منتدى الإحسان

منتدى الإحسان (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   القسم العام (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=27)
-   -   قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=2687)

هيثم السليمان 03-20-2009 02:56 AM

قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل

http://img523.imageshack.us/img523/9...3alikompx8.gif

ابن طفيل (1)


أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي , ولد سنة ستٍ وخمسمئة للهجرة قي بُرْشانة من أعمال المرية , وقيل في وادي آش من أعمال غرناطة .
كان عالماً , صدراً , حكيماً , فيلسوفاً , عارفاً بالمقالات والآراء , كلفاً بالحكمة المشرقية , محققاً , متصوفاً , طبيباً ماهراً , فقيهاً , بارع الأدب , ناظماً , ناثراً , مشاركاً في جملة من الفنون .
روى عن أبي محمد الرشاطي ، وعبد الحق بن عطية , وغيرهما .
اختص بالريس أبي جعفر , وأبي الحسن نب فلحان , قال ابن الأبار في تحفته : وكتب لوالي غرناطة وقتاً .
له رسالة حيّ بن يقظان , والأرجوزة الطبية المجهولة , وغيرها .
توفي بمراكش سنة إحدى وثمانين وخمسمئة للهجرة , وحضر السلطان جنازته .


قصة حيّ بن يقظان :


تعد قصة حيّ بن يقظان من الروائع الفكرية والأدبية في تاريخ الأدب العربي قديماً وحديثاً , حيث يتميز هذا الأثر النفيس بمحتواه الفكري والفلسفي العميق الأبعاد ؛ والرحب الآفاق بخياله الخصب , وبنائه الطريف .
ولقد قصد به ابن طفيل درس سيرة المعرفة الإنسانية , والكشف عن قدرات الإنسان وإمكانياته المعرفية , ومؤهلاته الحسية , واستعداداته العقلية , وحدود فطرته وقدحاته الذهنية عبر خبرته وما يكسبه من تجارب الحس التي ترتقي به إلى المعرفة العقلية والاكتشافات المعرفية التقنية .
ولقد صورت أحداث هذه القصة ووقائعها المتتالية محنة الإنسان وإجهاد العقل البشري للارتقاء في عالم الكون والفساد إلى المعرفة الصحيحة القائمة على الحس والتجربة .
وكان فيلسوفنا العربي ابن طفيل قد سلك هذه التجربة طريقةً في البحث والاكتشاف للارتقاء بالفكر البشري والحكمة الإنسانية معتمداً الفكر الحرّ , والاجتهاد المبدع , ومرتقياً بالحواس ومعرفتها إلى العالم التجريدي والذهن الخالص .


مكان القصة : (2)


جزيرة الواقواق : تقع أحداث القصة في جزيرة الوقواق ؛ وهي جزيرة أسطورية ورد ذكرها في بعض المصادر القديمة : في كتاب عبيد الله بن حُرداذبه في كتابه"المسالك والممالك" , وكتاب "مروج الذهب" للمسعودي , وفي "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي , وفي كتاب "مختصر العجائب" للمسعودي والمنسوب إلى إبراهيم بن وصيف شاه , ولقد ورد في كتاب "المسالك والممالك" : أن موقع جزيرة الواقواق في مشارق بحر الصين , وذكر المسعودي أنها تقع فوق زنجبار إلى ناحية الجنوب من سفالة الزنج , وأورد أنه يسكن هذه الجزيرة جنس على شكل نساء يصحنَ "واق , واق" , وإذا قبض على إحداهن سقطت ميتة , وأنه لا يسكن الجزيرة رجال .
ويشير صاحب كتاب "البدء والتاريخ" إلى مظهر من مظاهر المقدسي إلى أنه يوجد في بلاد الهند شجر يعرف بالوقواق يحمل ثمراً يشبه الرؤوس الآدمية .
ويورد الدمشقي في كتابه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر" أن الوقواق شجر شبيه بشجر الجوز ويحمل ثمراً يشبه صورة الإنسان .
وذكر عمر بن الوردي في "فريدة العجائب" أن في جزيرة الوقواق شجراً تشبه ثماره النساء في أحزامهن وسيقانهن , معلقات بشعورهن يصحن إذا خرجن من غلافهن وأحسسن بالهواء : واق ... واق , فتنقطع عندئذ شعورهن فيسقطن ويمتن .
فيبدو مما تقدم أن الأخبار الأسطورية التي وصفت بها الجزيرة من حيث وجود شجر يثمر النساء , يصيح ويتكلم , شجّع ابن طفيل على اتخاذها مسرحاً لأحداث قصته , ومنطلقاً لفكرة التولد الذاتي والنشوء الطبيعي التي اعتمدها في الخبر الثاني للقصة .



شخصياتها :


إن الشخصية الرئيسية كما يشير إلى ذلك العنوان هي حيّ بن يقظان : وهي شخصية متدرجة نامية ومتطورة , يتمثل دورها الأساسي في الكشف عن الحقيقة واكتساب المعارف , وستتفق سيرتها من حيث مراحلها وأطوار المعارف التي يجدُّ حيّ في اكتسابها .
الظبية : ودورها أساسي في تحقيق انفراج الأزمة في المرحلة الأولى باحتضانها ورعايتها لحيّ .
أسال : كان يعيش في جزيرة قريبة من جزيرة الواقواق وله صديق هو سلامان , وهما يدينان بأحد الأديان السماوية. وكان سلامان يقول بظاهر الأشياء ويرفض التأويل والتأمل , أما أسال فكان يغوص في الأمور الباطنية , فاختلف معه وغادر الجزيرة حتى وصل جزيرة الوقواق حيث التقى بحيّ وتعرف على طريقته في الكشف عن الحقائق الكونية والوصول إلى المعرفة , واتفق معه على أن يرافقه إلى جزيرته علّهما يفلحان في هداية أهلها إلى الحق .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ


(1) ينظر في ترجمة ابن طفيل : الإحاطة في أخبار غرناطة ( 2/478) , تحفة القادم (126-127) , عصر الدول والإمارات { الأندلس} ( 85-86) .
(2) ينظر مقدمة قصة حي بن يقظان : (ص9)

هيثم السليمان 03-20-2009 03:05 AM

رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
أطوارها :

اعتمد ابن طفيل في تصوّره لقصة حيّ بن يقظان ووضعه لسيرته خبراً أولاً متصلاً بولادة حيّ ينطلق من الواقع المألوف والتقاليد المعرفية والدينية المتوارثة والمقبولة ؛ وهو يقول بتولد حيّ تولداً جسدياً مألوفاً من أب وأم ؛ الأم هي شقيقة ملك إحدى جزائر الهند تحت خط الاستواء , والأب قريب لها اسمه يقظان كان قد تزوجها خفية من شقيقها الملك , فلما وضعت المرأة طفلها خشيت غضب أخيها وانتقامه , فجعلت الطفل في تابوت وألقته في البحر , فاحتملته الأمواج حتى ألقته على ساحل جزيرة الوقواق المجاورة ؛ وصادف أن مرّت به ظبية كانت تبحث عن طلاها الذي فقدته ؛ وسمعت بكاء الطفل داخل التابوت فأزاحت لوحه وحَنَتْ عليه وأرضعته وحضنته حتى كبر .
واعتمد ابن طفيل خبراً ثانياً أسطورياً أساسه القول بالنشوء الطبيعي والتولد الذاتي فيكون أصل حيّ طينة قد تخمرت في بطن أرض جزيرة الوقواق , وكانت احتوت على نَفَّاخة منقسمة إلى جزأين بينهما حجاب رقيق , وممتلئة بجسم لطيف هوائي تعلق به الروح الذي هو من أمر الله , ثم اعتملت هذه الطينة واستحالت إلى جسد طفل بادر إلى الاستغاثة عند اشتداد جوعه , فسمعته ظبية كانت قد فقدت طلاها فقصدته وحنت عليه وأرضعته وحضنته .
وبعد هذا تتفق بقية وقائع الخبرين , ولا نجد اختلافاً في سرد تفاصيل أطوار حيّ ومراحل سيرته .
وبحضانة الظبية لحيّ تبدأ أطوار قصته التي نلخصها بما يلي :

1- حضانة الظبية له مع محاكاته لأصوت الحيوانات ؛ حيث تبدأ مرحلة التفكير لديه : تبدأ هذه المرحلة برضاعة الظبية له وحضانتها له ومعاشرته لها , حتى بلغ السابعة , حيث أخذ بمحاكاة الحيوانات وتقليد أصواتها وحركاتها , ورآها كاسية مسلحة , وهو عارٍ أعزل , فاتخذ من ورق الأشجار لباساً يستره , ومن أغصان الأشجار عصياً يدافع بها عن نفسه .

2- اكتشاف المعرفة عن طريق التجربة والحواس : تبدأ بموت الظبية ؛ حيث حاول معرفة سبب موتها , فلم يرَ في ظاهرها تغيراً , فأدرك أن علتها موجودة في عضو غائب عن بصره , فقام بشق صدرها ووصل إلى القلب فلم يجد في ظاهره آفة , فشقّه فوجد فيه قسمين : الأيمن فيه دم , والأيسر خالٍ , فأدرك أن الظبية ؛هي في الحقيقة ذلك الشيء المرتحل , وما جسدها إلا آلة .
وسرعان ما يتفسخ جسد الظبية فلا يعرف ماذا يفعل به , ويرى غرابين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر ويقوم بدفنه , فيواري جسد الظبية كما فعل الغراب .

3- استنتاجاته حول الروح الحيواني : تبدأ باكتشافه النار , وتعرفه على طرق استخدامها حين ألقى فيها بعض الحيوانات البحرية , فاهتدى إلى شيء من اللحوم الناضجة ... ثم قارن هذه النار وحرارتها مع حرارة الحيوان الحي, وما كان يجده في نفسه من شدة الحرارة عند صدره , واستنتج أن هذا الشيء هو نفسه ؛ أو قريب من الذي يبحث عنه , فأخذ بتشريح الحيوانات والبحث عن ترتيب أعضائها وأوضاعها وكمياتها ... ثم استنتج أن لكل عضو وظيفة .
وقد استفاد من عملية التشريح , حيث اكتسى بجلود الحيوانات التي يشرحها , واتخذ الخيوط من الأشعار , وعمل الخطاطيف , واتخذ بيتاً , واستعان بالجوارح على الصيد , واتخذ الدواجن , ثم راض الخيل والحمر .

4- اكتشافاته الخاصة بوحدة الروح والمادة والصوت : بلغ في هذه المرحلة سن الثامنة و العشرين , وبدأ ينضج فكره , فنظر في مختلف الأجسام , وتوصل إلى إدراك وحدة الروح في الجسم , واتفاق مادة الكائنات , واختلاف صورها, فتفهم علة الحوادث وسرّ تباين الأجسام , حيث أخذ ينظر في عالم الكون ؛ من حيوان ونبات وجماد ... وينظر في خصائصها ويقارنها , فاستنتج الخصائص المشتركة للحيوانات والنباتات والأجسام التي لا تحس , فرأى أن حقيقة وجود كل واحد منها مركبة من معنى الجسمية , ومن شيء آخر زائد على الجسمية , فأيقن أن هذا الشيء الزائد هو الروح الحيواني الذي يبحث عنه , فاطّرح المعنى الجسمي وتعلق فكره بالمعنى الثاني الذي يعبر عنه بالنفس .

5- التطلع إلى الكواكب وأجسامها : يرصد في هذه الفترة الفضاء , محاولاً التطلع إلى ما فيه من كواكب وأفلاك , ويتعرف على كروية شكلها , وعلى ما في العالم من قدم وحدوث , حيث يستنتج أن الكواكب لها نهاية , ثم يستنتج حركتها الدائرية , ووصل إلى أن الفلك وما يحتويه شيء واحد , وأن جميع الأجسام ؛ الأرض , والماء , والهواء , هي كلها ضمنه غير خارجة عليه , ثم قارن بين الكواكب والحيوانات من حيث البنية , ثم انتقل إلى التفكر في العالم بجملته , وكيفية نشأته ووجوده , وهل هو حادث أم محدث ؟! وقرر أن الفاعل لا يمكن أن يدرك بشيء من الحواس , لأنه لو أدرك لكان جسماً , ولو كان جسماً لكان من جملة العالم فهو محدَث , وكما أدرك أنه لا يحس فهو لا يمكن أن يتخيل ؛ لأن التخيل ليس شيئاً إلا إحضار صور المحسوسات بعد غيبتها , وإذا لم يكن جسماً فصفات الأجسام كلها تستحيل عليه ( من طول وعرض وعمق ) , وإذا كان فاعلاً للعالم فهو لا محالة قادر عليه وعالم به .
فتوصل إلى حقيقة الخالق ؛ فهو الوجود , والكمال , والتمام , والحسن , والبهاء , والقدرة, والعلم ...

6- الاستنتاج العقلي : تبتدئ هذه المرحلة باستنتاجاته العقلية وقد بلغ الخامسة والثلاثين , فيستنتج انفصال النفس عن الجسد , واختلافها عنه مصيرياً , وحالات إدراكها الخلود أو الفناء , ويقف على سرّ السعادة بفضل تأملاته ومشاهداته الدائمة , وحالاته الإشراقية , وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقاً , غاضاً بصره , معرضاً عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية , مجتمع الهمّ والفكرة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شِركة , فمتى سنح لخياله سواه طرده عن خياله جهده , ودافعه وراض نفسه على ذلك , ودأب فيه مدة طويلة , بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك .
وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الأشياء إلا ذاته , فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود , فكان يسوءه ذلك , ويعلم أنه شَوْبٌ في المشاهدة المحضة , وشركة في الملاحظة .

7- سبيل السعادة : في هذه المرحلة الأخيرة يدرك حيّ أن سعادته في دوام مشاهدته للموجود الواجب الوجود وقد غابت عنه ذاته وفنيت وتلاشى .
"ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك ... وشاهد ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر , وتنتصب الحالة الصوفية الإشراقية التي عاشها بإدراكه أن ذاته مباينة لذات الحق بعد أن خطر بباله أن ذاته هي ذات الحق , وهكذا يشرق عليه الله بنوره فيشاهد لنفسه ذاتاً مفارقة ويرى { ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر } (1) ".

ثم ينتقل ابن طفيل إلى وصف جزيرة قريبة من جزيرة حيّ بن يقظان , فيها ملّة تدين بدين أحد الأنبياء , وكان فيها رجلان ( أسال و سلامان ) يدينان بهذا الدين , فكان أسال أشد غوصاً على الباطن وأطمع في التأويل , وكان سلامان يقول بظاهر الأشياء ويرفض التأويل والتأمل , فاختلف معه أسال وغادر الجزيرة حتى وصل إلى جزيرة الوقواق , حيث التقى بحيّ وعلمه الكلام وأصول الدين الصحيحة , وتعرف هو بالمقابل على طريقة حيّ بالكشف عن الحقائق الكونية والوصول إلى المعرفة , واتفق معه أن يرافقه إلى جزيرته علّهما يفلحان في هداية أهلها إلى الحق , إلا أنهما لم يفلحا بذلك ؛ حيث نفروا عنهم .
فتحقق عند حيّ أن مخاطبة الناس بطريق المكاشفة لا ينفعهم , وأن تكليفهم من العمل فوق القدر الذي كلفوا به لا يمكن , وأدرك أن الحكمة كلها , والهداية والتوفيق فيما نطق به الرسل , ووردت به الشريعة , وأن لكل عمل رجالاً , وأن {كلاً ميسر لما خلق له} (2) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ


1- المنهاج شرح صحيح مسلم :ص1973 –رقم2825 , ومختصر صحيح البخاري :ص568 –رقم 1679 .
2- المنهاج : ص1876 –رقم 2649 .

هيثم السليمان 03-20-2009 03:14 AM

رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
خصائصها :

سعى ابن طفيل في قصته هذه إلى تقصي سيرة المعرفة الإنسانية والكشف عن الحقيقة بطريقة فنية أدبية اتسمت بالروعة والطرافة في البناء وجمال الوصف والسرد القصصي الذي يعتمد التشويق والإثارة والحوار الداخلي الأخاذ , ويتوصل حيّ إلى معرفة الحقيقة , ويتعرف على النواميس الطبيعية وأسرار الحياة والكون عن طريق الملاحظة والتأمل الواعي , والمشاهدة والتطلع الدائم , والتجربة والعقل , وتترابط أحداث القصة بأطوار الاكتشاف ومختلف حلقات المعرفة الإنسانية .
حيث تبدأ بموت الظبية سلسلة من الأزمات والمفاجآت , تتلاحق وتترابط مع أطوار حياة حيّ ونموه وتساؤلاته الهادفة إلى الحصول على المعرفة , والكشف عن الحقيقة , والتعرف على أسرار الحياة والكون بدءاً بالتساؤل عن سبب وفاة الظبية فاكتشافاته المختلفة المتعلقة بحياته في الجزيرة وتسخير الطبيعة لفائدته , ثم لقائه بأسال وزيارته وأسالَ لجزيرة أسال , وكان في كل مرحلة من هذه المراحل يشاهد عائقاً ويكشف حقائق ويستقر على رأيٍ ويزداد اطّلاعاً ومعرفة .
وإذا بحثنا في خصائص هذه القصة ؛ فهي لا تملك الخصائص الفنية للقصة المعروفة اليوم, من مقدمة وعقدة وحلّ , فقد استخدم ابن طفيل السرد طريقاً للتعبير عن أفكاره ـ التي أراد أن يبرهنها في هذه القصة , فهو فيلسوف يهتم بالمضمون الفكري أكثر من اهتمامه بالشكل القصصي .
ولكنه مع ذلك أعطى شكلاً فنياً لقصته , مع بساطته , يعد من أوائل الذين سهلوا الطريق للقصة العربية , حيث أن عصره لم يعرف القصة ؛ إلا في بعض الرسائل التي يمكن اعتبارها بذرة أولية للقصة العربية , ومع ذلك فهو أعطى للقصة بعداً زمانياً وآخر مكانياً , وشيئاً من التحليل النفسي .
أما أسلوب القصة ؛ فقد استخدم ابن طفيل أسلوباً بسيطاً في سرد قصته , اعتمد فيه الألفاظ السهلة المألوفة , مع شيء من الرمز والإيحاء , فبطل قصته يرمز للعقل السليم الذي يتوصل إلى الحقيقة عن طريق المسلمات المعرفية , وقد استخدم في كل هذا جملاً بسيطة , مفهومة , مترابطة , خالية من التعقيد , يضطر أحياناً إلى إيراد بعض الاستطراد فيترك القصة بين الحين والآخر ليروح عن القارئ , وكونه صوفياً فقد استخدم كثيراً من ألفاظهم وتعابيرهم المتعلقة بالمشاهدة والكشف .
كما تظهر ثقافته العلمية واطلاعه على كثير من العلوم من خلال ما بثه في جوانب القصة من أفكار وألفاظ علمية تدل على ما كان يملكه من العلوم , فهو مطلع على علوم أرخميدس ؛ حيث قام حيّ بتجربة مماثلة لتجربته في قوة الدافعة المعروفة باسمه ( دافعة أرخميدس ) , فقد قام بملء زق جلد هواءً وربطه ثم غاص به تحت الماء فلاحظ قوة دفعه إلى الأعلى ... ومن ذلك تعريفه لكل من ( التغذي و النمو ) (1) تعريفاً علمياً فلسفياً , فالتغذي : هو أن يخلف المتغذي بدل ما تحلل منه بأن يحيل إلى التشبيه بجوهره مادة قريبة منه يجتذبها إلى نفسه . والنمو : هو الحركة في الأقطار الثلاثة على نسبة محفوظة في الطول والعرض والعمق .
أما الألفاظ العلمية , فقد أورد الكثير منها في قصته , من مثل ( الأسطقصات (2) , التسخين , التبريد , الإضاءة , التكثيف , الشفافة , الفلك , علم الهيئة , القطب , خط الاستواء , الطول , العرض , العمق ...) .
وقد استمد من التاريخ قبساً , فعندما تحدث عن الطريق الثانية لولادة حيّ بن يقظان , وهو أنه كان بإزاء جزيرة الواقواق جزيرة يملكها رجل شديد الأنفة والغيرة , وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر , فعضلها ومنعها من الزواج إذا لم يجد لها كفئاً , وكان له قريب يسمى "يقظان" فتزوجها سراً وحملت منه ووضعت طفلاً , ولما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها وضعته في تابوت أحكمت زمّه ( إغلاقه ) وخرجت به في أول الليل إلى ساحل البحر وقذفت به في اليمّ فحملته أمواجه إلى ساحل تلك الجزيرة , فابن طفيل يستلهم ذلك مما أوردته بعض كتب التاريخ والأدب عن قصة العباسة أخت هارون الرشيد مع جعفر بن يحيى البرمكي , حيث (3)" أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي , وكان يحضرهما إذا جلس للشرب , فقال لجعفر : أزوجكها ليحلّ لك النظر إليها ولا تقربها فإني لا أطيق الصبر عنها , فأجابه إلى ذلك فزوجها منه , وكانا يحضران معه , ثم يقوم عنهما , وهما شابان , فجامعها جعفر فحملت منه , فولدت له غلاماً فخافت الرشيد , فسيرته مع حواضن له إلى مكة فأعطته الجواهر والنفقات ..." (4) .
والصلة واضحة بين ميلاد كل من حيّ وابن العباسة سرّاً ومحاولة كل منهما تهريب ابنها , كما أن ابن طفيل استلهم في وضع أم حيّ له في التابوت وقذفه في اليمّ قصة أم موسى عليه السلام في القرآن الكريم حين خافت عليه من فرعون أن يقتله { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } (طـه:39) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1- قصة حيّ بن يقظان : ص59
2- الأسطقصات هي :" الأرض , والماء , والهواء , والنار " , التنبيه والإشراف : ج1 ص42
3- الكامل في التاريخ : ج5 ص348
4- ينظر في قصة العباسة :تاريخ الطبري(5/1729-1732) , وفيات الأعيان(1/328-346) , مرآة الجنان(1/404 وما بعدها) , البداية والنهاية(مج5 ج10/208-209) , النجوم الزاهرة(2/121) , المقدمة(19) ، إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس( 457 ) , العقد الفريد(5/71-72)

هيثم السليمان 03-20-2009 03:38 AM

رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
وقد كان للقرآن الكريم وجود كبير في القصة , فقد استمد من قصة الكهف حين أوى حيّ إلى الأجمة ليختبأ فيها {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف:10) , واقتبـس من قصـة قابيل وهابيل عندما اقتتل الغرابان , فقام أحدهما بدفن الآخر {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } (المائدة:31) , وذلك عندما أراد دفن الظبية بعد موتها .
وقد أورد ابن طفيل جملة من آي الذكر الحكيم , منها ما أورده بحرفيته كالآيات , {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) ، { لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سـبأ:3) , {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يّـس:82) , {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:88) , { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر:16) , {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:7) , {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7) , {فَأَمَّا مَنْ طَغَى,وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا,فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعـات:37,38,39 ) , {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} (مريم:71) , {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح:23), {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ,أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}(الواقعة:11,10) , {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال:17) .
ومنها ما أخذ معناه وتصرف في صياغته , كقوله :" وشاهد ذواتاً كثيرة مفارقة للمادة كأنها مرايا صدئة , قد ران عليها الخبث , ورأى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم قط بباله , ورآها في آلام لا تنقضي وحسرات لا تنمحي , قد أحاط بها سرادق العذاب , وأحرقتها نار الحجاب , ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب " (1) , فهنا يظهر تأثره الكبير بآي الذكر الحكيم حيث اقتبس المفردات القرآنية واستقى معنى الآيات ليعبر عن مراده من القول , وقد جمع فيه معاني الآيات التالية: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14) , {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور} (فاطر:36) , {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} (الكهف:29) , {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} (لأعراف:46) , ومن اقتباساته القرآنية أيضاً , قوله :" ويزيل الظنون المعترضة , ويعيذ من همزات الشياطين " (2) , مأخوذ من قوله تعالى : {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (المؤمنون:97) , وقوله:" وتحقق عنده أنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (3) , مأخوذ من قوله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس:62) , وقوله:" وأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً " (4) , مأخوذ من قوله تعالى : { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } (الفرقان:44) , وقوله:" وابتهلا إلى الله تعالى أن يهيئ لهما من أمرهما رشداً" (5) , مأخوذ من قوله تعالى : {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف:10) .

ومن ذلك أيضاً قوله:" وتصفح طبقات الناس بعد ذلك , فرأى كل حزب بما لديهم فرحين , قد اتخذوا إلههم هواهم, ومعبودهم شهواتهم , وتهالكوا في حطام الدنيا , ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر , لا تنجع فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الحكمة الحسنة , ولا يزدادون بالجدل إلا إصراراً , وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها , قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ... واشتروا بها ثمناً قليلاً , و ألهاهم عن ذكر الله تعالى التجارة والبيع , ولم يخافوا يوماً تنقلب فيه القلوب والأبصار ..." (6) , فقد اقتبس جمله من الآيات : {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:53) , {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32) , { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28) ,{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (طـه:16) , {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50) , {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:86) , {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (لأعراف:51) , {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ,حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (التكاثر:2,1) , {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل:125) , {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت:35) , { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة:41) , { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44) , {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً }(الجمعة:11) , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:254) , {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}
وكما استمد ابن طفيل تعابيره من القرآن الكريم ؛ فقد استقى من الحديث الشريف , إما رواية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عزّ وجلّ : { كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به } (7) , أو استشهاداً به ضمن سياق الكلام { شاهد ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر } (8) , حيث يصف المشاهد التي يعجز عن وصفها الواصفون عند رؤية الله تعالى , ومن ذلك قوله : { فلكل عمل رجال , وكل ميسر لما خلق له } (9) .
ويأخذ كلام علي بن أبي طالبرضي الله عنه : " إذ الدنيا والآخرة كضرتين ؛ إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى " (10) .

ونجده يستفيد من حافظته الشعرية في تدعيم قيمة نصه الفنية , يقول:" سئمت تكاليف الحياة الدنيا " (11) , وهو مقتبس من قول زهير بن أبي سلمى: (12)
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش = ثمانين حولاً , لا أبا لك , يسأم

ونلاحظ في هذه القصة عنصر الصدفة يلعب دوراً كبيراً منذ البداية حتى النهاية , إذ لعبت دورها عندما وصل حيّ بن يقظان إلى الجزيرة حيث فقدت الظبية ابنها فرعت حيّاً , والصدفة أيضاً هي التي أرسلت الغرابين ليقتتلا فيقتل أحدهما الآخر ليعلم حيّاً كيف يدفن جسد الظبية , والصدفة هي التي أشعلت النار ليكتشفها حيّ ويعرف أثرها , وبالتالي فالصدفة أيضاً هي الأساس في تفكره في وجود عنصر من هذه النار في روح الظبية التي ماتت .
وقد كان للخيال دور كبير في القصة , فهي بالأساس تقوم عليه في مكانها وأحداثها , حتى لنستطيع أن نعدها شيئاً من الأسطورة .
إذن فقد اعتمد ابن طفيل في قصته الخيال الفلسفي الصوفي المرتكز على المبادئ الإسلامية , والحقائق العلمية مدللاً على إمكانية العقل السليم التوصل إلى حقيقة الذات الإلهية عن طريق التأمل و المشاهدة والتطلع الدائم و التجربة .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ


1- قصة حيّ: ص111
2- المصدر نفسه : ص116
3- المصدر نفسه : ص121
4- المصدر نفسه : ص123
5- المصدر نفسه : ص123
6- قصة حيّ: ص125
7- الأحاديث القدسية: ص75-76 , رياض الصالحين: ص157-158 , ونص الحديث { ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه , وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , ورجله التي يمشي بها , وإن سألني أعطيته , ولئن استعاذني لأعذته }
8- المنهاج: ص1973-رقم الحديث 2825 , مختصر صحيح البخاري: ص586-رقم الحديث 1679 , ونص الحديث { قال رسول الله  :" يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصاحين ما لا عين رأت ,ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر , ذخراً , بَلْهَ ما أطلعكم الله عليه }
9- المنهاج: ص1876-رقم الحديث 2649 , ونص الحديث { قيل : يا رسول الله ! أعلم أهل الجنة من أهل النار ؟ قال: فقال : نعم . قال: قيل :ففيم يعمل العاملون ؟ قال :" كل ميسر لما خلق له " }
10- إحياء علوم الدين: ج3ص22 , ونصه: { قال علي عن الدنيا والآخرة : هما ككفتي ميزان , وكالمشرق والمغرب , وكالضرتين ؛ إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى }
11- قصة حيّ: ص114
12- شرح المعلقات السبع: ص109

هيثم السليمان 03-20-2009 03:47 AM

رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
ما أراده ابن طفيل من القصة : (1)

لقد أراد ابن طفيل أن يبين في قصته الحقائق الآتية :

1- المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة ؛ من المحسوسات الجزئية إلى ( الأفكار الكلية ) .
2- أن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله , بآثاره في مخلوقاته , وإقامة الأدلة الصادقة على ذلك .
3- أن هذا العقل قد يعتريه الكلال والعجز في مسالك الأدلة عندما يريد تصوير الأزلية المطلقة , والعدم المطلق , واللانهاية , والزمان , والقدم , والحدوث , وما شاكل ذلك .
4- أن العقل سواء ترجح لديه ( قدم العالم أو حدوثه ) , فإن اللازم من كل واحد من الاعتقادين شيء واحد , وهو وجود الله .
5- أن الإنسان قادر بعقله على إدراك أسس الفضائل , وأصول الأخلاق العملية والاجتماعية , والتحلي بها , وإخضاع الشهوات الجسدية لحكم العقل من غير إهمال لحق الجسد , أو تفريط فيه .
6- أن ما تأمر به الشريعة الإسلامية , وما يدركه العقل السليم بنفسه من الحق والخير والجمال ؛ يلتقيان عند نقطة واحدة بلا خلاف .
7- أن الحكمة كل الحكمة ؛ هي فيما سلكه الشرع من مخاطبة الناس على قدر عقولهم دون مكاشفتهم بحقائق الحكمة وأسرارها , وأن الخير كل الخير للناس ؛ هو التزام حدود الشرع وترك التعمق .

قصص عربية تحمل نفس الاسم : (2)


هناك قصص كثيرة في تراثنا العربي تحمل نفس اسم قصة حيّ بن يقظان , أو أسماء أبطالها , فلابن سينا قصتان شخصياتها تحمل نفس أسماء قصة ابن طفيل ؛ الأولى تحمل نفس الاسم (حيّ بن يقظان ) وموضوعها نفس موضوع قصة ابن طفيل , والثانية تحمل اسم ( سلامان وأسال ) وهي قريبة إلى قصة العباسة مع يحيى البرمكي .
ولحنين بن إسحاق الفيلسوف العربي المشهور قصة (سلامان و إيسال ) وكان نقلها عن اليونانية , غير أن إيسال في هذه القصة امرأة جميلة مرضعة لولد هرمانوسبن هرقل وهو سلامان الذي تعلق لما كبر بمرضعته وأحبها , وهرب معها وغرقا في البحر فهلكت إيسال ونجا سلامان وسلا حبيبته , واعتلا عرش أبيه بعد موته وأمر بكتابة قصته هذه .
ولابن الأعرابي في كتابه النوادر قصة ( سلامان وإيسال ) , لكنها تختلف عن قصة ابن طفيل ؛ فسلامان عند ابن الأعرابي رجل طيب النفس يسعى للخير ويطلبه بشتى الوسائل , و إيسال رجل شرير يسعى للإضرار بالغير يقعان معاً في الأسر فلقي الأول جزاء فعله الخير فنجا , ولقي الثاني جزاء شره فبقي في الأسر حتى مات .
ولكل من بديع الزمان الهمذاني , وأبي محمد الشيرازي قصة تحمل نفس اسم قصة ابن طفيل .

أثر القصة في الأدبين ؛ العربي والغربي : (3)


كان لقصة حيّ بن يقظان أبعد الأثر فوجهت وألهمت أدباء كثيرين عرباً وأعاجم , فلقد تأثر بها السهروردي واتخذ لبطل قصته ( الغربة الغريبة ) اسم حيّ بن يقظان , كما نسج عبدالرحمن جامي في قصته الرمزية على منوال ابن طفيل وسماها(سلامان وإيسال ) .
وترجمت قصة حيّ بن يقظان إلى العبرية سنة 1349هـ , وترجمها بوكوك في أوكسفورد إلى اللاتينية بعنوان (الفيلسوف الذي علم نفسه بنفسه) مع نصها العربي سنة 1671م , وترجمت إلى الهولندية سنة 1672م , وترجمها أوكلي إلى الإنكليزية سنة 1708م , وترجمها إلى الألمانية إنجهورن سنة 1782 وترجمها بونس بويجس إلى الأسبانية سنة 1900م,وترجمها بتروف إلى الروسية سنة 1920م , وترجمها بالنثيا إلى الإسبانية سنة 1934م وأعاد ترجمتها سنة 1948م , وترجمها إلى الفرنسية ليون جوتييه سنة 1900م ثم أعاد ترجمتها سنة 1936م .
ومن أبرز القصص العالمية المقتبسة من قصة حيّ بن يقظان قصة ( روبنسن كروز ) لدانييل ديفو سنة 1719م, وحاكاها جورج كبت في ترجمة له بالإنكليزية , وقصص ديارد كيلنج التي جمعها في مؤلفه " الأدغال " , كما اقتبس قصة حيّ الكاتب الأمريكي أدغار رايس بوروز في مجموعة قصص جعل بطلها الشخصية الخيالية " طرزان " , ونجد قصصاً أخرى على غرار قصة حيّ لوليام ل سيستر نشرت في نيويورك سنة 1938م , ولموريس ب غاردنر نشرها ببوسطن سنة 1936م
وهذا ما يؤكد ما كان لقصة حيّ بن يقظان من تأثير كبير على الأدباء والفلاسفة قديماً وحديثاً , وما ألهمته الكتاب والقصاصين من أطر , ووقائع , وشخصيات , ومواضيع لأدبهم , ومن خيال , وفن لقصصهم !!

خـــــــــــــــــاتمة:


وهكذا نرى ابن طفيل وقد درس سيرة الحياة الإنسانية مستخدماً الفن في شكله الأدبي القصصي للتعبير عن فكره الفلسفي , وليبين سبل اكتساب المعرفة التي يراها مخلوقة ومتطورة ومتنوعة , ويمكن للحواس بواسطة النظر والملاحظة والتجربة والقياس إدراكها , كما يقدر الإنسان عن طريق الحدس والإشراق الصوفي اكتساب المعرفة غير المتصلة بالحواس , وبصفة عامة الارتقاء من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية الخالصة المتأتية عن الاستنتاج والتولد , ,ومن الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة , ومن العلوم أو المعرفة الإنسانية إلى العلوم العقلية الصحيحة , ومن علوم الطبيعة إلى العلوم الإلهية .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ


1- قصة الإيمان: ص72
2- ينظر في: أبجد العلوم(ج2ص107) , كشف الظنون(ج1ص236,862) , وفيات الأعيان(ج6ص270) , المعجب(ج1ص240) , عيون الأنباء(ج1ص440) , المقدمة(307) , مقدمة حيّ(8)
3- ينظر في: مقدمة حيّ(11) , عصر الدول والإمارات؛ الأندلس (514)

هيثم السليمان 03-20-2009 03:49 AM

رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
ثبت المصادر والمراجع :

1- القرآن الكريم ؛ رواية حفص عن عاصم .
2- أبجد العلوم ؛ الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم , صديق بن حسن القنوجي , تح :عبد الجبار زكار , دار الكتب العلمية -بيروت 1978م .
3- الأحاديث القدسية في كتب الحديث الرئيسة , بشرح النووي والقسطلاني , المكتب العالمي للطباعة والنشر والتوزيع 2000- 2001م .
4- الإحاطة في أخبار غرناطة , لسان الدين الخطيب , تح: محمد عبد الله عنان , القاهرة 1973م .
5- إحياء علوم الدين , أبي حامد الغزالي , دار صادر – بيروت ط1 2000م .
6- إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس , محمد بن دياب الإتليدي , دار الآفاق العربية -القاهرة 1998م .
7- تاريخ الأمم والملوك ( تاريخ الطبري ) , محمد بن جرير الطبري , تح: نواف الجراح . دار صادر ط1 2003م .
8- تحفة القادم , ابن الأبار , إحسان عباس , القاهرة 1986م .
9- التنبيه والإشراف , علي بن الحسين المسعودي , تح: قاسم وهب , وزارة الثقافة – دمشق 2000م .
10- رياض الصالحين , يحيى بن شرف النووي , تح: عبد العزيز رباح و أحمد يوسف الدقاق , دار المأمون للتراث-دمشق ط13 1992م .
11- شرح المعلقات السبع للزوزني , الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني , دار الإرشاد – حمص 2001م .
12- عصر الدول والإمارات ( الأندلس ) , شوقي ضيف , مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية 2001م .
13- العقد الفريد , ابن عبد ربه الأندلسي , تح: إبراهيم الأبياري , دار الكتاب العربي – بيروت .
14- عيون الأنباء في طبقات الأطباء , أحمد بن القاسم , تح: نزار رضا , دار مكتبة الحياة – بيروت ط2 1994م .
15- قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن , الشيخ نديم الجسر , دار الهجرة .
16- قصة حيّ بن يقظان , ابن طفيل , تقديم وإخراج:عمر سعيدان , دار الحوار للنشر والتوزيع – اللاذقيةط2 1988
17- الكامل في التاريخ , ابن الأثير , تح: عمر عبد السلام تدمري , دار الكتاب العربي – بيروت ط4 2004م .
18- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون , مصطفى بن عبد الله القسطنطي , تح: إبراهيم الزين , دار الكتب العلمية – بيروت 1978م .
19- مختصر صحيح البخاري ( المسمى التجريد الصريح ) , الزبيدي , تح: مصطفى ديب البغا , دار العلوم الإنسانية-دمشق ط3 1988م .
20- مرآة الجنان , عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي , تح: شريف الدين البالمي , حيدر أباد 1337هـ .
21- المعجب في تلخيص أخبار المغرب , عبد الواحد المراكشي ، تح: محمد سعيد العريان و محمد العربي العلمي , مطبعة الاستقامة – القاهرة ط1 1368هـ .
22- مقدمة ابن خلدون , عبد الرحمن بن محمد بن خلدون , تح: نواف الجراح , دار صادر – بيروت 2000م .
23- المنهاج ( شرح صحيح مسلم ) , يحيى بن شرف النووي , دار ابن حزم – بيروت 2002م .
24- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة , يوسف بن تغري بردي , تح: محمد و مصطفى عبد القادر عطا , المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة والطباعة والنشر – مصر ط1 1358هـ .
25- وفيات الأعيان وأنباء الزمان , ابن خلكان , تح: إحسان عباس , دار الثقافة – بيروت ط1 1968م .

cheaprsgoldsell 05-09-2009 06:35 AM

المحتوى مخالف لذا تم مسحه

هيثم السليمان 05-09-2009 03:50 PM

رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
جزاك الله خيراً أخي الحسيني

ابوعبدالله 05-13-2009 04:39 PM

رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
شكرا لكم اخي هيثم على هذه الأعمال المتميزة

هيثم السليمان 05-13-2009 05:57 PM

رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابوعبدالله (المشاركة 20406)
شكرا لكم اخي هيثم على هذه الأعمال المتميزة

العفو أخي أبوعبد الله
جزاك الله خيراً


الساعة الآن 09:56 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى