قد يكون أعظم من اكبر الـمخلوقات واضخمها، من حيث الـخلقة والصنعة والاتقان، فالذباب مثلاً، ان لـم يكن أدق وارقى من حيث الصنعة من الدجاج فليس هو بقاصر عنها، لـهذا لا يـمكن التمييز بين الصغير والكبير من حيث الـخلقة والصنعة فإما أن يُنسب خلق الـجميع – صغيرهُ وكبيرهُ – الى الاسباب الـمادية وإما أن يُسند الـخلق جـميعاً الى الواحد الاحد. ومثلما أن الشق الاول مـحال في مـحال، فان الشق الثاني واجب الاعتقاد به وضروري. لانه:

ما دام علم الله سبحانه وتعالى يـحيط بكل شيء، والذي هو ثابت وجوده بشكل قاطع بانتظام جـميع الـموجودات والـحِكَم التي فيها.. وما دام كل شيء يتعيـّن مقداره في علمه سبحانه.. وما دامت الـمصنوعات والـمخلوقات وهي في منتهى الروعة والاتقان تأتي بـمنتهى السهولة الى الوجود من العدم كل حين كما هو مشاهد.. ومادام ذلك القدير العليم يـملك قدرة مطلقة يـمكنه أن يوجد كل شيء بامر ((كن فيكون)) وفي لـمح البصر.. كما بيـّنا ذلك في كثير من الرسائل بدلائل قاطعة ولاسيما في الـمكتوب العشرين وختام اللمعة الثالثة والعشرين. فلابد أن السهولة الـمطلقة الـمشاهدة، والـخارقة للعادة، ماهي الاّ من تلك الاحاطة العلمية ومن عظمة تلك القدرة الـمطلقة.

مثلاً: كما انه اذا أمررت مادة كيمياوية معينة على كتاب كـُتب بـحبر كيمياوي لايُرى، فان ذلك الكتاب الضخم يظهر عياناً حتى يستقرىء كل ناظر اليه، كذلك يتعين مقدار كل شيء وصورته الـخاصة به في العلم الـمحيط للقدير الازلي، فيمرر القدير الـمطلق قوته – التي هي تـجلٍ من قدرته – بكل سهولة ويسر، كإمرار تلك الـمادة في الـمثال، على تلك الـماهية العلمية، يـمرره بأمر ((كن فيكون))، وبقدرته الـمطلقة تلك، وبارادته النافذة.. فيعطي سبحانه ذلك الشيء وجوداً خارجياً، مـُظهراً اياه امام الاشهاد، مـما يـجعلهم يقرأون ما فيه من نقوش حكمته..

ولكن ان لـم يُسند خلق جـميع الاشياء دفعة واحدة الى العليم الـمطلق والى القدير الازلي، فان خلق اصغر شيء عندئذ – كالذباب مثلاً – يستلزم جـمع جـميع ما له علاقة بالذباب من اكثر انواع العالـم، جـمعه بـميزان خاص ودقيق جداً، أي جـمع كل ذلك في جسم الذباب، بل ينبغي ان تكون كل ذرة عاملة في جسم الذباب عالـمة تـمام العلم بسرّ خلق الذباب وحكمة وجوده، بل ينبغي أن تكون متقنة لروعة الصنعة التي فيها بدقائقها وتفاصيلها كافة.

ولـما كانت الاسباب الـمادية او الطبيعية لا يـمكنها ان تـخلق شيئاً من العدم مطلقاً كما هو بديهي ومتفق عليه عند ارباب العقول؛ لذا فان تلك الاسباب حتى لو تـمكنت من الايـجاد فانها لاتتمكن ذلك الاّ بالـجمع، فما دامت ستقوم بالـجمع، وأن الكائن الـحي – اياً كان – ينطوي على اغلب نـماذج ما في العالـم من عناصر وانواع، وكأنه خلاصة الكائنات او بذرتها، فلابد اذن من جـمع ذرات البذرة من شـجرة كاملة، وجـمع عناصر الكائن الـحي وذراته من ارجاء العالـم اجـمع، وذلك بعد تصفيتها وتنظيمها وتقديرها بدقة واتقان حسب موازين خاصة ووفق مصاف حساسة ودقيقة جداً.. ولكون الاسباب الـمادية الطبيعية جاهلة وجامدة، فلا علم لـها مطلقاً كي تقدّر خطة، وتنظم منهاجاً، وتنسق فهرساً، وكي تتعامل مع الذرات وفق قوالب معنوية، مصهرة اياها في تلك القوالب لتمنعها من التفرق والتشتت واختلال النظام. بينما يـمكن أن يكون شكل كل شيء وهيئته ضمن أنـماط لاتـحد.. لذا فان اعطاء شكل معين واحد من بين تلك الاشكال غير الـمحدودة، وتنظيم ذلك الشيء بـمقدار معين ضمن تلك الـمقادير غير الـمعدودة، دون أن تتبعثر ذرات العناصر الـجارية كالسيل وبانتظام كامل. ثم بناؤها وعمارتها بعضها فوق بعض بلا قوالب خاصة وبلا تعيين الـمقادير، ثم اعطاء الكائن الـحي وجوداً منتظماً منسقاً.. كل هذا امر واضح أنه خارج عن حدود الامكان، بل خارج عن حدود العقل والاحتمال! فالذي لـم يفقد بصيرته يرى ذلك بـجلاء! نعم، وتوضيحاً لـهذه الـحقيقة فقد جاء في القرآن الكريـم } انّ الذين تَدعونَ من دون الله لن يَخلقوا ذُباباً ولو اجتمعوا له..{ (الحج:73). أي اذا اجتمعت الاسباب الـمادية كافة لا يـمكنها أن تـجمع وتنسق جسم ذبابة واحدة وأجهزتها وفق موازين دقيقة خاصة حتى لو أوتيت تلك الاسبابا ارادةًَ واختياراً، بل حتى لو تـمكنت من تكوين جسم ذباب وجـمعه فانها لاتستطيع ابقاءه وادامته على مقداره الـمعين له، بل حتى لو تـمكنت من ابقائه بالـمقدار الـمعين فلن تستطيع ن تـحرك بانتظام تلك الذرات التي تتجدد دوماً وترد الى ذلك الوجود لتسعى فيه؛ لذا فـمن البداهة أن الاسباب لن تكون مالكة لـهذه الاشياء ولن تكون صاحبتها مطلقاً. انـما صاحبها الـحقيقي هو غير الاسباب.. نعم، ان لـها مالكاً وصاحباً حقيقياً بـحيث أن إحياء ما على الارض من كائنات سهل عليه ويسير، كإحياء ذبابة واحدة. وايـجاد الربيع عنده سهل وهين كسهولة أيـجاد زهرة واحدة.. كما تبينه الآية الكريـمة:

} ما خلقُكُم ولا بَعثُكم الاّ كنَفسٍ واحدة { (لقمان:28) ذلك لأنه غير مـحتاج الى الـجمع، حيث أنه مالك لأمر: ((كن فيكون)).. ولانه يـخلق من العدم في كل ربيع أحوال موجودات الربيع وصفاتها واشكالـها، مـما سوى عناصرها.. ولان خطة كل شيء ونـموذجه وفهرسه ومـخططه متعين في علمه سبحانه.. ولان جـميع الذرات لاتتحرك الاّ ضمن دائرة علمه وقدرته؛ لذا فانه يـخلق كل شيء ويوجده ايتجاداً بلمح البصر وفي منتهى اليسر، ولن يـحيد شيء عمـّا أنيط به في حركته ولو بـمقدار ذرة. فتعدو الكواكب السيارة جيشاً منظماً طائعاً له، وتصبح الذرات جنوداً مطيعين لأمره، وحيث ان الـجميع يسيرون على وفق تلك القدرة الازلية ويتحركون وفق دساتير ذلك العلم الازلي لذا فأن هذه الآثار تأتي الى الوجود حسب تلك القدرة، فلا تصغُر تلك الآثار بنظر الاستصغار، ولا تكون مهملة بعدم الاهتمام بها؛ اذ الذبابة الـمنتسبة الى تلك القدرة تهلك نـمروداً، والنملة تدمر قصر فرعون، وبذرة الصنوبر الـمتناهية في الصغر تـحمل على اكتافها ثقل شجرة الصنوبر الضخمة كالـجبل. فكما اننا اثبتنا هذه التحقيقة في رسائل كثيرة فاننا نقول هنا كذلك: ان الـجندي الـمنتسب الى السلطان بالـجندية يـمكنه أن يقوم بأعمال تفوق طاقته ألف مرة، كأن يأسر مثلاً قائداً عظيماً للعدو بانتسابه، كذلك فان كل شيء بانتسابه الى تلك القدرة الازلية يكون مصدراً لـمعجزات الصنعة والاتقان بـما تفوق تلك الاسباب الطبيعية بـمائة ألف مرة.

الـخلاصة:

ان الصنعة الـمتقنة البديعة لكل شيء، والسهولة الـمطلقة في ايـجاده، تظهران معاً من آثار القدير الازلي ذي العلم الـمحيط، والاّ فهو مـحال في مائة مـحال، بأن ذلك الشيء وروده الى الوجود، بل يكون – عندئذٍ – خارجاً عن دائرة الامكان وداخلاً في دائرة الامتناع، بل خارجاً من صورة الـممكن الى صورة الـممتنع وماهية الـممتنع، بل لا يـمكن ان يرد – عندئذ – شيء مهما كان الى الوجود مطلقاً.

وهكذا فان هذا البرهان وهو في منتهى القوة والدقة، ومنتهى العمق والوضوح قد أسكت نفسي التي اصبحت تلميذة مؤقتة للشيطان، ووكيله لاهل الضلالة والفلسفة، حتى آمنت – ولله الـحمد – إيـماناً راسخاً، وقالت:

نعم انه ينبغي أن يكون لي ربٌ خالق يعلم ويسمع أدق خواطر قلبي وأخفى رجائي ودعائي. ويكون ذا قدرة مطلقة فيسعف أخفى حاجات روحي ويستبدل كذلك بهذه الدنيا الضخمة دنيا اخرى غيرها ليسعدني سعادة ابدية فيقيم الآخرة بعدما يرفع هذه الدنيا، وكما أنه يـخلق الذباب فانه يوجد السـموات أيـجاداً ايضاً. وكما أنه رصـّع وجه السـماء بعين الشمس جعل من الذرة ترصيعاً في بؤبؤ عيني. والاّ فان الذي لا يستطيع أن يـخلق ذباباً لا يـمكنه أن يتدخل في خواطر قلبي، ولن يسمع تضرع روحي. وان الذي لايستطيع أن يـخلق السموات لايـمكنه ان يهبني السعادة الابدية؛ لذا فان ربي انـما هو الذي يسمع – بل يصلح – خواطر قلبي، فمثلـما أنه يـملأ جو السماء بالغيوم ويفرغها منه خلال ساعة فانه سيبدل الآخرة بهذه الدنيا ويعمـّر الـجنة ويفتح أبوابها لي قائلاً: هيا أدخل!!

فيا اخوتي الشيوخ، ويامن صرفتم جزءاً من عمركم بسوء حظ النفس وشقائها – مثل نفسي – في مغالطات العلوم الاجنبية والفلسفة الـمظلمة.. اعلموا أن الذي يردده القرآن دوماً من ((لا اله الاّ هو)) ذلك الامر القدسي، ركن إيـماني لا يتزلزل ولا يتصدع ولا يتغير أبداً!! فما اقواه وما اصوبه! حيث يبدد جـميع الظلمات ويضمد الـجراحات الـمعنوية.

هذا وان درج هذه الـحادثة الـمطولة ضمن ابواب الرجاء والامل لشيخوختي، لـم يكن باختياري، بل لـم أكن أرغب درجها هنا، تـحاشياً من الـملل، الاّ انني استطيع ان اقول قد كُتـّبتها وأملِيَنْ عليّ.. وعلى كل.. لنرجع الى الـموضوع الذي نـحن بصدده:

نعم، هكذا جاءني النفور من تلك الـحياة الدنيوية البهيجة في استانبول التي ظاهرها اللذة، من ذلك التأمل والنظر في شعيرات بيضاء لرأسي ولـحيتي، ومن عدم الوفاء الذي بدر من الصديق الوفي الـمخلص.. حتى بدأت النفس بالبحث والتحري عن اذواق معنوية بدلا عما افتتنت به من اذواق، فطلبت نوراً وسلواناً في هذه الشيخوخة التي تبدو ثقيلة ومزعجة ومقيتة في نظر الغافلين. فللـّه الـحمد والـمنـّة وألف شكر وشكر له سبحانه أن وفقني لوجدان تلك الاذواق الإيـمانية الـحقيقية الدائمة في ((لا اله الاّ هو)) وفي نور التوحيد بدلا من تلك الاذواق الدنيوية التي لا حقيقة لـها ولا لذة فيها، بل لا خير في عقباها. وله الـحمد أن وفقني كذلك لأجد الشيخوخة خفيفة الظل أتنعم بدفئها ونورها بـخلاف ما يراه أهل الغفلة من ثقل وبرودة.

نعم يا اخوتي! فما دمتم تـملكون الإيـمان، وما دامت لديكم الصلوات والدعاء اللذان ينوران الإيـمان، بل ينميانه ويصقلانه.. فانكم تستطيعون اذن أن تنظروا الى شيخوختكم من أنها شباب دائم، بـما تكسبون بها شباباً خالداً، حيث ان الشيخوخة الباردة حقاً، والثقيلة جداً، والقبيحة، بل الـمظلمة والـمؤلـمة تـماماً ليس الاّ شيخوخة اهل الضلالة، بل ربـما عهد شبابهم كذلك.. فليبكوا.. ولينتحبوا.. وليقولوا: واأسفاه.. واحسرتاه!!

أما انتم ايها الشيوخ الـمؤمنون الـموقرون فعليكم أن تشكروا ربكم بكل فرح وسرور قائلين: ((الـحمد لله على كل حال!)).

الرجاء الثاني عشر

بينما كنت وحيداً بلا معين في ((بارلا)) تلك الناحية التابعة لـمحافظة ((اسبارطة)) أعاني الأسر الـمعذّب الـمسمى بالنفي، مـمنوعاً من الاختلاط بالناس، بل حتى من الـمراسلة مع أيّ كان، فوق ما كنت فيه من الـمرض والشيخوخة والغربة.. فبينما كنت اضطرب من هذه الـحالة واقاسي الـحزن الـمرير اذا بنور مسلٍّ يشعّ من الاسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الـحق سبحانه به عليَّ برحـمته الكاملة الواسعةـ فكنت اعمل جاهداً بذلك النور لتناسي ما انا فيه من الـحالة الـمؤلـمة الـمحزنة، حتى استطعت نسيان بلدتي واحبتي واقاربي.. ولكن – ياحسرتاه – لـم اتـمكن من نسيان واحد منهم أبداً وهو ابن اخي، بل ابني الـمعنوي، وتلميذي الـمخلص وصديقي الشجاع ((عبدالرحـمن)) تغمده الله برحـمته الذي فارقني قبل حوالي سبع سنوات، ولا اعلم حاله كي أرسله واتـحدث معه ونتشارك في الآلام، ولا هو يعلم مكاني كي يسعى لـخدمتي وتسليتي، نعم لقد كنت في أمسّ الـحاجة – ولاسيـّما في الشيخوخة هذه – الى من هو مثل ((عبدالرحـمن)).. ذلك الفدائي الصادق.. وذات يوم وفجأة سلمني أحدهم رسالة، ما إن فتحتها حتى تبيـّن لي انها رسالة تظهر شخصية ((عبدالرحـمن)) تـماماً وقد أدرج قسم من تلك الرسالة ضمن فقرات الـمكتوب السابع والعشرين بـما يظهر ثلاث كرامات واضحة.

لقد ابكتني تلك الرسالة كثيراً ولاتزال تبكيني، حيث يبيـّن فيها ((عبدالرحـمن)) بكل صدق وجدّ انه قد عزف عزوفاً تاماً عن الاذواق الدنيوية وعن لذائذها، وان اقصى ما يتمناه هو الوصول الىّ ليقوم برعايتي في شيخوختي هذه مثلما كنت ارعاه في صغره، وان يساعدني بقلمه السيـّال في وظيفتي ومهمـّتي الـحقيقية في الدنيا، وهي نشر اسرار القرآن الكريم، حتى انه كان يقول في رسالته: إبعث الىّ ما يقرب من ثلاثين رسالة كي اكتب وأستكتب من كل منها ثلاثين نسخة.

لقد شدتني هذه الرسالة الى الدنيا بأمل قوي شديد، فقلت في نفسي: ها قد وجدت تلميذي الـمخلص الشجاع، ذا الذكاء الـخارق، وذا الوفاء الـخالص، والارتباط الوثيق الذي يفوق وفاء الابن الـحقيقي وارتباطه بولده. فسوف يقوم – باذن الله – برعايتي وخدمتي، بل حتى انني بهذا الامل نسيت ما كنت فيه من الاسر الـمؤلـم ومن عدم وجود معين لي، بل نسيت حتى الغربة والشيخوخة! بإيـمان وكأن عبدالرحـمن قد كتب تلك الرسالة في منتهى القوة وفي غاية اللمعان وهو ينتظر أجله، اذ استطاع ان يـحصل على نسخة مطبوعة من الكلمة العاشرة التي كنت قد طبعتها وهي تبحث عن الإيـمان بالآخرة. فكانت تلك الرسالة بلسماً شافياً له حيث ضمـّدت جـميع جراحاته الـمعنوية التي عاناها عبر سبع سنوات خلت.

وبعد مضي حوالي شهرين وانا اعيش في ذلك الامل لنعيش معاً حياة دنيوية سعيدة.. اذا بي أفاجأ بنباً وفاته، فيا اسفاه.. وياحسرتاه.. لقد هزّني هذا الـخبر هزاً عنيفاً، حتى انني لاازال تـحت تأثيره منذ خـمس سنوات، واورثني حزناً شديداً وألـماً عميقاً للفراق الـمؤلـم يفوق ما كنت اعانيه من ألـم الاسر الـمعذّب وألـم الانفراد والغربة الـموحشة وألـم الشيخوخة والـمرض.

كنت اقول: ان نصف دنياي الـخاصة قد إنهدَّ بوفاة أمي، بيد اني رأيت ان النصف الاخر قد توفي ايضاً بوفاة عبدالرحـمن، فلم تبق لي اذن علاقة مع الدنيا.. نعم لو كان عبدالرحـمن يظل معي في الدنيا لا صبح مـحوراً تدور حوله وظيفتي الاخروية في الدنيا ولغدا خير خلف لي، ولـحلّ مكاني من بعدي، ولكان صديقاً وفياً بل مدار سلوان لي وأنس، ولبات اذكى تلميذ لرسائل النور، والامين الـمخلص الـمحافظ عليها.. فضياع مثل هذا الضياع – باعتبار الانسانية – لـهو ضياع مـحرق مؤلـم لأمثالي. ورغم انني كنت ابذل الوسع لأتصبـّر وأتـحمل ما كنت اعانيه من الآلام الاّ أنه كانت هناك عاصفة قوية جداً تعصف باقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض عليّ احياناً لـما كان لـمثلي ان يتحمل ويثبت.

كنت أذهب واسرح في وديان ((بارلا)) واجول في جبالـها وحيداً منفرداً واجلس في اماكن خالية منعزلة، حاملاً تلك الهموم والآلام الـمحزنة، فكانت تـمر من امامي لوحات الـحياة السعيدة ومناظرها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي – امثال عبدالرحـمن – كالفلم السينمائي. فكما مرّت تلك اللوحات امام خيالي، سلبت من شدة مقاومتي وفتّ في عضدي، سرعة التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة.

ولكن على حين غرّة انكشف سرّ الآية الكريـمة } كلُ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجههُ لهُ الـحُكمُ واليه تُرجعون { (القصص:88). انكشافاً بيـّناً بـحيث جعلني أردّد: ياباقي انت الباقي.. وبه اخذت السلوان الـحقيقي.

اجل!. رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريـمة، وعبر تلك الوديان الـخالية، ومع تلك الـحالة الـمؤلـمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى كما أشرت اليها في رسالة ((مرقاة السنـّة)):

الاولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خـمساً وخـمسين سعيداً ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الـخامسة والـخمسين سنة.

الثانية: رأيت نفسي كالكائن الـحي الصغير جداً – كالنملة – يدب على وجه هذا العصر الذي هو بـمثابة شاهد قبر للـجنازة العظمى لـمن هم بنو جنسي ونوعي، والذيم دفنوا في قبر الـماضي منذ زمن آدم عليه السلام.

اما الثالثة: فقد تـجسـّمت امام خيالي – بسرّ هذه الآية الكريـمة – موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما تـموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يـموت الانسان.. وهكذا فقد أغاثني الـمعنى الاشاري للآية الكريـمة } فإنْ تَوَلوا فَقُل حَسبيَ الله لا الهَ إلاّ هو عليهِ توكلتُ وهو ربُّ العرش العظيم { (التوبة:129) وأمدني بنور لايـخبو، فبدد ما كنت اعانيه من الـحزن النابع من وفاة ((عبدالرحـمن)) واهباً لي التسريَ والتسلي الـحقيقي.

نعم لقد علمتني هذه الآية الكريـمة أنه مادام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو البديل عن كل شيء، وما دام باقياً فهو كافٍ عبده، حيث أن تـجلياً واحداً من تـجليات عنايته سبحانه يعدل العالـم كله، وان تـجلياً من تـجليات نوره العميم يـمنح تلك الـجنائز الثلاث حياة معنوية أيـما حياة، بـحيث تظهر انها ليست جنائز، بل مـمن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الارض فارتـحلوا الى عالـم آخر.

ولـما كنا قد اوضحنا هذا السرّ والـحكمة في ((اللمعة الثالثة)) أراني هنا في غير حاجة الى مزيدٍ من التوضيح، الاّ أنني اقول:

ان الذي نـجـّاني من تلك الـحالة الـمحزنة الـمؤلـمة، تكراري لـ ((ياباقي انت الباقي.. ياباقي انت الباقي)) مرتين والذي هو معنى الآية الكريـمة } كلُ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجههُ { وتوضيح ذلك:

انني عندما قلت: ((ياباقي انت الباقي)) للمرة الاولى، بدأ التداوي والضماد بـما يشبه العمليات الـجراحية على تلك الـجروح الـمعنوية غير الـمحدودة الناشئة من زوال الدنيا وزوال مَن فيها من الاحبة من أمثال عبدالرحـمن والـمتولدة من انفراط عقد الروابط التي ارتبط بها معهم.

اما في الـمرة الثانية فقد اصبحت جـملة ((ياباقي انت الباقي)) مرهماً لـجميع تلك الـجروح الـمعنوية، بلسماً شافياً لـها، وذلك بالتأمل في الـمعنى الآتي:

ليرحل مَن يرحل ياإلـهي فانت الباقي وانت الكافي، وما دمتَ باقياً فَلَتجلٍّ من تـجليات رحـمتك كافٍ لكل شيء يزول، ومادمتَ موجوداً فكل شيء اذاً موجود لـمن يدرك معنى انتسابه اليك بالإيـمان بوجودك ويتحرك على وفق ذلك الانتساب بسر الإسلام، فليس الفناء والزوال ولا الـموت والعدم الاّ ستائر للتجديد ، وإلاّ وسيلة للتجول في منازل مـختلفة والسير فيها.. فانقلبتْ بهذا التفكير تلك الـحالة الروحية الـمحرقة الـحزينة، وتلك الـحالة الـمظلمة الـمرعبةالى حالة مسرّة بهيجة ولذيذة، والى حالة منورة مـحبوبة مؤنسة، فاصبح لساني وقلبي بل كل ذرّة من ذرات جسمي، يردد بلسان الـحال قائلاً: الـحمد لله.

ولقد تـجلى جزء من ألف جزء من ذلك التجلـّى للرحـمة بهذه الصورة:

عندما رجعت من موطن حزني.. من تلك الوديان، الى ((بارلا)) حاملاً معي تلك الاحزان، رأيت شاباً يدعى ((مصطفى قوله أونلى)) قد أتاني مستفسراً عن بعض ما يشغله من مسائل الفقه والوضوء والصلاة.. فرغم انني لـم اكن استقبل الضيوف في تلك الفترة الاّ أن روحي كأنها قد قرأت ما في روح ذلك الشاب من الاخلاص، وكأنها شعرت – بـحسٍّ قبل الوقوع – ما سوف يؤديه هذا الشاب من خدمات الرسائل النور في الـمستقبل (1)، لذا لـم أردّه وقبلته ضيفاً(2) ثم تبيـّن لي أن الله سبحانه وتعالى قد عوضني بهذا الشاب عن ((عبدالرحـمن)) الذي هو خير خلف لي ويفي بـمهمة الوارث الـحقيقي في خدمة رسالة النور. وبعث سبحانه وتعالى اليّ ((مصطفى)) وكأنه يقول: أخذت منك عبداً للرحـمن واحداً وسأعوضك عنه بثلاثين ((عبدالرحـمن)) كهذا الشاب ((مصطفى)) مـمن يسعون في تلك الوظيفة الدينية، وسيكونون لك طلاباً اوفياء، وابناء كرماء، واولاداً معنويين، واخوة طيبين، واصدقاء فدائيين مضحيـّن..

نعم.. ولله الـحمد فقد وهبني الباري عز وجل ثلاثين عبداً للرحـمن، وعندها خاطبت قلبي: مادمتَ ياقلبي الباكي الـمكلوم قد رأيت هذا النـموذج وهذا الـمثال وضمدتَ به اهم جرح من تلك الـجروح الـمعنوية، فعليك ان تسكن وتطمئن بأن الله سبحانه سيضمد الـجروح الباقية التي تقلقك وتتألـم منها..

فيا أيها الاخوة الشيوخ ويا أيتها الاخوات العجائز.. ويامَن فقدتـم مثلي أحب ولده اليه زمن الشيخوخة او فارقه احد اقاربه.. ويامن يثقل كاهله وطأة الشيخوخة ويـحمل معها على رأسه الهموم الثقيلة الناشئة من الفراق! لقد علمتهم وضعي وعرفتم حالي فانه رغم شدّته باضعاف ما عندكم من اوضاع وحالات، الاّ أن هذه الآية الكريـمة قد ضمدته واسعفته فشفته باذن الله، فلا شك من أن صيدلية القرآن الـمقدسة زاخرة بعلاج كل مرض من امراضكم ودواء كل سقم من اسقامكم. فاذا استطعتم مراجعتها بالإيـمان، وقمتم بالتداوي والعلاج بالعبادة، فلابُدَّ أن تـخف وطأة ما تـحملون على كاهلكم من أثقال الشيخوخة وما يثقل رؤوسكم من هموم.

هذا وان سبب كتابة هذا البحث كتابة مطوّلة هو رجاء الاكثار من طلب الدعاء للـمرحوم ((عبدالرحـمن)). فلا تـملـّوا ولا تسأموا من طوله. وان قصدي من اظهار جرحي الـمخيف بهذه الصورة الـمفجعة الـمؤلـمة، فتتألـمون أكثر وتـحزنون حتى أنه قد يؤدي الى زيادة آلامكم واحزانكم فتنفرون منه، ليس الاّ لبيان ما في البلسم القرآني الـمقدس من شفاء خارق ومن نور باهر ساطع.

الرجاء الثالث عشر(1)

سأبـحث في هذا الرجاء عن لوحة مهمة من لوحات وقائع حياتي، فالرجاء ألاّ تسأموا وتضجروا من طولـها.

بعدما نـجوت من أسر الروس في الـحرب العالـمية الاولى، لبثت في استانبول لـخدمة الدّين في ((دار الـحكمة الإسلامية)) حوالي ثلاث سنوات. ولكن بارشاد القرآن الكريم وبهمـّة الشيخ الكيلاني، وبانتباهي بالشيخوخة، تولـّد عندي سأم وملل من الـحياة الـحضارية في استانبول، وبت أنفر من حياتها الاجتماعية البهيجة، فساقني الشوق والـحنين الـمسمى بـ ((داء الغُربة)) الى بلدتي، اذ كنت اقول: مادمت سأموت فلأمت اذن في بلدتي.. فتوجهت الى مدينة ((وان)).

وهناك قبل كل شيء ذهبت الى زيارة مدرستى الـمسماة بـ((خورخور)) فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما احرقوا بقية البيوت الـموجودة في ((وان)) اثناء الاحتلال الروسي.. صعدت الى القلعة الـمشهورة في ((وان)) وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تـحتها مدرستي الـملاصقة بها تـماماً، وكانت تـمرّ من امامي أشباح اولئك الاصدقاء الـحقيقيين والاخوة الـمؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة اصبح قسم من اولئك الاصدقاء الفدائيين شهداء حقيقيين وآخرون شهداء معنويين، فلم اتـمالك نفسي من البكاء والنـحيب.. صعدت الى قمة القلعة وارتقيتها وهي بعلو الـمنارتين ومدرستي تـحتها، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الـخيال الى ما يقرب من ثـماني سنوات خلَتْ وجال بي الـخيال في ذلك الزمان، لـما لـخيالي من قوة ولعدم وجود مانع يـحول بيني وبين ذلك الـخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، اذ كنت وحيداً منفرداً.

شاهدت تـحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثـماني سنوات حتى أنني كلـّما كنت افتح عيني أرى كأن عصراً قد ولـّى ومضى باحداثه. رأيت ان مركز الـمدينة الـمحيطة بـمدرستي – الذي هو بـجانب القلعة – قد أحرق من اقصاه الى أقصاه ودمـّر تدميراً كاملاً. فنظرت الى هذا الـمنظر نظرة حزن وأسى.. اذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ماكنت فيه وبين ماأراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه الـمدينة.. كان أغلب الذين يعمـّرون هذه البيوت الـمهدّمة أصدقائي، وأحبـّة اعزّاء عليّ.. فلقد توفـّى قسم منهم بالـهجرة من الـمدينة وذاقوا مضاضتها، تغمدهم الله جـميعاً برحـمته. حيث دُمـّرت بيوت الـمسلمين في الـمدينة كليـّاً ولـم تبق الاّ مـحلة الأرمن، فتألـمت من الاعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

كنت أظن أنني قد نـجوت من الاغتراب حيث رجعت الى مدينتي، ولكن – وياللاسف – لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ اذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً – كعبدالرحـمن الـمار ذكره في الرجاء الثاني عشر – رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والانقاض، ورأيت أن منازلـهم أصبحت أثراً بعد عين، وامام هذه اللوحة الـحزينة تـجسـّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلاّ انني لـم اكن افهم معناها تـماماً:-

لولا مفارقةُ الاحبابِ ما وجَدَتْ لـها الـمنايا الى ارواحنا سبُلاً(1)

أي ان اكثر ما يقضي على الانسان ويهلكه انـما هو مفارقة الاحباب.

نعم، انه لـم يؤلـمني شيء ولم يبكني مثل هذه الـحادثة، فلو لـم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيـمان لكان ذلك الغم والـحزن والهم يؤثر فيّ الى درجة كافية لسلب الروح منيّ. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على اطلالـها فرأيت بعيني لوحة الفراق الـحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بـحزن شديد كـمن يـمـّر بعد مائتي سنة على ديار أحبـّته واطلالـها..

عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لـحياتي امام عيني وخيالي واحدة تلو الاخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الـحياة السارة التي قضيتها في تدريس طلابي الـنجباء بـما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الاماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فاصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة طويلة امام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يـخدعون انفسهم، فالوضع هذا يبيـّن بداهة ان الدنيا لامـحالة فانية، وان الانسان فيها ليس الاّ عابر سبيل، وضيف راحل. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله اهل الـحقيقة:

((لاتنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكـّارة.. فانية..)).
ورأيت كذلك أن الانسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن ابكي بعينيّ لشيخوختي – باعتبار وجودي – كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لـمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بـحاجة الى البكاء بـمائة عين على مدينتي الـحلوة الشبيهة بالـميتة.

لقد ورد في الـحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح: (لدوا للـموت وابنوا للـخراب)(1) كنت اسـمع هذه الـحقيقة، اسـمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فان خيالي منذ عشرين سنة يذرق الدموع ايضاً كلـّما مرّ على ذلك الـحال. نعم ان دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمـّرت آلاف السنين، واكتهال الـمدينة التي تـحتها خلالا ثـماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانـمائة سنة، ووفاة مدرستي – اسفل القلعة – التي كانت تنبض بالـحياة والتي كانت مـجمع الاحباب.. تشير الى وفاة جـميع الـمدارس الدينية في الدولة العثمانية. وتبين العظمة الـمعنوية لـجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة التي هي صخرة صلدة واحدة، قد اصبحت شاهدة قبرها. ورأيت ان طلابي – رحـمهم الله جـميعاً – الذين كانوا معي في تلك الـمدرسة - قبل ثـماني سنوات - وهم راقدون في قبورهم، رأيتهم كأنهم يبكون معي، بل تشاركني البكاء والـحزن حتى بيوت الـمدينة الـمدَمـَّرة، بل حتى جدرانها الـمنهدّة واحجارها الـمبعثرة.

نعم انني رأيت كُل شيء وكأنه يبكي، وعندئذٍ علمت انني لاأستطيع أن اتـحمـّل هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب اليهم في قبورهم او عليّ أن انسحب الى مغارة في الـجبل منتظراً اجلي، وقلت مادام في الدنيا مثل هذه الفراقات والافتراقات التي لايـمكن أن يُبصر عليها، ولايـمكن أن تقاوم، وهي مؤلـمة ومحرقة الى هذه الدرجة، فلاشك أن الـموت افضل من هذه الـحياة، ويرجح على مثل هذه الاوضاع التي لاتطاق.. لذا ولـّيت وجهي سارحاً بنظري الى الـجهات الست.. فـما رأيت فيها الاّ الظلام الدامس، فالغفلة الناشئة من ذلك التألـم الشديد والتأثر العميق أرتنى الدنيا مـخيفة مرعبة، وانها خالية جرداء وكأنها ستنقض على رأسي. كانت روحي تبحث عن نقطة استناد وركن شديد امام البلايا والـمصائب غير الـمحدودة التي اتـخذت صورة اعداء ألدّاء. وكانت تبحث ايضاً عن نقطة استمداد امام رغباتها الكامنة غير الـمحدودة والتي تـمتد الى الابد. فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد وتنتظر السلوان والتسرّي من الـهموم والاحزان الـمتولدة من الفراقات والإفتراقات غير الـمحدودة والتـخريبات والوفيات الهائلة، اذا بـحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم الـمعجز وهي: } سبـَّح لله ما في السـموات والارض وهو العزيزُ الـحكيم ` لهُ مُلك السـموات والأرض يـحيي ويُميت وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ { (الـحديد:1-2) تتجلى امامي بوضوح وتنقذني من ذلك الـخيال الاليم الـمرعب، وتنجيني من ألـم الفراق والافتراق، فاتـحةً عيني وبصيرتي. فالتفتُ الى الاثـمار الـمعلقة على الاشجار الـمثمرة وهي تنظر اليّ مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي: ((لاتـحصرنَّ نظرك في الـخرائب وحدها.. فهلاّ نظرت الينا، وانعمت النظر فينا..)).

نعم ان حقيقة هذه الآية الكريـمة تنبـّه بقوة مذكـّرةً وتقول: لِمَ يُحزنك الى هذا الـحدّ سقوط رسالة عامرة شيـّدت بيد الانسان الضعيف على صحيفة مفازة ((وان))، حتى اتـخذت صورة مدينة مأهولة؟ فلِمَ تـحزن من سقوطها في السيل الـجارف الـمخيف الـمسمـّى بالاحتلال الروسي الذي مـحا آثارها واذهب كتابتها؟ إرفع بصرك الى الباري الـمصوّر وهو ربّ كل شيء ومالكه الـحقيقي، فناصيته بيده، وان كتاباته سبحانه على صحيفة ((وان)) تُكتب مـجدداً باستمرار بكمال التوهج والبهجة وان ما شاهدته من اوضاع في الغابر والبكاء والنـحيب على خلو تلك الاماكن وعلى دمارها وبقائها مقفرة انـما هو من الغفلة عن مالكها الـحقيقي، ومن توهم الانسان – خطأ – انه هو الـمالك لـها، ومن عدم تصوره انه عابر سبيل وضيف ليس الاّ..

فانفتح من ذلك الوضع الـمحرق، ومن ذلك الـخطأ في التصور بابٌ لـحقيقة عظيمة، وتهيأت النفسُ لتقبلها – كالـحديد الذي يدخل في النار ليلين ويعطي له شكلاً معيناً نافعاً – اذ اصبحت تلك الـحالة الـمحزنة وذلك الوضع الـمؤلـم، ناراً متأججة ألانت النفس. فأظهر القرآن الكريم لـها فيض الـحقائق الإيـمانية بـجلاء ووضوح تام من خلال حقيقة تلك الآية الـمذكورة حتى جعلها تقبل وترضخ.

نعم، فكما أثبتنا في الـمكتوب العشرين وامثاله من الرسائل، فان حقيقة هذه الآية الكريـمة – ولله الـحمد – قد وهبت بفيض الإيـمان نقطة استناد وارتكاز هائلة، وهبتها للروح ومنحتها الى القلب كل حسب ما ينكشف له من فيض ما يـملكه من قوة الإيـمان، بحيث تستطيع ان تتصدّى لتلك الـمصائب والـحالات الـمرعبة حتى لو تضاعفت مائة مرة، ذلك لانها ذكـّرت بأن كل شيء مسخّر لأمر خالقك الذي هو الـمالك الـحقيقي لـهذه الـمملكة، فمقاليد كل شيء بيده، وحسبك أن تنتسب اليه سبحانه.

فبعدما عرفتُ خالقي، وتوكلتُ عليه، ترك كل شيء ما يضمره من العداء نـحوي حتى بدأت الـحالات التي كانت تـحزنني وتؤلـمني، بدأت الآن تسعدني وتسرّني.

وكما أثبتنا في كثير من الرسائل ببراهين قاطعة، فان النور القادم من ((الإيـمان بالآخرة)) كذلك اعطى ((نقطة استمداد)) هائلة جداً تـجاه الآمال والرغبات غير الـمحدودة، بـحيث أنها تكفي تلك القوة لا لتلك الـميول والرغبات الصغيرة الـمؤقتة والقصيرة، ولا لتلك الروابط مع احبتي في الدنيا وحدها. بل تكفي ايضاً لرغباتي غير الـمتناهية في دار الـخلود وعالـم البقاء وفي السعادة الابدية، ذلك لانه بتجلٍّ واحد من تـجليات رحـمة الرحـمن الرحيم يُنشر على مائدة الربيع مالايعد ولا يُحصى من نعمه اللذيذة البديعة على سطح الارض التي هي منزل من منازل دار ضيافة الدنيا الـمؤقتة، فيمنح بها – سبحانه – في كل ربيع الى اولئك الضيوف، وينعم بها عليهم، كي يدخل في قلوبهم السرور لبضع ساعات، وكأنه يطعمهم فطور الصباح، ثم يأخذهم الى مساكنهم الابدية في ثـماني جنات خالدات ملأى بنعم غير مـحدودة لزمن غير مـحدود التي اعدّها لعباده، فلاريب ان الذي يؤمن برحـمة هذا ((الرحـمن الرحيم)) ويطمئن اليها مدركاً انتسابه اليه سبحانه، لابدّ أنه يـجد نقطة استمداد عظيمة بـحيث ان ادنى درجاتها تـمدّ آمالاً غير مـحدودة وتديـمها.

هذا وان النور الصادر من ضياء الإيـمان – بـحقيقة تلك الآية – قد تـجلـّى كذلك تـجلياً باهراً ساطعاً حتى أنه نوّر الـجهات الست الـمظلمة تنويراً كالنهار، ونوّر حالتي الـمؤسفة الـمبكية على مدرستي هذه وعلى طلابي وأحبتي الراحلين تنويراً كافياً حيث نبهني الى ان العالـم الذي يرحل اليه الاحباب ليس هو بعالـم مظلم، بل بدّلوا الـمكان ليس الاّ، فستتلاقون معاً وستجتمعون ببعضكم.. وبذلك قطع دابر البكاء قطعاً كاملاً، وأفهمني كذلك انني سأجد أمثالـهم ومن يـحلّ مـحلهم.

فلله الـحمد والـمنـّة الذي احيا مدرسة ((اسبارطة)) عوضاً عن مدرسة ((وان)) الـمتوفاة والـمتحولة الى اطلال، واحيا اولئك الاحبة معنىً باكثر وافضل منهم من الطلاب النجباء والاحبة الكرام. وعلـّمني كذلك ان الدنيا ليست خاوية مقفرة، وانها ليست مدينة خربة مدمـّرة، كما كنت أتصورها خطأ، بل ان الـمالك الـحقيقي – كما تقتضي حكمته – يبدل اللوحات الـمؤقتة والـمصنوعة من قبل الانسان بلوحات اخرى ويـجدد رسائله، فكما تـحمل ثـمار جديدة كلما قطعت الثـمار فكذلك الزوال والفراق في البشرية انـما هو تـجددّ وتـجديد، فلا يبعث حزناً أليـماً لانعدام الاحباب نهائياً، بل يبعث من زاوية الإيـمان حزناً لذيذاً نابعاً من فراق لأجل لقاء في دار اخرى بهيجة.

وكذا نوّر تلك الـحالة الـمدهشة التي كنت فيها، ونوّر ما يتراءى لي من الوجه الـمظلم لـموجودات الكون كلها. فأردت ابداء الـحمد والشكر على تلك الـحالة الـمنوّرة في وقته فأتتني الفقرة التالية باللغة العربية مصورةً لتلك الـحقيقة كاملة:

[ الـحمد لله على نور الإيـمان الـمصور ما يُتوهم اجانب اعداءً امواتاً موحشين أيتاماً باكين، أودّاء اخواناً احياءً مؤنسين مرخـّصين مسرورين ذاكرين مسبحين ].

وهي تعني.: انني اقدم الى الـخالق ذي الـجلال حـمداً لانهاية لـه، على ما وهبني من نور الإيـمان الذي هو منبع جـميع هذه النعم الإلـهية غير الـمحدودة، بـما حوّل تلك اللوحة الـمرعبة التي اُظهرت لنفسي الغافلة فأوهمتها الغفلة – الـمتولدة من شدة التأثر على تلك الـحالة الـمؤلـمة – أن قسماً من موجودات الكون أعداء او جانب(1) وقسماً آخر جنائز مدهشة مفزعة، وقسماً آخر أيتام باكون حيث لامعين لـهم ولامولى، حوّل ذلك النور كل شيء حتى شاهدت بعين اليقين ان الذين كانوا يبدون اجانب وأعداء انـّما هم اخوة واصدقاء.. وان ما كان يَظهر كالـجنائز الـمرعبة؛ قسمٌ منهم أحياء مؤنسون، أو هم مـمن أنهوا وظائفهم ومهماتهم.. وان ما يتوهم أنها نواح الايتام الباكين، ترانيم ذكر وتراتيل تسبيح. أي أنني اقدم الـحمد لله مع جميع الـموجودات التي تـملأ دنياي الـخاصَة التي تسع الدنيا كلها، فأشركها معي في ذلك الـحمد والتسبيح لله سبحانه، نيةً وتصوراً. حيث لي الـحق في ذلك، فنقول معاً بلسان حال كل فرد من افراد الـموجودات وبلسان حال الـجميع ايضاً: ((الـحمد لله على نور الإيـمان)).

ثم أن لذائذ الـحياة واذواقها التي تلاشت على اثر تلك الـحالة الـمدهشة الباعثة على الغفلة، والآمال التي انسحبت نهائياً وانكمشت ونضب معينها، والنعم واللذائذ الـخاصة بي التي ظلـّت مـحصورة في أضيق دائرة وربـما فنيت، كل ذلك قد تـحول وتبدل بنور الإيـمان – كما أثبتنا ذلك في رسائل اخرى – فوسـّع ذلك النور تلك الدائرة الضيقة الـمطوقة حول القلب الى دائرة واسعة جداً حتى انطوى فيها الكون كلـّه، وجعل دار الدنيا ودار الآخرة سُفرتين مـملوءتين بالنعم، وحوّلـهما الى مائدتين مـمدتين للرحـمة، بدلاً من تلك النعم التي يبست وفقدت لذتها في حديقة ((خورخور)). ولـم يقتصر على ذلك فقط بل جعل كلاً من العين والاذن والقلب وامثالـها من الـحواس بل مائة من اجهزة الانسان، يداً مـمتدة حسب درجات الـمؤمن تـمتد الى السفرتين الـمملوءتين بالنعم بـحيث تتمكن من ان تأخذ النعم وتلتقطها من جـميع اقطارها؛ لذا قلت امام هذه الـحقيقة الكبرى شكراً لله على تلك النعم غير الـمحدودة ما يأتي:

[ الـحمد لله على نور الإيـمان الـمصوّر للدارين مـملوءتين من النعمة والرحـمة، لكل مؤمن حقٌ أن يستفيد منهما بـحواسه الكثيرة الـمنكشفة باذن خالقه ].

وهذا يعني: الـحمد لله الذي وهب لي ذلك الإيـمان الذي يُري بنعمة نوره أن الدنيا والآخرة مـملوءتان بالنعم والرحـمة ويضمن الاستفادة من تينك السفرتين العظيمتين بايدي جـميع الـحواس الـمنكشفة بنور الإيـمان والـمنبسطة بنور الإسلام للـمؤمنين الـحقيقيين، فلو استطعت تقديـم الـحمد والشكر لله خالقي تـجاه ذلك الإيـمان بـجميع ذرات كياني وبـملء الدنيا والاخرة لَفعلت.

فما دام الإيـمان يفعل فعله في هذا العالـم بـمثل هذه الآثار العظيمة، فلابدّ أن له في دار البقاء والـخلود ثمراتٍ اعظم وفيوضات اوسع، بـحيث لا يـمكن أن تستوعبها عقولنا الدنيوية وتعرّفها.

فيا اخوتي الشيوخ، ويا اخواني العجائز، ويا مَن تتجرعون مثلي الآلام الـمرّة بفراق كثير من الاحبة بسبب الشيخوخة! انيّ أخال نفسي اكثر منكم شيباً معنىً، وان كان يبدو أن فيكم من هو اكبر مني سنـّاً، ذلك لانني أتألـم – فضلاً عن آلامي – بآلام آلاف من اخواني، لــما أحـمله في فطرتي من الرقة والشفقة الزائدتين الى بني جنسي. فأتألـم كأنني شيخ يناهز الـمئات من السنين، أما انتم فمهما تـجرعتم من آلام الفراق لـم تتعرضوا لـمثل ما تعرضت له من البلايا والـمصائب! انه ليس لي ابن افكر فيه، الاّ انني اشعر برقة وألـم – بسر الشفقة الكامنة في فطرتي – متوجهة الى آلام ومصائب آلاف من أبناء الإسلام، بل اشعرها حتى لالآم الـحيوانات البريئة. زد على ذلك أنني ارى نفسي متعلقة – من جهة الغيرة على الإسلام – بهذه البلاد، بل بالعالـم الإسلامي، وارتبط بهما كأنهما داري، برغم انـّي لا أملك بيتاً خاصاً بي كي أحصر ذهني فيه؛ لذا فانني أتألـم بالآم الـمؤمنين الذين هم في هاتين الدارين وأحزن كثيراً لفراقهم.

ولـما كان نور الإيـمان قد كفاني كفاية تامة وأتى على جـميع تأثراتي الناشئة من شيخوختي كلها ومن بلايا الفراقات، ووهب لي رجاءً لايخيب، واملاً لا ينفصم، وضياءً لاينطفىء، وسلواناً لا ينفد، فلابد أن الإيـمان ايضاً سيكون كافياً لكم ووافياً ايضاً ازاء الظلمات الناشئة من الشيخوخة، وازاء الغفلة الواردة منها، وازاء التأثرات والتألـمات الصادرة منها. وحقاً ان اعتم شيخوخة انـما هي شيخوخة اهل الضلالة والسفاهة وأن أقسى الفراقات واشدها ايلاماً انـما هي آلامهم وفراقاتهم!!

نعم، ان تذوق الإيـمان الذي يبعث الرجاء ويشيع النور وينشر السلوى، وان الشعور بسلوانه والتلذذ به هو في التمثلالشعوري للعبودية اللائقة بالشيخوخة والـموافقة للإسلام، وليس هو بتناسي الشيخوخة واللهات وراء التشبـّه بالشباب واقتحام غفلتهم الـمسكرة.. تفكـّروا دائماً وتأملوا في الـحديث النبوي الشريف ((خيرُ شبابكم من تشبـّه بكهولكم وشرُّ كهولكم من تشبـّه بشبابكم))(1) اوكما قالe ، أي خير شبابكم من تشبه بالكهول في التأني والرزانة وتـجنبهم السفاهة وشر كهولكم من تشبه بالشباب في السفاهة والاتغماس في الغفلة.

فيا اخوتي الشيوخ ويا اخواتي العجائز! لقد ورد في الـحديث الشريف ما معناه ((ان الرحـمة الإلـهية لتستحي من أن تردّ يداً ضارعة من شيخ مؤمن او عجوز مؤمنة))(2). فما دامت الرحـمة الإلـهية تـحترمكم هكذا، فعظموا إذن احترامها بعبوديتكم لله
.

عبدالقادر حمود 02-01-2011 10:00 PM

رد: اللمعات
 
الرجاء الرابع عشر

جاء في مستهل (الشعاع الرابع) الذي هو تفسير للآية الكريـمة: } حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكيل { (آل عمران:173) ما خلاصته:

حينما جرّدني أرباب الدنيا من كل شيء، وقعت في حـمسة ألوان من الغربة. ولـم ألتفت الى ما في ((رسائل النور)) من أنوار مسلـّية مـمدّة، جراء غفلة اورثها الضـجر والضيق وانـما نظرت مباشرة الى قلبي وتـحسست روحي، فرأيت انه يسيطر عليّ عشق في منتهى القوة للبقاء، وتهيمن عليّ مـحبة شديدة للوجود، ويتحكم فيّ شوق عظيم للـحياة.. مع ما يمكن فيّ من عـجز لاحد له، وفقر لانهاية له. غير ان فناءً مهولاً مدهشاً، يطفىء ذلك البقاء ويزيله، فقلت مثلما قال الشاعر الـمحترق الفؤاد:

حكمة الأله تقضي فناء الـجسد والقلـب تــوّاق الى الابـــــد

لـهـف نفســي من بـلاء وكمـد حار لقمان في ايـجاد الضمد

فطأطأت رأسي يائساً.. واذا بالآية الكريـمة: } حسبنا الله ونعم الوكيل{ تغيثني قائلة: إقرأني جيداً بتدبر وامعان، فقرأتها بدوري خـمسمائة مرة في كل يوم، فكلما كنت أتلوها كانت تكشف عن بعضٍ من أنوارها وفيوضاتها الغزيرة، فرأيت منها بعين اليقين – وليس بعلم اليقين – تسع مراتب حسبية:

الـمرتبة النورية الـحسبية الاولى:

ان ما فيّ من عشق البقاء، ليس متوجهاً الى بقائي أنا، بل الى وجود ذلك الكامل الـمطلق والى كماله وبقائه. وذلك لوجود ظلٍ لتجلٍ من تـجليات اسمٍ من اسـماء الـجليل والـجميل الـمطلق ذي الكمال الـمطلق، وهو الـمحبوب لذاته – أي دون داعٍ الى سبب – في ماهيتي الاّ ان هذه الـمحبة الفطرية ضلت سبيلها وتاهت بسبب الغفلة، فتشبثت بالظل وعشق بقاء الـمرآة.

ولكن ما ان جاءت } حسبنا الله ونعم الوكيل { حتى رفعت الستار فاحسستُ وشاهدت، وتذوقتُ بـحق اليقين:

ان لذة البقاء وسعادته، موجودة بنفسها، بل افضل وأكمل منها، في ايـماني وإذعاني وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلـهي. وقد وضحت دلائل هذا بعمق ودقة متناهية في الرسالة ((الـحسبية)) في اثنتي عشرة كذا.. كذا.. كذا..)). وبينت الاستشعار الإيـماني بـما يـجعل كل ذي حسّ وشعور في تقدير واعجاب!.

الـمرتبة النورية الـحسبية الثانية:

انه مع عجزي غير الـمتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة الـمستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفـّتني، ومع عدم وجود الـمعين لي، وقد جُردت من كل شيء ويهاجمني اهل الدنيا بدسائسهم وبـجواسيسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلاً:

((ان جيوشاً كثيفة عارمة تهاجم شخصاً واحداً ضعيفاً مريضاً مكبـّل اليدين.. أوَ ليس له – أي لي – من نقطة استناد؟)).

فراجعت آية } حسبنا الله ونعم الوكيل { فاعلمتني:

انك تنتسب بهوية الانتساب الإيـماني الى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة، بـحيث يجهز بانتظام تام في الربيع جـميع ماتـحتاجه جيوش النباتات والـحيوانات الـمنتشرة على سطح الارض من معدّات، فيزوّد جـميع تلك الـجيوش الـمتشكلة في اربعمائة ألف نوع من الأمـم الـمختلفة، ويوزع جـميع ارزاق الـجيش الـهائل للأحياء – وفي مقدمتها الانسان – لابشكل ما اكتشفه الانسان في الآونة الأخيرة من مستخلصات اللحم والسكر وغيرهما، بل بصورة مستخلصات أكمل وافضل بكثير بل تفوقها مائة مرة، فهي مستخلصات متضمنة جـميع انواع الاطعمة. بل هي مستخلصات رحـمانية.. تلك التي تسمى البذور والنوى.. زد على ذلك فانه يغلف ايضاً تلك الـمستخلصات باغلفة قَدَرية تتناسب مع نضجها وانبساطها ونـموها، ويـحفظها في عليبات وصنيدقات صغيرة وصغيرة جداً، وهذه الصُنيدقات ايضاً تُصنع بسرعة متناهية جداً، وبسهولة مطلقة للغاية، وبوفرة هائلة، وذلك في معمل ((ك.ن)) الـموجود في أمر ((كـُنْ))، حتى أن القرآن الكريم يقول: } فإنـما يَقولُ لهُ كـُنْ فيكُونْ! { .

فما دمت قد ظفرت بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الإيـماني، فيمكنك الاستناد والاطمئنان اذاً الى قوة عظيمة وقدرة مطلقة. وحقاً لقد كنت أحسّ بقوة معنوية عظيمة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريـمة، فكنت أشعر انني أملك قوة يـمكنني أن اتـحدّى بها جـميع اعدائي في العالـم وليس الـماثلين امامي وحدهم، لذا رددتُ من اعماق روحي: } حسبنا الله ونعم الوكيل { .

الـمرتبة النورية الـحسبية الثالثة:

حينما اشتد خناق الامراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليّ، وجدت ان علاقاتي تنفصم مع الدنيا، وان الإيـمان يرشدني بانك مرشح لدنيا اخرى ابدية، وانك مؤهل لـمملكة باقية وسعادة دائمة. ففي هذه الاثناء تركت كل شيء تقطر منه الـحسرة ويـجعلني أتأوّه وأتأفف، وأبدلته بكل ما يبشـّر بالـخير والفرح ويـجعلني في حـمدٍ دائم. ولكن أنـّى لـهذه الغاية أن تتحقق وهي غاية الـمنى ومبتغى الـخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة، الاّ بقدرة القدير الـمطلق الذي يعرف جـميع حركات مـخلوقاته وسكناتهم قولاً وفعلاً، بل يعرف جـميع احوالـهم واعمالـهم ويسجلها كذلك. وانـّى لـها أن تـحصل الاّ بعنايته الفائقة غير الـمحدودة لـهذا الانسان الصغير الهزيل الـمتقلب في العجز الـمطلق حتى كـّرمه، واتـخذه خليلاً مـخاطباً، واهباً له الـمقام السامي بين مـخلوقاته.

نعم، حينما كنت أفكر في هاتين النقطتين، أي: في فعالية هذه القدرة غير الـمحدودة، وفي الاهمية الـحقيقية التي أولاها البارىء سبحانه لـهذا الانسان الذي يبدو حقيراً. اردت ايضاحاً في هاتين النقطتين ينكشف به الإيـمان ويُطمئن به القلب فراجعت بدوري تلك الآية الكريـمة ايضاً، فقالت لي: دقق النظر في ((نا)) التي في ((حسبنا))، وانظر مَنْ هم اولاء ينطقون ((حسبنا)) معك، سواء ينطقونها بلسان الـحال، او بلسان الـمقال، أنصت اليهم.. نعم هكذا أمرتني الآية!. فنظرت.. فاذا بي أرى طيوراً مـحلـّقة لاتـحدّ، وطويرات صغيرة صغيرة جداً كالذباب لاتـحصى، وحيوانات لا تعد ونباتات لاتنتهي واشجاراً لاآخر لـها ولانهاية...

كل ذلك يردد مثلي بلسان الـحال معنى } حسبنا الله ونعم الوكيل { ، بل يُذكر الآخرين بها.. أن لـهم وكيلاً – نِعمَ الوكيل – تكفـّل بـجـميع شرائط حياتهم، حتى انه يـخلق من البيوض الـمتشابهة بعضها مع بعض وهي الـمتركبة من الـمواد نفسها، ويـخلق من النطف التي هي مثل بعضها البعض، ويـخلق من الـحبوب التي هي البعض عينه، ويـخلق من البذور الـمتماثلة بعضها مع البعض الآخر مائة الف طراز من الـحيوانات ومائة الف شكل من الطيور ومائة الف نوع من النباتات، ومائة الف صنف من الاشجار، يـخلقها بلاخطأ وبلانقص وبلا التباس، يـخلقها مزينة جـميلة وموزونة منظمة، مع تـميـّز بعضها عن البعض الآخر واختلاف بعضها عن بعض، يـخلقها باستمرار ولاسيما ايام كل ربيع امام اعيننا في منتهى الكثرة، وفي منتهى السهولة، وفي منتهى السعة، وفي منتهى الوفرة.. فخلقُ جـميع هذه الـمخلوقات متشابهاً ومتداخلاً ومـجتمعة على النمط نفسه والاشكال عينها، ضمن عظمة هذه القدرة الـمطلقة وحشمتها، يظهر لـنا بوضوح: وحدانيته سبحانه وتعالى وأحديته.

وقد أفهمتني الآية أنه لا يـمكن التدخل مطلقاً ولا الـمداخلة قطعاً في مثل هذا الفعل للربوبية الـمطلقة وفي تصرف هذه الـخلاقية، اللتين تبرزان هذه الـمعجزات غير الـمحدودة وتنشرانها.

فالى الذين يريدون ان يفهموا هويتي الشخصية وماهيتي الانسانية كما هي لكل مؤمن.. والى الذين يرغبون أن يكونوا مثلي، عليهم أن ينظروا الى تفسير نفسي (أنا) في جـمع ((نا)) في الآية الكريـمة ويتدبّروا في موقعه في ذلك الـجمع. وليفهموا ما وجودي وجسمي الذي يبدو ضئيلاً وفقيراً لا اهمية له – كوجود كل مؤمن.؟! وليعلموا ما الـحياة نفسها بل ما الانسانية؟! وما الإسلام؟! وما الإيـمان التحقيقي؟ وما معرفة الله؟ وكيف تـحصل محبة الله؟. فليفهموا.. وليتلقوا درساً في ذلك!.

الـمرتبة النورية الـحسبية الرابعة:

وافقت العوارض الـمزلزلة لكياني أمثال الشيب والغربة والـمرض وكوني مغلوباً على أمري، وافقت تلك العوارض فترة غفلتي، فكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب الى العدم، بل وجود الـمخلوقات كلها تفنى وتنتهي الى الزوال، فولـّد عندي ذهاب الـجميع الى العدم قلقاً شديداً واضطراباً أليماً فراجعت الآية الكريـمة ايضاً } حسبنا الله ونعم الوكيل { فقالت لي: ((تدبـّر في معانيّ، وانظر اليها بـمنظار الإيـمان)) وانا بدوري نظرت الى معانيها بعين الإيـمان فرأيت:

ان وجودي الذي هو ذرة صغيرة جداً – كوجود كل مؤمن – مرآةٌ لوجود غير مـحدود، ووسيلة للظفر بانواع من وجود غير مـحدود بإنبساط غير متناه.. وهو بـمثابة كلمة حكيمة تثمر من انواع الوجود الكثيرة الباقية ما هو اكثر قيمة من وجودي حتى أن لـحظة عيش له من حيث انتسابه الإيـماني ثمين جداً، وله قيمة عالية كقيمة وجودٍ أبدي دائم، فعلمت كل ذلك بعلم اليقين؛ لأن معرفتي بالشعور الإيـماني بان وجودي هذا أثرٌ من آثار واجب الوجود وصنعةٌ من صنعته وجلوة من جلواته جعلتني انـجو من ظلمات لا حدّ لـها تورثها أوهام موحشة، واتـخلص من الآم لاحدّ لـها نابعة من افتراقات وفراقات غير متناهية، ودفعتني لأمدّ روابط اخوة وثيقة الى جـميع الـموجودات ولاسيما الى ذوي الـحياة روابط بعدد الافعال والاسـماء الإلـهية الـمتعلقة بالـموجودات. وعلمت أن هناك وصالاً دائماً بهذه الروابط مع جـميع ما أحبه من الـموجودات من خلال فراق موقت.

وهكذا فان وجودي كوجود كل مؤمن، قد ظفر بالإيـمان والانتساب الذي فيه بأنوار انواع وجود غير مـحدودة لاافتراق فيها. فـحتـّى لو ذهب وجودي فان بقاء تلك الأنواع من الوجود من بعده يُطمئن وجودي وكأنه قد بقي بنفسه كاملاً.

والـخلاصة: ان الـموت ليس فراقاً بل هو وصال وتبديل مكان وإثـمار لثمرة باقية..

الـمرتبة النورية الـحسبية الـخامسة:

لقد تصدّعت حياتي حيناً تـحت اعباء ثقيلة جداً، حتى لفتت نظري الى العمر، والى الـحياة فرأيت أن عمري يـجري حثيثاً الى الآخرة.. وان حياتي الـمتقربة الى الآخرة قد توجهت نـحو الانطفاء تـحت الـمضايقات العديدة، ولكن الوظائف الـمهمة للحياة ومزاياها الراقية وفوائدها الثـمينة لاتليق بهذا الانطفاء السريع، بل تليق بـحياة طويلة، مديدة، ففكرت في هذا بكل ألـم وأسى، وراجعت استاذي الآية الكريـمة } حسبنا الله ونعم الوكيل { فقالت لي: انظر الى الـحياة من حيث ((الـحي القيوم)) الذي وهب لك الـحياة. فنظرت اليها بهذا الـمنظار وشاهدت أنه ان كان للحياة وجه واحد متوجه اليّ انا فان لـها مائة وجه متوجه الى ((الـحي الـمحيي)) وان كانت لـها نتيجة واحدة تعود اليّ انا، فان لـها الفاً من النتائج تعود الى خالقي؛ لذا فان لـحظة واحدة من الـحياة، او آناً من الوقت ضمن هذه الـجهة كافٍ جداً، فلا حاجة الى زمان طويل.

هذه الـحقيقة تتوضح باربع مسائل: فليفتش اولئك الذين ينشدون الـحياة او الذين هم ليسوا أمواتاً… ليفتشوا عن ماهية الـحياة وعن حقيقتها وعن حقوقها الـحقيقية ضمن تلك الـمسائل الاربع. فليظفروا.. وليحيوا..

وخلاصتها هي: ان الـحياة كلما تتوجه الى الـحيّ القيوم وتتطلع اليه، وكلما كان الإيـمان حياةً للحياة وروحاً لـها تكسب البقاء بل تعطي ثـماراً باقية كذلك، بل أنها ترقى وتعلو الى درجة تكتسب تـجلى السرمدية، وعندها لاينظر الى قصر العمر وطوله.

الـمرتبة النورية الـحسبية السادسة:

من خلال الشيب الذي يذكـّر بفراقي الـخاص، ومن خلال حوادث آخر الزمان التي تنبىء عن دمار الدنيا ضمن الفراقات العامة الشاملة، ومن خلال الانكشاف الواسع فوق العادة في اوآخر عمري لأحاسيس الـجمال والعشق له والافتتان بالكـمالات الـمغروزة في فطرتي. من خلال كل هذا رأيت ان الزوال والفناء اللذين يدمران دائماً، وان الـموت والعدم اللذين يفرّقان باستمرار، رأيتهما يفسدان بشكل مرعب ومخيف، جـمال هذه الدنيا الرائعة الـجمال ويشوهانه بتحطيمهما لـها، ويُتلفان لطافة هذه الـمخلوقات… فتألـّمت من اعماقي بالغ التألـم لـما رأيت. ففار ما في فطرتي من عشق مـجازي فوراناً شديداً وبدأ يتاجج بالرفض والعصيان امام هذه الـحالة الـمفجعة، فلم يك لي منها بد الاّ مراجعة الآية الكريـمة ايضاً لأجد الـمتنفس والسلوان، فقالت: ((إقرأني جيداً، أنعم النظر في معانيَّ)) وأنا بدوري دخلت الى مركز الارصاد لسورة النور لآية } الله نور السموات والارض… { (النور:35). فنظرت من هناك ((بـمنظار)) الإيـمان الى أبعد طبقات الآية الـحسبية، وفي الوقت نفسه نظرت ((بـمجهر)) الشعور الإيـماني الى أدق اسرارها.. فرأيت انه مثلما تُظهر الـمرايا والزجاج والـمواد الشفافة وحتى حباب البحر الـجمال الـمخفي الـمتنوع لضوء الشمس، فيُظهر كل منها مـختلف الـجمال للالوان السبعة لذلك الضوء ومثلما يتجدد ذلك الـجمال وذلك الـحسن بتجدد تلك الـمواد وبتحركها وحسب قابليتها الـمختلفة ووفق انكساراتها الـمتنوعة، أي مثلما أنها تُظهر الـجمال الـمخفي للشمس ولضوئها ولألوانها السبعة – بشكل جـميل جذاب – فكذلك الامر في هذه الـمصنوعات الـجميلة وهذه الـمخلوقات اللطيفة والـموجودات الـجميلة التي تقوم مقام مرايا عاكسة لذلك الـجمال الـمقدس للجميل ذي الـجلال الذي هو ((نور الأزل والابد)). فهذه الـمخلوقات لاتلبث أن تذهب دون توقف مـجدّدة بذلك تـجليات لأسـمائه الـحسنى جل علا. فالـجمال الظاهر في هذه الـمخلوقات والـحسن البارز فيها اذن ليس هو ملك ذاتها، وانـما هو اشارات الى ذلك الـجمال الـمقدس السرمدي الذي يريد الظهور، وعلامات واشارات وتـجليات لذلك الـحسن الـمجرد والـجمال الـمنزّه الـمتجلي دائماً والذي يريد الـمشاهدة والاشهاد.

وقد وضحـّت دلائل هذا مفصلاً في ((رسائل النور)) لاسيما تلك الرسالة التي تستهل بـ ((هنا سنذكر ثلاثة براهين بصورة مـختصرة جداً ومعقولة))(1). فأيـّما إنسان نظر الى هذه الرسالة من اصحاب الذوق السليم لايـمكن أن يتمالك نفسه من غير الاعجاب والتقدير بل سيرى أن عليه أن يسعى لإفادة الآخرين بعدما أفاد نفسه، ولاسيما النقاط الـخمس الـمذكورة في البرهان الثاني. فلابد ان مَن لـم يفسد عقله ولـم يصدأ قلبه أن يقول مستحسناً ومستصوباً: ماشاء الله.. بارك الله.. ويـجعل وجوده الذي يظهر فقيراً حقيراً يسمو ويتعالى.. ويدرك مصدقاً أنه: معجزة خارقة حقاً!!.

الرجاء الـخامس عشر(2)

عندما كنت نزيل غرفة في ((اميرداغ))(3) تـحت الاقامة الـجبرية وحيداً فريداً، كانت عيون الترصد تتعقبني وتضايقني دائماً فأتعذب منها أشد العذاب، حتى مللت الـحياة نفسها وتأسفت لـخروجي من السجن، بل رغبتُ من كل قلبي في ان اعود الى سجن ((دنيزلي)) او دخول القبر، حيث السجن او القبر افضل من هذا اللون من الـحياة. فأتتني العناية الإلـهية مغيثة، إذ وهبتْ آلة الرونيو التى ظهرت حديثاً لطلاب ((مدرسة الزهراء))(4) وهم يـحملون اقلاماً ماسية كآلة الرونيو. فباتت ((رسائل النور)) تظهر بـخمسمائة نسخة بقلم واحد، فتلك الفتوحات التي هيأتها العناية الإلـهية لرسائل النور جعلتني أحب تلك الـحياة الضجرة القلقة الـمضطربة، بل جعلتني اردد الف شكر وشكر للبارىء سبحانه وتعالى.

ولكن بعد مرور فترة وجيزة لـم يتمكن اعداء رسائل النور الـمتسترين ان يتحملوا تلك الفتوحات النورية، فنبهوا الـمسؤولين في الدولة ضدنا وأثاروهم علينا، فاصبحت الـحياة – مرة اخرى – ثقيلة مضجرة، الاّ ان العناية الإلـهية تـجلت على حين غرة، حيث ان الـمسؤولين أنفسهم – وهم أحوج الناس الى رسائل النور – بدأوا فعلاً بقراءة الرسائل الـمصادرة بشوق واهتمام، وذلك بـحكم وظيفتهم. واستطاعت تلك الرسائل بفضل الله أن تليـّن قلوبَهم وتـجنحها الى جانبها. فتوسعت بذلك دائرة مدارس النور، حيث أنهم بدأوا بقدرها والاعجاب بها بدلاً من جرحها ونقدها. فأكسبتنا هذه النتيجة منافع جـمة، اذ هي خير مائة مرة مـّما نـحن فيه من الاضرار الـمادية، وأذهبت ما نعانيه من اضطراب وقلق. ولكن ما ان مرّت فترة وجيزة، حتى حـوّل الـمنافقون – وهم الاعداء الـمتسترون – نظر الـحكومة الى شخصي أنا، ونبـّهوا أذهانها الى حياتي السياسية السابقة، فأثاروا الأوهام والشكوك، وبثوا الـمخاوف من حولي في صفوف دوائر العدل والـمعارف (التربية) والامن ووزارة الداخلية، ومـما وسّع تلك الـمخاوف لديهم ما يـجري من الـمشاحنات بين الاحزاب السياسية، وما أثاره الفوضويون والارهابيون – وهم واجهة الشيوعيين – حتى أن الـحكومة قامت إثر ذلك بـحملة توقيف وتضييق شديد علينا، وبـمصادرة ما تـمكنت من الـحصول عليه من الرسائل فتوقف نشاط طلاب النور وفعالياتهم.

وبالرغم من أن بعض الـموظفين الـمسؤولين أشاعوا دعايات مغرضة عجيبة لـجرح شخصيتي وذمـّها – مـما لايـمكن أن يصدّقه أحد – الاّ انهم باؤوا بالاخفاق الذريع، فلم يستطيعوا ان يقنعوا احداً بها. ومع ذلك احالوني الى الـموقف لـمدة يومين بـحجج رخيصة تافهة جداً، ووضعوني في قاعة واسعة جداً وحيداً في تلك الايام الشديدة البرد كالزمهرير، علماً انني ما كنت اتـحمل البرد في بيتي الاّ على مضض وكنت اقاومه بشدة بإشعال الـموقد دائماً وبأشعال الـمدفأة عدة مرات يومياً، وذلك لـما أعانيه من ضعف ومرض.

فبينما كنت اتقلب من شدة الـحمـّى الـمتولدة من البرد، واتـململ من حالتي النفسية الـمتضايقة جداً، انكشفت في قلبي حقيقة عناية إلـهية، ونُبهـّت الى ما يأتي:

((أنك قد اطلقت على السجن اسم ((الـمدرسة اليوسفية))، وقد وهب لك ((سجن دنيزلي)) من النتائج والفوائد اضعاف اضعاف ما اذاقكم من الضيق والشدة، ومنحكم فرحاً شديداً وسروراً عظيماً وغنائم معنوية كثيرة: واستفادة الـمساجين معكم من رسائل النور، وقراءة رسائل النور في الاوساط الرسـمية العليا وغيرها من الفوائد، حتى جعلتكم في شكر دائم مستمر بدل التشكي والضجر محوّلة كل ساعة من ساعات السجن والضيق الى عشر ساعات من العبادة، فخلـّدت تلك الساعات الفانية، فهذه ((الـمدرسة اليوسفية الثالثة))(1) كذلك ستعطي – باذن الله – من الـحرارة الكافية ما يدفىء هذا البرد الشديد، وستمنح من الفرح والبهجة ما يرفع هذا الضيق الثقيل، باستفادة اهل الـمصائب والبلاء معكم من رسائل النور ووجدانهم السلوان فيها. أما الذين غضبت واحتدت عليهم، فان كانوا من الـمغرّربهم ومن الـمخدوعين فلا يستحقون الغضب والـحدّة، اذ انهم يظلمونك دون قصد ولاعلم ولاشعور. وان كانوا يعذبونك ويشددون عليك الـخناق يقومون بها عن علم وعن حقد دفين ارضاء لأهل الضلالة فإنهم سيعذّبون عن قريب بالـموت الذي يتصورونه إعداماً أبدياً، وسيرون الضيق الشديد الدائمي الـمقيم في السجن الـمنفرد وهو القبر. وانت بدورك تكسب ثواباً عظيماً – نتيجة ظلمهم – وتظفر بـخلود ساعاتك الفانية، وتغنم لذائذ روحية معنوية فضلاً عن قيامك بـمهمتك العلمية والدينية باخلاص.

هكذا ورد الى روحي هذا الـمعنى فقلت بكل ماأوتيت من قوة: ((الـحمد لله)). واشفقت على اولئك الظَلَمة بـحكم انسانيتي ودعوت: ياربـّي أصلح شأن هؤلاء..

ولقد ثبتّ في افادتي التي كتبتُها الى وزارة الداخلية: ان هذه الـحادثة الـجديدة غير قانونية، وأثبتها بعشرة أوجه، بل ان هؤلاء الظلمة الذين يـخرقون القانون باسم القانون هم الـمجرمون حقاً، حيث بدأوا بالبـحث عن حجج واهية جداً وتتبعوا افتراءات مـختلفة الى حدّ ان جلبوا سخرية السامعين وابكت اهل الـحق الـمنصفين، وأظهروا لأهل الانصاف أنهم لايـجدون باسم القانون والـحق أي مسـوّغ للتعرض لرسائل النور ومسّ طلابها بسوء، فيزلـّون الى البلاهة والـجنون ويتخبطون خبط عشواء.

مثال ذلك:

لـم يـجد الـجواسيس الذين راقبونا لـمدة شهر شيئاً علينا، لذا لفـّقوا التقرير الآتي: ان خادم ((سعيد)) قد اشترى له الـخمر من حانوت. الاّ أنهم لـم يـجدوا أحداً يوقـّع على هذا التقرير تصديقاً لـهم، الاّ شخصاً غريباً وسكيراً في الوقت نفسه، فطلبوا منه – تـحت الضغط والتهديد – ان يوقع مصدقاً على ذلك التقرير، فردّ عليهم: ((استغفر الله من يستطيع أن يوقع مصدقاً هذا الكذب العجيب)) فاضطروا الى اتلاف التقرير.

مثال آخر

لـحاجتي الشديدة لاستنشاق الـهواء النقي، ولـما يُعلم من اعتلال صحتي، فقد أعارني شخص لاأعرفه – ولـم اتعرف عليه لـحدّ الآن – عربة ذات حصان لأتنزه بها خارج البلدة فكنت اقضي ساعة او ساعتين في هذه النزهة، وكنت قد وعدت صاحب العربة والـحصان بأن أوفي اجرتها كتباً تثمن بـخمسين ليرة، لئلا أحيد عن قاعدتي التي اتـخذتها لنفسي، ولئلا أظل تـحت منـّة أحد من الناس واذاه.. فهل هناك احتمال لان ينجم ضرر ما من هذا العمل؟! غير أن دائرة الشرطة ودائرة العدل والامن الداخلي وحتى الـمحافظ نفسه استفسر باكثر من خـمسين مرة: لـمنْ هذا الـحصان؟ ولـمن هذه العربة؟ وكأنه قد حدثت حادثة سياسية خطيرة للاخلال بالأمن والنظام! مـما اضطر ان يتطوع أحد الاشخاص لقطع دابر هذه الاستفسارات السخيفة الـمتتالية فيدّعي أن الـحصان ملكه، وادّعى آخر بان العربة له، فصدر الامر بالقبض عليهما واودعا معي في السجن. فبمثل هذه النماذج اصبحنا من الـمتفرجين على لعب الصبيان ودُماهم، فبكينا ضاحكين وحزنـّا ساخرين، وعرفنا أن كل من يتعرض لرسائل النور ولطلابها يصبح اضحوكة وموضع هزء وسخرية.

واليك مـحاورة لطيفة من تلك النماذج: لقد قلتُ للـمدعي العام – قبل ان اطلـّع على ماكتب في مـحضر اتهامي من الاخلال بالامن – قلت له: لقد اغتبتك امس اذ قلت لأحد افراد الشرطة الذي استجوبني نيابة عن مدير الامن: ((ليهلكني الله – ثلاثة مرات – ان لـم اكن قد خدمت الامن العام لـهذا البلد أكثر من الف مدير أمن واكثر من ألف مدع عام..)).

ثم انني في الوقت الذي كنتُ في أمسّ الـحاجة الى الاخلاد الى الراحة وعدم الاهتمام بهموم الدنيا والابتعاد نهائياً عن البرد، فان قيام هؤلاء بنفيي – في هذه الفترة من البرد بالذات – وتهجيري من مدينة لاخرى بـما يفوق تـحملي، ومن ثم توقيفي والتضيق عليّ باكثر من طاقتي وبـما يشعر أنه حقدٌ دفين وأمر متعمد مقصود.. كل ذلك ولـّد عندي غيظاً وامتعاضاً غير اعتيادي تـجاه هؤلاء. ولكن العناية الإلـهية أغاثتني فنبهت القلب الى هذا الـمعنى:

ان للقدر الإلـهي – الذي هو عدل مـحض – حصةً عظيمةً جداً فيما يسلطه عليك هؤلاء البشر من الظلم البيـّن، وان رزقك في السجن هو الذي دعاك الى السجن، فينبغي اذاً ان تقابل هذه الـحصة بالرضى والتسليم.

وان للـحكمة الربانية ورحـمتها حظاً وافراً ايضاً كفتح طريق النور والـهداية الى قلوب الـمساجين وبث السلوان والأمل فيهم، ومن ثم احراز الثواب لكم؛ لذا ينبغي تقديم آلاف الـحمد والشكر لله – من خلال الصبر – تـجاه هذا الـحظ العظيم.

وكذا فان لنفسك انت ايضاً حصتها حيث ان لـها مالاتعرف من التقصيرات.. فينبغي مقابلة هذه الـحصة ايضاً بالاستغفار والتوبة والانابة الى الله وتأنيب النفس بأنها مستحقة لـهذه الصفعة.

وكذا فان بعض الـموظفين السذج والـجبناء الـمنخدعين الذين يساقون الى ذلك الظلم بدسائس الاعداء الـمتسترين منهم حصة ايضاً ونصيب، فرسائل النور قد ثأرت لك ثأراً كاملاً من هؤلاء الـمنافقين بـما أنزلت بهم من صفعاتها الـمعنوية الـمدهشة. فـحسبهم تلك الضربات.

أما الـحصة الاخيرة فهي لاولئك الـموظفين الذين هم وسائط فعلية. ولكن لكونهم منتفعين حتماً من جهة الإيـمان – سواء أرادوا أم لـم يريدوا – عند نظرهم الى رسائل النور وقراءتهم لـها بنيـّة النقد او الـجرح، فان العفو والتجاوز عنهم وفق دستور } والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس { (آل عمران:134) هو شهامة ونـجابة.

وبعد ان تلقيت هذا التنبيه والـتحذير الذي كلـّه حق وحقيقة قررت أن أظل صابراً وشاكراً جذلاً في هذه الـمدرسة اليوسفية الـجديدة. بل قررت أن أساعد وأعاون حتى اولئك الذين يسيئون اليّ ويـخاصمونني مؤدباً نفسي بتقصير لا ضرر منه.

ثم ان من كان مثلي في الـخامسة والسبعين من عمره، وقد انقطعت علاقاته مع الدنيا ولـم يبق من احبابه في الدنيا الاّ خـمسٌ من كل سبعين شخص، وتقوم سبعون ألف نسخة من رسائل النور بـمهمته النورية بكل حرية، وله من الاخوان ومن الورثة مَن يؤدون وظيفة الإيـمان بآلاف الالسنة بدلاً من لسان واحد.. فالقبر لـمثلي اذاً خير وأفضل مائة مرّة من هذا السجن. فضلاً عن أن هذا السجن هو اكثر نفعاً واكثر راحة بـمائة مرة من الـحرية الـمقيدة في الـخارج، ومن الـحياة تـحت تـحكـّم الآخرين وسيطرتهم؛ لان الـمرء يتحمل مضطراً مع مئات الـمساجين تـحكماً من بعض الـمسؤولين؛ امثال الـمدير ورئيس الـحراس بـحكم وظيفتهم، فيجد سلواناً وإكراماً أخوياً من اصدقاء كثيرين من حوله، بينما يتحمل وحده في الـخارج سيطرة مئات الـموظفين والـمسؤولين.

وكذلك الرأفة الإسلامية والفطرة البشرية تسعيان بالرحـمة للشيوخ ولاسيما من هم في هذه الـحالة فتبدلان مشقة السجن وعذابه الى رحـمة ايضاً.. لاجل كل ذلك فقد رضيت بالسجن..

وحينما قُدمت الى هذه الـمحكمة الثالثة جلست على كرسي خارج باب الـمحكمة لـما كنت أحسّ من النصب والضيق في الوقوف لشدة ضعفي وشيخوختي ومرضي. وفجأة أتى الـحاكم وقال مغاضباً مع إهانة وتـحقير: لـمَ لا ينتظر هذا واقفاً؟!.

ففار الغضب في اعماقي على انعدام الرحـمة للشيب، والتفتُّ واذا بـجمع غفير من الـمسلمين قد احتشدوا حولنا ينظرون الينا بعيون ملؤها الرأفة، بقلوب ملؤها الرحـمة والاخوة، حتى لـم يستطع أحد من صرفهم عن هذا التجمع، وهنا وردت الى القلب هاتان الـحقيقتان:

الاولى

ان اعدائي، واعداء النور الـمتسترين قد اقنعوا بعض الـموظفين الغافلين وساقوهم الى مثل هذه الـمعاملات الـمهينة كي يـحطموا شخصيتي امام أنظار الناس، ويصرفوا ما لا أرغبه أبداً من توجه الناس واقبالـهم عليّ، ظناً منهم أنهم يتمكنون بذلك من إقامة سدّ منيع امام سيل فتوحات النور. فتجاه تلك الاهانة الصادرة من رجل واحد فقد صرفت العناية الإلـهية نظري الى هؤلاء ((الـمائة)) إكراماً منها للـخدمة الإيـمانية التي تقدمها رسائل النور وطلابها قائلة: ((انظر الى هؤلاء، فقد أتوا للترحيب بكم لـخدمتكم تلك، بقلوب ملأى بالرأفة والـحزن والاعجاب والارتباط الوثيق)).

بل حتى في اليوم الثاني عندما كنت أجيب عن اسئلة حاكم التحقيق؛ إحتشد ألفٌ من الناس في الساحة الـمقابلة لنوافذ الـمقر. كانت ملامح وجوههم تعبـّر عن وضعهم، وتقول: ((لاتضايقوا هؤلاء)). ولشدة ارتباطهم بنا، عجزت الشرطة عن ان تفرقهم. وعند ذلك ورد الى القلب:

((ان هؤلاء الناس في هذا الوقت العصيب؛ ينشدون سلوانا كاملا، ونوراً لاينطفىء، وإيـماناً راسخاً، وبشارة صادقة بالسعادة الابدية، بل يبحثون عنها بفطرتهم، وقد طرق سـمعُهم أن ما يبحثون عنه موجود فعلاً في رسائل النور، لذا يبدون هذا الاحترام والقدر لشخصي – الذي لا اهمية له – بـما يفوق طاقتي وحدي، من موقع كوني خادماً للإيـمان، وعسى أن اكون قد قمت بشيء من الـخدمة له)).

الـحقيقة الثانية

لقد ورد الى القلب: انه حيال اهانتنا والاستخفاف بنا بحجة اخلالنا بالامن العام، وازاء صرف اقبال الناس عنا بالـمعاملات الدنيئة التي يقوم بها اشخاص معدودون من الـمغرربهم.. فان هناك الترحيب الـحار والقدر اللائق لكم من قبل اهل الـحقيقة وابناء الـجيل القادم. نعم، في الوقت الذي تنشط الفوضى والارهاب الـمتستـّر بستار الشيوعية للاخلال بالأمن العام، فان طلاب رسائل النور يقفون ذلك الأفساد الـمرعب، في جـميع ارجاء البلاد ويكسرون شوكته بقوة الإيـمان التحقيقي، ويسعون حثيثاً لإحلال الأمن والنظام مكان الـخوف والفوضى، فلـم تظهر في العشرين سنة السابقة اية حادثة كانت حول اخلالـهم بالأمن، رغم كثرة طلاب النور وانتشارهم في جـميع انـحاء البلاد، فلـم يـجد ولـم يسجل عليهم أحد من الضباط الـمسؤولين حدثاً، في عشر ولايات وعبر حوالي اربع محاكم ذات علاقة، بل لقد قال ضباط منصفون لثلاث ولايات: ((ان طلاب النور ضباط معنويون للأمن في البلاد، انهم يساعدوننا في الـحفاظ على الامن والنظام لـما يـجعلون من فكر كل من يقرأ رسائل النور بالإيـمان التحقيقي حارساً ورقيباً عليه فيسعون بذلك للحفاظ على الأمن العام)).

وسجن ((دنيزلي)) مثال واضح ونـموذج جيد لـهذا الكلام، فما ان دخل طلاب النور ورسالة ((الثـمرة)) التي كتبت للـمسجونين حتى تاب اكثر من مائتي سجين وتـحلـّوا بالطاعة والصلاح، وذلك في غضون ثلاثة أشهر أو تزيد. حتى أن قاتلاً لاكثر من ثلاثة اشخاص كان يتحاشى أن يقتل ((بقة الفراش). فلم يعد عضواً لا يضر، بل اصبح نافعاً رحيماً للبلاد.

فكان الـموظفون الـمسؤولون ينظرون الى هذا الوضع بـحيرة واعجاب، حتى صرّح بعض الشباب قبل ان يستلموا قرار الـمحكمة: ((اذا لبث طلاب النور في السجن فسنحكم على انفسنا وندينها لنظل معهم ونتتلمذ عليهم ونصلح انفسنا بارشاداتهم لنكون امثالـهم)). فالذين يتهمون طلاب النور الذين لـهم هذه الـخصائص والـخصال بإخلال الامن لامـحالة قد انـخدعوا بشكل مفجع، او خُدعوا، او انهم يغفلون اركان الـحكومة في سبيل الفوضى والارهاب – من حيث يعلمون او لا يعلمون – لذا يسعون لإبادتنا واقتحامنا في العذاب.

فنحن نقول لهؤلاء:

((مادام الـموت لايُقتل والقبر لايُغلق بابه، وقوافل البشرية في دار ضيافة الدنيا تغيب وتتوارى فيما وراء التراب بسرعة مذهلة.. فلا مناص اننا سنفترق في اقرب وقت، وسترون جزاء ظلمكم جزاءً رهيباً، وفي الاقل ستذوقون الـموت الذي هو رخصة من الـحياة عند اهل الإيـمان الـمظلومين، ستذوقونه إعداماً ابدياً لكم، فالاذواق الفانية التي تكسبونها بتوهمكم الـخلود في الدنيا ستنقلب الى آلام باقية مؤلـمة دائمة..

ان حقيقة الإسلام التي ظفرت بها هذه الامة الـمتدينة وحافظت عليها بدماء مئات الـملايين من شهدائها الذين هـم بـمرتبة الاولياء وسيوف ابطالـها الـمجاهدين يطلق عليها اليوم – مع الاسف- اعداؤنا الـمنافقون الـمتسترون اسم ((الطريقة الصوفية)) احياناً، ويظهرون الطريقة الصوفية التي هي شعاع واحد من اشعة تلك الشمس الـمنيرة انها الشمس نفسها ليموهو على بعض الـموظفين السطحيين. مطلقين على طلاب النور الذين يسعون بـجد ونشاط الابراز حقيقة القرآن وحقائق الإيـمان اسم ((اهل الطريقة الصوفية)) او ((جمعية سياسية)) ولا يبغون من ورائها الاّ التشويه والتحريض علينا. فنحن نقول لـهؤلاء ولكل من يصغي اليهم قولتنا التي قلناها امام مـحكمة دنيزلي العادلة:

((ان الـحقيقة الـمقدسة التي افتدتها ملايين الرؤوس فداءٌ لـها رأسنا ايضاً، فلو اشعلتم الدنيا على رؤوسنا ناراً فلن ترضخ تلك الرؤوس التي افتدت الـحقيقة القرآنية ولن تسلم القيادة للزندقة ولن تتخلـّى عن مهمتها الـمقدسة باذن الله)).

وهكذا فلا أستبدل بسنة واحدة من شيخوختي التي أنشأت حوادثُها اليأسَ والاعباء الثقيلة والتي اسعفها السلوان النزيه النابع من الإيـمان والقرآن، مع ما فيها من معاناة وضيق، عشر سنوات بهيجة سارة من حياة شبابي. وبالاخص اذا كان كل ساعة من ساعات التائب الـمقيم لفرائضه في السجن بـحكم عشر ساعات له من العبادة، وان كُل يوم يـمـّر بالـمريض وهو مظلوم يـجعل صاحبه يفوز بثواب عشرة ايام خالدة، فكم يكون مثل هذه الـحياة مبعث شكر وامتنان لله لـمثلي الذي يترقب دوره وهو على شفير القبر.

نعم، فهذا هو الذي فهمته من ذلك التنبيه الـمعنوي، فقلت: شكراً لله بلا نهاية.. وفرحت بشيخوختي ورضيت بالسجن. حيث ان العمر لايتوقف بل يـمضي مسرعاً، فان مضى باللذة والفرح فانه يورث الـحزن والاسى؛ لان زوال اللذة يورث الألـم، وان مضى مشبعاً بالغفلة خاوياً من الشكر. فانه يترك بعض آثار الآثام ويفنى هو ويـمضي. ولكن اذا مضى العمر بالعناء والسجن، فلكون زوال الألـم يورث لذةً معنوية، وأن مثل هذا العمر يعدّ نوعاً من العبادة؛ لذا يظل باقياً من جهة، فيجعل صاحبه يفوز بعمر خالد بثـمرات خالدة خيـّرة، ومن جهة اخرى كفـّارة للذنوب السابقة وتزكية للاخطاء التي سببت السجن. فمن زاوية النظر هذه على الـمسجونين الذين يؤدون الفرائض أن يشكروا الله تعالى ضمن الصبر.

الرجاء السادس عشر

عندما ساقوني منفياً الى قسطموني(1) بعد أن اكملت سنة مـحكوميتي في سجن ((اسكي شهر)) وانا الشيخ الـهرم، مكثت موقوفاً هناك في مركز الشرطة حوالي ثلاثة اشهر. ولا يـخفى عليكم مدى الأذى الذي يلحق بـمثلي في مثل هذه الاماكن، وقد انعزل عن الناس، ولا يتحمل البقاء حتى مع اصدقائه الاوفياء، ولا يطيق أن يبدل زيـّه الذي اعتاد عليه(1).

فبينما كان اليأس يـحيط بي من كل جانب، اذا بالعناية الإلـهية تغيث شيخوختي، اذ اصبح افراد الشرطة الـمسؤولين في ذلك الـمخفر بـمثابة اصدقاء أوفياء، حتى كانوا يـخرجونني متى شئت للاستجمام والتجوال في سياحة حول الـمدينة وقاموا بـخدمتي كأي خادم خاص، فضلاً عن أنهم لـم يصروا عليّ بلبس القبعة مطلقاً.

ثم دخلت الـمدرسة النورية التي كانت مقابل ذلك الـمخفر في قسطموني وبدأت بتأليف الرسائل، وبَدأ كل من ((فيضي وامين وحلمي وصادق ونظيف وصلاح الدين)) وامثالـهم من ابطال النور يداومون في تلك الـمدرسة لاجل نشر الرسائل وتكثيرها، وأبدوا في مذكراتهم العلمية القيـّمة التي أمضوها هناك جدارة تفوق ما كنت قضيتها ايام شبابي مع طلابي السابقين.

ثم بدأ اعداؤنا الـمتسترون يحرَضون علينا بعضاً من الـمسؤولين وبعضاً مـمن يعتـّدون بأنفسهم والـمغرورين من العلماء والـمشايخ الصوفية، فأصبحوا الوسيلة في جـمعنا في تلك الـمدرسة اليوسفية ((سجن دنيزلي)) مع طلاب النور القادمين من عدة ولايات.

هذا وان تفاصيل هذا الرجاء السادس عشر هي في تلك الرسائل التي ارسلتها سراً من ((قسطموني)) والتي ضمت في كتاب ((ملحق قسطموني)) وفي الرسائل الـمقتضبة السرية التي كنت قد ارسلتها الى اخواني من سجن دنيزلي. ويرد تفاصيله ايضاً في ((الدفاع)) الـمرفوع امام مـحكمة دنيزلي.

فحقيقة هذا الرجاء تظهر بوضوح في ذلك، نـحيل الى تلك التفاصيل الـمذكورة في (الـملحق) و (الدفاع) ونشير هنا اشارة مـختصرة اليها:

لقد خبأتُ بعض الرسائل الـخاصة والـمجموعات الـمهمة ولاسيما التي تبحث عن دجـّال الـمسلمين (السفياني) وعن كرامات رسائل النور، خبـّأتها تـحت أكوام من الـحطب والفحم لأجل أن تنشر بعد وفاتي، او بعد أن تصغي آذان الرؤساء وتعي رؤوسهم الـحقيقة ويرجعوا الى صوابهم. كنت مطمئت البال من هذا العمل، ولكن ما ان داهم موظفو التحريات ومعاون الـمدعي العام البيت واخرجوا تلك الرسائل الـمهمة الـمخبوءة من تـحت اكوام الفحم والـحطب، ساقوني الى سجن ((اسبارطة)) وانا اعاني من اعتلال صحتي ما اعاني. وبينما كنت متألـماً بالغ الالـم ومستغرقاً في التفكير حول ما اصاب رسائل النور من اضرار، اذا بالعناية الربانية تأتي لأغاثتنا جـميعاً حيث بدأ الـمسؤولون الذين هـم في أمسّ الـحاجة الى قراءة تلك الرسائل الـمخبوءة القيمة، بدأوا بدراستها بكل اهتمام ولـهفة، فتحولت تلك الـمحافل الرسمية الى ما يشبه الـمدارس النورية، اذ انقلب النقد والـجرح عندهم الى نظرة الاعجاب والتقدير. حتى انه في (دنيزلي) قرأ الكثيرون سواء من الـمسؤولين او غيرهم – دون علمنا – رسالة ((الآية الكبرى)) الـمطبوعة بسرية تامة فازدادوا أيـماناً واصبحوا سبباً لـجعل مصيبتنا كأن لـم تكن.

ثم ساقونا الى سجن دنيزلي وزجـّوني في ردهة كبيرة ذات عفونة ورطوبة شديدتين فوق ما فيها من برودة شديدة، فاعتراني حزن وألـم شديدان من جراء ابتلاء اصدقائي الابرياء بسببي فضلاً عن الـحزن النابع مـما اصاب انتشار ((النور)) من عطل ومصادرة مع ما كنت اعانيه من الشيب والـمرض.. كل ذلك جعلني اتقلب مضطرباً في ضجر وسأم.. حتى اغاثتني العناية الربانية فحوّلت ذلك السجن الرهيب الى مدرسة نورية، فحقاً ان السجن مدرسة يوسفية، وبدأت رسائل النور بالانتشار والتوسع حيث بدأ أبطال ((مدرسة الزهراء)) بكتابة تلك الرسائل بأقلامهم الالـماسية. حتى أن بطل النور قد استنسخ اكثر من عشرين نسخة من رسالتي ((الثـمرة)) و((الدفاع)) خلال مدة لـم تتجاوز اربعة اشهر، مع ضراوة تلك الظروف الـمحيطة، فكانت تلك النسخ سبباً للفتوحات في السجن وفي خارجه فحوّل ضررنا في تلك الـمصيبة الى منافع وبدّل ضجرنا وحزننا الى افراح، مبدياً مرة اخرى سراً من اسرار الآية الكريـمة } وعَسى أنْ تَكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم { (القرة:216).

ثم وُزّع ضدنا بيان شديد اللهجة بناء على التقرير السطحي الـخاطيء الـمقدَّم من قبل ((الـخبراء الاوليين)) وشنّ وزير التربية هجوماً عنيفاً علينا، مـما حدا بالبعض أن يطالب باعدامنا بل قد سعوا في الامر.

وفي هذا الوقت العصيب بالذات جاءتنا العناية الربانية فأسعفتنا ايضاً، اذ بينا ننتظر انتقادات لاذعة عنيفة من ((خبراء انقرة)) اذا بتقاريرهم الـمتضمنة للاعجاب والتقدير برسائل النور، واذا بهم لـم يـجدوا من مـجموع خـمسة صناديق من رسائل النور الاّ بضعة اخطاء لاتتجاوز العشرة، وقد وضحـّنا امام الـمحكمة واثبتنا كذلك ان هذه الاخطاء التي أوردوها ليست أخطاءً، بل الـحقيقة بعينها، وان الـخبراء هم انفسهم على خطأ فيما يدّعون، وبيـّنا أن في تقريرهم الـمتكون من خـمس اوراق حوالي عشرة اخطاء.

وبينما كنا ننتظر التهديد والاوامر الـمشددّة من الدوائر الرسـمية السبع التي ارسلت اليها رسائل الثـمرة والدفاع كما اُرسلت الى دائرة العدل جـميع الرسائل، ولاسيما تلك الرسائل الـخاصة الـمتضمنة للصفعات الشديدة والتعرض لاهل الضلالة.. اجل بينما كنا ننتظر التهديد العنيف منهم، إذا بتقاريرهم الـمسلـّية وهي في منتهى اللين والرقة – الشبيهة بتلك الرسالة التي بعثها رئيس الوزراء الينا – وكأنهم يبدون رغبتهم في الـمصالـحة معنا. فأثبت – كل هذا – اثباتاً قاطعاً ان حقائق رسائل النور بفضل العناية الإلـهية وكرامتها قد غلبتهم وانتصرت عليهم حتى جعلتهم يقرأونها ويسترشدون بها، وحولت تلك الدوائر الرسـمية الواسعة الى ما تشبه الـمدارس النورية، وانقذت كثيراً من الـحيارى والـمترددين وشدّت من ايـمانهم، مـما ملأنا بهجة وسروراً هو اضعاف اضعاف ما كنا نعانيه من ضيق وضجر.

ثم دسّ الاعداء الـمتسترون السـُّم في طعامي، ونقل بطل النور الشهيد (حافظ علي) على اثرها الى الـمستشفى بدلاً عني، ومن ثم ارتـحل الى عالـم البرزخ ايضاً عوضاً عني، مـما جعلنا نـحزن كثيراً ونبكي بكاءً حاراً عليه.

لقد قلت يوماً – قبل نزول هذه الـمصيبة بنا – وانا على جبل قسطموني. بل صرخت مراراً: يا اخواني ((لاتلقوا اللـحم امام الـحصان ولا العشب امام الاسد)) بمعنى: لا تعطوا كل رسالة أياً كان حذراً من أن يتعرضوا لنا بسوء. وكأن الاخ ((حافظ علي)) قد سمع بهاتفه الـمعنوي كلامي هذا (وهو على بعد مسيرة سبعة ايام)). فكتب اليّ – في الوقت نفسه – يقول : ((نعم يا استاذي.. انها من احدى كرامات رسائل النور وخصائصها أنها لا تعطي اللحم الـحصان ولا العشب الأسد، بل تعطي العشب الـحصان واللحم الاسد!)) حتى اعطى ذلك العالِم رسالة الاخلاص، وبعد سبعة ايام تسلمنا رسالته هذه، وبدأنا بالعدّ والـحساب فعلمنا انه قد كتب تلك العبارة الغريبة نفسها في الوقت الذي كنت ارددها من فوق جبل قسطموني.

فوفاة بطل معنوي مثل هذا البطل من ابطال النور، والـمنافقون يسعون لادانتنا وانزال العقوبة بنا، علاوة على قلقي الـمستمـرّ من اخذهم إياي بأمر رسـمي الى الـمستشفى لـمرشي الناشيئ من التسمم.. في هذا الوقت وجـميع هذه الـمضايقات تـحيط بنا، اذا بالعاية الإلـهية تأتي لإمدادنا؛ فلقد أزال الدعاء الـخالص الـمرفوع من قبل اخواني الطيبين خطر التسمم. وهناك أمارات قوية جداً تدل على أن ذلك البطل الشهيد منهمك في قبره برسائل النور وانه يـجيب بها عن اسئلة الـملائكة. وان بطل دنيزلي ((حسن فيضي)) (تغمده الله برحـمته) واصدقاءه الاوفياء سيحلون مـحله فيقومون بـمهمته في خدمة النور سراً.. وان اعداءنا قد انضموا الىالرأي القائل بضرورة اخراجنا من السجن خوفاً من سعة انتشار الرسائل بين الـمساجين وسرعة استجابتهم لـها ليحولوا بيننا وبين السجناء وقد حوّل تلاميذ النور تلك الـخلوة الـمزعجة الى ما يشبه كهف اصحاب الكهف، اولئك الفتية الـمؤمنون، أو ما يشبه مغارات الـمنزوين من الزهاد، وسعوا بكل اطمئنان وسكينة في كتابة الرسائل ونشرها.. كل ذلك أثبت ان العناية الإلـهية كانت تـمدّنا وتغيثنا.

ولقد خطر للقلب: مادام الامام الاعظم ((ابو حنيفة النعمان)) وامثاله من الائمة الـمجتهدين قد اوذوا بالسجن وتـحملوا عذابه، وان الامام احـمد بن حنبل وامثاله من الـمجاهدين العظام قد عذّبوا كثيراً لاجل مسألة واحدة من مسائل القرآن الكريـم. وقد ثبت الـجميع امام تلك الـمحن القاسية وكانوا في قمة الصبر والـجلد، فلـم يُبد احدهم الضجر والشكوى، ولـم يتراجع عن مسألته التي قالـها. وكذا علماء عظام كثيرون وأئمة عديدون لـم يتزلزلوا قط امام الآلام والاذى الذي نزل بهم، بل صبروا شاكرين لله تعالى، مع أن، البلاء الذي نزل بهم كان أشدّ مـما هو نازل بكم، فلابد أن في اعناقكم دَين الشكر لله تبار وتعالى شكراً جزيلاً على ما تتحملونه من العذاب القليل والـمشقة اليسيرة التنازلة بكم في سبيل حقائق عديدة للقرآن الكريم مع الثواب الـجزيل والاجر العميم.

وسأبين هنا باختصار احدى تـجليات العناية الربانية من خلال الظلم الذي يقترفه البشر:

كنت اكرر واقول في العشرين من عمري: سأنزوي في اخريات حياتي في مغارة، مبتعداً عن الـحياة الاجتماعية كما كان ينزوي الزهاد في الـجبال، وكذلك قررت عندما كنت اسيراً في شـمال روسيا في الـحرب العالـمية الاولى أن سأقضي بقية ايام عمري في الكهوف والـمغارات منسلاً عن الـحياة الاجتماعية والسياسية. كفاني تدخلاً.. فتجلت العناية الربانية وعدالة القدر – رحـمة بشيخوختي – وحولتا تلك الـمغارات التي كنت أتصورها الى ما هو خير وافضل منها، وبـما يفوق كثيراً رغبتي وقراري.. حوّلتا الى سجون انزواء وانفراء، ومنحتا لي ((مدارس يوسفية)) بدلاً عن تلك الـمغارات في الـجبال للـمنزوين واهل الرياضة الروحية، لئلا تضيع اوقاتنا سدىً، حيث ان في تلك الـمغارات فوائد اخروية زيادة عما فيها من اداء مهمة الـجهاد لاجل القرآن والـحقائق الإيـمانية. حتى عزمت – بعد الافراج عن اخواني وتبرئتهم – أن أظهر شيئا يدينني ويبقيني في زنزانة السجن مع ((خسرو وفيضي)) وامثالـهم من الـمجاهدين الـمخلصين الـمتفرغين للخدمة لأتـخذها حجة تغنيني عن الاختلاط بالناس ولئلا أضيـّع شيئاً من وقتي فيما لايعني من الامور وبالتصنع وحب الظهور، حيث البقاء في ردهات السجن افضل، الاّ ان القدر الإلـهي وما قسم الله لنا من رزق قد ساقني الى مـحل انزواء آخر. فحسب مضمون (الـخير فيما اختاره الله) وبسر الآية الكريـمة } وعَسى أنْ تَكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم { (القرة:216) ورحـمة بشيخوختي، ولاجل ان نسعى بشوق اكثر في الـخدمة الإيـمانية، فقد وُهبتْ لنا مهمة، وأوكلت الينا وظيفة، هي خارج إرادتنا وطوقنا في هذه الـمدرسة اليوسفية الثالثة.

نعم ان في تـحويل العناية الإلـهية مغارات عهد الشباب الذي لـم يكن له اعداء شرسون، لي ردهات السجن الـمنفرد، ثلاث حِكم وثلاث فوائد مهمة لـخدمة النور:





T الـحكمة والفائدة الاولى

اجتماع طلاب النور في هذا الوقت دون ان يتضرر منهم احد انـّما يكون في ((الـمدرسة اليوسفية)). حيث ان اللقاء فيما بينهم في الـخارج قد يثير الشبهة ويـحتاج الى مصاريف، اذ كان بعضهم ينفق حوالي خـمسين ليرة لاجل لقائي مدة لاتزيد عن عشرين دقيقة، او كان يرجع دون أن يتمكن من مقابلتي. لذا فأنا اتـحمل ضيق السجن بل أتقبله مسروراً لاجل اللقاء عن قرب مع بعض اخوتي الاوفياء، فالسجن بالنسبة لنا اذن نعمة ورحـمة.

T الـحكمة والفائدة الثانية

انه لابّد من الاعلان والتبليغ في كل جهة في وقتنا هذا عن خدمة الإيـمان برسائل النور، ولفت أنظار الـمحتاجين اليها في كل مكان. فدخولنا السجون يلفت الانظار الى الرسائل، فيكون اذن بـمثابة اعلان عنها، فيجدها اعتى الـمعاندين والـمحتاجين فتكسر بها شوكة عنادهم وينقذون بها ايـمانهم، وينجون من الـمهالك، وتتوسع دائرة مدارس النور.

T الـحكمة والفائدة الثالثة

ان طلاب النور الذين دخلوا السجن يتعرف كل منهم على احوال الآخر، ويتعلم كل منهم من الآخر السجايا الـحميدة والاخلاص والتضحية، فلا يبالون بعدئذٍ بالـمنافع الدنيوية في الـخدمة النورية.

نعم انهم يوفقون بالظفر بالاخلاص الكامل لـما يـجدون ويرون من أمارات كثيرة تدل على ان كل ضيق ومشقة في الـمدرسة اليوسفية لـها عشرة اضعافها من الفوائد الـمعنوية والـمادية، ومن النتائج اللطيفة، ومن الـخدمات الواسعة الـخالصة للإيـمان، بل قد تصل الى مائة صعف، وعندئذٍ لا يتنازلون لكسب الـمنافع الـخاصة الجزئية.

وبالنسبة لي فان لأماكن الانزواء والـمعتكفات هذه لطافة حزينة الاّ أنها لذيذة وهي كما يأتي:

اني أجد هنا من الاوضاع والاحوال ما كنت اجدها في ايام شبابي في بلدتي وفي مدرستي القديـمة، حيث كان طعام قسم من طلاب الـمدارس – حسب عادة الولايات الشرقية – يأتيهم من خارج الـمدرسة وقسم آخر يطبخونه فيما بينهم في الـمدرسة، فكما نظرت هنا – مع حالات اخرى متشابهة 0 تذكرت تلك الـحالة ايام شبابي من خلال حسرة لذيذة فأذهب خيالاً الى تلك الايام، وأنسى حالات شيخوختي.

ذيل اللمعة السادسة والعشرين

هو الـمكتوب الـحادي والعشرون، نشر ضمن ((الـمكتوبات))

اللمعة السابعة والعشرون

هي دفاع الاستاذ النورسي امام مـحكمة اسكي شهر، ينشر في مـجموعة

((سيرة ذاتية))

عبدالقادر حمود 02-02-2011 01:55 AM

رد: اللمعات
 
اللمعة الثامنة والعشرون

هذه اللمعة عبارة عن فقرات مـختصرة كتبتها لبعث السلوان الى قلوب اخواني الذين كانوا معي، حينما كنت مـمنوعاً عن التكلم والاختلاط مع الاخرين في سجن ((اسكي شهر)).

مـحاورة لطيفة

مع سليمان رشدي(1) الذي هو رمز الوفاء والاخلاص، الـمتميز بنقاء السريرة.

عندما يقترب زمن تسريح الذباب من مهمة الـحياة وذلك في موسم الـخريف، يستعمل بعض من يقصد نفعه بالذات دواءً لـمكافحة الذباب ليحولوا دون ان يـمسهم شيء من الازعاج. فـمسّ ذلك رقة قلبي واثـّر فيّ كثيراً. علماً ان الذباب قد تكاثر اكثر من قبل على الرغم من استعمال الدواء القاتل. وكان في غرفتي في السجن حبل لنشر الـملابس لأجل تنشيفها فكانت تلك الطويرات الصغيرة جداً تتراصف على ذلك الـحبل مساءً تراصفاً جـميلاً منتظماً. فقلت لرشدي: لا تتعرض لـهذه الطويرات الصغيرة، انشر الـملابس في مكان آخر. فردّ عليّ بـجدّ: اننا بـحاجة الى هذا الـحبل، فلتجد الذبان لـها موضعاً آخر!

وعلى كل حال، ولـمناسبة الـمحاورة اللطيفة التي جرت بيننا انفتح باب البحث عن الذباب والـنحل وما شابههما من الـحشرات الكثيرة، فدار الكلام حولـها.

فقلت له:

ان مثل هذه الانواع من الـحيوانات التي تتكاثر نسخها بكثرة هائلة، لـها وظائف مهمة. فالكتاب تطبع بطبعات كثيرة نظراً لقيمته، بـمعنى ان جنس الذباب(1) له وظيفة مهمة وقيمة كبيرة حيث يُكثر الفاطر الـحكيم من نسخ تلك الرسائل القَدَرية وكلمات القدرة الإلـهية.

نعم! ان هذه الطائفة من الذباب التي تنظـّف وجهها وعينيها وجناحيها كل حين، وكأنها تتوضأ، تشكـّل موضوعاً مهما للآية الكريـمة: } يا ايها الناسُ ضُربَ مثلٌ فاستمعوا له إنّ الذين تَدعونَ من دون الله لن يَخلـُقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإنْ يَسْلـُبهم الذبابُ شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطالبُ والـمطلوبُ{ (الـحج:73).

بـمعنى ان الاسباب وما يدّعيه اهل الضلالة من ألوهية من دون الله لو اجتمعت على خلق ذبابة واحدة لعجزت. اى ان خلق الذباب معجزة ربانية وآية تكوينية عظيمة، بـحيث لو اجتمعت الاسباب كلها لـما خلقت مثل تلك الآية الربانية ولا استطاعت ان تعارضها ولا تقليدها قطعاً. فتلك الـمعجزة قهرت نـمرود، ودافعت عن حكمة خلقها دفاعاً فاق ألف اعتراض، لـما شكى موسى عليه السلام من ازعاجاتها قائلاً: يارب لِمَ اكثرتَ من نسل هذه الـمخلوقات الـمزعجة.. اُجيب إلـهاماً: لقد اعترضتَ مرةَ على الذبان، وهي كثيراً ما تسأل: يارب ان هذا الانسان الكبير ذا الرأس الضخم لا يذكرك الاّ بلسان واحد بل يغفل احياناً عن ذكرك، فلو خلقتَ من رأسه فحسب مـخلوقات من امثالنا لكانت الوف الـمخلوقات ذاكرة لك.

وفضلاً عن هذا فان الذباب يرعى النظافة أيـمـّا رعاية، اذ ينظف وجهه وعينيه باستمرار ويـمسح على اجنحته دوماً ويؤدي كل ذلك كمن يتوضأ. اذاً لـهذه الطائفة وظائف مهمة وجليلة بلاشك، الاّ ان نظر الـحكمة البشرية وعلمها قاصر لـم يـحط بعدُ بتلك الوظائف.

نعم، ان الله سبحانه وتعالى قد خلق قسماً من الـحيوانات مفترسة آكله للـحوم، وكأنها موظفات صحيات ومأمورات للتنظيف تؤدي وظيفتها في غاية الاتقان، بتنظيفها وجه البحر وجـمعها لـجثث ملايين الـحيوانات البحرية يومياً، وانقاذ وجه البحر من الـمناظر القذرة(1). فان لـم توف هذه الـحيوانات بوظيفتها الصحية حق الوفاء وعلى اجـمل وجه لـما تلألأ وجه البحر كالـمرآة الساطعة، ولكان البحر يورث الكآبة والـحزن.

وكذا فانه سبحانه قد خلق حيوانات مفترسة وطيوراً جارحة بـمثابة مأمورات للنظافة والامور الصحية، تقوم بتنظيف وجه الارض يومياً من جثث مليارات من الـحيوانات البرية والطيور وانقاذها من التعفن، وانقاذ ذوي الـحياة من ذلك الـمنظر الكئيب الأليم. حيث تستطيع تلك الـحيوانات ان تتحسس مواضع تلك الـجثث الـخفية والبعيدة من مسافة تبلغ حوالي ست ساعات، وذلك بسَوق من إلـهام رباني، فتنطلق الى تلك الـمواضع وتزيل الـجثث. فلولا هذه الـموظفات الصحيات البرية وهي تؤدي وظائفها على افضل وجه لكان وجه الارض في حالة يرثى لـها.

نعم، ان الرزق الـحلال للحيوانات الوحشية الـمفترسة هو لـحوم الـحيوانات الـميتة، وحرام عليها لـحوم الـحيوانات الـحية، بل لـها جزاء إن اكلت منها، فالـحديث الشريف ((حتى يقتصّ الـجمـّاء من القَرناء))(2). يدل على أن الـحيوانات التي تبقى ارواحها رغم فناء اجسادها لـها جزاء وثواب يناسبها في دار البقاء. فعلى هذا يصح القول ان لـحوم الـحيوانات الـحية حرام على الـمفترسات.

وكذا النمل موظف بـجمع شتات القطع الصغيرة للنعم الإلـهية وصيانتها من التلف والامتهان لئلا تداس تـحت الاقدام، فضلاً عن جـمعه جثث الـحيوانان الصغيرة وكأنه موظف صحي.

وكذا الذبان لـها وظائف – اهم مـما ذكر – فهي مأمورة بتنظيف مالا يراه الانسان من جراثيم مرضية وتطهير الـمواد السامة. فهي ليست ناقلة للجراثيم، بل العكس تهلك تلك الـجراثيم الـمضرة وتـمحيها بمصها لـها واكلها، وتـحيل تلك الـمواد السامة الى مواد اخرى. فتحُول دون سريان كثير من الامراض، وتوقفها عند حدّها.

والدليل على أن الذبان موظفات صحيات، ومأمورات تنظيف وكيمياويات حاذقات، وان لوجودها حكمة الـهية واسعة.. هو كثرتها الـمتناهية، اذ الـمواد النافعة والثمينة تكثـّر منها(1).

ايها الانسان الذي يقصد نفع ذاته وحده!

انظر الى فائدة واحدة للذباب تعود اليك فحسب مـما سوى فوائده ومنافعه للحياة. وتخلّ عن عدائك له. فكما انه يورثك الانس والسلوان في الاغتراب والوحدة والانفراد، كذلك يوقظك من نوم الغفلة وغمرات تشتت الفكر، فيذكـّرك بوظائف انسانية كالـحركة والنشاط والنظافة الدائمة بوضوئه وصلاته وتنظيفه وجهه وعينه، كما هو مشاهد.

وكذا النحل – وهي صنف من الذباب – تطعمك العسل الذي هو ألذّ غذاء والطفه، وهي الـملهمة بالوحي الإلـهي كما نص عليه القرآن الكريم، فعليك ان توليها حبـّك.

ان العداء للذباب لا معنى له، بل هو ظلم واجحاف بـحق تلك الـحيوانات التي تعاون الانسان وتسعى لصداقته وتتحمل أذاه، وانـما يـجوز مكافحة الـمضرة منها فحسب، وذلك دفعاً لأضرارها، كدفع ضرر الذئاب عن الاغنام.

فيا ترى أليس من الـمحتمل ان تكون البعوض والبرغوث الـمسلـّطين علينا حجـّامات فطرية، أي موظفات بـمص الدم الفاسد الـجاري في الاوردة وقت الـحر وزيادة الدم اكثر من حاجة الـجسم؟.. سبحان من تـحيـّر في صنعه العقول..

كنت يوماً في جدال مع نفسي، اذ اغترت بـما انعم الله عليها، وتوهمت انها مالكة لـها، وبدأت بالفخر والـمدح.

فقلت لـها: انك لاتـملكين شيئاً بل هو أمانة. فتركت الغرور والفخر. ولكنها تكاسلت قائلة: لِمَ أَرعى ما ليس لي؟ وماذا عليّ لو ضاع؟.

وفجأة رأيت ذبابة وقفت على يدي وبدأت بتنظيف وجهها وعينها وجناحيها وهي امانات لديها تنظيفاً على اجـمل ما يكون، مثلما ينظف الـجندي سلاحه وملابسه التي سلـّمتها له الدولة، فقلت لنفسي: انظري الى هذه الذبابة، فنظرت وتعلـّمت منها درساً بليغاً. وهكذا اصبح الذباب استاذاً لنفسي الكسلانة.

ان فضلات الذباب لاضرر لـها من حيث الطب، بل قد تكون شراباً حلواً (وغذاء لـحشرات اخرى) اذ ليس من الـمستبعد عن الـحكمة الإلـهية، بل من شأنها ان تـجعل من الذباب مكائن تصفية واجهزة استحالة، نظراً لأكلها الوف الأصناف من مواد هي منشأ الـجراثيم والسموم.

نعم ان من طوائف الذباب – مـما سوى النـحل – طائفة تأكل الـمواد الـمتعفنة الـمختلفة(1) فتقطر دوماً قطرات من مواد حلوة بدلاً من فضلاتها – كنزول الـمنّ على اوراق الاشجار – فتثبت انها مكائن استحالة.

وهكذا يتبين امام الانظار مدى عظمة امة الذباب الصغير هذا، ومدى عظمة وظائفها. وكأنها تقول بلسان الـحال: لا تنظروا الى صغر اجسامنا بل الى عِظَم وظائفنا. وقولوا: سبحان الله.





((الـحروف القرآنية))(1)



بِسْم الله الرَّحـمن الرَّحيم

} إنـّما أمرُه إذا أراد شَيئاً أنْ يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون { (يس:82)

يفهم من اشارة هذه الآية الكريـمة: ان الـخلق يتم بالأمر، وان خزائن القدرة الإلـهية بين الكاف والنون. ولـهذا السر الدقيق وجوه كثيرة، وقد ذكر بعضها في الرسائل.

اما الآن فنحاول ان نفهم هذا السر وفق مثال مادي مـحسوس لأجل تقريب الأحاديث النبوية الواردة حول خواص الـحروف القرآنية ومزاياها وتأثيراتها الـمادية – ولاسيما الـحروف الـمقطعة في اوائل السور – الى نظر هذا العصر الـمادي، وذلك:

ان للخالق الـجليل ذي العرش العظيم سبحانه وتعالى أربعة عروش إلـهية، هي مـحاور لتدبير امور الـمخلوقات الـموجودة على كرة الارض، التي هي بـمثابة مركز معنوي للعالـم وقلب الكائنات وقبلتها.

احدها: هو عرش التحفظ والـحياة وهو التراب، الـمظهر لتجلي اسم الـحفيظ والـمحيي.

ثانيها: هو عرش الفضل والرحـمة وهو عنصر الـماء.

ثالثها: هو عرش العلم والـحكمة وهو عنصر النور.

رابعها: هو عرش الامر والارادة وهو عنصر الـهواء.

اننا نشاهد بابصارنا ظهور الـمعادن التي تدور عليها حاجات غير مـحدودة غير مـحدودة حيوانية وانسانية، وظهور مالايـحد من النباتات الـمختلفة، من تراب بسيط كما نشاهد ظهور ما لا يـحد من معجزات الصنعة الإلـهية ولاسيما من نطف الـحيوانات التي هي سائل شبيه بالـماء، ظهورها في الاحياء الـمختلفة بالـماء.. أي ظهور تلك الكثرة الكاثرة والانواع الـمختلفة من عنصر بسيط، وبانتظام تام وكتابتها على صحيفة بسيطة على صورة نقوش بديعة لاتـحد، مـما يدلنا على ان النور والـهواء ايضاً - كهذين العرشين - مظاهر لـمعجزات عجيبة لقلم علم الـمصور الازلي العليم الـجليل وقلم ارادته وأمره كالعرشين السابقين، رغم بساطتهما.

سندع حالياً عنصر النور. ولـمناسبة مسألتنا نـحاول كشف الـحجاب عما يستر عجائب الامر والارادة وغرائبهما في عنصر الـهواء الذي يـمثل عرش الامر والارادة بالنسبة الى كرة الارض. وذلك:

كما اننا نزرع الـحروف والكلمات بالـهواء الذي في افواهنا، واذا بها تتسنبل وتثمر، أي ان الكلمة تصبح حبة في آن واحد كأنه بلازمان وتتسنبل في الـهواء الـخارجي، هواءً حاوياً على مالايـحد من الكلمة نفسها، صغيرها وكبيرها. كذلك ننظر الى عنصر الـهواء فنرى انه مطيع ومنقاد لأمر ((كن فيكون)) ومسخـّر له الى حد عظيم حتى كأن كل ذرة من ذراته جندي لـجيش منظم متأهب لتلقي الأمر في كل آن، ويُظهر الطاعة والامتثال للارادة الـمتجلية في أمر ((كن)) بلازمان، سواءً في ذلك أبعد الذرات وأقربها.

مثلاً: ان الـخطاب الذي يلقيه انسان من الاذاعة يُسمع في كل مكان في الارض في الوقت نفسه وكأنه بلا زمان – بشرط وجود الراديوات – مـما يبين مدى امتثال كل ذرة من ذرات الهواء لتجلي امر ((كن فيكون)) امتثالاً كاملاً.

فالأمر كذلك في الـحروف التي هي غير مستقرة في الـهواء، يـمكن ان تصبح بكيفياتها القدسية مظاهر لتأثيرات خارجية ولـخواص مادية كثيرة حسب سر الامتثال هذا. فتشاهد فيها خاصية، كأنها تقلب الـمعنويات الى ماديات وتـحول الغيب الى شهادة.

وهكذا بـمثل هذه الامارة، فان امارات اخرى لاتـحد تظهر لنا ان الـحروف التي هي موجودات هوائية، ولاسيما الـحروف الـمقدسة القرآنية وبـخاصة حروف الشفرات الإلـهية وهي الـمقطعات التي في اوائل السور، تسمع الاوامر وتـمتثلها امتثالاً في غاية الانتظام والشعور التام والـحساسية الكاملة وبلا حاجة الى زمان. فلا شك ان هذا يـحمل الـمرء على التسليم بالـخواص الـمادية والـمزايا الـخارقة الـمروية للحروف التي في ذرات الـهواء ومن حيث القدسية، والتي ينعكس فيها تـجلي الارادة الازلية وجلوة من أمر ((كن فيكون)).

وهكذا فان تعابير القرآن الكريم التي تبين احياناً اثر القدرة كأنها صادرة من صفة الارادة وصفة الكلام مبني على هذا السر. فتلك التعابير القرآنية تدل على ان الـموجودات تُخلق في منتهى السرعة ومسخـّرة ومنقادة انقياداً تاماً للاوامر حتى لكأن الأمر ينفـّذ حُكمه كالقدرة.

أي ان الـحروف الآتية من الأمر التكويني تؤثر في وجود الاشياء وكأنها قوة مادية، ويظهر الامر التكويني كأنه القدرة نفسها والارادة نفسها. نعم ان هذه الـموجودات الـخفية التي وجودها الـمادي هوائي وهي في غاية الـخفاء، حتى كأنها موجودات نصف معنوية ونصف مادية، تشاهد فيها آثار الامر والارادة بـحيث يشبه الامر التكويني كالقدرة بعينها، بل القدرة نفسها.

وهكذا لأجل جلب الانظار والـحث على التدبير في موجودات كأنها برزخ بين الـمعنويات والـماديات يقول القرآن الكريم } إنـّما أمرُه إذا أراد شَيئاً أنْ يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون { (يس:82). لذا فمن الـمعقول جداً ان تكون الـحروف الـمقطعة التي في اوائل السور امثال: الـم، طس، حم، وما شابهها من الشفرات الإلـهية، عقداً وازراراً حرفية تستطيع ان تهزّ اوتار العلاقات الدقيقة الـخفية بين ذرات الـهواء بلا زمان، بل هذا من شأن تلك الـحروف ومن وظائفها أن تؤدي مـخابرات قدسية – كاللاسلكي الـمعنوي – من الارض الى العرش.

نعم ان كل ذرة بل كل ذرات الـهواء الـمنتشرة في اقطار العالـم تـمتثل الاوامر وتنقلها عبر اللاسلكي والـهاتف والبرقية، فضلاً عن نقلها سائر السيالات اللطيفة كالكهرباء. فلقد شاهدت بالـحدس القطعي بل بالـمشاهدة الـحقة احدى وظائفها – مـما سوى الـمذكورة – في ازاهير اللوز، وهي: ان الاشجار الـمنتشرة في اقطار الارض كأنها جيش منظم يستلم الامر نفسه في آن واحد. فبمجرد هبوب نسيم رقيق تستلم الامر من تلك الذرات، وتظهر وضعاً معيناً. مـما اورثتني تلك الـحالة يقيناً تاماً وقناعة كاملة. بـمعنى ان قيام الـهواء في سطح الارض كـخادم امين نشط فعال، يـخدم ضيوف الرحـمن الرحيم الذين يسكنون سطح الارض، يبلـّغ في الوقت نفسه اوامر الرحـمن بذراته الشبيهة باللاسلكي الى النباتات والـحيوانات، بـحيث تكون ذراته كلها في حكم خدّام الامر وشبيهة بلاقطات اللاسلكي والـهاتف. وفي الوقت نفسه يؤدي بأمر ((كن)) مهمات جليلة ووظائف منتظمة كثيرة، من امثال تشكيل الـحروف في الفم بعد خروجه منه، وتهوية الانفاس واسترواح النفوس، أي بعد ادائه وظيفة تنقية الدم الباعث على الـحياة، واشعال الـحرارة الغريزية التي هي وقود الـحياة، ثم يـخرج الـهواء من الفم ويكون مبعث نطق الـحروف وانطلاقها.. وهكذا تـجري وظائف كثيرة بأمر ((كن فيكون)).

فبناء على خاصية الـهواء هذه، فان الـحروف التي هي موجودات هوائية كلما اكتسبت قداسة، أي اتـخذت اوضاع البث والالتقاط يصبح لـها حظ وافر من تلك الـخاصية.

لذا فلكون حروف القرآن، وهي في حكم العقد، وحروف الـمقطعات في حكم الـمركز لرؤوس تلك الـمناسبات الـخفية، وفي حكم عقدها وازرارها الـحساسة، يكون وجودها الـهوائي مالكاً لـهذه الـخاصية، كما ان وجودها الذهني، بل وجودها النقشي ايضاً، لـهما خاصية من تلك الـخاصية.

أي يـمكن بقراءة تلك الـحروف وبكتابتها كسبَ الشفاء – كالدواء الـمادي – والـحصول على مقاصد اخرى.

سعيد النورسي















((الكلمات الإلـهية))



بِسْمِ اللهِ الرَّحْـمنِ الرَّحيمِ

} قُل لَو كان البحرُ مِداداً لكلمات ربـّي لَنَفد البحرُ قبل ان تَنفَدَ كلماتُ ربـّي ولو جئنا بـمثله مَدداً { (الكهف:109)

ان هذه الآية اللطيفة بـحر واسع رفيع زاخر باللآلىء والدرر، ينبغي لكتابة جواهرها النفسية كتابة مـجلد ضخم، لذا نعلقها الى وقت آخر بـمشيئة الله. ولقد تراءى لي من بعيد شعاع صدر من نكتة من نكاتها الدقيقة، فلفت نظر فكري اليه بعد اذكار الصلاة التي اعدّها افضل وقت لـخطور الـحقائق. الاّ أنني لـم اتـمكن من تسجيل تلك النكتة في حينه، فتباعد ذلك الشعاع كلما مرّ الزمان، فنذكر هنا بضع كلماتٍ لتخط حوله دوائر لاقتناص جلوة منها قبل ان يغيب كلياً ويتوارى عن الانظار.

الكلمة الأولى:

ان الكلام الازلي صفة إلـهية، كالعلم والقدرة، لذا فهو غير مـحدد وغير متناهٍ، والذي لا نهاية له لا ينفد ولو كان البحر مداداً له.

الكلمة الثانية:

ان اظهر شىء للإشعار بوجود شخص ما هو تكلمه، فهو أقوى أثر للدلالة عليه؛ اذ سـماع كلام صادر من شخص ما، يثبت وجوده اثباتاً يفوق الف دليل، بل بدرجة الشهود. لذا فان هذه الآية تقول بـمعناها الاشاري:

لو كان البحر مداداً لعدّ الكلام الإلـهي الدال على وجوده سبحانه وتعالى وكانت الاشجار اقلاماً تكتب ذلك العدد، مانفد كلام الله. بـمعنى أن ما يدل على الأحد الصمد – دلالة الكلام على الـمتكلم – لا يعدّ ولا يـحصى ولا حدّ له، حتى لو كانت البحار مداداً له.

الكلمة الثالثة:

لـما كان القرآن الكريـم يرشد جـميع الطبقات البشرية الى حقائق الإيـمان، يكرر ظاهراً الـحقيقة الواحدة بـمقتضى تقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة وإقناعهم.

لذا فهذه الآية الكريـمة جواب ضمني لأهل العلم وعلماء اليهود من اهل الكتاب في ذلك الوقت، على اعتراضهم الـمجحف الظالـم ظلماً بيـّناً على أُمية الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام وعلى قلة علمه.

فالآية تقول: ان تكرار الـمسائل الـجليلة التي لكل منها قيمة الف مسألة وتتضمن الوفاً من الـحقائق – كما هي في مسائل الاركان الايـمانية – تكراراً معجزاً وبأساليب شتى، وان تكرار حقيقة واحدة وهي تتضمن كثيراً جداً من النتائج من حيث الفوائد الـمتنوعة، لإقرارها في قلوب الناس كافة ولاسيما العوام.. هذا التكرار الذي تقتضيه حكمٌ كثيرة – كالتقرير والاقناع والتحقيق – لايعدّ حصراً للكلام ولا هو نابع من قصور الذهن ولا من قلة البضاعة وقصر الباع، بل لو كانت البحار مداداً، وذوو الشعور كتـّاباً والنباتات اقلاماً، بل حتى الذرات لو كانت رؤوس اقلام وقامت كلها بعدّ كلمات الكلام الإلـهي الازلي، ما نفدت ايضاً، لأن كل ماذكر من امور هي متناهية وكلمات الله غير متناهية، وهي منبع القرآن الكريم الـمتوجه الى عالـم الشهادة من عالـم الغيب مـخاطباً الـجن والانس والـملائكة والروحانيين، فيرنّ في اسماع كل فرد منهم. ولا غرو فهو النازل من خزينة الكلام الإلـهي الذي لا ينفد.

الكلمة الرابعة:

من الـمعلوم ان صدور كلامٍ مـما لا يُتوقع منه الكلام، يـمنح الكلام اهمية ويدفع الى سماعه، ولاسيما الاصداء الشبيهة بالكلام، الصادرة من الاجسام الضخمة كالسحاب وجوّ السماء، فانها تـحمل كل احد على سماعها باهتمام بالغ، وبـخاصة النغمات التي يطلقها جهاز ضخم ضخامة الـجبل فانها تـجلب الاسماع اليها اكثر. ولا سيما الصدى السماوي القرآني الذي يبث – بالراديو – فترن به السموات العلى حتى تسمع هامة الكرة الارضية برمتها. فتصبح ذرات الـهواء بـمثابة لاقطات تلك الـحروف القرآنية ومراكز بثـّها. فتكون الذرات بـمثابة الـمرايا العاكسة للانوار والاذان الصاغية للأصداء، والألسنة الذاكرة لـها، وكأنها نهايات إبر لـجهاز حاك عظيم تـخرج الاصوات.

فالآية تبين رمزاً مدى اهمية الـحروف القرآنية ومدى قيمتها ومزاياها وكونها نابضة بالـحياة، فتقول بـمعناها الاشاري: ان القرآن الكريـم الذي هو كلام الله، حي يتدفق بالـحيوية، رفيع سام الى حدّ لا ينفد عدد الاسماع التي تنصت اليه ولاعدد الكلمات الـمقدسة التي تدخل تلك الاسماع.. لا تنفد تلك الاعداد حتى لو كانت البحار مداداً والـملائكة كتـّاباً لـها والذرات نقاطاً والنباتات والشعور اقلاماً.

نعم، لا تنفد، لان الله سبحانه الذي يُكثر في الـهواء عدد ما لا روح فيه ولا حياة من كلام الانسان الضعيف، الى الـملايين فكيف بعدد كل كلمة من كلام رب السموات والارض الذي لاشريك له والـمتوجه الى جـميع ذوي الشعور في السموات والارضين.

الكلمة الـخامسة: عبارة عن حرفين:

الـحرف الاول: كما أن لصفة الكلام كلمات، كذلك لصفة القدرة كلمات مـجسمة. ولصفة العلم كلمات قَدَرَية حكيمة وهي الـموجودات ولاسيما الأحياء ولاسيما الـمخلوقات الصغيرة، فكل منها كلمة ربانية بـحيث تشير الى الـمتكلم الازلي اشارة اقوى من الكلام. فهذه الآية الكريـمة تومىء الى هذا الـمعنى: ان إحصاء عدد تلك الـمخلوقات لا ينفد حتى لو كانت البحار مداداً له.

الـحرف الثاني: ان جـميع انواع الالـهام الآتي الى الـملائكة والانسان وحتى الى الـحيوانات، نوع من كلام إلـهي. فلاشك ان كلمات هذا الكلام غير متناهية. فان الآية الكريـمة تخبرنا عن مدى كثرة ولا نهائية عدد كلمات الالـهام والامر الإلـهي الذي يستلهمه دوماً مالايعد ولا يـحصى من جنود رب السموات والارض.

والعلم عند الله .. ولا يعلم الغيب إلا الله

((انزال الـحديد))

بِسْمِ الله الرَّحـمن الرَّحيم

} وأنزلـْنا الـحديدَ فيه بأسٌ شَديدٌ وَمَنافعُ للنـّاس { (الـحديد:25)

جواب مهم جداً ومـختصر عن سؤال يـخص هذه الاية الكريـمة، طرحه رجل له اهميته وعلى علم واسع، وألزم به بعض العلماء.

سؤال:

يقال: ان الـحديد يـخرج من الارض ولا ينزل من السماء حتى يقال: ((انزلنا)). فلِمَ لـم يقل القرآن الكريم: ((اخرجنا)) بدلاً عن ((انزلنا)) الذي لا يوافق الواقع ظاهراً؟

الـجواب: ان القرآن الكريم قد قال كلمة ((انزلنا)) لأجل التنبيه الى جهة النعمة العظيمة التي ينطوي عليها الـحديد والتي لـها اهميتها في الـحياة. فالقرآن الكريم لا يلفت الانظار الى مادة الـحديد نفسها ليقول ((اخرجنا)) بل يقول ((انزلنا)) للتنبيه الى النعمة العظيمة التي في الـحديد والى مدى حاجة البشر اليه. وحيث ان جهة النعمة لا تـخرج من الاسفل الى الاعلى بل تأتي من خزينة الرحـمة، وخزينة الرحـمة بلا شك عالية وفي مرتبة رفيعة معنى، فلا بد ان النعمة تنزل من الاعلى الى الاسفل، وان مرتبة البشر الـمحتاج اليها في الاسفل، وان الإنعام هو فوق الـحاجة. ولـهذا فالتعبير الـحق الصائب لورود النعمة من جهة الرحـمة اسعافاً لـحاجة البشر هو: ((انزلنا)) وليس ((اخرجنا)).

ولـما كان الاخراج التدريـجي يتم بيد البشر، فان كلمة ((الاخراج)) لا يُشعر جهة النعمة ولا يـحسسها لانظار الغافلين.

نعم لو كانت مادة الـحديد هي الـمرادة، فالتعبير يكون ((الاخراج)) باعتبار الـمكان الـمادي. ولكن صفات الـحديد، والنعمة التي هي الـمعنى الـمقصود هنا، معنويتان؛ لذا لا يتوجه هذا الـمعنى الى الـمكان الـمادي، بل الى الـمرتبة الـمعنوية.

فالنعمة الآتية من خزينة الرحـمة التي هي احدى تـجليات مراتب سـمو الرحـمن ورفعته غير الـمتناهية تُرسل من اعلى مقام الى اسفل مرتبة بلاشك؛ لذا فالتعبير الـحق لـهذا هو: انزلنا. والقرآن الكريم ينبه البشر بهذا التعبير الى ان الـحديد نعمة إلـهية عظيمة. نعم، ان الـحديد هو منشأ جـميع الصناعات البشرية ومنبع جـميع رقيها ومـحور قوتها، فلاجل تذكير هذه النعمة العظمى يذكر القرآن بكل عظمة وهيبة وفي مقام الامتنان والإنعام قائلاً: } وأنزلـْنا الـحديدَ فيه بأسٌ شَديدٌ وَمَنافعُ للنـّاس { (الـحديد:25) كما يعبـّر عن اعظم معجزة لسيدنا داود عليه السلام بقوله تعالى } وَأَلَنـّاَ لَهُ الْحَدِيدَ { (سبأ:10). اي انه يبين تليين الـحديد معجزة عظيمة ونعمة عظيمة لنبي عظيم.

ثانياً: ان ((الاعلى)) و ((الاسفل)) تعبيران نسبيان، فيكون الاعلى والاسفل بالنسبة الى مركز الكرة الارضية. حتى ان الذي هو اسفل بالنسبة الينا هو الاعلى بالنسبة لقارة امريكا. بـمعنى ان الـمواد الاتية من الـمركز الى سطح الارض تتغير اوضاعها بالنسبة الى من هم على سطح الارض.

فالقرآن الـمعجز البيان يقول بلسان الاعجاز: ان للـحديد منافع كثيرة وفوائد واسعة، بـحيث انه ليس مادة اعتيادية تـخرج من مـخزن الارض التي هي مسكن الانسان، وليس هو معدناً فطرياً يستعمل في الـحاجات كيفما اتفق. بل هو نعمة عظيمة أنزلـها خالق الكون بصفته الـمهيبة ((رب السموات والارض)) انزلـها من خزينة الرحـمة وهيأها في الـمصنع العظيم للكون، ليكون مداراً لـحاجات سكنة الارض. فعبـّر عنه بالانزال قائلاً } وأنزلـْنا الـحديدَ{ لأجل بيان الـمنافع العامة التي ينطوي عليها الـحديد وفوائده الشاملة، كما للـحركة والـحرارة والضياء الآتي من السماء فوائد. تلك التي ترسل من مصنع الكون. فالـحديد لا يـخرج من الـمخازن الضيقة لكرة الارض، بل هو في خزينة الرحـمة التي هي في قصر الكون العظيم ثم ارسل الى الارض ووضع في مـخزنها كيما يـمكن استخراجه من ذلك الـمخزن حسب حاجة العصور تدريـجياً.

فلا يريد القرآن الكريم ان يبين استخراج الـحديد هذا تدريـجياً من هذا الـمخزن الصغير، الارض. بل يريد ان يبين ان تلك النعمة العظمى قد انزلت من الـخزينة الكبرى للكون مع كرة الارض، وذلك لاظهار الـحديد انه هو اكثر ضرورة لـخزينة الارض. بـحيث ان الـخالق الـجليل عندما فصل الارض من الشمس انزل معها الـحديد ليحقق اكثر حاجات البشر ويضمنها. فالقرآن الـحكيم يقول باعجاز، ما معناه: انـجزوا بهذا الـحديد اعمالكم واسعوا للاستفادة منه باخراجه من باطن الارض.

وهذه الآية الـجليلة تبين نوعين من النعم التي هي مـحور لدفع الاعداء وجلب الـمنافع. ولقد شوهد تـحقق منافع الـحديد الـمهمة للبشرية قبل نزول القرآن، إلاّ ان القرآن يبين ان الـحديد سيكون في الـمستقبل في صور تـحيـّر العقول سيراً في البحر والـهواء والارض حتى انه يسخـّر الارض ويظهر قوة خارقة تهدد بالـموت، وذلك بقوله تعالى } فيه بأسٌ شَديدٌ { مظهراً لـمعة اعجاز في إخبار غيبي.

* * *

عندما طرق البحث عن النكتة السابقة انفتح الكلام حول هدهد سليمان. فيسأل احد اخواننا الذي يلح في السؤال(1): ان الهدهد يصف الـخالق الكريم سبحانه بقوله } يُخرِجُ الْخَبَء فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضْ { (النمل:25) فما سبب ذكره في هذا الـمقام الـجليل هذا الوصف الرقيق بالنسبة الى الاوصاف الـجليلة؟.

الـجواب: ان احدى مزايا الكلام البليغ هو ان يُشعر الكلامُ صنعةَ الـمتكلم التي ينشغل بها. فهدهد سليمان الذي يـمثل عريف الطيور والـحيوانات كالبدوي العارف الذي يكشف بالفراسة الشبيهة بالكرامة مواضع الـماء الـخفية في صحراء جزيرة العرب الشحيحة بالـماء، فهو طير ميمون مأمور بايـجاد الـماء ويعمل عمل الـمهندس لدى سيدنا سليمان عليه السلام، فلذلك يُثبت بـمقياس صنعته الدقيقة، كون الله معبوداً ومسجوداً له، باخراجه سبحانه ما خبىء في السماوات والارض، فيعرّف اثباته هذا بصنعته الدقيقة.

ألا ما أحسن رؤية الـهدهد! اذ ليس من مقتضى فطرة ما تـحت التراب من الـمعادن والنوى والبذور التي لا تـحصى، ان تـخرج من الاسفل الاعلى. لأن الاجسام الثقيلة التي لا روح لـها ولا اختيار لا تصعد بنفسها الى الاعلى، وانـما تسقط من الاعلى الى الاسفل. فاخراج جسم مـخفي تـحت التراب، من الاسفل الى الاعلى ونفض التراب الثقيل الـجسيم من على كاهله الـجامد لابد ان يكون بقدرة خارقة لا بذاته. فادرك الـهدهد أخفى براهين كون الله تعالى معبوداً ومسجوداً له وكشفها بعارفيته ووجد أهم تلك البراهين بصنعته، والقرآن الـحكيم منح اعجازاً بالتعبير عنه.





((انزال الأنعام))

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ ثـمانيةَ أزواجٍ يَخْلُقُكُم في بُطونِ اُمـّهاتِكُم خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلقٍ في ظُلُماتٍ ثَلثْ.. { (الزمر:6)

ان هذه الآية الكريـمة تتضمن النكتة نفسها التي بينـّاها في الآية الكريـمة: } وأنزلـْنا الـحديدَ { فهي تؤيدها وتتأيد بها في الوقت نفسه.

نعم، ان القرآن الكريم يقول في سورة الزمر: } وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ ثـمانيةَ أزواجٍ { ولا يقول: ((وخلق لكم من الانعام ثـمانية ازواج)) وذلك للإفادة بان ثـمانية ازواج من الـحيوانات الـمباركة قد انزلت لكم وارسلت اليكم من خزينة الرحـمة الإلـهية وكأنها مرسلة من الـجنة، لان تلك الـحيوانات الـمباركة نعمة بـجميع جهاتها للبشرية كافة. فمن أشعارها واوبارها يستفيد البدو في حلـّهم وترحالـهم، ومنها تنسج الـملابس، ومن لـحومها تهيأ ألذّ الـمأكولات، ومن ألبانها تستخرج أطيب الاطعمة، ومن جلودها تصنع الاحذية والنعال وغيرها من الـمواد النافعة، حتى ان روثها تكون رزقاً للنباتات ووقوداً للانسان. فكأن تلك الـحيوانات الـمباركة قد تـجسمت واصبحت النعمة بعينها والرحـمة بنفسها. ولـهذا اُطلق عليها اسم ((الأنعام)) مثلما اطلق على الـمطر اسم ((الرحـمة)) فكأن الرحـمة قد تـجسمت مطراً والنعمة تـجسدت في صور شتى من اشكال الـمعزى والضأن والبقر والـجاموس والابل.

وعلى الرغم من ان موادها الـجسمانية تُخلق في الارض، فان صفة النعمة ومعنى الرحـمة قد غلبتا واستحوذتا على مادتها، فعبـّر القرآن عنها بـ ((انزلنا)) الذي يفيد: ان الـخالق قد أنزل هذه الـحيوانات الـمباركة من خزينة الرحـمة مباشرة، أي ان الـخالق الرحيـم قد ارسلها من مرتبة رحـمته الرفيعة، ومن جنته الـمعنوية العالية، هدية الى وجه الارض بلا وساطة.

نعم، تُدرج احياناً صنعةٌ تقدّر بـخمس ليرات في مادة لاتساوي خـمسة قروش، فلا تؤخذ مادة الشىء بنظر الاعتبار، بل تعطى الاهمية للصنعة الـموجودة عليها، كالصنعة الربانية العظيمة الـموجودة في الـجرم الصغير للذباب. واحياناً تكون صنعة زهيدة في مادة ثـمينة، فالـحكم عندئذٍ للـمادة.

على غرار هذا الـمثال: فان مادة جسمانية قد تـحمل من معاني الرحـمة ومعاني النعمة الكثيرة بـحيث تفوق مائة مرة في الاهمية على مادتها. حتى لكأن مادة ذلك الشىء تـختفي وتنزوي امام عظم اهمية النعمة والرحـمة، لذا فالـحكم هنا يتوجه الى حيث النعمة.

وكما تـخفي الـمنافع العظيمة للـحديد وفوائده الكثيرة مادتها الـمادية، فان النعمة الـموجودة في كل جزء من اجزاء هذه الـحيوانات الـمباركة الـمذكورة كأنها قد قلبت مادتها الـجسمانية الى نعمة، فأخذت صفاتها الـمعنوية بنظر الاعتبار دون مادتها الـجسمانية. لذا عُبـّرت عنها في الآية الكريـمة ((وانزل.. وانزلنا)).

نعم، ان عبارة ((وانزل.. وانزلنا)) كما تفيد النكات السابقة من حيث الـحقيقة فانها تفيد ايضاً معنى بلاغياً مهماً إفادة معجزة. وذلك:

ان منح الـحديد خواص مـميزة، كوجودها في كل مكان، وسهولة تليينها كالعجين، نعمة إلـهية، حيث يـمكن الـحصول عليه واستعماله في كل عمل رغم صلابته واختفائه ووجوده في الاعماق فطرة، لذا فان التعبير بـ } وأنزلـْنا الـحديدَ { انـما يبين هذا الـمعنى أي كأن الـحديد نعمة من النعم الفطرية السماوية التي يـمكن الـحصول عليها بيسر، وكأن مادة الـحديد تنزل من مصنع علوي رفيع وتسلـّم بيد الانسان بسهولة.

وكذلك الـحيوانات الضخمة كالبقر والـجاموس والابل وغيرها من الـمخلوقات الـجسيمة، مسخـّرة وذليلة ومطيعة ومنقادة حتى لصبي صغير، اذ تسلم قيادها له وتطيعه. لذا فالتعبير بـ } وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ{ يفيد ان هذه الـحيوانات الـمباركة ليست حيوانات دنيوية تستوحش منها وتلحق بنا الضرر كالبعوض والـحية والعقرب والذئب والسبع وما شابهها من الضوارى الـمفترسة، بل كأنها حيوانات آتية من جنة معنوية، لـها منافع جليلة، ولا يأتي منها ضرر، بل كأنها تنزل من الاعلى، أي من خزينة الرحـمة.

ولعل الـمقصود من قول بعض الـمفسرين: ان هذه الـحيوانات قد اُنزلت من الـجنة ناشىء من هذا الـمعنى الـمذكور(1).

ان كتابة صحيفة كاملة حول ايضاح ما في حرف واحد من القرآن الكريم من مسائل ونكات لا تعد اطناباً، فليس اذن من الاسراف في شيىء كتابتنا ثلاث صفحات لبيان نكات العبارة القرآنية ((انزلنا)). بل قد يكون احياناً حرف واحد من القرآن الكريم مفتاحاً لـخزينة معنوية عظيمة.

* * *

دستور

ان طلاب النور لا يتحرّون عن نورٍ خارج دائرة رسائل النور، وما ينبغي لـهم. ولو تحرّى أحدٌ منهم فلا يـجد الاّ مصباحاً بدلاً من شـمس معنوية تضىء من نافذة رسائل النور، بل قد يفقد الشمس.

ثم ان ما في دائرة رسائل النور من مشرب الـخلة ومسلك الاخوة، هذا الـمشرب الـخالص والـمسلك القوي الذي يُكسب الفرد الواحد ارواحاً كثيرة ويُظهر سراً من اسرار الاخوة التي ورثها الصحابة الكرام من نور النبوة، هذا الـمشرب لايدع حاجة الى البحث عن الـمرشد الوالد في الـخارج – مع إضرار به بثلاث جهات – بل يوجد له بدلاً من الوالد الـمرشد الواحد، اخواناً كباراً كثيرين. فلاشك ان ما تسبغه اَنواع الشفقة النابعة من قلوب اخوة كبار، يزيل شفقة الوالد الواحد.

نعم، ان الذي اتـخذ لنفسه شيخاً قبل دخوله الدائرة يـمكنه ان يـحافظ على رابطته بشيخه ومرشده ضمن الدائرة ايضاً، ولكن من لـم يكن له شيخ بعد الدخول في الدائرة، ليس له ان يتخذ شيخاً إلاّ ضمن الدائرة.

ثم ان ما في درس رسائل النور للـحقائق من علم الـحقيقة الذي يـمنح فيض الولاية الكبرى النابعة من سر الوراثة النبوية، لا يدع حاجة الى الانتماء الى الطرق الصوفية خارج الدائرة، إلا من فهم الطريقة على غير وجهها وكأنها رؤى جـميلة وخيالات وانوار وأذواق، ويرقب في الـحصول على اذواق الدنيا وهوساتها مـما سوى فضائل الآخرة، ويطلب مقام الـمرجعية كعبدة النفس. ان هذه الدنيا دار حكمة. والأجر والثواب فيها على قدر الـمشقات والتكاليف، وهي ليست دار مكافأة وجزاء. ولـهذا لا يهتم اهل الـحقيقة بالاذواق والانوار التي في الكشف والكرامات، بل قد يفرّون منها يريدون سترها.

ثم ان دائرة رسائل النور دائرة واسعة جداً، وطلابها كثيرون جداً، فلا تعقب الذين يهربون منها، ولا تهتم بهم. وربـما لا تدخلهم ضمن دائرتها مرة اخرى. لأن الانسان يـملك قلباً واحداً والقلب الواحد لا يـمكن أن يكون في داخل الدائرة وخارجها معاً.

ثم ان الراغبين في ارشاد الآخرين مـمن هم خارج دائرة النور، عليهم الاّ ينشغلوا بطلاب النور لأن احتمال خسرانهم بثلاث جهات وارد. فالطلاب الذين هم في دائرة التقوى ليسوا بـحاجة الى الارشاد، علماً ان في الـخارج الكثيرين من تاركي الصلاة، فترك اولئك والانشغال بهؤلاء الـمتقين ليس من الارشاد في شىء. فان كان مـمن يـحب هؤلاء الطلاب فليدخل اولاً ضمن الدائرة، وليكن لـهم أخاً، وان كان ذو مزايا وفضائل فليكن لـهم اخاً كبيراً.

ولقد تبيـّن في هذه الـحادثة ان للانتساب الى رسائل النور اهمية عظيمة وثمناً غالياً جداً، فالراشد الذي بذل هذه التضحيات وجاهد الالـحاد باسم العالـم الإسلامي، لا يترك هذا الـمسلك الذي هو أثـمن من الألـماس ولا يتسطيع ان يدخل مسالك اخرى غيره.



سعيد النورسي

























عبدالقادر حمود 02-02-2011 01:56 AM

رد: اللمعات
 
فقرة

كتبت في سجن ((اسكي شهر))

اخوتي!

لقد دافعتُ دفاعات عديدة عن طلاب النور بـما يليق بهم من دفاع، وسأقولـها باذن الله في الـمحكمة وبأعلى صوتي، وسأسمع صوت رسائل النور ومنزلة طلابها الى الدنيا بأسرها. الاّ أنني انبهكم الى ما يأتي:

ان شرط الـحفاظ على ما في دفاعي من قيمة، هو عدم هجر رسائل النور بـمضايقات هذه الـحادثة وامثالـها، وعدم استياء الأخ من استاذه، وعدم النفور من اخوانه مـما يسببه الضيق والضجر، وعدم تتبع عورات الآخرين وتقصيراتهم.

انكم تذكرون ما اثبتناه في رسالة القدر: ان في الظلم النازل بالانسان جهتين وحكمين.

الـجهة الأولى: للانسان. والاخرى: للقدر الإلـهي

ففي التحادثة الواحدة يظلم الانسان فيما يعدل القدر وهو العادل.

فعلينا ان نفكر – في قضيتنا هذه – في عدالة القدر الإلـهي والـحكمة الإلـهية اكثر مـما نفكر في ظلم الانسان.

نعم! ان القدر قد دعا طلاب النور الى هذا الـمجلس. وان حكمة ظهور الـجهاد الـمعنوي قد ساقتهم الى هذه الـمدرسة اليوسفية التي هي حقاً ضجرة وخانقة، فصار ظلم الانسان وسيلة لذلك.

ولـهذا، اياكم ان يقول بعضكم لبعض: ((لو لـم افعل كذا لـما اعتقلت)).

سعيد النورسي

* * *







((شرف الرسائل الرفيع))

اخواني!

لقد اُخطر الى قلبي: كما ان الـمثنوي الرومي قد اصبح مرآة لـحقيقة واحدة من الـحقائق السبع الـمفاضة من نور شـمس القرآن الكريم، فاكتسب منزلة سامية وشرفاً رفيعاً حتى اصبح مرشداً خالداً لكثير من اهل القلب فضلاً عن الـمولويين. كذلك رسائل النور ستنال باذن الله شرفاً رفيعاً سامياً بسبع جهات، وستكون لدى اهل الـحقيقة بـمثل مرشدة خالدة رائدة باقية بسبع اضعاف الـمثنوي الرومي. لأنها تـمثل الانوار السبعة لنور شـمس القرآن الكريم والالوان السبعة الـمتنوعة في ضيائها، تـمثلها دفعة واحدة في مرآتها.

سعيد النورسي

* * *

((لطمة رحـمة))

اخوتي!

لقد ادركت ان التي نزلت بنا – مع الاسف – هي لطمة رحـمة. ادركتها منذ حوالي ثلاثة ايام وبقناعة تامة. حتى انني فهمت اشارة من الاشارات الكثيرة للآية الكريـمة الواردة بـحق العاصين لله، فهمتها كأنها متوجهة الينا وتلك الآية الكريـمة هي: } فَلَمـّاَ نَسُواْ مَا ذُكـِّرُواْ بِهِ ... أَخَذنَاهُم { (1) أي: لـما نسي الذين ذُكـّروا بالنصائح، ولـم يعملوا بـمقتضاها.. اخذناهم بالـمصيبة والبلاء.

نعم، لقد كُتـّبنا مؤخراً رسالة تـخص سر الاخلاص، وكانت حقاً رسالة رفيعة سامية، ودستوراً اخوياً نورانياً، بـحيث ان الـحوادث والـمصائب التي لايـمكن الصمود تـجاهها الاّ بعشرة الآف شـخص، يـمكن مقاومتها – بسر ذلك الاخلاص – بعشرة اشخاص فقط. ولكن أقولـها آسفاً: اننا لـم نستطع وفي الـمقدمة أنا، ان نعمل بـموجب ذلك التنبيه الـمعنوى، فأخذتنا هذه الآية الكريـمة – بـمعناها الاشارى – فابتلي قسم منا بلطمة تأديب ورحـمة، بينما لـم تكن لطمة تأديب لقسم آخر بل مدار سلوان لـهم، وليكسْبوا بها لأنفسهم الثواب.

نعم، انني لكونى مـمنوعاً عن الاختلاط منذ ثلاثة شهور لـم استطع ان اطلع على احوال اخوانى الاّ منذ ثلاثة أيام، فلقد صدر – مالا يـخطر ببالي قط – مـمن كنت احسبهم من اخلص اخواني اعمالاً منافية لسر الاخلاص. ففهمت من ذلك ان معنىً اشارياً للآية الكريـمة } فَلَمـّاَ نَسُواْ مَا ذُكـِّرُواْ بِهِ … أَخَذنَاهُم{ يتوجه الينا من بعيد.

ان هذه الآية الكريـمة التي نزلت بـحق اهل الضلال مبعث عذاب لـهم، هي لطمة رحـمة وتأديب لنا؛ لتربية النفوس وتكفير الذنوب وتزييد الدرجات. والدليل على أننا لـم نقدر قيمة ما نـملك من نعمة إلـهية حق قدرها هو: اننا لـم نقنع بـخدمتنا القدسية برسائل النور الـمتضمنة لأقدس جهاد معنوي، ونالت الولاية الكبرى بفيض الوراثة النبوية وهي مدار سر الـمشرب الذي تـحلى به الصحابة الكرام. وان الشغف بالطرق الصوفية التي نفعها قليل لنا في الوقت الـحاضر، واحتمال إلـحاقها الضرر بوضعنا الـحالي مـمكن، قد سُدّ امامه بتنبيهي الشديد عليه.. والاّ لأفسد ذلك الـهوى وحدتنا، وادّى الى تشتت الافكار الذي ينزل قيمة الترابط والتساند من ألف ومائة وأحد عشر الناشئة من اتـحاد أربعة آحاد، ينزلـها الى قيمة أربعة فـحسب، وادّى الى تنافر القلوب الذي يبدّد قوتنا إزاء هذه الـحادثة الثقيلة ويتجعلها أثراً بعد عين.

اورد الشيخ سعدي الشيرازي(1) صاحب كتاب ((كلستان)) ما مضمونه:

لقد رأيت احد الـمتقين من أهل القلب في زاوية ((التكية)) يزاول السير والسلوك، ولكن بعد مضي بضعة ايام شاهدته في الـمدرسة بين طلاب العلوم الشرعية، فسألته: لِمَ تركت الزاوية التي تفيض الانوار واتيت الى هذه الـمدرسة؟ قال: هؤلاء النجباء ذوو الـهمم العالية يسعون لإنقاذ الآخرين مع انقاذهم لأنفسهم بينما اولئك يسعون لإنقاذ أنفسهم وحدها إن وفقوا اليها. فالنجابة وعلو الـهمة لدى هؤلاء والفضيلة والـهمة عندهم، ولأجل هذا جئت الى هنا. هكذا سجل الشيخ سعدي خلاصة هذه الـحادثة في كتابه ((كلستان)).

فلئن رُجـّحت الـمسائل البسيطة للنحو والصرف التي يقرأها الطلاب مثل: نصر نصراً ونصروا.. على الاوراد التي تُذكر في الزوايا، فكيف برسائل النور الـحاوية على الـحقائق الإيـمانية الـمقدسة في ((آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر)). ففي الوقت الذي ترشد رسائل النور الى تلك الـحقائق باوضح صورة واكثرها قطعية وثبوتاً حتى لأعتى الـمعاندين الـمكابرين من الزنادقة وأشد الفلاسفة تـمرداً، وتلزمهم الـحجة، كم يكون على خطأ من يترك هذه السبيل او يعطلها او لا يقنع بها ويدخل الزوايا الـمغلقة دون استئذان من رسائل تبعا لـهواه! ويبين في الوقت نفسه مدى كوننا مستحقين لـهذه الصفعة، صفعة الرحـمة والتأديب.

سعيد النورسي

* * *

تنبيه

حكايتان صغيرتان

الـحكاية الأولى: عندما كنت اسيراً في شـمالي روسيا قبل خـمسة عاماً(1) في قاعة مصنع كبير، مع تسعين من ضباطنا، كانت الـمناقشات تـحتد والاصوات تتعالى نتيجة الضجر وضيق الـمكان. وكنت اهدئـّهم حيث كانوا جـميعاً يـحترمونني. ثم عينت خـمساً من الضباط لإقرار الـهدوء وقلت لـهم: اذا سـمعتم الضوضاء في أية ناحية اسرعوا اليها، وعاونوا الـجهة غير الـمحقة. وحقاً لقد انتهى الضوضاء نتيجة هذا العمل. فسألوني: لِمَ قلت: عاونوا غير الـمحق؟وقد أجبتهم حينها: ان غير الـمحق، هو غير منصف، لا يدع درهماً من راحته لأربعين درهماً من راحة الـجميع. اما الـمحق فيكون ذا انصاف يضحي براحته التي تعدل درهما، لراحة صديقه التي تعدل اربعين درهماً. وبتخليه عن راحته هذا، يسكن الضوضاء والصخب وينتهي ويعم الـهدوء. فيرتاح الضباط التسعون الساكنون في هذه القاعة. ولكن اذا مدّ الـمحقّ بقوة يزداد الصخب اكثر. ففي مثل هذه الـحياة الاجتماعية تؤخذ الـمصلحة العامة بنظر الاعتبار.

فيا اخوتي!! لا يستاء بعضكم من بعض قائلاً: ان اخي هذا لـم ينصفني او اجحف بـحقي.. فهذا خطأ جسيم في هذه الـحياة وفي اجتماعنا هذا. فلئن اضرك صاحبك بدرهم من الضرر، فانك بإستيائك منه وهجرك اياه تلـحق اربعين درهماً من الاضرار. بل يـحتمل إلـحاق اربعين ليرة من الاضرار برسائل النور. ولكن ولله الـحمد فان دفاعاتنا الـحقة القوية والصائبة جداً قد حالت دون أخذ اصدقائنا الى الاستجواب واخذ افاداتهم الـمكرر، فانقطع دابر الفاسد. والاّ لكان الاستياء الذي وقع بين الاخوة يلـحق بنا اضراراً جسيمة. كسقوط قشة في العين او سقوط شرارة في البارود.

الـحكاية الثانية: كانت لعجوز ثـمانية ابناء. اعطت لكل منهم رغيفاً دون ان تستبقي لـها شيئاً. ثم ارجع كل منهم نصف رغيفه اليها. فاصبحت لديها اربعة ارغفة، بينما لدى كل منهم نصف رغيف.

اخوتي انني اشعر في نفسي نصف ما يتألـم به كل منكم من آلام معنوية وانتم تبلغون الاربعين، انني لا ابالي بالآمي الشخصية. ولكن اضطررت يوماً فقلت: ((أهذا عقاب لـخطأي واُعاقب به)) فتحريت عن الـحالات السابقة. فشاهدت انه ليس لدي شىء من تهييج هذه الـمصيبة واثارتها، بل كنت اتـخذ منتهى الـحذر لأتـجنبها.

بـمعنى ان هذه الـمصيبة قضاء إلـهي نازل بنا.. فلقد دبـّرت ضدنا منذ سنة من قبل الـمفسدين فما كان بطوقنا تـجنبها، فلقد حمـّلونا تبعاتها فلا مناص لنا مهما كنا نفعل.

فللـّه الـحمد والـمنة أن هوّن من شدة الـمصيبة من الـمائة الى الواحد.

بناء على هذه الـحقيقة: فلا تـمنـّوا عليّ بقولكم: اننا نعاقب بهذه الـمصيبة من جرائك. بل سامـحوني وادعوا لي.

ولا ينتقدن بعضكم بعضاً. ولا تقولوا: لو لـم تفعل كذا لـما حدث كذا.. فـمثلاً ان اعتراف احد اخواننا عن عدد من اصحاب التواقيع (على الرسائل) انقذ الكثيرين. فهوّن من شأن الـخطة الـمرسومة في اذهان الـمفسدين الذين يستعظمون القضية. فليس في هذا ضرر، بل فيه نفع عام عظيم. لانها اصبحت وسيلة لانقاذ الكثيرين من الابرياء.

سعيد النورسي





((نكتتان))

الفقرات التالية عبارة عن نكتتين:

الأولى: تـخص الاخلاق، كتبت لـمناسبة ظهور حالات غير مريـحة في سجن اسكي شهر من جراء انقباض النفوس.

الثانية: نكتة لطيفة لآية كريـمة لطيفة مشهورة الاّ انها ظلت مستورة.

النكتة الأولى:

ان من كمال الله سبحانه وسعة رحـمته وطلاقة عدالته ان ادرج ثواباً ضمن اعمال البر، واخفى عقاباً معجلاً في اعمال الفساد والسيئات. فقد ادرج طي الـحسنات لذائذ وجدانية معنوية ما يذكـّر بنعم الآخرة، وادرج في ثنايا السيئات اعذبة معنوية ما يـحسس بعذاب الآخرة الاليم.

فمثلاً: ان افشاء الـمحبة والسلام في صفوف الـمؤمنين، انـما هو حسنة كريـمة للمؤمن، فله ضمن هذه الـحسنة لذة معنوية وذوقاً وجدانياً وانشراحاً قلبياً ما يذكـّر بثواب الآخرة الـمادي. ومن يتفقد قلبه يشعر بـهذا الذوق.

ومثلاً: ان بث الـحصومة والعداء بين الـمؤمنين انـما هو سيئة قبيحة، فـهذه السيئة تنطوي على عذاب وجداني واي عذاب، بـحيث يأخذ بـخناق القلب والروح معاً، فكل من يـملك روحاً حساسة وهـمة عالية يشعر بـهذا العذاب.

ولقد مررت بنفسي – طوال حياتي – بأكثر من مائة تـجربة على هذا النوع من السيئات. فكنت كلما حـملت عداء على اخ مؤمن تـجرعت عذاب تلك العداوة، حتى لـم يبق لي ريب من ان هذا العذاب انـما هو عقاب معجل لسيئتي التي ارتكبتها. فاعاقب عليها واعذب بها.

ومثلاً: ان توقير الـجديرين بالاحترام والتوقير وابداء العطف والرحـم لـمن يستحقه عمل صالـح وحسنة للمؤمن. ففي هذه الـحسنة تكمن لذة عظيمة ومتعة وجدانية الى حدٍ قد تسوق صاحبها الى التضحية حتى بـحياته. فان شئت فانظر الى اللذة التي تكسبها الوالدت من بذل شفقتهن لاولادهن، حتى أنها تـمضي في سبيل تلك الرأفة والشفقة الى الـجود بنفسها. بل ترى هذه الـحقيقة واضحة حتى في عالـم الـحيوان، فالدجاجة تهاجم الاسد دفاعاً عن فراخها.

اذن ففي الاحترام والرأفة اجره معجلة. يشعر بهذه اللذة اولئك الذين يـملكون ارواحاً عالية ونفوساً ابية شهمة.

ومثلاً: ان في الـحرص والاسراف عقوبة معنوية معجلة وجزاء قلبياً، اذ يـجعل صاحبه ثملاً من كثرة الشكوى والقلق، فترى العقوبة نفسها بل اشد منها في الـحسد والتنافس والغيرة، حتى ان الـحسد يـحرق صاحبه قبل غيره. وتنقلب الآية في التوكل والقناعة اذ فيهما ثواب واي ثواب بـحيث انه يزيل آثار الـمصائب واوضار الفاقة والـحاجة.

ومثلاً: ان الغرور والتكبر حـمل ثقيل مقيت على كاهل الانسان، حيث انه يتعذب من رؤيته استثقال الآخرين له في الوقت الذي ينتظر منهم احترامه.

نعم! ان الاحترام والطاعة توهب ولا تطلب.

ومثلاً: ان في التواضع وترك الغرور والكبر لذة عاجلة ومكافأة آنية يـخلص الـمتواضع من عبء ثقيل وهو التصنع والرياء.

ومثلاً: ان في سوء الظن وسوء التأويل جزاء معجلاً في هذه الدنيا. حتى غدت ((مَن دقّ دُقّ)) قاعدة مطردة. فالذي يسىء الظن بالناس يتعرض حتماً لسوء ظنهم. والذي يؤول تصرفات اخوانه الـمؤمنين تأويلاً سيئاً، لا مـحالة سيتعرض للـجزاء نفسه في وقت قريب.

وهكذا فقس على هذا الـمنوال جـميع الـخصال الـحسنة والذميمة.

نسأل الله الرحـيم ان يرزق الذين يتذوقون طعوم الاعجاز القرآني الـمعنوي الـمنبعث من رسائل النور في زماننا هذا ذوق تلك اللذائذ الـمعنوية الـمذكورة، فلا تقرب اليهم بأذن الله الاخلاق الذميمة.



النكتة الثانية:

بِسْمِ اللهِ الرَّحمْن الرَّحيْم

} وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون ` ما اُريد منهم

مِن رزقٍ وما اُريد أن يُطْعِمون ` إنّ الله هُو الرزّاقُ

ذُو القُوّةِ الـمتينِ{ (الذاريات:56-58)



ان ظاهر معنى هذه الآية الكريـمة لا يبين الاسلوب الرفيع الـمنسجم مع بلاغة القرآن الـمعجزة، مثلما جاء في اغلب التفاسير. لذا كان يشغل فكري في كثير من الاحيان. فنبين ثلاثة اوجه اجـمالاً، من بين الـمعاني الـجميلة الرفيعة التي وردت من فيض القرآن الكريم.

الوجه الاول:

ان الله سبحانه يسند احياناً الى نفسه ما يـمكن ان يعود الى رسوله الكريـم عليه الصلاة والسلام من حالات، وذلك تكريـماً له وتشريفاً.

فها هنا كذلك، اذ الـمعنى الـمراد من الآية الكريـمة الـمتصدرة، لابد ان يكون الاطعام والارزاق الذي يعود الى الرسول e ، أي:

ان رسولي في ادائه مهمة الرسالة وتبليغه العبودية لله، لايريد منكم اجراً ولا اجرة ولاجزاءً ولا إطعاماً.. وإلاّ إن لـم يكن الـمراد هذا الـمعنى لكان اعلاماً لـمعلوم في منتهى البداهة، مـما لا ينسجم وبلاغة القرآن الـمعجزة.

الوجه الثاني:

الانسان مغرم بالرزق كثيراً، ويتوهم ان السعي الى الرزق يـمنعه عن العبودية، فلاجل دفع هذا التوهم، ولكي لا يُتخَذ ذريعة لترك العبادة تقول الآية الكريـمة } وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون { وتـحصر الغاية من الـخلق في العبودية لله، وان السعي الى الرزق – من حيث الامر الإلـهي – عبودية لله ايضاً.

أما احضار الرزق لـمخلوقاتي ولأنفسكم واهليكم وحتى رزق حيواناتكم فأنا الكفيل به. فأنتم لـم تـخلقوا له، فكل ما يـخص الرزق والاطعام يـخصني أنا وأنا الرزاق ذو القوة الـمتين.. فلا تـحتجوا بـهذا فتتركوا العبادة، فانا الذي ارسل رزق مَن يتعلق بكم من عبادي.

ولو لـم يكن هذا الـمعنى هو الـمراد، لكان من قبيل اعلام الـمعلوم. لأن رزق الله سبحانه وتعالى واطعامه مـحال بديهي ومعلوم واضح. وهناك قاعدة مقررة في علم البلاغة تفيد.

ان كان معنى الكلام معلوماً وبديهياً، فلا يكون هذا الـمعنى مراداً، بل الـمراد لازمهُ او تابع من توابعه.

فمثلاً: ان قلتَ لاحدهم وهو حافظ للقرآن الكريم: انت حافظ. فهذا الكلام اعلامٌ بـما هو معلوم لديه، فاذاً الـمراد منه هو: انني اعلم انك حافظ للقرآن، أي: اُعلِمهُ بـما لايعلمه، وهو علمي أنه حافظ للقرآن.

فبناء على هذه القاعدة يكون معنى الآية التي هي كناية عن نفي رزق الله واطعامه هو:

انكم لـم تـخلقوا لإيصال الرزق الى مـخلوقاتي التي تعهـّدت انا برزقهم. فالرزق أنا به زعيم. فواجبكم الاساس هو العبودية، والسعي على وفق اوامري للحصول على الرزق، بذاته نوع من العبادة.

الوجه الثالث:

ان الـمعنى الظاهري للآية الكريـمة } لَم يَلِد وَلَم يُولَد { في سورة الاخلاص، معلوم وبديهي. فيكون الـمقصود لازماً من لوازم ذلك الـمعنى. أي: ان الذين لـهم والدة وولد لا يكونون الـهاً قطعاً.

فيقضي سبحانه وتعالى بقوله } لَم يَلِد وَلَم يُولَد { الذي هو بديهي ومعلوم ويعني انه ازلي وابدي، لاجل نفي الالوهية عن سيدنا عيسى عليه السلام وعزير عليه السلام والـملائكة والنجوم والـمعبودات الباطلة.

فكما أن هذه الآية هكذا فهنا ايضاً يكون معنى الآية الكريـمة } ما اُريد منهم

مِن رزقٍ وما اُريد أن يُطْعِمون { ان كل ما يُرزق ويُطعم وله استعداد للرزق والاطعام لا يـمكن ان يكون الـهاً. فلا تليق الالوهية بـما هو مـحتاج الى الرزق والاطعام.



سعيد النورسي













بِسْمِ اللهِ الرَّحـمن الرَّحيمِ

} أَو هُم قَآئِلُون{ (الاعراف:4)

لقد اهتم ((رأفت)) بـمعنى كلمة ((قائلون)) الواردة في الآية الكريـمة:

} أَو هُم قَآئِلُون{

فكُتب هذا البحث لــمناسبة استفساره عنها، ولئلا يعطل قلمه الالـماسي، بـما يصيبه من انـحلال في الـجسم بسبب نومه بعد صلاة الفجر كالآخرين معه في السجن.

النوم على انواع ثلاثة:

الاول: الغيلولة:

وهي النوم بعد الفجر حتى انتهاء وقت الكراهة. هذا النوم مـخالف للسنة الـمطهرة؛ اذ يورث نقصان الرزق، وزوال بركته، كما هو وارد في الـحديث الشريف. حيث ان افضل وقت لتهيئة مقدمات السعي لكسب الرزق هو في الـجو اللطيف، عقب الفجر، ولكن بعد مضيه يطرأ على الانسان خـمول وانـحلال، مـما يضرّ بسعيه في ذلك اليوم، وبدوره يضر بالرزق، كما يسبب زوال بركته، وقد ثبت هذا بتجارب كثيرة.

الثاني: الفيلولة:

وهي النوم بعد صلاة العصر حتى الـمغرب، هذا النوم يسبب نقصان العمر، أي: يتناقص عمر الانسان مادياً في اليوم الذي يشوّب بالنوم الـمورث للغفلة؛ اذ يبدو ذلك اليوم قصيراً ناقصاً مثلما يكون قضاء وقت العصر بالنوم في حكم عدم رؤية نتائج معنوية لذلك اليوم، تلك النتائج التي تتظاهر على الاغلب في ذلك الوقت. فيكون الانسان كأنه لـم يعش ذلك اليوم.

الثالث: القيلولة:

وهي سنة نبوية شريفة، ويبدأ وقتها من الضحى الى ما بعد الظهر بقليل، ومع كون هذا النوم من السنة الـمطهرة(1) فانه يعين على قيام الليل، وقد رسـّخ هذه السنة النبوية ما اعتاد عليه اهل الـجزيرة العربية من تعطيل نسبي للاعمال عند اشتداد الـحر من الظهر حسب مـحيطهم. وهذا النوم يطيل العمر ويزيد الرزق؛ لان نصف ساعة من القيلولة يعادل ساعتين من نوم الليل، أي انه يزيد عمر يومه ساعة ونصف الساعة. وينقذ ساعة ونصف الساعة ايضاً من النوم الذي هو صنو الـموت، ويـحييها بتزييد وقت عمله كسباً للرزق، فيطيل زمن السعي والعمل.

سعيد النورسي

* * *







وهذه خاطرة جـميلة

حينما كنت اقرأ جـملة ((ألف ألف صلاة وألف ألف سلام عليك يارسول الله)) عقب الصلاة، تراءت لي من بعيد خاطرة لطيفة انكشفت من تلك الصلوات، الا انني لـم أتـمكن من اقتناصها كاملة، ولكن ساشير الى بعض جـملها:

رأيت ان عالـم الليل شبيه بـمنزل جديد يفتح لدار الدنيا.. دخلت ذلك العالـم في صلاة العشاء، ومن انبساط فوق العادة للخيال وبـحكم ارتباط ماهية الانسان مع الدنيا قاطبة رأيت ان هذه الدنيا العظيمة قد اصبحت في ذلك الليل منزلا صغيراً جداً حتى لا يكاد يرى ما فيه من بشر وذوي حياة. ورأيت خيالاً أن ليس هناك من ينور ذلك الـمنزل الا الشخصية الـمعنوية للرسول e حتى امتلأت ارجاؤه بهجة وانساً وسروراً.

وكما يبدأ الشخص بالسلام عند دخوله الـمنزل، كذلك وجدت في نفسي شوقاً هائلاً ورغبة جياشة الى القول: ألف ألف سلام عليك يارسول الله(1)..

ومن هنا وجدت نفسي كأنني اسلم عليه بعدد الانس والـجن واعبر بسلامي هذا عن تـجديد البيعة له والرضى برسالته وقبولـها منه واطاعة القوانين التي أتى بها، والتسليم لاوامره وسلامته من بلايانا. أي كأنني اقدم هذا السلام – ناطقاً تلك الـمعاني – باسم كل فرد من افراد عالـمي وهم ذوو الشعور من جن وانس، وجـميع الـمخلوقات.

وكذا فان ما جاء به من النور العظيم والـهدية الغالية ينور عالـمي الـخاص هذا كما ينور العالـم الـخاص لكل احد في هذه الدنيا، فيحوّل عالـمنا الى عالـم زاخر بالنعم. فقلت تـجاه هذه النعمة الـهائلة: ((اللهم أنزل ألف صلاة عليه)) علـّها تكون شكراناً وعرفانا للجميل على ذلك النور الـحبيب والـهدية الغالية، اذ اننا لانستطيع أن نرد جـميله واحسانه الينا أبداً، فأظهرنا تضرعنا الى الله جل وعلا بالدعاء والتوسل كي ينزل من خزائن رحـمته رحـمة عليه بعدد اهل السموات جـميعاً.. هكذا احسست خيالاً.

فهو e يطلب صلاة بـمعنى ((الرحـمة)) من حيث هو ((عبد)) ومتوجه من الـخلق الى الـحق سبحانه. ويستحق ((السلام)) من حيث أنه ((رسول)) من الـحق سبحانه الى الـخلق.

وكما اننا نرفع اليه سلاماً بعدد الانس والـجن، ونـجدد له البيعة العامة بعددها ايضاً، فانه علية الصلا ة والسلام يستحق ايضاً صلاة من خزائن الرحـمة الإلـهية بعدد اهل السموات، وبأسم كل واحد منهم؛ ذلك لأن النور الذي جاء به هو الذي يظهر كمال كل شىء في الوجود، ويُبرز قيمة كل موجود، وتُشاهد به الوظيفة الربانية لكل مـخلوق، وتتجلى به الـمقاصد الإلـهية من كل مصنوع. لذلك لو كان لكل شىء لسان لكان يردد قولاً كما يردد حالاً: الصلاة والسلام عليك يارسول الله.. فنحن بدورنا نقول بدلا عن الـمخلوقات كافة:

- ألف ألف صلاة وألفُ ألف سلام عليك يارسول الله بعدد الانس والـجن وبعدد الـملك والنـجوم.

فيكفيك ان الله صلى بنفسه واملاكه صلت عليه وسلمت



سعيد النورسي

* * *





اخي العزيز:

تطلبون شيئاً من الايضاح حول ((وحدة الوجود)) ففي احدى لـمعات ((الـمكتوب الـحادي والثلاثين)) جواب شاف وقوي واضح إزاء رأي مـحي الدين بن عربي في هذه الـمسألة.

اما هنا فنكتفي بهذا القدر ونقول:

ان تلقين مسألة ((وحدة الوجود)) في الوقت الـحاضر للناس يضرهم ضرراً بالغاً، اذ كما ان التشبيهات والتمثيلات(1)، اذا خرجت من ايدي الـخواص ودخلت ايدي العوام وسرت من يد العلم الى يد الـجهل تُتلقى حقائق كذلك وحدة الوجود وامثالـها من الـحقائق العالية، اذا ما دخلت بين العوام الغافلين السارحين في تأثير الاسباب، يتلقونها ((طبيعة)) وتولد ثلاث مضار مهمة.

الضرر الاول:

ان مشرب وحدة الوجود، مع انه في حكم انكار وجود الكائنات ازاء وجود الله سبحانه، الا انه كلما دخل بين العوام يـمضي بهم الى أن يصل في فكر الغافلين منهم ولاسيما الـملوثين بالـماديات الى انكار الالوهية ازاء الكون والـماديات.

الضرر الثاني:

ان مشرب وحدة الوجود، يردّ رداً شديداً ربوبية ما سوى الله تعالى، حتى انه ينكر ما سواه تعالى ويرفع الثنائية، فلا يرى وجوداً مستقلاً للنفس الامارة ولا لأي شىء كان، ولكن في هذا الزمان، الذي استولت فيه مفاهيم الطبيعة وتفرعنت نفوس أمارة وبـخاصة من له استعداد ليتخذ نفسه معبوده من دون الله، ونفخ الغرور والانانية في اوداجه، فضلا عن نسيان الـخالق والآخرة الى حد ما. فتلقين هؤلاء بوحدة الوجود يطغي نفوس حتى لايسعها شىء، والعياذ بالله.

الضرر الثالث:

انه يورث افكارا وتصورات لاتليق بوجوب وجود الذات الـجليلة، الـمنزهة الـمبرأة الـمتعالية الـمقدسة عن التغير والتبدل والتجرؤ والتحيز، ولاتلائم تنزهه وتقدسه سبحانه بـحال، فيكون بذلك سبباً لتلقينات باطلة.

نعم! ان من يتكلم عن وحدة الوجود عليه ان يعرج فكراً من الثرى الى الثريا تاركاً الكائنات وراءه ظهريا، مـحدقاً بنظره الى العرش الاعلى، عاداً الكائنات معدومة في حالة الاستغراق، فيمكنه ان يرى بقوة الإيـمان ان كل شىء من الواحد الاحد سبحانه مباشرة. والا فان من يقف وراء الكائنات وينظر اليها ويرى الاسباب أمامه وينظر من الارض، فانه يـحتمل ان يغرق في تأثير الاسباب ويقع في مستنقع الطبيعة، بينما الذي يعرج فكراً الى العرض كجلال الدين الرومي(1) يستطيع ان يقول: ((افتح سـمعك فانك تستطيع أن تسمع من كل أحد – كأنه حاك فطري – ما تسمعه من الـحق تعالى)). والا فمن لا يستطيع العروج مثله الى هذه الـمرتبة الرفيعة ولا يرى الـموجودات من الفرش الى العرش على صورة مرايا (لـتجلياته) ان قلت له:

((اصغ الى كل أحد تسمع منه كلام الله)) فانه يبتلى بتصورات باطلة مـخالفة للحقيقة كمن يهوي معنىً من العرش الى الفرش.

} قل الله ثُمَ ذَرهُم في خَوضِهم يَلعَبون { (الانعام:91).

ما للتراب ولرب الارباب.

سبحان من تقدس عن الاشباه ذاته وتنزهت عن مشابهة الامثال صفاته وشهد على ربوبيته آياته جل جلاله ولا اله الا هو.

سعيد النورسي



* * *



جواب عن سؤال

لا يسعني الوقت الكافي لعقد موازنة بين افكار كل من مصطفى صبري(1) وموسى باكوف(2) الا انني اكتفي بالقول الآتي:

ان احدهما قد افرط والآخر يفرط. فمع ان مصطفى صبري مـحق في دفاعاته بالنسبة الى موسى باكوف الا انه ليس له حق تزييف شخص مـحي الدين بن عربي الذي هو خارقة من خوارق العلوم الإسلامية.

نعم، ان مـحي الدين بن عربي مهتد ومقبول ولكنه ليس بـمرشد ولاهاد وقدوة في جـميع كتاباته، اذ يـمضي غالباً دون ميزان في الـحقائق، فيخالف القواعد الثابتة لأهل السنة, ويفيد بعض أقواله – ظاهراً – الضلالة غير انه برىء من الضلالة، اذ الكلام قد يبدو كفرا بظاهره، الا أن قائله لا يكون كافراً.

فمصطفى صبري لـم يراع هذه النقاط بنظر الاعتبار ففرط في بعض النقاط لتعصبه لقواعد اهل السنة. أما موسى باكوف فهو يـخطىء كثيراً بافكاره التي تـماشي التمدن والـمنحازة شديداً للتجدد. اذ يـحرف بعض الـحقائق الإسلامية بتأويلات خاطئة ويتخذ شخصاً مردوداً كابي العلاء الـمعري في مستوى اعلى من علماء الإسلام الـمحققين وقد غالى كثيراً لانـحيازه الشديد الى تلك الـمسائل التي خالف فيها مـحي الدين اهل السنة والتي تنسجم مع افكاره.

ولقد قال مـحي الدين: ((تـُحرم مطالعة كتبنا على من ليس منا)) أي على من لايعرف مقامنا. نعم ان قراءة كتب مـحي الدين ولاسيما مسائله التي تبحث في وحدة الوجود مضرة في هذا الزمان.

سعيد النورسي





بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

عندما كنت انظر من نافذة السجن، الى ضحكات البشرية الـمبكية، في مهرجان الليل البهيج، انظر اليها من خلال عدسة التفكر في الـمستقبل والقلق عليه، انكشف امام نظر خيالي هذا الوضع، الذي ابينه:

مثلما تشاهد في السينما اوضاع الـحياة لـمن هم الأن راقدون في القبر، فكأنني شاهدت امامي الـجنائز الـمتحركة لـمن سيكونون في الـمستقبل القريب من اصحاب القبور.. بكيت على اولئك الضاحكين الآن، فانتابني شعور بالوحشة والالـم. راجعت عقلي، وسألت عن الـحقيقة قائلاً: ما هذا الـخيال؟ قالت الـحقيقة:

ان خـمسة من كل خـمسين من هؤلاء البائسين الضاحكين الآن والذين يـمرحون في نشوة وبهجة سيكونون كهولاً بعد خـمسين عاماً، وقد انـحنت منهم الظهور وناهز العمر السبعين. والخـمسة والاربعين الباقية يُرمـّون في القبور.

فتلك الوجوه الـملاح، وتلك الضحكات البهيجة، تنقلب الى أضدادها. وحسب قاعدة ((كل آت قريب))(1) فان مشاهدة ما سيأتي كأنه آتٍ الآن تنطوي على حقيقة، فما شاهدته اذاً ليس خيالاً.

فما دامت ضحكات الدنيا الـمتسمة بالغفلة مؤقتة ومعرضة الى الزوال، وهي تستر مثل هذه الاحوال الـمؤلـمة الـمبكية، فلابد أن ما يسرّ قلب الانسان البائس العاشق للـخلود، ويفرح روحه الولـهان بعشق البقاء، هو ذلك اللهو البرىء والـمتعة النزيهة وافراح ومسرات تـخلد بثوابه، ضمن نطاق الشرع، مع اداء الشكر باطمئنان القلب وحضوره بعيداً عن الغفلة. ولئلا تقوى الغفلة في النفوس في الاعياد، وتدفع الانسان الى الـخروج عن دائرة الشرع، ورد في الاحاديث الشريفة ترغيب قوي وكثير في الشكر وذكر الله في تلك الايام. وذلك لتنقلب نعم الفرح والسرور الى شكر يديـم تلك النعمة ويزيدها، اذ الشكر يزيد النعم ويزيل الغفلة.

سعيد النورسي



















بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيْمِ

نكتة من نكات الآية الكريـمة:

} انَّ النفسَ لأمـّارة بالسوء { (يوسف:53)

والـحديث الشريف: ((أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك))(1).

نعم! ان الذي يـحب نفسه الامارة بالسوء – غير الـمزكاة – ويعجب بها، هو في الـحقيقة لا يـحب أحداً غيرها، وحتى لو ابدى للغير حباً فلا يـحبه من صميم قلبه، بل ربـما يـحبه لـمنافعه، ولـما يتوقع منه من متاع. فهو في محاولة دائمة لتحبيب نفسه للآخرين وفي سعي متواصل لأثارة اعجابهم به، يصرف كل قصورٍ عن نفسه فلا يحـملـّها أي نقص كان، بل يدافع دفاع الـمحامي الـمخلص لإبراء ساحتها، ويـمدحها بـمبالغات بل بأكاذيب لينزّهها عن كل عيب او قصور، حتى يقربها الى التقديس، بل يبلغ به الامر ان يكون مصداق الآية الكريـمة } من أتـخذ ألـهه هواه { (الفرقان:43) عندها تتوالى عليه صفعات هذه الآية الكريـمة – حسب درجته – فينقلب مدحُه الى إعراض الناس عنه، ويتحول تـحبيب نفسه اليهم الى استثقالـهم له، فيجد عكس ما كان يروم، فضلاً عن أنه يضيـّع الاخلاص، لـما يـخلط من رياء وتصنع في اعماله الأخروية، فيكون مغلوباً على أمره امام شهواته وهواه ومشاعره، تلك التي لاتبصر العقبى ولاتفكر في النتائج والـمغرمة بالتلذذ الآني. بل قد تبرر له اهواؤه الضالة اموراً يرتكبها لاجل متعة لاتدوم ساعة يفضي به ان يلقى في السجن لسنة كاملة. وقد يقاسي عشر سنوات من الـجزاء العادل لاجل تسكين روح الثأر لديه وشهوة الغرور التي لا تستغرق دقيقة واحدة. فيكون مثله كمثل ذلك الطفل الابله الذي لايقدر قيمة جزء الـمصحف الشريف الذي يتلوه ويدرسه فيبيعه بقطعة حلوى رخيصة، اذ يصرف حسناته التي هي اغلى من الالـماس ويبدلـها بـما يشبه في تفاهتها قطع الزجاج، تلك هي حسياته وهواه وغروره، فيخسر خسارة جسيمة فيما كان ينبغي له ان يربح ربـحاً عظيماً.

اللهم احفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الـجن والانس.



سؤال:

كيف يكون البقاء في سجن جهنم بقاءاً خالداً جزاءً عادلاً لكفر في زمن قصير؟

الـجواب: ان القتل الذي يـحصل في دقيقة واحدة يعاقب عليه بسبع ملايين وثـمانـمائة واربع وثـمانين الفاً من الدقائق – على اعتبار السنة ثلاثـمائة وخـمس وستين يوماً. فان كان هذا قانوناً عدلاً، فالذي يقضي عشرين سنة من عمره في احضان الكفر ويـموت عليه يستحق جزاءً بـمقتضى هذا القانون العادل للبشر سبجناً يدوم سبعاً وخـمسين ترليوناً وواحد مائتي مليار مليون من السنين، باعتبار دقيقة من الكفر تعادل ألف قتل ويـمكن ان يُفهم من هذا وجه الانسجام مع عدالة قوله تعالى: } خالدين فيها ابداً { (البينة:8).

ان سر العلاقة بين العددين الـمتباعدين جداً بعضها عن بعض، هو ان الكفر والقتل تـخريب وتعدّ على الآخرين، ولـهما تأثير في الآخرين، فالقتل الذي يـحصل في دقيقة واحدة يسلب خـمس عشرة سنة في الاقل من حياة الـمقتول، حسب ظاهر الـحال، لذا يسجن القاتل بدلاً منه، فدقيقة واحدة في الكفر الذي هو انكار لألف اسم واسم من الاسـماء الـحسنى وتزييف لنقوشها البديعة.. واعتداء على حقوق الكائنات.. وانكار لكمالاتها.. وتكذيب لدلائل الوحدانية التي لا يـحد وردّ لشهاداتها .. تلقي بالكافر في اسفل سافلين لاكثر من الف سنة، فتسجتنه في قوله تعالى } خالدين فيها ابداً { (البينة:8).

سعيد النورسي

* * *





توافق لطيف ذو مغزى:

ان الـمادة (163) من القانون التي يُتهم بـموجبها طلاب النور، ويُطالب بها انزال العقوبة عليهم. هذا الرقم يتوافق مع عدد النواب الذين وافقوا على لائـحة البرلـمان الـخاصة بـمنح مائة وخـمسين الف ليرة لبناء مدرسة مؤلف رسائل النور، وقد كانوا (163) نائباً من بين ((200) نائباً في مـجلس الأمة التركي.

هذا التوافق يقول معنىً: ان تواقيع (163) نائباً من نواب حكومة الـجمهورية على وجه التقدير والاعجاب بـخدمته يُبطل حكم الـمادة (163) بـحقه.

وكذا من بين التوافقات اللطيفة ذات الـمغزى:

لقد كان القبض على مؤلف رسائل النور وطلابه واعتقالـهم في 27/نيسان/1935 بينما كان قرار الـمحكمة بـحقهم في 19/آب/1935 أي بعد (115) يوماً. هذا الرقم يتوافق مع عدد كتب رسائل النور وهو (115) كتاباً يضم (128) رسالة.

كما انه يوافق عدد الـمتهمين الـمائة وخـمسة عشر من طلاب النور الذين استجوبوا واتهموا.

فهذا التوافق يدل على ان الـمصيبة التي ابتلى بـها مؤلف رسائل النور وطلابها انـما تُنظـّم بيدٍ من العناية (الإلـهية)(1).

* * *



النكتة الثامنة والعشرون

من اللمعة الثامنة والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمْنِ الرَّحيْمِ

} لا يَسـَّمَعُونَ إِلَى الـمَلإِ الأَعلَى وَيُقذَفُونَ مِن كـُّلِ جَانِبٍ ` دُحُوراً وَلَـهُم عَذَابٌ وَاصِبٌ ` إِلاَّ مَن خَطِفَ الـخَطفَةَ فَأَتبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ{ (الصافات:8-10)

} وَلَقَد زَيـَّنـَّا السـّمَآءَ الدُّنيَا بِمصَابِيحَ وَجَعَلناهَا رُجُوماً لِلشـَّيَاطِينِ{ (الـملك:5)

سنبين نكتة مهمة من نكات هذه الآيات الكريـمة وامثالـها من الآيات لـمناسبة اعتراض يرد من اهل الضلالة على وجه النقد.

تفيد هذه الآيات الكريـمة ان جواسيس الـجن والشياطين يسترقون السمع الى اخبار السـموات ويـجلبون منها الاخبار الغيبية الى الكهان والـماديين، والذين يعلمون في تـحضير الارواح. فـحيل بين هذه الاخبار وبين التجسس الدائمي لأولئك الـجواسيس ورجـموا بالشهاب أزيد ماكان في تلك الفترة من بداية الوحي، وذلك لئلا يلتبس شىء على الوحي.

نبين جواباً في غاية الاختصار عن سؤال في غاية الاهمية وهو ذو ثلاث شعب.

سؤال:

يفهم من امثال هذه الآيات الكريـمة الـمتصدرة انه لاجل استراق السمع وتلقي الـخبر الغيبي حتى في الـحوادث الـجزئية بل احياناً حوادث شخصية تقتحم جواسيس الشياطين مـملكة السموات التي هي في غاية البعد، لكأن تلك الـحادثة الـجزئية هي موضع بـحث في كل جزء من اجزاء تلك الـمملكة الواسعة، ويـمكن لاي شيطان كان، ومن أي مكان دخل الى السموات، التنصت ولو بصورة مرقعة الى ذلك الـخبر وجلبه هكذا الى الارض. هذا الـمعنى الذي يُفهم من الآيات الكريـمة لا يقبل به العقل والـحكمة. ثم ان قسماً من الانبياء وهم اهل الرسالة، والاولياء وهم اهل الكرامة يتسلمون ثـمار الـجنة التي هي فوق السموات العلى – بنص الآية – وكأنهم يأخذونها من مكان قريب، واحياناً يشاهدون الـجنة من قريب. هذه الـمسألة تعني: نهاية البعد في نهاية القرب بـحيث لايسعها عقل هذا العصر.

ثم أن حالة من احوال جزئية لشخص جزئي يكون موضع ذكر وكلام لدى الـملأ الاعلى في السموات العلى الواسعة جداً، هذه الـمسألة لاتوافق ادارة الكون التي تسير في منتهى الـحكمة.

علماً أن هذه الـمسائل الثلاث تعد من الـحقائق الإسلامية.

الـجواب:

اولاً: أن الآية الكريـمة: } وَلَقَد زَيـَّنـَّا السـّمَآءَ الدُّنيَا بِمصَابِيحَ وَجَعَلناهَا رُجُوماً لِلشـَّيَاطِينِ{ هذه الآية تفيد أن جواسيس الشياطين التي تـحاول الصعود الى السموات للتجسس تطرد بنجوم السموات.

فقد بـحثت هذه الـمسألة بـحثاً جيداً في الكلمة الـخامسة عشرة، واُثبتت اثباتاً يقنع حتى أعتى الـماديين، بل يلجؤهم الى السكوت والقبول، وذلك بسبع مقدمات قاطعة هي بـمثابة سبع مراتب للصعود الى فهم الآية الكريـمة:

ثانياً: نشير الى هذه الـحقائق الإسلامية الثلاث التي تُظن انها بعيدة (عن العقل) بتمثيل وذلك لنقربها الى الاذهان القاصرة الضيقة.

هب ان الدائرة العسكرية لـحكومة تقع في شرقي البلاد، ودائرتها العدلية في الغرب ودائرة الـمعارف في الشـمال ودائرة الشؤون الدينية (الـمشيخة) في الـجنوب، ودائرة الـموظفين الاداريين في الوسط وهكذا.

فعلى الرغم من البعد بين دوائر هذه الـحكومة، فان كل دائرة لو استخبرت الاوضاع فيما بينها بالتلفون او التلغراف ارتباطاً تاماً: عندها تكون البلاد كلها كأنها دائرة واحدة عي دائرة العدل، او الدائرة العسكرية او الدينية، او الادارية وهكذا.

مثال آخر: يـحدث احياناً أن دولاً متعددة ذات عواصم مـختلفة. تشترك معاً في مـملكة واحدة، بسلطات متباينة، من حيث مصالـحها الاستعمارية فيها، او لوجود امتيازات خاصة بها، او من حيث الـمعاملات التجارية وغيرها. فكل حكومة عندئذ ترتبط بعلاقة مع تلك الرعية من حيث امتيازاتها، فعلى الرغم من انها رعية واحدة وأمة واحدة، فان معاملات تلك الـحكومات الـمتباينة – التي هي في غاية البعد – تتماس وتتقارب كلٌ منها مع الاخرى في البيت الواحد بل تشترك في كل انسان. حتى تُشاهد مسائلها الـجزئية في الدوائر الـجزئية وهي نقاط التماس والتقارب، ولاتؤخذ كل مسألة جزئية من الدائرة الكلية. ولكن عندما تبحث تلك الـمسائل الـجزئية، تبحث كأنها اُخذت من الدائرة الكلية وذلك لارتباطها بالقوانين الكلية لتلك الدائرة. وتعطى لـها صورة كأنها مسألة اصبحت موضع بـحث في تلك الدائرة الكلية.

وهكذا ففي ضوء هذين الـمثالين:

ان مـملكة السموات التي هي في غاية البعد، من حيث العاصمة والـمركز، فان لـها هواتف معنوية تـمتد منها الى قلوب الناس في مـملكة الارض. فضلاً عن أن عالـم السموات لا يشرف على العالـم الـجسماني وحده بل يتضمن عالـم الارواح وعالـم الـملكوت؛ لذا فعالـم السموات يـحيط بـجهة بعالـم الشهادة تـحت ستار.

وكذلك الـجنة التي هي من العوالـم الباقية، وهي دار البقاء، فمع انها في غاية البعد، الاّ ان دائرة تصرفاتها تـمتد امتداداً نورانياً وتنتشر الى كل جهة تـحت ستار عالـم الشهادة.

فكما ان حواس الانسان التي اودعها الصانع الـحكيم الـجليل بـحكمته وبقدرته في رأس الانسان، فعلى الرغم من ان مراكزها مـختلفة، فان كلامنها تسيطر على الـجسم كله، وتأخذه ضمن دائرة تصرفها.

كذلك الكون الذي هو انسان اكبر يضم الوف العوالـم الشبيهة بالدوائر الـمتداخلة. فالاحوال الـجارية في تلك العوالـم والـحوادث التي تقع فيها تكون موضع النظر من حيث جزئياتها وكلياتها، وخصوصياتها وعظمتها.

بـمعنى ان الـجزئيات تُشاهد في الاماكن الـجزئية والقريبة، بينما الكليات والامور العظيمة تُرى في الـمقامات الكلية والعظيمة.

ولكن قد تستولي حادثة جزئية خصوصية على عالـم عظيم فاينما يُلقى السمع تٌسمع تلك الـحادثة.

واحياناً تـحشد الـجنود الـهائلة اظهاراً للعظمة والهيئة وليس لقوة العدو. فمثلاً:

ان حادثة الرسالة الـمحمدية، ونزول الوحي القرآني، لكونها حادثة جليلة، فان عالـم السموات كله، بل حتى كل زاوية من زواياه متأهب، وقد صفت فيه الـحراس، في تلك البروج العظيمة، من تلك السموات العالية الرفيعة والبعيدة بعداً عظيماً. ويقذفون من النجوم الـمجانيق، طرداً لـجواسيس الشياطين ودفعاً بهم عن السموات.

فالآية الكريـمة عندما تبرز الـمسألة هكذا برجم الشياطين بكثرة هائلة والقذف بالشهب ولاسيما في بداية الوحي في ذلك الوقت. تبين اشارة ربانية الى الاعلان عن درجة عظمة الوحي القرآني وشعشعة سلطانه، والى درجة أحقيته وصوابه والذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وهكذا يترجـم القرآن الكريم ذلك الاعلان الكوني العظيم ويشير الى تلك الاشارات السماوية.

نعم! ان اظهار هذه الاشارات العظيمة السماوية، وابراز مبارزة الشياطين للملائكة، مع إمكان طرد جواسيس الشياطين بنفخ من مَلَك، انـما هو لاظهار عظمة الوحي القرآني وعلوه ورفعه.

ثم ان هذا البيان القرآني الـمهيب، واظهار الـحشود السماوية العظيمة، ليس تعبيراً عن أن للجن والشياطين قوة واقتداراً بـحيث تسوق اهل السموات الى الـمبارزة والـمدافعة معهم، بل هي اشارة الى أنه لادخل للشياطين والـجن في أي موضع من مواضع هذا الطريق الطويل الـممتد من قلب الرسول الاعظم e الى عالـم السموات الى العرش الاعظم.

وبهذا يعبـّر القرآن الكريم عن ان الوحي القرآني حقيقة جليلة حقيق ان يكون موضع ذكر وبـحث لدى الـملأ الاعلى والـملائكة كلهم في تلك السموات الـهائلة، بـحيث يضطر الشياطين الى الصعود الى السموات لينالوا شيئاً من اخبارها فيرجـمون ولاينالون شيئاً.

فيشير القرآن الكريم بهذا الرجـم الى ان الوحي القرآني النازل على قلب مـحمد صلى الله عليه وسلم، وجبرائيل عليه السلام الذي نزل الى مـجلسه والـحقائق الغيبية الـمشهودة لنظره، سليمة، صائبة، صحيحة، لاتدخل فيها شبهة قط وفي أية جهة منها قط.

وهكذا يعبـّر القرآن الكريم عن هذه الـمسألة باعجازه البليغ.

أما مشاهدة الـجنة في أقرب الاماكن وقطف الثـمار منها احياناً، مع كونها بعيدة كل البعد عنا وكونها من عالـم البقاء، فبدلالة التمثيلين السابقين يُفهم:

ان هذا العالـم الفاني، عالـم الشهادة، حـجاب لعالـم الغيب وعالـم البقاء. انه يـمكن رؤية الـجنة في كل جهة مع أن مركزها العظيم في مكان بعيد جداً، وذلك بوساطة مرآة عالـم الـمثال. ويـمكن بوساطة الإيـمان البالغ درجة حق اليقين ان تكون للجنة دوائر ومستعمرات (لامشاحة في الامثال) في هذا العالـم الفاني ويـمكن أن تكون هناك مـخابرات واتصالات معها بالارواح الرفيعة وبهاتف القلب ويـمكن أن ترد منها الثـمار.

أما انشغال دائرة كلية بـحادثة شخصية جزئية، أي: ما ورد في التفاسير من ان الشياطين يصعدون الى السموات ويسترقون السمع هناك ويأتون باخبار غيبية ملفقة للكهان، فينبغي أن تكون حقيقته هكذا:

انه لا صعود الى عاصمة عالـم السموات لتلقي ذلك الـخبر الـجزئي، بل هو صعود الى بعض الـمواقع الـجزئية في جو الـهواء – الذي يشمله معنى السموات – والذي فيه مواضع بـمثابة مـخافر (لامشاحة في الامثال) للسموات، وتقع علاقات في هذه الـمواقع الـجزئية مع مـملكة الارض. فالشياطين يسترقون السمع في تلك الـمواقع الـجزئية لتلقي الاحداث الـجزئية، حتى ان قلب الانسان هو احد تلك الـمقامات حيث يبارز فيه ملك الالـهام الشيطان الـخاص.

أما حقائق القرآن والإيـمان وحوادث الرسول e ، فمهما كانت جزئية فهي بـمثابة اعظم حادثة واجلـّها في دائرة السموات وفي العرش الاعظم. حتى كأنها تنشر في الصحف الـمعنوية للـمقدرات الإلـهية الكونية (لا مشاحة في الامثال) بـحيث يذكر عنها ويبحث مسائلها في كل زاوية من زوايا السموات، حيث أنه ابتداءً من قلب الرسول الكريم علية الصلاة والسلام وانتهاءً الى دائرة العرش الاعظم مصون من أي تدخل كل من الشياطين.

فان القرآن مع بيانه لـهذا انـما يعبـّر بتلك الآيات الـجليلة أنه: لاحيلة ولا وسيلة للشيطان لتلقي اخبار السموات الاّ استراق السمع.

فيبين القرآن بهذا بياناً معجزاً بليغاً: ما اعظم الوحي القرآني وما اعظم قدره! وما اصدق نبوة مـحمد e وما اصوبها! حتى لا يـمكن الدنو اليهما بأية شبهة كانت وباي شكل من الاشكال.

سعيد النورسي

عبدالقادر حمود 02-02-2011 01:58 AM

رد: اللمعات
 
فقرة

كتبت في سجن ((اسكي شهر))

اخوتي!

لقد دافعتُ دفاعات عديدة عن طلاب النور بـما يليق بهم من دفاع، وسأقولـها باذن الله في الـمحكمة وبأعلى صوتي، وسأسمع صوت رسائل النور ومنزلة طلابها الى الدنيا بأسرها. الاّ أنني انبهكم الى ما يأتي:

ان شرط الـحفاظ على ما في دفاعي من قيمة، هو عدم هجر رسائل النور بـمضايقات هذه الـحادثة وامثالـها، وعدم استياء الأخ من استاذه، وعدم النفور من اخوانه مـما يسببه الضيق والضجر، وعدم تتبع عورات الآخرين وتقصيراتهم.

انكم تذكرون ما اثبتناه في رسالة القدر: ان في الظلم النازل بالانسان جهتين وحكمين.

الـجهة الأولى: للانسان. والاخرى: للقدر الإلـهي

ففي التحادثة الواحدة يظلم الانسان فيما يعدل القدر وهو العادل.

فعلينا ان نفكر – في قضيتنا هذه – في عدالة القدر الإلـهي والـحكمة الإلـهية اكثر مـما نفكر في ظلم الانسان.

نعم! ان القدر قد دعا طلاب النور الى هذا الـمجلس. وان حكمة ظهور الـجهاد الـمعنوي قد ساقتهم الى هذه الـمدرسة اليوسفية التي هي حقاً ضجرة وخانقة، فصار ظلم الانسان وسيلة لذلك.

ولـهذا، اياكم ان يقول بعضكم لبعض: ((لو لـم افعل كذا لـما اعتقلت)).

سعيد النورسي

* * *







((شرف الرسائل الرفيع))

اخواني!

لقد اُخطر الى قلبي: كما ان الـمثنوي الرومي قد اصبح مرآة لـحقيقة واحدة من الـحقائق السبع الـمفاضة من نور شـمس القرآن الكريم، فاكتسب منزلة سامية وشرفاً رفيعاً حتى اصبح مرشداً خالداً لكثير من اهل القلب فضلاً عن الـمولويين. كذلك رسائل النور ستنال باذن الله شرفاً رفيعاً سامياً بسبع جهات، وستكون لدى اهل الـحقيقة بـمثل مرشدة خالدة رائدة باقية بسبع اضعاف الـمثنوي الرومي. لأنها تـمثل الانوار السبعة لنور شـمس القرآن الكريم والالوان السبعة الـمتنوعة في ضيائها، تـمثلها دفعة واحدة في مرآتها.

سعيد النورسي

* * *

((لطمة رحـمة))

اخوتي!

لقد ادركت ان التي نزلت بنا – مع الاسف – هي لطمة رحـمة. ادركتها منذ حوالي ثلاثة ايام وبقناعة تامة. حتى انني فهمت اشارة من الاشارات الكثيرة للآية الكريـمة الواردة بـحق العاصين لله، فهمتها كأنها متوجهة الينا وتلك الآية الكريـمة هي: } فَلَمـّاَ نَسُواْ مَا ذُكـِّرُواْ بِهِ ... أَخَذنَاهُم { (1) أي: لـما نسي الذين ذُكـّروا بالنصائح، ولـم يعملوا بـمقتضاها.. اخذناهم بالـمصيبة والبلاء.

نعم، لقد كُتـّبنا مؤخراً رسالة تـخص سر الاخلاص، وكانت حقاً رسالة رفيعة سامية، ودستوراً اخوياً نورانياً، بـحيث ان الـحوادث والـمصائب التي لايـمكن الصمود تـجاهها الاّ بعشرة الآف شـخص، يـمكن مقاومتها – بسر ذلك الاخلاص – بعشرة اشخاص فقط. ولكن أقولـها آسفاً: اننا لـم نستطع وفي الـمقدمة أنا، ان نعمل بـموجب ذلك التنبيه الـمعنوى، فأخذتنا هذه الآية الكريـمة – بـمعناها الاشارى – فابتلي قسم منا بلطمة تأديب ورحـمة، بينما لـم تكن لطمة تأديب لقسم آخر بل مدار سلوان لـهم، وليكسْبوا بها لأنفسهم الثواب.

نعم، انني لكونى مـمنوعاً عن الاختلاط منذ ثلاثة شهور لـم استطع ان اطلع على احوال اخوانى الاّ منذ ثلاثة أيام، فلقد صدر – مالا يـخطر ببالي قط – مـمن كنت احسبهم من اخلص اخواني اعمالاً منافية لسر الاخلاص. ففهمت من ذلك ان معنىً اشارياً للآية الكريـمة } فَلَمـّاَ نَسُواْ مَا ذُكـِّرُواْ بِهِ … أَخَذنَاهُم{ يتوجه الينا من بعيد.

ان هذه الآية الكريـمة التي نزلت بـحق اهل الضلال مبعث عذاب لـهم، هي لطمة رحـمة وتأديب لنا؛ لتربية النفوس وتكفير الذنوب وتزييد الدرجات. والدليل على أننا لـم نقدر قيمة ما نـملك من نعمة إلـهية حق قدرها هو: اننا لـم نقنع بـخدمتنا القدسية برسائل النور الـمتضمنة لأقدس جهاد معنوي، ونالت الولاية الكبرى بفيض الوراثة النبوية وهي مدار سر الـمشرب الذي تـحلى به الصحابة الكرام. وان الشغف بالطرق الصوفية التي نفعها قليل لنا في الوقت الـحاضر، واحتمال إلـحاقها الضرر بوضعنا الـحالي مـمكن، قد سُدّ امامه بتنبيهي الشديد عليه.. والاّ لأفسد ذلك الـهوى وحدتنا، وادّى الى تشتت الافكار الذي ينزل قيمة الترابط والتساند من ألف ومائة وأحد عشر الناشئة من اتـحاد أربعة آحاد، ينزلـها الى قيمة أربعة فـحسب، وادّى الى تنافر القلوب الذي يبدّد قوتنا إزاء هذه الـحادثة الثقيلة ويتجعلها أثراً بعد عين.

اورد الشيخ سعدي الشيرازي(1) صاحب كتاب ((كلستان)) ما مضمونه:

لقد رأيت احد الـمتقين من أهل القلب في زاوية ((التكية)) يزاول السير والسلوك، ولكن بعد مضي بضعة ايام شاهدته في الـمدرسة بين طلاب العلوم الشرعية، فسألته: لِمَ تركت الزاوية التي تفيض الانوار واتيت الى هذه الـمدرسة؟ قال: هؤلاء النجباء ذوو الـهمم العالية يسعون لإنقاذ الآخرين مع انقاذهم لأنفسهم بينما اولئك يسعون لإنقاذ أنفسهم وحدها إن وفقوا اليها. فالنجابة وعلو الـهمة لدى هؤلاء والفضيلة والـهمة عندهم، ولأجل هذا جئت الى هنا. هكذا سجل الشيخ سعدي خلاصة هذه الـحادثة في كتابه ((كلستان)).

فلئن رُجـّحت الـمسائل البسيطة للنحو والصرف التي يقرأها الطلاب مثل: نصر نصراً ونصروا.. على الاوراد التي تُذكر في الزوايا، فكيف برسائل النور الـحاوية على الـحقائق الإيـمانية الـمقدسة في ((آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر)). ففي الوقت الذي ترشد رسائل النور الى تلك الـحقائق باوضح صورة واكثرها قطعية وثبوتاً حتى لأعتى الـمعاندين الـمكابرين من الزنادقة وأشد الفلاسفة تـمرداً، وتلزمهم الـحجة، كم يكون على خطأ من يترك هذه السبيل او يعطلها او لا يقنع بها ويدخل الزوايا الـمغلقة دون استئذان من رسائل تبعا لـهواه! ويبين في الوقت نفسه مدى كوننا مستحقين لـهذه الصفعة، صفعة الرحـمة والتأديب.

سعيد النورسي

* * *

تنبيه

حكايتان صغيرتان

الـحكاية الأولى: عندما كنت اسيراً في شـمالي روسيا قبل خـمسة عاماً(1) في قاعة مصنع كبير، مع تسعين من ضباطنا، كانت الـمناقشات تـحتد والاصوات تتعالى نتيجة الضجر وضيق الـمكان. وكنت اهدئـّهم حيث كانوا جـميعاً يـحترمونني. ثم عينت خـمساً من الضباط لإقرار الـهدوء وقلت لـهم: اذا سـمعتم الضوضاء في أية ناحية اسرعوا اليها، وعاونوا الـجهة غير الـمحقة. وحقاً لقد انتهى الضوضاء نتيجة هذا العمل. فسألوني: لِمَ قلت: عاونوا غير الـمحق؟وقد أجبتهم حينها: ان غير الـمحق، هو غير منصف، لا يدع درهماً من راحته لأربعين درهماً من راحة الـجميع. اما الـمحق فيكون ذا انصاف يضحي براحته التي تعدل درهما، لراحة صديقه التي تعدل اربعين درهماً. وبتخليه عن راحته هذا، يسكن الضوضاء والصخب وينتهي ويعم الـهدوء. فيرتاح الضباط التسعون الساكنون في هذه القاعة. ولكن اذا مدّ الـمحقّ بقوة يزداد الصخب اكثر. ففي مثل هذه الـحياة الاجتماعية تؤخذ الـمصلحة العامة بنظر الاعتبار.

فيا اخوتي!! لا يستاء بعضكم من بعض قائلاً: ان اخي هذا لـم ينصفني او اجحف بـحقي.. فهذا خطأ جسيم في هذه الـحياة وفي اجتماعنا هذا. فلئن اضرك صاحبك بدرهم من الضرر، فانك بإستيائك منه وهجرك اياه تلـحق اربعين درهماً من الاضرار. بل يـحتمل إلـحاق اربعين ليرة من الاضرار برسائل النور. ولكن ولله الـحمد فان دفاعاتنا الـحقة القوية والصائبة جداً قد حالت دون أخذ اصدقائنا الى الاستجواب واخذ افاداتهم الـمكرر، فانقطع دابر الفاسد. والاّ لكان الاستياء الذي وقع بين الاخوة يلـحق بنا اضراراً جسيمة. كسقوط قشة في العين او سقوط شرارة في البارود.

الـحكاية الثانية: كانت لعجوز ثـمانية ابناء. اعطت لكل منهم رغيفاً دون ان تستبقي لـها شيئاً. ثم ارجع كل منهم نصف رغيفه اليها. فاصبحت لديها اربعة ارغفة، بينما لدى كل منهم نصف رغيف.

اخوتي انني اشعر في نفسي نصف ما يتألـم به كل منكم من آلام معنوية وانتم تبلغون الاربعين، انني لا ابالي بالآمي الشخصية. ولكن اضطررت يوماً فقلت: ((أهذا عقاب لـخطأي واُعاقب به)) فتحريت عن الـحالات السابقة. فشاهدت انه ليس لدي شىء من تهييج هذه الـمصيبة واثارتها، بل كنت اتـخذ منتهى الـحذر لأتـجنبها.

بـمعنى ان هذه الـمصيبة قضاء إلـهي نازل بنا.. فلقد دبـّرت ضدنا منذ سنة من قبل الـمفسدين فما كان بطوقنا تـجنبها، فلقد حمـّلونا تبعاتها فلا مناص لنا مهما كنا نفعل.

فللـّه الـحمد والـمنة أن هوّن من شدة الـمصيبة من الـمائة الى الواحد.

بناء على هذه الـحقيقة: فلا تـمنـّوا عليّ بقولكم: اننا نعاقب بهذه الـمصيبة من جرائك. بل سامـحوني وادعوا لي.

ولا ينتقدن بعضكم بعضاً. ولا تقولوا: لو لـم تفعل كذا لـما حدث كذا.. فـمثلاً ان اعتراف احد اخواننا عن عدد من اصحاب التواقيع (على الرسائل) انقذ الكثيرين. فهوّن من شأن الـخطة الـمرسومة في اذهان الـمفسدين الذين يستعظمون القضية. فليس في هذا ضرر، بل فيه نفع عام عظيم. لانها اصبحت وسيلة لانقاذ الكثيرين من الابرياء.

سعيد النورسي





((نكتتان))

الفقرات التالية عبارة عن نكتتين:

الأولى: تـخص الاخلاق، كتبت لـمناسبة ظهور حالات غير مريـحة في سجن اسكي شهر من جراء انقباض النفوس.

الثانية: نكتة لطيفة لآية كريـمة لطيفة مشهورة الاّ انها ظلت مستورة.

النكتة الأولى:

ان من كمال الله سبحانه وسعة رحـمته وطلاقة عدالته ان ادرج ثواباً ضمن اعمال البر، واخفى عقاباً معجلاً في اعمال الفساد والسيئات. فقد ادرج طي الـحسنات لذائذ وجدانية معنوية ما يذكـّر بنعم الآخرة، وادرج في ثنايا السيئات اعذبة معنوية ما يـحسس بعذاب الآخرة الاليم.

فمثلاً: ان افشاء الـمحبة والسلام في صفوف الـمؤمنين، انـما هو حسنة كريـمة للمؤمن، فله ضمن هذه الـحسنة لذة معنوية وذوقاً وجدانياً وانشراحاً قلبياً ما يذكـّر بثواب الآخرة الـمادي. ومن يتفقد قلبه يشعر بـهذا الذوق.

ومثلاً: ان بث الـحصومة والعداء بين الـمؤمنين انـما هو سيئة قبيحة، فـهذه السيئة تنطوي على عذاب وجداني واي عذاب، بـحيث يأخذ بـخناق القلب والروح معاً، فكل من يـملك روحاً حساسة وهـمة عالية يشعر بـهذا العذاب.

ولقد مررت بنفسي – طوال حياتي – بأكثر من مائة تـجربة على هذا النوع من السيئات. فكنت كلما حـملت عداء على اخ مؤمن تـجرعت عذاب تلك العداوة، حتى لـم يبق لي ريب من ان هذا العذاب انـما هو عقاب معجل لسيئتي التي ارتكبتها. فاعاقب عليها واعذب بها.

ومثلاً: ان توقير الـجديرين بالاحترام والتوقير وابداء العطف والرحـم لـمن يستحقه عمل صالـح وحسنة للمؤمن. ففي هذه الـحسنة تكمن لذة عظيمة ومتعة وجدانية الى حدٍ قد تسوق صاحبها الى التضحية حتى بـحياته. فان شئت فانظر الى اللذة التي تكسبها الوالدت من بذل شفقتهن لاولادهن، حتى أنها تـمضي في سبيل تلك الرأفة والشفقة الى الـجود بنفسها. بل ترى هذه الـحقيقة واضحة حتى في عالـم الـحيوان، فالدجاجة تهاجم الاسد دفاعاً عن فراخها.

اذن ففي الاحترام والرأفة اجره معجلة. يشعر بهذه اللذة اولئك الذين يـملكون ارواحاً عالية ونفوساً ابية شهمة.

ومثلاً: ان في الـحرص والاسراف عقوبة معنوية معجلة وجزاء قلبياً، اذ يـجعل صاحبه ثملاً من كثرة الشكوى والقلق، فترى العقوبة نفسها بل اشد منها في الـحسد والتنافس والغيرة، حتى ان الـحسد يـحرق صاحبه قبل غيره. وتنقلب الآية في التوكل والقناعة اذ فيهما ثواب واي ثواب بـحيث انه يزيل آثار الـمصائب واوضار الفاقة والـحاجة.

ومثلاً: ان الغرور والتكبر حـمل ثقيل مقيت على كاهل الانسان، حيث انه يتعذب من رؤيته استثقال الآخرين له في الوقت الذي ينتظر منهم احترامه.

نعم! ان الاحترام والطاعة توهب ولا تطلب.

ومثلاً: ان في التواضع وترك الغرور والكبر لذة عاجلة ومكافأة آنية يـخلص الـمتواضع من عبء ثقيل وهو التصنع والرياء.

ومثلاً: ان في سوء الظن وسوء التأويل جزاء معجلاً في هذه الدنيا. حتى غدت ((مَن دقّ دُقّ)) قاعدة مطردة. فالذي يسىء الظن بالناس يتعرض حتماً لسوء ظنهم. والذي يؤول تصرفات اخوانه الـمؤمنين تأويلاً سيئاً، لا مـحالة سيتعرض للـجزاء نفسه في وقت قريب.

وهكذا فقس على هذا الـمنوال جـميع الـخصال الـحسنة والذميمة.

نسأل الله الرحـيم ان يرزق الذين يتذوقون طعوم الاعجاز القرآني الـمعنوي الـمنبعث من رسائل النور في زماننا هذا ذوق تلك اللذائذ الـمعنوية الـمذكورة، فلا تقرب اليهم بأذن الله الاخلاق الذميمة.



النكتة الثانية:

بِسْمِ اللهِ الرَّحمْن الرَّحيْم

} وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون ` ما اُريد منهم

مِن رزقٍ وما اُريد أن يُطْعِمون ` إنّ الله هُو الرزّاقُ

ذُو القُوّةِ الـمتينِ{ (الذاريات:56-58)



ان ظاهر معنى هذه الآية الكريـمة لا يبين الاسلوب الرفيع الـمنسجم مع بلاغة القرآن الـمعجزة، مثلما جاء في اغلب التفاسير. لذا كان يشغل فكري في كثير من الاحيان. فنبين ثلاثة اوجه اجـمالاً، من بين الـمعاني الـجميلة الرفيعة التي وردت من فيض القرآن الكريم.

الوجه الاول:

ان الله سبحانه يسند احياناً الى نفسه ما يـمكن ان يعود الى رسوله الكريـم عليه الصلاة والسلام من حالات، وذلك تكريـماً له وتشريفاً.

فها هنا كذلك، اذ الـمعنى الـمراد من الآية الكريـمة الـمتصدرة، لابد ان يكون الاطعام والارزاق الذي يعود الى الرسول e ، أي:

ان رسولي في ادائه مهمة الرسالة وتبليغه العبودية لله، لايريد منكم اجراً ولا اجرة ولاجزاءً ولا إطعاماً.. وإلاّ إن لـم يكن الـمراد هذا الـمعنى لكان اعلاماً لـمعلوم في منتهى البداهة، مـما لا ينسجم وبلاغة القرآن الـمعجزة.

الوجه الثاني:

الانسان مغرم بالرزق كثيراً، ويتوهم ان السعي الى الرزق يـمنعه عن العبودية، فلاجل دفع هذا التوهم، ولكي لا يُتخَذ ذريعة لترك العبادة تقول الآية الكريـمة } وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون { وتـحصر الغاية من الـخلق في العبودية لله، وان السعي الى الرزق – من حيث الامر الإلـهي – عبودية لله ايضاً.

أما احضار الرزق لـمخلوقاتي ولأنفسكم واهليكم وحتى رزق حيواناتكم فأنا الكفيل به. فأنتم لـم تـخلقوا له، فكل ما يـخص الرزق والاطعام يـخصني أنا وأنا الرزاق ذو القوة الـمتين.. فلا تـحتجوا بـهذا فتتركوا العبادة، فانا الذي ارسل رزق مَن يتعلق بكم من عبادي.

ولو لـم يكن هذا الـمعنى هو الـمراد، لكان من قبيل اعلام الـمعلوم. لأن رزق الله سبحانه وتعالى واطعامه مـحال بديهي ومعلوم واضح. وهناك قاعدة مقررة في علم البلاغة تفيد.

ان كان معنى الكلام معلوماً وبديهياً، فلا يكون هذا الـمعنى مراداً، بل الـمراد لازمهُ او تابع من توابعه.

فمثلاً: ان قلتَ لاحدهم وهو حافظ للقرآن الكريم: انت حافظ. فهذا الكلام اعلامٌ بـما هو معلوم لديه، فاذاً الـمراد منه هو: انني اعلم انك حافظ للقرآن، أي: اُعلِمهُ بـما لايعلمه، وهو علمي أنه حافظ للقرآن.

فبناء على هذه القاعدة يكون معنى الآية التي هي كناية عن نفي رزق الله واطعامه هو:

انكم لـم تـخلقوا لإيصال الرزق الى مـخلوقاتي التي تعهـّدت انا برزقهم. فالرزق أنا به زعيم. فواجبكم الاساس هو العبودية، والسعي على وفق اوامري للحصول على الرزق، بذاته نوع من العبادة.

الوجه الثالث:

ان الـمعنى الظاهري للآية الكريـمة } لَم يَلِد وَلَم يُولَد { في سورة الاخلاص، معلوم وبديهي. فيكون الـمقصود لازماً من لوازم ذلك الـمعنى. أي: ان الذين لـهم والدة وولد لا يكونون الـهاً قطعاً.

فيقضي سبحانه وتعالى بقوله } لَم يَلِد وَلَم يُولَد { الذي هو بديهي ومعلوم ويعني انه ازلي وابدي، لاجل نفي الالوهية عن سيدنا عيسى عليه السلام وعزير عليه السلام والـملائكة والنجوم والـمعبودات الباطلة.

فكما أن هذه الآية هكذا فهنا ايضاً يكون معنى الآية الكريـمة } ما اُريد منهم

مِن رزقٍ وما اُريد أن يُطْعِمون { ان كل ما يُرزق ويُطعم وله استعداد للرزق والاطعام لا يـمكن ان يكون الـهاً. فلا تليق الالوهية بـما هو مـحتاج الى الرزق والاطعام.



سعيد النورسي













بِسْمِ اللهِ الرَّحـمن الرَّحيمِ

} أَو هُم قَآئِلُون{ (الاعراف:4)

لقد اهتم ((رأفت)) بـمعنى كلمة ((قائلون)) الواردة في الآية الكريـمة:

} أَو هُم قَآئِلُون{

فكُتب هذا البحث لــمناسبة استفساره عنها، ولئلا يعطل قلمه الالـماسي، بـما يصيبه من انـحلال في الـجسم بسبب نومه بعد صلاة الفجر كالآخرين معه في السجن.

النوم على انواع ثلاثة:

الاول: الغيلولة:

وهي النوم بعد الفجر حتى انتهاء وقت الكراهة. هذا النوم مـخالف للسنة الـمطهرة؛ اذ يورث نقصان الرزق، وزوال بركته، كما هو وارد في الـحديث الشريف. حيث ان افضل وقت لتهيئة مقدمات السعي لكسب الرزق هو في الـجو اللطيف، عقب الفجر، ولكن بعد مضيه يطرأ على الانسان خـمول وانـحلال، مـما يضرّ بسعيه في ذلك اليوم، وبدوره يضر بالرزق، كما يسبب زوال بركته، وقد ثبت هذا بتجارب كثيرة.

الثاني: الفيلولة:

وهي النوم بعد صلاة العصر حتى الـمغرب، هذا النوم يسبب نقصان العمر، أي: يتناقص عمر الانسان مادياً في اليوم الذي يشوّب بالنوم الـمورث للغفلة؛ اذ يبدو ذلك اليوم قصيراً ناقصاً مثلما يكون قضاء وقت العصر بالنوم في حكم عدم رؤية نتائج معنوية لذلك اليوم، تلك النتائج التي تتظاهر على الاغلب في ذلك الوقت. فيكون الانسان كأنه لـم يعش ذلك اليوم.

الثالث: القيلولة:

وهي سنة نبوية شريفة، ويبدأ وقتها من الضحى الى ما بعد الظهر بقليل، ومع كون هذا النوم من السنة الـمطهرة(1) فانه يعين على قيام الليل، وقد رسـّخ هذه السنة النبوية ما اعتاد عليه اهل الـجزيرة العربية من تعطيل نسبي للاعمال عند اشتداد الـحر من الظهر حسب مـحيطهم. وهذا النوم يطيل العمر ويزيد الرزق؛ لان نصف ساعة من القيلولة يعادل ساعتين من نوم الليل، أي انه يزيد عمر يومه ساعة ونصف الساعة. وينقذ ساعة ونصف الساعة ايضاً من النوم الذي هو صنو الـموت، ويـحييها بتزييد وقت عمله كسباً للرزق، فيطيل زمن السعي والعمل.

سعيد النورسي

* * *







وهذه خاطرة جـميلة

حينما كنت اقرأ جـملة ((ألف ألف صلاة وألف ألف سلام عليك يارسول الله)) عقب الصلاة، تراءت لي من بعيد خاطرة لطيفة انكشفت من تلك الصلوات، الا انني لـم أتـمكن من اقتناصها كاملة، ولكن ساشير الى بعض جـملها:

رأيت ان عالـم الليل شبيه بـمنزل جديد يفتح لدار الدنيا.. دخلت ذلك العالـم في صلاة العشاء، ومن انبساط فوق العادة للخيال وبـحكم ارتباط ماهية الانسان مع الدنيا قاطبة رأيت ان هذه الدنيا العظيمة قد اصبحت في ذلك الليل منزلا صغيراً جداً حتى لا يكاد يرى ما فيه من بشر وذوي حياة. ورأيت خيالاً أن ليس هناك من ينور ذلك الـمنزل الا الشخصية الـمعنوية للرسول e حتى امتلأت ارجاؤه بهجة وانساً وسروراً.

وكما يبدأ الشخص بالسلام عند دخوله الـمنزل، كذلك وجدت في نفسي شوقاً هائلاً ورغبة جياشة الى القول: ألف ألف سلام عليك يارسول الله(1)..

ومن هنا وجدت نفسي كأنني اسلم عليه بعدد الانس والـجن واعبر بسلامي هذا عن تـجديد البيعة له والرضى برسالته وقبولـها منه واطاعة القوانين التي أتى بها، والتسليم لاوامره وسلامته من بلايانا. أي كأنني اقدم هذا السلام – ناطقاً تلك الـمعاني – باسم كل فرد من افراد عالـمي وهم ذوو الشعور من جن وانس، وجـميع الـمخلوقات.

وكذا فان ما جاء به من النور العظيم والـهدية الغالية ينور عالـمي الـخاص هذا كما ينور العالـم الـخاص لكل احد في هذه الدنيا، فيحوّل عالـمنا الى عالـم زاخر بالنعم. فقلت تـجاه هذه النعمة الـهائلة: ((اللهم أنزل ألف صلاة عليه)) علـّها تكون شكراناً وعرفانا للجميل على ذلك النور الـحبيب والـهدية الغالية، اذ اننا لانستطيع أن نرد جـميله واحسانه الينا أبداً، فأظهرنا تضرعنا الى الله جل وعلا بالدعاء والتوسل كي ينزل من خزائن رحـمته رحـمة عليه بعدد اهل السموات جـميعاً.. هكذا احسست خيالاً.

فهو e يطلب صلاة بـمعنى ((الرحـمة)) من حيث هو ((عبد)) ومتوجه من الـخلق الى الـحق سبحانه. ويستحق ((السلام)) من حيث أنه ((رسول)) من الـحق سبحانه الى الـخلق.

وكما اننا نرفع اليه سلاماً بعدد الانس والـجن، ونـجدد له البيعة العامة بعددها ايضاً، فانه علية الصلا ة والسلام يستحق ايضاً صلاة من خزائن الرحـمة الإلـهية بعدد اهل السموات، وبأسم كل واحد منهم؛ ذلك لأن النور الذي جاء به هو الذي يظهر كمال كل شىء في الوجود، ويُبرز قيمة كل موجود، وتُشاهد به الوظيفة الربانية لكل مـخلوق، وتتجلى به الـمقاصد الإلـهية من كل مصنوع. لذلك لو كان لكل شىء لسان لكان يردد قولاً كما يردد حالاً: الصلاة والسلام عليك يارسول الله.. فنحن بدورنا نقول بدلا عن الـمخلوقات كافة:

- ألف ألف صلاة وألفُ ألف سلام عليك يارسول الله بعدد الانس والـجن وبعدد الـملك والنـجوم.

فيكفيك ان الله صلى بنفسه واملاكه صلت عليه وسلمت



سعيد النورسي

* * *





اخي العزيز:

تطلبون شيئاً من الايضاح حول ((وحدة الوجود)) ففي احدى لـمعات ((الـمكتوب الـحادي والثلاثين)) جواب شاف وقوي واضح إزاء رأي مـحي الدين بن عربي في هذه الـمسألة.

اما هنا فنكتفي بهذا القدر ونقول:

ان تلقين مسألة ((وحدة الوجود)) في الوقت الـحاضر للناس يضرهم ضرراً بالغاً، اذ كما ان التشبيهات والتمثيلات(1)، اذا خرجت من ايدي الـخواص ودخلت ايدي العوام وسرت من يد العلم الى يد الـجهل تُتلقى حقائق كذلك وحدة الوجود وامثالـها من الـحقائق العالية، اذا ما دخلت بين العوام الغافلين السارحين في تأثير الاسباب، يتلقونها ((طبيعة)) وتولد ثلاث مضار مهمة.

الضرر الاول:

ان مشرب وحدة الوجود، مع انه في حكم انكار وجود الكائنات ازاء وجود الله سبحانه، الا انه كلما دخل بين العوام يـمضي بهم الى أن يصل في فكر الغافلين منهم ولاسيما الـملوثين بالـماديات الى انكار الالوهية ازاء الكون والـماديات.

الضرر الثاني:

ان مشرب وحدة الوجود، يردّ رداً شديداً ربوبية ما سوى الله تعالى، حتى انه ينكر ما سواه تعالى ويرفع الثنائية، فلا يرى وجوداً مستقلاً للنفس الامارة ولا لأي شىء كان، ولكن في هذا الزمان، الذي استولت فيه مفاهيم الطبيعة وتفرعنت نفوس أمارة وبـخاصة من له استعداد ليتخذ نفسه معبوده من دون الله، ونفخ الغرور والانانية في اوداجه، فضلا عن نسيان الـخالق والآخرة الى حد ما. فتلقين هؤلاء بوحدة الوجود يطغي نفوس حتى لايسعها شىء، والعياذ بالله.

الضرر الثالث:

انه يورث افكارا وتصورات لاتليق بوجوب وجود الذات الـجليلة، الـمنزهة الـمبرأة الـمتعالية الـمقدسة عن التغير والتبدل والتجرؤ والتحيز، ولاتلائم تنزهه وتقدسه سبحانه بـحال، فيكون بذلك سبباً لتلقينات باطلة.

نعم! ان من يتكلم عن وحدة الوجود عليه ان يعرج فكراً من الثرى الى الثريا تاركاً الكائنات وراءه ظهريا، مـحدقاً بنظره الى العرش الاعلى، عاداً الكائنات معدومة في حالة الاستغراق، فيمكنه ان يرى بقوة الإيـمان ان كل شىء من الواحد الاحد سبحانه مباشرة. والا فان من يقف وراء الكائنات وينظر اليها ويرى الاسباب أمامه وينظر من الارض، فانه يـحتمل ان يغرق في تأثير الاسباب ويقع في مستنقع الطبيعة، بينما الذي يعرج فكراً الى العرض كجلال الدين الرومي(1) يستطيع ان يقول: ((افتح سـمعك فانك تستطيع أن تسمع من كل أحد – كأنه حاك فطري – ما تسمعه من الـحق تعالى)). والا فمن لا يستطيع العروج مثله الى هذه الـمرتبة الرفيعة ولا يرى الـموجودات من الفرش الى العرش على صورة مرايا (لـتجلياته) ان قلت له:

((اصغ الى كل أحد تسمع منه كلام الله)) فانه يبتلى بتصورات باطلة مـخالفة للحقيقة كمن يهوي معنىً من العرش الى الفرش.

} قل الله ثُمَ ذَرهُم في خَوضِهم يَلعَبون { (الانعام:91).

ما للتراب ولرب الارباب.

سبحان من تقدس عن الاشباه ذاته وتنزهت عن مشابهة الامثال صفاته وشهد على ربوبيته آياته جل جلاله ولا اله الا هو.

سعيد النورسي



* * *



جواب عن سؤال

لا يسعني الوقت الكافي لعقد موازنة بين افكار كل من مصطفى صبري(1) وموسى باكوف(2) الا انني اكتفي بالقول الآتي:

ان احدهما قد افرط والآخر يفرط. فمع ان مصطفى صبري مـحق في دفاعاته بالنسبة الى موسى باكوف الا انه ليس له حق تزييف شخص مـحي الدين بن عربي الذي هو خارقة من خوارق العلوم الإسلامية.

نعم، ان مـحي الدين بن عربي مهتد ومقبول ولكنه ليس بـمرشد ولاهاد وقدوة في جـميع كتاباته، اذ يـمضي غالباً دون ميزان في الـحقائق، فيخالف القواعد الثابتة لأهل السنة, ويفيد بعض أقواله – ظاهراً – الضلالة غير انه برىء من الضلالة، اذ الكلام قد يبدو كفرا بظاهره، الا أن قائله لا يكون كافراً.

فمصطفى صبري لـم يراع هذه النقاط بنظر الاعتبار ففرط في بعض النقاط لتعصبه لقواعد اهل السنة. أما موسى باكوف فهو يـخطىء كثيراً بافكاره التي تـماشي التمدن والـمنحازة شديداً للتجدد. اذ يـحرف بعض الـحقائق الإسلامية بتأويلات خاطئة ويتخذ شخصاً مردوداً كابي العلاء الـمعري في مستوى اعلى من علماء الإسلام الـمحققين وقد غالى كثيراً لانـحيازه الشديد الى تلك الـمسائل التي خالف فيها مـحي الدين اهل السنة والتي تنسجم مع افكاره.

ولقد قال مـحي الدين: ((تـُحرم مطالعة كتبنا على من ليس منا)) أي على من لايعرف مقامنا. نعم ان قراءة كتب مـحي الدين ولاسيما مسائله التي تبحث في وحدة الوجود مضرة في هذا الزمان.

سعيد النورسي





بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

عندما كنت انظر من نافذة السجن، الى ضحكات البشرية الـمبكية، في مهرجان الليل البهيج، انظر اليها من خلال عدسة التفكر في الـمستقبل والقلق عليه، انكشف امام نظر خيالي هذا الوضع، الذي ابينه:

مثلما تشاهد في السينما اوضاع الـحياة لـمن هم الأن راقدون في القبر، فكأنني شاهدت امامي الـجنائز الـمتحركة لـمن سيكونون في الـمستقبل القريب من اصحاب القبور.. بكيت على اولئك الضاحكين الآن، فانتابني شعور بالوحشة والالـم. راجعت عقلي، وسألت عن الـحقيقة قائلاً: ما هذا الـخيال؟ قالت الـحقيقة:

ان خـمسة من كل خـمسين من هؤلاء البائسين الضاحكين الآن والذين يـمرحون في نشوة وبهجة سيكونون كهولاً بعد خـمسين عاماً، وقد انـحنت منهم الظهور وناهز العمر السبعين. والخـمسة والاربعين الباقية يُرمـّون في القبور.

فتلك الوجوه الـملاح، وتلك الضحكات البهيجة، تنقلب الى أضدادها. وحسب قاعدة ((كل آت قريب))(1) فان مشاهدة ما سيأتي كأنه آتٍ الآن تنطوي على حقيقة، فما شاهدته اذاً ليس خيالاً.

فما دامت ضحكات الدنيا الـمتسمة بالغفلة مؤقتة ومعرضة الى الزوال، وهي تستر مثل هذه الاحوال الـمؤلـمة الـمبكية، فلابد أن ما يسرّ قلب الانسان البائس العاشق للـخلود، ويفرح روحه الولـهان بعشق البقاء، هو ذلك اللهو البرىء والـمتعة النزيهة وافراح ومسرات تـخلد بثوابه، ضمن نطاق الشرع، مع اداء الشكر باطمئنان القلب وحضوره بعيداً عن الغفلة. ولئلا تقوى الغفلة في النفوس في الاعياد، وتدفع الانسان الى الـخروج عن دائرة الشرع، ورد في الاحاديث الشريفة ترغيب قوي وكثير في الشكر وذكر الله في تلك الايام. وذلك لتنقلب نعم الفرح والسرور الى شكر يديـم تلك النعمة ويزيدها، اذ الشكر يزيد النعم ويزيل الغفلة.

سعيد النورسي



















بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيْمِ

نكتة من نكات الآية الكريـمة:

} انَّ النفسَ لأمـّارة بالسوء { (يوسف:53)

والـحديث الشريف: ((أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك))(1).

نعم! ان الذي يـحب نفسه الامارة بالسوء – غير الـمزكاة – ويعجب بها، هو في الـحقيقة لا يـحب أحداً غيرها، وحتى لو ابدى للغير حباً فلا يـحبه من صميم قلبه، بل ربـما يـحبه لـمنافعه، ولـما يتوقع منه من متاع. فهو في محاولة دائمة لتحبيب نفسه للآخرين وفي سعي متواصل لأثارة اعجابهم به، يصرف كل قصورٍ عن نفسه فلا يحـملـّها أي نقص كان، بل يدافع دفاع الـمحامي الـمخلص لإبراء ساحتها، ويـمدحها بـمبالغات بل بأكاذيب لينزّهها عن كل عيب او قصور، حتى يقربها الى التقديس، بل يبلغ به الامر ان يكون مصداق الآية الكريـمة } من أتـخذ ألـهه هواه { (الفرقان:43) عندها تتوالى عليه صفعات هذه الآية الكريـمة – حسب درجته – فينقلب مدحُه الى إعراض الناس عنه، ويتحول تـحبيب نفسه اليهم الى استثقالـهم له، فيجد عكس ما كان يروم، فضلاً عن أنه يضيـّع الاخلاص، لـما يـخلط من رياء وتصنع في اعماله الأخروية، فيكون مغلوباً على أمره امام شهواته وهواه ومشاعره، تلك التي لاتبصر العقبى ولاتفكر في النتائج والـمغرمة بالتلذذ الآني. بل قد تبرر له اهواؤه الضالة اموراً يرتكبها لاجل متعة لاتدوم ساعة يفضي به ان يلقى في السجن لسنة كاملة. وقد يقاسي عشر سنوات من الـجزاء العادل لاجل تسكين روح الثأر لديه وشهوة الغرور التي لا تستغرق دقيقة واحدة. فيكون مثله كمثل ذلك الطفل الابله الذي لايقدر قيمة جزء الـمصحف الشريف الذي يتلوه ويدرسه فيبيعه بقطعة حلوى رخيصة، اذ يصرف حسناته التي هي اغلى من الالـماس ويبدلـها بـما يشبه في تفاهتها قطع الزجاج، تلك هي حسياته وهواه وغروره، فيخسر خسارة جسيمة فيما كان ينبغي له ان يربح ربـحاً عظيماً.

اللهم احفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الـجن والانس.



سؤال:

كيف يكون البقاء في سجن جهنم بقاءاً خالداً جزاءً عادلاً لكفر في زمن قصير؟

الـجواب: ان القتل الذي يـحصل في دقيقة واحدة يعاقب عليه بسبع ملايين وثـمانـمائة واربع وثـمانين الفاً من الدقائق – على اعتبار السنة ثلاثـمائة وخـمس وستين يوماً. فان كان هذا قانوناً عدلاً، فالذي يقضي عشرين سنة من عمره في احضان الكفر ويـموت عليه يستحق جزاءً بـمقتضى هذا القانون العادل للبشر سبجناً يدوم سبعاً وخـمسين ترليوناً وواحد مائتي مليار مليون من السنين، باعتبار دقيقة من الكفر تعادل ألف قتل ويـمكن ان يُفهم من هذا وجه الانسجام مع عدالة قوله تعالى: } خالدين فيها ابداً { (البينة:8).

ان سر العلاقة بين العددين الـمتباعدين جداً بعضها عن بعض، هو ان الكفر والقتل تـخريب وتعدّ على الآخرين، ولـهما تأثير في الآخرين، فالقتل الذي يـحصل في دقيقة واحدة يسلب خـمس عشرة سنة في الاقل من حياة الـمقتول، حسب ظاهر الـحال، لذا يسجن القاتل بدلاً منه، فدقيقة واحدة في الكفر الذي هو انكار لألف اسم واسم من الاسـماء الـحسنى وتزييف لنقوشها البديعة.. واعتداء على حقوق الكائنات.. وانكار لكمالاتها.. وتكذيب لدلائل الوحدانية التي لا يـحد وردّ لشهاداتها .. تلقي بالكافر في اسفل سافلين لاكثر من الف سنة، فتسجتنه في قوله تعالى } خالدين فيها ابداً { (البينة:8).

سعيد النورسي

* * *





توافق لطيف ذو مغزى:

ان الـمادة (163) من القانون التي يُتهم بـموجبها طلاب النور، ويُطالب بها انزال العقوبة عليهم. هذا الرقم يتوافق مع عدد النواب الذين وافقوا على لائـحة البرلـمان الـخاصة بـمنح مائة وخـمسين الف ليرة لبناء مدرسة مؤلف رسائل النور، وقد كانوا (163) نائباً من بين ((200) نائباً في مـجلس الأمة التركي.

هذا التوافق يقول معنىً: ان تواقيع (163) نائباً من نواب حكومة الـجمهورية على وجه التقدير والاعجاب بـخدمته يُبطل حكم الـمادة (163) بـحقه.

وكذا من بين التوافقات اللطيفة ذات الـمغزى:

لقد كان القبض على مؤلف رسائل النور وطلابه واعتقالـهم في 27/نيسان/1935 بينما كان قرار الـمحكمة بـحقهم في 19/آب/1935 أي بعد (115) يوماً. هذا الرقم يتوافق مع عدد كتب رسائل النور وهو (115) كتاباً يضم (128) رسالة.

كما انه يوافق عدد الـمتهمين الـمائة وخـمسة عشر من طلاب النور الذين استجوبوا واتهموا.

فهذا التوافق يدل على ان الـمصيبة التي ابتلى بـها مؤلف رسائل النور وطلابها انـما تُنظـّم بيدٍ من العناية (الإلـهية)(1).

* * *



النكتة الثامنة والعشرون

من اللمعة الثامنة والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمْنِ الرَّحيْمِ

} لا يَسـَّمَعُونَ إِلَى الـمَلإِ الأَعلَى وَيُقذَفُونَ مِن كـُّلِ جَانِبٍ ` دُحُوراً وَلَـهُم عَذَابٌ وَاصِبٌ ` إِلاَّ مَن خَطِفَ الـخَطفَةَ فَأَتبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ{ (الصافات:8-10)

} وَلَقَد زَيـَّنـَّا السـّمَآءَ الدُّنيَا بِمصَابِيحَ وَجَعَلناهَا رُجُوماً لِلشـَّيَاطِينِ{ (الـملك:5)

سنبين نكتة مهمة من نكات هذه الآيات الكريـمة وامثالـها من الآيات لـمناسبة اعتراض يرد من اهل الضلالة على وجه النقد.

تفيد هذه الآيات الكريـمة ان جواسيس الـجن والشياطين يسترقون السمع الى اخبار السـموات ويـجلبون منها الاخبار الغيبية الى الكهان والـماديين، والذين يعلمون في تـحضير الارواح. فـحيل بين هذه الاخبار وبين التجسس الدائمي لأولئك الـجواسيس ورجـموا بالشهاب أزيد ماكان في تلك الفترة من بداية الوحي، وذلك لئلا يلتبس شىء على الوحي.

نبين جواباً في غاية الاختصار عن سؤال في غاية الاهمية وهو ذو ثلاث شعب.

سؤال:

يفهم من امثال هذه الآيات الكريـمة الـمتصدرة انه لاجل استراق السمع وتلقي الـخبر الغيبي حتى في الـحوادث الـجزئية بل احياناً حوادث شخصية تقتحم جواسيس الشياطين مـملكة السموات التي هي في غاية البعد، لكأن تلك الـحادثة الـجزئية هي موضع بـحث في كل جزء من اجزاء تلك الـمملكة الواسعة، ويـمكن لاي شيطان كان، ومن أي مكان دخل الى السموات، التنصت ولو بصورة مرقعة الى ذلك الـخبر وجلبه هكذا الى الارض. هذا الـمعنى الذي يُفهم من الآيات الكريـمة لا يقبل به العقل والـحكمة. ثم ان قسماً من الانبياء وهم اهل الرسالة، والاولياء وهم اهل الكرامة يتسلمون ثـمار الـجنة التي هي فوق السموات العلى – بنص الآية – وكأنهم يأخذونها من مكان قريب، واحياناً يشاهدون الـجنة من قريب. هذه الـمسألة تعني: نهاية البعد في نهاية القرب بـحيث لايسعها عقل هذا العصر.

ثم أن حالة من احوال جزئية لشخص جزئي يكون موضع ذكر وكلام لدى الـملأ الاعلى في السموات العلى الواسعة جداً، هذه الـمسألة لاتوافق ادارة الكون التي تسير في منتهى الـحكمة.

علماً أن هذه الـمسائل الثلاث تعد من الـحقائق الإسلامية.

الـجواب:

اولاً: أن الآية الكريـمة: } وَلَقَد زَيـَّنـَّا السـّمَآءَ الدُّنيَا بِمصَابِيحَ وَجَعَلناهَا رُجُوماً لِلشـَّيَاطِينِ{ هذه الآية تفيد أن جواسيس الشياطين التي تـحاول الصعود الى السموات للتجسس تطرد بنجوم السموات.

فقد بـحثت هذه الـمسألة بـحثاً جيداً في الكلمة الـخامسة عشرة، واُثبتت اثباتاً يقنع حتى أعتى الـماديين، بل يلجؤهم الى السكوت والقبول، وذلك بسبع مقدمات قاطعة هي بـمثابة سبع مراتب للصعود الى فهم الآية الكريـمة:

ثانياً: نشير الى هذه الـحقائق الإسلامية الثلاث التي تُظن انها بعيدة (عن العقل) بتمثيل وذلك لنقربها الى الاذهان القاصرة الضيقة.

هب ان الدائرة العسكرية لـحكومة تقع في شرقي البلاد، ودائرتها العدلية في الغرب ودائرة الـمعارف في الشـمال ودائرة الشؤون الدينية (الـمشيخة) في الـجنوب، ودائرة الـموظفين الاداريين في الوسط وهكذا.

فعلى الرغم من البعد بين دوائر هذه الـحكومة، فان كل دائرة لو استخبرت الاوضاع فيما بينها بالتلفون او التلغراف ارتباطاً تاماً: عندها تكون البلاد كلها كأنها دائرة واحدة عي دائرة العدل، او الدائرة العسكرية او الدينية، او الادارية وهكذا.

مثال آخر: يـحدث احياناً أن دولاً متعددة ذات عواصم مـختلفة. تشترك معاً في مـملكة واحدة، بسلطات متباينة، من حيث مصالـحها الاستعمارية فيها، او لوجود امتيازات خاصة بها، او من حيث الـمعاملات التجارية وغيرها. فكل حكومة عندئذ ترتبط بعلاقة مع تلك الرعية من حيث امتيازاتها، فعلى الرغم من انها رعية واحدة وأمة واحدة، فان معاملات تلك الـحكومات الـمتباينة – التي هي في غاية البعد – تتماس وتتقارب كلٌ منها مع الاخرى في البيت الواحد بل تشترك في كل انسان. حتى تُشاهد مسائلها الـجزئية في الدوائر الـجزئية وهي نقاط التماس والتقارب، ولاتؤخذ كل مسألة جزئية من الدائرة الكلية. ولكن عندما تبحث تلك الـمسائل الـجزئية، تبحث كأنها اُخذت من الدائرة الكلية وذلك لارتباطها بالقوانين الكلية لتلك الدائرة. وتعطى لـها صورة كأنها مسألة اصبحت موضع بـحث في تلك الدائرة الكلية.

وهكذا ففي ضوء هذين الـمثالين:

ان مـملكة السموات التي هي في غاية البعد، من حيث العاصمة والـمركز، فان لـها هواتف معنوية تـمتد منها الى قلوب الناس في مـملكة الارض. فضلاً عن أن عالـم السموات لا يشرف على العالـم الـجسماني وحده بل يتضمن عالـم الارواح وعالـم الـملكوت؛ لذا فعالـم السموات يـحيط بـجهة بعالـم الشهادة تـحت ستار.

وكذلك الـجنة التي هي من العوالـم الباقية، وهي دار البقاء، فمع انها في غاية البعد، الاّ ان دائرة تصرفاتها تـمتد امتداداً نورانياً وتنتشر الى كل جهة تـحت ستار عالـم الشهادة.

فكما ان حواس الانسان التي اودعها الصانع الـحكيم الـجليل بـحكمته وبقدرته في رأس الانسان، فعلى الرغم من ان مراكزها مـختلفة، فان كلامنها تسيطر على الـجسم كله، وتأخذه ضمن دائرة تصرفها.

كذلك الكون الذي هو انسان اكبر يضم الوف العوالـم الشبيهة بالدوائر الـمتداخلة. فالاحوال الـجارية في تلك العوالـم والـحوادث التي تقع فيها تكون موضع النظر من حيث جزئياتها وكلياتها، وخصوصياتها وعظمتها.

بـمعنى ان الـجزئيات تُشاهد في الاماكن الـجزئية والقريبة، بينما الكليات والامور العظيمة تُرى في الـمقامات الكلية والعظيمة.

ولكن قد تستولي حادثة جزئية خصوصية على عالـم عظيم فاينما يُلقى السمع تٌسمع تلك الـحادثة.

واحياناً تـحشد الـجنود الـهائلة اظهاراً للعظمة والهيئة وليس لقوة العدو. فمثلاً:

ان حادثة الرسالة الـمحمدية، ونزول الوحي القرآني، لكونها حادثة جليلة، فان عالـم السموات كله، بل حتى كل زاوية من زواياه متأهب، وقد صفت فيه الـحراس، في تلك البروج العظيمة، من تلك السموات العالية الرفيعة والبعيدة بعداً عظيماً. ويقذفون من النجوم الـمجانيق، طرداً لـجواسيس الشياطين ودفعاً بهم عن السموات.

فالآية الكريـمة عندما تبرز الـمسألة هكذا برجم الشياطين بكثرة هائلة والقذف بالشهب ولاسيما في بداية الوحي في ذلك الوقت. تبين اشارة ربانية الى الاعلان عن درجة عظمة الوحي القرآني وشعشعة سلطانه، والى درجة أحقيته وصوابه والذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وهكذا يترجـم القرآن الكريم ذلك الاعلان الكوني العظيم ويشير الى تلك الاشارات السماوية.

نعم! ان اظهار هذه الاشارات العظيمة السماوية، وابراز مبارزة الشياطين للملائكة، مع إمكان طرد جواسيس الشياطين بنفخ من مَلَك، انـما هو لاظهار عظمة الوحي القرآني وعلوه ورفعه.

ثم ان هذا البيان القرآني الـمهيب، واظهار الـحشود السماوية العظيمة، ليس تعبيراً عن أن للجن والشياطين قوة واقتداراً بـحيث تسوق اهل السموات الى الـمبارزة والـمدافعة معهم، بل هي اشارة الى أنه لادخل للشياطين والـجن في أي موضع من مواضع هذا الطريق الطويل الـممتد من قلب الرسول الاعظم e الى عالـم السموات الى العرش الاعظم.

وبهذا يعبـّر القرآن الكريم عن ان الوحي القرآني حقيقة جليلة حقيق ان يكون موضع ذكر وبـحث لدى الـملأ الاعلى والـملائكة كلهم في تلك السموات الـهائلة، بـحيث يضطر الشياطين الى الصعود الى السموات لينالوا شيئاً من اخبارها فيرجـمون ولاينالون شيئاً.

فيشير القرآن الكريم بهذا الرجـم الى ان الوحي القرآني النازل على قلب مـحمد صلى الله عليه وسلم، وجبرائيل عليه السلام الذي نزل الى مـجلسه والـحقائق الغيبية الـمشهودة لنظره، سليمة، صائبة، صحيحة، لاتدخل فيها شبهة قط وفي أية جهة منها قط.

وهكذا يعبـّر القرآن الكريم عن هذه الـمسألة باعجازه البليغ.

أما مشاهدة الـجنة في أقرب الاماكن وقطف الثـمار منها احياناً، مع كونها بعيدة كل البعد عنا وكونها من عالـم البقاء، فبدلالة التمثيلين السابقين يُفهم:

ان هذا العالـم الفاني، عالـم الشهادة، حـجاب لعالـم الغيب وعالـم البقاء. انه يـمكن رؤية الـجنة في كل جهة مع أن مركزها العظيم في مكان بعيد جداً، وذلك بوساطة مرآة عالـم الـمثال. ويـمكن بوساطة الإيـمان البالغ درجة حق اليقين ان تكون للجنة دوائر ومستعمرات (لامشاحة في الامثال) في هذا العالـم الفاني ويـمكن أن تكون هناك مـخابرات واتصالات معها بالارواح الرفيعة وبهاتف القلب ويـمكن أن ترد منها الثـمار.

أما انشغال دائرة كلية بـحادثة شخصية جزئية، أي: ما ورد في التفاسير من ان الشياطين يصعدون الى السموات ويسترقون السمع هناك ويأتون باخبار غيبية ملفقة للكهان، فينبغي أن تكون حقيقته هكذا:

انه لا صعود الى عاصمة عالـم السموات لتلقي ذلك الـخبر الـجزئي، بل هو صعود الى بعض الـمواقع الـجزئية في جو الـهواء – الذي يشمله معنى السموات – والذي فيه مواضع بـمثابة مـخافر (لامشاحة في الامثال) للسموات، وتقع علاقات في هذه الـمواقع الـجزئية مع مـملكة الارض. فالشياطين يسترقون السمع في تلك الـمواقع الـجزئية لتلقي الاحداث الـجزئية، حتى ان قلب الانسان هو احد تلك الـمقامات حيث يبارز فيه ملك الالـهام الشيطان الـخاص.

أما حقائق القرآن والإيـمان وحوادث الرسول e ، فمهما كانت جزئية فهي بـمثابة اعظم حادثة واجلـّها في دائرة السموات وفي العرش الاعظم. حتى كأنها تنشر في الصحف الـمعنوية للـمقدرات الإلـهية الكونية (لا مشاحة في الامثال) بـحيث يذكر عنها ويبحث مسائلها في كل زاوية من زوايا السموات، حيث أنه ابتداءً من قلب الرسول الكريم علية الصلاة والسلام وانتهاءً الى دائرة العرش الاعظم مصون من أي تدخل كل من الشياطين.

فان القرآن مع بيانه لـهذا انـما يعبـّر بتلك الآيات الـجليلة أنه: لاحيلة ولا وسيلة للشيطان لتلقي اخبار السموات الاّ استراق السمع.

فيبين القرآن بهذا بياناً معجزاً بليغاً: ما اعظم الوحي القرآني وما اعظم قدره! وما اصدق نبوة مـحمد e وما اصوبها! حتى لا يـمكن الدنو اليهما بأية شبهة كانت وباي شكل من الاشكال.

سعيد النورسي

عبدالقادر حمود 02-02-2011 02:17 AM

رد: اللمعات
 
اللمعة التاسعة والعشرون

رسالة التفكر الإيـماني الرفيع

والـمعرفة التوحيدية السامية(1)

باسـمه سبحانه

اخوتي!

ان رسالة التفكر هذه جليل القدر. وان اطلاق الامام علي رضي الله عنه عليها – من جهة- اسم الآية الكبرى يبين قيمتها الرفيعة تـماماً.

فهي رسالة معرفة إيـمانية وردت الى القلب بعين اليقين، اثناء اذكار الصلاة. واثـمرت كثيراً من الرسائل. واصبحت غذاء للعقل والفكر وعلاجاً لـهما طوال ثلاثين سنة. فمن الأنسب أن تُدرج ضمن ((اللمعات)) وان تطبع منها اربعون او خـمسون نسخة مستقلة.

سعيد النورسي

سجن ((اسكي شهر)) قبل عشرين سنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمْنِ الرَّحيْمِ

وبه نستعين

الـحمد لله رب العالـمين والصلاة والسلام على سيدنا مـحمد

وعلى آله وصحبه اجـمعين.

ايضاح

لقد امتزج قلبي بعقلي منذ ثلاثة عشر عاماً ضمن انتهاج مسلك التفكر الذي يأمر به القرآن الـمعجز البيان كقوله تعالى } لعلكم تتفكرون{ } لعلهم يتفكرون{ } أَوَ لَم يَتَفَكـَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم مـَّا خَلَقَ اللهُ السـَّمَوَاتِ وَالأَرضَ.. { (الروم:8) } لآيات لقوم يتفكرون{ وامثالـها من الآيات التي تـحث على التفكر مثلما يـحث عليه حثاً عظيماً الـحديث الشريف كقوله e ((تفكر ساعة خير من عبادة سنة))(1).

ولقد تواردت في غضون هذه السنوات الثلاثين على عقلي وقلبي ضمن انتهاج مسلك التفكر، انوار عظيمة وحقائق متسلسلة طويلة. فوضعت بضع كلمات – من قبيل الاشارات – لا للدلالة على تلك الانوار، بل للاشارة الى وجودها ولتسهيل التفكر فيها وللمحافظة على انتظامها.

وكنت اردد بيني وبين نفسي تلك الكلمات لساناً بعبارات عربية في غاية الاختلاف. وعلى الرغم من تكراري لـها آلاف الـمرات خلال هذه الفترة الطويلة وانا انتهج هذا التفكر لـم يطرأ عليّ السأم ولـم يعتر ذوقها النقص، ولـم تنتف حاجة الروح اليها. لأن ذلك التفكر لـمعات تلمعت من آيات القرآن الكريم فتمثلت فيه جلوة من خصائص الآيات، تلك هي عدم الاستشعار بالسأم والـملل والـحفاظ على حلاوتها وطراوتها.

وقد رأيت في الآونة الاخيرة ان العقدة الـحياتية القوية والانوار الساطعة التي تـحتويها اجزاء رسائل النور ما هي الاّ لـمعات سلسلة ذلك التفكر، فنويت كتابة مـجموعها في اخريات ايام عمري، على أمل تأثيرها في غيري مثلما اثـّرت فيّ. وستكون لـمجموعها قوة وقيمة اخرى وإن ادرجت اهم اجزائها في الرسائل.

ولـما كان اخر الـمطاف في رحلة العمر غير معيـّن. وان اوضاعي في سجن ((اسكي شهر)) قد بلغت حداً أشد من الـموت بكثير، فقد كتبت تلك السلسلة من التفكر دون انتظار لآخر الـحياة، ودون تغيير فيها، وبناء على رغبة اخوة النور واصرارهم بقصد استفادتهم. وجعلتها في سبعة ابواب.

ولـما كانت الاكثرية الـمطلقة من هذا النوع من الـحقائق تـخطر بالبال اثناء اذكار الصلاة، وان كل كلمة من كلمات الاذكار بـمثابة منبع الـحقائق. كان ينبغي ان تكتب على وفق ترتيبها وتسلسلها في اذكار الصلاة، أي (سبحان الله والـحمد لله والله اكبر ولا اله الاّ الله) الاّ أن ظروف السجن الـمنفرد الـمضطربة آنذاك قد أخلـّت بذلك الترتيب.

أما الآن فستكون الابواب على النحو الآتي:

الباب الأول: في (سبحان الله)

الباب الثاني: في (الـحمد لله)

الباب الثالث: في (الله اكبر)

والباب الرابع: في (لا اله الاّ الله)

وذلك لأن معظم الشافعية يذكرون: (لا اله الاّ الله) ثلاثاً وثلاثين مرة بعد ذكرهم كلاً من سبحان الله، والـحمد لله، والله اكبر ثلاثاً وثلاثين مرة.

سعيد النورسي



































الباب الأول

في ((سبحان الله))

وهو ثلاثة فصول

(الفصل الأول)

بِسمِ الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

فَسُبْحانَك يا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ السـَّمآءُ بِكَلِمَاتِ نُجُومِهَا وَشُموُسِهَا وَ اَقَمَارِهَا بِرُمُوزِ حِكَمِهَا.

وَيُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الـجَوُّ بِكَلِمَاتِ سَحاباتِهِ وَرُعُودِهَا وَبُرُوقِهَا وَأمطَارِهَا، بِإشاراتِ فَوَائِدِهَا.

وَيُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ رأَسُ الأرضِ بَكَلِمَاتِ مَعَادِنِهَا وَ نَـبَاَتَاتِهاَ وَأشْجَارِهَا وَحَيْوَانَاتِهَا بِدَلالاتِ إنْتِظَامَاتِهَا.

وَتُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ النـَّبَاتَاتُ وَ اَلأشْجَارُ بِكَلِمَاتِ أوْرَاقِهَا وَأزهَارهَا وَ ثَمَرَاتِهَا، بَـتَصَرْيـحَاتِ مَنَافِعِهَا.

وَتُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الأزهَارُ وَالأثْمَارُ بِكَلِمَاتِ بُذُورِهَا وَأجْنِحَتِها وَ نَوَاتَاتِهَا، بِعَجَائبِ صَنْعَتِهَا.

وَتُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ النـَّواتَاتُ وَالبُذُورُ بَألسِنَةِ سَنَابِلِهَا وكَلِمَاتِ حَبـَّاتِهَا بالـُمشَاهَدةِ.

وَيُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ كـُلُّ نَـبَاتٍ بِغَايَةِ اْلوُضُوحِ وَالظـُهُورِ عِنْدَ انْكِشافِ أكمَامِها وَ تَـبَسـُّمِ بَنَاتِهَا بَأفْوَاهِ مُزَيـَّنَاتِ أزاهيرِهَا وَمُنْتَظَمَاتِ سَنَابِلِهَا، بِكَلِمَاتِ مَوْزُونَاتِ بُذُورِهَا وَمَنْظـُومَاتِ حَبـّاتِهَا، بِلِسَانِ نِظامِهَا في ميزانِهَا في تَنْظِيمِها في تَوْزِ يِـنِهَا في صَنْعَتِهَا في صِبغَتِها في زِينَتِهَا في نُقُوشِهَا في رَوَائِحِهَا في طعومِها في ألوَانِهَا في أشْكَالِهَا(1)، كَمَا تَصِفُ تَجَلـِّيَاتِ صِفَاتِكَ وتُعَرِّفُ جَلَواتِ أسـمآئِكَ وَتُفَسـِّرُ تَوَدُّدَكَ وَتُعَرُّفَكَ بِمَا يَتـَقَطـَّرُ مِنْ ظَرَافَةِ عُيُونِ أزاهيِرهَا وَمِنْ طَرَاوَةِ أسْنَانِ سَنـَابِلِهَا مِنْ رَشَحَاتِ لَمَعَاتِ جَلَوَاتِ تَوَدُّدِكَ وتَعَرُّفِكَ إلى عِبَادِكَ.

سُبْحانَكَ يَا وَدُودُ يا مَعْروُفُ مَا أحسَنَ صُنْعَكَ وَمَا أزيَنـَهُ وَمـَا أبْيَنـَهُ وَمَا أتْقَنَهُ!

سُبْحانَكَ يَا مَن تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ جَميعُ الأشْجَارِ بِكَمَالِ الصـَّرَاحَةِ وَالبَيـَانِ عِنْدَ انْفِتَاحِ أكمَامِهَا وَانْكِشافِ أزهَارِهَا وتَزايُدِ أورَاقِهَا وَتَكَامُلِ أثـمَارِهَا وَرَقْصِ بَنـَاتِهَا عَلى أيَادي أغْصَانهَا حَامدَةً بأفْوَاهِ أوراقِهَا الـخَضِرِةِ بِكَرمَكَ، وَأزهَارِهَا الـمُتَبـَسـّمَةِ بِلُطْفِكَ، وَاثـمَارِهَا الضـَّاحِكَةِ بِرِحْمَتِكَ، بِالسِنَةِ نِظَامِهَا في ميزَانِهَا في تَنْظيِمِهَا في تَوْزينهَا في صَنعَتِهَا في صِبْغَتِهَا في زِينَتِهَا في نُقُوشِهَا في طُعومِهَا في رَوَائحِهَا في ألوَانِهَا في أشكَالِهَا في اختِلافِ لُحُومِهَا في كَثْرَةِ تَنَوُّعِهَا في عَجَائبِ(2) خِلقَتِهَا كَمَا تَصِفُ صِفَاتِكَ وَتُعَرِّفُ أسْمَاءَكَ وتُفَسـِّرُ تَحَبـُّبَكَ وَ تَعـَهـُّدَكَ لِمَصنْوُعَاتِكَ بِمَا يَـتَـرَشـَّحُ مِنْ شِفَاهِ ثِمَارِهَا مِنْ قَطَراتِ رَشَحَاتِ لَـمَعَاتِ جَلَـوَاتِ تَـحَبـُّبِكَ وتَعَهـُّدِكَ لِمَخْلُوقَاتِكَ.

حَتـّى كَأنَّ الشـَّجَرَ الـمُزَهـَّرَةَ قَصيِدَةٌ مَنْظُومَةٌ مُحَرَّرَةٌ، لِتُنْشِدَ للِصـَّانعِ الـمَدَائِحَ الـمُبَهـَّرَةَ.

أو فَتَحَتْ بِكَثْرَةٍ عُيُونُهَا الـمُبَصـَّرَةُ لِتَنْظـُرَ للفَاطِرِ العَجَائِبَ الـمُنشـَّرَةَ.

أوْ زَيـَّنَتْ لِعيِدِهَا أعْضَاءهَا الـمُخَضـَّرَةَ لِيَشْهَدَ سُلْطَانُهَا آثَارَهَا الـمُنَوَّرَة. وَتُشْهِرَ في الـمَشْهَرِ مُرَصـَّعَاتِ الـجَوْهَرِ. وتَعُعْلِنَ للِبَشَرِ حِكْمَةَ خَلْقِ الشَجَرِ.

سُبْحَانَكَ مَا أحْسَنَ إحْسَانَكَ مَا أبْيَنَ تِبْيَانَكَ مَا أبْهَرَ بُرْهَانَكَ ومَا أظـْهَرَهُ ومَا أنْوَرَهُ!. سُبْحَانَكَ مَا أعْجَبَ صَنْعَتـَكَ!

تَلألُؤُ الضـِّيآءِ بدَلاَلَةِ حِكَمِهَا؛ مِنْ تَنْوِيؤِكَ، تَشْهِيرِكَ.. تَمَوُّجُ الاعْصَارِ بِسِرّ وَظَائِفِهَا – خُصُوصَاً في نَقْلِ الكَلِمَاتِ – مِنْ تَصْرِيفِكَ تَوْظِيفِكَ.. تَفَجـُّرُ الانْهَارِ بإشَارَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ تَدْخِيرِكَ، تَسْخِيرِكَ.. تَزَيـُّنُ الاحْجَارِ والـحَدِيدِ بِرمُوُزِ خَوَاصـِّهَا وَمَنـَافِعِها – خُصُوصاً فِي نَقْلِ الأصْواتِ والـمُخَابَرَاتِ – مِن تَدْبِيِرِكَ، تَصْوِيِرِكَ.. تَـبَسُّمُ الأزهَارِ بِعَجَائِبِ حِكَمِهَا؛ مِنْ تَحْسِينِكَ، تَزْيِينِكَ.. تَبَرُّجُ الاثـْمَارِ بِدلالَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ إنْعَامِكَ، إكْرَامِكَ.. تَسَجـُّعُ الأطْيَارِ بِإشَارَةِ إنْتِظَامِ شَرائَطِ حَيَاتِهَا؛ مِنْ إنطَاقِكَ إرفَاقِكَ.. تَهَزُّجُ الأمْطَارِ بِشَهَادَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ تَنْزِيِلكَ، تَفْضِيِلكَ.. تَحَرُّكُ الأقْمَارِ بِشَهَادَةِ حِكَمِ حَرَكَاتِهَا؛ مِنْ تَقْدِيرِكَ، تَدْبِيرِكَ، تَدْوِيرِكَ، تَنْوِيرِكَ.

سُبْحانَكَ مَا أنْوَرَ بُرهَانَك مَا أبْهَرَ سُلطَانَكَ!

(الفصل الثاني)

سُبْحَانَكَ لآ اُ حْصِي ثَنـَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ فيِ فُرْقَانِكَ. وَأثنَى عَلَيْكَ حَبِيبُكَ بِإذْنِكَ. وَأثنتْ عَلَيْكَ جَميِعُ مَصنْوُعَاتِكَ بإنْطَاقِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا عَرَفْنَاكَ حقَّ مَعْرِفَتِكَ يا مَعْروُفُ بِمُعْزَاتِ جَميعِ مَصنوُعَاتِكَ وَبِتَوصِيفَاتِ جَميعِ مَخْلُوقَاتِكَ وَبِتَعْرِيِفَاتِ جَميعِ مَوْجُوُداتِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا ذَكَرْنَاكَ حَقَّ ذِكْرِكَ مَذْكُورُ بِألسِنَةِ جَميعِ مَخلُوقَاتِكَ وَبِأنفُسِ جَميعِ كَلِمَاتِ كِتَابِ كَائِنَاتِكَ وَبِتَحـَّياتِ جَميعِ ذَويِ الـحَيـَاةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِك لَك وَبِمَوْزُنَاتِ جَميعِ الاورَاقِ الـمُهْتَزَّةِ الذّاكِرَةِ في جَميعِ أشْجاَرِكَ ونَبـَاتَاتِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا شَكَرْنَاكَ حَقَّ شُكْرِكَ يا مَشْكُورُ بِأثِنيـَةِ جَميعِ إحْسَانَاتِكَ عَلى إحْسَانِكَ عَلى رُؤسِ الأشْهَادِ وَبِاعْلانَاتِ جَميعِ نِعَمِكَ عَلى إنْعَامِكَ في سُوقِ الكَائنَاتِ وَبِمَنْظـُومَاتِ جَميعِ ثَمَرَاتِ رَحْمَتِكَ وَنِعْمَتِكَ لَدى أنْظَارِ الـمَخْلـُوقَاتِ وبِتَحْمِيدَاتِ جَميعِ مَوْزُونَاتِ أزاهيركَ وَعَنـَاقيدِكَ الـمُنَظـَّمَةِ في خُيُوطِ الأشْجَارِ وَالنَـبَاتَاتِ.

سُبْحَانَكَ مَا أعظَمَ شَأنَكَ وَمَا أزيَنَ بُرْهَانَكَ وَمَا أظْهَرَهُ وَمَا أبـْهَرهُ!

سُبْحَانَك مَا عَبَدْنَاكِ حَقَّ عِبَادَتِكَ يَا مَعْبُودَ جَميعِ الـمَلئِكَةِ وجَميعِ ذَوي الـحَيـَاةِ وجَميعِ العَنـَاصِرِ والـمَخْلُوقَاتِ، بِكَمَالِ الاطَاعَةِ والامْتِثَالِ والانتِظَامِ والاتـِّفَاقِ والاِشْتِيَاقِ.

سُبْحَانَكَ مَا سَبـَّحْنَاكَ حَقَّ تَسْبيحكَ يا مَنْ } تُسَبـِّحُ لهُ السـَّمواتُ السـَّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فيهنَّ وَإنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبـِّحُ بِحَمْدِه { (الاسراء:44).

سُبحَانَكَ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ السـَّمآءُ وَلأرضُ بِجَميعِ تَسْبيِحاتِ جَميعِ مَصْنوُعَاتِكَ وَبِجَميعِ تَحْميِدَاتِ جَميعِ مَخْلُوُقَاتِكَ لَكَ.

سُبْحَانَكَ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الأرضُ وَالسـَّمَآءُ بِجَميعِ تَسْبيِحَاتِ جَميعِ أنْبيَائِكَ وَأولِيَائِكَ وَمَلائِكَتِكَ عَليِهِمْ صَلَوَاتُكَ وَتَسْليِمَاتُكَ.

سُبْحَانَكَ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الكَائِنَاتُ بِجَميعِ تَسْبيِحَاتِ حَبيبِكَ الأَكْرَمِ e . وَبِجَميعِ تَحْميِدَاتِ رَسُولِكَ الأعْظَمْ لَكَ، عَلَيهِ وَعَلى آلهِ أفْضَلُ صَلَوَاتِكَ وَأتَمُ تَسْلِيمَاتِكَ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ هذِهِ الكَائِنَاتُ بِأصْدِيَةِ تَسْبيِحَاتِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ والسـَّلامُ لَكَ؛ إذْ هُوَ الـَّذِي تتَمَوَّجُ أصْدِيَةُ تَسْبيحَاتِهِ لَكَ عَلى لأمْوَاجِ الأعْصَارِ واَفْوَاجِ الأَجْيَالِ.

الـَّلهُمَّ فَأبـِّدْ عَلى صَفَحَاتِ الكَائِنَاتِ وَأوْرَاق الاوْقَاتِ إلى قَيامِ العَرَصَاتِ أصْدِيَةَ تَسْبيحَاتِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاَةُ والتَسْليماتُ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الدُنْيَا بِآثَارِ شَريِعَةِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ. اَلـَّلهُمَّ فَزَيـِّنِ الدُّنيَا بِآثارِ دِيَانَةِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ اِلى يَوْمِ القِيَامِ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الأرضُ سَاجِدَةً تَحتَ عرْشِ عَظَمَةِ قُدْرَتِكَ بِلِسَانِ مُحَمـَّدِهَا عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ.

اَلـَّلهُمَّ فَأنْطِقِ الأرضَ بِاقْطَارِهَا بِلِسَانِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ اِلى يَوْم البَعْثِ والقيَامِ.

سُبْحَانَكَ يَا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ جَميعُ الـمُؤمِنينَ وَالـمُؤْمِنَاتِ في جَميعِ الأمْكِنَةِ وَالاوْقَاتِ بِلِسَان مُحَمـَّدِهِمْ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ.

اللـَّهُمَّ فَاَنْطِقِ الـمُؤمِنِينَ وَالـمُؤمِنَاتِ اِلى يَومِ القِيَامِ بِأصْدِيَةِ تَسْبيحَاتِ مُحَمـَّدٍ لك عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ.

(الفصل الثالث)

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الوَاحِدِ الأحَدِ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزّهِ عَنِ الاضْدَادِ وَالأنْدَادِ وَالشُرَكَاءِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ القَدِيِرِ الأزَليّ الـمُتَـقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عِنِ الـمُعينِ وَالوُزَرَاءِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ القَدِيمِ الأزَليِّ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَنـَزِّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الـمُحْدثَاتِ الزَّائِلاَتِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الوَاجِبِ وُجُوُدُهُ الـمُممْْتَنِعِ نَظيرُهُ الـمُمكِنِ كُلُّ مَا سِوَاهُ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَنـَزِّهِ عَنْ لَوَازِمِ ما هيـَّاتِ الـمُمْكِنَاتِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الـَّذي } لَيسَ كَمِثِلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السـَّميعُ البَصيِرُ{ (الشورى:11) الـمُتَقَدِّسُ الـمُتَـنَزِّهُ عَمـَّا تَتـَصوَّرُهُ الأوْهَامُ القَاصِرَهُ الـخَاطِئَةُ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الـَّذي } وَلَهُ الَمَثَلُ الأَعلَى فِي السـَّموَاتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ { (الروم:27) الـمُتَقَدِّسُ الـمُتَـنَزِّهُ عَمـَّا تَصِفُهُ العَـقَائِدُ النَاقِصَةُ البَاطِلَةُ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ القَديِرِ الـمُطْلَقِ الغَنـيِّ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ العَجْزِ والاحْتِياجِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الكاملِ الـمُطْلَقِ في ذاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأفْعالِهِ الـمُتَقـَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ القُصًورِ والنـُّقْصَانِ، بِشَهَادَاتِ كَمَالاتِ الكائِنَاتِ. إذْ مَجْمُوعُ مَا في الكائِنَاتِ مِن الكَمالِ وَالـجَمَالِ ظِلُّ ضَعيفٌ بِالنـّسْبَةِ الى كَمَالهِ سُبْحَانَهُ، بالـحَدْسِ الصـَّادِقِ وَبِالبُرْهَانِ القَاطِعِ وبالدَّليل الوَاضِحِ. إذِ التـَّنْويرُ لا يَكُونُ إلاّ مِنَ النـُّورانِيِّ وبِدَوَامِ تَجَلـّي الـجَمَالِ وَالكَمَالِ مَعَ تَفَانِي الـمَرَايا وسَيـَّاليـَّةِ الـمَظَاهِرِ وبِاجْمَاعِ وَاتـِّفَاقِ جَمَاعَةٍ كَثيرَةٍ مِنَ الأعَاظِمِ الـمُخْتَلِفِينَ في الـمَشَارِبِ والكَشْفِيـَّاتِ الـمُتـَّفِقِينَ عَلى ظِلـّيـَّةِ كَمَالاتِ الكِائِنـَاتِ لأنْوَارِ كَمالِ الذَاتِ الوَاجِبِ الوُجُودِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الاَزَليِّ الأبَديِّ السـَّرْمَديِّ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ التـَّغَيـُّرِ والتـَّبِدُّلِ اللاّزِمَيْنِ للمُحْدَثَاتِ الـمُتَجَدّدات الـمُتكامِلاتِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ خَالِقِ الكَوْنِ وَالمَكَانِ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ التـَّحَيـُّز وَالتـَّجَزُّءِ اللاَّزِمَيْنِ للمَادّيـَّاتِ وَالـمُمْكِنَاتِ الكَثيِفَاتِ الكَثيِراتِ الـمُقَيـَّدَاتِ الـمَحْدُودَاتِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ القَديِمِ الباقِي الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ الـحُدُوثِ وَالزَّوَالِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الوَاجِبِ الوُجُودِ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ الوَلَدِ وَالوَالِدِ وَعَنِ الـحُلُول والإتـّحَادِ وَعَنِ الـحَصْرِ وَالتـَّحْدِيدِ وَعَمـَّا لا يَليِقُ بِجَنَابِهِ وَمَا لايُنَاسِبُ وَجوُبَ وُجُودِهِ وَعَمـَّا لا يُوَاقِقُ اَزَلِيـَّتَهُ وَ اَبَدِيـَّتَهُ.

جَلَّ جَلالُهُ. وَلآ إلهَ إلاّ هُوَ.







الباب الثاني

في ((الـحَمْدُ لله..))(1)

في هذا الباب تسع تقاط..



النقطة الأولى:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نِعَمَةِ الإيَمانِ الـمُزيلِ عَنـَّا ظُلُمَاتِ الجِهَاتِ السـِّتّ.

إذْ جِهةُ الـمَاضِي في حُكْمِ يَميننا مُظْلِمَةٌ وَمُوحِشَةٌ بِكَونِهَا مَزَاراً أكبَرَ. وبِنِعْمَةِ الإيـمانِ تَزُولُ تـِلكَ الظـُّلْمَةُ وَيـَنْكَشِفُ الـمَزَارُ الأكْبَرُ عَنْ مَجْلِسٍ مُنَوَّرٍ.

وَ يَسَارُنَا الـَّذي هُوَ الـجِهَةُ الـمُسْتَقْبَلَةُ، مُظْلِمَةٌ وَمُوحِشَةٌ بِكَوْنِهَا قَبراً عَظيمَاً لَنَا. وبِـنِعْمَةِ الإيَمانِ تَنْكَشِفُ عَنْ جـِنـَانٍ مُزَيـَّنَةِ فيهَا ضِيافَاتٌ رَحْمَانـَّيةٌ.

وَجِهَةُ الفَوقِ وَهُوَ عَاَلـَمُ السـَّمواتِ مُوحِشَةٌ مُدْهِشَةٌ بِنَظَرِ الفَلسَفَةِ. فَبِنِعْمَةِ الإيـمَانِ تتَكَشـَّفُ تِلكَ الـجِهَةُ عَنْ مَصابِيحَ مُتـَبـَسـِّمَةٍ مُسَخـَّرةٍ بِأمْرِ مَنْ زَيـَّنَ وَجه السـَّماءِ بِهَا يُسْتَأنَسُ بـِهـَا وَلا يُتَوَحـَّشُ مِنْهَا.

وَجِهَةُ الـتَّحْتِ وَهيَ عَالَمُ الأرضِ مُوحِشَةٌ بِوَضْعيـَّتِهَا في نَفْسِهَا بِنَظَرِ الفَلسَفَةِ الضـَّالـَّةِ. فَبِنعْمَةِ الإيـمَانِ تَتكَشـَّفُ عَنْ سَفينَةٍ رَبـَّانيَةٍ مُسَخـَّرَةٍ وَمَشْحُونَةٍ بِاَنْوَاعِ اللـّذَائِذِ والـمَطْعُومَاتِ؛ قَدْ اَركَبَهَا صَانِعُهَا نَوعَ البَشَرِ وَجِنسَ الـحَيَوَانِ للسـَّياحَةِ في أطْرَافِ مَملَكَةِ الرَّحْمنِ.

وَجِهَةُ الأمَامِ الـَّذي يَتـَوَجَهُ الى تِلكَ الجِهَةِ كُلُّ ذَوي الـحَـيَاةِ مُسْرِعَةً قَافِلَةً خَلفَ قَافِلَةٍ، تَغيبُ تِلكَ القَوافِلُ في ظُلُمَاتِ العَدَمِ بِلا رُجُوعٍ. وَبِنـِعْمـَةِ الإيَمَان تَتَكَشـَّفُ تِلكَ السِياحَةُ عَنِ انتِقَالِ ذَوي الـحَياةِ مِنَ دَارِ الفَنَاءِ الى دَارِ البَقآءِ، وَمِنْ مَكَانِ الـخِدْمَةِ اِلى مَوضِعِ أخْذِ الأُجْرَةِ، وَمِنْ مَحَلِّ الزَّحْمَةِ الى مَقامِ الرَّحْمَةِ والاستِرَاحَةِ. وَأمَا سُرعَةُ ذَوي الـحَيـَاةِ في أمْوَاجِ الـمَوتِ، فَلَيْسَتْ سُقوُطاً وَمـُصيبـَةً، بل هِيَ صُعٌودٌ باشتِيِاقٍ وَتـَسَارُعٌ اِلى سَعادَاتِهِمْ.

وَجِهَةُ الـخَلْفِ ايضاً مُظْلِمَةٌ مُوحِشَةٌ. فَكُلُّ ذي شُعُورٍ يَـتَحيـَّرُ مُتَرَدِّداً ومُستَفْسِراً بـ ((مِنْ أينَ ؟ إلى أينَ؟)). فلأَنَّ الغَفْلَةَ لا تُعْطي لهُ جَوَابَاً، يَصيرُ التَرَدُّدُ والتـَّحَيـُّرُ ظُلُمَاتٍ في رُوحِهِ.. فَبِنِعْمَةِ الإيـمَانِ تَنْكَشِفُ تِلكَ الـجِهَةُ عَنْ مَبْدَإِ الانْسَانِ وَوَظيفَتِهِ، وَبِأنَّ السُّلطَانَ الاَزَليَّ أرسَلَهُمْ مُوَظَفينَ الى دَارِ الامْتِحَانِ..

فَمِنْ هذه الـحَقيقَة يَكوُنُ ((الـحَمْدُ)) عَلى نِعْمَةِ الإيـمَانِ الـمُزيلِ للِظـُّلُمَاتِ عَنْ هذِه الـجِهَاتِ السـِّتِّ أيضاً نِعْمَةً عَظيمَةً تَسْتَلْزِمُ ((الـحَمْدَ)). إذْ بـ((الـحَمْدِ)) يُفْهَمُ دَرَجَةُ هذِهِ النـَّعْمَةِ وَلَـذَّتُهَا. فَالـحَمْدُ لله عَلى ((الـحَمْدُ للهِ في تَسَلسُلٍ يَـتَسَلسَلُ في دَوْرٍ دَآئرٍ بِلا نِهَايَةٍ)).

النقطة الثانية:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نِعْمَةِ الإيـمَانِ الـمُنَوِّرِ لَنَا الـجِهَاتِ السِّتَّ. فَكَمَا أنَّ الإيـمَانَ بإزَالَتِهِ لِظُلُمَاتِ الـجِهَاتِ السِّتِّ نِعْمَةٌ عَظيِمَةٌ مِنْ جِهَةِ دَفْعِ البَلايا؛ كَذَلِكَ أنَّ الإيـمَانَ لِتَنْوِيرِهِ لِلَجِهَاتِ السِّتِّ نِعْمَةٌ عَظيِمَةٌ اُخْرى مِنْ جِهَةِ جَلْبِ الـمَنَافِعِ. فَالانسَانُ لعلاَقَتهِ بِجَامِعيـَّةِ فِطْرَتِهِ بِمَا في الـجِهَاتِ السِّتِّ مِنَ الـمَوجُودَاتِ. وَبِـنِعْمَةِ الإيـمَانِ يُمْكِنُ لِلإنسَانِ اِسْتِفَادَةٌ مِنْ جِميعِ الـجِهَاتِ السِّتِّ أيْنَمَا يَـتَوَجـَّهُ. فَبِسِرِّ } فأيَنما تُوَلُوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ { (البقرة:115) تَـتَـنَوَّرُ لهُ تِلكَ الـجِهَةُ بِمَسَافَتِهَا الطـَّوِيلَةِ بِلاَ حَدٍّ. حَتـَّى كأَنَّ الانسَانَ الـمُؤْمِنَ لَهُ عُمْرٌ مَعْنَوِيٌّ يَمْتَدُّ مِنْ أوَلِ الدُّنيَا إلى آخِرِهَا، يَسْتـَمِدُّ ذَلِكَ العُمْرُ من نُور حَيـَاةٍ مُمْتَدَّةٍ من الأزَلِ الى الأبَدِ. وحتى إنَّ الإنسَانَ بسرِّ تَنْويرِ الإيـمَانِ لِجِهَاتِهِ يَخْرُجُ عَنْ مَضِيقِ الزَّمَانِ الـحَاضِرِ وَالـمَكَانِ الضـَّيـِّقِ الى سَاحَةِ وُسْعَةِ العَالَم، ويَسيرُ العَالَمُ كَبَيتِهِ، والـمَاضِي وَالـمُسْتَقْبَلُ زَمَانَاً حَاضِرَاً لِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ. وَهَكَذا فَقِسْ…

النُقطة الثالثة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى الإيـمَانِ الـحَاوي لِنُقطَتَي الاسْتِنَاد وَالاسْتِمْدَادِ.

نَعَمْ، بِسِرِّ غَايَةِ عَجْزِ البَشَرِ وَكَثَرةِ أعْدَائِهِ يَحتَاجُ البَشَرُ أشَدَّ احتِيَاج إلى نُقطَةِ اسْتِنَادٍ يَلْتَجِىءُ إلَيْهِ بِدَفْعِ أعْدآئِهِ الغَيْر(1) الـمَحْدُودَةِ، وَبِغايَةِ فَقْرِ الانسَانِ مَعَ غَايَةِ كَثَرةِ حاجَاتِهِ وَآمَالِهِ يَحْتَاجُ أشَدَّ احتِيَاجٍ الى نُقطَةِ اسْتِمدَادٍ يَستَمِدُّ مِنْهَا، وَيـَسْألُ حَاجَاتِهِ بِهَا.

فَالإيَمَانُ باللهِ هِيَ نُقطَةُ اسْتِنَادٍ لِفِطَرةِ البَشَر. وَالإيـمَانُ بِالآخِرَةِ هُوَ نُقطَةُ اِسْتِمدَادٍ لِوِجْدَانِهِ. فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَاتَينِ النـُّقطَتَينِ يَـتَوَحـَّشُ عَلَيهِ قَلبُهُ وَرُوحُهُ، ويَعُذِّبُهُ وِجدَانُهُ دآئِماً. وَمَنْ اسْـتَـنَدَ بالإيـمَانِ إلى النُقطَةِ الاوُلَى، وَاسْتَمَدَّ مِنَ النُقطَةِ الثـَّانِيَة أحسَّ مِنْ أعْماقِ رُوحِهِ لَذَائِذَ مَعْنَويـَّةً وَأُنْسِيَةً مُسَلـّيَةً وَاعْتِمَاداً يَطْمَئِنُّ بِهَا وِجْدَانُهُ.



النُقطة الرابعة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نُورِ الإيـمَانِ الـمُزيلِ للآلآمِ عَنِ اللـَّذَائِذِ الـمَشْرُوعَةِ بِإراءَةِ دَوَرَانِ الامْثَالِ، وَالـمُدِيمِ للنـِّعَم بِإراءَةِ شَجَرَةِ الإنْعَامِ، وَالـمُزيلِ آلامَ الفِرَاقِ بإراءةِ لَذَّةِ تَجَدُّدِ الامثَالِ. يَعْنِي أنَّ في كُلِّ لَذَّةٍ آلاماً تَنشَأ مِنْ زَوَالِهَا. فَبِنُورِ الإيـمَانِ يَزُولُ الـزَّوَالُ، وَيـَـنَقَلِبُ الى تَجَدُّدِ الامثَالِ. وَفي التـَّجَدُّدِ لّذَةٌ أُخرى..

فَكَمَا أنَّ الثـَّمَرَةَ إذا لَمْ تُعْرَفْ شَجَرَتُهَا تَنْحَصِرُ النـِّعْمَةُ في تِلك الثـَّمَرَةِ. فَتَزُولُ بِأكْلِهَا. وَتُورِثُ تَأسـُّفاً عَلى فَقْدِهَا. وإذا عُرِفَتْ شَجَرَتُها وَشُوهِدَتْ، يَزُولُ الاَلَمُ في زَوَالِهَا لِبَقَاءِ شَجَرَتِهَا الـحَاضِرَةِ، وَتَبْديلِ الثـَّمَرَةِ الفَانِيَةِ بِأمْثَالِهَا. وَكَذَا إنَّ مِنْ أشَدِّ حَلاتِ رُوحِ البَشَرِ هِيَ التـَّألـُّمَاتُ النـَّاشِئَةُ مِنَ الفِرَاقَاتِ. فَبِنُورِ الإيـمَانِ تَفتَرِقُ الفِرَاقَاتُ وَتَـنْعَدِمُ. بَل تَنْقَلِبُ بِتَجَدُّدِ الامثَالِ الـذَّي فيهِ لذَّةٌ أُخرى إذ ((كُلُّ جَدَيدٍ لَذِيذٌ))...

النقطة الـخامسة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نُورِ الإيـمَانِ الـذَّي يُصَوِّرُ مَا يُتَوَهـَّمُ أعْدآءً وَاجَانِبَ وَامْوَاتَاً مُوحِشينَ، وَايْتَاماً باكين مِنَ الـمَوجُودَاتِ، أحْبَاباً وإخْوَانَاً وَأحْيَاءً مُونِسِينَ، وَعِبَادَاً مُسَبِّحينَ ذَاكِرِينَ..

يَعْني أنَّ نَظَرَ الغَفلَةِ يَرى مَوجُودَاتِ العَالَمِ مُضرِّينَ كَالاَعْداءِ وَيـَـتَوَحـِّشُ مِنْ كُلِّ شىءٍ، وَيـَرَى الاَشْيَآءَ كَالاجانِبِ. إذْ في نَظَرِ الضـَّلاَلَةِ تَنْقَطِعُ عَلاَقَةُ الاُخُوَّةِ في كُلِّ الاَزمِنَةِ الـمَاضِيَةِ وَالاسْتِقْبَاليـَّةِ. وَمَا اُخُوَّتُهُ وَعَلاقَتُهُ إلاّ في زَمَانٍ حَاضِرٍ صَغيرٍ قَليِلٍ. فاُخُوَّةُ أهْلِ الضـَّلالَة كَدقَيقَةٍ في اُلُوفِ سَنَةٍ مِنَ الاجْنَبِيـَّةِ. وَاُخُوَّةُ أهْلِ الإيـمَانِ تَمتَدُّ مِنْ مَبْدَإِ الـمَاضِي إلى مُنتهَى الاسْتِقبَالِ. وَاِنَّ نظَرَ الضـَّلالَةِ يَرى أجْرَامَ الكائِنَاتِ أمْوَاتَاً مُوحِشينَ. وَنـَظَرَ الإيـمَان يُشَاهِدُ اُولئكَ الاجْرَامَ أحْياءً مُونِسينَ يَـتَكَلـَّمُ كُلُّ جرْم بِلِسَانِ حالِهِ بِتَسْبيحَاتِ فاطِرِهِ. فَلَها رُوُحٌ وحَيَاةٌ مِنْ هذِهِ الـجِهَةِ. فَلا تَكُونُ مُوحِشَاً مَدْهِشَاً، بلْ انيسَاً مُونِساً. وَانَّ نَظَرَ الضـَّلالَةِ يَرَى ذَوي الـحَيَاةِ العَاجِزينَ عَنْ مَطَالِبِهمْ لَيسَ لَهُمْ حَامٍ مُتَوَدِّدٌ وَصَاحِبٌ مُتَعَهـِّدٌ. كَأنَهَا أيتَامٌ يَبكُونَ مِنْ عَجْزِهِمْ وَحُزْنِهِمْ وَيَأسِهِمْ. وَنَظَر الإيـمَانِ يَقُولُ: إنَّ ذَوي الـحَيَاةِ لَيسُوأيتَامَاً بَاكينَ، بَل هُمْ عِبَادٌ مُكَلـَّفُونَ وَمَأمُورونَ مُوَظـَّفُونَ وَذَاكِرونَ مُسَبـِّحُونَ.

النُقطة السادسة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نُورِ الإيـمَانِ الـمُصَوِّرِ للدَّارَينِ كَسُفرَتـَينِ مَمْلـُوءتَينِ مِنَ النـِّعَمِ يَستَفِيدُ مِنْهُمَا الـمُؤمِنُ بيَدِ الإيـمَانِ بِأنوَاعِ حَوَاسـِّهِ الظَاهِرةِ وَالبَاطِنَةِ، وَ اَقسَامِ لَطَائِفِهِ الـمَعنَويَةِ وَالرُوحِيَةِ الـمُنْكَشِفَةِ بَضِيَاءِ الإيـمَانِ.

نَعَمْ: إنَّ في نَظَرِ الضـَّلالَةِ تتَصَاغَرُ دائِرَةُ اسْتِفَادَةِ ذَوي الـحَيَاة الى دائِرَةِ لَذائِذهِ الـْمَادِّيـَّة الـمُنَغـَّصَةِ بِزَوَالِهَا. وَبِنُورِ الإيـمَانِ تتَوَسـَّعُ دَائِرَةُ الاسْتِفَادَةِ الى دآئِرَةِ تُحيطُ بِالسـَّمَواتِ وَالارضِ بَلْ بِالدُّنيَا وَالآخِرَةِ. فَالـمُؤمِنُ يَرى الشـَّمسَ كَسِراجٍ في بَيْتِهِ وَرَفيقَـاً في وَظيفَتِهِ وأنِيسَاً في سَفَرِهِ؛ وَ تَكُونُ الشـَّمْسُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِةً. وَمَنْ تَكُونُ الشـَّمْسُ نِعْمَةً لَهُ؛ تَكُونً دائِرَةُ استِفَادَتِهِ وَسُفرَةُ نِعَمَتِهِ أوسَعَ مِنَ السـَّمَواتِ.

فَالقُرآنُ الـمُعْجِزُ البَـيَانِ بِامثَالِ } وَسَخـَّرَ لَكُمُ الشـَّمسَ وَالقَمَرَ ` وَسَخـَّرَ لَكُمْ مَا في البَرِّ والبَحرِ { يُشيِرُ ببَلاَغَتِهِ إلى هذِهِ الإحسانَاتِ الـخَارِقَةِ النَاشِئَةِ مِنَ الإيـمَانِ.

النقطة السابعة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى اللهِ. فَوُجُودُ الوَاجِبِ الوُجوُدِ نِعْمَةٌ لَيسَتْ فَوقَهَا نِعْمَةٌ لِكُلِّ أحدٍ ولِكُلِّ مَوجُودٍ. وهذِهِ النـِّعْمَةُ تَـتَضَمـَّنُ أنوَاعَ نِعَمِ لا نِهَايَةَ لَهَا، وَأجْنَاسِ إحْسَانَاتٍ لا غَايَةَ لَهَا، وأصْنَافَ عَطـَّياتٍ لا حَدَّ لَهَا.

قد اشير الى قسم منها في اجزاء ((رسالة النور)) وبالـخاصة (في الـموقف الثالث من الرسالة الثانية والثلاثين). وكل الرسائل الباحثة عن الإيـمان بالله من أجزاء رسالة النور تكشف الـحجاب عن وجه هذه النعمة. فإكتفاءً بها نقتصر هنا.

الـحَمْدُ للهِ عَلى رَحْمَانِيـَّتِهِ تَعَالى التي تَـتَضَمـَّنُ نِعَمَاً بَعَدَدِ مَنْ تَـعَلـَّقَ بِهِ الرَّحْمَةُ مِنْ ذَوي الـحَياة. إذ في فِطَرةِ الانسَانِ بِسِرِّ جَامِعيـَّتِهِ عَلاقَاتٌ بِكُلِّ ذَوي الـحَيَاة تَحصُلُ لَهُ سَعَادَةٌ مَعْنويـَّةٌ بِسَبـَبِ سَعَادَاتِهِمْ. وَفي فِطَرتِهِ تَأثـُّرٌ بِآلامِهِمْ. فَالنـِّعْمَةُ عَليهِم تـَكوُنُ نَوعَ نِعْمَةِ لِذلِكَ الانسَانِ.

والـحَمْدُ للهِ عَلى رَحِيمِيـَّتِهِ تَعَالى بَعَدَدِ الاطفَالِ الـمُنْعَمِ عَلَيهِمْ بِشَفقَاتِ والِدَاتِهِمْ. إذ كَمَا أنَّ كُلُّ مَنْ لَهُ فِطرَةٌ سَليمَةٌ يَـتَألـَّمُ وَ يَـتَوَجـَّعُ مِنْ بُكَاءِ طِفلٍ جَائِع لا وَالِدَةَ لـّهُ؛ كذَلِكَ يَـتَـنَعـَّمُ بِتَعَطـُّفِ الوَالِداتِ عَلى أطفَالِهَا.

الـحَمْدُ للهِ عَلى حَكيِميـَّتِهِ تَعَالى بِعَدَدِ دقَائِقِ جِميعِ أنوَاعِ حِكمَته في الكائنَاتِ. إذْ كمَا تـَتـَـنَعـَّمُ نَفْسُ الإنْسَانِ بِجَلَوَاتِ رَحْمانِيـَّتِهِ، ويـَتـَـنَعـَّمُ قَلبُ الانسَانِ بِتَجَلـَّيَاتِ رَحيِميـَّتِهِ؛ كَذَلِك يـَتـَلَذَّذُ عَقلُ الانسَانِ بِلَطَائفِ حِكمتِهِ.

الـحَمْدُ للهِ عَلى حَفيِظيـَّتِهِ تَعَالى بِعَدَدِ تَجَلـِّيَاتِ اسـمِهِ ((الوَارِثِ))، وبِعَدَدِ جَميعِ مَا بَقيَ بَعدَ فَوَاتِ اُصُولِهَا وَابآئهَا وَصَواحِـبِهَا، وَبِعَدَدِ مَوجُودَاتِ دَارِ الآخِرَةِ، وبِعَدَدِ آمَالِ البَشَرِ الـمَحْفُوظَةِ لاَجلِ الـمُكافأةِ الاُخرَويـَّةِ. إذْ دَوَامُ النـِّعْمَةِ اعْظَمُ نعمَةً مِنْ نَفسِ النـِّعْمَةِ وَبَـقَاءُ الـَّلـذَّةِ لـَذَةٌ أعلى لـَذَّةً مِنْ نَفسِ اللـَّذَّةِ؛ والـخُلودُ في الـجـَنـَّةِ نِعْمَةٌ فَوْقَ نَفْسِ الـْجَنـَّةِ. وهَكَذا.

فَحَفِيظـِيـَّتُهُ تَعَالى تـَتـَضَمـَّنُ نِعَماً اَكَثَر وَ اَزيَدَ وَ اَعلى مَنْ جَميعِ النـِّعَمِ عَلى الـمَوجُوداتِ في جَميعِ الكائِنَاتِ.

وهكَذا، فَقِسْ عَلى اسمِ ((الرَّحـمن والرَّحيمِ وَالـحَكيِمِ وَالـحَفيِظِ)) سآئِرَ أسْمَائِهِ الـحُسْنى.

فالـحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ اسم مِنْ أسْمآئِهِ تَعَالى حَمداً بِلا نِهايَةٍ. لِمَا أنَّ في كُلِّ اسم منها نِعَمَاً بِلا نِهَايَةٍ.

الـحَمْدُ للهِ عَلى القُرآنِ الـَّذي هُوَ تَرْجُمَانٌ لكُلِّ مَامَضى مِنْ جَميعِ الإنْعَامَاتِ الـَّتي لا نِهَايَةَ لَهَا حَمْداً بلا نِهَايَةٍ.

الـحَمْدُ للهِ عَلى مُحَمـَّدٍ عَليهِ الصـَّلاةُ وَالسـَّلامُ حَمْداً بِلا نِهَايَة. إذْ هُوَ الوسيلَةُ للإِيـمَانِ الـَّذي فيهِ جَميعُ الـمَفَاتـِيحِ لِجَميعِ خَزَائِنِ النـِّعَمِ التي أشَرْنَا إليهَا في هذَا البَابِ الثـَّاني آنفَاً.

الـحَمْدُ للهِ عَلى نِعْمَةِ الإسْلامِيـَّة الـَّتي هيَ مَرضيـَّاتُ رَبِّ العَالَمينَ، وفِهرِسْتَةٌ لاَنْوَاعِ نِعَمِهِ الـمَادِّيـَّةِ وَالـمَعْنَويـَّةِ، حَمْداً بِلا نِهَايَةٍ.

النقطة الثامنة:

الـحَمْدُ للهِ الـَّذي يَحْمَدُ لَهُ وَيُثنِي عَلَيِهِ بِإظهَارِ أوصَافِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، هذَا الكِتَابُ الكَبيرُ الـمُسَمـّى بـ((الكائِنَاتِ)) بـجَميعِ ابوَابِهِ وَفُصوُلـِهَا، وبِجَميعِ صَحائِفِهِ وَسُطـُورِهَا، وبِجَميع كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهَا، كُلٌّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ يَحْمَدُهُ تَعَالى وَيُسَبـِّحُهُ بِإظهَارِ بَوَارقِ اَوصَافِ جَلالِ نَقـَّاشِهِ الاحَدِ الصـَّمَدِ بِمَظهَرِيـَّةِ كُلٌّ بَقَدَرِ نِسْبَتِهِ لأضْوَاءِ أَوْصَافِ جَمَالِ كَاتِبِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِمَظْهَرِيـَّةِ كُلٌّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ لأنوارِ أوْصَافِ كمالِ مُنْشِئها ومُنْشِدِها القَديرِ العْليمِ العَزيزِ الـحَكِيمِ، وَبِمِرآتـَّيةكلٌّ بَقَدَرِ نِسْبَتِهِ لاَشِعـَّةِ تَجَلـِّيَاتِ أسْماءِ مَنْ لَهُ الاَسْماءُ الـحُسنى. جَلَّ جَلالُهُ ولا إلهَ إلاّ هُوَ.

النقطة التاسعة:

الـحَمْدُ – مِنَ اللهِ باللهِ عَلى اللهِ – للهِ بَعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ الكائِنَاتِ مِنْ أوَّلِ الدُّنيَا الى آخِرِ الـخِلقَةِ في عَاشِرَاتِ دَقائِقِ الأزمِنَةِ مِنَ الأزَلِ الى الأبَدِ.

الـحَمْدُ للهِ عَلى ((الـحَمْدُ للهِ)) بِدَورٍ دآئِرٍ في تَسَلسُلٍ(1) يـَتـَسَلسَلُ إلى مَلا يـَتـَنـَاهى.

الـحَمْدُ للهِ عَلى نِعْمَةِ القُرآنِ وَالإيـمَانِ عَلَيَّ وَعَلى إخوَاني بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ وُجودِي في عَاشِرَاتِ دَقَائقِ عُمْري في الدُّنيَا، وَبـَقـَائِي وبَقائِهِمْ في الآخِرَةِ.

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32).

} الـحَمْدُ للهِ الـَّذي هَدينَا لِهذا وَمَا كُنـَّا لِنَهْتَدِيَ لَولا أنْ هَدينَا اللهُ لقَدْ جَآءتْ رُسُلُ رَبـِّنَا بِالـحَقِّ { (الاعراف:43)

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيـِّدِنَا مُحَمـَّدٍ بَعَدَدِ حَسَنَاتِ اُمـَّتِهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبِهِ وسَلـَّمْ آمينَ

وَالـحَمْدُ للهِ ربِّ العَالَمِينْ

عبدالقادر حمود 02-02-2011 02:21 AM

رد: اللمعات
 
الباب الثالث

في مراتب

((الله اكبر))

((سنذكر سبعاً من ثلاث وثلاثين مرتبة لـهذا الباب، حيث قد ذُكر قسمٌ مهم من تلك الـمراتب في الـمقام الثاني من الـمكتوب العشرين، وفي نهاية الـموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين، وفي بداية الـموقف الثالث منها. فمن شاء أن يطلع على حقيقة هذه الـمراتب، فليراجع تلك الرسائل)).

الـمرتبة الأولى:

} وَقُلِ الـحَمْدُ للهِ الـَّذي لَمْ يـَتـَخـِّذْ وَلـَدَاً وَلـَمْ يَكُنْ لـَهُ شَريكٌ في الـمُلكِ وَلـَمْ يَكُنْ لـَهُ وَليٌّ مِنْ الـذُّلِّ وَكَبـِّرهُ تَكبيراً{ (الاسراء:111). لـَبـَيكَ وَسَعْدَيكَ..

جلَّ جلالُه اللهُ مِنْ كُلِّ شَـيءٍ قُدرَةً وَعِلماً، إذْ هُوَ الـخَالِقُ البارىءُ الـمُصَوِّرُ الـَّذي صَنـَعَ الانسَانَ بقُدرَتهِ كالكَائِنَاتِ، وَكَتَبَ الكَائِنَاتِ بقَلَمِ قَدَرِهِ كَمَا كَتَبَ الانسَانَ بذَلِكَ القَلَمِ. إذْ ذاكَ العَالَمُ الكَبيرُ كَهَذَا العَالَمِ الصغيرِ مَصنُوعُ قُدرَتِهِ مَكتُوبُ قَدَرِهِ. إبدَاعُهُ لِذَاكَ صَيـَّرَهُ مَسْجداً. اِيـجَادُهُ لـهذا صَيـَّرَهُ ساجِداً. إنْشَاؤُهُ لِذَاكَ صَيـَّرَ ذاكَ مُلكاً. بِنَاؤُهُ لِهذا صَيـَّرَهُ مَملُوكاً صَنْعَتـُهُ في ذاكَ تَظَاهَرَتْ كِتَاباً. صِبْغَتُهُ في هَذا تَزَاهَرَتْ خِطابَاً. قُدرَتُهُ في ذاكَ تُظهِرُ حِشمَتَهُ. رَحْمَتُهُ في هَذا تَنظِمُ نِعْمَتَهُ. حِشمَتُهُ في ذاكَ تَشْهَدُ هُوَ الوَاحِدُ. نِعْمَتُهُ في هَذا تُعلِنُ هُوَ الأحَدُ. سِكـَّتُهُ في ذَاك في الكُلِّ وَالاَجْزَاءِ سُكونَاً حَرَكَةً. خاتَمُهُ في هَذا في الـجِسمِ وَالاَعْضآءِ حُجَيْرَةً ذَرَّةً.

فَانْظُرْ إلى آثَارهِ الـمُتـَّسِقَةِ كيفَ تَرى كَالفَلَقِ سَخَاوَةً مُطْلَقَةً مَعَ انْتِظَام مُطْلَقٍ، في سُرْعَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتـِّزَانٍ مُطـْلَقٍ، في سُهُولةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتْقَانٍ مُطْلَقٍ، في وُسْعَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ حُسْنِ صُنْعٍ مُطْلَقٍ، في بُعْدَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتـِّفَاقٍ مُطْلَقٍ، في خِلْطَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ امْتِيَازٍ مُطْلَقٍ، في رُخْصَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ غُلُوٍّ مُطْلَقٍ. فَهَذهِ الكَيْفِيـَّةُ الـمَشْهُودَةُ شَاهِدَةٌ للعَاقِلِ الـمُحَقـِّقِ، مُجْبِرَةٌ للاَحْمَقِ الـمُنَافِقِ عَلى قَبُولِ الصِنْعَةِ وَالوَحْدَةِ للـحَقِّ ذي القُدْرَةِ الـمُطْلَقَةِ، وَهُوَ العَلِيمُ الـمُطْلَقُ.

وَفي الوَحْدَةِ سُهُولَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَفي الكَثْرَةِ وَالشـِّرْكَةِ صُعُوبَةٌ مُنغَلِقَةٌ:

إنْ اُسْنِدَ كُلُّ الاَشْيَاءِ للِوَاحِدِ، فَالكَائِنَاتُ كَالنـَّخْلَةِ. وَالنـَّخْلَةُ كَالثـَّمَرَةِ سُهُولَةً في الاْبـِتدَاعِ. وَإنْ اُسْنِدَ للِكَثْرَةِ فَالنـَّخْلةُ كَالكَائِنَاتِ، وَالثـَّمَرَةُ كَالشـَّجَرَاتِ صُعُوبَةً في الامْتِنَاعِ. إذْ الوَاحِدُ بِالفَعْلِ يُحَصـِّلُ نَتِيجَةً ووَضْعِيةً للكَثيرِ بِلا كُلْفَةٍ ولا مُبَاشَرَةٍ؛ ولَوْ اُحِيلَتْ تِلْكَ الوَضْعـَّيةُ وَالنـَّتيجَةُ إلى الكَثَرةِ لا يُمْكنُ أنْ تَصِلَ إلَيهَا إلاّ بِتَكَلـُّفَاتٍ وَمُبَاشَرَاتٍ وَمُشَاجَرَاتٍ كَالاَمِيرِ مَعَ النـَّفَرَاتِ، وَالبَانِي مَعَ الـحَجَراتِ، وَالاَرضِ مَعَ السـَّيـَّارَاتِ، والفَوَّارَةِ مَعَ القَطَرَاتِ، وَنُقطَةِ الـمَرْكَزِ مَعَ النـُّقَطِ في الدَّائِرَةِ.

بِسِرِّ أنَّ في الوَحْدَةِ يَقُومُ الانتسَابُ مَقَامَ قُدْرَةٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ. وَلا يَضْطَرُ السـَّبَبُ لِحَمْلِ مَـنَابعِ قُوَّتِهِ وَيـَتـَعـَاظَمُ الاَثَرُ بالنـِّسْبَةِ إلى الـمُسْنَدِ إلَيهِ. وَفي الشـِّرْكَةِ يَضْطَـرُّ كُلُّ سَـبَبِ لِحَمْلِ مَنَابعِ قُوَّتِهِ؛ فـَيـَتـَصاغَرُ الاَثَرُ بِنـِسْبَةِ جِرْمِهِ. وَمِنْ هُنَا غـَلـَبَتِ النـَّمْلَةُ وَالـذُّبـَابَةُ عَلى الـجَبابِرَةِ، وَحَـمَلـَتْ النـُّوَاةُ الصـَّغِيرَةُ شَجَرَةً عَظِيمة.

وَبِسِرِّ أنَّ في إسنْادِ كُلِّ الاشياءِ الى الوَاحِدِ لا يَكُونُ الايـجَادُ مِنَ العَدَمِ الـمُطْلَقِ. بَلْ يَكُونُ الايـجَادُ عَيْنَ نَقلِ الـمَوجُودِ العِلمِيِّ إلى الوُجُودِ الـخَارِجِيِّ، كَنَقْلِ الصـُّورَةِ الـمُتَمَثـِّلَةِ في الـمِرآةِ إلى الصـَّحيِفَةِ الفُوطُوغْرافِيـَّةِ لِتَثْبِيتِ وُجُودٍ خَارِجِيٍّ لَهَا بِكَمالِ السـُّهُولَةِ، أوْ إظهارِ الـخَطـِّ الـمَكتُوبِ بِمِدَادٍ لا يُرى، بِواسِطةِ مَادَةٍ مُظهِرَةٍ للِكِتَابَةِ الـمَسْتُورَةِ. وَفي إسْنَادِ الاَشْيَاءِ إلى الاَسْبَابِ وَالكَثْرَةِ يَلـْزَمُ الايـجَادُ مِنَ العَدَمِ الـمُطـْلَقِ، وَهُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالاً يَكُونُ أصْعَبَ الاشْيَاءِ. فَالسُهُولَةُ في الوَحْدَةِ واصِلَةٌ الى دَرَجَةِ الوُجوبِ، وَالصُعُوبَةُ في الكَثْرَةِ وَاصِلَةٌ الى دَرَجَةِ الامِتنَاعِ. وَبِحِكْمَةِ أنَّ في الوَحدَةِ يُمْكِنُ الإبْدَاعُ وَايـجَادُ ((الاَيْسِ مِنَ اللـَّيْسِ)) يَعْني إبْدَاعَ الـمَوْجُودِ مِنَ العَدَمِ الصـِّرْفِ بِلا مُدَّةِ وَلا مَادَّةٍ، وَإفراغَ الـذرَّاتِ في القَالَبِ العِلْميَّ بلا كُلْفَةٍ وَلا خِلْطَةٍ. وفَي الشـِّرْكَةِ وَالكَثْرَةِ لا يُمْكِنُ الإبْدَاعُ مِنَ العَدَمِ بِاتـِّفَاقِ كُلِّ أهلِ العَقْلِ. فَلا بُدَّ لِوُجودِ ذي حَيَاةٍ جَمْعُ ذَرَّاتٍ مُنْتَشِرَةٍ في الارضِ وَالعَناصِرِ؛ وَبِعَدَمِ القَالَبِ العِلْميِّ يَلـْزَمُ لِمُحَافَظَةِ الذَّرَاتِ في جِسْمِ ذي الحيَاةِ وَجُودُ عِلْمٍ كُلـِّـيٍّ، وَإرادَةٍ مُطْلَقَةٍ في كُلِّ ذَرَّةٍ. وَمَعَ ذلِكَ إنَّ الشـُّركاءَ مُسْتَغْنيةٌ عَنْهَا وَمـمْتَنِعَةٌ بالذَّاتِ وَتَحَكـُّمِيـَّةٌ مَحْضَةٌ، لا أمارَةَ عَلَيْها وَلا إشَارَةَ إلَيْهَا في شَيءٍ مِنَ الـمَوْجُودَاتِ. إذ خِلْقَةُ السـَّمَوَاتِ وَالأرضِ تَسْتَلْزِمُ قُدْرَةً كَامِلَةً غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ بالضـَّرُورَةِ. فَاسْتُغْنيَ عَنِ الشـُّرَكَاءِ؛ وَإلاّ لَزِمَ تَحْديدُ وَانْتِهَاءُ قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُتَنـَاهِيَةٍ في وَقْتِ عَدَمِ التـَّناهِي بِقُوَّةٍ مُتـَنـَاهِيَةٍ بِلا ضَرَورَةٍ، مَعَ الضـَّرُورَةِ في عَكْسِهِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ في خَمْسَةِ أوْجُهٍ. فَامْتـَنـَعَتِ الشـُّرَكَاءُ، مَعَ أنَّ الشـُّرَكَاءَ الـمُمتَنِعَةَ بِـتِلكَ الوُجوُهِ لا إشَارَةَ إلى وَجودِها، وَلا أمارَةَ عَلى تَحُقـُّقِهَا في شىءٍ مِنَ الـمَوجُودَاتِ.

فقد استفسرنا هذه الـمسألة في ((الـموقف الأول من الرسالة الثانية والثلاثين)) من الذرات الى السيارات وفي ((الـموقف الثاني)) من السموات الى التشخصات الوجهية فاعطت جميعها جواب رد الشرك بإراءة سكة التوحيد.

فَكَمَا لا شُرَكَاءَ لَهُ؛ كَذَلِكَ لا مُعِينَ وَلا وَزَراءَ لَهُ. وَمَا الاسْبَابُ إلاّ حِجَابٌ رَقـِيقٌ عَلى تَصَـرُّفِ القُدْرَةِ الاَزَلـَّيةِ، لَيـْسَ لـَهَا تَأثِيرٌ إيـجادِيٌ في نَفسِ الأمرِ. إذْ أشْرَفُ الاسْبَابِ وَاوْسَعُهَا اختِيَاراً هُوَ الانسَانُ؛ مَعَ أنـَّهُ لَيسَ في يَدِهِ مِنْ أظـْهَرِ أفْعَالهِ الاختِيَاريَةِ كـَ ((الاَكْلِ وَالكَلامِ وَالفِكْرِ)) مِنْ مِئَاتِ أجْزاءٍ إلاّ جُزْءٌ وَاحِدٌ مَشْكُوكٌ. فَإذا كَانَ السـَّبَبُ الاَشْرَفُ وَالاَوْسَعُ اختِيَاراً مَغـْلُولَ الاَيْدي عَنِ التـَّصَـرُّفِ الـحَقِيقيِّ كَمَا تَرى؛ فَكَيفَ يُمْكِنُ أنَ تَكُونَ البَهِيماتُ والـجَمَاداتُ شَرِيكةً في الايـجَادِ وَالـرُّبُوبِيـَّةِ لـخَالِقِ الأرضِ وَالسـَّمَواتِ. فَكَمَا لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الظـَّرْفُ الـَّذي وَضَعَ السـُّلطَانُ فيهِ الـهَدِيـَّةَ، أو الـمنَدِيلُ الـَّذي لَفَّ فيهِ العِطـَّيةَ، أوِ النـَّفَرُ الـَّذي أرسَلَ عَلى يَدِهِ النـَّعْمَةَ إليكَ، شُرَكَاءَ للِسُلـْطَانِ في سَلـْطَنَتِهِ؛ كَذَلِكَ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الاسْبَابُ الـمُرْسَلَةُ عَلى أيْديِهمُ النـِّعَمُ إلينَا، وَالظـُرُوفُ الـَّتي هِيَ صَنَادِيقُ للِنـِّعَمِ الـمُدَّخـَّرَةِ لَنَا، والاسْبَابُ الـَّتي التَفـَّتْ عَلى عَطَايَا إلَهِيـَّةٍ مُهْداةٍ إلَينَا، شُرَكَاءَ أعْواناً أو وَسَائِطَ مُؤَثـِّرَةً.

الـمرتبة الثانية:

جَلَّ جَلالُهُ اللهُ أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَىءٍ قُدْرَةً وًَعِلْمَاً. إذْ هُوَ الــخَلاّقُ العَليِمُ الصـَّانِعُ الـحَكِيمُ الرَّحـمنُ الرَّحِيمُ الـَّذي هذِهِ الـمَوجُودَاتُ الأرضِيـَّةُ وَالاجْرَامُ العُلوِيـَّةُ في بُسْتَانِ الكَائَنَاتِ مُعجِزَاتُ قُدْرَةِ خَلاّقٍ عَليِم بِالبَدَاهَةِ، وَهَذهِ النَبَاتَاتُ الـمُتَـزَيـِّنَةُ الـمَنْثُورَةُ، وَهَذِهِ الـحَيْوَانَاتُ الـمُتَنـَوِّعَةُ الـمُتـَبـَرِّجـَةُ الـَمْنشُورَةُ في حَدِيقَةِ الأرضِ خَوَارِقُ صَنْعَةِ صانِعِ حَكِيمٍ بِالضـَّرُورَةِ، وَهَذهِالاَزْهَارُ الـمُتـَبـَسـِّمَةُ وَالاَثْمَارُ الـمُـتَزَيـِّنَةُ في جِنَانِ هذِهِ الـحّديقَةِ هَدَايَا رَحْمَةِ رَحْمَن رَحيِمٍ بالـمُشَاهَدَةِ. تَشْهَدُ هاتِيكَ وَتُنـَادي تَاكَ وتُعْلِنُ هذِهِ بِأَنَّ خَلاَّقَ هَاتيكَ وَمُصَوِّرَ تَاكَ وَوَاهِبَ هذِهِ عَلى كُلِّ شىءٍ قَديرٌ وَبِكُلِّ شىءٍ عَليمٌ قَد وَسعَ كُلَّ شَىءٍ رَحْمَةً وَعِلمَاً، تتَسَاوى بِالنـِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ الـذرَّاتُ وَالـنـُّجُومُ وَالقَليلُ وَالكَثيرُ والصَغيرُ وَالكَبيرُ وَالـمُتـَنـَاهِي وَغَيرُ الـمُتـَنـَاهِي. وَكُلُّ الوُقُوعَاتِ الـمَاضِيَةِ وَغَرَائِـبِها مُعْجِزَاتُ صَنْعَةِ صانِعٍ حِكيمٍ تَشْهَدُ على أنَّ ذَلِكَ الصـَّانِعَ قَديرٌ عَلى كُلِّ الامْكَانَاتِ الاسْتِقْبَالِيـَّةِ وَعَجائِبِها، إذ هُوَ الـخَلاّقُ العَليمُ وَالعَزيزُ الـحَكيِمُ.

فَسْبْحانَ مَنْ جَعَلَ حَديقَةَ أرضِهِ مَشْهَرَ صَنْعَتِهِ. مَحْشرَ فِطْرَتِهِ. مَظْهَرَ قُدرَتِهِ.مَدَارَ حِكْمَتِهِ. مَزْهَرَ رَحْمَتِهِ. مَزْرَعَ جَنـَّتِهِ. مـَمـَرَّ الـمَخْلُوقَاتِ. مَسِيلَ الـمَوجُودَاتِ. مَكيلَ الـمَصْنُوعَاتِ.

فَمُزَيـَّنُ الـحَيْوانَاتِ مُنَقـَّشُ الطـُّيوراتِ مُثـَمـَّرُ الشـَّجَراتِ مُزَهـَّرُ النَـبَاتاتِ مُعْجِزَاتُ عِلمِهِ. خَوَارِقُ صُنْعِهِ. هَدايَا جُودِهِ. بَراهِينُ لُطْفِهِ.

تـَبـَسـُّمُ الأزهَارِ مِنْ زينَةِ الأثـْمَارِ، تَسَجـُّعُ الاطيَارَ في نَسْمَةِ الاسْحَارِ، تَهـَزُّجُ الامطارِ عَلى خُدُودِ الازهَارِ، تَرَحـُّمُ الوالِدَاتِ عَلى الاَطفَالِ الصـِّغَارِ.. تَعـَرُّفُ وَدُودٍ، تَوَدُّدِ رَحـمن، تَرَحـُّمُ حَنـَّانٍ، تـَحـَنــُّنُّ مـَنــَّانٍ للِجِنَّ وَالانسَانِ وَالـرُّوحِ وَالـحَيوَانِ وَالـمَلَكِ وَالـجانِّ.

وَالبُذُورُ وَالاثْمَارُ، والـحُبُوبُ وَالازهَارُ، مُعجِزَاتُ الـحِكمَةِ. خَوَارِقُ الصـَّنْعَةِ. هَدَايا الرَّحْمَةِ. بَرَاهينُ الوَحْدَةِ. شَوَاهِدُ لُطـْفِهِ في دارِ الآخِرَةِ. شَوَاهِدٌ صَادِقَةٌ بأنَّ خَلاَّقِهَا عَلى كُلِّ شىءٍ قَديرٌ. وَبِكُلِّ شىءٍ عَلِيمٌ. قَدْ وَسِعَ كُلَّ شىءٍ بِالرَّحْمَةِ وَالعِلْمِ وَالـخَلْقِ وَالتـَّدْبيرِ وَالصـُّنْعِ وَالـتـَّصْوِيرِ. فَالشـَّمسُ كَالبَذرَةِ وَالنـَّجْمُ كَالـزَّهْرَةِ وَالاَرضُ كَالـحَبــَّةِ لاتَثْقُلُ عَلَيهِ بِالـخَلْقِ وَالتـَّدْبيرِ وَالصــُّنعِ وَالتـَّصْويرِ. فَالبُذُورُ وَالاَثْمَارُ مَرَايا الوَحْدَةِ في اَقْطَارِ الكَثْرَةِ. إشَاراتُ القَدَرِ. رُمُوزَاتُ القُدْرَةِ بِأنَّ تِلكَ الكَثْرةَ مِنْ مَنْبَعِ الوَحْدَةِ، تَصْدُرُ شَاهِدَةً لِوَحْدَةِ الفَاطِرِ في الصـُّنْعِ وَالتَصْويرِ. ثــُمَّ الى الوَحْدَةِ تَنْتَهي ذَاكِرَةً لِحِكمَةِ الصــَّانِعِ في الـخَلْقِ وَالتـَّدْبيِرِ. وَتـَلْوِيـحاتُ الـحِكْمَةِ بِأنَّ خَالِقَ الكُلِّ بِكُلــِّيــَّةِ النـَّظَرِ الى الـجُزْئيِّ يَنْظُرُ، ثـّمَّ إلى جُزْئِهِ. إذْ إنْ كانَ ثَمَرَاً فَهُوَ الـمقْصُودُ الا ظهَرُ مِنْ خَلقِ هَذا الشـَّجَرِ. فَالبَشَرُ ثَمَـرٌ لِهَذِهِ الكَائِنَاتِ، فَهُوَ الـمَقْصُودُ الاَظْهَرُ لِخَالِقِ الـمَوْجُودَاتِ. والقَلبُ كَالـنــُّوَاةِ، فَهُوَ الـمِرآةُ الانْوَرُ لِصَانِعِ الـمَخْلُوقَاتِ. وَمِنْ هذِهِ الـحِكْمَةِ فَالانسَانُ الاَصْغَرُ في هذِهِ الكَائِناتِ هُوَ الـمَدَارُ الاَظْهَرُ للنــَّشْرِ وَالـمحَشْرِ في هذِهِ الـمَوجُوداتِ، وَالتـَّخْريبِ والتـَّبْديلِ وَالتـَّحويلِ وَالتـَّجْديدِ لِهَذِهِ الكَائِناتِ.

الله أكبَرُ يَا كَبيرُ أنت الـَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِكُنْهِ عَظَمَتِهِ.

كهِ لا إلَهَ إلاّ هُوَ بَرَابَرْمي زَنـَنـْدْ هَرْشىء

دَمَادَمْ جُو يَدَنْدْ: ((ياحَقْ)) سَرَاسَرْ كُوَيَدَنْدْ: ((يا حَيّ))

الـمرتبة الثالثة(1)

إيضاحها في رأس ((الـموقف الثالث)) من ((الرسالة الثانية والثلاثين)).

اللهُ أكْبَرُ مِنْ كُلِّ شىءٍ قُدْرَة وَعِلماً إذْ هُوَ القَديرُ الـمُقَدِّرُ العِلِيمُ الـحَكيِمُ الـمُصَوِّرُ الكَرِيمُ اللـَّطِيفُ الـمُزَيـِّنُ الـمُنْعِمُ الوَدُودُ الـمُتَعَرِّفُ الرَّحْـمنُ الرَّحِيمُ الـمُتَحَنـِّنُ الـجَميِلُ ذُو الـجَمَالِ وَالكَمَالِ الـمُطْلَقِ النـَّقـَّاشُ الاَزَليُّ الـَّذي ما حَقَائِقَ هَذِهِ الكَائِناتِ كُلاً وَأجزَاءً وَصَحَائِفَ وَطَبَقاتٍ، وَما حَقائِقُ هذِهِ الـمَوجُودَاتِ كُلــِّيــَّا وَجُزِئيـِّا ووُجُوداً وَبَقاءً:

إلاّ خُطُوطُ قَلَمِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِتَنْظِيمٍ وَتَـقدِيرٍ وَعِلـْمٍ وَحِكْمَةٍ.

وَإلاّ نُقُوشُ بَركَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بَصُنْعِ وَتـَصويرٍ.

وَإلاّ تَـزْييناتُ يَدِ بَيْضاءِ صُنْعِهِ وَتـَصويِرِهِ وَتـَزْيـِيـِنـِهِ وَتـَنـْوِيِرِهِ بِلُطْفٍ وَكَرَمٍ.

وَإلاّ أزاهيرُ لَطائِفِ لُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وتَعَـرُّفِهِ وَتـَوَدُّدِهِ بِرحْمَةٍ وَنِعْمَةٍ.

وَإلاّ ثـَمـَرَاتُ فـَيــَّاضِ عَيْنِ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَتـَرَحـُّمِهِ وَتـَحَنـُّنِهِ بِجَمَالٍ وَكَمالٍ.

وَإلاّ لَمـَعـَاتُ جَمالٍ سَرْمَديٍّ وَكَمالٍ دَيْمُومِيٍّ بِشَهَادَةِ تَفانِيــَّةِ الـمَرايا وَسَيــَّالِيــَّةِ الـمَظاهِرِ، مَعَ دوام تَجَلي الـجَمَالِ عَلى مَرِّ الفُصُولِ وَالعُصُورِ وَالادْوَارِ، وَمَعَ دَوَامِ الاِنْعَامِ عَلى مَرِّ الاَنَامِ وَالاَيـَّامِ وَالاَعْوَامِ.

نَعَمْ تَفَاني الـمِرْآةِ زَوَالُ الـمَوجُودَاتِ مَعَ التـَّجَلـِّي الدَّائِمِ مَعَ الفَيضِ الـمُلازِمِ مِنْ أظْهَرِ الظـَّوَاهِرِ مِنْ أبْهَرِ البَوَاهِرِ على أنَّ الـجَمالَ الظـَّاهِرَ أنَّ الكَمالَ الـزَّاهِرَ ليسَا مُلْكَ الـمَظَاهِرِ مَنْ أفصَحِ تِبيانٍ مِنْ أوضَحِ بُرْهَانٍ للِجَمَالِ الـمُجَرَّدِ للاِحسانِ الـمُجَدَّدِ للواجِبِ الوُجُودِ للِبَاقي الوَدُودِ.

نَعَمْ فَاْلاَثَرُ الـمُكَمـَّلُ يَدُلُّ بالبَدَاهَةِ على الفعل الـمُكَمـَّلِ. ثُمَّ الفَعْلُ الـمُكَمـَّلُ يَدُلُّ بِالضــَّرُورَةِ عَلى الاسمِ الـمُكَمـَّلِ وَالفَاعِلِ الـمُكَمـَّلِ ثم الاسمُ الـمُكمـّلُ يَدُلُّ بِلا رَيبٍ عَلى الوَصْفِ الـمُكَمـَّلِ. ثـُمّ الوَصفُ الـمُكَمـَّلُ يَدُلُّ بِلاشكٍ عَلى الشـَّأنِ الـمُكَمـَّلِ. ثـُمّ الشـَّأنُ الـمُكَمـَّلُ يَدُلُّ بِاليَقينِ عَلى كَمالِ الذَّاتِ بِمَا يَليقُ بِالذَاتِ وَهُوَ الـحَقُّ اليَقينُ.

الـمرتبة الرابعة:

جَلَّ جَلاُلهُ اللهُ أكبَرُ إذْ هُوَ العَدْلُ العَادِلُ الـحَكَمُ الـحَاكِمُ الحَكيمُ الأزَليُّ الــَّذي أسـَّسَ بُنْيَانَ شَجَرَةِ هذِهِ الكَائِنَاتِ في سِتَةِ أيـَّامٍ بِاُصًولِ مَشِيَئتِهِ ةحِكمَتِهِ. وَفَصـَّلَها بِدَساتِيرِ قَضائِهِ وَقَدَرِهِ. وَنَظـَّمَها بِقَوَانينَ عادَتِهِ وَسُنـَّتِهِ. وَزَيـَّنَها بِنَواميسِ عِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَنـَوَّرَهَا بِجَلـَواتِ أسْمآئِهِ وَصِفَاتِهِ بِشَهَادَاتِ انْتِظامَاتِ مَصنُوعَاتِهِ وَتـَزَيـُّنَاتِ مَوجُودَاتِهِ وَتـَشابُهِها وَ تَناسُبِها وَتـَجَاوُبها وَتـَعاوُنِها وَتـَعانُقِها، وَاتْقانِ الصـَّنعَةِ الشـُّعُوريـّةِ في كُلِّ شَىءٍ عَلى مِقْدَارِ قَامَةِ قابِليـَّتِهِ الـمُقَدَّرَةِ بِتَقْدِيرِ القَدَرِ.

فَالـحِكمَةُ العَامـَّةُ في تَنْظيماتِها.. وَالعِنَايَةُ التـَّامــَّةُ في تَزيِيـِنَاتِها.. وَالـرَّحـمَةُ الوَاسِعَةُ في تَلطيفاتِها.. وَالاَرزَاقُ وَالاعَاشَةُ الشـَّامِلَةُ في تَربـِيـَتِها.. والـحَيَاةُ العَجيبَةُ الصـَّنعَةِ بِمَظْهَرِيـَّتِها للِشًؤونِ الذَّاتِيـَّةِ لِفَاطِرِها.. وَالـمَحَاسِنُ القَصْدِيـَّةُ في تـَحْسينَاتِهَا.. وَدَوَامُ تَجَلـِّي الـجَمَالِ الـمُنْعَكِسِ مَعَ زَوالِهَا.. وَالعِشْقُ الصـَّادِقُ في قَلْبِها لِمَعبُودِهَا.. وَالانْجِذَابُ الظـَّاهِرُ في جَذْبَتِها.. وَاتـِّفاقُ كُلِّ كُمـَّلِهَا عَلى وَحْدَةِ فاطِرها.. وَالتَصَـرُّفُ لـمَصالِحَ في أجزائِها.. وَالتـَّدْبيرُ الـحَكيمُ لِنَباتاتِها.. وَالتـَّربِيَةُ الكَريَمةُ لِحَيواناتِهَا.. والانِتـِظامُ الـمُكَمـَّلُ فِي تَغيـُّراتِ أركَانِها.. وَالغاياتُ الـجَسيمةُ في انتِظامِ كُلـِّيـَّتِها.. وَالـحُدُوثُ دَفْعَة مَعَ غايَةِ كَمَالِ حُسنِ صَنْعَتِها بِلا احتِياجٍ الى مُدَّةٍ ومَادَّةٍ.. وَالتـشَخصّاتُ الـحَكِيمَةُ مَعَ عَدَمِ تَحْديدِ تَرَدُّدِ إمْكاناتِها.. وَقَضاءُ حاجاتِها عَلى غَايَةِ كَثْرَتِها وَتـَنـَوُّعِها في أوقَاتِها اللاَّئِقةِ الـمُنَاسِبَةِ، مِنْ حَيثُ لا يُحتَسَبُ وَمِنْ حَيثُ لا يُشْعَرُ مَعَ قِصَرِ اَيْدِيها مِنْ أصغَرِ مَطالِبِها.. وَالقُوَّةُ الـمُطلَقَةُ في مَعْدَنِ ضَعْفِهَا.. وَالقُدْرَةُ الـمُطلَقَةُ في مَنبَعِ عَجْزِها.. وَالـحَياةُ الظَاهِرَةُ في جُمُودِها.. وَالشُعُورُ الـمُحيطُ في جَهْلِها.. وَالانتِظامُ الـمُكَمـَّلُ في تَغَيـُّراتِها الـمُسْتَلزِمُ لِوُجُودِ الـمُغَيـِّرِ الغَيرِ الـمُتَغَيـِّر.. وَالاتـِّفاقُ في تَسْبِيحَاتِها كَالدوائِرِ الـمُتَدَاخِلَةِ الـمُتـَّحِدَةِ الـمَرْكَزِ.. وَالـمَقْبُوِليـَّةُ في دَعَوَاتِها الثـَّلاثِ ((بِلسانِ استعدادها، وبِلسانِ احتِيَاجَاتِها الفِطريــَّةِ، وبِلسانِ اضطِرارِها)).. وَالـمُناجاة وَالشـُّهوداتُ وَالفُيُوضاتُ في عِباداتِهَا.. وَالاِنتِظامُ في قَدَرَيها.. وَالاِطْمِئنَانُ بِذِكرِ فاطِرِها.. وَكَونُ العِبادَةِ فيها خَيْطَ الوُصْلَةِ بَينَ مُنْتَهاها وَمَبْدَئِها.. وسَببِ ظُهُورِ كَمَالِها وَلِتَحَقـُّقِ مَقَاصِدِ صانِعِها..

وَهكَذا بِسائِرِ شُؤوناتِها وَاحْوَالـِها وَكَيفِيـَّاتـِها شاهِداتٌ بِاَنـَّها كُلـَّها بِتَدبيِرِ مُدَبـِّرٍ حَكيم واحِدٍ.. وفي تَربِيَةِ مُرَبٍ كَريم اَحَدٍ صَمَدٍ.. وَكُلـُّهَا خُدَّامُ سَيـَّدٍ واحدٍ.. وتَحتَ تَصَرُّف متصرِّفٍ واحدٍ.. وَمَصدَرُهَا قُدْرَةُ واحِدٍ الــَّذي تَظاهَرتْ وَتـَكاثَرَتْ خَواتِيمُ وَحْدَتِهِ على كُلِّ مَكتُوبٍ مِنْ مَكتُوبَاتِهِ في كُلِّ صَفحَةٍ مِنْ صَفَحَاتِ مَوجُودَاتِهِ.

نَعَمْ: فَكُلُّ زَهرَةٍ وَ ثَمَرٍ، وَكُلُّ نَبَاتٍ وَشَجَرٍ، بَل كُلُّ حَيَوانٍ وَحـَجَرٍ، بَل كُلُّ ذَرٍّ وَمَدَرٍ، في كُلِّ وَادٍ وَجـَبَلٍ، وكُلِّ بادٍ وَقَفْرٍ خاتَمٌ بَيـِّنُ النـَّقشِ وَالاَثـَر، يُظْهِرُ لِدِقـَّةِ النـَّظرِ بِأنَّ ذا ذاكَ الاثر هُوَ كاتب ذاكَ الـمَكانِ بِالعِبَرِ؛ فَهُوَ كاتِبُ ظَهْرِ البَرِّ وَبَطْنِ البَحْرِ؛ فَهُوَ نَقـَّاشُ الشـَّمْسِ وَالقَمَرِ في صَحيفةِ السَّموَاتِ ذاتِ العِبَرِ. جَلَّ جَلالُ نَقــَّاشِها الله أكْبَرُ.

كهِ لا إلهَ إلاّ هُو. بـَرابـَرْمِى زَنـَدْ عالـَمْ

الـمرتبة الـخامسة(1):

اللهُ أكبَرُ إذْ هُوَ الـخَلاّقُ القَديرُ الـمُصَوِّرُ البَصيرُ الـَّذي هذِهِ الأجَرامُ العُلويـَّةُ والكَواكِبُ الدُّرِّيـَّةُ نَيـِّراتُ بَراهينِ اُلُوهيـَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَشُعاعاتُ شَوَاهِدِ رُبُوبِيـَّتِهِ وَعِزَّتِهِ؛ تَشْهَدُ وَتُنادي عَلى شَعْشَعَةِ سَلْطَنةِ رُبُوبِيـَّتِهِ وَتُنَادي عَلى وُسْعْةِ حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وعَلى حِشمَةِ عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ. فَاسْتَمِعْ إلى آيةِ:

} اَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السـَّمآءِ فَوقَهُمْ كَيْفَ بـَنـَيْنـَاهَا وَزَيـَّنـاها..{ (ق:6).

ثُمَّ انظُرْ الى وَجْهِ السـَّمآءِ كيفَ تَرى سُكُوتـاً في سُكُونة، حَـرَكَةً في حـِكْمَةٍ، تَلألأ ً في حِشمَةٍ تَـبَسـُّماً في زِينَةٍ مَعَ انتَظامِ الـخِلقَةِ مَعَ اتـِّزَانِ الصـَّنْعَةِ.

تَشَعْشُعُ سِراجِها لِتَبديلِ الـمَوَاسِمِ، تَهَلهُلُ مِصْباحِها لِتَنويِرِ الـمعَالَم، تَلألُؤُ نُجُومِها لِتَزيينِ العَوَالِم. تُعْلِنُ لاَهلِ النـُّهَى سَلْطَنَةً بلا انتِهَاءٍ لِتَدبيرِ هذَا العَالَمِ.

فَذَلِكَ الـخَلاّقُ القَديرُ عَليمٌ بِكُلِّ شَىءٍ، وَمُريدٌ بِإرادَةٍ شَامِلَةٍ ماشآءَ كانَ وَمَالَم يَشأ لَمُ يَكُنْ. وَهُوَ قَدِيرٌ عَلى كُلِّ شَىءٍ بِقُدْرَةٍ مُطْلَقَةٍ مُحيطةٍ ذاتِيـَّةٍ. وَكَما لا يُمكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجُودُ هذِه الشـَّمسِ في هذا اليَومِ بِلا ضِياءٍ ولا حَرارةٍ؛ كذَلِكَ لا يُمَكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجودُ إلهٍ خالِقٍ للِسـَّمواتِ بِلا عِلْمٍ مُحيْطٍ، وبِلا قُدرَةٍ مُطلَقَةٍ. فَهُوَ بِالضَرورَةِ عَليمٌ بِكُلِّ شَىءٍ بِعلم مُحيطٍ لازم ذَاتيٍّ لِلذاتِ، يَلزَمُ تَعَلـُّقُ ذلِكَ العِلمِ بِكُلِّ الاَشيَاءِ لا يُمكِنُ أنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ شَىءٌ بِسِرِّ الـحُضُورِ وَالشـُّهُودِ وَالنـُّفُوذِ وَالاحَاطَةِ النـُّورانِيـَّةِ.

فَما يُشَاهَدُ في جَميعِ الـمَوجُودَاتِ مِنَ الانْتِظامَاتِ الـمَوزُونَةِ، وَالاِتـِّزَاناتِ الـمَنْظُومَةِ، وَالـحِكَمِ العَامـَّةِ، وَالعِنَايَاتِ التـَّامـَّةِ، وَالاَقْدَارِ الـمُنْتَظَمَةِ، وَالاَقْضِيَةِ الـمُثْمِرَةِ، وَالاَجالِ الـمُعَـيَـنَةِ، وَالاَرزَاقِ الـمُقَنـَّنـَةِ، وَالاتِقْاناتِ الـمُفَنـَّنـَةِ، وَالاِهتِمَامَاتِ الـمُزّيـَّنَةِ، وَغـَايَةِ كَمَالِ الاِمتِيازِ وَالاِتـِّزانِ وَالاِنْتِظَامِ وَالاِتْقانِ، وَالسـُّهُولَةِ الـمُطلَقَةِ شَاهِدَاتٌ عَلى إحَاطَةِ عِلمِ عَلاّمِ الغُيُوبِ بِكُلِّ شَىءٍ.

وَأنَّ آيَةَ } ألا يَعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللـَّطِيفُ الـخَبيرُ { (الـملك:14) تَدُلُّ عَلى أنَّ الوُجودَ في الشَىء يَسْتَلزِمُ بِهِ. وَنُورَ الوُجودِ في الاَشيَاءِ يَستَلزِمُ العِلْمَ نُورَ العِلمِ فيها.

فَنِسبَةُ دَلالَةِ حُسنِ صَنْعَةِ الاِنسانِ عَلى شُعُورِهِ، الى نِسبَةِ دَلالَةِ خِلقَةِ الانسانِ عَلى عِلمِ خالِقِهِ ، كَنِسبَةِ لُمَيعَةِ نُجَيْمَةِ الذبـَيْبَةِ في اللـَّيلَةِ الدَّهمَاءِ إلى شَعشَعةِ الشَمْسِ في نِصفِ النـَّهارِ عَلى وَجهِ الغَبـْراءِ.

وَكَما أنـَّهُ عَليمٌ بِكُلِّ شَىءٍ فهو مُريْدٌ لكُلِّ شَىءٍ لا يُمْكِنُ أنْ يـَتـَحَقـَّقَ شَىءٌ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ. وَكمَا أنَّ القُدْرَةَ تُؤَثِرُ، وَأنَّ العِلمَ يُمَيـِّزُ؛ كَذَلكَ أنَّ الارادةَ تُخَصـِّصُ، ثُمَّ يـَتـَحَقـَّقُ وُجودُ الاَشيَاءِ.

فَالشَوَاهِدُ عَلى وُجودِ إرادَتِهِ تـَعالى وَاختِيَارِهِ سُبحانِهُ بَعَدَدِ كَيفِيـَّاتِ الاَشيَاءِ وَاحْوالِهَا وَشُؤوناتِها.

نَعَمْ، فـَتـَنْظيمُ الـمَوجودَاتِ وَتـَخْصيصُها بِصِفاتِها مِنْ بِينِ الاِمْكَانَاتِ الغَيْرِ الـمَحْدُودَةِ، وَمِنْ بَينِ الطـُّرُقِ العَقيمَةِ، وَمِنْ بَينِ الاحتِمَالاتِ الـمُشَوَّشَةِ، وَتـَحتَ أيدي السـُّيُولِ الـمُتَشاكِسَةِ، بِهذا النـِّظَامِ الأدَقِّ الاَرَقِّ، وَتـَوْزِينُهَا بِهذا الـمِيزانِ الـحَسـَّاسِ الـجَسـَّاسِ الـمَشْهُودَينِ؛ وَ اَنَّ خَلْقَ الـمَوجُوداتِ الـمُختَلِفَاتِ الـمُنتَظَماتِ الـحَيـَويـَّةِ مِنَ البَسائِطِ الـجَامِدةِ – كَالانسانِ بِجِهَازاتِهِ مِنَ النـُّطفَةِ، وَالطـَّيْرِ بِجوارِحِهِ مِنَ البَيضَةِ، وَالشـَّجَرِ باعْضَائِهِ الـمُتـَنـَوعَةِ مِنَ النـَّوَاةِ - تَدُلُّ عَلى أنَّ تـَخَصـُّصَ كُلِّ شَىءٍ وَتـَعـَيـُّنَهُ بإرادَتِهِ واختِيَارِهِ وَمـَشِيِئَتِهِ سُبْحَانَهُ. فَكَما أنَّ تَوافُقَ الاشيَاءِ مِنْ جِنْسٍ، وَالافَرادِ مِنْ نَوعٍ في اسَاساتِ الاَعْضاءِ، يَدُلُّ بالضـَّرُرَةِ عَلى أنَّ صانِعَها واحِدٌ أحدٌ؛ كَذلكَ أنَّ تـَمايُزَها في التـَّشَخـُّصاتِ الـحَكيمَةِ الـمُشتَمِلَةِ عَلى عَلاماتٍ فارِقَةٍ مُنْتَظَمَةٍ، تَدُلُّ عَلى أنَّ ذلكَ الصـَّانعَ الواحِدَ الاَحدَ هُوَ فاعِلٌ مُختَارٌ مُرِيدٌ يَفعَلُ ما يَشآءُ وَيـَحكُمُ ما يُريدُ جَلَّ جَلاُلهُ.

وَكَما أنَّ ذلِكَ الـخَلاّقَ العَليمَ الـمُريدَ عَليمٌ بَكُلِّ شَىء، وَمُرِيدٌ لِكُلِّ شَىء، لَهُ عِلمٌ مُحيطٌ، وَارادةٌ شَامِلَةٌ، وَاختيارٌ تَامٌّ؛ كّذلـِكَ لَهُ قُدرَةٌ كاملَةٌ ضَرُوريـَّةٌ ذَاتِيـَّةٌ ناشِئَةٌ مِنَ الـذاتِ وَلازِمـَةٌ للِذاتِ. فَمُحَالٌ تَداخُلُ ضِدِّها. وَإلاَّ لَزِمَ جَمْعُ الضـِّدَّيْنِ الـمُحالُ بالاتِفَاقِ.

فَلا مرَاتِبَ في تِلكَ القُدرةِ. فـَتـَتـَساوى بِالنـِّسبَةِ إلَيها الذرَّاتُ وَالنجُومُ وَالقَليلُ وَالكثيرُ وَالصَغيرُ والكَبيرُ وَالـجُزئيُّ وَالكُلـِّيُّ وَالـجُزءُ وَالكُلُّ وَالانسانُ وَالعالَمُ والنـُّوَاةُ والشـَّجَرُ:

بَسَرِّ النـُّورَانيـَّةِ وَالشـَّفافِيـَّةِ وَالـمُقابَلَةِ وَالـمُوَازَنـَةِ وَالانـِتظامِ وَالامتِثالِ.

بِشَهادَةِ الانتِظامِ الـمُطلَقِ وَالاتـِّزَانِ الـمُطلَقِ وَالامتِيَازِ الـمُطلَقِ في السـُّرعَةِ وَالسـُّهُولَةِ وَالكَثرَةِ الـمَطـَلقَاتِ.

بَسِرِّ إمدادِ الوَاحِديـَّةِ ويُسرِ الوَحدَةِ وتـَجَلـِّي الاَحَديـَّةِ.

بِحِكمَةِ الوُجوبِ وَالتَجَــرُّدِ وَمُبَايَـنَةِ الـماهيـَّةِ.

بَسرِّ عَدَمِ التـَّقَيـُّدِ وَعـَدَمْ التحَيـُّز وَعَدَمِ التـَّجـَزُّءِ.

بـِحِكمَةِ انقِلابِ العَوَائِقِ وَالـمَوَانِعِ الى الوَسَائِلِ في التِسْهيلِ إنْ احْتيجَ إلَيه. وَالـحَالُ أنـَّهُ لا احتِيَاجَ، كاعْصابِ الانسانِ، وَالـخُطُوطِ الـحَديديـَّةِ لنَقلِ السَيـَّالاتِ اللـَّطيفَةِ.

بِحِكمَةِ أنَّ الـذَّرَّةَ وَالـجُزءَ وَالـجُزئيَّ وَالقَليلَ وَالصَغيَر وَالانسانَ وَالنـَّواةَ ليسَتْ بِاقَلَّ جـَزَالَـةً مِنَ النـَّجْمِ وَالنـَّوعِ وَالكُلِّ وَالكُلـِّيِّ وَالكَثيرِ وَالكَبيرِ وَالعَالَمِ وَالشـَّجَرِ.

فَمَنْ خَلَقَ هؤُلاءِ لا يُسْتَبعَدُ مِنْهُ خَلقُ هذِهِ. إذْ الـمُحاطاتُ كالامِثلَةِ الـمَكتُوبَةِ الـمُصَغـَّرَةِ، أو كالنـُّقَطِ الـمَحلُوبَةِ الـمُعَصـَّرَةِ. فَلابُدَّ بالضَرُورةِ أنْ يَكونَ الـمُحيطُ في قَبضَةِ تـَصـَرُّفِ خالِقِ الـمُحَاطِ، لِيُدْرِجَ مِثالَ الـمُحيطِ في الـمُحَاطَاتِ بِدَسَاتيرِ عِلمِهِ، وَاَنْ يَعْصُرَها مِنْهُ بِمَوازينِ حِكمَتِهِ. فَالقُدرَةُ الـَّتي أبرَزَتْ هَاتيكَ الـجُزئيـَّاتِ لا يـَتـَعسـّرُ عَليها إبرَازُ تَاكَ الكُلـِّيـَّاتِ.

فَكَما أنَّ نُسخَةَ قُرآنِ الـحِكمَةِ الـمَكتُوبَةَ عَلى الـجَوهَرِ الفَردِ بَذَرَّاتِ الاَثيرِ لَيسَتْ بِأقَلَّ جـَزَالـَةً مِنْ نُسْخَةِ قُرآنِ العَظَمَةِ الـمُكُتوبَةِ عَلى صَحَائِفِ السـَّمواتِ بِمِدادِ النـُّجُومِ وَالشـُّموسِ؛ كذَلِكَ لَيسَتْ خِلقَةُ نَحلَةٍ وَنـَمْلَةٍ بِاقَلَّ جَزَالَةً مِنْ خِلْقةِ النـَّخلَةِ والفيلِ، وَلا صَنْعَةُ وَردِ الـزَّهْرَةِ بِاقَلَّ جَزَالَةً مِنْ صـَنْعَةِ دُرِّيِّ نَجمِ الزُّهْرَةِ. وَهكَذا فَقِسْ.

فَكمَا أنَّ غايَةَ كَمالِ الـُّسهُولَةِ في إيـجَادِ الاَشيَاءِ أوقَعَتْ اهلَ الضـَّلالَةِ في التِبَاسِ التـَّشكيلِ بالتـَّشَكـُّلِ الـمُستَلزِمِ للِمُحَالاتِ الـخُرَافيـَّةِ الـَّتي تـَمُجـُّها العُقُولُ، بَل تـَتـَنَفـَّرُ عَنها الاَوهَامُ؛ كذلِكَ أثْبـَتـَتْ بِالقَطعِ وَالضَرُورَةِ لاَهلِ الـحَقِّ وَالـحَقيقَةِ تَساويَ السـَّيـَّاراتِ مَعَ الـذرَّاتِ بالنِسبَةِ إلى قُدْرَةِ خالِقِ الكائِناتِ.

جَلَّ جَلالُهُ وَعَظُمَ شأنُهُ وَلآ اِلهَ إلاّ هُوَ.

الـمرتبة السادسة(1)

جَلَّ جَلالُهُ وَعـَظُمَ شَأنُهُ اللهُ أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَىءِ قُدْرَةً وَعلمَاً، إذْ هُوُ العَادِلُ الـحَكيمُ القَادِرُ العَليمُ الوَاحِدُ الاَحَدُ السـُّلطَانُ الاَزَليُّ الـَّذي هذِهِ العَوَالِمُ كُلـُّهَا في تَصَرُّفِ قَبْضَتَىْ نِظامِهِ وَميزانِهِ وَتَنْظيمِهِ وَتـَوزيِنـِهِ وَعـَدلِهِ وَحـِكمَتـِهِ وَعـِلمِهِ وَقـُدرَتِهِ، وَمـَظهَرُ سـِرِّ وَاحـِدِيـَّتِهِ وَأحَديـَّتِهِ بـِالـحَدْسِ الشـُّهُوديِّ بـَلِ بِالـمُشَاهَدَةِ. إذ لا خـَارِجَ في الكَونِ مِنْ دَائِرةِ النـِّظَامِ وَالـميزَانِ وَالتـَّنظيمِ وَالتـَّوزينِ؛ وَهـُمَا بابانِ مِنَ ((الاِمامِ الـمُبينِ وَالكِتَابِ الـمُبينِ)). وَهُما عُنوَانانِ لِعِلمِ العَليم الـحَكيمِ وَأمْرِهِ وَقُدْرَةِ العَزيزِ الـرَّحيمِ وَإرادَتِهِ. فَذلكَ النـِّظامُ مَعَ ذلكَ الـمِيزَانِ، في ذلكَ الكِتَابِ مَعَ ذلكَ الاِمامِ بُرهَانانِ نـَيــِّرانِ لِمَنْ لَهُ في رَأسِهِ إذعَانٌ، وفي وَجهِهِ العَينَانِ، أنْ لا شَىءَ مِنَ الاَشياءِ في الكَونِ وَالـزَّمانِ يَخْرُجُ منْ قَبضَةِ تَصَرُّفِ رَحـمنٍ، وتَنـْظيمِ حَنـَّانٍ، وَتـَزيِينِ مـَنـَّانٍ، وَتـَوزينِ دَيــَّانٍ.

الـحَاصِلُ:

أنَّ تـَجَلـِّيَ الاِسمِ ((الاَوَّلِ وَالاخِرِ)) في الـخَلاّقِيـَّةِ، النـَّاظِرَينِ إلى الـمَبدَأِ وَالـمُنتَهى وَالاَصلِ وَالنَسلِ وَالـمَاضي وَالـمُستَقبلِ وَالاَمرِ وَالعِلمِ، مـُشيرانِ الى ((الاِمامِ الـمُبينِ)). وَتـَجَلـِّيَ الاِسم ((الظـَّاهِرِ وَالباطِنِ)) عَلى الاَشيَاءِ في ضِمنِ الـخَلاّقِيـَّةِ يُشيرانِ الى ((الكِتابِ الـمُبينِ)).

فَالكَائِناتُ كَشَجَرَةٍ عَظيمَةٍ، وَكُلُّ عالَمٍ مِنها ايضاً كَالشـَّجَرةِ. فـَنُمَثــِّلُ شَجَرَةً جُزئِيـَّةً لـِخِلقَةِ الكائِناتِ وَاَنواعِها وَعـَوالِمِها. وهَذِهِ الشـَّجَرَةُ الـجُزئِيـَّةُ لـها أصلٌ وَمـَبدَأٌ وَهُوَ النـَّواةُ الـَّتي تَنُبتُ عَليهَا، وَكَذا لـها نَسلٌ يُديمُ وَظيفَتـَها بَعد مَوتِها وَهُوَ النـَّواةُ في ثَمَراتِها.

فَالَـمبدَأُ وَالـمُنتَهى مَظْهرَانِ لِتَجَلـَّي الاِسمِ ((الاَوَّلِ وَالآخِرِ)). فَكأنَّ الـمَبدأ وَالنـَّواةَ الاَصليـَّةَ بِالانتِظامِ وَالـحِكمَةِ، فـِهرِستَةٌ وَتـَعرِفـَةٌ مُرَكـَّبَةٌ مِنْ مَجمُوعِ دَساتيرِ تَشكـُّلِ الشـَّجَرةِ. وَالنـَّواتَاتُ في ثـَمَراتِها التـَّي في نِهاياتِها مَظهَرٌ لتجَلـِّي الاِسمِ الآخِر.

فـَتِلكَ النـَّواتاتُ في الثـَّمَراتِ بِكمَالِ الـحِكمَةِ، كَأنَها صُنَيدِيقَاتٌ صَغيرَةٌ اُودِعَتْ فيها فِهرِستَةٌ وَتَعرِفَةٌ لتَشَكـُّلِ ما يُشابِهُ تِلكَ الشَجَرةَ. وَكأنـَّها كُتِبَ فيها بِقَلـَمِ القَدَرِ دَساتيرُ تَشكـُّلِ شَجَراتٍ آتِيَةٍ.

وَظاهِرُ الشـَّجَرَةِ مَظْهَرٌ لِتَجَلـِّي الاِسمِ ((الظـَّاهِرِ)). فَظَاهِرُها بِكَمالِ الاِنتِظامِ وَالتـَّزيينِ وَالـحِكمَةِ، كأنَها حُلـَّةٌ منتَظَمَةٌ مُزَيــَّنَةٌ مُرَصـَّعَةٌ قَد قُدَّتْ عَلى مِقدارِ قَامَتِها بِكَمالِ الـحِكمَةِ وَالعِنَايَةِ.

وَبـَاطِنُ تِلك الشـَّجَرَةِ مَظهَرٌ لِتَجَلـِّي الاِسمِ ((البَاطِنِ)). فـَبكَمالِ الانتِظامِ وَالتـَّدبيرِ الـمُحَيـَّرِ للِعُقُولِ، وَتـَوزيعِ مَـوَادِّ الـحَياةِ الى الاَعـَضاءِ الـمُختَلِفَةِ بِكَمالِ الانتِظامِ، كأنَّ باطِنَ تِلكَ الشـَّجـَرَةِ ماكِينَةٌ خَارِقَةٌ في غَايَةِ الاِنتَظامِ وَالاِتـَّزَانِ.

فَكَما أنَّ أوَّلـَها تـَعرِفَةٌ عـَجيبَةٌ، وآخِرَها فِهرِستَةٌ خارِقَةٌ تُشيرانِ الى ((الاِمامِ الـمُبينِ))؛ كَذَلكَ إنَّ ظَاهِرَها كـحُلــَّةٍ عَجيبَةِ الصَنْعَةِ، وَباطِنَها كَمَاكينَةٍ في غَايَةِ الاِنتِظامِ، تُشيرَانِ الى ((الكِتَابِ الـمُبينِ)).

فَكما أنَّ القُوَّاتِ الـحَافِظاتِ في الاِنسانِ تُشيرُ الى ((اللـَّوحِ الـمَحفُوظِ)) وَتـَدُلُّ عَلَيهِ؛ كَذلِكَ إنَّ النـَّوَاتاتِ الاَصلـَّيةَ وَالثـَّمَراتِ تُشيرَانِ في كُلِّ شَجَرةٍ الى ((الاِمامِ الـمُبينِ)). وَالظـَّاهِرُ وَالبَاطِنُ يَرمُزَانِ الى ((الكِتَابِ الـمُبينِ)). فَقِسْ عَلى هذِهِ الشـَّجَرَةِ الـجُزئـِيــَّةِ شـَجـَرَةَ الاَرضِ بِمَاضـِيها وَمـُستَقبَلِها، وَشـَجَرَةَ الكَائِناتِ بِـاَوائِلِها وَاتِيها، وَشـَجَرةَ الاِنسانِ بِـاجْدَادِها وَانسَالِها. وَهَكذا..

جَلَّ جَلالُ خالِقِها وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ.

يا كَبيرُ أنتَ الــَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِوَصفِ عـَظَمَتِهِ وَلا تَصِلُ الاَفْكَارُ إلى كُنْهِ جـَـبَرُوتِهِ.

الـمرتبة السابعة:

جَلَّ جَلالُهُ اللهُ أكبَرُ مِنْ كُلَّ شَىءٍ قُدرَةً وَعِلماً. إذ هُوَ(1) الـخَلاّقُ الفَتـَّاحُ الفَعـَّالُ العَلاّمُ الوَهـَّابُ الفَيـَّاضُ شَمسُ الاَزَلِ الــَّذيِ هذِهِ الكَائِناتُ بِانواعِها وَمـَوجُودَاتِها ظِلالُ أنوَارهِ، وَآثارُ أفعَالِهِ، وَألوانُ نُقوشِ انواعِ تـَجـَلـَّياتِ اسـمائِهِ، وخُطُوطُ قـَلَمْ قَضائِهِ وَقـَدَرِهِ، وَمـَرَاَيَا تـَجـَلـِّياتِ صِفَاتِهِ وَجـَمَالِهِ وَجـَلالِهِ وَكـَمالِهِ..

بـِإجـمَاعِ الشـَّاهِدِ الأزَلـيِّ بـِجَميعِ كـُتُبِهِ وَصُحُفِهِ وآياتِهِ التَكْويِنيـَّةِ والقُرآنيـَّةِ..

وباجمـَاعِ الاَرضِ مَعَ العَالَمِ بِـافتِقَاراتِها وَاحتِيَاجاتِها في ذاتِها وَذَرَّاتِها مَعَ تَظاهُرِ الغَناءِ الـمُطلَقِ وَالثـَّروَةِ الـمُطلَقَةِ عَلَيها..

وبإجـمَاعِ كُلِّ اهلِ الشـُّهُودِ مِنْ ذَوي الاَرواحِ النـَّيـِّرَةِ وَالقُلوبِ الـمُنَوَّرَةِ وَالعُقُولِ النـُّورانيـَّةِ مِنَ الاَنبِيَاءِ وَالاَولِيَاءِ والاَصفِيَاءِ بـِجَميعِ تـَحقيقَاتِهِمْ وَكُشُوفَاتِهِمْ وَفُيُوضاتِهِمْ وَمـُمَاجَاتِهِمْ..

قَدْ اتـَّفَقَ الكُلُّ مِنُمْ، وَمـِنَ الاَرضِ وَالاَجرَامِ العُلويــَّةِ وَالسـُّفليـَّةِ بِما لا يُحـَدُّ مِنْ شَهادَاتِهِمُ القَطعيــَّةِ وَتَصدِيقاتِهِمُ اليَقينيـَّةِ بـِقُبولِ شَهَادَاتِ الآيَاتِ التـَّكْوينيـَّةِ والقُرآنيـَّةِ وشَهَادَاتِ الصـُّحُفِ وَالكُتُبِ السـَّماويــَّةِ الــَّتي هيَ شَهـَادَةُ الوَاجِبِ الوُجُودِ عَلى أنَّ هذِهِ الـمَوجُودَاتِ آثارُ قُدرَتِهِ ومَكْتُوباتُ قَدَرِهِ وَمـَرايا أسـمائِهِ وَتـَمَثـُّلاتُ أنوَارِهِ.

جـَلَّ جَلالُهُ وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ







الباب الرابع

فصلان

الفصل الأول

هذا الفصل يشير الى ثلاثٍ وستين مرتبة من مراتب معرفة الله وتوحيده سبحانه متخذاً ورداً مهماً ومشهوراً لسيدنا الـخضر عليه السلام كمبدأ واساس لـهذا الورد. علما أن كل مرتبة من الـمراتب الثلاث والستين عبارة عن جملتين.

فكلمة ((لا اله الاّ الله)) تثبت الوحدانية، كما أن الاسماء التي تبدأ بـ((هو)) تثبت وجود واجب الوجود. فعندما تشير الـجملة الأولى الى الوحدانية، يـخطر بالبال سؤال مقدّر، كأن يقال: ومن هو الواحد؟ وكيف نعرفه؟ فيكون جوابه: هو الرحـمن الرحيم.. مثلاً. أي أن آثارة الشفقة والرحـمة التي تـملأ الكون كله تعرّف ذلك الرحـمن وتدل عليه. وهكذا قس الباقي.

بِسمِ الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

اللـَّهُمَّ إنـِّي اُقَـدِّمُ إلَيكَ بَينَ يَديَ كُلِّ نِعْمَةِ وَرَحـمَةٍ وَحِكمَةٍ وَعِنَايَةٍ، وبَينَ يَديَ كُلِّ حَيَاةٍ وَمَـمَاتٍ وَحَيوَانٍ وَنـَبَاتٍ، وَبينَ يَدَي كُلِّ زَهرَةٍ وَثـّمَرةٍ وَحـّبـَّةٍ وَبـّذرَةٍ، وَبَينَ يَدَي كُلِّ صَنـْعَةٍ وصِبغَةٍ ونِظامٍ وَميزَانٍ، وبينَ يَدي كُلِّ تَنظيم وَتـَوزيِنٍ وتَمييزٍ في كُلِّ الـمَوجُودَاتِ وَذَرَّاتِها، شَهادَةً نَشهَدُ(1) أنْ:

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هَوَ الـحيُّ القَيـُّــومُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هَوَ الباقِــي الدَّيـُمومُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لــهُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ العَزيــزُ الــجَبـَّارُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـحَكيم الغَفــَّــارُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُــوَ الأوَّلُ وَالآخِــرُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الظـِّـاهِرُ وَالبَاطِنُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ السَّـميعُ البَصـيرُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ اللـَّــطيفُ الـخَبيرُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الغَــفُورُ الشَّـكورُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـخَلاّقُ القَـديــرُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُصَــوِّرُ البَصـيرُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـجَوَادُ الكريــمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُـحـيي العَليـمُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُغني الكَريــمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُدَبـِّرُ الـحَكيمُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُرّبـِّي الرَّحيمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ العَزيزُ الـحَكيـــمُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ العَلـِّــيُّ القَــويُّ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـوَلــيُّ الـغَنـــيُّ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الشَّـهيدُ الـرَّقيبُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ القَريبُ الـمُجيبُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الفَتـــَّاحُ العَليـمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـخَلاّقُ الـحَكيمُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الرَّزاقُ ذُو القُوَّةِ الـمَتينُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الأحـَـدُ الصــَمَدُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ البـاقـي الأمْجَـدُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الوَدُوُدُ الـمَجِـيـدُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الفَعَّالُ لـما يُريدُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَــلِكُ الـوَارِثُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ البـَاقي البـَاعِـثُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَالبـــاريءُ الـمُصوِّرُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَاللـَّطيفُ الـمُدّبِّرُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ السَّــيِّـدُ الــدَّيـَّـانُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَالـحّنـَانُ الـمَنَّانُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَالسُّــبُّوحُ القُدُّوسُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ العَدْلُ الـحَكمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الفَـرْدُ الـصـَّمَـدُ







لآ إلــهَ إلاّ اللهُ هُــوَ الـنـّـــُورُ الـهَـــادي ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَرُوفُ لِكُلِّ العَـارِفينَ(1)

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَعبُودُ الـحَـقُّ لِكُلِّ العابِد ين..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَشكُورُ لِكُلِّ الشَّاكِرينَ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَذْكُورُ لكُلِّ الذَّاكِرينَ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَحمُودُ لِكُلِّ الـحَامِدينَ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَوجُودُ لِكُلِّ الطَّالبينَ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَوصُوفُ لِكُلِّ الـمُوَحِّدينَ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَحبُوبُ الـحقُّ لكُلِّ الـمُحبِيِّنَ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَرغُوبُ لِكُلِّ الـمُريدينَ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَقصُودُ لِكُلِّ الـمُنيبينَ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَقصُودُ لِكُـلِّ الـجَنــانِ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُوجِدُ لِكُــلِّ الأنــامِ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَوجُـودُ في كُــلِّ زَمــانٍ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَعبُودُ في كُلِّ مَكانٍ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَـذكُـورُ بِكُـلِّ لـِـسانٍ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَشكُورُ بِكُلِّ إحسَانٍ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُـنْـعِـمُ بِـلا إمـتـِنــَانٍ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ اِيـمانـاً بـاللهِ لآ إلهَ إلاّ اللهُ أمانَــاً مِنَ اللهِ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ أمانَـةً عِنْـدَ اللهِ لآ إلهَ إلاّ اللهُ حَقــَّـاً حَقــَّـاً

لآ إلهَ إلاّ اللهُ إذعَاناً وَصِدْقَاً لآ إلهَ إلاّ اللهُ تَعَبـُّداً وَرقـَّـا

لآ إلهَ إلاّ اللهُ الـمَلِكُ الـحَقُّ الـمُبينُ مُحَمـَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَادِقُ الوَعدِ الاَمينُ.

الفصل الثاني

ان هذه السطور الـخمسة او الستة من التمجيد والتعظيم التي تعتبر فاتـحة اوراد الصباح لدى معظم الاقطاب. وعلى الاخص الشيخ الطيلاني، قد اصبحت كنواة لسلسلة فكرية طويلة. وانبتت سنبلاً معنوياً من قبيل الاشارة الى تسع وتسعين مرتبة من مراتب الـمعرفة والتوحيد.

وقد ذكرت هنا تسع وسبعون مرتبة من تلك الـمراتب التسع والتسعين، وهي تتوجه في كل فقرة من تلك الاشارات، الى الذات الإلـهية الـمقدسة بـجهتين:

الأولى: انها تشهد على الله سبحانه بالـحال الـحاضرة الـمشهودة، فيعـّبر عن ذلك الـمعنى بعبارة ((لله شهيد)).

الثانية: انها تدلّ بعبارة ((على الله دليل)) على اشارة السلسلة التي تظهر بتعاقب الأمثال بعضها وراء بعض.

بِسمِ الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

أصْبَحنا(1) وَأصبَحَ الـمُلكُ للهِ شَهيدٌ. وَالكبرِيَاءُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالعَظَمَةُ للهِ شَهيدٌ. وَالهَيبَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالقُوَةُ شَهيدٌ. وَالقُدرَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالآلاُء للهِ شَهيدٌ(1). وَالاِنعامُ الــدَّائِمُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالبَهـَاءُ للهِ شَهيدٌ. وَالـجَمَالُ الســَّرمَدُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـجَلالُ للهِ شَهيدٌ. وَالكَمالُ عَلى دَليلٌ

وَالعَظـَمُوتُ للهِ شَهيدٌ. وَالـجَبَروتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالرُبُوبيــَّةُ للهِ شـَهيدٌ. وَالاُلـُوهيـَّةُ الـمُطلَقَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالسـَّلْطَنَةُ للهِ شَهيدٌ. وَجُنُودُ السـَّمواتِ وَالاَرضِ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالاَقضِيَةُ(2) للهِ شَهيدٌ. وَالتقَديرُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالتَربيــَّةُ للهِ شَهيدٌ. وَالتـَّدبيرُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالتَصويرُ للهِ شَهيدٌ. وَالتـَّنظمُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالتـَّزيينُ للهِ شَهيدٌ. وَالتـَّوزينُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالاِتْقانُ(1) للهِ شَهيدٌ. وَالـجُودُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـخَلقُ للهِ شَهيدٌ. وَالاِيـجادُ الدَّائِمُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـحَكْمُ للهِ شَهيدٌ. وَالاَمرُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـمَحاسِنُ للهِ شَهيدٌ. وَاللطــَّائِفُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـمَحامِدُ للهِ شَهيدٌ. وَالـمَدائِحُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالعبادَاتُ للهِ شَهيدٌ. وَالكَمالاتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالتـَّحيـَّاتُ(2) للهِ شَهيدٌ. وَالبَركاتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالصــَّلَواتُ للهِ شَهيدٌ. وَالطــَّيــِّبَاتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـمَخلُوقَاتُ للهِ شَهيدٌ. وَالـخَوارِقُ الـماضِيَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـمَوجُودَاتُ للهِ شَهيدٌ. وَالـمُعجِزاتُ الآتِيَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالســَّمواتُ للهِ شَهيدٌ. وَالعَرشُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالشــُّموسُ للهِ شَهيدٌ. وَالاَقمَارُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالنــُّجُومُ للهِ شَهيدٌ. وَالسَيــَّاراتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـجَوُّ بِتَصــرُّفاتِهِ وأمطارِهِ للهِ شَهيدٌ. وَالاَرضُ عَلى اللهِ دَليلٌ

يعني:

(وَالقُدرَةُ الظـَّاهِرَةُ في الاَرضِ، وَالـحِكمَةُ الباهِرَةُ فيها، وَالصَنعَةُ الـمُكَمــَّلَةُ فيها، وَالصـِّبغَةُ الـمُتَزَيــِّنَةُ فيها، وَالنــِّعمَةُ الـمُتَنَــوِّعَةُ فيها، وَالرَّحـمَةُ الوَاسِعَةُ فيها عَلى اللهِ دليلٌ).

وَالقُرآنُ باُلُوفِ آياتِهِ للهِ شَهيدٌ. وَمُحَمــَّدٌ بآلافِ مُعجِزَاتِهِ عَلى اللهِ دَليلٌ وَالبِحَارُ بَعَجائِبِها وَغَرائِبها للهِ شَهيدٌ. وَالنبَاتاتُ بأوراقِها بأزهارِها بِأثـمَارِها عَلى اللهِ دليلٌ.

يعني:

(فالدَّلائِلُ الـمُتَزَيــِّناتُ الـمُتَزَهــِّراتُ الـمُثمِراتُ الـمُسَبــِّحاتُ بِأوراقِها، وَالـحامِداتُ بِازهارِها، وَالـمُكَبــِّراتُ بِأثْمَارِها، عَلى اللهِ دليلٌ).

وَالاَشجَارُ بِأوراقِها الـمُسبــِّحاتِ وَأزهارِها الـحامِداتِ وَاثْمارِها الـمُكَبــِّراتِ للهِ شَهيدٌ. وَالـحَيواناتُ الـمُكبــِّراتُ، والـحُوينَاتُ الـمُسبــِّحَاتُ، وَالطُويراتُ الـحامِداتُ، وَالطــُّويراتُ الصــَّافــَّةُ الـمُهَلـِّلاتُ عَلى اللهِ دَليلٌ.

وَالانِسُ وَالجِنُّ بِعِبَاداتِهم وَصَلَواتِهمْ في مَسجِدِ الكَائِناتِ للهِ شَهيدٌ. وَالـمَلَكُ وَالــرُّوحُ في مَسجِدِ العَالَمِ بِتَسبيحاتِهِمْ وَعِباداتِهِمْ عَلى اللهِ دَليلٌ.

وَالصـِّنْعَةُ للهِ فَالـمَدحُ للهِ..

وَالصــِّبْغَةُ للهِ فَالثــَّنَاءُ للهِ..

وَالنــِّعْمَةُ للهِ فَالشــُّكُر للهِ..

وَالرَّحـمَةُ للهِ..

فَالـحَمدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ.

في شــّهادة:

نَشهَدُ أنْ لآ اِلَهَ إلاّ اللهُ وَأنَّ مُحَمــَّداً رَسُولُ اللهِ

اللـَّهُمَّ يارَبَّ مُحَمــَّدٍ الـمُختَارِ. وياربَّ الـجَنــَّةِ وَالنــَّارِ. وَياربَّ النَبيـّينَ وَالاَخـْيارِ، يَاربَّ الصـِّدِّيقينَ وَالأبرَارِ. ياربَّ الصِغَارِ وَالكِبَارِ. يارَبَّ الـحُبُوبِ وَالاَثـمَارِ. ياربَّ الأنْهَارِ وَالاَشجَارِ. يَاربَّ الصـَّحـَّارَى وَالقِفارِ. ياربَّ العَبيدِ وَالأحرارِ. ياربَّ اللـَّيلِ وَالنــَّهارِ.

أمسَينَا وَأصبَحنا نُشهِدُكَ وَنُشهِدُ جَميعُ صِفَاتِكَ الـمُتَقَدِّسَةِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ أسمَائِكَ الـحُسنى.. وَنُشهِدُ جَميعَ مَلئِكَتِكَ العُليَا.. وَنُشهِدُ جـيعَ مَخْلوقَاتِكَ الشــَّتـَّى.. وَنُشهِدُ جَميعَ أنبِيَائِكَ العُظمى. وَجَميعَ أولِيَائِكَ الكُبرى. وَجَميعَ أصْفِيائِكَ العُليَا.. وَنُشهِدُ جَميعَ آياتِكَ التـَّكوينيــَّةِ الــَّتي لا تُعَــدُّ وَلا تُحصى.. وَنُشهِدُ جَميعَ مَصنُوعَاتِكَ الـمُزيــَّناتِ الـمُوزونَاتِ الـمَنْظُومَاتِ الـمُتَمَاثِلاتِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ ذَرَّاتِ الكائِناتِ العاجِزاتِ. الـجَامِداتِ الـجَاهِلاتِ والـحَامِلَةِ بِحولِكَ وَطَولِكَ وَأمرِكَ وَإذنِكَ عَجائِبَ الوَظائِفِ الـمُنتَظَمَاتِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ مُرَكباتِ الذَّراتِ الغَيرِ الـمَحدودَاتِ الـمُتَنَوعاتِ الـمُنتَظَمَاتِ الـمُتقَنَاتِ الـمَصنُوعاتِ مِنْ البسائِطِ الـجَامِداتِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ تَرَكــُّباتِ الـموجُوداتِ النــَّاميَاتِ الـمُختَلِطَةِ مَوَادُّ حَيَاتِها في غَايَة الاختِلاطِ وَالـمُتَمَيــِّزَةِ دَفعَةً في غَايةِ الامتيَازِ.. وَنُشهِدُ حَبيبَكَ الاَكرَمَ سُلطَانَ الاَنبيَاءِ وَالاَوليَاءِ أفضَلَ الـمَخلُوقَاتِ ذا الـمُعجِزَاتِ الباهِرَةِ عَليهِ وعَلى آلِهِ افضلُ الصــَّلَواتِ وَالتـِّسليمَاتِ.. وَنُشهِدُ فُرقانَكَ الـحَكيمَ ذَا الآياتِ البَيــِّنَاتِ وَالبَرَاهينِ النــَّيــّراتِ وَالدَلائِلِ الوَاضِحَاتِ وَالاَنوارِ الســَّاطِعاتِ: بِأنــَّا كُلــَّنا نَشهَدُ بِأنــَّكَ أنتَ اللهُ الوَاجِبُ الوُجودِ الوَاحِدُ الأحَدُ الْفَرْدُ الصــَّمَدْ الـحيُّ القَيــُّومُ العَليمُ الـحَكيمُ القَديرُ الـمُريدُ الســَّميعُ البَصيرُ الرَّحـمنُ الرَّحيمُ العَدلُ الـحَكَمُ الـمُقتَدِرُ الـمُتَكَلــِّمُ، لَكَ الاَسمَاءُ الـحُسنى.. وَكَذا نَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ أنتَ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ وَأنـَّكَ عَلى كُــلِّ شَيءٍ قَديرٌ وَبِكُــلِّ شَيءٍ عَليمٌ.. وَكَذا نَشهَدُ بِكُلِّ ما مَرَّ وَمَعَ كُلِّ مَا مَرَّ بِأنَّ مُحَمــَّداً عَبدُكَ وَنـَبيُكَ وَصَفِيــُّكَ وَخَليلُكَ. وَجَمَالُ مُلكِكَ. وَمـَليكُ صُنْعِكَ. وَعـَينُ عِنَايَتِكَ. وَشـَمسُ هِدَايَتِكَ. وَلِسانُ مَحَبــَّتِكَ. وَمِثالُ رحـمَتِكَ. وَنُورُ خَلقِكَ. وَشـَرَفُ مَوجُودَاتِكَ(1). وَكـَشــَّافُ طِلسِمِ كائِنَاتِكَ. وَدلاّلُ سَلطَنَة رُبُوبِيَتِكَ. وَمُعَــرِّفُ كُنُوزِ أسـمَائِكَ. وَمُعَلــِّمُ أوامِرِكَ لِعِبادِكَ وَمُفَسِرُ آياتِ كِتابِ كَائِنَاتِكَ. ومَدَارُ شُهودِكَ وَاِشهَادِكَ. وَمِرآةُ مُحَبــَّتِكَ لِجَمَالِكَ وَأسـمائِكَ، وَمِحَبــَّتِكَ لِصنعَتِكَ وَمـَصنُوعَاتِكَ، وَلـمِحَاسِنِ مَخلُوقَاتِكَ. وَحَبيبُكَ وَرَسُولَكَ الــَّذي أرسَلتَهُ رَحْمَةً للِعالَمينَ. وَلِبيَانِ مَحَاسِنِ كَمالاتِ سَلطَنَةِ رُبُوبيــَّتِكَ بِحِكمَةِ صَنعَةِ صِبغَةِ نُقُوشِ قَصرِ العَالَمينَ. وَلِتَعريفِ كُنُوزِ أسمائِكَ بِإشاراتِ حِكَمِيــَّاتِ كَلمَاتِ آياتِ سُطُورِ كِتَابِ العالَمينَ. وَلِبيَانِ مَرضِيــَّاتِكَ يارَبَّ السـَّمواتِ وَالاَرضينَ. عَلَيهِ وَعَلى آلِهِ وَاصحَابِهِ وَاِخوانِهِ ألفُ ألفِ صَلاةٍ وَسَلامٍ في كُلِّ آنٍ وَزَمانٍ.

اللــَّهُمَّ يا حَفيظُ يا حَافِظُ يا خَيرَ الـحافظينَ نَستَودِعُ حِفظَكَ وَحِمَايَتكَ وَرَحـمَتَكَ هذِهِ الشــَّهاداتِ الــَّتي أنعَمتَها عَلينا. فَاحفَظهَا إلى يَومِ الـحَشرِ وَالـميزَانِ آمين. وَالـحَمدُ للهِ رّبَّ العَالَمينَ.

الـحَمْدُ للهِ الــَّذي(1) دَلَّ عَلى وُجوبِ وُجوُدِهِ، وَدَلَّ النــَّاسَ عَلى اوصَافِ والبُرْهانُ جَلالِهِ وَجـَمَالِهِ وكَمالِهِ، وشَهِدَ على أنــَّهُ وَاحِدٌ فَردٌ صَمَدٌ: الشــَّاهِدُ الصــَّادِقُ والبُرْهانُ الـمُصَدَّقُ النـَّاطِقُ الـمُحَقِقُ سَيــَّدُ الاَنبيَاءِ وَالـمُرسَلينَ. الـحَاوي لِسرِّ إجـمَاعِهِمْ وَتـَصديقِهِمْ وَمْعجِزاتِهِمْ. وَاِمامُ الاَولِياءِ وَالصِدّيقينَ. الـحَاويِ لِسِرِّ إتِفَاقِهِمْ وَتـَحقيقِهِمْ وَكَرامَاتِهِمْ. ذُو الاِرهاصَاتِ الـخَارِقَةِ وَالـمُعجِزاتِ البَاهِرةِ وَالبَراهينِ القاطِعَةِ الواضِحَةِ. ذُو الاَخلاَقِ العَاليَةِ في ذاتِهِ. وَالـخِصالِ الغَاليَةِ في وَظيفَتِهِ. وَالســَّجايا السـَّامِيَةِ في شَريعَتِهِ. مَهبَطُ الوَحيِ الرَّبـَاني بِاجـمَاعِ الـمُنزِلِ بِتَوفيقٍ لَهُ. وَالـمُنْزَلِ بِاعجَازِهِ. وَالـمُنْزَلِ عَلَيهِ بِقُوَّةِ إيـمَانِهِ. وَالـمُنزلِ إليهِمْ بِكُشُوفِهِمْ وَتـَحقيقَاتِهمْ. سَيــَّارُ عَالَمِ الغَيبِ وَالـمَلَكوتِ. مُشاهِدُ الأرواحِ وَمُصَاحِبُ الـمَلئِكَةِ مُرشِدُ الـجِنِّ وَالاِنسِ. وَانْوَرُ ثَمَراتِ شَجَرَةِ الـخِلقَةِ. سِراجُ الـحقِّ. بُرهَانُ الـحَقيقَةِ. لِسانِ الـمحَبــَّةِ, مِثالُ الرَّحـمَةِ. كاشِفُ طِلسِمِ الكائِنَاتِ. حَلاّلُ مُعَمــَّى الـخِلقَةِ. دَلاّلُ سَلطَنَةِ الرُّبُوبيــَّةِ. مَدارُ ظُهورِ مَقَاصِدِ خالِقِ الكائِناتِ في خَلقِ الـمَوجُوداتِ. ووَاسِطَةُ تَظاهُرِ كَمالاتِ الكائِناتِ، الـمُرمِزُ بِشَخصيـَّتِهِ الـمَعنَويــَّةِ إلى أنَهُ نَصبَ عَينِ فَاطِرِ الكَونِ في خَلقِ الكائِناتِ ((يَعني أنَّ الصـَّانِعَ نَظَرَ إلَيهِ وَخـَلَقَ لاَجلِهِ وَلاَمثالِهِ هَذا العَالَمَ)) ذُو الدّينِ والشَّريعَةِ وَالاِسلاميَةِ الــَّتي هي بِدَساتيرِها أنـمُوذَجُ دَساتيرِ الســَّعادِةَ في الدَّارَينِ. كَأنَّ ذلِكَ الدّينَ فِهرِستةٌ اُخرِجَتْ مِنْ كِتَابِ الكائِناتِ. فَكأنَّ القُرآنَ الـمُنزَل عَليهِ قِراءَةٌ لآياتِ الكائِناتِ. الـمُشيرُ دِينُهُ الـحَقُّ إلى أنــَّهُ نِظامُ نَاظِم الكونِ. فَنَاظِمُ هذِهِ الكائِناتِ بِهذا النـِّظامِ الاَتَمِّ الاَكمَلِ هُوَ نَاظِمُ ذلكَ الدّينِ الـجَامِعِ بِهذا النـّظمِ الاَحسَنِ الاَجـمَلِ، سَيــِّدُنا نَحنُ مَعـَاشِرَ بَني آدَمَ، وَمُهدينَا إلى الاِيـمَانِ نـَحنُ مَعـَاشِرَ الـمَؤمنينَ مُحَمــَّدٌ عَليهِ وَعَلى آلِهِ افضَلُ الصــَّلَواتِ وَأتَمُّ التــَّسْليماتِ ما دَامَتِ الاَرضُ وَالســَّمواتُ. فَإنَّ ذلِكَ الشــَّاهِدَ يَشهَدُ عَنِ الغَيبِ في عالَمِ الشـَّهادَةِ عَلى رَؤسِ الاَشهَادِ بِطَورِ الـمُشَاهِدِ.

نَعـَمْ؛ يُشَاهَدُ أنــَّهُ يُشاهِدُ ثُمَّ يَشهَدُ مُنادِياً لاَجيَالِ البَشَرِ خَلفَ الاَعصَارِ وَالاَقطارِ بِاعلى صَوتِهِ.

نَعـَمْ؛ فَهذا صَدى صَوتِهِ يُسمَعُ مِنْ أعمَاقِ الـماضي إلى شَواهِقِ الاستِقبَالِ وبِجميعِ قُـوَّتِهِ.

نَعـَمْ؛ فَقَد استَولى عَلى نِصفِ الاَرضِ. وَانصَـبَغَ بِصبغِهِ السـَّماويّ خُمُسُ بَني آدَمَ. وَدَامَتْ سَلطَنَتُهُ الـمَعنَويــَّةُ ألفاً وَثـَلـَثـمائة وَخـَمسينَ سَنَةً في كُلِّ زَمانٍ، يَحكُمُ ظَاهِراً وَباطِنَاً عَلى ثَلَثـمائة وَخَمسينَ مِليُوناً مِنْ رَعِيــَّتَهَ الصـَّادِقَةِ الـمُطيعَةِ بِانقيَادِ نُفوسِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَاروَاحِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لاَوَامِرِ سَيــَّدِهِمْ وَسُلطَانِهِمْ. وَبِغايَةِ جِدِّيــَّتِهِ بِشَهاداتِ قُوَّةِ دَساتيرِهِ الـمُسَمــَّرَةِ عَلى صُخُورِ الدُّهُورِ وَعَلى جِبَاهِ الاَقطَارِ. وَبِغَايَةِ وُثُوقِهِ بِشَهادَةِ زُهدِهِ واستِغنائِهِ عَنِ الدُّنيَا. وبغاية اطمئنانه ووُثُوقِه بشهادَةِ سَيرهِ وِبِغايَةِ قُوَّةِ إيـمَانِهِ بِشَهادَةِ أنــَّهٌ أعْبَدُ وَاتقى مِنَ الكُلِّ بِاتـِّفاقِ الكُلِّ، شَهادَةً جازِمَةً مُكَـرَّرَةً بـ:

} فَاعلَمْ أنَهُ لا إلَهَ إلاّ اللهُ{ الــَّذي دَلَّ عَلى وُجُوبِ وُجودِهِ، وَصَـرَّحَ بِأوصَافِ جَلالِهِ وَجَمالِهِ وَكَمالِهِ، وَشَهِدَ أنــَّهُ واحِدٌ أحَدٌ فَردٌ صَمَدٌ، الفُرقانُ الـحَكيمُ الـحَاوي لِسِرِّ إجـماعِ كُلِّ كُتُبِ الاَنبِيَاءِ وَالاَوليَاءِ وَالـمُوَحـِّدِينَ الـمُختَلِفينَ في الـمَشَارِبِ والـمَسَالِكِ الـمُتـَّفِقَةِ قُلُوبُ هَؤُلاءِ وَعُقولُ اُولئكَ بِحقَائق كُتُبِهِمْ عَلى تَصديقِ أساساتِ القُرآنِ الـمُنَوَّرِ جِهاتُهُ الســِّتُّ. إذْ عَلى ظَهرِهِ سِكــَّةُ الاِعجَازِ. وَفي بَطنِهِ حقَائِقُ الاِيـمَانِ. وَتـَحتَهُ بَرَاهينُ الاِذعَانِ. وَهـَدَفُهُ سَعَادَةُ الدَّارَينِ. وَنُقطَةُ استِنَادِهِ مـَحضُ الوَحيِ الــرَّبــَّانيِّ بِاجمـَاعِ الـمُنزِلِ بِاياتِهِ. وَالـمُنزَلِ بِاعجَازِهِ. وَالـمُنزَلِ عَليهِ بِقُــوَّةِ أيـمَانِهِ وَامنيـَّتِهِ. وَكَمالِ تَسليمِيــَّتِهِ وَصَفوَتِهِ. وَوضعِيــَّتِهِ الـمعلُومَةِ عِندَ نُزُولِهِ. مَجمَعُ الـحَقائِقِ بِاليَقينِ. وَمـَنبَعُ أنوارِ الاِيـمَانِ بِالبَداهَةِ الـمُوصِلُ إلى السـَّعادَاتِ بِاليَقينِ. ذُو الاَثـمَارِ الكَامِلينِ بِالـمُشَاهَدَةِ. مَقبُولُ الـمَلَكِ وَالانسِ وَالـجَانّ بِالـحَدسِ الصـَّادِقِ مِنْ تَفاريقِ الأمارَات. الـمُؤيــَّدُ بِالدَلائِلِ العقَلـيــَّةِ بِاتـِّفاقِ العُقَلاءِ الكاملينَ. وَالـمُصَدَّقُ بالفِطرَةِ السـَّليمَةِ بِشَهادَةِ اطمِئنانِ الوِجدَانِ بِهِ. الـمُعجِزَةُ الابديــَّةُ بالـمُشَاهَدَةِ. ذُو البَصَرِ الـمُطلَقِ يَرى الاَشيَاءَ بِكَمالِ الوُضُوحِ، يَرى الغَائِبَ البَعيدَ كَالـحَاضِرِ القَريبِ. ذُو الاِنبِساطِ الـمُطلَقِ يُعــَلــِّمُ الـمَلأَ الاَعلى مِنَ الـمُقَــرَّبينَ بِدَرسٍ، وَيُعـَلــِّمُ أطفَالَ البَشَرِ بِعينِ ذَلِكَ الـدَّرسِ، وَيـَشمِلُ تـَعليمُهُ وتـَعليمَاتُهُ طَبَقاتِ ذَوي الشعُوُرِ مِنْ أعلى الأعَالي إلى أبسَطِ البَسائِطِ. لِسانُ الغَيبِ في عَالَمِ الشــَّهادَةِ، شَهادَةً جَازمَةً مُكـَــرَّرَةً بـ ((لآ إلَهَ إلاّ هُوَ)) و } فَاعلَمْ أنَهُ لا إلَهَ إلاّ اللهُ{ .

عبدالقادر حمود 02-02-2011 02:23 AM

رد: اللمعات
 
الباب الـخامس

في مراتب

} حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173) (1)

وَهُوَخَمسُ نكت..

T النكتة الأولى

فهذا الكلام دواء مـجرب لـمرض العجز البشري وسقم الفقر الانساني

} حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173) (2) إِذْ هُوَ الـْمُوجِدُ الـْمَوْجُودُ الـْبَاقِي فَلاَ بـَأْسَ بِزَوَالِ الـْمَوْجُودَاتِ لِدَوَامِ الـْوُجُودِ الـْمَحْبُوبِ بِبَقَاءِ مُوجِدِهِ الْوَاجِبِ الـْوُجُودِ.

وَهُوَ الصـَّانِعُ الـْفَاطِرُ الـْبَاقِي فَلاَ حُزْنَ عَلَى زَوَالِ الـْمَصْنُوعِ لِبَقَاءِ مَدَارِ الـْمَحَبــَّةِ فِي صَانِعِهِ.

وَهُوَ الـْمَلِكُ الـْمَالِكُ الـْبَاقِي فَلاَ تَاَسـُّفَ عَلَى زَوَالِ الـْمُلْكِ الـْمُتَجَدِّدِ فِي زَوَالٍ وَذَهَابٍ.

وَهُوَ الشـَّاهِدُ الـْعَالِمُ الـْبَاقِي فَلاَ تـَحَســُّرَ عَلَى غَيْبُوبَةِ الـْمَحْبُوبَاتِ مِنَ الـدُّنْيَا لِبَقَائِهَا فِي دَائِرةِ عِلْمِ شَاهِدِهَا وَفِي نَظَرِهِ.

وَهُوَ الصـَّاحِبُ الـْفَاطِرُ الـْبَاقِي فَلاَ كَدَرَ عَلَى زَوَالِ الـمُسْتَحْسَناتِ لِدَوَامِ مَنْشَأِ مَحـَاسِنِهَا فِي اَسْمَآءِ فَاطِرِهَا.

وَهُوَ الـْوَارِثُ الـْبَاعِثُ الـْبَاقِي فَلاَ تَلَهــُّفَ ‘ علَى فِرَاقِ الاَحْبـَابِ لِبَقَاءِ مَنْ يَرِثُهُمْ وَيـَبْعَثُهُمْ.

وَهُوَ الـْجَميلُ الـْجَلِيلُ الباقي فَلاَ تـَحَزُّنَ عَلَى زَوَالِ الـْجَمِيلاَتِ الـَّتي هِيَ مَرَايَا لِلاَسْمَآءِ الـْجَمِيلاَتِ لِبَقَاءِ الاَسْمَآءِ بِجَمَالِهَا بَعْدَ زَوَالِ الـْمَرَايَا.

وَهُوَ الـْمَعْبُودُ الـْمَحْبُوبُ الـْبَاقِي فَلاَ تـَأَلــُّمَ مِنْ زَوَالِ الـْمَحْبُوبَاتِ الـْمَجَازِيــَّةِ لِبَقَاءِ الـْمَحْبُوبِ الـْحَقِيقيِّ.

وَهُوَ الـرَّحْمَنُ الـرَّحِيمُ الـْوَدُودُ الـرَّؤُفُ الـْبَاقِي فَلاَ غَمَّ وَلا مَاْيُوسِيــَّةَ وَلا اَهـَمـِّيَةَ مِنْ زَوَالِ الـْمُنْعِمِينَ الـْمُشْفِقِينَ الظــَّاهِرِينَ لِبَقَاءِ مَنْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ وَشـَفَقَتُهُ كـُلَّ شَىءٍ.

وَهُوَ الـْجَمِيلُ اللــَّطِيفُ الـْعَطُوفُ الـْبَاقِي فَلاَ حِرْقَةَ وَلا عِبـْرَةَ بِزَوَالِ اللــَّطِيفَاتِ الـْمُشْفِقَاتِ لِبَقَاءِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ كُلــِّهَا، وَلاَ يَقُومُ الـْكُلُّ مَقَمَ تـَجَلٍّ وَاحِدٍ مِنْ تـَجَلـّيَاتِهِ؛ فَبـَقَاؤهُ بِهَذِهِ الاَوْصَافِ يَقُومُ مَقـَامَ كـُلِّ مَا فَنَي وَزَالَ مِنْ اَنْوَاعِ مَحـْبُوبَاتِ كـُلِّ أحَدٍ مِنَ الــدُّنْيا. } حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{

نَعـَمْ حَسْبِي مِنْ بَقـَاءِ الـدُّنْيا وَمَا فِيهَا بَقـَاءُ مَالِكِهَا وَصَانِعِهَا وَفَاطِرِهَا.

النـُّكْتـَةُ الثــَّانِيـَةُ

حَسْبِي(1) مِنْ بَقـَائِي اَنَّ الله هُوَ الَـهِيَ الْبـَاقِي، وَخـَالِقِيَ(2) الـْبَاقِي، وَمـُوجِديَ الـْبَاقِي، وَفـَاطِرِيَ الـْبَاقِي، وَمـَالِكِي الـْبَاقِي، وَشـَاهِدِيَ الـْبَاقِي، وَمـَعْبُودِيُ الـْبَاقِي وبـَاعِثِيَ الـْبَاقِي، فَلاَ بـَأْسَ وَلاَ حـُزْنَ وَلاَ تـَأَسـُّفَ وَلاَ تـَحَسـُّرَ عـَلَى زَوَالِ وَجـُودِي لِبـَقَاءِ مـُوجِدِي، وَاِيـجَادِهِ بِآسْمَائِهِ. وَمـَا فِي شَخْصِي مِنْ صِفَةٍ اِلاَّ وَهِيَ مِنْ شُعَاعٍ اِسْمٍ مِنْ اِسْمَائِهِ الـْبَاقِيَةِ؛ فـَزَوَالُ تِلْكَ الصـِّفَةِ وَفـَنَاؤهَا لـَيْسَ اِعْدَاماً لـَهَا، لاَنـَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي دَائِرَةِ الْعِلْمِ وَبـَاقِيَةٌ وَمـَشْهُودَةٌ لـِخَالِقِهَا.

وَكـَذَا حَسْبِي مِنَ الـْبَقَاءِ وَلـَذتِهِ عِلـْمِي وَاِذْعَانِي وَشُعُورِي وَاِيـمَانِي بـِاَنــَّهُ اِلَهِيَ الـْبَاقِي الـْمُتَمَثـِّلُ شُعَاعُ اِسْمِهِ الـْبَاقِي فِي مِرْآةِ مَاهِيــَّتِي؛ وَمـَا حَقِيقَةُ ماهِيــَّتِي اِلاَّظِلٌّ لِذلِكَ الاِسْمِ. فَبِسِرِّ تـَمَثــُّلِهِ فِي مِرَآةِ حَقِيقَتِي صَارَتْ نَفْسُ حَقِيقَتِي مَحْبُوبَةً، لاَ لِذاتِهَا بَلْ بِسِرِّ مَا فِيهَا وَبــَقَاءُ مَا تَمـَثــَّلَ فِيهَا اَنْوَاعُ بـَقـَاءٍ لَهـَا.





النـُّكْتـَةُ الثــَّالِثَةُ (1)

} حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173) اِذْ هُوَ الْوَجِبُ الْوُجُودِ الـَّذِي مَا هذِهِ الـْمَوْجُودَاتُ الســَّيـِّالاَتُ اِلاَّ مَظَاهِرُ لِتَجَـدُّدِ تـَجَلـّيَاتِ اِيـجَادِهِ وَوُجُودِهِ؛ بِهِ وَبِالاِنْتِسَابِ اِلَيْهِ وَبِمَعْرِفَتِهِ أَنْوَارُ الْوُجُودِ بِلاَ حَـدٍّ. وَبِدُونِهِ ظُلُمَاتُ الْعَدَمَاتِ وَآلاَمُ الْفِرَاقاتِ الْغَيْر الْمَحْدُودَاتِ.

وَمـَا هذِهِ الْمَوْجُودَاتُ السـَّيـَّالَةُ اِلاَّ وَهِي مَرَايَا وَهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ بِتَبَدُّلِ التـَّعْيـُّنَاتِ الاِعْتِبَارِيــَّةِ فِي فَنـَائِهَا وَزَوَالِهَا وَبـَقَائِهَا بِسِتـَّةِ وَجُوهٍ:

اَلاَوَّلُ: بَقـَاءُ مَعـَانِيهَا الْجَمِيلَةِ وَهُوِيـَّاتِهَا الْمِثَالِيـَّةِ.

وَالثـَّانِي: بَقـَاءُ صُوَرِهَا فِي الاَلْوَاحِ الْمِثَالِيــَّةِ.

والثـَّالثُ: بَقـَاءُ ثَمَرِاتِها الأخْرَويــَّةِ.

وَالرّابِعُ بَقـَاءُ تَسْبِيحَاتِهَا الـرَّبـَّانِيــَّةِ الْمُتَمَثـِّلَةِ لَهَا اَلـَّتِي هِيَ نَوْعُ وَجُودٍ لَهَا.

وَالـْخَامِسُ: بَقـَاؤهَا فِي الـْمَشَاهِدِ الـْعِلـْمِيـَّةِ وَالـْمَنَاظِرِ السـَّرْمَدِيــَّةِ.

وَالسـَّادِسُ: بَقـَاءُ اَرْوَاحِهَا اِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي الاَرْوَاحِ(2). وَمـَا وَظِيفَتـُهَا فِي كَيْفِيـَّاتِهَا الـْمُتَخَالِفَةِ فِي مَوْتِهَا وَفـَنـَائِهَا وَزَوَالِهَا وَعـَدَمِهَا وَظـُهُورِهَا وَاِنـْطِفَائِهَا: اِلاَّ اِظـْهَارُ الـْمُقْتَضِيَاتِ للاَسْمَاءِ الاِلَهِيـَّةِ، فَمِنْ سـِرِّ هذِهِ الْوَظِيفَةِ صَارَتِ الـْمَوْجُودَاتُ كَسَيْلٍ فِي غَايَةِ السـُّرْعَةِ تَتـَمَوَّجُ مَوْتـَاً وَحـَيَاةً وَوُجُوداً وَعـَدَمـَاً. وَمِنْ هذِهِ الـْوَظِيفَةِ تـَتـَظَاهَرُ الـْفَعـَّالِيــَّةُ الـدَّائِمَةُ وَالـْخَلاَّقِيـَّةُ الـْمًسْتَمِـرَّةُ. فـَلاَبُدَّ لِي وَلِكُلِّ اَحـَدٍ اَنْ يَقُولَ: } حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الـْوَكِيلُ{ يَعْنِي؛ حَسْبِي مِنَ الـْوُجُودِ اَنـِّي اَثــّرٌ مِنْ آثـَارِ وَاجِبِ الـْوُجُودِ. كَفَانِي آنٌ سَيــَّالٌ مِنْ هذا الـْوُجُودِ الـمُنــَّورِ الـْمَظهِرَ مِنْ مَلايينَ سَنَةٍ مِنَ الـْوُجُودِ الـْمُزَوَّرِ الاَبْتَرِ.

نَعـَمْ بِسِــرِّ الاِنْتِسَابِ الاِيـمَانِيِّ تَقُومُ دَقِيقةٌ مِنَ الـْوُجُودِ؛ مقام اُلـُوفِ سَنَةٍ بِلاَ اِنْتِسَابِ اِيـمَانِيٍ، بَلْ تِلْكَ الدَّقِيقَةُ اَتـَمُّ وَاَوْسَعُ بِمَرَاتِبَ مِنْ تِلْكَ الآلاَفِ سَنـَةٍ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْوُجُودِ وَقِيمَتِهِ اَنــَّي صَنْعَةُ مَنْ هُوَ فِي السـَّمَاءِ عَظَمَتُهُ، وَفِي الاَرْضِ أيـَاتُهُ وَخـَلَقَ السـَّمَواتِ وَالاَرْضِ فِي سِتـَّةِ اَيــَّامٍ.

وَكـَذا حَسْبِيَ مِنَ الـْوُجُودِ وَكـَمالِهِ اَنــَّي مَصْنُوعُ مَنْ زَيـَّنَ وَنـُوَّرَ الســَّمَاءَ بِمَصَابِيحَ، وَزَيــَّنَ وَبــَّهر الأرضَ بأَزاهيرَ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْفَخْرِ وَالشــَّرَفِ اَنــَّي مَخْلُوقٌ وَمـَمْلُوكٌ وَعـَبْدٌ لِمَنْ هذِهِ الـْكَائِنَاتُ بِجَميعِ كَمـَالاَتِهَا وَمـَحَاسِنِهَا ظـِلٌّ ضَعِيفٌ بِالنـِّسْبَةِ اِلَى كَمـَالِهِ وَجـَمَالِهِ، وَمِنْ آيـَاتِ كَمـَالِهِ وَاِشَاراتِ جَمـَالِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ شَيءٍ مَنْ يَدَّخِرُ مَا لاَ يُعَدُّ وَلاَ يُحْصَى مِنْ نِعَمِهِ فِي صُنَيْدِقَاتٍ لَطِيفَةٍ هِيَ بَيْنَ ((الـْكَافِ وَالنـُّونِ)) فَيَدَّخِرُ بِقُدْرَتِهِ مَلاَيِينَ قِنْطَاراً فِي قَبْضَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهَا صُنَيْدِقَاتٌ لَطِيفَةٌ تُسَمـَّى بُذُوراً وَنـَوايـَا.

وَكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ ذِي جَمَالٍ وَذِي اِحسْانٍ؛ الـْجَمِيلُ الـرَّحِيمُ الـَّذِي مَا هذِهِ الـْمَصْنُوعَاتُ الـْجَمِيلاَتُ اِلاَّ مَرايَا مُتَفـَانِيَةٌ لِتَجَدُّدِ اَنْوَارِ جَمَالِهِ بِمَـرِّ الـْفُصُولِ وَالـْعُصُورِ وَالـدُّهُورِ. وَهذِهِ النـِّعَمُ الـْمُتَوَاتِرَةُ وَالاَثْمَارُ الـْمُتَعَاقِبَةُ فِي الـرَّبِيعِ وَالصـَّيْفِ مَظَاهِرُ لِتَجَدُّدِ مَرَاتِبِ اِنْعَامِهِ الدَّائِمِ عَلَى مَرِّ الاَنَامِ وَالاَيـَّامِ وَالاَعَوَامِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيَاةِ وَمـَاهِيـَّتِهَا اَنـِّي خَرِيطَةٌ وَفِهْرَسْتَةٌ وَفـَذْلَكَةٌ وَمِيزَانٌ وَمِقْيَاسٌ لِجَلَوَاتِ اَسْمَآءِ خَالِقِ الـْمَوْتِ وَالـْحَـيَاةِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيَاةِ وَوَظِيفَتِهَا كَوْنِي كَكـَلِمَةٍ مَكْتُوبَةٍ بِقَلَمِ الـْقُدْرَةِ، وَمُفْهِمَةٍ دَالـَّةٍ عَلَى اَسْمَآءِ الـْقَدِيرِ الـْمُطْلَقِ الـْحَـيِّ الـْقَيــُّومِ بِمَظـْهَرِيــَّةِ حَيــَاتِي لِلشــُّئُونِ الذَّاتِيــَّةِ لِفَاطِرِيَ الــَّذِي لَهُ الاَسْمَاءُ الـْحُسْنى.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيـَاةِ وَحُقُوقِهَا اِعْلانِي وَتـَشْهِيرِي بَيْنَ اِخْوَانِي الـْمَخْلُوقَاتِ وَاِعْلاَنِي وَاِظْهَارِي لِنَظَرِ شُهُودِ خَالِقِ الـْكائِنَاتِ بِتَزَيــُّنِي بِجَلَواتِ اَسْماءِ خَالِقِي الـَّذِي زَيـَّنَني بِمُرَصـَّعَاتِ حُلــَّةِ وُجُودِي وَخِلْعَةِ فِطْرَتِي وَقِلاَدَةِ حَيَاتِي الـْمُنْتَظَمَةِ الــَّتِي فِيَها مُزَيــَّنَاتُ هَدَايَا رَحْمَتِهِ.

وكَذا حَسْبِي مِنْ حُقـُوقِ حَيـَاتِي فَهْمي لِتَحِيــَّاتِ ذَوِي الـْحَيـَاةِ لِوَاهِبِ الـْحَيـَاةِ وَشُهُودِي لَهـَا وَشَهَادَاتٌ عَلـَيْهَا.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ حُقـُوقِ حَيـَاتِي تَبـَرُّجِي وَتـَزَيـُّنِي بِمُرَصـَّعَاتِ جَوَاهِرِ اِحْسَانِهِ بِشُعُورٍ اِيـمَانِيٍ لِلَعْرضِ لِنَظَرِ شُهُودِ سُلْطَانِيَ الاَزَلِـيِّ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا عِلْمِي وَاِذْعَانِي وَشُعُورِي وَاِيـمَانِي، بِاَنـِّي عَبْدُهُ وَمـَصْنوعُهُ وَمـَخْلُوقُهُ وَفـَقِيرُهُ وَمـُحْتَاجٌ اِلَيْهِ؛ وَهُوَ خَالِقِي رَحِيمٌ بِي كَرِيمٌ لَطِيفٌ مُنْعِمٌ عَلَىَّ، يُرَبـِّيِني كَما يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيَاةِ وَقِيمَتِهَا مِقْيَاسِيـَّتِي بِاَمْثَالِ عَجْزِيَ الـْمُطْلَقِ وَفـَقْرِيَ الـْمُطْلَقِ وَضـَعْفِيَ الـْمُطْلَقِ لِمَراتِبِ قُدْرَةِ الـْقَدِيرِ الـْمُطْلَقِ، وَدَرَجـَاتِ رَحْمَةِ الـرَّحِيمِ الـْمُطْلَقِ، وَطـَبـَقـَاتِ قـُوَّةِ الـْقَوِيِّ الـْمُطْلَقِ.

وَكَذا حَسْبِي بِمَعْكَسِيـَّتِي بِجُزْئِيــَّاتِ صِفَاتِي مِنَ الـْعِلْمِ وَالاِرَادَةِ وَالـْقُدْرَةِ الـْجُزْئِيــَّةِ لِفَهْمِ الصـِّفَاتِ الـْمُحِيطَةِ لِخَالِقِي. فَـاَفْهَمُ عِلْمَهُ الـْمُحِيطَ بِمِيزَانِ عِلْمِي الـْجُزْئِيِّ.

وَهَكَذا حَسْبِي مِنْ الـْكَمَالِ؛ عِلْمِي بـِاَنَّ اِلَهِي هُوَ الـْكَامِلُ الـْمُطْلَقُ. فَكُلُّ مَا فِي الـْكَوْنِ مِنَ الـْكَمَالِ مِنْ آيـَاتِ كَمـَالِهِ، وَاِشَاراتٌ اِلَى كَمَالِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْكَمَالِ فِي نَفسي، الاِيـمَانُ بِالله. اِذا الايـمَانُ لِلْبَشَرِ مَنْبَعٌ لِكُلِّ كَمالاَتِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ كُلِّ شَيءٍ لاَنْوَاعِ حَاجَاتِيَ الـْمَطـْلُوبَةِ بِاَنْوَاعِ اَلـْسِنَةِ جِهَازاتِيَ الـْمُخَلِفَةِ، اِلَهِي وَرَبـِّي وَخـَالِقِي وَمُصَـوِّرِيَ لِهُ الاَسْمَآءُ الـْحُسْنَى الـَّذِي هوَ يُطـْعِمُني وَيـَسْقِينِي وَيـُربــِّينِي وَيـُدَبـِّرُنِي وَيـُكَمّلُنِي، جَلَّ جَلاَلُهُ وَعَـمَّ نَوَالُهُ.

اَلنـُّكْتَةُ الـرَّابِعَةُ

حَسْبِي لِكُلِّ مَطَالِبِي مَنْ فَتـَحَ صُورَتِي وَصـُورَةَ اَمْثـَالِي مِنْ ذَوِي الـْحَيَاةِ فِي الـْمَآءِ بِلَطِيفِ صُنْعِهِ وَلـَطِيفِ قُدْرَتِهِ وَلـَطِيفِ حِكْمَتِهِ رُبـُوبِيــَّتِهِ.

وَكَذا حَسْبِي لِكُلِّ مَقَاصِدِي مَنْ اَنـْشَأَنِي وَشَقَّ سَمْعِي وَبـَصَرِي، وَاَدْرَجَ في جِسْمِي لِسَاناَ وَجَناناً، وَاَوْدَعَ فِيهَا وَفِي جِهَازاتِي؛ مَوَازِينَ حَسـَّاسـَّةً لاَ تـُعَدٌّ لِوَزْنِ مُدَّخَرَاتِ اَنـْوَاعِ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ. وَكَذا اَدْمَجَ فِي لِسَانِي وَجـَنَانِي وَفِطْرَتِي آلاتٍ جَسـَّاسَةً لا تـُحْصَى لِفَهْمِ اَنـْوَاعِ كُنُوزِ اَسْمَآئِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ اَدْرَجَ فِي شَخْصِيَ الصـَّغِيرِ الـْحَقِيرِ، وَاَدْمَجَ فِي وُجُودِيَ الضـَّعِيفِ الـْفَقِيرِ هذِهِ الاَعْضـَاءَ وَالآلاتِ وَهذِهِ الـْجَوَارِحَ وَالـْجِهَازاتِ وَهذِهِ الـْحَوَاسَّ وَالـْحِسـِّياتِ وَهذِهِ اللـَّطَائِفَ وَالـْمَعْنَوِياتِ؛ لاِحْسَاسِ جَميعِ اَنْواعِ نِعَمِهِ، وَلإذاقَةِ اَكْثَرِ تَجـَلـِّيـَّاتِ اَسْمَائِهِ بِجَليلِ اُلُوهِيـَّتِهِ وَجـَمِيلِ رَحْمَتِهِ وَبِكَبِيرِ رُبـُوبِيـَّتِهِ وَكَرِيمِ رَأْفَتِهِ وَبِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَلـَطِيفِ حِكْمَتِهِ.

اَلنـُّكْتَةُ الـْخَامِسَةُ

لابُدَّ لِي وَلِكُلِّ اَحـَدٍ اَنْ يَقُولَ حَالاً وَقـَالاً وَمْتَشَكـِّراً وَمُفْتَخِراً: حَسْبِي مَنْ خَلـَقَنِي، وَاَخْرَجَنِي مِنْ ظـُلْمَةِ الـْعَدَمِ، وَاَنْعَمَ عَلَـيَّ بِنُورِ الـْوُجُودِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعـَلَنِي حَيــَّاً فـَاَنْعَمَ عَلَـيَّ نِعْمَةَ الـْحَيـَاةِ الــّتِي تُعْطِي لِصَاحِبِهَا كُلَّ شَيءٍ وَتـُمِدُّ يَدَ صَاحِبِهَا اِلَى كُلِّ شَيءٍ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعـَلَنِي اِنْسَاناً فـَاَنْعَمَ عَلَـيَّ بِنـِعْمَةِ الاِنْسَانِيــَّةِ الـَّتِي صَيــَّرَتِ الاِنْسَانَ عـَالَمَاً صَغِيراً اَكْبَر مَعْنَىً مِنَ الـْكَبِيرِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعـَلَنِي مُؤْمِناً فَاَنْعَمَ عَلَـيَّ نِعْمَةَ الاِيـمَانِ الــَّذِي يُصَيــِّرُ الـدُّنْيـَا وَالآخِرَةَ كَسُفْرَتَيْنِ مـَمْلـُوئَتـَيْنِ مِنَ النـِّعَمِ يـُقَـدِّمُهَا الَى الـْمُؤمِنِ بِيَدِ الاِيـمَانِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعـَلَنِي مِنْ اُمـَّةِ حَبِيبِهِ مُحَمــَّدٍ عَلَيْهِ الصـَّلاَةُ وَالسـَّلاَمُ، فَاَنْعَمَ عَلَـيَّ بِمَا فِي الاِيـمَانِ مِنْ الـْمَحَبــَّةِ وَالـْمَحْبُوبِيـَّةِ الاِلـَهِيـَّةِ، الـَّتِي هِيَ مِنْ اَعْلَى مَرَاتِبِ الـْكَمَالاتِ الـْبَشَرِيــَّةِ.. وَبِتِلْكَ الـْمَحَبــَّةِ الاِيـمَانِيــَّةِ تَمْتَدُّ أيـَادِي اِسْتِفَادَةِ الـْمُؤْمِنِ اِلَى مـَا لاَ يَتـَنـَاهى مِنْ مُشْتَمِلاَتِ دَائِرَةِ الاِمْكَانِ وَالـْوُجُوبِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ فـَضـَّلـَنِي جِنْساَ وَنـَوْعاً وَدِيناً وَاِيـمَاناً عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مـَخْلـُوقاتِهِ، فـَلـَمْ يـَجْعَلـْنِي جـَامِداً وَلا حـَيَواناً وَلا ضَالاَّ. فـَلـَهُ الـْحَمْدُ وَلَهُ الشـُّكْرُ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جـَعَلـَنِي مـَظْهَراً جـَامِعاً لِتـَجَلـِّيــَّاتِ اَسْمَائِهِ، وَاَنْعَمَ عَلَــيَّ بِنِعْمَةٍ لا تـَسَعُهَا الـْكَائِنَاتُ بِسِـرِّ حَدِيثِ ((لا يـَسَعُنِي اَرْضِي وَلا سـَمَائِي وَيـَسَعُنِي قـَلـْبُ عـَبْدِيَ الـْمُؤْمِنِ))(1) يـَعْنِي اَنَّ الـْمَاهِيـَّةِ الاِنْسَانِيـَّةَ مـَظـْهَرٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ تـَجَلـِّيَاتِ الاَسْمَاءِ الـْمُتَجَلـِّيَةِ فِي جَمِيعِ الـْكَائِنَاتِ.

وَكـَذا حَسْبِي مَنِ اشْتـَرى مـُلْكَهُ الـَّذِي عِنْدِي مِنـَّي لِيَحْفَظَهُ لِي، ثـُمَّ يُعِيدَهُ اِلـَيَّ، وَاَعْطانا ثَمـَنـَهُ الـْجَنـَّةَ. فَلـَهُ الشـُّكْرُ وَلـَهُ الـْحَمْدُ بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ وُجُودِي فِي ذَرَّاتِ الـْكَائـِنَاتِ.

حَسْبِي رَبــِّي جـَلَّ الله نُورْ مُحَمـَّدْ صـَلَّى الله

لاَ اِلَهَ اِلاَّ الله

حَسْبِي رَبــِّي جـَلَّ الله سِـرُّ قـَلْبِـــي ذِكْـرُ الله

ذِكْرُ اَحْمَدْ صـَلَّى الله

لاَ اِلـَهَ اِلاَّ الله







الباب السادس

في ((لا حَولَ ولا قـُوَّةَ إلاّ باللهِ العَلِيِّ العَظيمِ))(1)

وهذه الكلمة الطيبة الـمباركة خامسة من الـخمس الباقيات الصالـحات الـمشهورات التي هي: ((سبحان الله. والـحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله اكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم)).

بِسمِ الله الـرَّحـمنِ الـرَّحيمِ

إلـهي وَسَيـِّدي وَمـَالِكي! لِي فَقْرٌ بِلا نِهايَةٍ، مَعَ أنَّ حاجَاتي وَمـَطالِبي لا تُعَدُّ وَلاتُحصى، وَتـَقصُرُ يَدي عَنْ أدنى مَطالِبي. فَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِكَ يا رَبـِّيَ الـرَّحيمِ! وَيا خالِقي الكَريم! يا حَسيبُ يا وَكيلُ يا كافي.

إلَهي ! إختيَاري كَشـَعَرةٍ ضَعيفَةٍ، وَآمالي لاتُحصَى. فـَأعْجَزُ دائِمَاً عـَمـَّا لا اَستغَني عَنها أبـَداً. فـَلاحَولَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِكَ يا غَنيُّ ياكَريمُ يا كَفيلُ ياوَكيلُ يا حَسيبُ ياكَافي.

إلـهَي وَسـَيـِّدي وَمـَالِكي! إقِتداري كـَذَرَّةٍ ضَعيفَةٍ، مَعَ أنَّ الاَعدَاءَ وَالعِلَلَ وَالاَوهامَ وَالاهوالَ وَالالامَ وَالاسقَامَ وَالظـُّلُماتِ وَالضَّلالَ وَالاسفَارَ الطـِّوالَ ما لاتُحصى. فَلا حَولَ عَنها، وَلا قـُوَّةَ عَلى مُقابـَلَتِها إلاّ بِكَ ياقَوِيُّ ياقَديرُ ياقَريبُ يامُجيبُ يا حَفيظُ ياوَكيلُ.

إلَهي! حَياتِي كَشُعلَةٍ تَنطَفىءُ كَـأمثَالِي. وَآمالي لاتُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ طَلَبِ تِلكَ الامَالِ، وَلاقُوَّةَ عَلى تَحصِيلِها إلاّ بِكَ يا حَـيُّ ياقَيـُّومُ يا حَسيبُ ياكافِي ياوَكيلُ يَاوافي.

إلَهي! عُمري كَدَقيقَةٍ تـَنْقَضي كَاَقرانِي؛ مَـعَ أنَّ مَقـَاصِدي وَمـَطـَالِبي لا تُعـَدُّ وَلا تُحصَى. فَلا حَولَ عَنها وَلا قـُوَّةَ عَليها إلاّ بِكَ يا أزَليُّ يا أبَدِيُّ يا حَسيبُ يا كافي ياوَكيلُ ياوَافي.

إلَهي! شُعُوري كَلَمْعَةٍ تَزُولُ؛ مَعَ أنَّ ما يَلزَمُ مُحافَظـَتُهُ مِنْ أنوَارِ مَعرِفَتِكَ، وَما يَلزَم التـَّحَفُّظُ مِنْهُ مِنَ الظـُّلـُماتِ وَالضـَّلالاتِ لا تُعَــدُّ وَلاتُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الظـُّلـُماتِ وَالضــَّلالاتِ وَلا قُوَّةَ عَلى هاتيِكَ الانَوارِ وَالـهِداياتِ إلاّ بِكَ يا عَليمٌ يا خَبيرُ يا حَسيبُ يا كافي يا حَفيظُ ياوَكيلُ.

إلَهي! لِي نَفسٌ هَلُوعٌ وَقـَلبٌ جَزُوعٌ وصَبرٌ ضَعيفٌ وَجِسمٌ نَحيفٌ وَبـَدَنٌ عَليلٌ ذَليلٌ، مَعَ أنَّ الـمَحمُولَ عَلـّـيَّ مِنَ الاَحـمَالِ الـمَادِّيــَّةِ والـمَعْنَويـَّةِ ثَقيلٌ ثَقيلٌ. فَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الاَحـمَالِ وَلا قُوَّةَ عَلى حَملـها إلاّ بِكَ يارَبــِّي الـرَّحيمُ يا خالِقي الكَريمُ يا حَسيبُ يا كَافي يا وَكِيْلُ يا وَافي.

إلَهي! لِي مِنَ الـزَّمَانِ آنٌ يَسيلُ في سَيْلٍ وَاسِعٍ سَريع الـجَرَيانِ؛ وَلِيَ مِنَ الـمَكانِ مِقدارُ القَبرِ مَـعَ عَلاقَتيِ بِسائِرِ الاَمكِنَةِ وَالاَزمِنَةِ. فَلا حَولَ عَنِ العَلاقَةِ بِهَا، وَلا قُوَّةَ عَلى الوُصُولِ إلى ما فيها إلاّ بِكَ يارَبَّ الاَمْكِنَةِ وَالاَكوَانِ، وَيارَبَّ الدُّهُورِ وَالاَزمَانِ ياحَسيبُ يا كَافي يا كَفيلُ ياوَافي.

إلَهي! لِي عَجْزٌ بِلا نِهايَةٍ وَضعَفٌ بِلا غَايَةٍ، مَعَ أنَّ أعدَائي وَما يُؤلِمُني وَما أخَافُ مِنهُ وَما يُهَدِّدُني مِنَ البَلايَا وَالافاتِ ما لا تُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ هَجَماتِها وَلا قُوَّةَ عَلى دَفعِها إلاّ بِكَ ياقَويُّ ياقَديرُ ياقَريبُ يارَقيبُ يا كَفيلُ يا وَكيلُ يا حَفيظُ يا كَافي.

إلَهي! لِي فَقْرٌ بِلا غايَةٍ وَفـَاقـَةٌ بِلا نِهايَةٍ؛ مـَعَ أنَّ حاجاتي وَمـَطالِبي وَوَظائِفي مالا تُحصَى. فَلا حَولَ عنها وَلاقُـوَّةَ عَليها إلاّ بِكَ يا غَنيُّ ياكَريمُ يامُغني يارَحيمُ.

إلَهي تَبـَرَّأتُ إلِيكَ مِنْ حَولي وَقـُوَّتي، وَالتَجاْتُ إلى حَولِكَ وَقـُوَّتِكَ فَلا تَكِلني الى حَولي وَقـُوَّتي. وَارحَمْ عَجزي وَضـَعفي وَفَقـَري وَفـَاقـَتي. فـَقَد ضاقَ صَدري، وَضاعَ عُمري، وَفَني صَبري، وَتـَاهَ فِكري، وَأنتَ العَالمُ بسرِّي وَجَهري، وَأنتَ الـمَالِكُ لِنَفعي وَضَـرِّي، وَأنتَ القَادِرُ عَلى تَفريجِ كَربي وَتـَسِيرِ عُسري. فَـفـَـرِّجْ كُلَّ كَربَتي وَيـَسـِّرْ عَلَيَّ وَعـَلى إخواني كُلَّ عَسيرٍ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـزَّمانِ الاَتي، وَعَنِ اَهوالِهِ مَعَ سَوقٍ إلَيهِ؛ وَلا قُـوَّةَ عَلى الـماضي وَلـَذَائِذِهِ مَعَ عَلاقَةٍ بِهِ إلاَ بِكَ يا أزَلـيُّ يا أبَديُّ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـزَّوالِ الـَّذي أخـَافُ وَلا أخلِصُ مِنهُ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى إعَادَةِ ما فَاتَ مِنْ حَياتيَ الــَّتي أتـَحَسـَّرُها، وَلا أصِلُ إلَيها إلاّ بِكَ ياسَرمَدِيُّ ياباقي.

إلَهي! لا حَولَ عَنْ ظُلمَةِ العَدَمِ؛ وَلا قُـوَّةَ عَلى نُورِ الوُجُودِ إلاّ بِكَ يا مُوجِدُ يا مَوجُودُ ياقَديمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـمَضارِّ اللاّحِقَةِ بِالـحَياةِ؛ وَلا قـُـوَّةَ عَلى الـمَسارِّ اللاّزِمَةِ للِحَياةِ إلاّ بِكَ يا مُدَبـِّرُ يا حَكيمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الآلامِ الهَاجِمَةِ عَلى ذي الشـُّعُورِ؛ وَلا قُـوَّةَ عَلى اللــَّذائِذِ الـمَطلُوبَةِ لِذي الـحِسِّ إلاّ بِكَ يا مُرَبـِّي يا كَريمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـمَساوي العَارِضَةِ لِذَوي العُقُولِ؛ وَلا قُــوَّةَ عَلى الـمَحَاسِنِ الـمُزّيــِّنَةِ لِذَوي الـهِمَمِ إلاّ بِكَ يا مُحسِنُ يا كَريمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ النـِّقَمِ لاَهلِ العِصيَانِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى النــِّعَمِ لاَهلِ الطــَّاعَاتِ إلاّ بِكَ يا غَفُورُ يامُنْعِمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الاَحزَانِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى الافراحِ إلاّ بِكَ. فَإنــَّكَ أنتَ الــَّذي أضْحَكَ وَاَبْكى يا جـَميلُ يا جَليلُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ العِلَلِ، وَلا قـُوَّةَ عَلى العَلفِيَةِ إلاّ بِكَ ياشافي يا مُعَافي.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الآلامِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى الامالِ إلاّ بِكَ ياَمُنجي يا مُغيثُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الظــُّلُماتِ؛ وَلا قــُوَّةَ عَلى الاَنوَارِ إلاّ بِكَ يانُورُ ياهادي.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الشــُّرورِ مُطلَقاً؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى الـخَيراتِ أصلاً إلاّ بِكَ يامَنْ بيَدِهِ الـخَيرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، وَبِعِبَادِهِ بَصيرٌ، وَبِحَوايِجِ مَخلُوقَاتِهِ خَبيرٌ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـمَعاصي إلاّ بِعِصمَتِكَ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى الطــَّاعَةِ إلاّ بِتَوفيقِكَ يا مُوَفــِّقُ يا مُعينُ.

إلَهي! لِي عَلاقَاتُ شَديدَةٌ مَعَ نَوعيَ الاِنسانـيِّ، مَعَ أنَّ آيـَةَ } كـُلُّ نَفسٍ ذآئِقَةُ الـمَوتِ{ تُهَـدِّدُني وَتُطفِىءُ آمالي الـمُتَعَلــِّعَةِ بِنَوعي وَجِنسي، وَتـَنْعِي عَلـَيَّ بِمَوتِهما. فَلا حَولَ عَنْ ذاكَ الـحُزنِ الاَليمِ النـَّاشِىء مِنْ ذلكَ الـمَوتِ وَالنــَّعِي، وَلا قـُوَّةَ عَلى تَسَلٍّ يَملأُ مَحـَلَّ مازالَ عَنْ قَلبي وَروحي إلاّ بِكَ. فَانتَ الـَّذي تَكفي عَنْ كـُلِّ شَيءٍ، وَلا يَكفي عَنكَ كـُلُّ شَيء.

إلَهي! لِي عَلاقاتٌ شَدِيدَةٌ مَعَ دُنيَايَ الــَّتي كَبيْتِي وَمـَنْزِلي؛ مَعَ أنَّ آيَةَ } كُـلُّ مَنْ عَلَيها فانٍ وَيَبقى وَجهُ رَبــِّكَ ذُو الـجَلالِ وَالاِكرامِ { (الرحـمن:26) تُعلِنُ خَرابِيــَّةِ بَيتي هذَا. وَزَوَالَ مَحبُوبَاتي الــَّتي ساكَنْتُهُمْ في ذلكَ البَيتِ الـمُنهَدِمِ؛ وَلاحَولَ عَنْ هذِهِ الـمُصيبَةِ الـهائِلَةِ، وَعَنْ الفِراقَاتِ مِنَ الأَحبَابِ الآفِلَةِ؛ وَلا قُـوَّةَ عَلى ما يُسَلــِّيني عَنها، وَيَقُومُ مَقَامَها إلاّ بِكَ يا مَنْ يَقُومُ جلوَةٌ مِنْ تَجَلــِّياتِ رَحمَتِهِ مَقَامَ كـُلِّ ما فارَقَني.

إلَهي لِي عَلاقَاتٌ(1) بِجامِعـَّيةِ ماهِيـَّتي، وَغايَةِ كَثَرةِ جَهازاتي الــَّتي أنْعَمْتَها عَلـَيَّ، وَأحتياجاتٌ شَديدَةٌ إلى الكائِناتِ وَانوَاعِها؛ مَعَ أنَّ آيَةَ } كـُـلُّ شَيءٍ هالِكٌ اِلاّ وَجهَهُ لَهُ الـحُكْمُ وَاِلَيهِ تُرجَعُونَ{ (القصص:88) تُهَدِّدُني وَتـَقطَعُ عَلاقَاتي الكَثيرَةَ مِنَ الاَشيَاءِ. وَبِانقِطاعِ كَلِّ عَلاقَةٍ يَتَولــَّدُ جَزْحٌ وَألـَمٌ مَعنَويٌ في رُوحي. وَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الـجُرُوحاتِ الغَيرِ الـمَحدُودةِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى أدويَتِها إلاّ بِكَ يا مَنْ يكفي لِكـُلِّ شَيءٍ، وَلا يَكفي عَنْ شَيءٍ واحدٍ مِنْ تَوَجـُّهِ رَحمَتِهِ كـُلُّ الاَشيَاءِ، وَيا مَنْ اذا كَانَ لشيءٍ كَانَ لَهُ كـُلُّ شَيءٍ ومَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لا يَكُونُ لَهُ شَيءٌ مِنَ الأشيَاءِ.

إلَهي! لِي عَلاقاتٌ شَديدَةٌ وَابِتلاءٌ وَمَفتُونِيــَّةٌ مَعَ شَخصيـَّتي الـجِسمانيـَّةِ، حَتـَّى كَأنَّ جسمي عَمُودٌ في نَظَري الظـَّاهِريِّ لِسَقفِ جَميعِ آمالي وَمَطَالبِي؛ وَفِيَّ عِشقٌ شَديدٌ لِلبَقاءِ؛ مَعَ أنَّ جِسمي لَيسَ مِنْ حَديدٍ وَلا حَجَرِ لِيَدُومَ في الـجُملَةِ، بل مِنْ لَحمٍ وَدَمٍ وَعَظمٍ عَلى جَناحِ التـَّفَـرُّقِ في كـُلِّ آنٍ؛ وَمـَعَ أنَّ حـَياتي كَجِسمي مـَحدودةُ الطـَّرَفَينِ، سَتُختَمُ بِخَاتَمِ الـمَوتِ عَنْ قَريبٍ؛ مَعَ أنـِّي قَد اشتَعَلَ الـرَّأسُ شَيباً مِنـِّي، وَقد ضَرَبَ السـَّقَمُ ظَهري وَصَدري، فَأنا في قَلـَقٍ وَضَجَر وَاضطِرابٍ وَتـَألـُّم وَتـَحَـزُّنٍ شَديدٍ مِنْ هذِهِ الكَيفيــَّةِ. فَلا حَولَ عَنْ هذِهِ الـحَالَةِ الـهَائِلَةِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى ما يُسَلـِّيني عَمـَّا يَحزُنُني، وَعَلى ما يُعَــوِّضُني ما يَضيعُ مِنــِّي، وَعَلى ما يَقُومُ مَقام ما يَفُوتُ مِنــِّي إلاّ بِكَ يارَبــِّي الباَقي، وَالباقي ببَقَائِهِ وَإبقائِهِ مَنْ تَمَسـَّكَ بِاسمٍ مِنْ أسـمائِهِ الباقِيَةِ.

إلـَهي! لِي وَلِكـُـلِّ ذي حَياةٍ خَوفٌ شَديدٌ مِنَ الـمَوتِ وَالـزَّوالِ اللــَّذَينِ لا مَفـَرَّ مِنهًما؛ وَلِي مَحـَبــَّةٌ شَديدةٌ للِحَياةِ وَالعُمْرِ اللــَّذينِ لا دَوامَ لَهُما؛ مَعَ أنَّ تَسارُعَ الـمَوتِ إلى أجسامنا بِهُجُومِ الآجالِ لا يُبقي لِي وَلا لأحَدٍ أمَلاً مِنَ الآمال الـدُّنيَويـَّةِ إلاّ وَيَقطَعُها، وَلا لـَذَّةً إلاّ وَيَهْدِمُها. فَلا حَولَ عَنْ تلِكَ البَلِيــَّةِ الهائِلَةِ وَلا قـُوَّةَ عَلى مل يُسَلـِّينَا عَنها إلاّ بِكَ يا خَالِقَ الـمَوتِ وَالحَياةِ! وَيا مَنْ لَهُ الـحَياةُ الَسـَّرمَدِيــَّةُ، الـَّذي مَنْ تَمـَسـَّكَ بِهِ وَتـَوجــَّهَ إلَيهِ وَيـَعرِفُهُ وَيُحِبــُّهُ؛ يَدُومُ حَياتُهُ وَيـَكُونُ الـمَوتُ لَهُ تَـجَـدُّدَ وَتـَبديلَ مـَكانٍ. فَإذاً فَلا حُزنَ لَهُ وَلا ألَمَ عَليهِ بِسِرِّ } ألا إنَّ أولِيَاءَ اللهِ لا خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلا هُمْ يَحزَنُونَ { (يونس:62).

إلـَهي! لِي لأجلِ نَوعيِ وَجِنسِي عَلاقاتٌ بِتَألــُّماتٍ وَتـَمَنـّياتٍ بِالسـَّموَاتِ وَالأرضِ وَبـِاَحوَالِها. فَلا قُوَّةَ لي بِِوجهٍ مِنَ الوُجُوهِ عَلى إسماعِ أمري لَهُما، وَتـَبليغِ أمـَلي لِتِلكَ الاَجرامِ، وَلا حَولَ عَنْ هذا الابِتِلاءِ وَالعَلاقَةِ إلاّ بِكَ ياربَّ الســَّموَاتِ وَالاَرضِ! وَيا مَنْ سَخـَّرَهُما لِعِبادِهِ الصـَّالِحينَ.

إلـَهي! لِي وَلِكـُلِّ ذي عَقلٍ عَلاقَاتٌ مَعَ الأزمنة الـماضِيَةِ وَالاَوقاتِ الاِستِقبَاليــَّةِ؛ مَعَ أنـَّنا قَد انْحَبـَسْنَا في زَمانٍ حاضِرٍ ضَيـّقٍ لا يَصلُ ايدِينا اِلى أدنى زَمانٍ ماضٍ وَمُستَقبَلٍ لـِجلبٍ مِنْ ذاكَ ما يُفـرِّحُنا، او لِدَفْعٍ مِنْ هذا ما يُحزنُنا. فَلا حَولَ عَنْ هذِهِ الـحالَةِ، وَلا قُوَّةَ عَلى تـَحويلِها إلى أحسَنِ الـحالِ إلاّ بِكَ يارَبَّ الـدُّهُورِ وَالاَزمَانِ.

إلـَهي! لِي فِي فِطرَتِي وَلِكـُلِّ أحَدٍ في فِطرَتِهِمْ آمالٌ أبَديـَّةٌ وَمـَطالِبُ سَرمَديــَّةٌ تَمْتَـدُّ إلى أبَدِ الآيادِ. إذ قَد أوْدَعْتَ في فِطرِتَنَا استِعداداً عَجيباً جامعاً، فيهِ احتياجٌ وَمـَحـَبــَّةٌ لا يُشبِعُهُما الدُنيا وَما فيها، وَلاَ يرضي ذلكَ الاِحتِياجُ وَتِلكَ الـمَحَبــَّةُ إلاّ بِالـجَنــَّةِ الباقِيَةِ؛ ولا يَطمئِنُّ ذلِكَ الاِستِعدادُ إلاّ بِدارِ السـَّعادَةِ الاَبـَديــَّةِ. يارَبَّ الـدُّنيا وَالآخـِرَةِ وَيارَبَّ الـجَنــَّةِ وَدَارِ القَرارِ(1).

عبدالقادر حمود 02-02-2011 02:27 AM

رد: اللمعات
 
اللمعة الثلاثون

من المكتوب الحادي والثلاثين، وثمرة من ثمار سجن ((اسكي شهر)) وذيل الذيل للكلمة الثلاثين. وهي عبارة عن ست نكات.

هذا الدرس القيّم ثمرةٌ من ثمار سجن ((اسكي شهر )) وحصيلة مدرستها اليوسفية، مثلما كانت رسالة (( الثمرة )) ثمرة أينعها سجن (( دنيزلي )) وكما كانت رسالة ((الحجة الزهراء)) درساً بليغاً أزهر في سجن ((آفيون)).

تضم هذه الرسالة - وهي اللمعة الثلاثون - نكاتٍ دقيقة لستةٍ من الاسماء الحسنى التي هي الاسم الاعظم.

في القسم الذي يخص اسم الله (( الحي)) و (( القيوم )) من الاسم الاعظم مسائل عميقة وواسعة جداً قد لايستطيع كل أحد أن يستوعبها كلها ويتذوقها جميعاً، الاّ انه لا يبقى أحدٌ دون نصيب منها وفائدة يغنمها ".

النكتة الاولى

تخص احدى نكات اسم الله

القدوس

بسم الله الرحمن الرحيم

} والارضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الماهِدُون { (الذاريات: 48)

لقد تجلت لي نكتة من نكات هذه الآية الكريمة وتجلّ من تجليات اسم الله ((القدوس )) وهو الاسم الاعظم أو أحد انوراه الستة، وانا نزيل سجن ((اسكي شهر)) أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: الوجود الإلهي بوضوح تام، وكشف لي: الوحدانية الربانية بجلاء، كما يأتي:

لقد تراءى لي هذا الكون وهذه الكرة الارضية كمعمل عظيم دائب الحركة، وشبيهة بفندق واسع، او دار ضيافة تُملأ وتُخلى بلا انقطاع علماً ان دار ضيافةٍ بهذه السعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الغادين والرائحين، تمتلئ بالنفايات والانقاض، ويصيب كل شئ بالتلوث، وتضيق فيها اسبابُ الحياة. فان لم تعمل يد التنظيف والتنسيق فيها عملاً دائماً ادّت تلك الاوساخ الى اختناق الانسان واستحالة عيشه...

بيد اننا لا نكاد نرى في معمل الكون العظيم هذا، وفي دار ضيافة الكرة الارضية هذه أثراً للنفايات، كما انه لا توجد في أية زاوية من زاواياهما مادة غير نافعة، أو غير ضرورية، أو اُلقِيَتْ عبثاً، حتى ان ظهرت مادةٌ كهذه سرعان ما تُرمى في مكائن تحويل بمجرد ظهورها، تُحيلها الى مادة نظيفة...

فهذا الامر الدائب يدلنا على: ان الذي يراقب هذا المعمل انما يراقبه بكل عناية واتقان، وان مالكه يأمر بتنظيفه وتنسيقه وتزيينه على الدوام حتى لا يُرى فيه - رغم ضخامته - أثرٌ للقاذورات والنفايات التي تكون متناسبةً مع كُبر المعمل وضخامته. فالمراعاة بالتطهير اذن مستمرة، والعناية بالتنظيف دائمة ومتناسبة مع ضخامة المعمل وسعته، لأن الانسان الفرد إن لم يستحم ولم يقم بتنظيف غرفته خلال شهر، لضاقت عليه الحياة.. فكيف بنظافة قصر العالم العظيم؟!

اذن فالطُهر والنقاء والصفاء والبهاء المشاهَد في قصر العالم البديع هذا ما هو الاّ نابع من تنظيف حكيمٍ مستمر، ومن تطهير دقيق دائم.. فلولا هذه المراقبة المستديمة للنظافة، والعناية المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الارض - باجوائها الموبوءة - مئاتُ الآلاف من الاحياء خلال سنة.. ولولا تلك المراقبة الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرّضة للموت والاندثار، لكانت انقاضُها المتطايرة في الفضاء تحطم رؤوسَنا ورؤوس الاحياء الاخرى، بل رأس الدنيا! ولكانت تمطر علينا كتلاً هائلة بحجم الجبال، وتُرغمنا على الفرار من وطننا الدنيوي! بينما لم تسقط منذ دهور سحيقة من الفضاء الخارجي - نتيجة الاندثار - سوى بضعة نيازك، ولم تُصب احداً من الناس، بل كانت عبرةً لمن يعتبر! ولولا التنظيف الدائب والتطهير الدائم في سطح الارض، لكانت الانقاض والاوساخ والاشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الالوف من أمم الاحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارة تصل الى حد ينفر كلُّ من له شعور ان ينظر الى وجه الارض الدميم، بل كان يسوقه الى الفرار منها الى الموت والعدم ناهيك عن حبه وعشقه.

نعم، مثلما ينظف الطيرُ اجنحته بسهولة تامة أو يطهـِّر الكاتب صحائف كتابه بيُسر كامل، فان اجنحة هذه الارض الطائرة – مع الطيور السماوية في الفضاء – وصحائف هذا الكتاب العظيم – أعني الكون – ينظـِّفان ويطهَّران ويجمَّلان ويزيّنان بمثل تلك السهولة واليسر، بل ان تطهير سطح الارض هذا وتنظيفه وتنسيقه وتزيينه هو من كمال الاتقان ما يجعل الذين لا يرون - بايمانهم - جمال الآخرة يعشقون هذا الجمال وهذه النظافة لهذا العالم الدنيوي بل قد يعبدونه!

اذن فقصر العالم الباذخ هذا، ومعمل الكون الهائل هذا، قد حَظَيا بتجلٍ من تجليات اسم الله ((القدوس)) عليهما، حتى انه عندما تصدر الاوامر الإلهية المقدسة الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، المؤدية وظيفة التنظيف والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها ايضاً أنواع الديدان والنمل التي تجمع الجنائز وتقوم بمهمة موظفي الصحة العامة الراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الاوامر التنظيفية حتى الكريات الحمراء والبيضاء الجارية في الدم فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الاجفان الرقيقة تستمع لها فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف اجنحته دائماً..

ومثلما يستمع كل ما ذكرناه لتلك الاوامر القدسية بالتنظيف، تستمع لها ايضاً الرياح الهوج والسحاب الثقال، فتلك تطهِّر وجهَ الارض من النفايات، والاخرى ترشّ روضَتها بالماء الطاهر فتسكّن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملة ادواتها ليعود الجمالُ الساطع الى وجه السماء صافياً متلألئاً.

ومثلما تستمع لتلك الاوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف النجوم، والعناصر، والمعادن، والنباتات باشكالها وانواعها، تستمع لها الذراتُ جميعاً، حتى انها تراعي النقاوة والصفاء في دوامات تحولاتها المحيرة للالباب، فلا تجتمع في زاوية دون فائدة، ولا تزدحم في ركن دون نفع، بل لو تلوثت تُنظَّف فوراً وتُساق سوقاً من لدن قدرة حكيمة الى أخذ أطهر الاوضاع وانظفها وأسطعها واصفاها، وأخذ أجمل الصور وانقاها وألطفها.

وهكذا فان فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبِّر عن حقيقة واحدة هوتجلٍّ اعظم من تجليات اسم ((القدوس)) الاعظم،يُرى ذلك التجلي الاعظم حتى في أعظم دوائر الكون واوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية مع اسمائها الحسنى ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيون النافذة النظر.

وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب اجزاء (رسائل النور): ان فعل التنظيم والنظام الذي هو تجلٍ من تجليات اسم الحَكَم والحكيم، وان فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم العدل والعادل، وان فعل التزيين والاحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الجميل والكريم، وان فعل التربية والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الرب الرحيم.. كل فعل من هذه الافعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوح في آفاق الكون كله، فكل منها يشير الى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء.

كذلك فعلُ التنظيف والتطهير الذي هو تجلٍ من تجليات اسم ((القدوس)) يدل على وجود ذلك الواجب، كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار..

وكما ان الافعال المذكورة من تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وامثالها من الافعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في اوسع الآفاق الكونية، كذلك اكثر الاسماء الحسنى، بل كل اسم من الف اسم واسم من الاسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في اوسع دائرة من دوائر الكون كهذا. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الاحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه.

نعم، ان الحكمة العامة التي تُخضع كل شئ الى قانونها ونظامها، والعناية الشاملة التي تجمّل كل شئ وتزيّنه، والرحمة الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة على كل شئ وتجعله في حمدٍ دائم، والرزق العام الذي يعتاش عليه كلُ ذي حياة ويتمتع بلذائذه، والحياة والإحياء التي تربط كل شئ بالاشياء الأخرى، وتجعل الشئ ينتفع من كل شئ كأنه مالك للاشياء..

هذه الحقائق وامثالها، المشهودة بالبداهة، والمتسمة بالوحدة، والجاعلة وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهل بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي، كما يدل الضوءُ على الشمس. ولله المثل الاعلى.

فكل فعل من هذه الافعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يُسنَد الى (الواحد الاحد) سبحانه لنتجت اذاً مئات المحالات بمئات من الأوجه.

فمثلاً: انه ليست الافعال كلها كالحكمة والعناية والرحمة والاعاشة والإحياء والاماتة التي هي من الحقائق البديهية ومن دلائل التوحيد، بل حتى فعلٌ واحد فقط منها وهو فعل التطهير لو لم يُسند الى رب العالمين للزم - في طريق الكفر والضلالة -ان يكون كلُّ شئ له علاقةٌ بالتنظيف ابتداءً من الذرات، الى الحشرات، الى العناصر، الى النجوم، على علمٍ ومعرفةٍ بتنظيف هذا الكون العظيم وتزيينه وتجميله وموازنة ما فيه!! وأن يلاحظ الامور وفقها، ويقدِر على التحرك.

أو يلزم ان يتصف كلٌ منها بالصفات القدسية الجليلة لرب العالمين!!

أو يلزم ان يكون هناك مجلس شورى واسع سعة الكون كله لتنظيم جميع تزيينات الكون وتطهيره وتقدير كل ما يلج فيه وما يخرج منه وموازنته، وان يشكــِّل هذا المجلسَ ما لا يحد من الذرات والحشرات والنجوم!!..

وهكذا يصل سالكُ طريق الكفر الى مئات من أمثال هذه الخرافات السخيفة والمحالات السوفسطائية كي يظهر التزيين المحيط والتنظيف الشامل الظاهر في الارجاء كافة. اي لاينشأ محال واحد بل مئات الالوف من المحالات.

نعم، ان لم يسند ضوء النهار والشُميسات المتألقة المثالية في كل شئ على سطح الارض، الى الشمس الواحدة، ولم تُفسَّر على انها انعكاساتٌ لتجلي تلك الشمس الواحدة، للزم وجود شمسٍ حقيقية في كل قطرة ماء لماعة، وفي كل قطعة زجاج شفافة، وفي كل بلورة ثلج مشعة، حتى في كل ذرة من ذرات الهواء، كي يظهر ذلك الضوء الذي يعم الوجود!!

وهكذا؛

فالحكمة ضياءٌ، والرحمة الواسعة ضياء، والتزيين والموازنة والتنظيم والتنظيف كلٌ منها ضياء شامل محيط وشعاع من اشعة ذلك النور الازلي سبحانه.

فانظر الآن بنور هذا الايمان لترى كيف يسقط أهل الكفر والضلالة في مستنقع آسن لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقة أهل الضلالة وجهالتهم! واحمد الله قائلاً:

الحمد لله على دين الاسلام وكمال الايمان.

نعم، ان هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد الذي يجعل قصر العالم طاهراً نقياً نظيفاً لهو تجلٍ من تجليات اسم ((القدوس)) ومقتضىً من مقتضياته.

وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعها الى اسم ((القدوس)) وترنو اليه، كذلك يستدعي اسم ((القدوس)) نظافة تلك المخلوقات وطهارتها(1) حتى عدّ الحديث الشريف ((النظافة من الايمان)) الطهور نوراً من انواره(2) لارتباطه القدسي هذا، واظهرت الآية الكريمة ان الطُهر مدعاة الى المحبة الإلهية ومدار لها، في قوله تعالى:

} انَّ الله يحبّ التوابينَ ويحبّ المتطهرين { (البقرة:222).

النكتة الثانية

تخص احدى نكات اسم الله

العدل

} وإنْ مِن شيءٍ إلاّ عِندَنا خزائِنهُ وَمَا نُنَزِّلـُه الاَّ بِقَدَرٍ مَعْلوُم { (الحجر:21)

لقد تراءت لي نكتة لطيفةٌ من لطائف هذه الآية الكريمة، ونور من انوار تجليات اسم الله: ((العدل)) الذي هو اسم الله الاعظم، أو هو نور من أنواره الستة.

تراءى لي ذلك النور من بعيد - كما هو الحال في النكتة الاولى - وانا نزيل سجن ((اسكي شهر)) ولأجل تقريبه الى الافهام نسلك أيضاً طريق ضرب الامثال. فنقول:

هذا الكون قصر بديع يضم مدينة واسعة تتداولها عوامل التخريب والتعمير، وفي تلك المدينة مملكة واسعة تغلي باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة، وبين جوانح تلك المملكة عالم عظيم يسبَح كل حين في خضم الموت والحياة.. ولكن على الرغم من كل مظاهر الاضطراب، فان موازنةً عامة وميزاناً حساساً، وعملية وزنٍ دقيق تسيطر في كل جوانب القصر ونواحي المدينة وتسود في كل ارجاء المملكة واطراف العالم، وتهيمن عليها هيمنة، بحيث تدل بداهة:

ان ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العدّ من تحولات، وما يلجُ فيها وما يخرج منها لا يمكن أن يكون الاّ بعملية وزنٍ وكَيْلٍ، وميزان مَن يرى انحاء الوجود كلها في آن واحد، ومن تجري الموجوداتُ جميعُها أمامَ نظر مراقبته في كل حين... ذلكم الواحد الأحد سبحانه.

والاّ فلو كانت الاسباب الساعية الى اختلال التوزان، سائبة أو مفوضة الى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعة المظلمة البلهاء، لكانت بويضات سمكةٍ واحدة التي تزيد على الالوف تخل بتلك الموزانة، بل بذيرات زهرةٍ واحدة - كالخشخاش - التي تزيد على العشرين ألف تخل بها، ناهيك عن تدفق العناصرالجارية كالسيل، والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التي تحدث في ارجاء الكون.. كل منها لو كان سائباً لكان قميناً أن يخل بتلك الموزانة الدقيقة المنصوبة بين الموجودات، ويفسد التوزان الكامل بين اجزاء الكائنات خلال سنة واحدة، بل خلال يوم واحد. ولكنت ترى العالم وقد حلّ فيه الهرجُ والمرج وتعرّض للاضطرابات والفساد..

فالبحار تمتلئ بالانقاض والجثث، وتتعفن.

والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة، ويفسد.

والارض تصبح مزبلة ومسلخة، وتغدو مستنقعاً آسناً لا تطاق فيه الحياة.

فان شئت فأنعم النظر، في الموجودات كلها، ابتداء من حجيرات الجسم الى الكريات الحمراء والبيضاء في الدم، ومن تحولات الذرات الى التناسب والانسجام بين اجهزة الجسم، ومن واردات البحار ومصاريفها الى موارد المياه الجوفية وصرفياتها، ومن تولدات الحيوانات والنباتات ووفياتها الى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع، ومن وظائف العناصر وحركات النجوم الى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام الى تعارض الحرارة والبرودة.. وما شابهها من أمور، كي ترى ان الكل: يوزَن ويُقدَّر بميزان خارق الحساسية، وان الجميع يُكتال بمكيال غاية في الدقة، بحيث يعجز عقلُ الانسان ان يرى اسرافاً حقيقياً في مكان وعبثاً في جزء.. بل يلمس علمُ الانسان ويشاهد اكملَ نظامٍ واتقنَه في كل شئ فيحاول أن يُريَه، ويرى اروَع توازنٍ وابدعه في كل موجود فيسعى لإبرازه.

فما العلوم التي توصَّل اليها الانسان الاّ ترجمة لذلك النظام البديع وتعبير عن ذلك التوازن الرائع.

فتأمل في الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيارة الاثنتى عشرة التي كل منها مختلفة عن الاخرى، الا تدل هذه الموازنة دلالة واضحة وضوح الشمس نفسها على الله سبحانه الذي هو ((العدل القدير))؟

ثم تأمل في الارض – وهي احدى الكواكب السيارة – هذه السفينة الجارية السابحة في الفضاء التي تجول في سنة واحدة مسافة يقدَّر طولها باربع وعشرين الف سنة. ومع هذه السرعة المذهلة لا تبعثر المواد المنسقة على سطحها ولا تضطرب بها ولا تطلقها الى الفضاء.. فلو زيد شئٌ قليل في سرعتها أو أنقص منها لكانت تقذف بقاطنيها الى الفضاء، ولو أخلّت بموازنتها لدقيقة - بل لثانية واحدة - لتعثرت في سيرها واضطربت، ولربما اصطدمت بغيرها من السيارات ولقامت القيامة.

ثم تأمل في تولدات ووفيات النباتات والحيوانات واعاشتهما وحياتهما على الارض والتي يزيد عدد انواعها على الاربعمائة الف نوع، ترى موازنة رائعة ذات رحمة، تدلك دلالة قاطعة على ((الخالق العادل الرحيم)) جلّ جلالُه، كدلالة الضياء على الشمس.

ثم تأمل في اعضاء كائن حي من الاحياء التي لاتعد ولا تحصى، ودقق في اجهزته وفي حواسه.. تَرَ فيها من الانسجام التام والتناسق الكامل والموازنة الدقيقة ما يدلّك بداهة على الصانع الذي هو ((العدل الحكيم)).

ثم تأمل في حجيرات جسم كائن حي وفي اوعية الدم، وفي الكريات السابحة في الدم، وفي ذرات تلك الكريات، تجد من الموزانة الخارقة البديعة ما يثبت لك اثباتاً قاطعاً انه لا تحصل هذه الموازنة الرائعة ولا ادارتها الشاملة، ولا تربيتها الحكيمة الاّ بميزان حساسٍ وبقانونٍ نافذ وبنظام صارم للخالق الواحد الاحد ((العدل الحكيم)) الذي بيده ناصية كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ. لايحجب عنه شئ ولايعزب، ويدير كل شئ بسهولة ادارة شئ واحد.

ان الذي لا يعتقد ان اعمال الجن والانس يوم الحشر الاكبر توزن بميزان العدل الإلهي، ويستغرب منها ويستبعدها ولا يؤمن بها، أقول لو تمكّن ان يتأمل فيما هو ظاهر مشاهدَ من انواع الموازنة الكبرى امامه في هذه الدنيا لزال استبعاده واستنكاره حتماً.

ايها الانسان المسرف الظالم الوسخ.!

اعلم، ان الاقتصاد والطهر والعدالة سنن الهية جارية في الكون، ودساتير الهية شاملة تدور رحى الموجودات عليها لايفلت منها شئ الاّ انت ايها الشقي، وانت بمخالفتك الموجودات كلها في سيرها وفق هذه السنن الشاملة تلقى النفرة منها والغضب عليك وانت تستحقها..

فعلامَ تستند وتثير غضبَ الموجودات كلها عليك فتقترف الظلم والاسراف ولاتكترث للموازنة والنظافة؟

نعم، ان الحكمة العامة المهيمنة في الكون والتي هي تجلٍ أعظم لاسم (الحكيم ) انما تدور حول محور الاقتصاد وعدم الاسراف، بل تأمر بالاقتصاد.

وان العدالة العامة الجارية في الكون النابعة من التجلي الاعظم لاسم (العدل) انما تدير موازنة عموم الاشياء، وتأمر البشرية باقامة العدل.

وان ذكر الميزان اربع مرات في (سورة الرحمن) اشارة الى اربعة انواع من الموازين في اربع مراتب وبيان لأهمية الميزان البالغة ولقيمته العظمى في الكون. وذلك في قوله تعالى: } والسماء رفَعها وَوَضَع الميزان ` الاَّ تَطْغَوا في الميزان` وَاقِيمُوا الوزْنَ بالقِسْطِ ولا تُخْسِروا الميزانَ { (الرحمن: 7- 9).

نعم، فكما لا اسراف في شئ، فلا ظلم كذلك ظلماً حقيقياً في شئ، ولا بخسَ في الميزان قط، بل ان التطهير والطهر الصادر من التجلي الاعظم لاسم (القدوس) يعرض الموجودات بأبهى صورتها وابدع زينتها، فلا ترى ثمة قذارة في موجود، ولا تجد قبحاً اصيلاً في شئ ما لم تمسّه يد البشر الوسخة.

فاعلم من هذا ان (العدالة والاقتصاد والطهر) التي هي من حقائق القرآن ودساتير الاسلام، ما أشدها ايغالاً في اعماق الحياة الاجتماعية، وما اشدها عراقة واصالة. وأدرك من هذا مدى قوة ارتباط احكام القرآن بالكون، وكيف انها مدّت جذوراً عميقة في اغوار الكون فأحاطته بعرىً وثيقة لا انفصام لها. ثم افهم منها ان افساد تلك الحقائق ممتنعٌ كامتناع افساد نظام الكون والاخلال به وتشويه صورته.

ومثلما تستلزم هذه الحقائق المحيطة بالكون، وهذه الانوار العظيمة الثلاثة (العدالة والاقتصاد والطهر) الحشرَ والآخرة فهناك حقائق محيطة معها: كالرحمة والعناية والرقابة، وامثالها مئات من الحقائق المحيطة والانوار العظيمة تستلزم الحشر وتقتضي الحياة الآخرة، اذ هل يمكن ان تنقلب مثل هذه الحقائق المهيمنة على الموجودات والمحيطة بالكون الى اضدادها بعدم مجئ الحشر وبعدم اقامة الآخرة، أي ان تنقلب الرحمةُ الى ضدها وهو الظلم، وتنقلب الحكمةُ او الاقتصاد الى ضدهما وهو العبث والاسراف، وينقلب الطُهر الى ضده وهو العبث والفساد. حاشَ لله..

ان الرحمة الإلهية، والحكمة الربانية اللتين تحافظان على حق حياة بعوضةٍ ضعيفة محافظةً تتسم بالرحمة الواسعة، لا يمكن ان تضيّعا - بعدم اقامة الحشر - حقوق جميع ذوي الشعور غير المحدودين وتهضما حقوقاً غير متناهية لموجودات غير محصورة..

وان عظمة الربوبية التي تُظهر دقة متناهية وحساسية فائقة - اذا جاز التعبير - في الرحمة والشفقة والعدالة والحكمة، وكذا الالوهية الباسطة سلطانها على الوجود كله والتي تريد اظهار كمالاتها وتعريف نفسها وتحبيبها بتزييناتها الكائنات ببدائع صنائعها وبما أسبغت عليها من نِعَمٍ هل يمكن ان تسمح - هذه الربوبية العظيمة والالوهية الجليلة - بعدم اقامة الحشر الذي يسبب الحطّ من قيمة جميع كمالاتها ومن قيمة مخلوقاتها قاطبة؟.

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فمثل هذا الجمال المطلق لا يرضى - بالبداهة - بمثل هذا القبح المطلق.

فالذي يريد ان ينكر الآخرة عليه ان ينكر وجود هذا الكون اولاً بجميع ما فيه من حقائق. والاّ فالكائنات مع حقائقها المتأصلة فيها تكذِّبه بالوفٍ من الألسنة، وتثبت له انه الكذّاب الأشر.

وقد أثبتت ((رسالة الحشر)) بدلائل قاطعة: ان وجود الآخرة ثابت وقاطع لاريب فيه كوجود هذه الدنيا.

النكتة الثالثة

تشيرالى النور الثالث من الانوار الستة للاسم الاعظم :

الحكم

} ادعُ الى سَبيل ربك بالحِكْمةِ{ (النحل:125)

لقد تراءت لي نكتة من النكات الدقيقة لهذه الآية الكريمة، ونور من أنوار تجليات اسم الله (الحَكَم) الذي هو اسم الله الاعظم، أو أحد أنواره. في شهر رمضان المبارك. فكُتبت هذه النكتة المشتملة على خمس نقاط على عجل، فأثبتّها على حالها في المسودة دون تنقيح أو تغيير.

النقطة الاولى:

مثلما ذكرنا في ((الكلمة العاشرة)) ان التجلي الاعظم لاسم (الحَكَم) جعل هذا الكون بمثابة كتاب عظيم كُتبتْ في كل صحيفة من صحائفه مئات الكتب، واُدرجت في كل سطر منه مئات الصفحات، وخُطَّتْ في كل كلمة منه مئات الاسطر، وتُقرأ تحت كل حرف فيه مئات الكلمات، وحُفِظَ في كل نقطة من نقاطه فهرسٌ مختصر صغير يلخص محتويات الكتاب كله.. فهذا الكتاب بصفحاته وأسطره بل بنقاطه يدل دلالة واضحة ساطعة - بمئات الأوجه - على مصوِّرِه وكاتبه، حتى أن مشاهدة الكتاب الكوني العظيم هذا وحدَها كافية للدلالة على وجود كاتبه، بل تسوقنا الى معرفة وجوده ووحدانيته بما يفوق دلالة الكتاب على نفسه اضعافاً مضاعفة.

اذ بينما يدل الحرفُ الواحد على وجوده ويعبّر عن نفسه بمقدار حرف فأنه يعبّر عن أوصاف كاتبه بمقدار سطر..

نعم! ان سطح الارض ((صحيفة)) من هذا الكتاب الكبير، هذه الصحيفة تضم كتباً بعدد طوائف النباتات والحيوانات، وهي تُكتب أمام أنظارنا في موسم الربيع في غاية الكمال والاتقان من دون خطأٍ، كتابةً متداخلة، جنباً الى جنب، في آن واحد.

والبستان ((سطر)) من هذه الصحيفة، نشاهد فيه قصائد منظومة وهي تُكتب أمام أعيننا بعدد الازهار والاشجار والنباتات، كتابةً متداخلة، جنباً الى جنب، من دون خطأ.

والشجرة النامية الزاهية أوراقُها، المفتحة أزهارُها، وقد أوشكت أن تخرج أثمارُها من اكمامها، هذه الشجرة ((كلمةٌ)) من ذلك السطر، فهذه الكلمة تمثل فقرةً كاملة ذات مغزى تعبّر تعبيراً بليغاً عن ثنائها وحمدها ودلالتها على ((الحكم)) ذي الجمال، بعدد أوراقها المنتظمة وأزهارها المزينة وأثمارها الموزونة، حتى لكأن تلك الشجرة المفتحة الازهار قصيدةٌ عصماء تتغنى بالمدح والثناء على آلاء بارئها المصور الجليل.

وكأن ((الحكيم)) ذا الجلال يريد أن ينظر عباده الى ما عَرَضه من بدائع آثاره وعجائب مخلوقاته في معرض الارض البديع بألوف من العيون.

وكأن تلك الهدايا الثمينة والأوسمة الغالية والشارات اللطيفة التي منحها الله تعالى لتلك الشجرة قد أعطتها من الشكل الجميل المزيَّن، والهيأة الموزونة المنتظمة، والابانة الحكيمة البليغة ما يهيؤها للعرض أمام أنظار الملِك العظيم في يوم عيده البهيج وعرضه العام للمخلوقات.. في الربيع الزاهي.. فتنطلق بالشهادة على وجود البارئ المصور، والدلالة على أسمائه الحسنى ألسنةٌ عديدة ووجوهٌ كثيرة متداخلة؛ من كل زهرة من أزهار الشجرة، ومن كل ثمرة من ثمارها.

فمثلاً: ان كل ما في الزهرة والثمرة موزونٌ بميزان دقيق، وذلك الميزان مقدّر وفق تناسق بديع، وذلك التناسق يسير منسجماً مع تنظيم وموازنةٍ يتجددان، وذلك التنظيم والموازنة يجريان في ثنايا زينة فاخرة وصنعة متقنة، وتلك الزينة والاتقان يظهران بروائح ذات مغزى وبمذاقات ذات حكمة.. وهكذا تشير كل زهرة الى ((الحكم)) ذي الجلال اشاراتٍ، وتدل عليه دلالات، بعدد أزهار تلك الشجرة.

والشجرة التي هي بمثابة كلمة، وثمارها التي هي بحكم حروف تلك الكلمة، وبذور الثمر كأنها نقاط تلك الحروف التي تضم فهرس الشجرة كاملاً وتحمل خطة اعمالها. هذه الشجرة اذا اخذناها مثالاً وقسنا عليها كتاب الكون الكبير، نرى سطورَه وصحائفه قد صارت بتجلى انوار اسم ((الحكيم الحَكَم)) معجزة باهرة، بل غدت كل صحيفة منه، وكل سطر منه، وكل كلمة، وكل حرف، وكل نقطة معجزة تبلغ من العظمة ما لو اجتمعت الاسباب المادية كلها على أن تأتي بمثل تلك النقطة - أي البذرة - أو بنظيرها لا تأتي بمثلها. بل تعجز الاسباب جميعُها عجزاً مطلقاً عن معارضتها.

نعم، ان كل آية كونية من آيات قرآن الكون العظيم المنظور تُعرِض للانظار معجزاتٍ نيّرات هي بعدد نقاطها وحروفها، فلا جرم أن المصادفة العشواء والقوة العمياء، والطبيعة الصماء البلهاء التي لا هدف لها ولا ميزان، لا يمكنها ان تتدخل - في أية جهة كانت - في هذا الميزان المتقن الخاص، وفي هذا الانتظام الدقيق البديع المتّسمين بالحكمة والبصيرة. فلو اُفترض تدخلها - جدلاً - لظهر أثر التدخل، بينما لا يشاهَد في أي مكان تفاوتاً ولا خللاً قط.

النقطة الثانية:

وهي مسألتان:

l المسألة الاولى: مثلما وضح في ((الكلمة العاشرة)) أنه من القواعد الاساسية الرصينة:

ان الجمال الذي هو في منتهى الكمال لابد أن يَشهَد ويُشهِدَ جمالَه.

وان الكمال الذي هو في منتهى الجمال لابد أن يَشهَد ويُشهِد كمالَه.

فبناء على هذا الدستور العام فان البارئ المصور سبحانه الذي أبدع كتاب الكون العظيم هذا يعرِّف جمالَ كمالِه ويحبّبه بألسنةِ مخلوقاته - ابتداءً من أصغر جزئي الى أكبر كلي - فيعرِّف سبحانه ذاتَه المقدسَّة، ويفهّم كمالَه السامي، ويُظهر جمالَه البديع: بهذا الكون الرائع، وبكل صحيفة فيه، وبكل سطر فيه، وبكل كلمة فيه، بل حتى بكل حرف وبكل نقطة من كتابه العظيم هذا.

فيا أيها الغافل! ان هذا ((الحكيم الحَكمَ الحاكم)) ذا الجلال والجمال، اذ يعرّف نفسَه لك ويحبّبها اليك بكل مخلوقٍ من مخلوقاته، وبهذه الصورة الرائعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الوسائل البديعة، اِن لم تقابِل تعريفَه هذا بالايمان به ولم تعرِفه، وإن لم تقابِل تحبيبه هذا بالعبادة له ولم تحبّب نفسَك اليه، فما أعظم جهلك اذن، وما أفدح خسارتك!. أحذر!. أنتبه!.. وأفِق من غفلتك!.

l المسألة الثانية: انه لا مكان للشرك قط في هذا الكون الشاسع العظيم الذي أبدعه الصانع القدير الحكيم بقدرته وحكمته؛ لأن وجود منتهى النظام في كل شئ لن يسمح بالشرك ابداً، فلو تدخلت أيدٍ متعددة في خلق شئٍ ما لبان التفاوت والاختلال في ذلك الشئ، مثلما تختلط الامور اذا ما وجد سلطانان في بلاد، ومسؤولان في مدينة، ومديران في قصبة، ومثلما يرفض أبسط موظف تدخل أحدٍ في شأن من شؤونه التي تخص وظيفته..

كل ذلك دلالة على ان الخاصة الاساسية للحاكمية انما هي: ((الاستقلال)) و((الانفراد)) فالانتظام يقتضي الوحدة كما ان الحاكمية تقتضي الانفراد.

فاذا كان ظلٌ باهت زائل للحاكمية لدى هذا الانسان العاجز الفقير يردّ المداخلة بقوة، فكيف بالحاكمية الحقيقية التي هي في مرتبة الربوبية المطلقة لدى القدير المطلق سبحانه؟ ألا تردّ الشرك وترفضه رفضاً باتاً؟.

فلو اُفترض التدخل - ولو بمقدار ذرة - لاختلط الانتظام والتناسق واختل النظام والميزان!. مع العلم ان هذا الكون قد أبدع ابداعاً رائعاً الى حد يلزم لخَلْق بذرة واحدة قدرة قادرة على خلق شجرة كاملة، ويلزم لخلق شجرة واحدة قدرة قادرة لإبداع الكون كله. واذا ما افتُرض وجود شريك في الكون كله وَجَب أن يظهر نصيبهُ في التدخل لخلقِ أصغر بذرة مثلاً - اذ البذرة نموذج الكائنات - وعندئذ يلزم استقرار ربوبيتين - لا يسَعهما الكونُ العظيم - في بذرة صغيرة، بل في ذرة!! وهذا من أسخف المحالات والخيالات الباطلة وأبعدها عن المنطق والعقل.

فاعلم من هذا! ما أتفه الشرك والكفر من خرافة! وما اكذبهما من كلمة! وما أفظعهما من افتراء! اذ يقتضيان عجز القدير المطلق الذي يمسك السموات والارض أن تزولا، والذي بيده مقاليد السموات والارض يديرهما بميزان عدله ونظام حكمته.. يقتضيان عجزه سبحانه حتى في بذرة صغيرة!!

واعلم! ما أصوبَ التوحيد من حق وحقيقة! وما أعدله من صدق وصواب! ادرك هذا وذاك وقل: الحمد لله على الايمان.

النقطة الثالثة:

ان الصانع القدير باسمه ((الحَكَم والحكيم)) قد أدرج في هذا العالم ألوف العوالم المنتظمة البديعة، وبوأ الانسانَ - الذي هو اكثر من يمثل الحِكَم المقصودة في الكون وأفضل مَن يظهرها - موقعَ الصدارة، وجعله بمثابة مركز تلك العوالم ومحورها؛ اذ يتطلع ما فيها من حِكَم ومصالح الى الانسان. وجعل الرزق بمثابة المركز في دائرة حياة الانسان؛ فتجد ان معظم الحِكَم والغايات وأغلب المصالح والفوائد – ضمن عالم الانسان – تتوجه الى ذلك الرزق وتتضح به؛ لذا فان تجليات اسم ((الحكيم)) تبدو واضحة بأبهر صورها واسطعها من خلال مشاعر الانسان، ومن تضاعيف مذاقات الرزق، حتى غدا كل علم - من مئات العلوم التي توصّل الانسان الى كشفها بما يملك من شعور - يعرِّف تجلياً واحداً من تجليات اسم ((الحَكَم)) في نوع من الأنواع.

فمثلا:

لو سُئل علم الطب: ما هذه الكائنات؟

لأجاب: انها صيدلية كبرى اُحضرت فيها باتقان جميع الادوية وأدّخرَت.

واذا ما سُئل علم الكيمياء: ما هذه الكرة الارضية؟

لأجاب: انها مختبر كيمياء منتظم بديع كامل.

على حين يجيب علم المكائن: انها معمل منسَّق كامل لا ترى فيه نقصاً.

كما يجيب علم الزراعة: انها حديقة غنَّاء ومزرعة معطاء، تستنبت فيها انواع المحاصيل، كلٌ في أوانه.

ولأجاب علم التجارة: انها معرض تجاري فخم، وسوق في غاية الروعة والنظام، ومحل تجاري يحوي أنفس البضائع المصنوعة وأجودها.

ولأجاب علم الاعاشة: انها مستودع ضخم يضم الأرزاق كلها بأنواعها وأصنافها.

ولأجاب علم التغذية: انها مطبخ رباني تطبخ فيه مئات الالوف من الاطعمة الشهيَّة اللذيذة جنباً الى جنب بنظام في غاية الاتقان والكمال.

ولو سئل علم العسكرية عن الارض!

لأجاب: انها معسكر مهيب يُساق اليه في كل ربيع جنودٌ مسلحون جُدد يؤلفون أمماً مختلفة من النباتات والحيوانات يبلغ تعدادها اكثر من اربعمائة ألف أمة، فتُنصَب خِيَمُهم في ارجاء سطح الارض. وعلى الرغم من أن ارزاق كل أمَّة تختلف عن الاخرى، وملابسها متغايرة واسلحتها متباينة، وتعليماتها مختلفة، ورُخَصها متفاوتة، الا ان أمور الجميع تسير بانتظام رائع، ولوازم الجميع تُهيأ دون نسيان ولا التباس، وذلك بأمر من الله تعالى وبفضل رحمته السابغة صادراً من خزينته الواسعة.

واذا ما سئل علم الكهرباء!

لأجاب: ان سقف قصر الكون البديع هذا قد زُيِّن بمصابيح متلألئة لاحدَّ لكثرتها ولا منتهى لروعتها وتناسقها، حتى ان النظام البديع والتناسق الرائع الذي فيه يحولان دون انفجار تلك المصابيح السماوية المتوهجة دوماً - وهي تكبر الارض الف مرة وفي مقدمتها الشمس - ودون انتقاص توازنها او نشوب حريق فيما بينها..

تُرى من أي مصدرٍ تُغذّى تلك المصابيح التي لا يحد ولا ينفد استهلاكها؟. ولِمَ لا يختل توازن الاحتراق؟ علماً ان مصباحاً زيتياً صغيراً إن لم يُراعَ ويُعتنَ به باستمرار ينطفئ نورُه ويخبُ.. فسبحانه من قدير حكيم ذي جلال كيف أوقد الشمس - التي هي أضخم من الارض بمليون مرة ومضى على عمرها أكثر من مليون سنة - حسب ما توصل اليه علم الفلك - دون ان تنطفئ ومن دون وقود أو زيت ..(1)

تأمل في هذا وسبّح باسم ربك العظيم وقل: ما شاء الله، تبارك الله، لا اله الا الله.. قلها بعدد الثواني التي مرت على عمر الشمس.. فلاشك ان نظاماً بديعاً صارماً هو الذي يهيمن على هذه المصابيح السماوية المتلألئة ولابد أن رعايتها، ومراقبتها دقيقة، حتى كأن مصدر الحرارة - والمرجل البخاري - لتلك الكتل النارية التي هي في منتهى الضخامة وفي غاية الكثرة، انما هي جهنم لا تنفد حرارتُها وترسلها الى الكل مظلمة قاتمة بلا نور. وكأن ماكنة تلك المصابيح المنورة والقناديل المضيئة التي لاتعد ولا تحصى هي جنة دائمة ترسل اليها النور والضياء فيستمر اشتعالها المنتظم بالتجلي الاعظم لاسم ((الحكم والحكيم)).

وهكذا قياساً على هذه الامثلة، فان كل علمٍ من مئات العلوم يشهد قطعاً: ان هذا الكون قد زُيِّن بحِكَمٍ ومصالح شتى ضمن انتظام كامل لا نقص فيه، وان تلك الانظمة البديعة والحِكَم السامية النابعة من تلك الحكمة المعجزة المحيطة بالكون قد أدرجت بمقياس اصغر، حتى في اصغر كائن حي وفي أصغر بذرة..

ومن المعلوم بداهة ان تتبع الغايات وارداف الحِكَم والفوائد بانتظام لايحصل الا بالارادة والاختيار والقصد والمشيئة، والاّ فلا. فكما ان هذا العمل البديع ليس هو من شأن الاسباب والطبيعة - اللتين لا تملكان ارادةً ولا اختياراً ولا قصداً ولا شعوراً - فلن يكون لهما تدخلٌ فيه كذلك؛ لذا فما أجهل مَن لايعرف أولا يؤمن بالفاعل المختار وبالصانع الحكيم الذي تدل عليه هذه الانظمةُ البديعة والحِكَم الرفيعة التي لاحدَّ لها وهي مبثوثة في موجودات الكون قاطبة.

نعم! ان كان هناك شئٌ يُستَغرب منه ويُثير عند الانسان العَجب في هذه الدنيا انما هو: انكار وجوده سبحانه؛ لأن الانتظام بأنواعه البديعة التي لا تعد والحِكَم بأشكالها السامية التي لا تحصى والمندرجة في كل موجود في الكون شواهد صادقة على وجوب وجوده سبحانه وعلى وحدانيته.. فبعداً لعمىً ما بعده عمى! وسحقاً لجهلٍ ما بعده جهل لمن لايرى هذا ((الرب الحكيم)) سبحانه! حتى يمكنني القول: أن السوفسطائيين الذين يُعَدّون حمقى لأنكارهم وجود الكون، هم أعقلُ أهل الكفر؛ لأن الاعتقاد بوجود الكون ومن بعده انكار خالقه - وهو الله سبحانه - غير ممكن قطعاً، ولا يُقبل اصلاً، لذا بدأوا بانكار الكون وأنكروا وجودهم أيضاً، وقالوا لاشئ موجود على الاطلاق. فأبطلوا عقولهم، وانقذوا أنفسهم بأقترابهم شيئاً الى العقل من متاهة الحماقة المتناهية للمنكرين الجاحدين الحمقى المتسترين تحت ستار العقل!

النقطة الرابعة:

مثلما أشير في ((الكلمة العاشرة)) الى أنه: اذا ما شيَّد معماري بارع حكيم قصراً منيفاً، وأودع في كل حجر من احجاره مئات الحِكَم والمصالح والفوائد، فلا يتصور مَن له شعور ان لايبني له سقفاً يحفظه من البلى والفساد؛ لان هذا يعني تعريض البناء الى العدم والتلف وضياع تلك الفوائد والحكم التي كان يرعاها ويتولاها، وهذا ما لايرضى به ذو شعور. أو أن حكيماً مطلقاً يُنشئ من درهم من البذور مئات الاطنان من الفوائد والحكم والغايات، ويتعقبها ويديرها، لا يمكن ان يَـتَصور مَن له عقل صدور العبث والاسراف المنافيين كلياً للحكمة المطلقة من ذلك ((الحكيم المطلق)) فيقلّد الشجرة الضخمة فائدة جزئية، وغاية تافهة وثمرة قليلة، علماً أنه ينفق لإنشائها واثمارها الكثير!..

نعم، فكما لا يمكن ان يتصور هذا أو ذاك عاقلٌ قط، كذلك لا يمكن ان يتصور مَن له مسكةُ عقل أن يصدُر من ((الصانع الحكيم)) العبثُ والاسراف بعدم اتيان الآخرة وبعدم اقامته الحشر والقيامة بعد أن قلَّد كل موجود في قصر الكون هذا مئاتٍ من الحكم والمصالح وجهزه بمئاتِ الوظائف - حتى انه قلَّد كل شجرة حكماً بعدد ثمارها ووظائف بعدد ازهارها - فلا يمكن ان يتوارد على خاطر عاقل ان يضيّع هذا ((الحكيمُ الجليل)) جميعَ هذه الحِكم والمقاصد وجميع هذه الوظائف بعدم اقامته القيامة والآخرة.

اذ يعني هذا اسناد العجز التام الى قدرة القدير المطلق، وتنسيب العبث والضياع الى الحكمة البالغة للحكيم المطلق، وارجاع القبح المطلق الى جمال رحمة الرحيم المطلق، واسناد الظلم المطلق الى العدالة التامة للعادل المطلق، أي انكار كل من الحكمة والرحمة والعدالة الظاهرة المشاهدة، انكارها كلياً من الوجود! وهذا من أعجب المحالات واشدها سخفاً واكثرها بطلاناً!.

فليأت أهلُ الضلالة، ولينظروا الى ضلالتهم كيف انها مظلمة مليئة بالعقارب والحيات كقبورهم التي سيصيرون اليها! وليدركوا ان طريق الايمان بالآخرة منوَّرٌ جميل كالجنة فليسلكوه ولينعَموا بالايمان.

النقطة الخامسة:

وهي مسألتان:

l المسألة الاولى: ان تعقب الصانع الجليل - بمقتضى اسم ((الحكيم)) لألطف صورة في كل شئ واقصر طريق، وأسهل طراز، وأنفع شكل.. يدل دلالة واضحة على ان الفطرة لا إسراف فيها قط ولا عبث، فما من شئ الاّ وفيه نفعه وجدواه، وإن الاسراف مثلما ينافي اسم ((الحكيم)) فالاقتصاد لازمُه ومقتضاه ودستوره الاساس.

فيا ايها المسرف المبذر! اعلم مدى مجانبتك الحقيقة بقعودك عن تطبيق أعظم دستور للكون المبني على الاقتصاد. وتدبّر الآية الكريمة } وكُلوا واشربوا ولاتُسرفوا{ (الاعراف: 31) لتعلم مدى رسوخ الدستور الواسع الشامل الذي ترشد اليه.

l المسألة الثانية: يصح ان يقال: ان اسم الله ((الحكم)) و((الحكيم)) يقتضيان بداهة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، ويدلان عليها ويستلزمانها.

نعم! مادام الكتاب البليغ بمعانيه ومراميه، يقتضي بالضرورة معلماً بارعاً لتدريسه.. والجمال الفائق يقتضي مراةً يتراءى فيها، ويُري بها جمالَه وحُسنه.. والصنعةُ البديعة تستدعي منادياً داعياً اليها..

فلابد ان يوجد بين بني البشر الذي هو موضع خطاب كتاب الكون الكبير المتضمن مئات المعاني البليغة والحِكَم الدقيقة في كل حرف من حروفه، اقول:

لابد ان يوجد رائدٌ اكمل، ومعلمٌ اكبر، ليرشد الناس الى ما في ذلك الكتاب الكبير من حِكم مقدسة حقيقية.. وليعلّم وجود الحِكَم المبثوثة في ارجائه ويدل علىها.. وليكون مبعث ظهور المقاصد الربانية في خلق الكون، بل السبب في حصولها.. وليرشد الى مايريد الخالق اظهارَه من كمال صنعته البديعة، وجمال اسمائه الحسنى، فيكون كالمرآة الصافية لذلك الكمال البديع والجمال الفائق.. ولينهض بعبودية واسعة - باسم المخلوقات قاطبة - تجاه مظاهر الربوبية الواسعة، مثيراً الشوقَ وناثراً الوجدَ في الآفاق براً وبحراً ملفتاً انظار الجميع الى الصانع الجليل بدعوةٍ ودعاء، وتهليل وتسبيح وتقديس، ترنّ به ارجاء السماوات والارض.. وليقرع اسماع جميع ارباب العقول بما يلقّنه من دروس مقدسة سامية وارشادات حكيمة من القرآن الحكيم.. وليبين بأجمل صورة واجلاها بالقرآن العظيم المقاصد الإلهية لذلك الصانع ((الحكم الحكيم)).. وليستقبل بأكمل مقابلة وأتمها مظاهر الحكمة البالغة والجمال والجلال المتجلية في الآفاق. فانسانٌ هذه مهمته، انسان ضروري وجوده،بل يستلزمه هذا الكون،كضرورة الشمس ولزومها له.

فالذي يؤدي هذه المهمات، وينجز هذه الوظائف على اتم صورة ليس الا الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم كما هو مشاهد؛ لذا فكما تستلزم الشمس الضوء، ويستلزم الضوء النهار، فالحِكَم المبثوثة في آفاق الكون وجنباته تستلزم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

نعم! مثلما يقتضي التجلي الاعظم لاسم ((الحكم والحكيم)) - في اوسع مداه - الرسالة الاحمدية، فان اغلب الاسماء الحسنى؛ ((الله، الرحمن، الرحيم، الودود، المنعم، الكريم، الجميل، الرب)) وامثالها، تستلزم الرسالة الاحمدية في اعظم تجلياتها واحاطتها بالكون كله، استلزاماً قاطعاً لا ريب فيه.

فمثلاً:

ان الرحمة الواسعة التي هي تجلي اسم ((الرحيم)) تظهر بوضوح بمَن هو ((رحمة للعالمين))..

وان التحبب الإلهي، والتعرف الرباني - اللذين هما من تجليات اسم ((الودود)) - يفضيان الى نتيجتهما ويجدان المقابلة بــ((حبيب رب العالمين))..

وان جميع انواع الجمال: من جمال الذات الى جمال الاسماء، وجمال الصنعة والاتقان، وجمال المصنوعات، والمخلوقات، كل انواع الجمال – التي هي تجلٍ من تجليات اسم ((الجميل)) - تشاهَد في تلك المرآة الاحمدية، وتُشهد بها..

بل حتى تجليات عظمة الربوبية، وهيمنة سلطنة الالوهية انما تُعرف برسالة هذا الداعية العظيم الى سلطان الربوبية وتتبين بها، وتُفهم عنها، وتؤخذ منها وتُصدّق بها..

وهكذا فأغلب الاسماء الحسنى انما هي برهان باهر على الرسالة الاحمدية كما مر آنفاً..

نحصل مما سبق:

ما دام الكون موجوداً بالفعل ولا يمكن انكاره، فلا يمكن ان يُنكَر كذلك ما هو بمثابة ألوانِه وزينته، وضيائه واتقانه، وانواع حياته، واشكال روابطه من الحقائق المشهودة، كالحكمة، والعناية، والرحمة، والجمال، والنظام، والميزان، والزينة، وامثالها من الحقائق..

فمادام لا يمكن انكار هذه الصفات والافعال، فلا يمكن انكار موصوف تلك الصفات، ولا يمكن انكار فاعل تلك الافعال ونور شمس تلك الاضواء، اعني ذات ((الله)) الاقدس جلّ جلالُه ((الواجب الوجود))، الذي هو الحكيم، الرحيم، الجميل، الحكم، العدل..

وكذا لا يمكن انكار مَن هو مدارٌ لظهور تلك الصفات والافعال، بل مَن هو مدارٌ لعرض كمالاتها، بل تحقق تجلياتها، ذلكم الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الرائد الاكبر، والمعلم الاكمل، والداعية الاعظم، وكشاف طلسم الكائنات، والمرآة الصمدانية، وحبيب الرحمن.. فلا يمكن انكار رسالته قطعاً، لأنها اسطع نور في هذا الكون كسطوع ضياء عالم الحقيقة ونور حقيقة الكائنات .

عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام بعدد عاشرات الايام وذرات الأنام.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ {



النكتة الرابعة

تخص اسم الله

الفرد

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

} قـُلْ هُوَ اللهُ اَحـَدٌ{

بينما انا نزيل سجن ((اسكي شهر)) في شهر شوال اذ تراءت لي نكتة دقيقة من النكات اللطيفة لهذه الآية الجليلة، ولاح لي قبس من انوار اسم الله الاعظم: ((الفرد)) - او هو أحد انواره الستة - الذي يتضمن اسمي ((الواحد والأحد)) من الاسماء الإلهية الحسنى.

سنبين هنا باختصار شديد التوحيد الحقيقي الذي يُظهره ذلك التجلي الاعظم. وذلك في سبع اشارات موجزة.

الاشارة الاولى:

لقد وضع اسم الله الاعظم: ((الفرد)) بتجليه الاعظم على الكون كله بصمات التوحيد المميز، واختامَ الوحدانية الواضحة، على مجموع الكون، وعلى كل نوعٍ فيه، وعلى كل فردٍ فيه.

ولما كانت ((الكلمة الثانية والعشرون)) و((المكتوب الثالث والثلاثون)) قد تناولا بيان ذلك التجلي بشئ من التفصيل، نكتفي بالاشارة فقط الى ثلاث بصماتٍ واختام منها دالّة على التوحيد:

الختم الأول

ان التجلي الاعظم للفردية قد طبع على وجه ((الكون)) كله طابعاً مميزاً للتوحيد، وختماً واضحاً للوحدانية وضوحاً حوّل الكون كلَّه بحكم ((الكل)) الذي لايقبل التجزئة مطلقاً بحيث:

ان مَن لايقْدِر على أن يتصرف في الكون كلـِّه لا يمكن أن يكون مالكاً مُلكاً حقيقياً لأي جزء منه.

ولنوضح هذا الختم المميز:

ان موجودات الكون، بانواعها المختلفة، تتعاون فيما بينها تعاوناً وثيقاً، ويسعى كلٌّ جزء منها لتكملة مهمة الآخر وكأنها تمثل بمجموعها واجزائها تروس معمل بديع ودواليبه - الذي يشاهد فيه هذا التعاون بوضوح - فهذا التساند، وهذا التعاون بين الأجزاء، وهذه الاستجابة في اسعاف كلٍ منها لطلب الآخر، وامداد كلِ جزء للجزء الآخر، بل هذا التعانق والاندماج بين الأجزاء، يجعل من اجزاء الكون كله وحدةً متحدة تتعصَّى على الانقسام والانفكاك. يشبه في هذا وحدةَ أجزاء جسم الانسان الذي لا يمكن فكّ بعضها عن البعض الآخر.

نفهم من هذا ان الذي يمسك زمام عنصر واحد في الوجود، ان لم يكن زمام جميع العناصر بيده لا يستطيع أن يسيطر على ذلك العنصر الواحد أيضاً.

اذاً فـ ((التعاون)) و((التساند)) و((التجاوب)) و((التعانق)) الواضحة على وجه الكون، انما هي أختام كبرى وبصمات ساطعة للتوحيد.

الختم الثاني:

ان التجلي الباهر لاسم الله ((الفرد)) يجعلنا نُشاهد - على وجه الارض ولا سيما في الربيع - ختماً لامعاً للأحدية، وآية جلية للوحدانية بحيث:

ان من لايدير جميع الأحياء على وجه الارض كلها بافرادها واحوالها وشؤونها كافة، والذي لايرى ولايخلق ولايعلم جميعها معاً، لا يمكن أن يكون له تدخل في أي شئ من حيث الايجاد.

فلنوضح هذا الختم:

تأمل في هذه البُسُط المفروشة على الارض التي لحمتُها وسُداها مئتا ألف طائفة ونوع من أنواع الحيوانات وطوائف النباتات بأفرادها المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى والتي تضفي الزينة وتنثر البهجة على نسيج الحياة على سطح الارض - وبخاصة في الربيع - تأمّلها جيداً وأدِم النظر فيها، فانها مع اختلاف اشكالها، وتباين وظائفها، واختلاف ارزاقها وتنوع اجهزتها، وامتزاجها بعضها مع البعض الآخر تشاهد: ان رزق كل ذي حياة يأتيه رغداً من كل مكان ومن حيث لا يحتسب، بلاسهو ولا نسيان، بلا انشغال ولا ارتباك، بلا خطأ ولا التباس.. فيعُطى بميزان دقيق حساس كل ما يحتاجه الفرد، في وقته المناسب، من دون تكلف ولا تكليف، مع تمييز لكلٍ منها، وهو يموج في هذا الامتزاج الهائل وفي هذا الخضم من الموجودات المتداخلة، فضلاً عما يُخْبئ باطنُ الارض من آيات التوحيد الرائعة المتلمعة من انتظام المعادن والعناصر الجامدة.

لذا فان هذا ((التدبير والادارة)) المشاهد في هذا الأمر الدائب على وجه الارض وباطنها انما هو آيةٌ ساطعة للأحدية، وختمٌ واضح للوحدانية، بحيث:

ان مَن لم يكن خالقاً لجميع تلك الموجودات من العدم، ومدبّراً لجميع شؤونها في آن واحد، لا يقدر على التدخل - من حيث الربوبية والايجاد - في شئ منها، لأنه لو تدخل لأفسد تلك الادارة المتوازنة الواسعة. الاّ ما يؤديه الانسان من وظيفة ظاهرية - بإذن إلهي ايضاً - لكشف تلك القوانين الربانية وحُسن سيرها.

الختم الثالث: في وجه الانسان

ان شعار التوحيد وختمه واضح وضوحاً بيناً لكل مَن يتأمل وجه أي أنسان كان، وذلك:

ان لكل انسان علامة فارقة في وجهه تُميِّزه عن غيره. فالذي لايستطيع ان يضع تلك العلامات في كل وجه، ولا يكون مطّلعاً على جميع الوجوه السابقة واللاحقة منذ آدم عليه السلام الى يوم القيامة، لا يمكنه ان يمد يده من حيث الخلق والايجاد ليضع تلك الفوارق المميزة الهائلة في ذلك الوجه الصغير لإنسان واحد.

نعم، ان الذي وضع في وجه الانسان ذلك الطابع المميز وتلك الآية الجلية بتلك العلامات الفارقة، لابد أن أفراد البشر كافة هم تحت نظره وشهوده، وضمن دائرة علمه حتى يضع ذلك الختم للتوحيد في ذلك الوجه. بحيث إنه مع التشابه الظاهر بين الاعضاء الاساس - كالعيون والانوف وغيرها من الاعضاء - لا تتشابه تشابهاً تاماً، بسبب علامات فارقة في كلٍ منها.

وكما أن تشابه الأعضاء - من عيون وأنوف - في وجوه البشر كافة دليل قاطع على وحدانية خالق البشر سبحانه وتعالى، كذلك فان العلامات الفارقة الموضوعة على كل وجه - لصيانة حقوق كل فرد في المجتمع، ولمنع الالتباس، وللتمييز، ولحِكَم أخرى كثيرة - هي الأخرى دليل واضح على الارادة المطلقة والمشيئة الكاملة لذلك الخالق الواحد سبحانه وتعالى، وآية بديعة جلية ايضاً للأحدية، بحيث:

ان الذي لا يَقدر على خلق جميع البشر والحيوانات والنباتات بل جميع الكون لا يمكنه ان يضع تلك السمة المميزة في أحد.

الاشارة الثانية:

ان عوالم الكائنات المختلفة وانواعها المتنوعة وعناصرها المتباينة قد اندمجت اندماجاً كلياً وتداخل بعضُها مع البعض الآخر، بحيث:

ان مَن لم يكن مالكاً لجميع الكون لا يمكنه ان يتصرف بنوعٍ منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً، لأن تجلي نور التوحيد لاسم الله ((الفرد)) قد اضاء ارجاء الكون كله، فضمّ اجزاءها كافة في وحدة متحدة، وجعل كل جزء منه يعلن تلك الوحدانية.

فمثلاً: كما ان كون الشمس مصباحاً واحداً لهذه الكائنات يشير الى أن الكائنات بأجمعها ملكٌ لواحد، فان كون الهواء هواءً واحداً يسعى لخدمة الأحياء كلها.. وكون النار ناراً واحدة توقد بها الحاجات كلها.. وكون السحاب واحداً يسقي الارض.. وكون الامطار واحدة تأتي لأغاثة الاحياء كافة.. وانتشار أغلب الاحياء من نباتات وحيوانات انتشاراً طليقاً في ارجاء الارض كافة مع وحدة نوعيتها، ووحدة مسكنها.. كل ذلك اشارات قاطعة وشهادات صادقة أن: تلك الموجودات ومساكنها ومواضعها انما هي ملكٌ لمالك واحدٍ أحد.

ففي ضوء هذا وقياساً عليه نرى: ان تداخل الأنواع المختلفة للكائنات واندماجها الشديد ببعضها قد جعل مجموعَها بمثابة ((كل)) واحد لا يقبل التجزئة قطعاً من حيث الايجاد. فالذي لا يستطيع ان يُنفِّذ حكمَه على جميع الكون لا يمكنه - من حيث الخلق والربوبية - أن يُخضِع لربوبيته أي شئ فيه، حتى لو كان ذلك الشئ ذرة أو أصغر منها.

الاشارة الثالثة:

لقد تحول الكون كله - بالتجلي الاعظم لاسم الله ((الفرد)) - الى ما يشبه رسائل صمدانية ومكاتيب ربانية متداخلة بعضها في البعض الآخر، تزخر كلُ رسالة منها بآيات الوحدانية واختام التوحيد، وتحمل كل رسالة بصمات الأحدية بعدد كلماتها، بل ان كل كلمة فيها تُفصح عن وحدانية كاتبها؛ اذ كما يدل الختمُ أو التوقيع في الرسالة على كاتبها، فان كل زهرة وكل ثمرة، وكل عشب، وكل حيوان، وكل شجر، انما يمثل ختم الأحدية وطغراء الصمدانية وكأنها أختام لمواضعها التي تتخذ هيئة الرسائل فتبين كاتبها.

فزهرة صفراء - مثلاً - في حديقةٍ ما. هذه الزهرة هي بمثابة ختم يدل بوضوح على مصور الحديقة، فمن كان مالكاً لذلك الختم - الزهرة - فهو مالكٌ لجميع أنواع تلك الزهرة ومثيلاتها المبثوثة على الارض كافة، ويدل ايضاً على ان تلك الحديقة كتابته.

اي ان كل شئ يُسند جميع الاشياء الى خالقها ويشير الى تجلٍ باهر عظيم لوحدانيته سبحانه.

الاشارة الرابعة:

لقد أوضحت رسائل النور في أجزائها الكثيرة ببراهين متعددة أن التجلي الاعظم لاسم الله ((الفرد)) مع أنه واضح وضوح الشمس، فهو مقبول في الاعماق الى حد السهولة المطلقة، وهو مستساغ عقلاً ومنطقاً الى حد الوجوب والبداهة. وبعكسه ((الشرك)) المنافي لذلك التجلي، فهو معقد الى أقصى حدود التعقيد، وغير منطقي اطلاقاً، وهو بعيد جداً عن المعقول الى حد المحال والامتناع.

سنبين هنا ((ثلاث نقاط)) من تلك الأدلة فقط، ونحيل تفاصيلها الى الرسائل الاخرى.

النقطة الاولى:

لقد أثبتنا ببراهين قاطعة في ختام ((الكلمة العاشرة)) وفي ((الكلمة التاسعة والعشرين)) اثباتاً مجملاً، وفي ختام ((المكتوب العشرين)) مفصلاً أنه:

من السهولة واليسر على قدرة ((الأحد الفرد)) سبحانه، خلقُ أعظم جِرم، وخلقُ أصغرِ شئ على حدّ سواء، فهو سبحانه يخلق الربيع الشاسع بيُسرِ خلقِ زهرةٍ واحدة، ويُحدِث في كل ربيع بسهولة بالغة آلافاً من نماذج الحشر والنشور - كما هو مشاهَد - ويُراعي شجرة ضخمة باسقة بيُسر مراعاته فاكهة صغيرة.

فلو أسنِد أيٌ من ذلك الى الأسباب المتعددة، لأصبح خلقُ كلِّ زهرةٍ فيه من المشكلات ما للربيع الشاسع، وخلقُ كل ثمرةٍ فيه من الصعوبات ما للشجرة الباسقة.

نعم، ان كان تجهيز الجيش بأكمله بالمؤن والعتاد بأمر صادر من قائد واحد، من مصدر واحد، سهلاً وبسيطاً كتجهيز جندي واحد، يكون صعباً بل ممتنعاً ان كان كل جندي يتجهز من معامل متفرقة ويتلقى الاوامر من ادارات متعددة كثيرة، اذ عندئذٍ يحتاج كل جندي الى معامل بقدر افراد الجيش باكمله!!

فكما ان الأمر يسهل بالوحدة ويصعب بالكثرة هكذا، كذلك اذا أسنِد الخلقُ والايجادُ الى ((الفرد الأحد)) جل وعلا، فان خلقَ افرادٍ غير محدودة لنوعٍ واحد يكون سهلاً كخلق فرد واحد، بينما لو اُسنِد الى الأسباب، فان خلقَ كلَّ فردٍ يكون مُعضلاً وصعباً كخلق النوع الواسع الكثير.

اجل! ان الوحدانية والتفرد تجعل كل شئ منتسباً ومستنداً الى الذات الإلهية الواحدة، ويصبح هذا الانتساب والاستناد قوة لاحدّ لها لذلك الشئ، حتى يمكنه ان يُنجز من الاعمال الجسيمة، ويولّد من النتائج العظيمة ما يفوق قوته الذاتية الوفَ المرات معتمداً على سر ذلك الاستناد والانتساب.

أما الذي لا يستند ولا ينتسب الى صاحب تلك القوة العظمى ومالكها ((الفرد الأحد)) فسينجز من الاعمال ما تتحمله قوتُه الذاتية المحدودة جداً، وتنحسر نتائجُها تبعاً لذلك.

فمثلاً:

ان الذي انتسب الى قائد عظيم واستند اليه بصفة الجندية، يصبح له هذا الانتساب والاستناد بمثابة قوة ممدّة لا تنفد، فلا يضطر الى حمل ذخيرته وعتاده معه، لذا قد يَقْدِم على أسر قائد جيش العدو المغلوب مع آلاف ممن معه، بينما السائب الذي لم ينخرط في الجندية، مضطر الى حمل ذخيرته وعتاده معه، ومهما بلغ من الشجاعة فلا يستطيع ان يقاوم بتلك القوة الاّ بضعة افراد من العدو، وقد لا يثبت امامهم الاّ لفترة قليلة.

ومن هنا نرى أن قوة الاستناد والانتساب - التي في الفردية والوحدانية - تجعل النملة الصغيرة تقدم على اهلاك فرعون عنيد، وتجعل البعوضة الرقيقة تجهز على نمرود طاغية، وتجعل الميكروب البسيط يدمر باغياً اثيماً.. كما تمدّ البذرة الصغيرة لتحمِل على ظهرها شجرة صنوبر باسقة شاهقة.. كل ذلك باسم ذلك الانتساب وبسر ذلك الاستناد.

نعم، ان قائداً عظيماً شهماً يستطيع ان يستنفر جميع جنوده ويحشّدهم لانقاذ جندي واحد وامداده، والجندي بدوره يستشعر كأن جيشاً جراراً يسنده ويمدّه بقوة معنوية عالية حتى تمكّنه من ان ينهض باعمال جسام باسم القائد.

فالله سبحانه وتعالى (وله المثل الاعلى) لانه فرد واحد أحد، فلا حاجة في اية جهة الى أحدٍ غيره، واذا افترضت الحاجة في جهة ما، فانه يستنفر الموجودات كلها لأمداد ذلك الشئ واسناده، فيحشر سبحانه الكون كله لأجله.

وهكذا يستند كلُّ شئ الى قوة عظيمة هائلة تملك مقاليد الكون بأسره.. وهكذا يستمد كل شئ في الوجود قوته من تلك القوة الإلهية العظيمة المطلقة.. من ذلك ((الفرد الأحد)) جلّ وعلا.

فلولا الفردية.. لفقَد كل شئ هذه القوة الجبارة، ولسقط الى العدم وتلاشت نتائجه.

فما تراه من ظهور نتائج عظيمة هائلة من اشياء بسيطة تافهة، ترشدنا بالبداهة الى ((الفردية)) و ((الأحدية)). ولولاها لبقيت نتائج كل شئ وثماره منحصرة في قوته ومادته الضئيلة، وتصغر عندئذٍ النتائج بل تزول. الا ترى الاشياء الثمينة النفيسة كالفواكه والخضر وغيرها مبذولة ومتوافرة امامنا. ما ذلك الاّ بسر الوحدانية والانتساب وحشر جميع القوى، فلولا الفردية لما كنا نحصل بآلاف الدراهم ما نحصله اليوم من بطيخ او رمان بدراهم معدودة. فكل ما نشاهده من بساطة الامور والاشـيـاء وسهـولـتـها ورخصـها وتوفــرها انمـا هـي من نتائج الوحـدانية وتشهد بالفردية.

النقطة الثانية:

ان الموجودات تُخلق وتظهر الى الوجود بوجهين:

الاول: الخلق من العدم، وهو ما يعبَّر عنه بـ ((الابداع والاختراع)).

الثاني: انشاؤها من عناصر موجودة، وتركيبها ومنح الوجود لها من أشياء حاضرة، أي بــ((التركيب والانشاء)).

فاذا نظرنا الى الموجودات من زاوية سر الاحدية وتجلي الفردية، نرى ان خلقها وايجادَها يكون سهلاً وهيّناً الى حد الوجوب والبداهة، بينما ان لم يُفوَّض امرُ الخلق والايجاد الى الفردية والوحدانية، فستتعقد الامور وتتشابك، وتظهر امورٌ غير معقولة وغير منطقية الى حد المحال والامتناع. وحيث اننا نرى الموجودات قاطبة تظهر الى الوجود من دون صعوبة وتكلف، ومن غير عناء، وعلى اتم صورة وكيفية، يثبت لنا بداهة اذاً تجلي الفردية، ويتبين لنا: أن كل شئ في الوجود انما هو من ابداع الاحد الفرد ذي الجلال والاكرام.

نعم، ان اسند أمر الخلق الى ((الفرد الواحد الاحد)) يخلق كل شئ من العدم في لمح البصر وبكل سهولة ويسر، وبقدرته المطلقة العظيمة بآثارها المشهودة. ويقدّر لكل شئ بعلمه المحيط المطلق ما يشبه قوالب معنوية وتصاميم غيبية.. فكل شئ عنده بمقدار.

فكما ان الجنود المطيعين في الجيش المنظم يساقون لأخذ مواضعهم بامر من القائد وحسب خطته الموضوعة في علمه، كذلك الذرات المطيعة للاوامر الربانية فانها تساق بالقدرة الربانية - بكل سهولة ويسر - لتأخذ مواقعها وتحافظ عليها حسب تصميمٍ موجود، وصورة موجودة، في مرآة العلم الإلهي الازلي. حتى لو لزم جمع الذرات من الانحاء المختلفة، فان جميع الذرات المرتبطة بقانون العلم الإلهي المحيط، والموثوقة الصلة بدساتير القدرة الإلهية، تصبح بمثابة الجنود المنقادين في الجيش المنظم، فتأتي مسرعة بذلك القانون وبسَوق القدرة لأخذ مواقعها في ذلك القالب العلمي والمقدار القدري المحيطين بوجود ذلك الشئ.

بل كما تظهر الصورةُ المثالية المتمثلة في المرآة على الورقة الحساسة في آله التصوير وتلبس وجوداً محسوساً خارجياً، وكما تظهر وتشاهَد الكتابة المخفية السرية بامرار مادة كيمياوية عليها، كذلك الأمر في صورة جميع الموجودات، وماهية جميع الاشياء الموجودة في مرآة العلم الإلهي الفرد الاحد، فان القدرة الإلهية المطلقة تُلبسها - بكل سهولة ويسر - وجوداً خارجياً محسوساً، فتظهر للعيان في عالم الشهادة، بعد ان كانت في عالم المعنى والغيب.

ولكن ان لم يُسند أمرُ الخلق الى ((الفرد الاحد)) فعندئذٍ يلزم لخلق ذبابة واحدة مسح وتفتيش سطح الارض وغربلة عناصرها جميعاً وذراتها المعينة لوجود معين ثم وزنها بميزان دقيق حساس، لوضع كل ذرة في موضعها المخصص لها، حسب قوالب مادية بعدد اجهزتها واعضائها المتقنة، وذلك لكي يأخذ كل شئ مكانه اللائق به، فضلاً عن جلب المشاعر والاحاسيس الروحية الدقيقة واللطائف المعنوية من العوالم المعنوية والروحية بعد وزنها ايضاً بميزان دقيق حسب حاجة الذبابة!!

ألا يكون - بهذا الاعتبار - خلق ذبابة واحدة صعباً ممتنعاً كايجاد جميع الكائنات؟! أليس فيه الصعوبات تلو الصعوبات والمحالات ضمن المحالات؟!

لذا اتفق جميع اهل الايمان والعلم: انه لا يخلق من العدم الاّ الخالق ((الفرد)) سبحانه وتعالى.ولهذا لوفوّض الأمر الى الاسباب والطبيعة يستلزم لوجود شئ واحد الجمع من اكثر الاشياء.

النقطة الثالثة:

لقد اوردنا امثلة كثيرة في رسائل شتى تشير الى: ان اسناد الخلق الى الفرد الواحد الاحد يجعل خلق جميع الاشياء سهلاً كالشئ الواحد، وبعكسه اذا اُسنِد الى الطبيعة والاسباب فخلق الشئ الواحد يكون صعباً ممتنعاً كخلق جميع الاشياء..

نقتصر منها هنا على ثلاثة أمثلة فقط:

المثال الاول:

اذا اُحيلت ادارة الف جندي الى ضابط واحد، واُحيلت ادارةُ جندي واحد الى عشرة ضباط، فان ادارة هذا الجندي تكون ذات مشكلات وصعوبات بمقدار عشرة اضعاف ادارة تلك الفرقة من الجنود وذلك:

لأن الأمراء العديدين سيعادي بعضُهم بعضاً، وستتعارض اوامرُهم حتماً، فلا يجد ذلك الجندي راحة بين منازعة امرائه. بعكسه تماماً ذلك الضابط الذي يدير باوامره فرقة كاملة من الجنود وكأنه يدير جندياً واحداً، وينفّذ خطته وما يريده من الفرقة بتدبيره كل شئ بسهولة ويسر، علماً انه يتعذر الوصول الى هذه النتيجة اذا ترك الامر الى جنود سائبين.

المثال الثاني:

اذا سُلّم أمر بناء قبة جامع ((أيا صوفيا)) الى بنّاء ماهر، فانه يقوم به بكل سهولة ويسر، بينما اذا سُلم بناؤها الى احجارها، للزم ان يكون كل حجرٍ حاكماً مطلقاً على سائر الاحجار، ومحكوماً لها في الوقت نفسه كي تأخذ القبة المعلقة الشامخة شكلها! فبينما كان البنّاء الماهر يصرف جهداً قليلاً - لسهولة الأمر لديه - تصرف الآن مئات من البنّائين - الاحجار - اضعاف اضعاف ذلك الجهد من دون الحصول على نتيجة!!.

المثال الثالث:

ان الكرة الارضية مأمورة وموظفة من لدن ((الفرد الواحد)) سبحانه، وهي كالجندي المطيع لله الواحد الأحد، فحينما تستلم الأمر الواحد، الصادر من آمرها الأحد، تهبّ منتشية بأمر مولاها وتنغمر في جذبات وظيفتها في شوق عارم، وتدور كالمريد المولوي العاشق - عند قيامه للسماع - فتكون وسيلة لحصول المواسم الاربعة، واختلاف الليل والنهار وظهور الحركات الرفيعة العظيمة، والكشف عن مناظر خلابة لقبة السماء المهيبة وتبديلها باستمرار كتبدل المشاهد السينمائية.. ويكون سبباً لحصول امثال هذه النتائج الجليلة، حتى لكأن الارض هي القائد لتلك المناورة العسكرية المهيبة بين نجوم الكون.

ولكن ان لم يُسند الأمر الى ((الفرد الأحد)) الذي احاط بحاكمية ألوهيته وسلطان ربوبيته الكون كله، والذي ينفذ حكمه وأمره في كل صغيرة وكبيرة في الوجود، فعندئذٍ يلزم وجود ملايين النجوم التي تكبر الارض بالوف المرات، ولابد من ان تسير هذه النجوم في مدار اكبر واوسع بملايين المرات من مدار الارض كي تظهر تلك المناورة السماوية والارضية وتلك النتائج نفسها التي تتولد من حركتي الارض السنوية واليومية بكل سهولة ويسر.

وهكذا فان حصول هذه النتائج الجليلة الناشئة من حركتي الارض حول محورها ومدارها - حركة تشبه حركات المولوي العاشق - يظهر لنا مدى السهولة والفطرية والبساطة في الأحدية والفردية، ويبين لنا في الوقت نفسه كم هي مملوءة طريق الشرك والكفر بالمحالات التي لا حد لها وبالامور الباطلة غير المعقولة.

وبعد..

فلاحظ الآن بمنظار هذا المثال الآتي جهل المتشدقين بالطبيعة وعبّاد الاسباب، لتعلم في أي دَرَك من وحل الحماقة يتمرغون وفي اي بيداء وهمٍ يتيهون، وقس عليه مدى بُعدهم كل البعد عن ميدان المنطق والعقل السليم:

معمل عظيم.. كتاب رائع.. قصر مشيد.. ساعة دقيقة.. لاشك ان الذي صنع كلاً من هذه قد نظمه ونسقه بدقة وعناية، ويجيد ادارته ويرعاه، ولاشك انه أراد في صنع كل منها اظهار محاسن صنعته وابراز بدائع عمله.

فان احال احدُهم ادارة المعمل العظيم الى دواليب المعمل نفسه، وفوّض بناء القصر المنيف الى احجار القصر نفسه، واسند معاني الكتاب الجميلة الى الحروف نفسها، فكأنه قد جعل كل جزء من أجزاء المعمل ذا قدرة عظيمة لتنظيم نفسه وغيره! وجعل كل حرف من حروف الكتاب بل الورق والقلم شيئاً خارقاً يبدع الكتاب نفسه! اي انه يحيل روعة الانتظام في المعمل الى دواليب المعمل، ويسند جمال المعنى في الكتاب الى توافق الحروف من تلقاء نفسها!!

ايّ هذرٍ هذا! وايّ وَهْم! أليس الذي يتفوه به بعيداً كل البعد عن سلامة العقل؟ فالذين يحيلون أمر الخلق والايجاد في هذا الكون البديع الى الاسباب والى الطبيعة يهوون في جهل مركب سحيق كهذا. وذلك لأن مظاهر الابداع واضحة على الاسباب والطبيعة نفسها، فهي مخلوقة كسائر المخلوقات. فالذي خلقها – على هذه الصورة البديعة – هو الذي يخلق آثارها ونتائجها ايضاً، ويظهرها معاً.. فالذي خلق البذرة هو الذي أنشأ عليها شجرتها، وهو الذي يخرج اثمارها وازهارها من اكمامها..

بينما ان لم يُسند خلق الاسباب والطبيعة مع اثارهما الى الواحد الأحد، يلزم لوجود انواع الاسباب وانماط الطبيعة المختلفة، انواع من الاسباب والطبيعة المنتظمة المنسقة المختلفة . وهكذا تستمر سلسلة موهومة ممتنعة لا معنى لها ولا نهاية!

وهذا من أعجب عجائب الجهل واتعسه!!

الاشارة الخامسة:

لقد أثبتنا في مواضع متعددة من الرسائل وببراهين دامغة: ان الاستقلال والانفراد من أخص خصائص الحاكمية، حتى ان هذا الانسان الذي هو عاجز عجزاً شديداً، ولا يملك من الحاكمية سوى ظل باهت، نراه يردّ بكل قوة اي فضول كان من الآخرين، ويرفض بكل شدة اي تدخل كان منهم في شؤونه، صوناً منه لاستقلاله وانفراده في الأمر. بل ذُكِر في التاريخ ان كثيراً من السلاطين قد سفكوا دماءً زكية لأبنائهم الأبرياء واخوانهم الطيبين حينما شعروا بتدخل منهم في شؤونهم.

اذن فالاستقلال والانفراد ورفض مداخلة الآخرين هو من أخصّ خصائص الحاكمية الحقة، لا فكاك لها عنه. بل هو لازمها ومقتضاها الدائم.

فالحاكمية الإلهية التي هي في ربوبية مطلقة تردّ بكل شدة الشرك والاشتراك مهما كان نوعه، ولا تقبل تدخلاً ما من سواها قط، ومن هنا نرى القرآن الكريم يفيض في بيان التوحيد الخالص ويردّ الشرك والمشاركة باسلوب شديد وبتهديد مروّع..

فكما اقتضت الحاكمية الإلهية - التي هي في الربوبية المطلقة - التوحيد والوحدانية بقطعية تامة، واظهرت مقتضى شديداً وداعياً قوياً لها، كذلك النظام المتقن والانسجام البديع المشاهدان في الكون - ابتداء من النجوم والنباتات والحيوانات والأرض والمعادن وانتهاء بالجزئيات والافراد والذرات - كل منهما شاهدُ عدلٍ، وبرهان باهر على تلك الوحدانية والفردية، فلا يسمح قط لريبة أو لشبهة، إذ لو كان هناك تدخل مما سوى الواحد الأحد، لفسد هذا النظام البديع الرصين، واختل هذا التـوزان المحـكم المــشـاهَد في جميـع اجـزاء الكون، فصـدق الله العـظيم الذي قال:

} لو كانَ فيهما آلِهةٌ إلاّ الله لَفَسَدتا { (الانبياء: 22)

نعم، لو كان هناك اي تدخل مهما كان لظهرت آثارُه باديةً، الاّ أن الدعوة الصريحة في الاية الكريمة: } فارجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ{ (الملك:3) تريك هذا النظام البديع بكل وضوح وجلاء حتى لا ترى ثغرة ولا لبساً ولا نقصاً في جهة من الجهات ابتداءً من الذرات الى المجرات.

اذاً فالنظام الرصين في الكون، والانتظام الرائع في المخلوقات كافة، والموازنة الدقيقة بين الموجودات.. يظهر لنا التجلي الاعظم لاسم ((الفرد)) ويشهد شهادة واضحة على الوحدانية.

ثم ان اي مخلوق مهما كان صغيراً، انما هو مثال مصغر للكون كله ونموذجه، وفهرسه المختصر، بمقتضى تجلي الأحدية. فلا يكون مالكاً لذلك المخلوق الحي الصغير الاّ مَن كان بيده زمام الكون كله وله الأمر جميعاً. وحيث ان كل بذرة متناهية في الصغر ليست بأقل ابداعاً في الخلق من شجرة ضخمة، وأن كل شجرة باسقة تضاهي في خلقها خلق الكائنات، وكل كائن حي صغير انما هو بحكم عالم مصغّر، وكون صغير فان تجلي الأحدية هذا يجعل الشرك والاشتراك محالاً ممتنعاً.

ثم ان في هذا الكون في ضوء هذا السر - سر الأحدية - ليس كلاً يستعصي على التجزئة وحدها بل ايضاً هو كلّي من حيث الماهية، لا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة وتدخل الايدي المتعددة قط، فإن كل جزء فيه بحكم جزئي وفرد منه وكل الكون هو بحكم الكلي، فليس فيه موضع للاشتراك في أية جهة كانت.

فهذا التجلي الاعظم لأسم ((الفرد)) يثبت حقيقة التوحيد بهذا السر للأحدية، بدرجة البداهة.

نعم، ان اندماج انواع الكائنات واندغامها فيما بينها، وتوجه وظيفة كل منها الى عموم الكائنات مثلما يجعل الكون كلاً واحداً يستعصي على التجزئة قطعاً – من حيث الخلق والربوبية - كذلك الافعال العمومية المحيطة بالكائنات والتي تظهر أثارها وفعالياتها في الكائنات عموماً تجعل الكون ايضاً كلاً واحداً - من حيث تداخلها ببعضها - حتى يرفض التجزئة ويردّها ردّاً قوياً. ولتوضيح ذلك نسوق المثال الآتي:

حالما توهب الحياة للكائن يظهر فعل الاعاشة والإرزاق فيه مباشرة. وضمن افعال الاعاشة والإحياء هذه، يشاهَد مباشرةً فعلُ تنظيمِ جسد ذلك الكائن وتنسيق اعضائه، وتجهيزه بما يحتاج ويلزم. وحينما تظهر افعالُ الاعاشة والإحياء والتنظيم والتجهيز يفعل التصويرُ والتربية والتدبير فعلَه في الوقت نفسه.. وهكذا.

فتداخل امثال هذه الافعال المحيطة العامة بعضها بالبعض الآخر، واتحادها ببعضها، وامتزاجها كامتزاج الالوان السبعة في الطيف الشمسي، ثم احاطة كل فعل من تلك الافعال وشموله - مع وحدته من حيث الماهية - للموجودات كلها في وحدة واحدة، وكون كل فعلٍ منها فعلاً وحدانياً.. يدل دلالة واضحة على أن فاعلَه واحدٌ أحد فرد..

وكما أن استيلاء كل فعل - من تلك الافعال - وهيمنته على الكائنات قاطبة، واتحاده مع سائر الافعال في تعاون وثيق، يجعل الكون كلاً غير قابل للتجزئة.. كذلك فان كل مخلوق حي من حيث كونه بمثابة بذرة الكون وفهرسه ونموذجه يجعل الكون كلياً غير قابل للانقسام والتجزئة - من حيث الربوبية - بل يجعل انقسامه محالاً وخارجاً عن الامكان، أي أن الكون بهذا هو كلٌّ لا يتجزأ، فلا يكون اذاً ربُّ الجزء الاّ من كان رباً للكل. وهو كلي ايضاً بحيث يكون كل جزء منه بحكم فرد، فلا يكون رباً للفرد الواحد الاّ من كان زمام ذلك الكلي بيده.

الاشارة السادسة:

كما ان انفراد الله سبحانه وتعالى بالربوبية،وتوحيده بالالوهية هو اساس جميع الكمالات(1) ومنشأ المقاصد السامية، ومنبع الحِكَم المودَعة في خلق الكون، كذلك

هو الغاية القصوى، والبلسم الشافي، لتطمين رغبات كل ذي شعور وذي عقل ولاسيما الانسان، فلولا الفردية لانطفأت شعلةُ رغباته ومطالبه كلها وتنمحي جميعُ الحِكَم المودَعة في خلق الكون، وتتلاشى اكثرُ الكمالات الموجودة والثابتة وتنعدم.

فمثلا: ان رغبة ((حب البقاء)) بل عشقه، عميقة في الانسان.. هذه الرغبة العريقة لايحققها ولا يسكّنها ويُطمئنُها الاّ مَن هو مالك لمقاليد الكون، الذي يفتح باب البقاء السرمدي أمام الانسان بالآخرة، بعد أن يُنهي هذه الدنيا الفانية ويغلق ابوابها كسهولة غلق غرفة وفتح اخرى.

وهناك رغبات اخرى كثيرة جدا ًللانسان امثال هذه الرغبة، كلها ممتدة الى غير نهاية معلومة ومتشعبة في ثنايا الكائنات جميعاً.. فهذه الرغبات جميعها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحقيقة التوحيد، ومشدودة مع سر الفردية. فلولا ذلك السرّ لبقيت هذه الرغبات عقيمة دون نتائج، قاصرة عن بلوغ مداها، مبتورة منكمشة. ولولا تصرف الواحد الأحد في الكون كله لما اطمأنت ولا حصلت تلك الرغبات ولو حصلت حصلت مبتورة.

فالايمان بالوحدانية، وبقدرة ((الفرد الواحد الأحد)) المطلقة اذاً هو وحده الكفيل باحلال الطمأنينة والسكون في تلك الرغبات المتأججة لدى الانسان.

من اجل هذا السر العظيم نرى القرآن الكريم يذكر التوحيد والوحدانية بكل حرارة وشوق، ويكررها بكل حلاوة وذوق، وان الانبياء - عليهم السلام - والاصفياء والعلماء والاولياء الصالحين يجدون بغيتهم وذوقهم السامي، بل منتهى سعادتهم في افضل ما قالوه: ((لا إله إلاّ هو)).

الاشارة السابعة:

ان هذا التوحيد الحقيقي، بجميع مراتبه، وبأتم صورته الكاملة، قد أثبته واعلنه وفهّمه وبلّغه محمد e ، فلابد ان رسالته ثابتة وقاطعة كقطعية ثبوت التوحيد نفسه؛ لانه: لما كان التوحيد هو اعظم حقيقة في عالم الوجود، وان الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى تبليغه وتعليمه بجميع حقائقه، فلابد ان جميع البراهين التي تثبت التوحيد، تكون بدورها براهين لاثبات رسالته وادلة على صدق نبوته واحقية دعوته e ، فرسالة كهذه الرسالة العظمى التي تضم الوفاً من امثال هذه الحقائق السامية وتكشف عن حقيقة التوحيد وترشد اليه وتلقنه، لا شك انها رسالة يقتضيها ذلك التوحيد وتلك الفردية.

فمَن ذا غير محمد e الذي أدىّ الأمانة على افضل وجه وبلّغ الرسالة على اجمل صورة؟.

سنذكر ثلاثة نماذج، مثالاً لتلك الادلة الكثيرة والاسباب العديدة التي تشهد بعظمة الشخصية المعنوية لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتدل على علو منزلته الرفيعة، وتبيّن انه السراج المنير لهذه الكائنات وشمسها الساطعة.

الدليل الاول:

ان ثواب جميع الحسنات التي ينالها جميع افراد الامة، وعلى مدى جميع العصور مكتوبٌ مثلُه في صحيفة حسناته صلى الله عليه وسلم، اذ هو السبب في نيل كل ثواب تناله امتُه الى يوم القيامة، حيث ((السبب كالفاعل))..

تأمل في هذا ثم فكّر في المقام المعظم اللائق الذي يقتضيه مجموع الادعية غير المحدودة من الصلوات المقبولة المرفوعة يومياً من الأمة كافة.. تدرك عندئذٍ، درجته العالية الرفيعة وتفهم ان شخصيته المعنوية شمس الكائنات والسراج المنير للخلق اجمعين.

الدليل الثاني:

ان بذرة الشجرة الوارفة للاسلام، ومنشأها، وحياتها، ومنبعها انما هي حقيقة الماهية المحمدية، بما تملك من فطرة سامية، وخلقة كاملة. فتذكّر هذا ثم فكّر في الرقي الروحي لهذا الرسول الحبيب e النابع من استشعاره الكامل الأتم لجميع معاني ومراتب عبادته، واذكاره، وكلماته الشريفة، والذي يمثل بمجموعه روح الاسلام وحقيقته. لتعلم مدى علو مرتبة ولاية عبوديته صلى الله عليه وسلم الى الدرجة الرفيعة، درجة الحبيبية. وافهم مبلغ سموّها.

ولقد فتح الله عليّ يوماً في سجدةٍ في صلاةٍ، بعض المعاني والانوار المشعة من كلمة (سبحان ربي الاعلى) بما يقرب من فهم الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين من هذه الكلمة المقدسة. فتبين لي يقيناً انها خير من عبادة شهر، فادركتُ بها المنزلة العظيمة والدرجة العالية التي يحظى بها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين.

نعم، ان الانوار التي تشعها الكلمات المقدسة، وفيوضاتها في بدء الاسلام لها مزايا خاصة، وذلك لجدّتها، ولها من اللطافة والطراوة واللذة ما تتناقص بمرور الزمن وتتستر تحت ستار الغفلة.

والآن، وفي ضوء ما سبق تأمل مكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تناول الكلام المقدس، ورَشَفَه من المنبع الأقدس، واستوعب انواره بالوحي الإلهي بكامل جدّته وطراوته ولطافته. مع ما فُطر عليه من استعداد كامل.. فالانوار والفيوضات الكامنة في تسبيحةٍ واحدة منه صلى الله عليه وسلم هي خيرٌ وأعم من جميع الانوار التي تملأ ارجاء عبادة سنة كاملة عند غيره.!.

قس على هذا المنوال، كي تعلم كم بلغ رسولنا الحبيب e من درجات الكمال التي لا حد لها ولا نهاية.

الدليل الثالث:

ان الانسان يمثل اعظم مقصد من المقاصد الإلهية في الكون، وهو المؤهَّل لإدراك الخطاب الرباني. وقد اختاره سبحانه من بين مخلوقاته، واصطفى من بين الانسان المكرّم مَن هو اكمل وأفضل واعظم انسان بأعماله وآثاره الكاملة، ليكون موضع خطابه الجليل باسم النوع الانساني كافة، بل باسم الكائنات جميعاً.

فلا ريب ان الله سبحانه الفرد الجليل الذي هيأ رسوله الحبيب e لهذه المرتبة اللائقة به قد منحه من الانوار والكمالات ما لا يحد بحدود.

وهكذا وبمثل هذه الدلائل الثلاثة ودلائل اخرى كثيرة يَثبت لدينا يقيناً:

ان الشخصية المعنوية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، شمس معنوية ساطعة للكائنات. وسراج منير لامع لها، كما انها الآية العظمى من قرآن الكون، والاسم الاعظم للفرقان الاعظم، ومرآة صافية للتجلي الاعظم لانوار اسم ((الفرد)) عزّوجل.

فاللّهم يا أحدُ، يا فردُ، ياصمدُ، أنزِل من بركات خزينة رحمتك التي لا تنفد صلواتٍ وسلاماً على تلك الذات النبوية الشريفة، بعدد ذرات الكون مضروباً بعدد عاشرات جميع ازمنة الكون.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{

عبدالقادر حمود 02-02-2011 02:31 AM

رد: اللمعات
 
النكتة الخامسة

اسم الله الاعظم

الحي

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

} فانْظُر الى اثارِ رحْمتِ الله كيفَ يُحْيي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

إنّ ذلك لَمُحْيي الموتى وهو على كل شيءٍ قدير{ (الروم:50)

} الله لا اله الاّ هو الحيُّ القيُّومُ لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوٌم... { (البقرة: 255)



لقد تراءت في افق عقلي نكتة من النكات الدقيقة للآيتين المذكورتين، وتجلٍ من تجليات نور الاسم الاعظم ((الحي)) أو أحد نورَيه، أو أحد انواره الستة، وذلك. في شهر شوال عندما كنت في سجن ((اسكي شهر)). فلم اتَمكن ان اثبّتها في حينه، ولم استطع ان اقتنص ذلك الطائر السامي، ولكن بعدما تباعد ذلك القَبسُ الوضئ اضطررت الى الاشارة اليه بوضع رموزٍ ترمز الى اشعةِ تلك الحقيقة الكبرى، وذلك النور الاعظم.

وسأشير اليها هنا باختصار:

الرمز الأول:

ما ((الحياة)) التي هي تجلٍ أعظم لأسم الله ((الحي المحيي))؟

وما ماهيتها؟

وما مهمتها؟

جواب هذا السؤال نُدرجه على صورة فهرس، على النحو الآتي:

الحياة هي لهذه الكائنات:

أهمُّ غاية..
وأعظمُ نتيجة..
وأسطع نور..
وألطفُ خميرة..
وأصفى خلاصة..
وأكملُ ثمرة..
وأسمى كمال..
وأزهى جمال..
وأبهى زينة..
وهي سرُّ وحدتها..
ورابطةُ اتحادها..
ومنشأ كمالاتها..
وهي أبدع ذاتِ روحٍٍ فيها، من حيث الاتقان والماهية..
وهي حقيقتُها المعجزة؛ تُصير أصغر مخلوقٍ عالَماً بحدّ ذاته..
وهي اروع معجزات القدرة الإلهية؛ بجعلها الكائن الحي بمثابة كونٍ مصغر، فكأنها - اي الحياة - وسيلةٌ لأنطواء الكائنات في ذلك الكائن الحي الصغير؛ بما تُظهر فيه ما يشبه فهرس الكون العظيم، كما تجعله في رباط وثيق مع معظم الموجودات..
وهي صنعةٌ الهية خارقة؛ تكبِّر الجزء الضئيل الى اكبر كلٍّ، حتى انها تجعل الفردَ بحكم العالَم وكأنه كلّي. وتُعرض الكونَ - من حيث الربوبية - في حكم الكلّ والكلي الذي لا يقبل التجزئة والاشتراك والانقسام..
وهي أسطعُ برهانٍ ضمن ماهيات الكائنات، واثبتُه واكملُه، يشهد على وجوب وجوده سبحانهُ، وعلى أنه ((الحي القيوم)) ويدل على وحدته وأحديته جل وعلا..
وهي أبلغ صورة لصنعة ربانية حكيمة - ضمن المصنوعات الإلهية - واخفاها وأظهرها وأثمنها وازهدها وأنزهها وألمعها.
وهي ألطف تجلٍ للرحمة الإلهية وأرقها وأدقها؛ تجعل الموجودات خادمة لها..
وهي أجمع مرآة تعكس الشؤون الإلهية للانظار..
وهي اعجوبة الخلقة الربانية؛ اذ تجمع تجليات اسم ((الرحمن، الرزاق، الرحيم، الكريم، الحكيم وأمثالها من الاسماء الحسنى)) وتجعل الحقائق الكثيرة والمشاهَدة كالرزق والحكمة والعناية والرحمة تابعة لها، فتقودها، مثلما هي منشأ جميع المشاعر ومعدن الحواس العامة كالبصر والسمع والشعور..
وهي ماكنة تنظيفٍ عظيمة، وجهاز استحالةٍ عجيبة في مصنع الكائنات حيث تقوم بالتصفية والتطهير في كل نواحيه؛ فتطهِّر الشئ وتمنحُه الرقيَ وتنوّره، وكأن الجسدَ الذي هو عشّ الحياة - دارُ ضيافةٍ لقوافل الذرات ومدرستُها ومعسكرُها؛ تتعلم فيه وظائفها، وتتدرب على اعمالها، فتتنور وتضئ .
وهي وسيلة ينوّر بها الحيُّ المحيي سبحانه عالَم الدنيا المظلم الفاني السافل ويمنحه نوعاً من البقاء، ويجعله بماكنة الحياة لطيفاً مهيئاً للمضي الى العالم الباقي ..
ثم ان وجهي الحياة، اي المُلك والملكوت، صافيان طاهران لا نقص فيهما، ساميان وهي - أي الحياة- مخلوق خاص متميز عن كل خلق آخر لم توضَع لها الاسباب الظاهرة حُجباً بينها وبين تصرفات القدرة الإلهية - كما هي في سائر الاشياء - وذلك ليكون أمر صدورها من يد القدرة الربانية مباشرة دون حُجب أو وسائط..
. وحقيقة الحياة نورانية تتطلع الى الاركان الايمانية الستة وتثبتها معنىً ورمزاً، اي:
انها تثبت وجود واجب الوجود سبحانه وحياته السرمدية..
والدار الآخرة وحياتها الدائمة..
ووجود الملائكة.. وتتوجه توجهاً كاملاً الى اثبات سائر الاركان الايمانية وتقتضيها.
وهي أصفى خلاصة مترشحة من الكائنات كلها كما أنها أعظم سِرّ يولّد الشكر والعبادة والحمد والمحبة التي هي أهم المقاصد الإلهية في الكون واهم نتيجة لخلق العالم هذا.
تأمل هذه الخصائص المهمة القيّمة للحياة والبالغة تسعاً وعشرين خاصية، ودقق النظر في مهماتها السامية الشاملة، ثم انظر من وراء اسم المحيي الى عظمة اسم ((الحي)) وادرك كيف ان اسم ((الحي)) هو اسم الله الاعظم من حيث هذه الخصائص العظيمة للحياة، ومن حيث ثمارها ونتائجها، وافهم ايضاً ان للحياة غاية كبرى كبرَ الكون ونتيجة عظمى بعظمته ما دامت هي اعظم نتيجة لهذه الكائنات واعظم غاية واثمن ثمرة؟ لأن الثمرة مثلما هي نتيجة الشجرة، فنتيجة الثمرة شجرة قادمة بوساطة بذرتها.

نعم، ان غاية هذه الحياة ونتيجتها هي الحياة الابدية، كما ان ثمرة من ثمارها هي الشكر والعبادة والحمد والمحبة تجاه واهب الحياة ((الحي المحيي)) وان هذا الشكر والمحبة والحمد والعبادة هي ثمرة الحياة كما انها غاية الكائنات.

فاعلم من هذا: ان الذين يحصرون غاية هذه الحياة في: ((عيشٍ برفاه، وتمتّع بغفلة، وتنعّم بهوى)) انما يستخفّون - بجهل مستهجن قبيح - بهذه النعمة الغالية الكبرى، نعمة الحياة، وهدية الشعور، واحسان العقل، ويحقرونها وينكرونها بل يكفرون بها فيرتكبون كفراناً عظيماً واثماً مبيناً.

الرمز الثاني:

الحياة التي هي أعظم تجلٍٍّ لاسم الله ((الحي)) وألطف تجلٍ لاسم الله ((المحيي)) يحتاج في بيان مراتبها وصفاتها ووظائفها - المذكور فهرستُها في الرمز الاول - الى كتابة رسائل عدة بعدد تلك المزايا والخصائص. لذا سنشير إشارة مختصرة الى بضع منها محيلين تفاصيلها الى اجزاء رسائل النور، حيث بَيّنت قسماً من تلك الخصائص والمراتب والمهمات.

فلقد ذكر في الخاصية الثالثة والعشرين من الخصائص التسعة والعشرين للحياة:

أن وجْهَي الحياة صافيان، شفافان، رائقان. فلم تضع القدرة الربانية اسباباً ظاهرية لتصرفاتها فيها.

وسرّ هذه الخاصية هو ما يأتي:

ان كل شئ في الكون ينطوي على خير، وفيه جمالٌ وحُسن، أما الشر والقبح فهما جزئيان جداً، وهما بحُكم وحدتين قياسيتين، أي انهما وُجدا لإظهار ما في الخير وما في الجمال من مراتب كثيرة وحقائق عديدة؛ لذا يُعَدُّ الشر خيراً والقبح حُسناً من هذه الزاوية. اي من زاوية كونهما وسائل لإبراز المراتب والحقائق.

ولكن ما يبدو لذوي الشعور من مظاهر القبح والشر والبلاء والمصائب قد تدفعهم الى السخط والشكوى والامتعاض. فوُضعَت الاسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الإلهية، لئلا تتوجه تلك الشكاوى الظالمة والسخط الباطل الى ((الحي القيوم)) جلّ وعلا.

زد على ذلك فان العقل ايضاً بنظره الظاهري القاصر، قد يرى منافاة بين امور يراها خسيسةً، خبيثةً، قبيحة، وبين مباشرة يد القدرة المنزّهة المقدسة لها. فوُضِعَت الاسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الربانية لتُنَزِّه عزة القدرة الإلهية عن تلك المنافاة الظاهرية.

هذا علماً ان الاسباب نفسهَا لا يمكنها ان توجد شيئاً بحد ذاتها قط. بل هي موضوعة لصيانة عزة القدرة الإلهية وتنزيهها، ولتظل هي هدفاً مباشراً للشكاوى الظالمة والاعتراضات الباطلة.

ولقد ذكرنا في ((مقدمة المقام الثاني من الكلمة الثانية والعشرين)) أن مَلَك الموت (عزرائيل) عليه السلام وجد أن مهمة قبض الارواح التي اوكلَتْ اليه مهمةٌ بغيضة لبني آدم، وسيكون من جرائها موضع سخطهم ومثار امتعاضهم، فناجى رب العزة بشأن مهمته قائلاً:

- يارب ان عبادَك سيسخطون عليّ!

وجاءه الجواب:

- سأضع ستار الامراض وحجاب المصائب بين مهمتك وبينهم، فلا تُصوَّب سهام الشكاوى والاعتراضات اليك، بل الى الحُجُب.

فحسب مضمون هذه المناجاة نقول:

ان الذين لا يرون الوجه الصبوح الحقيقي للموت - المطل على أهل الايمان - ولا يدركون ما فيه من رحمةٍ مدّخرة، يبدون اعتراضات وشكاوى، فتبرز أمامهم مهمة عزرائيل - عليه السلام - حجاباً وستاراً، فلا تتوجه تلك الشكاوى الباطلة والاعتراضات المجحفة الى الذات المقدسة ((للحي القيوم)). ومثلما ان مهمة عزرائيل ستار، فان الاسباب الظاهرية الاخرى هي ايضاً حُجُب وأستار.

نعم، ان ((العزة والعظمة)) تقتضيان ان تكون الاسباب حُجُباً بين يدي القدرة الإلهية أمام نظر العقل، الاّ ان ((الجلال والوحدانية)) يقتضيان ان تسحب الاسباب ايديها وترفعها عن التأثير الحقيقي.

أما وجها الحياة الظاهر والباطن، المُلك والملكوت، فهما صافيان كاملان مبرّءان من النقص والتقصير، فمثلما لا يوجد فيهما مايستدعي الشكوى أو الاعتراض، فليس فيهما كذلك ماينافي عزة القدرة ونزاهتها من دَنَس مستهجَن أو قبح ظاهر؛ لذا فقد سُلِّم وجهاها مباشرةً الى اسم ((المحيي)) لذات الله الحي القيوم من دون إسدال أستار الاسباب وحُجُبها.

ومِثل الحياة؛ النور، وكذلك الوجود والايجاد.. وعليه نرى أن الايجاد والخَلق يتوجهان مباشرةً من دون حُجُب واستار الى قدرة الخالق سبحانه، بل حتى المطر - وهو نوع من الحياة ورحمة مهداة منه سبحانه - فلا يحكّمه قانون مطّرَد يحدد وقت نزوله؛ وذلك لئلا تُحرَم اكفّ الضراعة امام باب الرحمة من الرجاء والاسترحام وقت الحاجة؛ اذ لو كان المطر ينزل حسب قانون مطّرد - بمثل شروق الشمس وغروبها - لَمَا كان الخلقُ يتوسلون ويستغيثون كل حين استنزالاً لنعمة الحياة تلك.

الرمز الثالث:

لقد ذكر في الخاصية التاسعة والعشرين أن:

الحياة هي نتيجة الكائنات مثلما أن نتيجة الحياة هي:

الشكر والعبادة، فهما سبب خلق الكائنات وعلة غايتها، ونتيجتها المقصودة.

نعم، ان خالق الكون سبحانه ((الحي القيوم)) اذ يعرِّف نفسَه لذوي الحياة ويحبّبها اليهم بنِعَمه التي لاتعد ولاتحصى، يطلب منهم شكرَهم تجاه تلك النعم، ومحبَّتهم ازاء تلك المحبة، وثناءهم واستحسانهم مقابل بدائع صُنعه، وطاعتَهم وعبوديتهم تجاه اوامره الربانية.

فيكون الشكر والعبادة - حسب سرّ الربوبية هذا - اعظم غاية لجميع انواع الحياة، وبدورها يكون غاية الكون بأسره.. ومن هنا نرى ان القرآن الكريم يحث بحرارة ويسوق برفق وعذوبة الى الشكر والعبادة؛ فيكرر كثيراً ويبيّن ويوضح:

أن العبادة خاصّة لله وحده، وأن الشكر والحمد لايليقان حقاً الاّ به سبحانه، وان ما في الحياة من شؤون وامور هي في قبضة تصرفه وحده، فينفي بهذا وبصراحة تامة الوسائطَ والاسباب، مسلِّماً الحياة بما فيها الى يد القدرة ((للحي القيوم)) فيقول مثلاً:

} وهو الذي يُحيي ويُميتُ وله اختلافُ الليلِ والنهار{ (المؤمنون:80)

} وهو الذي يُحيي ويُميتُ فاذا قَضى أمراً فإنما يقولُ له كُنْ فيكون{ (المؤمن: 68)

} فيُحيي به الارضَ بَعد مَوتها{ (الروم: 24)

نعم! ان الذي يدعو الى الشكر والحمد والامتنان، والذي يثير الشعور الى المحبة والثناء - بعد نعمة الحياة - انما هو الرزق والشفاء والغيث، وامثالها من دواعي الشكر والحمد.

وهذه الوسائل ايضاً محصورة كلياً بيد "الرزاق الشافي" سبحانه، فليست الاسباب الاّ أستار وحُجب ووسائط فحسب؛ اذ ان علامة الحصر والتخصيص - حسب قواعد اللغة العربية - هو الرزاق، هو الذي، واضحة في الآيات الكريمة الاتية:

} هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينُ{ (الذرايات: 58)

} واذا مَرِضْتُ فهوَ يَشفينِ{ (الشعراء:80)

} وهو الذي يُنزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ ما قَنَطوا{ (الشورى: 28)

فهذه الآيات الكريمة وامثالها تبين:

ان الرزق والشفاء والغيث خاصةٌ به سبحانه وتعالى، وتنحصر كلياً بيد قدرة ((الحي القيوم)). فالذي وهب خواص الادوية والعلاج هو ذلك الشافي الحقيقي سبحانه الذي خلقها وليس غيره.

الرمز الرابع:

لقد بُيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة:

ان الحياة تثـبت اركان الايمان الستة وتنـظر اليها وتتوجه نحـوها، وتشير الى تحقيقها.

نعم! فما دامت (الحياة) هي حكمة خلق الكائنات، وأهم نتيجتها وخميرتها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل ان غاية شجرة الحياة ونتيجتها وثمرتها - والتي فهم عظمتها وماهيتها بالخواص التسع والعشرين - ما هي الاّ الحياة الأبدية والآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. والاّ يلزم ان تظل شجرة الحياة المجَهزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور - ولا سيما الانسان - دون ثمر ولا فائدة، ولا حقيقة. ولظل الانسان تعساً وشقياً وذليلاً وأحط من العصفور بعشرين درجة - بالنسبة لسعادة الحياة - مع أنه أسمى مخلوق، وأكرم ذوي الحياة وارفع من العصفور بعشرين درجة، من حيث الاجهزة ورأس مال الحياة.

بل يصبح العقل الذي هو أثمن نعمةٍ بلاءً ومصيبة على الانسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل فيعدِّب قلبَ الانسان دائماً معكراً صفو لذةٍ واحدة بتسعة آلام!. ولا شك أن هذا باطل مائة في المائة.

فهذه الحياة الدنيا اذن تثبت ركن ((الايمان بالآخرة)) اثباتاً قاطعاً بما تظهر لنا في كل ربيع اكثر من ثلاثمائة الف نموذج من نماذج الحشر.

فيا ترى هل يمكن لربٍّ قدير، يهئ ما يلزم حياتك من الحاجات المتعلقة بها جميعاً ويوفّر لك أجهزتها كلها سواءً في جسمك أو في حديقتك، أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى أنه يعلم رغبة معدتك فيما يكفل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مُبدياً قبوله لذلك الدعاء بما بثّ من الاطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئِن تلك المعدة! فهل يمكن لهذا المتصرف القدير ان لايعرفك؟ ولايراك؟ ولايهئ الاسباب الضرورية لأعظم غاية للانسان وهي الحياة الأبدية؟؟ ولايستجيب لأعظم دعاءٍ وأهمّه وأعمّه، وهو دعاء البقاء والخلود؟ ولا يقبله بعدم انشائه الحياة الآخرة وايجاد الجنة؟ ولا يسمع دعاء هذا الانسان - وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الارض ونتيجتها - ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الاعماق، والذي يهز العرش والفرش! فهل يمكن ان لا يهتم به اهتمامَه بدعاء المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الانسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمته المطلقة للانكار؟؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا.

وهل يعقل ان يسمع اخفت صوت لأدنى جزء من الحياة فيستمع لشكواه ويسعفه، ويحلم عليه ويربيه بعناية كاملة ورعاية تامة وباهتمام بالغ مسخِّراً له أكبر مخلوقاته في الكون، ثم لا يسمع صوتاً عالياً كهزيم الرعد لأعظم حياة وأسماها وألطفها وأدومها؟ وهل يعقل: ألاّ يهتم بدعائه المهم جداً - وهو دعاء البقاء - وألاّ ينظر الى تضرعه ورجائه وتوسله؟ ويكون كَمَن يجـهّز - بعنـاية كاملة - جندياً واحداً بالعتاد، ولايرعـى الجيـش الجرار الموالى له!! وكمن يـرى الذرة ولايرى الشمس! أو كمن يسمع طنين البعوضة ولا يسمع رعود السماء! حاشَ لله مائة ألف مرة حاشَ لله.

وهل يقبل العقل - بوجه من الاوجه - ان القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعتَه كثيراً، ويحبّب نفسَه بها الى مخلوقاته وهو أشدّ حباً لمن يحبونه، فهل يعقل أن يُفْني حياة مَن هو أكثُر حباً له، وهو المحبوب، وأهلٌ للحب، والذي يعبد خالقَه فِطرةً؟ ويُفني كذلك لبَّ الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي!! ويسبب جفوةً بينه وبين محبه ومحبوبه ويؤلمه أشد الايلام! فيجعل سر رحمته ونور محبته معرّضاً للأنكار! حاشَ لله الف مرة حاشَ لله...

فالجمال المطلق الذي زيّن بتجلّيه هذا الكون وجمّله، والرحمة المطلقة التي أبهجت المخلوقات قاطبة وزيّنتها، لابد أنهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حدّ عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق والظلم المطلق.

النتيجة:

مادامت في الدنيا حياة، فلابد أن الذين يفهمون سر الحياة من البشر، ولايسيؤن استعمال حياتهم، يكونون أهلاً لحياة باقية، في دار باقية وفي جنة باقية.. آمنا.

ثم، ان تلألؤ المواد اللماعة على سطح الارض بانعكاسات ضوء الشمس، وتلمّع الفقاعات والحَباب والزَبَد على سطح البحر، ثم انطفاء ذلك التلألؤ والبريق بزوالها ولمعان الفقاعات التي تعقبها - كأنها مرايا لشُمَيساتٍ خيالية - يُظهر لنا بداهة ان تلك اللمعات ما هي الاّ تجلي انعكاس شمسٍ واحدة عالية. وتذكُر بمختلف الالسنة وجود الشمس، وتشير اليها بأصابع من نور... وكذلك الامر في تلألؤ ذوي الحياة على سطح الارض، وفي البحر، بالقدرة الإلهية وبالتجلي الاعظم لإسم ((المحيي)) للحي القيوم جلّ جلاله، واختفائها وراء ستار الغيب لفسح المجال للذي يخلفها - بعد أن رددّت ((ياحي)) - ما هي إلاّ شهادات واشارات للحياة السرمدية ولوجوب وجود ((الحي القيوم)) سبحانه وتعالى.

وكذا، فان جميع الدلائل التي تشهد على العلم الإلهي الذي تُشاهَد آثارُه من تنظيم الموجودات، وجميع البراهين التي تثبت القدرة المصرّفة في الكون، وجميع الحجج التي تثبت الارادة والمشيئة المهيمنة على ادارة الكون وتنظيمه، وجميع العلامات والمعجزات التي تثبت الرسالات التي هي مدار الكلام الرباني والوحي الإلهي.. وهكذا جميع الدلائل التي تشهد وتدلّ على الصفات الإلهية السبع الجليلة، تدل - وتشهد أيضاً - بالاتفاق على حياة ((الحي القيوم)) سبحانه، لأنه: لو وجدت الرؤية في شئ فلابد أن له حياة ايضاً، ولو كان له سمع فذلك علامة الحياة، ولو وجد الكلام فهو اشارة على وجود الحياة، ولو كان هناك الاختيار والارادة فتلك مظاهر الحياة، كذلك فان جميع دلائل الصفات الجليلة التي تشاهَد آثارُها ويُعلَم بداهة وجودُها الحقيقي، أمثال القدرة المطلقة، والارادة الشاملة، والعلم المحيط، تدل على حياة ((الحي القيوم)) ووجوب وجوده، وتشهد على حياته السرمدية التي نورََّتْ - بشعاعٍ منها - جميعَ الكون وأحيَت - بتجلٍ منها - الدار الآخرة كلها بذراتها معاً.

* * *

والحياة كذلك تنظر وتدل على الركن الايماني (الايمان بالملائكة) وتثبته رمزاً. لأن:

الحياة ما دامت هي أهم نتيجةٍ للكون، وان ذوي الحياة - لنفاستهم - هم اكثر انتشاراً وتكاثراً، وهم الذين يتتابعون الى دار ضيافة الارض قافلة إثر قافلة، فتعمَّر بهم وتبتهج.. وما دامت الكرة الارضية هي محط هذا السيل من انواع ذوي الحياة، فتُملأ وتُخلى بحكمة التجديد والتكاثر باستمرار، ويُخلق في أخس الاشياء والعفونات ذوو حياةٍ بغزارة، حتى اصبحت الكرة الارضية معرضاً عاماً للاحياء.. وما دام يُخلق بكثرة هائلة على الأرض أصفى خلاصة لترشح الحياة وهو الشعور والعقل والروح اللطيفة ذات الجوهر الثابت، فكأن الأرض تحيا وتتجمل بالحياة والعقل والشعور والارواح.. فلا يمكن ان تكون الاجرام السماوية التي هي أكثر لطافةً واكثر نوراً وأعظم أهميةً من الارض جامدةً ودون حياة وبلا شعور.

اذن فالذين سيعمِّرون السماوات ويبهجون الشموس والنجوم، ويهبون لها الحيوية، ويمثلون نتيجة خلق السماوات وثمرتها، والذين سيتشرفون بالخطابات السبحانية، هم ذوو شعور وذوو حياة من سكان السموات وأهاليها المتلائمين معها حيث يوجدون هناك بسرّ الحياة.. وهم الملائكة.



* * *

وكذلك ينظر سر ماهية الحياة ويتوجه الى ((الايمان بالرسل)) ويثبته رمزاً.

نعم! فما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة وان الحياة هي اعظم تجلٍ وأكمل نقش وأجمل صنعة ((للحي القيوم)) جلّ جلاله، وما دامت حياته السرمدية الخالدة تظهر وتكشف عن نفسها بارسال الرسل وانزال الكتب، اذ لو لم يكن هناك ((رسل)) ولا ((كتب)) لما عُرفت تلك الحياة الازلية، فكما ان تكلم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الانبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنزَلة علـيهـم، يبيّنون ويدلّون على ذلك المتكلم الحي الذي يأمر وينهي بكلماته وخطـاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد ان الحياة التي في الكون كمـا انـها تدل - بصـورة قاطعـة - عـلى ((الحي الازلي)) سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده، تدل كذلك على شعاعات تلك الحياة الازلية وتجلياتها وارتباطاتها وعلاقاتها باركان الايمان مثل (ارسال الرسل) و (انزال الكتب) وتثبتهما رمزاً. ولا سيما ((الرسالة المحمدية)) و ((الوحي القرآني)). اذ يصح القول، انهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت تلك الحياة، حيث انهما بمثابة روح الحياة وعقلها.

نعم، كما ان الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة.. كذلك الحياة المحمدية - المادية والمعنوية - مترشحة من الحياة ومن روح الكون فهي خلاصة زبدتها، والرسالة المحمدية كذلك مترشحة من حسّ الكون وشعورِه وعقِله، فهي اصفى خلاصته، بل ان حياة محمد صلى الله عليه وسلم - المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني - بشهادة حقائقه الحيوية - روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل.. أجل.. أجل.

فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جَنّ جنونه وفَقَدت الكرة الارضية صوابَها، وزال عقلُها، وظلت دون شعور، واصطدمت باحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة.

* * *

والحياة - كذلك - تنظر الى الركن الايماني ((القدر)) وتدل عليه وتثبتهُ رمزاً، اذ: ما دامت الحياة ضياءً لعالم الشهادة وقد استولت عليه وأحاطت به، وهي نتيجة الوجود وغايته، واوسع مرآةٍ لتجليات خالق الكون، وأتم فهرسٍ ونموذج للفعالية الربانية حتى كأنها بمثابة نوعٍ من خطتها ومنهجها - اذا جاز التشبيه - فلابد أن سر الحياة يقتضي ان يكون عالم الغيب أيضاً - وهو بمعنى الماضي والمستقبل - أي المخلوقات الماضية والقابلة في حياة معنوية أي في نظام وانتظام وان يكون معلوماً ومشهوداً ومتعيّناً ومتهيأً لأمتثال الأوامر التكوينية. مَثَلُها كمثل تلك البذرة الاصلية للشجرة وأصولها، والنوى والاثمار التي في منتهاها، التي تتميز بمزايا نوعٍ من الحياة كالشجرة نفسها، بل قد تحمل تلك البذور قوانين حياتية أدق من قوانين حياة الشجرة.

وكما ان البذور والأصول التي خلفها الخريف الماضي، وما سيخلفه هذا الربيع - بعد إدباره - من البذور والأصول، تحمل نور الحياة، وتسير وفق قوانين حياتية، مثل ما يحمله هذا الربيع من الحياة، فكذلك شجرة الكائنات، وكلُّ غصن منها وكلُّ فرعٍ، له ماضيه ومستقبله، وله سلسلة مؤلفة من الاطوار والاوضاع، القابلة والماضية، ولكل نوعٍ ولكلّ جزء منه وجودٌ متعدد بأطوار مختلفة في العلم الألهي، مشكّلاً بذلك سلسلة وجود علمي. والوجود العلمي هذا، الشبيه بالوجود الخارجي هو مظهرٌ لتجلٍ معنوي للحياة العامة، حيث تُؤخذُ المقدرات الحياتية من تلك الالواح القَدَرية الحية ذات المغزى العظيم.

نعم، ان امتلاء عالم الارواح - الذي هو نوع من عالم الغيب - بالارواح التي هي عين الحياة، ومادتها، وجوهرها، وذواتها، يستلزم ان يكون الماضي والمستقبل - اللذان هما نوع من عالم الغيب وقسم ثان منه - متجلية فيهما الحياة. وكذا فان الانتظام التام والتناسق الكامل في الوجود العلمي الإلهي لأوضاع ذات معانٍ لطيفة لشئ ما ونتائجَه واطوارَه الحيوية ليبين ان له اهلية لنوع من الحياة المعنوية.

نعم، ان مثل هذا التجلي - تجلي الحياة - الذي هو ضياء شمس الحياة الازلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، وفي هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكل عالمٍ من العوالم مظهراً من مظاهر تجلّي ذلك الضياء حسب قابليته.

فالكونُ اذن - بجميع عوالمه - حيٌ ومشعٌ مضئ بذلك التجلي والا لأصبح كلٌّ من العوالم - كما تراه عين الضلالة - جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الحياة الموقتة الظاهرة، وعالماً خرباً مظلماً.

وهكذا يُفهم وجهٌ واسع من أوجه الايمان بالقضاء والقدر من سر الحياة ويثبت به ويتضح. أي كما تَظهر حيويةُ عالمٍ الشهادة والموجودات الحاضرة بانتظامها وبنتائجها، كذلك المخلوقات الماضية والآتية التي تعدّ من عالم الغيب لها وجودٌ معنوي، ذو حياة معنىً، ولها ثبوتٌ علمي ذو روح، بحيث يظهر - باسم المقدرات - اثر تلك الحياة المعنوية بوساطة لوح القضاء والقدر.

الرمز الخامس:

لقد ذكر في الخاصية السادسة عشرة من خصائص الحياة أنه:

ما ان تنفذ الحياةُ في شئ تصيّره عالَماً بحدّ ذاته؛ اذ تمنحه من الجامعية مايجعله كلاً ان كان جزءاً، وما يجعله كلياً إن كان جزئياً؛ فالحياة لها من الجامعية بحيث تعرض في نفسها أغلب الاسماء الحسنى المتجلية على الكائنات كلها، وكأنها مرآة جامعة تعكس تجليات الاحدية. فحالما تدخل الحياة في جسم تعمل على تحويله الى عالم مصغّر، لكأنها تحيله بمثابة بذرة حاملة لفهرس شجرة الكائنات، وكما لايمكن ان تكون البذرة الاّ اثر قدرة خالق شجرتها كذلك الذي خلق اصغر كائن حي لابد انه هو خالق الكون كله.

فهذه الحياة بجامعيتها هذه تُظهر في نفسها أخفى اسرار الاحدية وأدقّها. أي: كما ان الشمس العظيمة توجد بضيائها وألوانها السبعة وانعكاساتها في ما يقابلها من قطرة ماء أو قطعة زجاج، كذلك الامر في كل ذي حياة الذي تتجلى فيه جميع تجليات الاسماء الحسنى وانوار الصفات الإلهية المحيطة بالكون. فالحياة - من هذه الزاوية - تجعل الكون من حيث الربوبية والايجاد بحكم الكلّ الذي لايقبل الانقسام والتجزئة، وتجعله بحكم الكلّي الذي تمتنع عليه التجزئة والاشتراك.

نعم! ان الختم الذي وَضَعه الخالق سبحانه على وجهك يدل بالبداهة على أن الذي خلقك هو خالق بني جنسك كلهم؛ ذلك لأن الماهية الانسانية واحدة، فانقسامها غير ممكن. وكذلك الامر في أجزاء الكائنات! اذ تتحول بوساطة الحياة كأنها افراد الكائنات، والكائنات كأنها نوع لتلك الافراد.

فكما تُظهر الحياة ختمَ الأحدية على مجموع الكون فانها تردّ الشرك والاشتراك وترفضه رفضاً باتاً باظهارها ختم الأحدية نفسَه وختم الصمدية على كل جزء من أجزاء الكون.

ثم ان في الحياة من خوارق الصنعة الربانية ومعجزات الابداع الباهر بحيث انه مَن لم يكن قادراً على خلق الكون يعجز كلياً عن خلق أصغر كائن حي فيه.

نعم، ان القلم الذي كتب فهرس شجرة الصنوبر الضخمة ومقدّراتها في بذرتها الصغيرة - ككتابة القرآن مثلاً على حبة حمص - هو ذلك القلم نفسَه الذي رصّع صفحات السماء بلآلئ النجوم، وان الذي ادرج في رأس النحل الصغير استعداداً يمكّنها من معرفة ازهار حدائق العالم كله، وتقدر على الارتباط مع اغلبها بوشائج، ويجعلها قادرة على تقديم ألذّ هدية من هدايا الرحمة الإلهية - وهي العسل - ويدفعها الى معرفة شرائط حياتها منذ أول قدومها الى الحياة لا شك انه هو خالق الكون كله وهوالذي اودع هذا الاستعداد الواسع والقابلية العظيمة والاجهزة الدقيقة فيها



الخلاصة:

ان الحياة آيةُ توحيد ساطعة تسطع على وجه الكائنات، وان كل ذي روح - من جهة حياته - آيةٌ للأحدية، وان الصنعة المتقنة الموجودة على كل فرد من الاحياء ختمٌ للصمدية، وبهذا جميع ذوي الحياة يصدّقون ببصمات حياتهم رسالةَ الكون هذه ويعلنون أنها من ((الحي القيوم)) الواحد الأحد.. فكل منها ختم للوحدانية في تلك الرسالة فضلاً عن انها ختم للأحدية وعلامة الصمدية.

فكما ان الأمر هكذا في الحياة، فكل كائن حي ايضاً ختم للوحدانية في كتاب الكون؛ كما قد وُضع على وجهه وسيماه ختم الأحدية.

نعم! ان الحياة بعدد جزئياتها وبعدد أفرادها الحية أختامٌ وبصماتٌ حية تشهد على وحدانية ((الحي القيوم)) مثلما ان فعل البعث - الإحياء - ايضاً يختم باختام التصديق على التوحيد بعدد الأفراد من الاحياء.

فإحياءُ الارض الذي هو مثال واحد على البعث هو شاهدُ صدقٍ ساطع على التوحيد كالشمس، لأن بعث الأرض في الربيع واحياءها يعني بعث افرادٍ لا تعد ولا تحصى لأنواع الأحياء التي تربو على ثلثمائة الف نوع، فتُبعث جميعاً معاً من دون نقص ولا قصور بعثاً متداخلاً متكاملاً منتظماً. فالذي يفعل بهذا الفعل أفعالاً منتظمة لا حدود لها فانه هو خالق المخلوقات جميعها، وأنه ((الحي القيوم)) الذي يحيي ذوي الحياة قاطبة، وأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له في ربوبيته قط.

اكتفينا بهذا القدر القليل المختصر من بسط خواص الحياة محيلين بيان الخواص الاخرى وتفصيلاتها الى أجزاء رسائل النور وفي وقت آخر.

الخاتمة

ان الاسم الاعظم ليس واحداً لكل أحد، بل يختلف ويتباين، فمثلاً: لدى الامام علي رضي الله عنه هو ستة اسماء حسنى هي: فردٌ، حيٌ، قيومٌ، حكمٌ، عدلٌ، قدوسٌ.. ولدى أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه اسمان هما: حَكَمٌ عدلٌ.. ولدى الشيخ الكيلاني قُدس سره هو اسم واحد: يا حيّ.. ولدى الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) رضي الله عنه هو: القيومُ.. وهكذا، فلدى الكثيرين من العظماء الافذاذ اسماء اخرى هي الأسم الاعظم عندهم.

ولما كانت هذه ((النكتة الخامسة)) تخص اسم الله ((الحي)) وقد أظهر الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم في مناجاته الرفيعة المسماة بــ((الجوشن الكبير)) معرفَته الجامعة السامية لله اظهاراً يليق به وحده؛ لذا نذكر من تلك المناجاة شاهداً ودليلاً وحجةً وتبركاً ودعاء مقبولاً وخاتمة حسنةً لهذه الرسالة، فنذهب خيالاً الى ذلك الزمان ونقول: آمين.. آمين على ما يقوله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فنردد المناجاة نفسها على أصداء ذلك القول النبوي الكريم:

يا حيُّ قـبـلَ كـلِّ حـيّ * يا حيُّ بعد كل حيّ

يا حـيُّ الـذي لا يـُشبِـهَهُ شـئٌ * يَا حيُّ الذي ليسَ كمثلِه حيٌّ.

يا حيُّ الـذي لا يُشـاركـُـه حـيٌّ * يا حيُّ الذي لا يحتاج الى حيّ.

يا حيُّ الذي يُميت كلَّ حيّ * يا حيُّ الذي يرزُق كلَّ حيّ.

يا حيُّ الذي يحيى الموتى * يا حيُّ الذي لا يموت.

سُبحانك يا لا إله إلاّ انتَ الأمان الأمان نـجـِّنا من النار.آمين.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{



النكتة السادسة

تتطلع الى اسم الله الاعظم:

القيوم

لقد اصبحت الخلاصة المقتضبة لاسم الله ((الحي)) ذيلاً لمنبع النور، كما اُرتُئي ان تكون هذه النكتة التي تخص اسم الله ((القيوم)) ذيلاً للكلمة الثلاثين.

اعتذار:

ان هذه المسائل البالغة الخطورة والاهمية، والتجلي الاعظم لإسم الله ((القيوم)) الطافح على وجه الحياة والغاص في أعماق الوجود، لم تتوارد الى القلب توارداً متعاقباً منتظماً، الواحدة تلوَ الأخرى. بل سَطَعت دفعةً واحدة في سماء القلب كالبروق الخاطفة، وانقدح زناد القلب، فاستنار الوجدانُ بها فدونتها كما خطرتْ لي ولم أجرِ عليها أي تعديل أو تغيير أو تشذيب. فلا جرم أن يعتورها شئ من الخلل في الأداء البياني، والسبك البلاغي. فارجو ان تتكرموا بالصفح عما تشاهدونه من قصور في الشكل لأجل جمال المضمون وحُسن محتواه.

تنبيه:

ان المسائل اللطيفة والنكات الدقيقة التي تخص ((الاسم الاعظم)) هي عـظيمة السعة، عميقة الاغوار، ولاسيما المسائل التي تخص اسم ((الحي القيوم)). وبخاصة ((الشعاع الاول)) منها، الذي ورد وروداً أعمق من غيره لتوجهه مباشرة الى الماديين (1). لذا فليس الجميع ُ سواءً في إدراكهم لمسائله كلها، وربما صَعُب على البعض الاحاطة ببعضٍ منها، وفاته إدراك جزءٍ هنا، وجزء هناك، الاّ أننا مطمئنون الى ان أحداً لن يخرُجَ من النظر فيها، من غير أن يستفيد شيئاً، بل سينال – بلا شك – حظَّه المقسوم له من كل مسألة منها، ((فما لا يُدرَك كلُّه، لا يُترك كلـُّه)) كما تقول القاعدة السارية؛ فليس صواباً ان يدع أحدٌ هذه الروضة المعنوية المليئة بالثمرات بحجة عجزه عن جَني جميع ثمراتها! وما قطفه منها وحصل عليه فهو كسب ومغنم.

ومثلما ان من المسائل التي تخص ((الاسم الاعظم)) ما هو واسع جداً لدرجة تتعذر معها الأحاطة الكلية به، فان فيها أيضاً مسائل لها من الدقة ما تندُّ بها عن بصر العقل؛ ولاسيما رموز الحياة الشاملة لأركان الايمان التي هي في اسم الله ((الحي))، واشارات الحياة فيه الى الايمان بالقضاء والقدر، والشعاع الاول لاسم الله ((القيوم)).

ولكن مع هذا لا يبقى أحد دون الأخذ بحظٍ منها. بل تشدّ ايمانَه وتُزيده سعةً ومدىً على أقل تقدير، ولا غرو فان زيادة الأيمان الذي هو مفتاح السعادة الأبدية انما هي على جانب عظيم من الأهمية، فزيادتُه ولو بمقدار ذرة كنزٌ عظيم، كما يقول الأمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي:

((ان انكشاف مسألة صغيرة من مسائل الايمان لهو أفضل في نظري من مئاتٍ من الاذواق والكرامات)).

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

} بيَدِه مَلَكوتُ كلِّ شيءٍ { (يس: 83)

} لَهُ مقاليدُ السّمواتِ والأرض { (الزمر: 63)

} وانْ مِن شئٍ إلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُه { (الحجر: 21)

} مَا مِنْ دَابَّةٍ إلاّ هو آخِذٌ بناصِيَتها { (هود: 56)

لقد تراءى لعقلي في شهر ذي القعدة وانا نزيل سجن ((اسكي شهر)) تجلٍ عظيمٌ من أنوار اسم الله الأعظم ((القيوم)) الذي هو الاسم الأعظم، أو السادس من الأنوار الستة للاسم الأعظم. كما تراءت نكتة من نكات هذه الآيات الكريمة المشيرة الى القيومية الإلهية.

بيد أن ظروف السجن المحيطة بي تحول دون أن أوفي حق هذه الانوار من البيان. وحيث ان الأمام علياً رضي الله عنه قد أبرز الاسم الأعظم في قصيدته المسماة بـ((أرجوزة السكينة)) لدى بيانه لسائر الاسماء الجليلة من قصيدته ((البديعة)). يولي أهمية خاصة لتلك الاسماء الستة، فضلاً عما يمنحه لنا – بكرامة من الله – السلوان والعزاء اثناء بحثه لتلك الأسماء، لذا سنشير باشارات مختصرة الى بيان هذا النور الأعظم لإسم الله ((القيوم)) - كما فعلنا مع الاسماء الخمسة الأخرى - وسنجعل تلك الاشارات في خمسة أشعة.

الشعاع الأول:

ان خالق هذا الكون ذا الجلال ((قيومٌ)). أي: أنه قائم بذاته، دائم بذاته، باقٍ بذاته، وجميع الأشياء والموجودات قائمة به، تدوم به، تبقى في الوجود به، وتجد البقاء به. فلو انقطع هذا الانتساب للقيومية من الكون بأقل من طرفةِ عينٍ يُمحى الكونُ كله.

ثم ان ذلك الجليل مع قيوميته } لَيْسَ كَمثلِه شئٌ{ كما وصفه القرآن الكريم. أي لا نظير له ولا مثيل ولا شبيه ولا شريك: في ذاته.. في صفاته.. وفي أفعاله.

نعم، ان الذي يمسك الكون كله أن يزول في قبضة ربوبيته ويدير جميع شؤونه ويدبّر جميع أحواله وكيفياته بكمال الإنتظام ومنتهى التدبير وغاية الرعاية، وفي سهولة مطلقة كادارة قصر أو بيت محالٌ ان يكون له مثلٌ او مِثيلٌ أو شريك أو شبيه.

نعم، ان مَن كان خلق النجوم سهلاً عليه وهيناً كخلق الذرات.. ويسخّر أعظم شئ في الوجود كأصغره ضمن قدرته المطلقة.. ولا يمنع شئ شيئاً عنه، ولا فعلٌ فعلاً، فالأفراد غير المحدودين نصبَ نظره كالفرد الواحد، والأصوات جميعُها يسمعها معاً، ويوفي حاجات الكل في آن واحد ودفعةٍ واحدة، ولا يخرج شئ مهما كان، ولا حالةٌ مهما كانت من دائرة مشيئته ونطاق ارادته - بشهادة الأنظمة والموازين الجارية في الكون - وكما انه لا يحدّه مكانٌ فهو بقدرته وبعلمهِ حاضرٌ في كل مكان، وكما ان كل شئ بعيدٌ عنه بُعداً مطلقاً، فهو أقرب اليه من أيّ شئ.. فهذا ((الحي القيوم)) ذو الجلال، لابد أنه } لَيْسَ كَمثلِه شئٌ{ فلا نظير له ولاشريك ولاوزير ولاضد ولاندّ. بل محال في حقه كل ذلك. اما شؤونُه المنزّهة الحكيمة، فيمكن ان يُنظَر اليها بمنظار المَثَل والتمثيل (وجميع أنواع الأمثال والتمثيلات والتشبيهات الواردة في رسائل النور انما هي من هذا النوع من المثل والتمثيل).

فهذا الذات الأقدس الذي لا مثيل له، وهو الواجب الوجود، والمجرّد عن المادة المنزّه عن المكان، المحال عليه التجزؤ والانقسام، والممتنع عليه التغيّر والتبدل، والذي لا يمكن أن يُتصورَ عجزه واحتياجه ابداً، هذا الذات الأقدس قد أعطى قسمٌ من أهل الضلالة احكامَ ألوهيته العظيمة الى بعضِ مخلوقاته، وذلك بتوهمهم ان تجلياته سبحانه المتجلية في صفحات الكون وطبقات الموجودات هي الذات الأقدس نفسه، ففوض قسم من هؤلاء بعض آثار تجلياته سبحانه الى الطبيعة والاسباب، والحال انه قد ثبت ببراهين متعددة ناصعة وفي عديد من رسائل النور:

أن الطبيعة: ما هي الاّ صنعة الهية ولا تكون صانعاً، وهي كتاب رباني ولا تكون كاتباً، وهي نقشٌ بديع ومحال ان تكون نقّاشاً مُبدعاً، وهي كراسٌ ولا تكون واضعة القوانين وصاحبة الكراس، وهي قانونٌ ولا تكون قدرةً، وهي مسطرٌ ولا تكون مصدراً للوجود، وهي شئ منفعل ولا تكون الفاعل، وهي نظام ومحال ان تكون ناظماً، وهي شريعة فطرية وممتنع ان تكون شارعاً مشرّعاً.

ولو أفترض محالاً وأحيل خلقُ أصغر كائن حي الى الطبيعة، وقيل لها - فرضاً -: هيا أوجدي هذا الكائن - مثلاً - فينبغي للطبيعة عندئذٍ ان تهئ قوالبَ مادية ومكائن - بعدد أعضاء ذلك الكائن لكي تستطيع ان تؤدي ذلك العمل!! وقد أثبتنا محالية هذا الفرض في مواضع كثيرة من رسائل النور.

ثم ان قسماً من أهل الضلالة الذين يطلق عليهم ((الماديون)) يشعرون بالتجلي الأعظم للخلاقية الإلهية والقدرة الربانية في تحولات الذرات المنتظمة، ولكنهم يجهلون مصدر ذلك التجلي، ويعجزون عن ان يدركوا من أين تُدار تلك القوة العامة النابعة من تجلي القدرة الصمدانية.. فلأنهم يجهلون كل ذلك فقد شرعوا باسناد اثار الألوهية الى الذرات نفسها والى حركاتها عينها، فتوهموا أزلية المادة والقوة. فسبحان الله!! أفيمكن لإنسانٍ ان يتردى الى هذا الدرك السحيق من الجهالة والخرافة المحضة، فيسند الآثار البديعة للخالق البديع والأفعال الحكيمة للعليم البصير - وهو المتعال عن المكان والزمان - الى ذراتٍ مضطربة بتيارات المصادفات، جامدةٍ عمياء غير شاعرة، لاحول لها ولا قوة، والى حركاتها!.. أفيمكن ان يقرّ بهذا أحد؟. فمن كان له مسكةٌ من عقل لابد ان يحكم بان هذا جهلٌ ما بعده جهل، وخرافة ما بعدها خرافة.

ان هؤلاء التعساء قد وقعوا في عبادة الهة كثيرة لأنهم أعرضوا عن الوحدانية المطلقة. أي لأنهم لم يؤمنوا بالهٍ واحد، أصبحوا مضطرين الى قبول ما لا نهاية له منالآلهة!.. أي لأنهم لم يستوعبوا بعقولهم القاصرة أزلية الذات الأقدس وخلاّقيته - وهما صفتان لازمتان ذاتيتان له سبحانه - فقد اصبحوا - بحكم مسلكهم الضال - مضطرين الى قبول أزلية ذرات جامدة لا حدّ لها ولا نهاية، بل الى قبول ألوهية الذرات!

فتأمل مبلغ الحضيض الذي سقطوا فيه، وسحيق الدرك الاسفل من الجهل الذي تردّوا فيه!

نعم! ان التجلي الظاهر ((للحي القيوم)) في الذرات قد حوّلها الى ما يشبه الجيش المهيب المنظم بحول الله وقوته وأمره، فلو سُحب أمرُ القائد الأعظم لأقل من طرفة عين من تلك التي لا تحد من الذرات الجامدة والتي لاشعور لها ولاعقل، لظلت سائبة، بل تمحى نهائياً من الوجود.

ثم ان هناك من يتظاهرون ببُعد النظر، فيسوقون فكراً أجهل من السابق وأوغل في الخرافة منه حيث يتوهمون ان مادة الأثير هي المصدر وهي الفاعل، لقيامها بمهمة المرآة العاكسة لتجليات ربوبية الخالق سبحانه! علماً انها ألطف وأرق وأطوع صحيفة من صحائف اجراءات الصانع الجليل واكثرها تسخيراً وانقياداً، وهي وسيلة لنقل أوامره الجليلة. وهي المداد اللطيف لكتاباته، والحلّة القشيبة الشفيفة لايجاداته، والخميرة الاساس لمصنوعاته، والارض الخصبة لحبّاته.

فلا شك ان هذا الجهل العجيب المرعب يستلزم محالات لاحد لها ولا نهاية، وذلك لأن مادة الأثير هي ألطف من مادة الذرات التي غرق بها الماديون في مستنقع الضلالة، وهي اكثف من الهيولي(1) التي ضلّ فيها الفلاسفة القدماء وتاهوا. وهي مادة جامدة لاأرادة لها ولاأختيار ولاشعور، فإسناد الافعال والآثار الى هذه المادة القابلة للأنقسام والتجزؤ والمجهّزة للقيام بوظيفة النقل وخاصة الإنفعال، والى ذراتها التي هي اصغر من الذرات لاشك انه جريمة وخطأ فاحش بعدد ذرات الأثير؛ لأن تلك الافعال والآثار الربانية لا يمكن ان تحدث الاّ بارادة من يقدِر على رؤية كل شئ في أي شئ كان ومَن يملك علماًِ محيطاً بكل شئ.

نعم! ان فعل الايجاد المشهود في الموجودات يتسم بكيفية معينة واسلوب منفرد بحيث يدل دلالة واضحة على ان الموجِد هو صاحبُ قدرةٍ قادرة واختيار طليق، يرى اكثر الاشياء، بل الكون كله لدى ايجاده أيَّ شئ كان، ولاسيما الكائن الحي ويعلم كل ما يرتبط به من الأشياء، ثم يضع ذلك الشئ في موضعه الملائم له، ويضمن له البقاء في ذلك الموقع، أي ان الاسباب المادية الجاهلة لا يمكن ان تكون بحال من الأحوال فاعلاً لها.

نعم، ان فعلاً ايجادياً - مهما كان جزئياً - يدل دلالة عظيمة - بسر القيومية - على انه فعلُ خالِق الكون فعلاً مباشراً. فالفعل المتوجّه الى ايجاد نحلة - مثلاً - يدلنا بجهتين على أنه يخص خالق الكون ورب العالمين.

الجهة الاولى

ان قيام تلك النحل مع أمثالها في جميع الأرض بالفعل نفسه في الوقت نفسه يدلنا على ان هذا الفعل الجزئي الذي نشاهده في نحلة واحدة انما هو طرفٌ لفعلٍ يحيط بسطح الارض كله. أي ان من كان فاعلاً لذلك الفعل العظيم الواسع ومالكاً له فهو صاحب ذلك الفعل الجزئي.

الجهة الثانية

لأجل ان يكون أحدٌ فاعلاً لهذا الفعل الجزئي المتوجه الى خلقِ هذه النحلة الماثلة أمامنا، ينبغي ان يكون - الفاعل - عالماً بشروط حياة تلك النحلة وأجهزتها

وعلاقاتها مع الكائنات الاخرى وكيفية ضمان حياتها ومعيشتها، فيلزم اذن ان يكون ذا حكم نافذ على الكون كله ليجعل ذلك الفعل كاملاً. أي ان أصغر فعلٍ جزئي يدل من جهتين على أنه يخصّ خالقَ كل شئ. ولكن اكثر ما يحيّر الانسان ويجلب انتباهه هو: ان الأزلية والسرمدية التي هي من أخص خصائص الألوهية وألزم صفةٍ للذات الأقدس المالك لأقوى مرتبة في الوجود وهو ((الوجوب)) وأثبت درجة في الوجود وهو ((التجرد من المادة)) وأبعد طور عن الزوال وهو ((التنزه عن المكان)) واسلم صفة من صفات الوجود وأقدسها عن التغير والعدم وهو ((الوحدة)).

أقول: ان الذي يحير الانسان ويثير قلقه، ويجلب انتباهه انما هو: منح صفة الأزلية والسرمدية الى الأثير والذرات وما شابهها من المواد المادية التي لها أضعف مرتبة من مراتب الوجود، وأدق درجة فيه، واكثر أطواره تغيراً وتحولاً، وأعمها انتشاراً في المكان، ولها الكثرة التي لا تحد.. فإسناد الأزلية الى هذه المواد وتصورها أزليةً، وتوهم نشوء قسم من الآثار الألهية منها، ما هو الاّ مجافاة وأي مجافاة للحقيقة وأمرٌ منافٍ أي منافاة للواقع، وبعيد كل البعد عن منطق العقل وباطل واضح البطلان وقد أثبتنا هذا في كثير من الرسائل ببراهين رصينة.

الشعاع الثاني: وهو مسألتان:

المسألة الاولى: قال تعالى:

} لا تأخذُهُ سِنةٌ ولا نَومٌ{ (البقرة: 255)

} ما مِنْ دابةٍ الاّ هو آخذٌ بناصِيَتِها{ (هود: 56)

} لهُ مقاليدُ السّموات والارض{ (الزمر: 63)

وأمثالها من الآيات التي تتضمن حقيقة عظمى تشير الى التجلي الأعظم لاسم الله ((القيوم)).. سنورد وجهاً واحداً من تلك الحقيقة، وهو الآتي:

ان قيام الأجرام السماوية في هذا الكون ودوامَها وبقاءها انما هو مشدود بسر القيومية، فلو صَرف سر القيومية وتجلّيه وجهَه - ولو لأقل من دقيقة - لتبعثرت تلك الأجرام التي تفوق ضخامة بعضها ضخامة الكرة الأرضية بألوف المرات ولإنتثرت ملايين الأجرام في فضاء غير متناهٍ ولإصطدم بعضُها ببعض ولَهَوت الى سحيق العدم.

لنوضح ذلك بمثال:

اننا مثلما نفهم قدرة قيومية مَن يُسيّر ألوف قصور ضخمة في السماء بدل الطائرات بمقدار ثبات تلك الكتل الهائلة التي في السماء ودوامها، وبمدى انتظام دورانها وانقيادها في جريها. نفهم أيضاً: تجلي الأسم الأعظم: ((القيوم)) من منح القيوم ذي الجلال قياماً وبقاءاً ودواماً - بسر القيومية - لأجرامٍ سماوية لا حدّ لها في أثير الفضاء الواسع، وجريانها في منتهى الإنقياد والنظام والتقدير، واسنادها وادامتها وابقائها دون عمد ولا سند، مع ان قسماً منها أكبر من الأرض ألوف المرات وقسماً منها ملايين المرات، فضلاً عن تسخير كل منها وتوظيفها في مهمة خاصة، وجعلها جميعاً كالجيش المهيب، منقادةً خاضعة خضوعاً تاماً للأوامر الصادرة ممن يملك أمر ((كن فيكون)). فكما ان ذلك يمكن ان يكون مثالاً قياسياً للتجلي الأعظم لاسم ((القيوم)) كذلك ذرات كل موجود - التي هي كالنجوم السابحة في الفضاء - فانها قائمةٌ ايضاً بسر القيومية، وتجد دوامَها وبقاءها بذلك السر.

نعم! ان بقاء ذرات جسم كل كائن حي دون ان تتبعثر وتجمّعها على هيئة معينة وتركيب معين وشكل معين حسب ما يناسب كل عضو من اعضائه، علاوةً على احتفاظها بكيانها وهيئتها أمام سيل العناصر الجارفة دون ان تتشتت، واستمرارها على نظامها المتقن.. كل ذلك لا ينشأ - كما هو معلوم بداهة - من الذرات نفسها، بل هو من سر القيومية الإلهية التي ينقاد لها كلٌّ فردٍ حي انقيادَ الطابور في الجيش، ويخضع لها كلُّ نوعٍ من أنواع الأحياء خضوعَ الجيش المنظم.

فمثلما يُعلن بقاءُ الأحياء والمركبات ودوامُها على سطح الأرض وسياحةُ النجوم وتجوالُها في الفضاء ((سرَّ القيومية)) تعلنه هذه الذرات أيضاً بألسنة غير معدودة.

المسألة الثانية:

هذا المقام يقتضي الاشارة الى قسم من فوائد الأشياء وحِكَمها المرتبطة بسر القيومية. ان حكمة وجود كل شئ، وغايةَ فطرته، وفائدةَ خلقه، ونتيجة حياته - كلاً منها - انما هي على أنواع ثلاثة.

النوع الاول: وهو المتوجه الى نفسه والى الانسان ومصالحه.

النوع الثاني: (وهو الأهم من الأول): هو ان كل شئ في الوجود بمثابة آية جليلة، ومكتوب رباني، وكتاب بليغ، وقصيدة رائعة، يستطيع كلُّ ذي شعور ان يطالعها ويتعرّف من خلالها على تجلّى اسماء الفاطر الجليل. أي ان كل شئ يعبّر عن معانيه الغزيرة لقرائه الذين لا يحصيهم العد.

أما النوع الثالث: فهو يخص الصانَع الجليل، وهو المتوجه اليه سبحانه، فلو كانت فائدةُ خلقِ الشئ في نفسه واحدةً فالتي يتطلع منها الى الباري الجليل هي مئات من الفوائد، حيث أنه سبحانه يجعله موضع نظره الى بدائع صنعه، ومحطّ مشاهدة تجلي أسمائه الحسنى فيه، فضمن هذا النوع الثالث العظيم من حكمة الوجود يكفي العيش لثانية واحدة.

هذا وسيوضح في ((الشعاع الثالث)) سرٌ من أسرار القيومية الذي يقتضي وجود كل شئ.

تأملتُ ذات يوم في فوائد الموجودات وحكمها من زاوية انكشاف ((طلسم الكائنات)) و ((لغز الخلق)) فقلت - في نفسي -: ((لماذا ياتُرى، تعرض هذه الأشياء نَفسَها وتُظهِرُها ثم لاتلبث أن تختفي وترحل مسرعةً؟)).. انظر الى أجسامها وشخوصها فاذا كل منها منظـّم منسق قد اُلبس وجوداً على قدِّه وقدره بحكمةٍ واضحة وزُيّن بأجمل زينة وألطفها، واُرسل بشخصية ذات حكمة وجسم منسق ليُعرَض أمام المشاهدين في هذا المعرض الواسع.. ولكن ما أن تمر بضعة أيام - أو بضع دقائق - الاّ وتراه يتلاشى ويختفي من دون أن يترك فائدة أو نفعاً.!! فقلت: تُرى ما الحكمة من وراء هذا الظهور لنا لفترة قصيرة كهذه؟..

كنت في لهفة شديدة للوصول الى معرفة السر.. فادركني لطفُ الرب الجليل سبحانه.. فوجدت - في ذلك الوقت - حكمةً مهمة من حِكَم مجئ الموجودات - ولا سيما الأحياء - الى مدرسة الأرض، والحكمة هي: ان كل شئ - ولا سيما الأحياء - انما هي كلمة إلهية ورسالة ربانية وقصيدةٌ عصماء، واعلانٌ صريح في منتهى البلاغة والحكمة. فبعد ان يصبح ذلك الشئ موضع مطالعة جميع ذوي الشعور، ويفي بجميع معانيه لهم ويستنفد أغراضه، تتلاشى صورتهُ الجسدية وتختفي مادتُه تلك التي هي: بحكم لفظ الكلمة وحروفها،تاركة معانيها في الوجود. لقد كفتني معرفة هذه الحكمة طوال سنة.. ولكن بعد مضيها انكشفت أمامي المعجزات الدقيقة في المصنوعات والاتقان البديع فيها ولا سيما الأحياء. فتبيّن لي:

ان هذا الأتقان البديع جداً والدقيق جداً في جميع المصنوعات ليس لمجرد افادة المعنى أمام أنظار ذوي الشعور؛ اذ رغم ان ما لا يحد من ذوي الشعور يطالعون كلَّ موجود الاّ ان مطالعتهم - مهما كانت - فهي محدودة، فضلاً عن أنه لا يستطيع كل ذي شعور ان ينفذ الى دقائق الصنعة وابداعها في الكائن الحي ولا يقدر على اكتناه جميع أسرارها.

فأهم نتيجة اذاً في خلق الأحياء وأعظم غاية لفطرتها انما هي: عرضُ بدائع صنع ((القيوم الأزلي)) أمامَ نظره سبحانه، وابرازُ هدايا رحمته وآلائه العميمة التي وهبها للأحياء، أمام شهوده جل وعلا.. لقد منحتني هذه الغاية اطمئناناً كافياً وقناعة تامة لزمن مديد. وأدركت منها:

ان وجود دقائق الصنع وبدائع الخلق في كل موجود - ولا سيما الأحياء - بما يفوق الحد، انما هو لعرضها أمام ((القيوم الأزلي)) أي ان حكمة الخلق هي:

مشاهدة ((القيوم الازلي)) لبدائع خلقه بنفسه.. وهذه المشاهدة تستحق هذا البذل العميم وهذه الوفرة الهائلة في المخلوقات.

ولكن بعد مضي مدة.. رأيت أن دقائق الصنع والاتقان البديع في شخوص الموجودات وفي صورتها الظاهرة لاتدوم ولاتبقى، بل تتجدد بسرعة مذهلة، وتتبدل آناً بعد آن، وتتحول ضمن خلق مستمر متجدد وفعالية مطلقة.. فأخذتُ أوغل في التفكير مدة من الزمن.

وقلت: لابد ان حكمة هذه الخلاقية والفعالية عظيمةٌ عظمَ تلك الفعالية نفسها.. وعندها بدت الحكمتان السابقتان ناقصتين وقاصرتين عن الايفاء بالغرض. وبدأت أتحرى حكمة أخرى بلهفة عارمة، وابحث عنها باهتمام بالغ.. وبعد مدة - و لله الحمد والمنة - تراءت لي حكمةٌ عظيمة لاحد لعظمتها وغاية جليلة لامنتهى لجلالها، تراءت لي من خلال فيض نور القرآن الكريم ونبعت من سر القيومية..

فأدركت بها سراً إلهياً عظيماً في الخلق، ذلك الذي يطلق عليه ((طلسم الكائنات)) و ((لغز المخلوقات))!

سنذكر في ((الشعاع الثالث)) هنا بضع نقاط من هذا السر ذكراً مجملاً حيث انه قد فصل تفصيلاً كافياً في ((المكتوب الرابع والعشرين)) من المكتوبات.

نعم! انظروا الى تجلي سر القيومية من هذه الزاوية وهي :

ان الله أخرج الموجودات من ظلمات العدم ووهب لها الوجود، ومنحها القيام والبقاء في هذا الفضاء الواسع، وبوأ الموجودات موقعاً لائقاً لتنال تجلياً من تجليات سر القيومية كما بينته الآية الكريمة: } الله الذي رفعَ السمواتِ بغير عَمَدٍ تَرَوْنها{ (الرعد:2). فلولا هذه الركيزة العظيمة وهذا المستند الرصين للموجودات، فلا بقاء لشئ بل لتدحرج كل شئ في خضم فراغ لا حدّ له، ولهوى الى العدم.

وكما تستند جميع الموجودات الى ((القيوم الأزلي)) ذي الجلال في وجودها وفي قيامها وبقائها، وان قيام كل شئ به سبحانه.. كذلك جميعُ أحوال الموجودات قاطبة وأوضاعها كافة وكيفياتها المتسلسلة كلها مرتبطةٌ بداياتُها أرتباطاً مباشراً بسر القيومية، كما توضحها الآية الكريمة:

} واليه يُرجَع الأمرُ كُلُّه{ (هود: 123) اذ لولا استناد كل شئ الى تلك النقطة النورانية، لنتج ما هو محال لدى أرباب العقل من ألوف الدور والتسلسل، بل بعدد الموجودات. ولنوضح ذلك بمثال:

أن الحفظ، أو النور، أو الوجود، أو الرزق أو ما شابهه من أي شئ كان، انما يستند - من جهة - الى شئ آخر، وهذا يستند الى آخر، وهذا الى آخر وهكذا.. فلابد من نهاية له، اذ لا يعقل الاّ ينتهي بشئ. فمنتهى امثال هذه السلاسل كلها انما هو في ((سر القيومية)).

وبعد أدراك هذا السر ((سر القيومية)) لايبقى معنىً لأستناد أفراد تلك السلاسل الموهومة بعضها بالبعض الآخر، بل تُرفع نهائياً وتزال. فيكون كل شئ متوجهاً توجهاً مباشراً الى ((سر القيومية)).

الشعاع الثالث:

سنشير في مقدمة أو مقدمتين الى طرفٍ من انكشاف ((سر القيومية)) الذي تتضمنه الخلاقية الإلهية والفعالية الربانية كما تشير اليها امثال هذه الآيات الكريمة:

} كُلَّ يَوم هو في شأن{ (الرحمن: 29)

} فعّالٌ لِمَا يُريدُ{ (البروج:16)

} يَخْلُقُ ما يَشَاءُ{ (الروم:54)

} بِيَدِهِ مَلكُوت كلِّ شىءٍ{ (يس:83)

} فانْظُر الى آثارِ رَحْمتِ الله كَيْفَ يُحيي الأرض بَعْدَ مَوتِهَا{ (الروم:50)

حينما ننظر الى الكائنات بعين التأمل، نرى: ان المخلوقات تضطرب في خضم سيل الزمان وتتعاقب قافلةً إثر قافلة. فقسمٌ منها لا يلبث ثانية ثم يغيب، وطائفة منها تأتي لدقيقة واحدة ثم تمضي الى شأنها. ونوع منها يمر الى عالم الشهادة مر الكرام ثم يلج في عالم الغيب بعد ساعة. وقسم منها يحط رحلَه في يومٍ ثم يغادر، وقسم منها يمكث سنة ثم يمضي، وقسم يمضي عصراً ثم يرحل، وآخر يقضي عصوراً ثم يترك هذا العالم.. وهكذا فكلٌ يأتي ثم يغادر بعد اداء مهمته الموكولة اليه.

فهذه السياحة المذهلة للعقول، وذلك السيل الجاري للموجودات والسفر الدائب للمخلوقات، انما تتم بنظام متقن وميزان دقيق وحكمة تامة، والذي يقود هذه الرحلة المستمرة ويمسك بزمامها، يقودها ببصيرة ويسيّرها بحكمة، ويسوقها بتدبير بحيث لو اتحدت جميع العقول واصبحت عقلاً واحداً لما بلغ معرفة كنه هذه الرحلة ولا يصل الى ادراك حكمتها، ناهيك عن ان يجد فيها نقصاً او قصوراً.

وهكذا ضمن هذه الخلاقية الربانية يسوق الخالق تلك المصنوعات اللطيفة المحبوبة اليه - ولاسيما الاحياء - الى عالم الغيب دون ان يمهلها لتتفسح في هذا العالم. ويعفيها من مهماتها في حياتها الدنيوية دون ان يدعها تنشرح وتنبسط، فيملأ دار ضيافته هذه بالضيوف ويخلّيها منهم باستمرار دون رضاهم، جاعلاً من الكرة الارضية ما يشبه لوحة كتابة - كالسبورة - يكتب فيها باستمرار قلم القضاء والقدر كتاباته ويجددها، ويبدلها، بتجليات مَن(يُحيي ويُميت).

وهكذا، فان سراً من اسرار هذه الفعالية الربانية وهذه الخلاًقية الالهية، ومقتضياً اساساً من مقتضياتها وسبباً من الاسباب الداعية لها انما هو حكمة عظيمة لا حدّ لها ولانهاية، هذه الحكمة تتشعب الى ثلاث شعب مهمة:

فالشعبة الاولى من تلك الحكمة:

هي أن كل نوع من انواع الفعالية - جزئياً كان ام كلياً - يورث لذة، بل ان في كل فعالية لذة، بل الفعالية نفسها هي عين اللذة، بل الفعالية هي تظاهر الوجود الذي هو عين اللذة، وهو انتفاضة بالتباعد عن العدم الذي هو عين الالم.

وحيث ان صاحب كل قابلية يرقُب بلهفة ولذة ما ينكشف عن قابلياته بفعالية ما، وان تظاهر كل استعداد بفعالية انما هو ناشئٌ من لذةٍ مثلما يولّد لذةً، وان صاحب كل كمال ايضاً يتابع بلهفة ولذة تظاهر كمالاته بالفعالية، فاذا كان في كل فعالية لذة كامنة مطلوبة كهذه وكمال محبوب كهذا، والفعالية نفسها كمال، وتشاهد في عالم الاحياء تجليات أزلية لرحمة واسعة ومحبة لا نهاية لها نابعة من حياة سرمدية.. فلا شك ان تلك التجليات تدل على:

ان الذي يحبّب نفسه الى مخلوقاته، ويحبّهم ويرحمهم باسباغ نِعَمه وألطافه عليهم على هذه الصورة المطلقة، تقتضي حياته السرمدية عشقاً مطلقاً (لاهوتياً اذا جاز التعبير) ومحبة مقدسة مطلقة، ولذة - منه - منزّهة سامية.. وأمثالها من الشؤون الالهية المقدسة اللائقة بقدسيته والمناسبة لوجوب وجوده. فتلك الشؤون الالهية بمثل هذه الفعالية التي لا حد لها، وبمثل هذه الخلاقية التي لا نهاية لها، تجدّد العالَم وتبدٍّله وتخضّه خضاً.

الشعبة الثانية من حكمة الفعالية الالهية المطلقة المتوجهة الى سر القيومية:

هذه الحكمة تطل على الاسماء الالهية الحسنى.

من المعلوم ان صاحب كل جمال يرغب ان يرى جماله ويُريَه الآخرين، ويودّ صاحب المهارة ان يلفت الانظار اليه بعرض مهاراته واعلانه عنها. فالحقيقة الجميلة الكامنة، والمعنى الجميل المخبوء يتطلعان اذاً الى الانطلاق واستقطاب الانظار.

ولما كانت هذه القواعد الرصينة سارية في كل شئ، كلٍ حسب درجته. فلا بد ان كل مرتبة من مراتب كل اسمٍ من ألف اسم واسم من الاسماء الحسنى للجميل المطلق وللقيوم ذي الجلال، ينطوي على حُسنٍ حقيقي، وكمالٍ حقيقي، وجمال حقيقي، وحقيقة جميلة باهرة بشهادة الكائنات كلها، وتجليات تلك الاسماء الظاهرة عليها، واشارات نقوشها البديعة فيها، بل ان كل مرتبة من مراتب كل اسم من الاسماء الحسنى فيهامن الحسن والجمال والحقائق الجميلة ما لايحصره حدّ.

وحيث ان هذه الموجودات وهذه الكائنات هي مرايا عاكسة لتجليات جمال هذه الاسماء المقدسة.. وهي لوحات بديعة تُعرض فيها نقوش تلك الاسماء الجميلة.. وهي صحائفها التي تعبر عن حقائقها الجميلة.

فلابد ان تلك الاسماء الدائمة الخالدة ستعرض تجلياتها غير المحدودة، وتبرز نقوشها الحكيمة غير المعدودة، وتشهر صحائف كتبها امام نظر مسمّاها الحق وهو (القيوم) ذو الجلال، فضلاً عن عرضها امام انظار ما لا يعد من ذوي الارواح وذوي الشعور لمطالعتها والتأمل فيها.

ولا بد انها تجدّد الكائنات عامة وعلى الدوام بتجلياتها وتُبدِّلها إستناداً الى ذلك العشق الالهي المقدس، وبناءً على سر القيومية الالهية، وذلك لاجل ابراز لوحاتٍ لا نهاية لها من شئ محدود، وعرض شخوصٍ لا حدّ لها من شخص واحد، واظهار حقائق كثيرة جداً من حقيقة واحدة.

الشعاع الرابع:

الشعبة الثالثة من حكمة الفعالية الدائمة المحيٍّرة في الكون:

هي ان كل ذي رحمة يُسرّ بإرضاء الآخرين، وكل ذي رأفة ينشرح اذا ما أدخل السرور الى قلوب الاخرين، وهكذ يبتهج ذو المحبة بابهاج مخلوقاته الجديرة بالبهجة، كما يسعد كلُّ ذي همة عالية وصاحب غيرة وشهامة باسعاده الآخرين، ومثلما يفرح كل عادل بجعل اصحاب الحقوق ينالون حقهم ويشكرونه لوضع الحق في نصابه وانزال العقاب على المقصّرين، يزهو كلُّ صناع ماهر ويفتخر بعرض صنعته واشهار مهارته لدى قيام مصنوعاته بانتاج ما كان يتوقعه على أتم وجه يتصوره.

فكلٌ من هذه الدساتير المذكورة آنفاً، قاعدة اساسية عميقة راسخة جارية في الكون كله مثلما تجري في عالم الانسان.

ولقد وضّحنا في (الموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين) أمثلة ثلاثة تبين جريان هذه القواعد الاساسية في تجليات الاسماء الحسنى، نرى من المناسب اختصارها هنا فنقول:

ان الذي يملك رحمة فائقة وهمة عالية مع منتهى الكرم والسخاء، يسعده جداً ان يغدق على فقراء مدقعين ومحاويج مضطرين ويتفضل عليهم بكرمه وجوده، فيعدّ لهم موائد ولائم فاخرة ومأكولات نفيسة على متن سفينة عامرة تجري بهم في بحار الأرض ليُدخل البهجة والسرور في قلوبهم ضمن سياحة جميلة ونزهة لطيفة.. فهذا الشخص يستمتع من مظاهر الشكر المنبعثة من اولئك الفقراء، وينشرح صدره انشراحاً عظيماً وهو يشاهد تمتعهم بمباهج النعم والآلاء، ويفتخر بسرورهم ويزهو بفرحم.. كل ذلك بمقتضى ما أودع الله في فطرته من سجايا سامية وصفات رفيعة.

فاذا كان الانسان الذي هو بمثابة أمين على ودائع الخالق الكريم وموظف للتوزيع ليس الاّ، اذا كان يستمتع وينشرح ويتلذذ الى هذا القدر لدى اكرامه الآخرين في ضيافة جزئية، فكيف اذن ياترى بالحي القيوم - ولله المثل الاعلى - الذي تنطلق اليه آياتُ الحمد والشكر وتُرفع اليه اكفّ الثناء والرضى بالدعاء والتضرع من مخلوقاتٍ لا حدّ لهم من الاحياء الى الانسان والملائكة والجن والارواح، الذين حملهم في سفينة الرحمن - الارض - واسبغ عليهم نِعَمه ظاهرة وباطنة بانواع مطعوماته المنسجمة تماماً مع ما غرز فيهم من اذواق وارزاق، وتفضَّل عليهم بهذه السياحة الربانية في أرجاء الكون. فضلاً عن جعله كلَّ جنةٍ من جنانه في دار الخلود، دار ضيافة دائمة معدَّة فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الاعين... فجميع آيات الشكر والحمد والرضى المنطلقة من جميع المخلوقات قاطبة والمنبعثة من سرورهم وفرحهم وابتهاجهم بالنعم والآلاء العميمة عليهم والمتوجهة كلها الى الحي القيوم تولد من الشؤون الالهية، المقدسة التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة والخلاقية المستمرة، تلك الشؤون التي يُعجز التعبير عنها ولم يؤذن لنا بالافصاح عنها، بل ربما يشار اليها باسماء: ((الرضى المقدس)) و((الافتخار المقدس)) و ((اللذة المقدسة)) وما شابهها من الاسماء التي نُعبّر بها - نحن البشر - عن معاني الربوبية المنزّهة.

ومثال آخر:

اذا قام صنّاع ماهر، بصنع حاكٍ - بلا اسطوانة - يعبّر عما يريده منه ويعمل على افضل صورة يرغبها هو، كم يكون ذلك الصناع مفتخراً، وكم يكون متلذذاً من رؤية صنعته على هذه الصورة وكم يكون مسروراً حتى يردد في نفسه: ما شاء الله..

فاذا كانت صنعة صغيرة صورية - من دون ايجاد حقيقي - تثير في روح صانعها الى هذه الدرجة من مشاعر الافتخار والرضى. فكيف بالصانع الحكيم الذي أوجد هذه الموجودات كلها وجعلها موسيقى إلهية تعبّر عن شكرها وتسبيحها وتقديسها بأنواعٍ من النغمات وانواع من الكلام، كما جعلها مصنعاً عجيباً فضلاً عما أسبغ على كل نوع من أنواع الكائنات، وكل عالم من عوالم الكون من صنعةٍ متقنة بديعة متباينة معجزة بخوارقها، أضف الى ذلك المكائن الكثيرة التي اودعها في رؤوس ذوي الحياة الشبيهة بالحاكي وآلات التصوير وأجهزة البث والاستقبال، بل أودع أعجب من هذه الاجهزة المعجزة حتى في رأس أصغر حيوان! بل لم يودع في رأس الانسان مجرد حاكٍ بلا اسطوانة، ولا آلة تصوير بلا عدسة، ولا هاتفاً بلا سلك بل مكائن اعجب بكثير وخوارق أعظم وأعظم مما ذكر بكثير.

فما يُنشئه عمل هذه المكائن العاملة وفق ارادته والمودَعة في رأس الانسان المخلوق في احسن تقويم من معاني الافتخار المقدس والرضى المقدس، وأمثالها من المعاني الجليلة والشؤون المقدسة للربوبية - التي هي من هذا النوع - يستلزم حتماً هذه الفعالية الدائمة المشاهدة.

ومثلاً:

ان الحاكم العادل يجد لذة ومتعة ورضىً عندما يأخذ حقَّ المظلوم من الظالم ويجعل الحق يأخذ نصابه، ويفتخر لدى صيانته الضعفاء من شرور الاقوياء، ويسر لدى منحه كل فرد ما يستحقه من حقوق.. كل ذلك من مقتضيات الحاكمية والعدالة وقواعدهما الاساس.

فلا بد ان الحاكم الحكيم العادل الذي هو ((الحي القيوم)) منحه شرائط الحياة في صورة حقوق الحياة للمخلوقات كافة ولاسيما الاحياء.. وباحسانه اليهم باجهزة تحافظ على حياتهم.. وبحمايته الضعفاء من شرور الاقوياء بكل رحمة ورأفة.. وبتوليه اظهار سر العدالة في الكون باعطاء كل ذي حق من الاحياء حقَّه كاملاً، وبانزال شئ من العقوبة بالظالمين - في هذه الدنيا - وبخاصة ما يحصل من التجلي الكامل للعدالة العظمى في المحكمة الكبرى ليوم الحشر الاعظم.. يحصل من كل هذا ما نعجز عن التعبير عنه من شؤون ربانية ومعانٍ قدسية جليلة هي التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة في الكون.

وهكذا في ضوء هذه الامثلة الثلاثة:

فان الاسماء الالهية عامة، وكلَّ اسمٍ منها خاصة، يقتضي هذه الخلاّقية الدائمة، حيث يكون محوراً لقسم من هذه الشؤون الالهية المقدسة وأمثالها ضمن هذه الفعالية الدائمة.

وحيث ان كل قابلية وكل استعداد يورث فرحاً وانشراحاً ولذةً، بمنحها الثمار والفوائد لدى انبساطها وانكشافها.. وان كل موظف يشعر - عند اتمام الوظيفة وانهائها على الوجه المطلوب - براحة وأيّ راحة.. وان جني ثمرات كثيرة من بذرة واحدة، واغتنام ربح مئات الدراهم من درهم واحد هي حالات مفرحة جداً لأصحابها وتعد تجارة رابحة لهم..

فلا بد ان يفهم مدى أهمية المعاني المقدسة وشؤون الربوبية الالهية الناشئة من الفعالية الدائمة والخلاقية الربانية التي تكشف عن جميع الاستعدادات التي لا تحد، وجميع القابليات التي لا تعد، لجميع المخلوقات غير المحدودة.. والتي تُنهي وظيفة جميع المخلوقات بعد ان تستخدمها في وظائف جسيمة وترقّيها بهذا التسريح الى مراتب أسمى وأعلى - كأن ترقى العناصر الى مرتبة المعادن، والمعادن الى حياة النباتات، والنباتات الى درجة حياة الحيوانات بما تمدّها من رزق، والحيوانات الى مرتبة الانسان الشاعرة والعالية بالشكر والحمد - والتي تجعل كل كائن يخلُف انواعاً من الوجود كروحه وماهيته وهويته وصورته بعد زوال ظاهر وجوده لتؤدي المهمة نفسها ((كما وضح في المكتوب الرابع والعشرين)).

جوابُ قاطع عن سؤال مهم

يقول قسم من أهل الضلالة:

ان الذي يغيّر الكائنات بفعالية دائمة ويبدلها، يلزم ان يكون هو متغيراً ومتحولاً أيضاً.

الجواب:

كلا ثم كلا. حاش لله ألف ألف مرة حاش لله!

ان تغيّر اوجه المرايا في الارض، لا يدل على تغير الشمس في السماء، بل يدل على اظهار تجدد تجليات الشمس. فكيف بالذي هو أزلي وأبدي وسرمدي وفي كمال مطلق وفي استغناء مطلق (عن الخلق) وهو الكبير المتعال المقدس عن المادة والمكان والحدود، والمنزّه عن الامكان والحدوث، فتغيّر هذا الذات الاقدس محال بالمرة.

ثم ان تغير الكائنات، ليس دليلاً على تغيّره هو، بل هو دليل على عدم تغيره، وعدم تحوّله سبحانه وتعالى. لان الذي يحرّك اشياءً عديدة بانتظام دقيق ويغيّرها، لابد الاّ يكون متغيراً والاّ يتحرك.. مثال ذلك: انك اذا كنت تحرك كرات كبيرة وصغيرة مرتبطة بعدة خيوط؛ حركة منتظمة ودائمة، وتضعها في اوضاع منتظمة، ينبغي ان تكون أنت ثابتاً في مكانك دون ان تتحول عنه والاّ اختل الانتظام.

ومن القواعد المشهورة: ان الذي يحرّك بانتظام ينبغي الاّ يتحرك، والذي يغيّر باستمرار ينبغي الاّ يكون متغيراً. كي يستمر ذلك العمل في انتظامه.

ثانياً: ان التغير والتبدل ناشئ من الحدوث، ومن التجدد بقصد الوصول الى الكمال، ومن الحاجة، ومن المادية، ومن الامكان.

أما الذات الاقدس؛ فهو قديم أزلي، وفي كمال مطلق، وفي استغناء مطلق، منزّه عن المادة، وهو الواجب الوجود، فلا بد ان التبدل والتغير محال في حقه وغير ممكن أصلاً.

الشعاع الخامس:

المسألة الاولى:

اذا اردنا ان نرى التجلي الاعظم لاسم الله (القيوم) فما علينا الاّ ان نجعل خيالنا واسعاً جداً بحيث يمكنه ان يشاهد الكون بأسره، فنجعل منه نظارتين احداهما ترى أبعد المسافات كالمرصد والاخرى تشاهد اصغر الذرات .

فاذا ما نظرنا بالمنظار الاول نرى:

ان ملايين الكرات الضخمة والكتل الهائلة التي منها ما هو اكبر من الارض بألوف المرات، قد رُفعت بتجلي اسم (القيوم) بغير عمد نراها، وهي تجري ضمن أثير لطيف ألطف من الهواء، وتسخَّر لاجل القيام بمهام عظيمة في حركاتها وفي ثباتها الظاهر.

لنرجع الآن الى المنظار الاخر.. لنرى أصغر الاشياء، فاذا بنا امام ذرات متناهية في الصغر تشكل اجسام الاحياء - بسرّ القيومية - وهي تأخذ اوضاعاً منتظمة جداً كالنجوم، وتتحرك وفق نظام معين وتناسق مخصص منجزة بها وظائف جمة، فان شئت فانظر الى الكريات الحمر والبيض تراهما تتحركان حركات خاصة شبيهة بحركات المولوية لأنجاز مهمات جسيمة في الجسم وهما تجريان في السيل الدافق للدم.

خلاصة الخلاصة :(1)

لقد ارتأينا ان ندرج هنا خلاصة تبين الضياء المقدس الحاصل من امتزاج أنوار الاسماء الستة للاسم الأعظم، كامتزاج الألوان السبعة لضوء الشمس - ولله المثل الاعلى - ولأجل مشاهدة هذا النور المقدس نسوق هذه الخلاصة:

تأمل في موجودات الكون كله وانظر اليها من وراء هذا التجلي الاعظم لاسم (القيوم) الذي منح البقاء والدوام والقيام لها ترَ: ان التجلي الاعظم لاسم (الحي) قد جعل تلك الموجودات الحية ساطعةً منورة بتجليه الباهر، وجعل الكائنات كلها منورة بنوره الزاهر، حتى يمكن مشاهدة لمعان نور الحياة على الاحياء كافة.

والآن انظر؛ الى التجلي الاعظم لاسم (الفرد) من وراء اسم (الحي) ترَه قد ضمّ جميع الكائنات بأنواعها وأجزائها واستوعبها ضمن وحدة واحدة، فهو يطبع على جبهة كل شئٍ ختم الوحدانية، ويضع على وجه كل شئ ختم الاحدية، فيجعل كل شئ يعلن تجلّيه بألسنة لا حد لها ولا نهاية.

ثم انظر من خلف اسم (الفرد) الى التجلي الاعظم لاسم (الحكم) ترَ: انه قد ضم الموجودات كلها من أعظم دائرة فيها الى أصغرها كلياً كان أم جزئياً - ابتداءً من النجوم وانتهاء الى الذرات - منح كل موجود ما يستحق من نظام مثمر وما يلائمه من انتظام حكيم وما يوافقه من انسجام مفيد. فلقد زيّن اسم (الحكم) الاعظم الموجودات كلها ورصّعها بتجليه الساطع.

ثم انظر من خلف التجلي الأعظم لأسم (الحكم) الى التجلي الاعظم لاسم (العدل) - كما اوضحناه في النكتة الثانية - ترَه يدير جميع الكائنات بموجوداتها ضمن فعالية دائمة بموازينه الدقيقة ومقاييسه الحساسة ومكاييله العادلة بحيث يجعل العقول في حيرة واعجاب، فلو فقد نجمٌ من الأجرام السماوية توازنه لثانية واحدة. أي اذا انفلت من تجلي اسم (العدل) لحلِّ الهرجُ والمرج في النجوم كلها ولأدّى - لامحالة - الى حدوث القيامة.

وهكذا فكل دائرة من دوائر الوجود وكل موجود من موجوداتها ابتداءً من الدوائر العظيمة - المسماة بدرب التبانة - الى حركات أصغر الموجودات في الجسم من كريات حمر وبيض، كلٌّ منها قد فُصّل تفصيلاً خاصاً وقُدّر تقديراً دقيقاً وقيس بمقاييس حساسة، ومُنح شكلاً معيناً ووضعاً مخصوصاً بحيث يُظهر - كل منها - الطاعة التامة والانقياد المطلق ودينونة كاملة للأوامر الصادرة من الذي يملك أمر "كن فيكون" ابتداءً من جيوش النجوم الهائلة المتلألئة في الفضاء الى جيوش الذرات المتناهية في الصغر.

فانظر الآن من خلف التجلي الاعظم لاسم الله ( العدل) ومن خلاله، وشاهد التجلي الاعظم لاسم الله (القدوس) - الذي وضحناه في النكتة الاولى - تَرَ : ان هذا التجلي الاعظم لاسم (القدوس) قد جعل موجودات الكائنات نظيفة، نقية طاهرة، براقة، صافية، زكية، مزينة، وجميلة وحوّلها الى ما يشبه مرايا جميلة مجلوة لائقة لاظهار الجمال البديع المطلق، وتناسب عرض تجليات اسمائه الحسنى.

نحصل مما تقدم:

ان هذه الاسماء والانوار الستة للاسم الاعظم، قد عمّت الكون كله وغطت الموجودات قاطبة ولَفَعَتْها باستار مزركشة ملونة بازهى الالوان المتنوعة وابدع النقوش المختلفة وأروع الزينات المتباينة.

المسألة الثانية من الشعاع الخامس:

ان جلوة من تجليات القيومية على الكون، وشعاعاً من نورها مثلما يعمّ الكون بمظاهر ((الواحدية والجلال))، فانه يبرز على هذا الانسان - الذي يمثل محور الكون وقطبه وثمرته الشاعرة - مظاهر ((الاحدية والجمال)). وهذا يعني:

ان الكائنات التي هي قائمة بسر القيومية فهي تقوم ايضاً - من جهة - بالأنسان؛ الذي يمثل اكمل مظهر من مظاهر تجلي اسم (القيوم). أي: ان القيومية تتجلى في الانسان تجلياً يجعل منه عموداً سانداً للكائنات جميعاً، بمعنى ان معظم الحِكَم الظاهرة في الكائنات وأغلب مصالحها وغاياتها تتوجه الى الانسان.

نعم ، يصح ان يقال: ان (الحي القيوم) سبحانه قد أراد وجود الانسان في هذا الكون، فخلق الكون لاجله، وذلك لان الانسان يمكنه ان يدرك جميع الاسماء الالهية الحسنى ويتذوقها بما اودع الله فيه من مزايا وخصائص جامعة. فهو يدرك - مثلاً - كثيراً من معاني تلك الاسماء بما يتذوق من لذائذ الارزاق المنهمرة عليه، بينما لا يبلغ الملائكة الى ادراك تلك الاسماء بتلك الاذواق الرزقية.

فلأجل جامعية الانسان المهمة يُشعِر ((الحي القيوم)) الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويعرّفه بجميع انواع احسانه، ويذوّقه طعوم آلائه، فمَنحَه معدةً ماديةً يستطيع بها ان يتذوق ما أغدق عليه من نِعمٍ لذيذة قد بسطها في سُفرة واسعة سعة الارض. ثم وهب له حياة، وجعل هذه الحياة كتلك المعدة المادية تستطيع ان تتنعم بأنواع من النعم المُعَدّة على سُفرة واسعة مفروشة أمامها وتتلذذ بها بما زودها - سبحانه - من مشاعر وحواس لها القدرة ان تمتد - كالايدي - الى كل نعمة من تلك النعم، فتؤدي عند ذلك حقها من انواع الشكر والحمد.

ثم وهب له - فوق معدة الحياة هذه - معدة الانسانية، وهذه المعدة تطلب رزقاً ونعَماً ايضاً. فجعل العقل والفكر والخيال بمثابة أيدي تلك المعدة، لها القدرة على بلوغ آفاق أوسع من ميادين الحياة المشهودة، وعندها تستطيع الحياة الانسانية ان تؤدي ما عليها من شكر وحمد تجاه بارئها حيث تمتد أمامها سُفرةُ النِعَم العامرة التي تسع السماوات والارض.

ثم لأجل ان يمدّ امام الانسان سفرة نعمٍ أخرى عظيمة جعل عقائد الاسلام والايمان بمثابة معدة معنوية تطلب ارزاقاً معنوية كثيرة فمدّ سفرة مليئة بالرزق المعنوي لهذه المعدة الايمانية وبَسَطها خارج الممكنات المشاهدة. فضم الاسماء الالهية في تلك السفرة العظيمة.. ولهذا يستشعر الانسان - بتلك المعدة المعنوية - ويتمتع بأذواق رفيعة لا منتهى لها، نابعة من تجليات اسم ((الرحمن)) واسم ((الحكيم)) حتى يردد (الحمد لله على واسع رحمته وجليل حكمته).. وهكذا - مكّن الخالق المنعم الانسان - بهذه المعدة المعنوية العظمى - ليستفيد ويغنم نعماً الهية لا حد لها، ولا سيما أذواق محبته الالهية، في تلك المعدة فان لها آفاقاً لا تحد وميادين لا تحصر.

وهكذا جعل (الحي القيوم) سبحانه الانسان مركزاً للكون، ومحوراً له، بل سخّر الكون له فمدّ أمامه سفرة عظيمة عظم الكون لتتلذذ انواع معداته المادية والمعنوية.

اما حكمة قيام الكون بسر القيومية على الانسان - من جهة - فهي للوظائف المهمة الثلاث التي انيطت بالانسان:

الاولى:

تنظيم جميع انواع النعم المبثوثة في الكائنات بالانسان وربطها بأواصر المنافع التي تخص الانسان، كما تنظَّم خرز المسبحة بالخيط، فتُربط رؤوس خيوط النعم بالانسان ومصالحه ومنافعه. فيكون الانسان بما يشبه فهرساً لأنواع ما في خزائن الرحمة الالهية ونموذجاً لمحتوياتها.



الوظيفة الثانية:

كون الانسان موضع خطابه سبحانه بما أودع فيه من خصائص جامعة أهّلته ليكون موضع خطابه سبحانه وتعالى، ومقدّراً لبدائع صنائعه ومعجباً بها، ونهوضه بتقديم آلاء الشكر والثناء والحمد الشعوري التام. على ما بُسط أمامه من أنواع النعم والألاء العميمة.



الوظيفة الثالثة:

قيام الانسان بحياته بمهمة مرآة عاكسة لشؤون (الحي القيوم)ولصفاته الجليلة المحيطة، وذلك بثلاثة وجوه:



الوجه الاول:

هو شعور الانسان بقدرة خالقه سبحانه المطلقة ودرجاتها غير المحدودة بما هو عليه من عجز مطلق. فيدرك مراتب تلك القدرة المطلقة بما يحمل من درجات العجز. ويدرك كذلك رحمة خالقه الواسعة ودرجاتها بما لديه من فقر، ويفهم أيضاً قوة خالقه العظيمة بما يكمن فيه من ضعف... وهكذا.

وبذلك يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآةٍ قياسية صغيرة لأدراك صفات خالقه الكاملة، وذلك بما يملك من صفات قاصرة ناقصة؛ اذ كما ان الظلام كلما اشتد سطع النور اكثر، فيؤدي هذا الظلام مهمة اراءة المصابيح، فالانسان ايضاً يؤدي مهمة اراءة كمالات صفات بارئه سبحانه بما لديه من صفات ناقصة مظلمة.



الوجه الثاني:

ان ما لدى الانسان من ارادة جزئية وعلمٍ قليل وقدرة ضئيلة وتملّك في ظاهر الحال وقابلية على إعمار بيته بنفسه، يجعله يدرك بهذه الصفات الجزئية خالق الكون العظيم ويفهم مدى مالكيته الواسعة وعظيم اتقانه وسعة ارادته وهيمنة قدرته واحاطة علمه. فيدرك ان كلاً من تلك الصفات انما هي صفات مطلقة وعظيمة لا حدّ لها ولا نهاية.وبهذا يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآة صغيرة لأظهار تلك الصفات وادراكها.

أما الوجه الثالث:

من قيام الانسان بمهمة مرآة عاكسة لكمالات الصفات الالهية فله وجهان:

l اظهاره بدائع الاسماء الالهية الحسنى المتنوعة وتجلياتها المختلفة في ذاته. لأن الانسان بمثابة فهرس مصغر للكون كله - بما يملك من صفات جامعة - وكأنه مثاله المصغر، لذا فتجليات الاسماء الالهية في الكون عامة نراها تتجلى في الانسان بمقياس مصغر.



l الوجه الثاني:

اداؤه مهمة المرآة العاكسة للشؤون الالهية، أي ان الانسان كما يشير بحياته الى حياة ( الحي القيوم) فانه بوساطة ما ينكشف في حياته الذاتية من حواس كالسمع والبصر وامثالها يفهم - ويبيّن للآخرين - صفات السمع والبصر وغيرها من الصفات الجليلة المطلقة (للحي القيوم).

ثم ان الانسان الذي يملك مشاعر دقيقة جداً وكثيرة جداً - وقد لا تنكشف ضمن حياته وانما عندما يحفَّز او يُثار - فتظهر تلك المشاعر بأشكال متنوعة وانفعالات مختلفة، فانه بوساطة هذه المشاعر الدقيقة والمعاني العميقة يؤدي مهمة عرض الشؤون الذاتية (للحي القيوم). فمثلاً: الحب والافتخار والرضى والانشراح والسرور وما شابهها من المعاني التي تتفجّر لدى الانسان في ظروف خاصة، يؤدي الانسان بها مهمة الاشارة الى هذه الانواع من الشؤون الالهية بما يناسب قدسية الذات الالهية وغناه المطلق وبما يليق به سبحانه وتعالى.

وكما ان الانسان وحدة قياس - بما يملك من جامعية حياته - لمعرفة صفات الله الجليلة، وشؤونه الحكيمة، وفهرس لتجلي اسمائه الحسنى، ومرآة ذات شعور بجهات عدة لذات (الحي القيوم).. كذلك - الانسان - هو وحدة قياس ايضاً لمعرفة حقائق الكون هذا، وفهرس له ومقياس وميزان.

فمثلاً: ان الدليل القاطع على وجود اللوح المحفوظ في الكون يتمثل في نموذجه المصغر وهو ((القوة الحافظة)) لدى الانسان. والدليل القاطع على وجود عالم المثال نلمسه في نموذجه المصغر وهو ((قوة الخيال)) لدى الانسان(1)، والدليل القاطع على وجود الروحانيات في الكون ندركه ضمن نموذجها المصغر وهو ((لطائف الانسان وقواه)).. وهكذا يكون الانسان مقياساً مصغراً يُظهر عياناً الحقائق الايمانية في الكون بدرجة الشهود.

وهناك مهمات ووظائف وخدمات كثيرة اخرى للانسان فضلاً عمّا ذكرناه؛ اذ هو: مرآة لتجلي الجمال الباقي، وداعٍ الى الكمال السرمدي ودالّ عليه. ومحتاجٌ شاكر لأنعم الرحمة الواسعة الابدية.

فما دام الجمال باقياً والكمال سرمدياً والرحمة أبدية، فلا بد ان الانسان الذي هو المرآة المشتاقة لذلك الجمال الباقي والداعي العاشق لذلك الكمال السرمدي والمحتاج الشاكر لتلك الرحمة الابدية سيُبعث الى دار بقاء أبدية ليخلد فيها دائماً، ولابد انه سيذهب الى الابد ليرافق الباقين الخالدين هناك ويرافق ذلك الجمال الباقي وذلك الكمال السرمدي وتلك الرحمة الابدية في ابد الاباد. بل يلزم ذلك قطعاً لأن: الجمال الابدي لا يرضى بمشتاق فانٍ ومحبٍ زائلٍ. اذ الجمال يطلب محبة تجاهه مثلما يحب نفسه. بينما الزوال والفناء يحولان دون تلك المحبة ويبدلانها الى عداء.

فلو لم يرحل الانسان الى الابد، ولم يبق هناك خالداً مخلداً فسيجد في فطرته عداءً شديداً لما يحمل من سر مغروز فيه وهو المحبة العميقة نحو الجمال السرمدي. مثلما بينا ذلك في حاشيةٍ في الكلمة العاشرة (رسالة الحشر): ان حسناء بارعة الجمال عندما طردت - ذات يوم - احد عشاقها من مجلسها، انقلب عشقُ الجمال لدى العاشق المطرود قبحاً وكرهاً حتى بدأ يسلّى نفسه بقوله: تباً لها ما أقبحها! فانكر الجمال وسخط عليه.

نعم فكما ان الانسان يعادي ما يجهله، فانه يتحرى النقص والقصور فيما تقصر يدُه عنه، ويعجز عن الاحتفاظ به ومسكه.. بل تراه يتحرى فيه عن القصور بشئ من عداء وحقد يضمره، بل يتخذ مايشبه العداء له.

فما دام الكون يشهد بان المحبوب الحقيقي والجميل المطلق سبحانه يحبّب نفسَه الى الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويطلب منه مقابل ذلك حباً عظيماً له، فلابد انه سبحانه لايدع هذا الانسان الذي هو محبوبه وحبيبه يسخط عليه، فلا يودع في فطرتهما يثير عداءً نحوه - أي بعدم احداث الاخرة - ولا يغرز في فطرة هذا المخلوق المكرم الممتاز، المحبوب لدى الرب الرحيم والمخلوق اصلاً للقيام بعبادته، ما هو منافٍ كلياً لفطرته من عداء خفي، ولا يمكن ان يحمّل روحه سخطاً عليه سبحانه قط؛ لأن الانسان لا يمكنه ان يداوى جرحه الغائر الناشئ من فراقه الابدي عن جمال مطلق يحبّه ويقدّره الا بالعداء نحوه، أو السخط عليه، أو انكاره؛ وكون الكفار اعداء الله نابع من هذه الزاوية.. لأجل هذا فسيجعل ذلك الجمال الازلي حتماً هذا الانسان الذي هو مرآة مشتاقة اليه مبعوثاً الى طريق أبد الآباد، ليرافق ذلك الجمال المطلق والبقاء والخلود، ولا ريب ان سيجعله ينال حياة باقية في دار باقية خالدة.

وما دام الانسان مشتاقاً فطرةً لجمال باقٍ وقد خُلقَ محباً لذلك الجمال.. وان الجمال الباقي لا يرضى بمشتاق زائل.. وان الانسان يسكّن آلامه وأحزانه الناجمة عما لا تصل اليه يدُه او يعجز عن الاحتفاظ به او يجهله، بتحري القصور فيه بل يسكّنها بعداء خفي نحوه، مسلياً نفسه بهذا العداء.. وما دام الكون قد خُلق لاجل هذا الانسان، والانسان مخلوق للمعرفة الالهية ولمحبته سبحانه وتعالى.. وخالق الكون سرمديٌ باسمائه الحسنى وتجلياته باقية دائمة.. فلا بد ان هذا الانسان سيُبعث الى دار البقاء والخلود، ولا بد ان ينال حياة باقية دائمة.

هذا وان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم وهو الانسان الاكمل والدليل الاعظم على الله قد أظهر جميع ما بيّناه من كمالات الانسان وقيمته ومهمته ومثله، فأظهر تلك الكمالات في نفسه، وفي دينه، بأوضح صورة وأكملها، مما يدلنا على: ان الكائنات مثلما خُلقت لأجل الانسان، أي انه المقصود الاعظم من خلقها والمنتخب منها، فان اجلّ مقصود من خلق الانسان ايضاً وافضل مصطفى منه، بل أروع واسطع مرآة للأحد الصمد انما هو محمد عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام بعدد حسنات أمته...

فيا الله يارحمن يارحيم يا فرد يا حيُّ با قيوم يا حكم ياعدل ياقدوس.

نسألك بحق فرقانك الحكيم وبحُرمة حبيبك الاكرم صلى الله عليه وسلم

وبحق اسمائك الحسنى وبحرمة إسمك الاعظم

ان تحفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الجن والانسان. آمين

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

عبدالقادر حمود 02-02-2011 02:34 AM

رد: اللمعات
 
:136: :136: :136:


:61:


الساعة الآن 07:17 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى