منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   المواضيع الاسلامية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=7)
-   -   فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 200 (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=9191)

عبد القادر الأسود 01-07-2015 08:51 AM

فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 200
 
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(200)
قولُهُ ـ تعالى ذكرُه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} فَإِذَا مَا اسْتَثَارَ الشَّيْطَانُ غَضَبَكَ لِيَصُدَّكَ عَنِ الإِعْرَاضِ عَنِ الجَاهِلِينَ، وَيَحْمِلَكَ عَلَى مُجَارَاتِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ، و "ينزغنّك" يَنْخَسَنَّكَ مِنَ الشَيْطانِ نَخْسٌ، أَيْ: وَسْوَسَةٌ تَحْمِلُكَ على خِلافِ ما أُمِرْتَ بِهِ؛ كأن يَعتريكَ غَضَبٌ، أو يوسوسُ إليك بمُقابَلةِ سَفيهٍ بسفاهتِهِ. والنَّزْغُ: كَالنَّخْسِ وَهُوَ إِصَابَةُ الجَسَدِ بِرَأسٍ مُحَدَّدٍ كَالإِبْرَةِ وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وهو: أَدنى حَرَكَةٍ تَكونُ، وأَكْثَر ما يُسْنَدُ للشيطانِ لأنَّه أَسْرَعُ في ذلك. وقيلَ النَّزْغُ: الدُخولُ في أَمْرٍ لإِفْسادِهِ، فكأنَّه حين يُغْرِي النّاسَ على المعاصي يَنْخَسُهم. ويجوزُ أَنْ يُرادَ بِنَزْغِ الشَيْطانِ اعْتِراءُ الغَضَبِ، كما هو قولُ أبي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إنَّ لي شَيْطاناً يَعْتَريني. أيْ: يُغضبني، أو يحاولُ ذلك. ولذلك قيلَ: النَّزغُ: الإزعاجُ، وأَكْثَرُ ما يكون عِنْدَ الغَضَبِ، وأَصْلُهُ الانْزِعاجُ بالحَرَكَةِ إلى الشَّرِّ.
قولُهُ: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} فَالْتَجِئْ إلى اللهِ، وَاسْتَجِرْ بِهِ مِنْ نَزْغَ الشَّيْطَانِ ووَسْوَسَتِهِ. فهوَ وحدَهُ الكَفيلُ بِصَرْفِ وَسْوَسَةِ الشَياطينِ عَنْكَ، وصِيانَتِك مِنْ همَزاتهم ونَزَغاتهم ووِسْواسِهم. لأَنَّ الآمِرَ بالمَعروفِ إذا أَمَرَ السَفيهَ قَد يَهيجُ السَفِيهُ ويُظٍهِرُ السَّفاهَةَ، فعندَ ذلكَ أَمَرَهُ اللهُ بالسُكوتِ عَنْ مُقابَلَتِهِ فقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} ثُمَّ أَمَرَهُ بما يَجْري مُجْرى العِلاجِ لهذا المَرَضِ إنْ حَدَثَ فقال: "فاستَعِذْ باللهِ" عندَ هذهِ الحالةِ، وذلكَ بأنْ يَتَذَكَّرَ المرءُ عظيمَ نِعَمِ اللهِ عليهِ وشديدَ عِقابِهِ فيَدْعُوهُ كلُّ واحدٍ مِنْ هذيْنِ الأَمْرَيْنِ إلى الإعراضِ عنْ مُقْتَضى الطَبْعِ والإقبالِ على أَمْرِ الشَرْعِ. فأَمَرَ اللهُ بِدَفْعِ وَسْوَسَةِ الشيطان بالعوذِ بالله، والعَوْذُ الالْتِجاءُ إلى شَيْءٍ يَدْفَعُ مَكروها عَنِ المُلتَجِئِ، يُقالُ: عاذ بِفُلانٍ، وعاذَ بالحَرَمِ، وأَعاذهُ إذا مَنَعَهُ مِنَ الضُرِّ الذي عاذَ مِنْ أَجْلِهِ. والعَوْذُ بالله هو الالْتِجاءُ إليه بالدُعاءِ بالعصمة، أوِ اسْتِحْضارُ ما حِدَّدَهُ اللهُ لَهُ مِنْ حُدودِ الشَريعَةِ، والاستعاذةُ مَصدَرُ طَلَبِ العَوْذِ، فالسينُ والتاءُ فيها للطَلَبِ.
قولُهُ: {إِنَّهُ سَميعٌ عليمٌ} لِجَهْلِ الجَاهِلِينَ عَلَيْكَ، "عَلِيمٌ" بِمَا يُذْهِبُ عَنْكَ نَزْغَ الشَّيطَانِ. فإنّهُ يَسْمَعُك حين تستَعيذُ بِهِ، ويَعْلَمُ ما فِيهِ صَلاحُ أَمْرِكَ، وقولُهُ: "إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" يَدُلُّ على أَنَّ الاستعاذَةَ باللِّسانِ لا تَفيدُ إلاَّ إذا حَضَرَ في القلْبِ العِلْمُ بمعناها، فكأنَّهُ سبحانَه قال: اذْكُرْ لفظَ الاسْتِعاذَةِ بِلِسانِكَ فإني سميعٌ، واسْتَحْضِرْ معانيها بعَقْلِكَ وقَلْبِكَ فإني عليمٌ بما في ضَميرِكِ، وفي الحقيقةِ القولُ اللسانيُّ بِدونِ المَعارِفِ القَلْبِيَّةِ عَديمُ الأَثَرِ قليلُ الفائدَةِ. والاسْتِعاذَةُ عِنْدَ تَحْريكِ النَفْسِ مَشروعَةً، وقد تقدَّم عندَ تَفْسيرِنا ل (أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَيْطانِ الرَجيمِ) حديثُ سَيِّدِنا رسولِ الله ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: أَنَّ رَجُلاً اشْتَدَّ غَضَبُهُ، فقال ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((إنّي لأَعلَمُ كلِمةً لَوْ قالَهَا لذَهَبَ عَنْهُ ما بِهِ؛ أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)). ووصْفُ "سَمِيعٌ" كناية عن وعدٍ بالإجابة.
ولقد نَصَّ بعضُ المحقِّقين على أنَّ هذه الآية هي من بابِ قولِهِ تَعالى في سورة الزُمَر: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية: 65. ولم يَدُلَّ ذلك على أَنَّهُ أَشْرَكَ. وقال تعالى في سورة الأنبياء: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} الآية: 22, ولم يدل ذلك على أَنَّه حَصَلَ فيهما آلهة. فلا حُجَّةَ فيها لمن زَعَمَ عَدَمَ عِصْمَةِ الأَنْبياءِ ـ عليهِمُ الصلاةُ والسّلامُ ـ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَيْطانِ وارْتَِكابِ المعاصي. وفي صحيحِ مُسْلِم عَنِ ابْنِ مَسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ وقدْ وُكِّلَ بِهِ قَرينُه مِنَ الجِنِّ وقرينُه مِنَ المَلائكةِ)). قالوا: وإيّاكَ يا رسَولَ اللهِ؟. قال: وإيّايَ إلاَّ أَنَّ اللهَ تَعالى أَعانني عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلا يَأْمُرُني إلاَّ بِخَيْرٍ)), وزاد في روايةٍ للإمام الشعبي: فلقد أَتاني فأَخَذْتُ بحَلْقِهِ، ولولا دَعْوَةُ سُلَيمانَ لأصبح في المسجد طريحاً)). (يعني ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ قولَهُ تعالى في سورة ص: {وهَبْ لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي} الآية: 35.) وهذا كالدلالة على أَنَّ الشيطانَ كان يُوَسْوِسُ إلى الرَسولِ لكنَّ وسوستَهُ كانت مكشوفة مفضوحةً له، وكانت مسيطراً عليها من قِبَلِهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم، وقال تعالى في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية: 52. وقال ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ: ((وإنَّهُ لَيُغانُ على قَلبي وإنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليومِ واللّيْلَةِ سَبْعينَ مَرَّةً)). صحيحُ مسلم، ونَزْغُ الشَيْطانِ بالنِسْبَةِ إليْهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ مجازٌ عَنِ اعْتِراءِ الغَضَبِ المُقْلِقِ للنَفْسِ، وفي الآية حينئذٍ زيادةُ تَنْفيرٍ عَنِ الغَضَبِ وفَرْطُ تحذيرٍ عَنِ العَمَلِ بموجِبِهِ، ولذا كرَّرَ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ النَهْيَ عنْهُ، وفي الأَمْرِ بالاستعاذة باللهِ تَعالى تهويلٌ لذلك وتَنْبيهٌ على أَنَّهُ مِنَ الغوائِلِ التي لا يُتَخَلَّصُ مِنْ مَضَرَّتها إلاَّ بالالْتِجاءِ إلى حَرَمِ عِصْمَتِهِ ـ عزَّ وجَلَّ.
وكلُّ ما أُمِرَ بِهِ الرَسُولُ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسِلَّمَ ـ فأمَّتُه مَأْمورةٌ بِهِ أيضاً، وخصوصًا وَرَثَتُهُ مِنَ العلماءِ العارفينَ باللهِ، فهم مُطالَبون بالتَخَلُّقِ بِأَخْلاقِهِ ـ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ أَكْثَرَ مِنْ غيرِهم، لأَنَّ غيرَهم لم يَبْلُغْ دَرَجَتَهم. فكلُّ المؤمنين مشمولون بهذا الخطابِ وإنْ خُصَّ بِهِ الرَسُولُ الكريمُ فإنَّه تَأديبٌ عامٌّ لجميعِ المُكَلَّفينَ لأنَّ الاستعاذة بالله على السبيلِ الذي ذَكَرْناهُ لُطْفٌ مانِعٌ مِنْ تَأْثيرِ وساوِسِ الشَيْطانِ ولذلكَ قالَ تعالى في سورة النحل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الآية: 97 و 98. إذاً فقد ثَبَتَ بالنَصِّ أَنَّ لها أثراً في دَفْعِ نَزْغِ الشيطانِ ووجَبَتِ المُواظَبَةُ عَليْها في أَكْثَرِ الأَحْوالِ.
وقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ عَنِ النَبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ أَنَّهُ كان يَقولُ: ((اللّهُمَّ إني أَعوذُ بِكَ مِنَ الشَيْطانِ، مِنْ همزِهِ ونَفْثِهِ ونَفْخِهِ. قال: همزُهُ المَوتَةُ، ونَفْثُهُ الشِعْرُ: ونَفْخُهُ الكِبرياءُ)).
وأَخْرَجَ عَبْدٌ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عنْ قَتادَةَ في قولِهِ تعالى: "وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَيْطانَِ نَزْغٌ" قال: عَلِمَ اللهُ أَنَّ هَذا العَدُوَّ مُبْتَغٍ ومُريدٌ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ عبدِ الرحمنِ ابْنِ زَيْدٍ، قال: لمّا نَزَلَتْ {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} سورة الأعراف، الآية: 199. السابقة، قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ((كَيْفَ يا رَبّ والغَضَبُ))، فنَزَلَ: "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ" الآية.
قولُهُ تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } إمَّا: هِيَ (إِنْ) الشَرْطِيَّةُ اتَّصَلَتْ بها "ما" الزائدَةُ التي تُزادُ على بَعْضِ الأسماءِ غيرِ أَدَواتِ الشَرْطِ فَتُصَيِّرُها أَدَواتِها، نحوَ "مَهْما" فإنَّ أَصْلَهَا ما، ونحوَ "إذْ ما"، و "أَيْنَما"، و "أَيا نَما"، و "حَيْثُما"، و "كيفما"، فلا جَرَمَ أَنَّ "ما" إذا اقْتَرَنَتْ بما يَدُلُّ على الشَرْطِ أَكْسَبَتْهُ قُوَّةً شَرْطِيَّةً، فلِذلك كُتِبَتَ "إمّا" هذه على صورةِ النُطْقِ بها ولم تُكْتَبْ مَفصولَةَ النونِ عَنْ "ما".
وقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هذه الجملةُ في مَوْقِعِ العِلَّةِ للأمْرِ بالاستعاذة مِنَ الشيطان الرجيم بالله العظيم على ماهو شأنُ حرْفِ "إن" إذا جاء في غير مَقامِ دَفْعِ الشَكِّ أوِ الإنكارِ، فإنَّ الرسولَ ـ عليه صلاةُ اللهِ وسلامُه ـ لا ينكر ذلك ولا يتردد فيه، والمُرادُ. التَعليلُ بِلازِمِ هذا الخبرِ، وهو عَوْذُهُ ممَّا اسْتَعاذَهُ مِنْهُ، أيْ: أَمرناكَ بذلكَ لأنَّ ذلك يَعصِمُكَ مِنْ وَسْوَسَتِهِ لأنَّ اللهََ سميعٌ عليمٌ.


الساعة الآن 06:00 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى