منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   المواضيع الاسلامية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=7)
-   -   الوعد الحق (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=4463)

نوح 01-09-2010 03:57 PM

الوعد الحق
 
قال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون . لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير” (النور: 55 57) .


في الآية الأولى وعد عظيم من الله تعالى لعباده المؤمنين المخلصين بأن يجعلهم خلفاء الأرض وقادة الأمم، كما استخلف عباده المؤمنين من الأمم السابقة، وأن يمكن لهم دينهم، ويرفع لواءه، وأن يوفر لهم أسباب القوة والأمن والطمأنينة والعزة والمنعة ما داموا يعبدونه سبحانه حق عبادته، ولا يشركون به شيئاً .


وفي الآية الثانية أمر إلهي للمؤمنين بالمحافظة على دعائم الدين وشعائره من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لينالوا رحمة ربهم .


وفي الآية الثالثة وعيد شديد للكافرين، حيث إن عذاب ربهم واقع بهم لا محالة لا يستطيعون فكاكاً منه .


موقفان متناقضان


أقول بعون الله: إن السياق السابق على هذا الوعد (النور: 47 - 54) يبين التناقض بين موقفَيْ المنافقين والمؤمنين في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمنافقون مخادعون يتلونون، حيث يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فهم يزعمون الإيمان بالله والرسول، وطاعة أوامر الله ورسوله، ولكن أفعالهم تناقض أقوالهم، أما المؤمنون فهم يتبعون القول بالعمل، فهم يسمعون لأمر الله، ويطيعون رسوله، ويحتكمون إليه، ويسلمون قيادهم إلى الله تعالى، لذلك فهم مفلحون مهتدون، ولذا جاءت هذه الآيات المذكورة محل التحليل لتؤكد وعد الله تعالى وتفضله على هؤلاء المؤمنين المطيعين لله ورسوله، ولتحذر هؤلاء المنافقين والكافرين المتمردين على الإيمان وعلى السمع والطاعة لله وللرسول وتتوعدهم بعذاب مقيم لن يفلتوا منه، وهذا هو وجه ارتباط الآيات بما قبلها، والله أعلم .


ولنستشعر ظلال كلمة “وعد” في الآيات فهي كلمة مشرقة، لأن الوعد يستعمل في الخير ففي الكلمة بشرى تسر النفس وينشرح لها الصدر . وإضافة الوعد إلى لفظ الجلالة “الله” بما فيه من صفات الجلال والكمال زادت من قدسية هذا الوعد وتشريفه، لأنه من الله سبحانه الذي لا يخلف وعده . وفُصِلَ بين جملتي العطف، المعطوف “وعملوا الصالحات” والمعطوف عليه “آمنوا” بالجار والمجرور “منكم” لإظهار أصالة الإيمان وعراقته، واستتباعه لجميع الأحكام، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم، وأهم ما يجب عليهم) .


ولم يفصل بين جملتَيْ العطف في قوله تعالى: “وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً” (الفتح: 29)، للإشعار بأن مدار المغفرة والأجر العظيم على الإيمان والعمل الصالح معاً .


واللام في قوله: “الصالحات” للاستغراق، والمعنى: الذين لم يتركوا باباً من أبواب الخير والصلاح والفلاح إلا ولجوه .


ومما يلحظ أن الإيمان والعمل الصالح يأتيان مقترنين في غالب آي القرآن الكريم، ما يدل على أهمية العمل الصالح، وعلى أن الإيمان من دون تطبيق عملي وأعمال صالحة لا يرتقي بصاحبه إلى مدارج المفلحين الفائزين . والله أعلم .


معنى الاستخلاف


وقد اشتمل الوعد الإلهي لعباده المخلصين على ثلاثة أمور هي: الاستخلاف في الأرض، والتمكين للدين، وتبديل أمنهم خوفاً . وقد أكد الوعد بعدة مؤكدات وهي: القسم واللام والنون والسين والتاء في (ليستخلفنهم) ليدل على تحققه وثبوته، وهذا له أثره في إثارة دواعي الإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة لله تعالى في نفوس المؤمنين، وفيه كذلك ترغيب وتحفيز للأمة بأسرها وولاة أمورها ليقوموا بواجبهم حتى يتحقق لهم وعد الله تعالى .


ومعنى الاستخلاف في قوله “ليستخلفنهم” أي يجعلهم خلفاء عن الله في تدبير شؤون عباده، حيث يكونون قادة الأمم يحكمونها بشرع الله ومنهجه وحكمه . وتأمل دلالة حرف الظرفية (في) وما يوحي به من استقرار الاستخلاف وتمكنه وشموله معظم الأرض، ولذا قيد هذا الاستخلاف بقوله: “في الأرض” وكان من الممكن أن يأتي مطلقاً فيقال: “ليستخلفنهم” ولكنه قُيد بالجار والمجرور، والله أعلم .


ووصف الاستخلاف بقوله: “كما استخلف الذين من قبلهم” لتأكيد الوعد، وللإشعار بتحقق وقوعه، حيث كان له نظير من قبل في الأمم المؤمنة السابقة .


وقد دلت (مِن) في قوله “من قبلهم” على توغل تحقق وعد الله في القدم، حيث تحقق لأمم مؤمنة سبقت أمة الإسلام بأزمنة سحيقة .


والمراد بتمكين الدين: انتشاره بين الناس، وكثرة متبعيه، والتعبير عن هذا المعنى بالتمكين استعارة تبعية في الفعل حيث “استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار، لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام، فكان كالشيء المثبت المرسخ” .


وقدم الاستخلاف في الأرض وهو أدنى مرتبة على تمكين الدين، وهو من أعظم الغايات، وأجل الرغائب، لأن النفوس البشرية تميل إلى الحظوظ العاجلة، فتصدير الوعد به أكثر استمالة للنفوس، وأشد ترغيباً لها . وقدم الجار والمجرور “لهم” على المفعول “دينهم” للعناية والاهتمام، وللمسارعة إلى بشارتهم، وللإشارة إلى انه (أي تمكين الدين) من المنافع العظيمة للمؤمنين، وفي هذا تشويق لهم إليه، وتحفيز لهم على قبوله عند وروده . وإضافة الدين إليهم في قوله “دينهم” ثم وصفه بارتضائه لهم “الذي ارتضى لهم” لتشريفهم بالانتساب إلى هذا الدين العظيم دين الإسلام، لأنه دين الله، وفي هذا أيضا استنفار لحميتهم من أجل بذل كل غال ونفيس في سبيل حماية هذا الدين، والذب عن حياضه، ورفع لوائه .


بشارة بزوال الشرك


وقيل “وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا” ولم يقل مثلاً: وليؤمننهم، لأن المخاطبين كانوا يعيشون قبل تمكين الدين لهم في فزع ورعب، وخوف يمزق قلوبهم فقد مكث الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعد الوحي خائفاً هو وأصحابه وحتى بعد الهجرة إلى المدينة كانوا خائفين حيث كانوا يصبحون ويمسون في السلاح، ثم لما أظهر الله عز وجل رسوله على جزيرة العرب وضعوا السلاح وأصبحوا آمنين .


والتنكير في قوله “أمنا” أفاد التعظيم، لأن فاعل هذا الأمن هو ملك الملوك عز وجل، والمراد الأمن من أعدائهم، وهذه بشارة بزوال الشرك من الأمة كما يقول ابن عاشور . وقد استوقفتني قراءتا التشديد والتخفيف في قوله تعالى: “وليبدلنهم” حيث وردت بتشديد الدال وهذه قراءة ابن كثير، ووردت بتخفيف الدال، وهذه قراءة ابن محيصن، والحقيقة أنني لم أجد في كتب التفسير التي قرأتها توجيها بلاغيا للقراءتين، ولا توظيفا لهما وبيان أثرهما في التركيب، وإنما وجدت اقتصاراً على ذكر القراءتين فقط، وهذا شائع عند المفسرين في معظم الآيات القرآنية التي لها أكثر من قراءة، والذي تطمئن إليه النفس أن قراءة التشديد فيها إيحاء بتكاثف الخوف وتراكمه وهذا ما دل عليه تضعيف الدال . أما قراءة التخفيف “ليبدلنهم” فإنها تدل على سرعة هذا التحويل والتغيير من حالة الخوف المطبق الممتد إلى حالة الأمن العام الشامل، ويسر هذا الوعد على مَن يقول للشيء كن فيكون سبحانه . هذا والله أعلم بمراده وأعوذ به من الزلل .


والتعبير بالمضارع “يعبدونني” الواقع حالاً من “ليستخلفنهم” و”ليبدلنهم” للدلالة على تقييد تحقيق وعده سبحانه لعباده بالاستمرار على عبادته، فأوقات العبادات متجددة دائماً . ويجوز أن تكون جملة “يعبدونني” استئنافاً لا محل له من الإعراب، وفائدة الاستئناف هنا بيان مستحقات الوعد الإلهي وشروطه حتى يتحقق .


اقتران العبادة بالإخلاص


تدبر أخي القارئ، عظمة هذا البيان القرآني وإعجازه ودقته، حيث خولف في الأسلوب في قوله تعالى “يعبدونني لا يشركون بي شيئاً”، فقد كان ظاهر الكلام أن يقال “يعبدونه لا يشركون به شيئاً” بأسلوب الغائب اتساقاً مع ما قبله، وعدل عن ذلك إلى ضمير المتكلم “يعبدونني” وليس إلى ضمير العظمة أيضاً (يعبدوننا)، لأن ضمير المتكلم هنا يشعر بالوحدانية المطلقة، وبوجوب أن تكون العبادة خالصة محضة من أية شائبة من شوائب الشرك مع الله، ودل على هذا أيضاً التنكير في قوله “شيئاً” فإنه للتقليل، فأي عبادة فيها رائحة شرك لا تقبل، وهذا أيضاً هو السر البلاغي في عدم فصل الجملة الثانية “لا يشركون بي شيئاً” عن جملة “يعبدونني” حيث لم يقل: “يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً” للإشارة إلى وجوب اقتران العبادة بالإخلاص حتى كأنهما صفة واحدة لا تنفصل، أو كأنهما جزءان غير منفصلين، وهذا يدل على الأهمية القصوى للإخلاص .


أما إذا أثبتت الواو التي تدل دائماً على التغاير والتمايز فإن هذا يدل على انفصال صفة الإخلاص المستفادة من قوله “لا يشركون بي شيئاً” عن صفة العبادة، وهذا غير مراد هنا، والله أعلم بمراده .


الخلاصة: نستطيع أن نقول: إن الفصل بين الجملتين لكمال الاتصال، حيث وقعت الجملة الثانية بدلاً من الجملة الأولى، وهذا وجه من وجوه إعراب الجملة الثانية .


والكفر في قوله تعالى “ومن كفر من بعد ذلك” هو كفر بنعمة الوعد بالتمكين والاستخلاف والأمن المعبر عنها باسم الإشارة للبعيد “ذلك” للدلالة على علو منزلة الوعد وعظمته، ومما يدل على أن المراد كفر النعمة وليس كفر الدين- كما قيل- قوله تعالى “فأولئك هم الفاسقون” حيث لم يقل: هم الكافرون .


تأمل بيان الآية في ذم من كفر بنعمة الموعود، حيث جيء باسم الإشارة للبعيد “أولئك” وبضمير الفصل “هم” وبتعريف الخبر- المسند- “الفاسقون” بلام الجنس وكل هذا من أجل الدلالة على بعد ضلالهم وكمال اتصافهم بصفة الفسق، واختصاصهم بها، أما عن وجه ارتباط قوله تعالى “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون” بالوعد فأحسب والله أعلم أنها من أسباب تحقيق الوعد الإلهي ومن طرقه المستتبعة لإنفاذه .


إن الله تعالى أنفذ وعده لعباده المؤمنين يوم حققوا شروطه فملكوا الدنيا بأسرها، وصاروا قادة أمم بعدما كانوا رعاة غنم، وباتوا هداة العالم، ومشاعل علم ومنابر نور، ومصادر معرفة، فلقد انتشر دينهم في أنحاء المعمورة، وخضعت لهم رقاب أعدائهم وقد تحقق لهم كل هذا عندما رسخ الإيمان في قلوبهم، وعظم حق ربهم في صدورهم، وأخلصوا لله أعمالهم، وكانت غايتهم نشر رسالة الإسلام السمحة، ورفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله .


ولكن حين دب الوهن في الأمة، وأصبحت تتقاتل من أجل متاع زائل وحطام فانٍ، وعندما رفعت راية العصبية والطائفية، وحين ابتعدت الأمة عن منهج ربها واستبدلته بمناهج بشرية وقوانين وضعية تتناقض في كثير منها مع النظم الإسلامية، وحين بارز الناس ربهم بالمعاصي والآثام، وتركوا سنة خير الأنام، عندئذ نزع الله ما ملكهم إياه انتزاعاً، فاستحالوا أقزاماً بين الأمم بعد أن كانوا عمالقة، وصاروا عبيداً لأعدائهم بعد أن كانوا سادة لهم، وباتوا يعيشون في دروب التخلف وكهوف الجهل، بعد أن كانوا منابع الفكر والعلم والمعرفة .


وصدق الله القائل: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال” (الرعد: 11) .

ابو معاويه 01-11-2010 12:31 PM

رد: الوعد الحق
 
وصدق الله القائل: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال” (الرعد: 11)

ابوعبدالله 01-19-2010 02:34 AM

رد: الوعد الحق
 
شكرا لكم ابا معاوية
بارك الله بكم


الساعة الآن 11:21 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى