منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   الرد على شبهات المخالفين (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=120)
-   -   كتاب حقائق عن التصوف (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=42)

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:18 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 


7- الصبر




تعريفه:

عرف العلماء الصبر بتعاريف كثيرة، وأهمها ما قاله ذو النون المصري رحمه الله تعالى: (الصبر: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى عند حلول الفقر بساحة المعيشة) [“شرح رياض الصالحين” لابن علان ج1/ص194].

وما ذكره الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى في مفرداته: (الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه) [“شرح رياض الصالحين” لابن علان ج1/ص194].

وما ذكره السيد الجرجاني رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الصبر: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله) [“شرح رياض الصالحين” لابن علان ج1/ص194].

ويفهم من تعريف السيد أن الشكوى لله تعالى لا تُنافي الصبر، إنما ينافيه شكوى الله إلى غيره؛ كما رأى بعضهم رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال: يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك، ثم أنشد:

وإذا عرَتْك بلية فاصبر لها صَبْرَ الكريم فإنه بك أعلم

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

أقسامه:

ذكر العلماء للصبر تقسيمات منوعة [انظر كتاب “الإحياء” للغزالي، و”قوت القلوب” لأبي طالب المكي، و”مدارج السالكين” لابن القيم، وغير ذلك من الكتب الموسعة]، وكلها ترجع إلى هذه الأنواع الثلاثة: صبر على الطاعات، وصبر عن المعاصي، وصبر على المصائب.

فالصبر على الطاعات: هو الاستقامة على شرع الله، والمثابرة الدائمة على العبادات المالية والبدنية والقلبية، ومواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما يعترض ذلك من أنواع الابتلاء وصنوف المحن؛ لأن من ورث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته وجهاده لا بد أن يصيبه ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيب ومحاربة وأذى، قال تعالى حكاية عن لقمان يوصي ابنه: {يا بُنَيَّ أقِمِ الصلاةَ وأمُرْ بالمعروفِ وانْهَ عنِ المنكَرِ واصبِرْ على ما أصابَكَ} [لقمان: 17].

وقد أقسم الله تعالى أن الناجين هم مَنْ تحقَّقوا بصفات أربع: الإيمان، والعمل الصالح، والنصح للأمة، ثم الصبر على ذلك. فقال تعالى: {والعصرِ . إنَّ الإنسانَ لفي خسْرٍ . إلا الذينَ آمنوا وعمِلوا الصالِحاتِ وتواصَوا بالحقِّ وتواصَوا بالصبرِ} [العصر].

والصبر عن المعاصي: هو مجاهدة النفس في نزواتها، ومحاربة انحرافها، وتقويم اعوجاجها، وقمع دوافع الشر والفساد التي يثيرها الشيطان فيها؛ فإذا ما جاهدها وزكاها وردَّها عن غيِّها وصل إلى الهداية التامة، قال الله تعالى: {والذينَ جاهدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]. وكان من المفلحين ببشارة الله تعالى بقوله: {قد أفلَحَ مَنْ تزَكَّى وذكر اسم ربِّهِ فصلَّى} [الأعلى: 14 -15]، وقوله تعالى: {وأما مَنْ خاف مقامَ ربِّهِ ونهى النَّفسَ عن الهوى . فإنَّ الجَنَّةَ هي المأوى} [النازعات: 40ـ41].

وأما الصبر على المصائب: بما أن الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء، فإن الله تعالى يختبر إيمان عباده - وهو أعلم بهم - بأنواع المصائب، ويُمحص المؤمنين بصنوف المحن كي يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق.

قال تعالى: {الم . أحسِبَ الناسُ أن يتُرَكُوا أنْ يقولوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفتَنونَ} [العنكبوت: 1 -2]. سواء أكانت هذه المصائب في المال أو في البدن أو في الأهل، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ في أموالِكُم وأنْفُسِكُم} [آل عمران: 186]. وقال تعالى: {ولَنَبْلُوَنَّكَم بشيءٍ مِنَ الخوفِ والجوعِ ونَقْصٍ من الأموالِ والأنْفُسِ والثَّمراتِ وبَشِّرِ الصابرينَ . الذين إذا أصابَتْهُم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنَّا إليهِ راجعونَ . أولئكَ عليهم صلواتٌ مِنْ ربِّهِم ورحمةٌ}

[البقرة: 156 -157].

ولا شك أن المؤمن الصادق يتلقى هذه المصائب بالصبر والتسليم؛ بل بالرضا والسرور، لأنه يعلم أن هذه النكبات ما نزلت عليه من خالقه إلا لتكفير ذنوبه ومحو سيئاته، كما قال عليه الصلاة والسلام: “ما يصيبُ المسلمَ من نَصبٍ ولا وَصبٍ، ولا همٌّ ولا حزَنٍ، ولا أذى ولا غمٌّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب المرض، ومسلم في كتاب البر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما. والوصب: المرض]. كما أنه يعلم أن هذه النوازل إنما ترفع المؤمنين الصابرين درجات عالية ومنازلَ رفيعة عند الله تعالى؛ إذا هو تلقاها بالرضا والتسليم، كما قال عليه السلام: “إذا سبقت للعبد من الله تعالى منزلة لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده وفي أهله وماله، ثم صبَّره على ذلك حتى ينال المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل” [رواه أبو داود في سننه في كتاب الجنائز باب الأمراض المكفرة للذنوب رقم (3074) عن محمد بن خالد السلمي رضي الله عنه].



أهميته وبعض ما ورد في فضله:

الصبرُ نصف الإيمان، وسر سعادة الإنسان، ومصدر العافية عند البلاء، وعدة المؤمن حين تدلهمُّ الخطوب وتحدق الفتن وتتوالى المحن، وهو سلاح السالك في مجاهداته لنفسه، وحملها على الاستقامة على شرع الله تعالى وتحصنها من الانزلاق في مهاوي الفساد والضلال. ولعظيم أهميته ورفيع مقامه ذكره الله تعالى في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعاً. فتارة يأمر الله تعالى به فيقول: {استعينوا بالله واصبروا} [الأعراف: 128]. وفي موطن آخر يثني على أهله فيقول: {والصابرينَ في البأساء والضراء وحينَ البأس أولئكَ الذين صدقوا وأولئكَ همُ المُتَّقونَ} [البقرة: 177]. وفي بعض الآيات يخبر عن محبته للصابرين فيقول: {واللهُ يُحِبُّ الصابرينَ} [آل عمران: 146] وطوراً يبين الله تعالى معيته للصابرين معية حفظ وتأييد ونُصرة فيقول: {إنَّ اللهَ معَ الصابرينَ} [البقرة: 153]. وفي موضع آخر يخبر عن إيجاب الجزاء لهم بغير حساب فيقول: {إنَّما يُوَفَّى الصابرون أجرَهُم بغير حسابٍ} [الزمر: 10]. وفي موطن آخر يبين أن الهداة المرشدين قد نالوا هذا المقام الرفيع بالصبر فيقول: {وجعلْنا منهُمْ أئِمَّةً يهدونَ بأمرِنا لمَّا صبروا} [السجدة: 24]

ولقد جاءت الأحاديث النبوية الكثيرة مؤكدةً فضل الصبر، وما له من أثر عميق في سعادة المؤمن وتلقيه صدمات الحياة ونوائب الدهر.

كما تواردت الأخبار المستفيضة عن صبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتحمله صنوف الأذى وأنواع الشدائد، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها صبر وجهاد وتضحية.



وهذه نبذة يسيرة من الأحاديث الشريفة:

1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما أُعطيَ أحد من عطاء خيراً وأوسع من الصبر” [رواه البخاري في صحيحه ومسلم والنسائي وأبو داود في كتاب الزكاة، والترمذي في كتاب البر والصلة].

2 - وعن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” [رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق].

3 - وعن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم” [أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة].

4 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يحكي نبياً من أنبياء الله، ضربه قومه، فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب أحاديث الأنبياء، ومسلم في كتاب الجهاد والسيرة].

5 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا أحدَ أصبَرُ على أذى سمعه؛ من الله عز وجل؛ إنه ليُشْرَكُ به، ويُجعلُ له الولد، ويعافيهم ويرزقهم” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم].



تحقق الصالحين بالصبر ودعوتهم إليه:

تتبع الصحابة رضوان الله عليهم أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورثوا عنه الصبر جادِّين في نشر الإسلام، بإيمان لا يعرف اليأس، وعزيمة لا تعرف الخَوَرَ، وثبات لا يتطرق إليه الوهن.

ثم أخذ التابعون عنهم هذه الروح الإيمانية الصابرة، وهكذا انتقلت هذه الروح في كل عصر وزمان إلى يومنا هذا. قال عليه الصلاة والسلام: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه].

قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما مات ولده الصالح: (إن الله أحب قبضه، وإني أعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور يخالف محبة الله).

ومن أروع الصبر ما وقع للإمام مالك رضي الله عنه حين لدغته عقرب - وهو يحدِّث - ستَّ عشْرة مرة، فصار يَصفرُّ ويتلوَّى حتى تم المجلس، ولم يقطع كلامه تعظيماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم [“شرح الزرقاني على موطأ مالك” ج1/ص3].

ودخل ذو النون المصري على مريض يعوده، فبينما كان يكلمه أنَّ أَنَّةً، فقال له ذو النون: (ليس بصادق في حبه من لم يصبر على ضربه، فقال المريض: بل ليس بصادق في حبه من لم يتلذذ بضربه) [“اللمع” للطوسي ص77].

وكان ابن شبرمة إذا نزل به بلاء قال: (سحابة ثم تنقشع).

وللصوفية في الصبر كلام عجيب، ومنطق طريف، فقد سئل الشبلي عن الصبر فتمثل بقوله:

صابرَ الصبرَ فاستغاث به الصــبرُ فصاح المحب بالصبر صبراً فلله درُّ الصوفية، لقد تعرَّضوا لرضوان الله الأكبر في ظلال الصبر، وانطبق عليهم وصف الله تعالى في قوله: {الذينَ إذا أصابَتْهُم مضيبةٌ قالوا إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعونَ} [البقرة: 156].

فهم لله وإلى الله، ولذا كانوا جديرين بأن يوفيهم ربهم أجرهم بغير حساب، ولنعم أجر الصابرين: {أولئكَ عليهم صلواتٌ مِنْ رَبِّهِم ورحمَةٌ} [البقرة: 157].

إن مثلهم الأعلى، وقدوتهم في الصبر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي تعرض لصنوف الابتلاء وشتى المحن؛ فلم يزدد إلا صبراً وثباتاً، وهذه سنة الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام.

قال تعالى: {فاصبِرْ كما صَبَرَ أولُو العَزْمِ مِنَ الرُسُلِ} [الأحقاف: 35].

ولقد أوصاه الله تعالى بتحمل مشاق الدعوة وأعباء الرسالة، والصبر على أذى المشركين بقوله: {واصْبِرْ وما صبْرُكَ إلا باللهِ ولا تحزَنْ عليهم ولا تَكُ في ضَيقٍ مما يمكُرُونَ} [النحل: 127].



الخلاصة:

إن الصبر صفة الأنبياء، وحلية الأصفياء، ومفتاح الخيرات، وسبيل السالكين إلى الله تعالى؛ لا يستغني السالك عنه في أية مرحلة من مراحل سيره، إذ لكل مقام صبر يناسبه.

قال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (الصبر حبس القلب على حكم الرب.

فصبر العامة: حبس القلب على مشاق الطاعات ورفض المخالفات.

وصبر الخاصة: حبس النفس على الرياضات والمجاهدات، وارتكاب الأهوال في سلوك طريق الأحوال مع مراقبة القلب في دوام الحضور، وطلب رفع الستور.

وصبر خاصة الخاصة: حبس الروح والسر في حضرة المشاهدات والمعاينات، أو دوام النظرة والعكوف في الحضرة) [“معراج التشوف إلى حقائق التصوف” ص6].

وأخيراً فهذه الصفات الثلاث: الصدق والإخلاص والصبر، هي أركان السير إلى الله تعالى؛ من لم يَبْنِ عليها سيره وسلوكه فهو مقطوع ولو زعم أنه موصول، وواقف ولو زعم أنه سائر.

وحقيقة الإخلاص توحيد المطلوب، كما أن حقيقة الصدق توحيد الطلب، والصبر على ذلك هو عين الكمال.

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:18 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
8- الورع




تعريفه ومراتبه:

قال السيد الجرجاني رحمه الله تعالى: (هو اجتناب الشبهات خوفاً من الوقوع في المحرمات) [تعريفات السيد ص170].

وقال العلامة محمد بن علان الصدِّيقي رحمه الله تعالى: (هو عند العلماء ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس) [“دليل الفالحين شرح رياض الصالحين” ج5/ص26].

وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (الورع كف النفس عن ارتكاب ما تكره عاقبته) [“معراج التشوف” ص7].

ولتوضيح معنى الورع نبين مراتبه التي يسعى طالب الكمال أن يتحقق بها.

فورع العوام: هو ترك الشبهات حتى لا يتردى في حمأة المخالفات، اتباعاً لإرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهاتِ فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه...” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، ومسلم في كتاب المساقاة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما].

وورع الخواص: ترك ما يكدر القلب ويجعله في قلق وظلمة. فأهل القلوب يتورعون عما يهجس في قلوبهم من الخواطر، وما يَحيك في صدورهم من الوساوس؛ وقلوبهم الصافية أعظم منبه لهم حين يترددون في أمر أو يشكُّون في حكم؛ كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن صحيح]، وبقوله: “البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطَّلع عليه الناس” [رواه مسلم في كتاب البر والصلة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه. حاك: أي جال وتردد].

وفي هذا يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه) [“الرسالة القشيرية” ص54].

وورع خاصة الخاصة: رفض التعلق بغير الله تعالى، وسدُّ باب الطمع في غير الله تعالى، وعكوف الهمم على الله تعالى، وعدمُ الركون إلى شيء سواه، وهذا هو ورع العارفين الذين يرون أن كل ما يشغلك عن الله تعالى هو شؤم عليك.

قال الشبلي رحمه الله تعالى: (الورع أن تتورع عن كل ما سوى الله) [“الرسالة القشيرية” ص54].



فضله:

مما سبق يتضح أن الورع صفة جامعة لكل خصال الكمال، فلقد دخل الحسن البصري رحمه الله مكة فرأى غلاماً من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس، فوقف عليه الحسن وقال: (ما ملاك الدين؟ فقال: الورع، قال: فما آفة الدين؟ قال: الطمع. فتعجب الحسن منه، وقال: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة) [“الرسالة القشيرية” ص54].

قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: (ليس يدل على فهم العبد كثرةُ علمه، ولا مداومتُه على ورده، وإنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه وانحياشه إليه بقلبه، والتحرر من رق الطمع، والتحلي بحلية الورع) [“معراج التشوف” ص7].

وليس أدلَّ على منزلة الورع، وأنه أرقى أنواع العبادة من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال: “يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبدَ الناس” [رواه ابن ماجة عن أبي هريرة في كتاب الزهد - باب الورع والتقوى - بإسناد حسن].

ولهذا كان الورع سبيلاً لنيل المنح الإلهية الكبرى، كما قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: (من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء) [“الرسالة القشيرية” ص54].

ولأهمية الورع، ورفعة منزلته، وعلو شأنه، وعظيم أثره، أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، نورد هنا بعضها:

1 - عن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن غريب].

2 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع” [رواه الطبراني في “الأوسط”، والبزار بإسناد حسن].

3 - وروي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث مَنْ كنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خُلُقٌ يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحِلم يردُّ به جهل الجاهل” [رواه البزار كما في “الترغيب والترهيب”].

4 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال: “لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة].

5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كخْ كخْ، ارمِ بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة، أو أنَّا لا تحل لنا الصدقة” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة].

وإن السادة الصوفية إذ يتحققون بمراتب الورع المتسامية، إنما يحيون لنا ذكر الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.

فقد روي أن الصدِّيق رضي الله عنه أكل طعاماً أتاه به غلامه، ثم أخبره الغلام أن فيه شبهة، فما وسع الصدِّيق رضي الله عنه إلا أن أدخل يده في فمه، فقاء كل شيء في بطنه [أخرجه البخاري في صحيحه باب أيام الجاهلية].

وكان يقول: (كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام) [“الرسالة القشيرية” ص53].

وحُملَ إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مسك من الغنائم، فقبض على مشامِّه وقال: (إنما يُنتفعُ من هذا بريحه، وأنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين) [“الرسالة القشيرية” ص55].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (اشتريت إبلاً، وسقتها إلى الحمى، فلما سمنت؛ قدمت بها، فدخل عمر رضي الله عنه السوق فرأى إبلاً سِماناً.

فقال: لمن هذه؟

فقيل: لعبد الله بن عمر.

فجعل يقول: يا عبد الله! بخ بخ... ابنَ أمير المؤمنين وقال: ما هذه الإبل؟!

قلت: إبل أنضاء “هزيلة” اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون.

فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين! يا عبد الله بن عمر خذ رأس مالك، واجعل الربح في بيت مال المسلمين) [“الرياض النضرة” ج2/ص47].

قال خزيمة بن ثابت: (كان عمر إذا استعمل عاملاً كتب له عهداً وأشهد عليه رهطاً، واشترط أن لا يركب برذوناً ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل شيئاً من ذلك حلت عليه العقوبة) [“البداية والنهاية” لابن كثير ج7/ص34].

وقصته مع زوجته معروفة، يوم اقتصدت لتشتري الحلوى، وطالبته بالشراء فقال: من أين لك ثمن الحلوى؟ قالت: اقتصدت قال: رديه لبيت المال فلو احتجت إليه ما اقتصدت. وهو الذي كان يجوع لتشبع رعيته.

وكان لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه غلام يأتيه بقمقم من ماء مسخَّن يتوضأ منه، فقال للغلام يوماً: (أتذهب بهذا القمقم إلى مطبخ المسلمين فتجعله عنده حتى يسخن، ثم تأتي به؟

قال: نعم، أصلحك الله.

قال: أفسدته علينا. قال: فأمر مزاحماً أن يغلي ذلك القمقم، ثم ينظر ما يدخل فيه من الحطب، ثم يحسب تلك الأيام التي كان يغليه فيها، فيجعله حطباً في المطبخ) [“سيرة عمر بن عبد العزيز” لابن عبد الحكم ص37].

وقال العلامة المناوي رحمه الله تعالى: (وقد رجع ابن المبارك رحمه الله من خراسان إلى الشام في رد قلم استعاره منها... وبعد أن أورد المناوي عدة قصص في ورع الصوفية قال: فانظر إلى ورع هؤلاء، وتشبَّهْ بهم إن أردت السعادة) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” ج5/ص52].

وحُكي عن بشر الحافي رحمه الله تعالى أنه حُمل إلى دعوة، فوُضع بين يديه طعام، فجهد أن يمد يده إليه، فلم تمتد، ثم جهد فلم تمتد ثلاث مرات، فقال رجل ممن كان يعرفه: (إن يده لا تمتد إلى طعام حرام، أو فيه شبهة، ما كان أغنى صاحب هذه الدعوة أن يدعو هذا الرجل إلى بيته) [“اللمع” للطوسي ص71].

فما نهج الصوفية في ورعهم إلا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، وأثر من آثار حبهم لله تعالى وتمسكهم بهديه، ونتيجة لخوفهم الشديد من أن يقعوا في مخالفة لله تعالى. لأن من ذاق طعم الإيمان أكرمه الله بالتقوى، ومن تحقق بالتقوى كان عن الشبهات متورعاً، ومن الله تعالى خائفاً ولفضله راجياً كما قال شاه الكرماني: (علامة التقوى الورع، وعلامة الورع الوقوف عند الشبهات، وعلامة الخوف الحزن، وعلامة الرجاء حسن الطاعة) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص193].

فاجتهد أيها القارىء أن تلحق بأهل الهمم العالية، وجالسهم لتجانسهم ومن جالس جانس.

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:19 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
9- الزهد




تعريف الزهد:

قال ابن الجلاّء: (الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها) [“الرسالة القشيرية” ص56].

وقيل: (الزهد عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف) [“الرسالة القشيرية” ص56].

وقال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: (الزهد استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب) [“الرسالة القشيرية” ص56].

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: (الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد، وهذا زهد العارفين، وأعلى منه زهد المقربين فيما سوى الله تعالى من دنيا وجنة وغيرهما، إذ ليس لصاحب هذا الزهد إلا الوصول إلى الله تعالى والقرب منه) [“الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين حديث النووية” للشيخ إبراهيم الشبرخيتي].

فالزهد تفريغ القلب من حب الدنيا وشهواتها، وامتلاؤه بحب الله ومعرفته. وعلى قدر تخلص القلب من تعلقاته بزخارف الدنيا ومشاغلها يزداد لله تعالى حباً وله توجهاً ومراقبة ومعرفة، ولهذا اعتبر العارفون الزهد وسيلة للوصول إلى الله تعالى، وشرطاً لنيل حبه ورضاه، وليس غاية مقصودة لذاتها.



مشروعية الزهد:

نفى بعضهم وجود الزهد في الإسلام نفياً قاطعاً، واعتبر الزهد بدعة دخيلة على الدين، تسربت إليه عن طريق الرهبنة النصرانية أو النسك الأعجمي، ولا شك أن موقفهم هذا تسرُّعٌ في الحكم مع جهل بحقيقة الإسلام. فلو رجع هؤلاء المنكرون إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدوا أنه عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الزهد صراحة، ويعتبر الزهد وسيلة لنيل محبة الله تعالى. فقد روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس قال له: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك” [رواه ابن ماجه في كتاب الزهد].

ثم إن كل مسلم حين يتصفح كتاب الله تعالى، يجد كثيراً من الآيات الكريمة تصغِّر من شأن الدنيا وتبين حقارتها وسرعة زوالها، وانقضاء نعيمها، وأنها دار الغرور، وفتنة الغافلين؛ ومقصود الحق من ذلك أن يُزَهّد الناس فيها بإخراج حبها من قلوبهم حتى لا تشغلهم عما خلقوا له من معرفة الله تعالى وإقامة دينه. قال الله تعالى: {يا أيُّها الناسُ إنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌّ فلا تغُرَّنَّكُم الحياةُ الدنيا ولا يَغُرَّنَّكُم بالله الغَرورُ} [الروم: 60].

وقال أيضاً: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحيوانُ لو كانوا يعلمونَ} [العنكبوت: 64].

وقال تعالى: {المالُ والبنونَ زينَةُ الحياة الدنيا والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ ربِّكَ ثواباً وخيرٌ أملاً} [الكهف: 46].

وهكذا سائر الآيات الكريمة التي تضرب على هذا الوَتَر وترمي إلى هذا الهدف العظيم.

وإذا استعرضنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجده كثيراً ما يوجه أصحابه إلى العزوف عن الدنيا والزهد في زخارفها، وذلك بتصغير شأنها وتحقير مفاتنها. كل ذلك كي لا تشغلهم عن المهمة العظمى التي خُلقوا من أجلها، ولا تقطعهم عن الرسالة المقدسة التي يحملونها.

فتارة يبين أن الله تعالى جعل الدنيا زينة لنا ابتلاءً واختباراً لينظر هل نتصرف فيها على نحو ما يرضيه أم لا؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: “إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء” [أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وتمام الحديث “فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء”]. وتارة ينبه الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى أن الدنيا ظل زائل ومتعة عابرة، حتى لا يركنوا إليها فتقطعهم عن الله تعالى. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء. فقال: “ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها” [أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، وقال: حديث صحيح]. وتارة يشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حقارة شأنها في نظر الحق سبحانه فيقول: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء” [رواه الترمذي في كتاب الزهد عن سهل بن سعد الساعدي. وقال: حديث حسن صحيح].

وهكذا سار الرسول عليه الصلاة والسلام هو وخلفاؤه وأصحابه الكرام على هذا المنهج الكريم، فعزفتْ نفوسهم عن الدنيا، وزهدت قلوبهم فيها.

مرت بهم فترات من الفقر والشدائد والمحن فما ازدادوا إلا صبراً وتسليماً ورضاء بحكم الله تعالى، ثم جاءتهم الدنيا صاغرة، وألقت بين أيديهم خزائنها ومقاليدها فاتخذوها سُلَّماً للآخرة ووسيلة إلى رضوان الله تعالى، دون أن تشغل قلوبهم عن الله تعالى وطاعته، أو توقعهم في الترف والبطر، أو الكبر والغرور، أو الشح والبخل. فقد خرج أبو بكر رضي الله عنه عن ماله كله في سبيل الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما تركتَ لأهلك؟ قال: تركتُ الله ورسوله” [رواه أبو داود في كتاب الزكاة والترمذي في كتاب المناقب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال: حديث حسن صحيح].

وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو صاحب اليد الطولى في هذا المضمار، وببذله وزهده تُضرب الأمثال.

وأما عثمان رضي الله عنه فهو الذي جهز جيش العسرة، وأنفق عليه من ماله، غير مكترث بعظم هذه النفقات بجانب رضاء الله، ولبالغ تضحيته وإيثاره وعزوفه عن الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه: “ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم” [رواه الترمذي في كتاب المناقب عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة].

وكتبُ السيرة طافحة بأخبار زهد الرسول صلى الله عليه وسلم وزهد أصحابه الكرام رضوان الله عليهم. ويضيق المجال عن التفصيل، ونكتفي بذكر النبذ اليسيرة التالية:

عن نافع قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (والله ما شمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ولا خارج بيته ثلاثة أثواب، ولا شمل أبا بكر في بيته ثلاثة أثواب، غير أني كنت أرى كساهم إذا أحرموا، كان لكل واحد منهم مئزر ومشمل لعلها كلها بثمن درع أحدكم، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ورأيت أبا بكر تخلل بالعباءة، ورأيت عمر يرقع جبته برقاع من أدم وهو أمير المؤمنين، وإني لأعرف في وقتي هذا من يجيز المائة، ولو شئت لقلت ألفاً [“تاريخ عمر بن الخطاب” لابن الجوزي ص102].

وقالت حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لعمر: (يا أمير المؤمنين لو لبسْتَ ثوباً هو ألين من ثوبك، وأكلت طعاماً هو ألين من طعامك، وقد وسَّع الله من الرزق وأكثر من الخير، فقال: إني سأخصمك إلى نفسك، ألا تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من شدة العيش؟ فما زال يُذكِّرها حتى أبكاها، فقال لها: أما والله لئن استطعتُ لأشاركهما في مثل عيشهما الشديد لعلِّي أدرك معهما عيشهما الرخي) [“تاريخ عمر بن الخطاب” لابن الجوزي ص104].

وعن قتادة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبطأ عن الناس يوم الجمعة، قال: ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه وقال: (إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يُغسل ولم يكن لي ثوب غيره) [“تاريخ عمر بن الخطاب” ص102].

وما حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام إلا القدوة العملية الكاملة التي سار المؤمنون الصادقون على نهجها فكانوا مثالاً للزهد والعفة والطهر والاستقامة.



تصحيح مفهوم الزهد:

من تعريفات الزهد السالفة الذكر وبيان مشروعيته يتضح أن الزهد مرتبة قلبية؛ إذ هو إخراج حب الدنيا من القلب، بحيث لا يلتفت الزاهد إليها بقلبه، ولا ينشغل بها عن الغاية التي خلقه الله من أجلها.

وليس معنى الزهد أن يتخلى المؤمن عن الدنيا فيفرغ يده من المال، ويترك الكسب الحلال ويكون عالة على غيره.

وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم المقصود الحقيقي من الزهد حين قال: “الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغبَ منك فيها لو أنها أُبقيتْ لك” [أخرجه الترمذي في كتاب الزهد عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال: حديث غريب].

قال العلامة المناوي رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الحديث: (فليس الزهد تجنب المال بالكلية بل تساوي وجوده وعدمه، وعدمُ تعلقه بالقلب إليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة الزاهدين، يأكل اللحم والحلوى والعسل، ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة، فخذ من الطيبات بلا سرف ولا مخيلة، وإياك وزهد الرهبان) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” للمناوي ج4/ص72].

وهكذا فهم السادة الصوفية أن الزهد مرتبة قلبية. قال عمرو بن عثمان المكي: (اعلم أن رأس الزهد وأصله في القلوب هو احتقار الدنيا واستصغارها، والنظر إليها بعين القلة، وهذا هو الأصل الذي يكون منه حقيقة الزهد)[ “طبقات الصوفية” للسلمي ص203].

وقد عبر سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله سره عن مفهوم الزهد الحقيقي تعبيراً واضحاً جامعاً حين قال: (أخرج الدنيا من قلبك وضعها في يدك أو في جيبك، فإنها لا تضرك) [“الفتح الرباني” للشيخ عبد القادر الجيلاني].

وفي هذا المعنى قال بعض العارفين: (ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك).

ولهذا عرَّف ابن عجيبة الزهد بقوله: (هو خلو القلب من التعلق بغير الرب) [“معراج التشوف” لابن عجيبة ص7].

وقد بين الإمام الزهري رحمه الله تعالى أن من معاني الزهد الحقيقي أن تشكر الله تعالى على ما رزقك من الحلال، وأن تحبس نفسك عن طلب الحرام قانعاً بما قسم لك من الرزق، فقال حين سئل عن زهد المسلم: (هو أن لا يغلب الحلال شكره، ولا الحرام صبره) [“النهاية في غريب الحديث” لابن الأثير مادة (زهد)].

وقد أوضح العلماء أن المقصود من ذم الدنيا الوارد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ليس ذماً لذاتها، وإنما هو تحذير من الانشغال القلبي بها؛ بأن يجعلها المؤمن غاية يسعى إليها بكل إمكانياته، ناسياً غايته الأساسية، وهي الفوز برضاء الله تعالى. فنعمت الدنيا مطية المؤمن ووسيلة إلى التقرب إلى الله تعالى، وبئست الدنيا إذا كانت معبوده. وفي هذا المعنى قال العلامة المناوي رحمه الله: (فالدنيا لا تُذَمّ لذاتها فإنها مزرعة الآخرة، فمن أخذ منها مراعياً للقوانين الشرعية أعانته على آخرته، ومن ثَمَّةَ قيل: لا تركن إلى الدنيا، فإنها لا تبقى على أحد، ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” ج3/ص545].



طريق الوصول للزهد:

بما أن الزهد مقام قلبي رفيع المنزلة لأنه تفريغ القلب من التعلق بسوى الله تعالى، كان الوصول إليه أمراً هاماً يحتاج إلى جهود كبيرة ووسائل ناجعة، وأهمها صحبة المرشد الذي يأخذ بيد المريد، ويرسم له الطريق الصحيح، وينقله من مرحلة إلى مرحلة بحكمة ودراية، ويجنبه مزالق الأقدام.

فكم من أناس أخطؤوا الطريق فجعلوا الزهد غاية، ولبسوا المُرَقَّع من الثياب، وأكلوا الرديء من الطعام، وتركوا الكسب الحلال، وحسدوا أهل المال، وقلوبهم مفعمة بحب الدنيا، وهم يحسبون أنهم زاهدون. وما وقعوا في ذلك إلا لأنهم ساروا بأنفسهم بعيدين عن صحبة الدليل الخبير، وفي هؤلاء يقول المناوي رحمه الله تعالى: (فالزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد منها، وقد جهل قوم فظنوا أن الزهد تجنب الحلال، فاعتزلوا الناس، فضيعوا الحقوق، وقطعوا الأرحام، وجفوا الأنام، واكفهرُّوا في وجوه الأغنياء، وفي قلوبهم شهوة الغنى أمثال الجبال، ولم يعلموا أن الزهد إنما هو بالقلب، وأن أصله موت الشهوة القلبية، فلما اعتزلوها بالجوارح ظنوا أنهم استكملوا الزهد، فأداهم ذلك إلى الطعن في كثير من الأئمة) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” ج3/ص73].

وكم من أناس أقبلوا على الدنيا وملذاتها فشغلت قلوبهم بحبها، وعمرت أوقاتهم بجمع حطامها وهم يزعمون أنهم تحققوا بالزهد القلبي، وأنهم فهموا الزهد على حقيقته، ولو كان لهؤلاء طبيب قلبي ناصح، يكون لهم مرآة صادقة، لَكَشَفَ لهم حقيقة وصفهم، ولأرشدهم إلى سبيل الوصول إلى حقيقة الزهد.

وينبغي الإشارة إلى أن المرشدين قد يصفون لبعض تلامذتهم نوعاً من المجاهدات بغية تفريغ قلوبهم من التعلقات الدنيوية، من باب العلاج الضروري الموقت، فيطلبون منهم أكل اليسير من الطعام، أو لبس البسيط من الثياب لإخراج حبها من قلوبهم، أو يدْعونهم للبذل السخي والعطاء الكثير بغية اقتلاع صفة الشح والتعلق بالمال من قلوبهم، وهذه الأنواع من المعالجات ضرورية ونافعة ما دامت برأي المرشد وإشرافه، فهي ليست غايةً لذاتها؛ بل هي وسيلة مشروعة للوصول إلى الزهد القلبي الحقيقي.

وما أكلُ الرسول صلى الله عليه وسلم للأطعمة البسيطة، وربطُ الحجر على بطنه الشريف من الجوع - رغم أن الجبال عرضت له أن تكون ذهباً - إلا لبيان مشروعية هذه الأعمال.

وفي هذا قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى، وهو تربّى على يد أشياخه من العارفين: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسَنات، لأن التصوف هو صفة المعاملة مع الله تعالى، وأصله التعزُّف عن الدنيا كما قال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص158].

وقد كان المرشد الكبير سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى يوجه تلامذته في بادىء سيرهم أن يجاهدوا أنفسهم ويروضوها على الاخشيشان والصبر والتقشف، ثم بعدها ينقلهم إلى مراتب الزهد القلبي حين يستوي عندهم الأخذ والعطاء والفقر والغنى، وتفرغ قلوبهم من سوى الله تعالى.

وقد لَفَتَ السادة الصوفية الأذهانَ إلى أمور تساعد على التحقق بمقام الزهد منها:

1 - العلم بأن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، والرحيل منها إلى دار البقاء، إما إلى نعيم وإما إلى عذاب، فيرى الإنسان نتيجة أعماله، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر.

عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {ألهاكُمُ التكاثُرُ} [التكاثر:1] قال: “يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبستَ فأبليت، أو تصدقْتَ فأمضيت” [رواه مسلم في كتاب الزهد].

وقال أبو المواهب الشاذلي رحمه الله تعالى: (عبادة المريد مع محبته للدنيا شغل قلب وتعب جوارح، فهي وإن كثرتْ قليلة عند الله تعالى).

2 - العلم بأن وراءها داراً أعظم منها قدراً، وأجل خطراً، وهي دار البقاء، قال تعالى: {قلْ متاعُ الدنيا قليلٌ والآخرةُ خيرٌ لِمَنْ اتقى} [النساء: 77]. ولذا وجهوا أتباعهم للإعراض عن الدنيا، والتطلع إلى الحياة الآخرة، إلى الجنة ونعيمها والرغبة في الله تعالى، فساروا سيرة الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم في التضحية والإيثار ومجاهدة النفس ومغالبة الهوى دون أن تستهويهم زخارف الحياة الزائلة.

وكان شعارهم قول بعضهم:

لا تنظرنَّ إلى القصور العامرة واذكر عظامك حين تمسي ناخرة

وإذا ذكرتَ زخارف الدنيا فقل لبيكَ إنَّ العيش عيش الآخرة

3 - العلم بأن زهد المؤمنين في الدنيا لا يمنعهم شيئاً كُتب لهم، وأن حرصهم عليها لا يجلب لهم ما لم يُقضَ لهم منها، فما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم.



الخلاصة:

وصفوة القول: الزهد مقام رفيع لأنه سبب لمحبة الله تعالى، ولذا دعا إليه الكتاب والسنة، وأشاد بفضله أئمة الدين، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (عليك بالزهد، فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على الناهد) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” ج4/ص73].

ولذلك فإن السادة الصوفية قد تحققوا بالزهد وتدرجوا في مراتبه التي أشار إليها ابن عجيبة بقوله: (فزهد العامة: ترك ما فضل عن الحاجة في كل شيء، وزهد الخاصة: ترك ما يشغل عن التقرب إلى الله في كل حال، وزهد خاصة الخاصة ترك النظر إلى ما سوى الله في جميع الأوقات إلى أن قال: والزهد سبب السير والوصول؛ إذ لا سير للقلب إذا تعلق بشيء سوى المحبوب) [“معراج التشوف” لابن عجيبة ص7 - 8].

وقد وصف الإمام النووي رحمه الله تعالى هذه الفئة الصالحة من الأمة فقال:

إنَّ لله عباداً فُطَنا طلَّقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا أنها ليس لحيٌّ سَكنا

جعلوها لُجَّةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سُفنا

[“رياض الصالحين” للإمام النووي ص3].

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:19 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
10- الرضا




تعريفه:

عرف العلماء الرضا تعريفات متعددة، وكل واحد تكلم على حسب مشربه ومقامه،وأهمها ما قاله السيد في تعريفاته: “الرضاء: سرور القلب بمُرِّ القضاء” [“تعريفات السيد” ص57].

وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: “الرضا: تلقي المهالك بوجه ضاحك، أو سرور يجده القلب عند حلول القضاء، أو ترك الاختيار على الله فيما دبر وأمضى، أو شرح الصدر ورفع الإِنكار لما يرد من الواحد القهار” [“معراج التشوف” ص8].

وقال العلامة البركوي رحمه الله تعالى: “الرضا: طيب النفس بما يصيبه ويفوته مع عدم التغير” [“شرح الطريقة المحمدية” للنابلسي ج2. ص105].

وقال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: “الرضا: نظر القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد، وهو ترك التسخط” [“الرسالة القشيرية” ص89].

وقال المحاسبي رحمه الله تعالى: “الرضا: سكون القلب تحت مجاري الأحكام” [“الرسالة القشيرية” ص89].

فالرضا مقام قلبي، إذا تحقق به المؤمن استطاع أن يَتلقَّى نوائب الدهر وأنواع الكوارث بإيمان راسخ، ونفس مطمئنة، وقلب ساكن، بل قد يترقى إلى أرفع من ذلك فيشعر بالسرور والفرحة بمر القضاء، وذلك نتيجة ما تحقق به من المعرفة بالله تعالى، والحبِّ الصادق له سبحانه.



فضله:

هو أسمى مقاماً وأرفع رتبة من الصبر، إذ هو السلام الروحي الذي يصل بالعارف إلى حب كل شيء في الوجود يرضي الله تعالى، حتى أقدار الحياة ومصائبها، يراها خيراً ورحمة، ويتأملها بعين الرضا فضلاً وبركة.

كان بلال رضي الله عنه يعاني سكرات الموت وهو يقول: “وافرحتاه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه” [“السيرة النبوية” لأحمد زيني دحلان. ص242].

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الراضي بقضاء الله هو أغنى الناس لأنه أعظمهم سروراً واطمئناناً، وأبعدهم عن الهم والحزن والسخط والضجر، إذ ليس الغنى بكثرة المال إنما هو بغنى القلب بالإيمان والرضا، قال عليه الصلاة والسلام: (اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) [أخرجه الترمذي في كتاب الزهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: هذا حديث غريب].

وأوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرضا سبب عظيم من أسباب سعادة المؤمن الدنيوية والأخروية، كما أن السخط سبب الشقاء في الدنيا والآخرة فقال: (من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى له) [أخرجه الترمذي في كتاب القدر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقال: حديث غريب].

ولقد كانت نعمة الرضا من العوامل في تلك السكينة التي شملت قلوب العارفين، ومن أقوى الأسباب في محق نوازع اليأس التي يوجدها التفكير في عدم الحصول على حظوظ الحياة وملذاتها؛ مما يجلب لصاحبه القلق والحيرة والاضطراب.

ولقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يُعلّم أصحابه ويغرس في قلوبهم الرضا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وكان يندبهم لتكرارها فيقول: (من قال إذا أصبح وأمسى: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، كان حقاً على الله أن يرضيه)[رواه أبو داود في باب ما يقول إذا أصبح عن أنس بن مالك رضي الله عنه ورواه الترمذي في كتاب الدعوات]، فكانوا يحرصون على تكرارها صباحاً ومساءً، يُعرِبون بذلك عما تُكنُّه قلوبهم من نعيم الرضا بالله والتسليم له.

وما أكثر من يكرر هذا القول بلسانه، وهو غير مطمئن القلب به، ولا متذوق لمعانيه السامية، ولا متحقق بمقاصده العالية، خصوصاً حين تزدحم عليه المصائب، وتداهمه الخطوب، وتتكاثف على قلبه ظلمات الهموم والأكدار، أو عندما يدعى إلى حكم من أحكام الشرع يخالف هواه ويعارض مصالحه الخاصة.

لهذا نرى أن ترْدادَه باللسان فحسب لا يفيد صاحبه إذا لم ينبع من قلبه. حيث إن من لوازم الرضا بالله تعالى رباً؛ الرضا بكل أفعاله في شؤون خلقه؛ من إعطاءٍ ومنع وخفض ورفع، وضر ونفع، ووصل وقطع.

ومن لوازم الرضا بالإِسلام ديناً أن يتمسك بأوامره ويبتعد عن نواهيه، ويستسلم لأحكامه ولو كان في ذلك مخالفة لهوى نفسه، ومعارضة لمصالحه الخاصة.

ومن لوازم الرضا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً أن يتخذ شخصيته مثلاً أعلى وأسوة حسنة، فيتبع هديه، ويقتفي أثره، ويتحلى بسنته، ويجاهد هواه حتى يكون تبعاً لما جاء به، وحتى يكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين، كما دعا إلى ذلك عليه الصلاة والسلام: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب حب الرسول من الإيمان عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما].

وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنتَ يا رسول الله أحبُّ إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي فقال: “لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك”. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “الآن ياعمر” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأيمان والنذور باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ج8. ص160، ورواه أحمد في المسند ج4/233].

فمن تحلى بالرضا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبسيدنا محمد نبياً ورسولاً، ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوة اليقين، ونال السعادة الأبدية، قال عليه الصلاة والسلام: “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً” [رواه مسلم والترمذي في كتاب الإيمان عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه].

أما من حُرم لذة الإيمان ونعيم الرضا، فهو في قلق واضطراب، وتضجر وعذاب، وخصوصاً حين يحل به بلاء، أو تنزل به مصيبة، فتسودُّ الحياة في عينيه، وتظلم الدنيا في وجهه، وتضيق به الأرض على رحبها، ويأتيه الشيطان ليوسوس له، أن لا خلاص من همومه وأحزانه إلا بالانتحار. وكم نسمع عن حوادث الانتحار، تزداد نسبتها، ويتفاقم خطرها وخصوصاً في البلاد الكافرة الملحدة، وفي المجتمعات المارقة التي انحسر عنها ظل الإِسلام، وخبا فيها نور الإِيمان، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {ومَنْ أعرضَ عن ذِكري فإنَّ لهُ معيشةً ضَنْكاً . ونحشُرُهُ يومَ القيامةِ أعمى} [طه: 124].



تصحيح الأفكار في موضوع الرضا:

هناك شبهات، أثارها بعض الجهلة حول موضوع الرضا، وما سببها إلا جهلهم وعدم تذوقهم لهذا المقام الرفيع، والإنسان عدو ما يجهل. أو يكون مَردُّها أنهم رأوا أُناساً من أدعياء التصوف، فاعتبروا أحوالهم الفاسدة ومفاهيمهم المنحرفة حجة على التصوف، دون أن يفرقوا بين السادة الصوفية الذين تحققوا بالإيمان والإسلام والإِحسان، وبين الدخلاء من أدعياء التصوف وإليك بعض هذه الشبهات مع الرد عليها.

أولاً: أنكر جماعة الرضا من أصله فقالوا: لا يُتصور الرضا بما يخالف الهوى، وإنما يُتصور الصبر فقط، فهل يعقل أن لا يحس الإِنسان بألم المصائب، ولا يشعر بوقع الخطوب؟!

والجواب: إن الراضي قد يحس بالبلاء، ويتألم للمصيبة بحكم الطبع، ولكنه يرضى بها بعقله وإيمانه، لما يعتقد من عظم الأجر وجزالة الثواب على البلاء، فلا يعترض، ولا يتضجر، قال أبو علي الدقاق: (ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، إنما الرضا أن لا تعترض على الحكم والقضاء) [“الرسالة القشيرية” ص89].

ومثله في ذلك مثل المريض الذي يحس بألم حقنة الدواء، ويشعر بمرارة العلاج، ولكنه يرضى بذلك لعلمه أنه سبب الشفاء، حتى إنه ليفرح بمن يقدم له الدواء ولو كان مرَّ المذاق كريه الرائحة.

قال عمر رضي الله عنه: (ما ابتُليتُ ببلية إلا كان لله عليَّ فيها أربع نِعم: إذْ لم تكن في ديني، وإذ لم أحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم، وإذ رجوت الثواب عليها) [“شرح الطريقة المحمدية” ج2 ص105].

ومن ناحية أخرى: إن الراضي قد يحس بألم المصيبة بحكم الطبع، ولكنه يرضى بها حين يرجع إلى إيمانه بلطف الله تعالى وحكمته، وأن وراء كل فعل من أفعاله تعالى حِكماً خفية. ولطائف دقيقة، كما قال تعالى: {فعسى أنْ تكرَهوا شيئاً ويجعَلَ اللهُ فيه خيراً كثيراً}

[النساء: 19].

وبذلك يضمحل حزنه، ويزول تعجبه، ويعلم أن تعجبه كتعجب موسى عليه السلام من الخضر عليه السلام، لما خرق سفينة الأيتام، وقتل الغلام، وأعاد بناء الجدار، فلما كشف الخضر عن الحكمة التي اطلع عليها، زال تعجب موسى عليه السلام، وكان تعجبه بناء على ما أُخفي عنه من تلك الحكم؛ وكذلك أفعال الله تعالى.

ومن جهة ثالثة: إن المؤمن الذي عمرت محبة الله تعالى قلبه، وأخذت عليه مجامع لبه لا يحس بوقع المصيبة، ولا يشعر بألمها، كما قيل:

. . . . . فما لجُرحٍ إذا أَرضاكم ألم ولا شك أن المحبة لا يحس بها إلا من ذاقها:

لا يعرف الوجد إلا من يكابدهولا الصبابة إلا من يعانيها ولذلك ينكرها من لم يصل إليها.

قال عامر بن قيس: (أحببتُ الله حباً هوَّن عليَّ كلَّ مصيبة، ورضَّاني بكل بليَّة، فلا أُبالي مع حبي إياه علام أصبحت وعلام أمسيت).

ثانياً: تسرَّعَ قوم فقالوا: إن الرضا يورث في المؤمن قبولاً لأعمال الفاسقين، واستحساناً لأوضاع العاصين، وهذا يؤدي إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والجواب: أن هذا الفهم خطأ ظاهر، وجهل بيّن، فهل يعقل أن يهدم المؤمن حكماً من أحكام ربه، وركناً من دعائم دينه، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! مع العلم أن الله تعالى لا يرضى عن المؤمن إلا إذا أقام دينه، واتبع شريعته.

وهل يُتصور أن يرضى المؤمن بأفعال الكافر مع أن الله تعالى لا يرضى بها كما قال تعالى: {ولا يرضى لعبادِهِ الكفرَ} [الزمر: 7].

والحقيقة أنه لا تعارض بين الرضا بالله تعالى وبين إنكار المنكَر، لأن المؤمن يرضى بأفعال الله تعالى من حيث إنها صدرت من حكيم عليم، وأنها بقضائه ومشيئته، ولا يرضى بأفعال العصاة من حيث إنها صفتهم وكسبهم، ولأنها دلالة على أنهم ممقوتون من الله تعالى.

ثالثاً: ظن قوم خطأ أن من آثار الرضا بالله تعالى أن يترك الإنسان التضرع والدعاء، ويهمل اتخاذ الأسباب لجلب الخير ودفع البلاء، ويبتعد عن استعمال الدواء عند حصول الداء.

والجواب: أن هذا فهم غير صحيح، إذ في الحقيقة أن من جملة الرضا بالله تعالى؛ أن يعمل المؤمن أعمالاً يتوصل بها إلى رضاء محبوبه سبحانه، وأن يترك كل ما يخالف أمره ويناقض رضاه.

ومما يوصل إلى رضاء الله تعالى استجابة أمره في قوله: {ادعوني أستَجِبْ لكُم} [غافر: 60]. فالدعاء مخ العبادة، وهو يورث في القلب صفاءً وخشوعاً ورقةً تجعله مستعداً لقبول الألطاف والأنوار.

ثم إن ترك الأسباب مخالف لأمر الله تعالى ومناقض لرضاه، فالله تعالى أمر بالعمل فقال: {وقُلِ اعملُوا فَسَيَرى اللهُ عمَلَكُم ورسولُه والمؤمنون} [التوبة: 105]. ودعا إلى السعي في طلب الرزق فقال: {هوَ الذي جَعَلَ لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15].

فليس من الرضا للعطشان أن لا يمد يده للماء؛ زاعماً أنه رضي بالعطش الذي هو من قضاء الله؛ بل قضاء الله وحكمه وإرادته أن يُزال العطش بالماء

وحين أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن يمنع جيش المسلمين من دخول الشام حذراً من الطاعون، قال له سيدنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: (أفراراً من قدر الله؟! فأجابه سيدنا عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نحن نفِرُّ من قدر الله إلى قدره) [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الطب باب ما يذكر في الطاعون عن ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب السلام باب الطاعون].

فليس في الرضا بالقضاء ما يستلزم الخروج عن حدود الشرع، ولكن الرضا بقضاء الله تعالى معناه ترك الاعتراض عليه تعالى ظاهراً وباطناً، مع بذل الوسع للتوصل إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وذلك بفعل أوامره وترك نواهيه.

وختاماً: فإن في سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وخلفائه وصحابته الكرام رضوان الله عليهم والتابعين والصالحين فيض من الحوادث التي تدل على تحققهم بأعلى درجات الرضا، مما يضيق المجال عن سرد الكثير منها، ضُرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف بالحجارة حتى أُدمي عقبه فتوجه إلى الله تعالى مخاطباً: ومما قال: “إن لم تكن ساخطاً عليَّ فلا أُبالي”.

وكان الصحابة الكرام يُعَذَّبُون في مكة ويقلب عليهم ألوان التنكيل والإيذاء وهم يتلقون ذلك كله بقلوب راضية، ووجوه مبتسمة، وألسنة ذاكرة.

وروي أن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قطعت رجله ومات أعز أولاده في ليلة واحدة، فدخل عليه أصحابه وعزوه فقال: (اللهم لك الحمد، كان أولادي سبعة فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، فلئن كنتَ قد أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنتَ قد ابتليتَ فقد عافيت).

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (ما بقي لي سرور إلا مواقع القدر، قيل له: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله تعالى).

واعلم أن الله تعالى لا يرضى عن عبده إلا إذا رضي العبد عن ربه في جميع أحكامه وأفعاله، وعندها يكون الرضا متبادلاً كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله: {رضيّ اللهُ عنهُم ورَضُوا عنهُ} [البينة: 8].

ولقد أدرك السادة الصوفية سر هذا التلازم والترابط بين الرضاءين، فقد كان سفيان الثوري يوماً عند رابعة العدوية فقال: (اللهم ارض عني، فقالت: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا، وأنت عنه غير راض؟! فقال: استغفر الله) [إحياء علوم الدين للغزالي ج4. ص336].

ورضاء الله تعالى عن العبد هو أسمى منزلة وأرفع رتبة وأعظم منحة قال تعالى: {ومساكِنَ طيِّبَةً في جنَّاتٍ عدْنٍ ورضوانٌ مِنَ اللهِ أكبَرُ} [التوبة: 72]. فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة، بل هو غاية مطلب سكان الجنة، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم، فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلَّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً”
[رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب صفة الجنة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:20 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
11- التوكل




تعريفه:

قال السيد رحمه الله تعالى في تعريفاته: (التوكل: هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس) [“تعريفات السيد” ص48].

وقال العارف بالله ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (التوكل: ثقة القلب بالله حتى لا يعتمد على شيء سواه، أو التعلق بالله والتعويل عليه في كل شيء، علماً بأنه عالم بكل شيء، وأن تكون في يد الله أوثق منك بما في يدك) [“معراج التشوف” ص8].

وقال بعضهم: (هو اكتفاؤك بعلم الله فيك عن تعلق القلب بسواه ورجوعك في كل الأمور إلى الله) [“دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين” للعلامة محمد بن علان الصديقي. ج2. ص2].

وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى:(التوكل: هو التصديق لله عز وجل، والاعتماد عليه، والسكون إليه، والطمأنينة إليه في كل ماضمن، وإخراج الهم من القلب بأمور الدنيا والرزق وكل أمر تكفل الله به) [“الطريق إلى الله” لأبي سعيد الخراز ص56].

فالتوكل على الله تعالى تفويض الأمر إليه، والاعتماد في جميع الأحوال عليه، والتبرؤ من الحول والقوة له، وهو مرتبة قلبية، كما يلاحظ من التعاريف السابقة وغيرها، ولهذا لا تعارض بين التوكل على الله تعالى وبين العمل واتخاذ الأسباب، إذ التوكل محله القلب، والأسباب محلها البدن. وكيف يترك المؤمن العمل بعد أن أمر الله تعالى به في كثير من الآيات الكريمة، ودعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث جمة.

فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له فقال: يا رسول الله أأرسل ناقتي وأتوكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة. وقال: غريب].

ولهذا اعتبر العلماء ترك الأسباب والتقاعس عن السعي تواكلاً وتكاسلاً لا يتفق مع روح الإِسلام، كما أكد الصوفية هذه الناحية تصحيحاً للأفكار، ورداً للشبهات، وبياناً للناس أن التصوف هو الفهم الحقيقي للإسلام.

قال القشيري رحمه الله تعالى: (التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لاتنافي التوكل بالقلب، بعد ما تحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى، وإن تعسر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره) [“الرسالة القشيرية” ص76].

وقال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: (قد يظن الجهال أن شرط التوكل ترك الكسب وتركُ التداوي والاستسلامُ للمهلكات. وذلك خطأ لأن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على التوكل، وندب إِليه فكيف يُنال ذلك بمحظوره) [“الأربعين في أصول الدين” للغزالي ص246].

وقد نبَّه السادة الصوفية السالكين إلى ناحية قلبية دقيقة، وهي أنه يجب في كل عمل من الأعمال أن يتخذوا أسبابه، مع عدم الاعتماد على تلك الأسباب أو الالتفات إليها بقلوبهم.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: (ذهب المحققون من الصوفية إلى ضرورة السعي فيما لا بد منه، ولكن لا يصح عندهم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته، والثقة بأنها لا تجلب نفعاً، ولا تدفع ضراً، والكل من الله) [“دليل الفالحين” ج2 ص3].



فضله وآثاره:

التوكل نتيجة من نتائج الإِيمان، وثمرة من ثمار المعرفة، فعلى قدر معرفة العبد بالله وصفاته يكون توكله، وإنما يتوكل على الله من لا يرى فاعلاً سواه.

والمتوكل على الله تعالى معتز به لا يذل إلا له، واثق به لا يطلب إلا منه، وقد قالوا: قبيح بالمريد أن يتعرض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه ما يريد.

ولهذا ربط الله تعالى التوكل بالإيمان فقال: {وعلى اللهِ فليَتَوَكَّلِ المتوكِّلونَ} [المائدة: 23].

وقال: {وعلى اللهِ فليَتَوَكَّلِ المؤمنونَ} [إبراهيم: 11].

ومن يتوكل على الله تعالى حق التوكل ملتجئاً إليه بصدق الحال يكرمْه بالمحبة، ويكفِه ما يهمه من محن وفتن، ويملأ قلبه غنى ويقيناً، ويزيّن ظاهره بالعفة والكرم، قال تعالى: {واللهُ يُحِبُّ المتوكلينَ} [آل عمران: 159]. وقال: {ومَنْ يتوكَّلْ على اللهِ فهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 23].

والتوكل على الله تعالى يبعث في القلوب السكينة والطمأنينة، وخصوصاً عند الشدائد والمحن. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام، حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل) [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، تفسير سورة آل عمران].

فالمتوكل على الله تعالى حقيقةً راضٍ بقضائه، مستسلم لفعله، مطمئن لحكمه، قال بشر الحافي رحمه الله تعالى: (يقول أحدكم: توكلت على الله، وهو يكذب على الله تعالى، ولو توكل على الله تعالى لرضي بما يفعله الله تعالى به) [الرسالة القشيرية ص76].

وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم التوكل، وبيّن أهميته في الحياة وقيمته في إحلال الطمأنينة في النفوس فقال: “لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بِطاناً” [رواه الترمذي في كتاب الزهد وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج4/ص318) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: الحديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين]. أي تذهب صباحاً وهي جائعة، وتعود مساءً شباعاً. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن التوكل لا يتعارض مع الأسباب، بدليل أن الطير غادرت عشها صباحاً باحثة عن رزقها معتمدة على ربها، واثقة به، ولذلك فهي لا تعرف الهم ولا الأحزان.

وقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة الإِسلامية إِلى التوكل على الله تعالى في كل حال، لاسيما عندما يخرج المرء من بيته فقال: “من قال حين يخرج من بيته: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت وكُفيت ووُقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي” [رواه أبو داود والنسائي والترمذي في كتاب الدعوات عن أنس بن مالك وقال: حديث صحيح غريب].



مراتبه:

الناس في التوكل على مراتب، لأن التوكل كغيره من مقامات السير إلى الله تعالى تتدرج مراتبه، ويسمو المؤمن في معارجه على حسب معرفته.

ولهذا عد بعض العارفين - كالغزالي وابن عجيبة رحمهما الله تعالى - للتوكل ثلاث مراتب:

فالأولى: وهي أدناها، أن تكون مع الله تعالى، كالموكِّل مع الوكيل الشفيق الملاطف.

والثانية: وهي أوسطها، أن تكون مع الله تعالى كالطفل مع أُمه لا يرجع في جميع أُموره إِلا إِليها.

والثالثة: وهي أعلاها، أن تكون مع الله تعالى كالمريض بين يدي الطبيب.

والفرق بين هذه المقامات، أن الأول قد يخطر بباله تهمة. أما الثاني فلا اتهام، ولكن يتعلق بأمه عند الحاجة. أما الثالث فلا اتهام ولا تعلق، لأنه فانٍ عن نفسه، ينظر كل ساعة ما يفعل الله به [انظر “معراج التشوف” ص8].



الخلاصة:

إن التوكل من أعظم ثمار الإِيمان والمعرفة، وأهم أسباب السعادة والطمأنينة، وقد فهمه السادة الصوفية على حقيقته، ونبهوا إلى أنه ليس بترك الأسباب والتخلي عنها، بل هو انحصار الأمل في الله، والالتجاء إلى تدبيره وحكمته، وعدمُ تعلق القلب بالأسباب، لأنها وحدها لا تغني من الله شيئاً.

وهكذا تحقق السادة الصوفية بأعلى مراتب التوكل، فقلوبهم مطمئنة بالله تعالى، معتمدة عليه، واثقة به، متوجهة إليه، مستعينة به لأنه لا فاعل في الوجود سواه.

وأبدانهم تأخذ بالأسباب امتثالاً لأمره، وتمسكاً بشرعه، واقتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:20 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
12- الشكر




تعريفه:

أورد العلماء للشكر تعاريف كثيرة، وأهمها ما ورد عن بعضهم قوله: (الشكر: هو عكوف القلب على محبة المنعِم، والجوارح على طاعته وجريانُ اللسان بذكره والثناء عليه) [“مدارج السالكين” لابن القيم ج2. ص136].

وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (هو فرح القلب بحصول النعمة، مع صرف الجوارح في طاعة المنعم، والاعترافُ بنعمة المنعم على وجه الخضوع) [“معراج التشوف” لابن عجيبة ص7].

وقال السيد رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الشكر: هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من السمع والبصر وغيرهما إلى ما خُلق لأجله) [“تعريفات السيد” ص76].

وقال العلامة ابن علان الصديقي رحمه الله تعالى: (الشكر: الاعتراف بالنعمة، والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكوراً، ومن ثَمَّ قال سبحانه: {وقليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] [“دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين” ج2، ص57].

ولا يخفى أن نعم الله تعالى على عباده أعظم من أن تُحصى، وأكثر من أن تعد، قال الله تعالى: {وإنْ تَعُدُّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصوها}

[إبراهيم: 34].

ويمكن تقسيم النعم إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

1 - دنيوية: كالصحة والعافية والمال الحلال..

2 - ودينية: كالعمل والعلم والتقوى والمعرفة بالله تعالى.

3 - وأُخروية: كالثواب على العمل الصالح القليل بالعطاء الجزيل.

وأجلُّ النعم الدينية التي يتأكد الشكر عليها نعم الإِسلام والإِيمان والمعرفة بالله تعالى، ومِنْ شُكرها اعتقادُ أنها منة من الله تعالى بلا واسطة ولا حول ولا قوة، قال الله تعالى: {ولكنَّ اللهَ حبَّبَ إليكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قلوبِكُم} [الحجرات: 7]. وقال تعالى: {ولولا فضْلُ اللهِ عليكم ورحمَتُهُ ما زكا مِنْكُم مِنْ أحَدٍ} [النور: 21].

وإن العبد المؤمن الذي يفكر في هذا الكون العظيم وما فيه من آيات الله الكبرى، يزداد اطلاعه على نعم الله تعالى عليه، مما يجعله أكثر شكراً لله، وأعظم له حباً.

ومن نعم الله تعالى على العبد نِعمٌ يسوقها له بواسطة عباد الله تعالى، كما أجرى إِحسان الله إلينا على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما ساق خيره لنا بواسطة والدَيْنَا ومربِّينا من المرشدين العارفين بالله تعالى. فعلى المؤمن أن يشكر الله تعالى لأنه المنعم الحقيقي الذي سخر الناس لجلب الخير إليه، قال تعالى: {وما بِكُمْ مِنْ نعمَةٍ فَمِنَ اللهِ}

[النحل: 53].

وعلى المؤمن أن يشكر أيضاً من جعله الله تعالى سبباً لنعمه، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يشكر الله من لا يشكر الناس” [أخرجه أبو داود في سننه في باب شكر المعروف عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال العلامة الخطابي رحمه الله تعالى في معالم السنن ج4 ص113، شارحاً لهذا الحديث: (هذا الكلام يتأول على وجهين: أحدهما: أن مَنْ كان من طبعه وعادته كفران نعمة الناس، وتركُ الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله وتركُ الشكر له سبحانه. الوجه الآخر: أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس، ويكفر معروفهم، لاتصال أحد الأمرين بالآخر)].

ولقد دعانا الله تعالى إلى شكره وشكر والدَيْنَا اللَّذَيْن جعلهما سبباً في إِيجادنا وسَوق كثير من النعم إِلينا بواسطتهما فقال: {أنِ اشكرْ لي ولوالديكَ إليَّ المصيرُ} [لقمان: 14].

وأيسر الشكرين شكر العباد، فمَنْ ضيَّع شكر العباد كان لشكر الله عز وجل أضيع.



أقسامه:

من تعاريف الشكر السابقة وغيرها يمكن القول بأن للشكر أقساماً ثلاثة: شكر اللسان، وشكر الأركان، وشكر الجَنان.

1 - أما شكر اللسان: فهو التحدث بنعم الله تعالى، امتثالاً لقوله تعالى: {وأمَّا بنعمَةِ ربِّكَ فحَدِّثْ} [الضحى: 11].

وتطبيقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: “التحدث بنعمة الله شكر” [رواه الإمام أحمد في مسنده عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ج4 ص375].

وقيل: مَنْ كتم النعمة فقد كفرها، ومَنْ أظهرها ونشرها فقد شكرها.

ولذلك كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الشخصية المثالية في الشكر والحمد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “عَرض عليَّ ربي، ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً، وقال: ثلاثاً أو نحو هذا، فإذا جعتُ تضرعتُ إليك، وذكرتك، وإذا شبعتُ شكرتُك وحمدْتُك” [رواه الترمذي في كتاب الزهد عن أبي أمامة رضي الله عنه وقال: حديث حسن].

وكذلك رغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحمد. كما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: “أن عبداً من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، فعضَّلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا! إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله - وهو أعلم بما قال عبده ـ: ماذا قال عبدي؟ قالا: إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك. فقال الله عز وجل لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها” [رواه ابن ماجه في كتاب الأدب].

2 - وأما شكر الأركان: فهو العمل لله تعالى، قال تعالى مشيراً إلى أن الشكر هو العمل: {اعملوا آلَ داودَ شُكْراً} [سبأ: 13]. وقد أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عملياً، حين كان يقوم الليل، كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: “أفلا أكون عبداً شكوراً” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق ومسلم في صحيحه في كتاب صفات المنافقين والترمذي في أبواب الصلاة].

3 - وأما شكر الجَنان: فهو أن تشهد أن كل نعمة بك أو بأحد من العباد هي من الله تعالى، قال تعالى: {وما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]. فلا تحجبك رؤية النعم عن رؤية المنعم، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة حيث قال: “من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته” [رواه أبو داود في سننه في باب ما يقول إذا أصبح، والنسائي واللفظ له].

وفي الآثار أن موسى عليه السلام قال: (يا رب خلقتَ آدم بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء، وفعلت، وفعلت، فكيف أطاقَ شكرك؟ قال الله عز وجل: علم أن ذلك مني، فكانت معرفته بذلك شكراً) [“مدارج السالكين” لابن القيم ج2. ص137].

وعلى هذا فإن المؤمن يرى أن من نعم الله عليه أَنْ وفَّقَه لشكره والثناء عليه، كماقال داود عليه السلام: (يا رب كيف أشكرك وشكري نعمة عليّ من عندك تستوجب بها شكراً؟ قال: الآن شكرتني يا داود) [“مدارج السالكين” لابن القيم ج2. ص137].





مراتب الشاكرين:

الناس في تحققهم بالشكر على مراتب متفاوتة:

- فالعوام يشكرون الله على النعم فقط.

- والخواص يشكرون الله على النعم والنقم، ويشهدون فضله وإِنعامه عليهم في جميع أحوالهم، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على مَنْ تصيبه نقمة فيقابلها بالحمد باللسان، والرضا بالجنان دون أن يسمح للشيطان أن يقذف في قلبه اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى. ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع [حمدك: قال الحمد لله. استرجع: قال إنا لله وإنا إليه راجعون]، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد” [رواه الترمذي في كتاب الجنائز وقال: حديث حسن]. وقال صلى الله عليه وسلم: “أول ما يُدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله عز وجل في السراء والضراء” [رواه الحاكم في “المستدرك” ج1. ص502. وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي].

- وشكر خواص الخواص: غيبتهم في المنعم عن رؤية النعم والنقم وفي هذا المعنى قال الشبلي رحمه الله تعالى: (الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة) [“الرسالة القشيرية” ص81].





فضله:

الشكر من أعلى المقامات، لأنه يشمل القلب واللسان والجوارح، ولأنه يتضمن الصبر والرضا والحمد وكثيراً من العبادات البدنية والقلبية، ولهذا أمر الله تعالى به، ونهى عن ضده، وهو الكفر والجحود، فقال: {واشكروا لي ولا تكفرونَ} [البقرة: 152].

والشكر من أعظم صفات الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام. قال الله تعالى في وصف خليله سيدنا إبراهيم عليه السلام: {إنَّ إبراهيمَ كانَ أمَّةً قانتاً للهِ حنيفاً ولَمْ يَكُ مِنَ المشركينَ . شاكراً لأنْعُمِهِ} [النحل: 120ـ121]. وقال تعالى عن سيدنا نوح عليه السلام: {إنَّهُ كانَ عبْداً شكوراً} [الإسراء: 3]. أما حبيب الله ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان يجهد نفسه في العبادة وإحياء الليالي، والقيام بين يدي ربه خاشعاً متبتلاً متحققاً بمقام الشكر، ولهذا لما سئل عن سبب قيامه وإجهاد نفسه، حتى تورمت قدماه قال: “أفلا أكون عبداً شكوراً” [أخرجه البخاري في صحيحه وقد مر ص312].

وقد ظن السائل أن سبب العبادة هو طلب المغفرة وقد غفر الله تعالى له صلى الله عليه وسلم، ولكن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم رفع همة السائل إلى مقام الشكر الذي هو أعلى مقامات العبدية.

وكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خيرَ مَنْ تحقق بالشكر؛ كذلك كان يدعو أصحابه رضي الله عنهم وسائر المؤمنين إلى التحقق بهذا المقام العظيم والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء عقب كل صلاة، أن يمن الله عليهم بالإعانة على الذكر والشكر، فقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: “أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” [رواه أبو داود في سننه في باب الاستغفار، ورواه النسائي في كتاب الافتتاح ورواه الحاكم في “المستدرك” ج1. ص499. وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي].

ولِعُلوِّ مقام الشكر ورفعة منزلته كان مرتقاه صعباً، والتحقق به يحتاج إلى مجاهدات وسلوك، مع الصدق والصبر والاستقامة، ولهذا كان الشاكرون نادرين، لأن الكرام قليل، وقد وصفهم الله بالقلة حين قال: {وقليلٌ مِنْ عبَادِيَ الشكورُ} [سبأ: 13].

كما وصَفَ مُعظمَ الناس بعدم الشكر، بالرغم من نعم الله عليهم وسعة فضله وجوده، قال تعالى: {وإنَّ ربَّكَ لذو فضلٍ على الناسِ ولكنَّ أكثَرَهُم لا يشكُرُونَ} [النمل: 73].

ولهذا فإن الله تعالى كثيراً ما يذكِّر الناس في القرآن الكريم بنعمه الكبرى ومننه العظمى، وكثيراً ما يدعو إلى التفكر في الكون، كي ندرك ما أحاطنا به من جلائل النعم وبدائع الإِحسان، مما يعجز الإِنسان عن تعداده والإحاطة به. كل ذلك كي نشكره تعالى حق الشكر، قال تعالى: {واللهُ أخرَجَكُم مِنْ بُطونِ أُمَّهاتِكُم لا تعلَمُونَ شيئاً وَجَعَلَ لكُمُ السمعَ والأبصارَ والأفئدَةَ لَعَلَّكُم تشكرونَ} [النحل: 77].

وقد وصف الله تعالى الإِنسان العاقل الذي يتمتع بالنضوج الفكري والكمال الإِنساني، ويبلغ سن الأربعين، بأنه يرى نعم الله المحيطة به، ويشهد فضل الله عليه، فيلجأ إلى الله تعالى ضارعاً أن يوفقه للشكر. قال تعالى: {حتى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ وبَلَغَ أربعينَ سنةً قال ربِّ أوزعني أنْ أشكُرَ نِعمَتَكَ التي أنْعَمْتَ عليَّ وعلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالحاً تَرضاهُ} [الأحقاف: 15]

وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة الذي يتنعم برزق الله ويشكره بمنزلة الذي يعاني العبادات ويصبر على مشقتها، فقال: “الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر” [أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن أبي هريرة رضي الله عنه].

ثم إن الشكر هو خير وسيلة لبقاء النعمة واستمرارها، وقد قيل: عقال النعمة الشكر. وقال ابن عطاء الله رحمه الله تعالى في حكمه: (مَنْ لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومَنْ شكرها فقد قيَّدَها بعقالها) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لابن عجيبة ج1. ص100].

كما أن عدم الشكر ومقابلة النعم بالكفر والجحود يورث غضب الله تعالى وعقابه وسلب نعمته، كما قال تعالى: {وضَرَبَ اللهُ مثلاً قريةً كانَتْ آمِنَةً مطمَئِنَّةً يأتيها رزقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مكانٍ فَكَفَرَتْ بأنْعُمِ اللهِ فأذاقَها اللهُ لِباس الجُوعِ والخوفِ بما كانوا يصنعونَ} [النحل: 112].

وقد وعد الله تعالى المؤمنين أن يزيد نعمه عليهم إِذا هم قابلوها بالشكر فقال: {لئِنْ شكرتُمْ لأزيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

والحقيقة أن الشاكر يجلب الخير لنفسه، حين يشكر الله تعالى؛ إِذ يغنم بشكره مزيد نعم الله تعالى عليه، واستمرار فضله، وعظيم حبه وجميل ثنائه قال تعالى: {ومَنْ شَكَرَ فإنَّما يشكُرُ لِنَفسِهِ ومَنْ كَفَرَ فإنَّ ربِّي غنِيٌّ كريمٌ} [النمل: 40].

وبعد أن تحقق السادة الصوفية بالشكر، وعرفوا جليل مقامه وكبير فضله، دعوا الناس إِليه، ورغَّبوا كل من يكرمه الله تعالى بنعمةٍ دنيوية أو أُخروية أن لا ينشغل بها، بل أن يسلك طريق الشكر كي يفوز بمزيد النعم ودوام التوفيق. قال أبو حمزة البغدادي رحمه الله تعالى: (إذا فتح الله عليك طريقاً من طرق الخير فالزمه، وإِياك أن تنظر إِليه وتفتخر به، ولكن اشتغل بشكر من وفقك لذلك، فإنَّ نظرك إليه يسقطك عن مقامك، واشتغالك بالشكر يوجب لك منه المزيد لأن الله تعالى يقول: {لئِنْ شكرتُم لأزيدَنَّكُم} [إبراهيم: 7] [“طبقات الصوفية” للسلمي ص298].

ولذا طرق السادة الصوفية باب شكر الله تعالى على جميع أحوالهم وحمدوا الله تعالى في سائر شؤونهم، وشهدوه الفاعل المطلق والمنعم المتفضل والبر الرحيم، والشكور الكريم، فوقعوا على أعتابه متذللين، ولجنابه طالبين، في قلوبهم نور المعرفة، وفي ألسنتهم آيات الحمد والثناء، وفي أعمالهم أحكام الشريعة الغراء، مقتفين بذلك أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم في نهجهم القويم وطريقهم المستقيم.



تنبيه:

بنهاية بحث الشكر نكون قد أتممنا الباب الثالث المتعلق بطريق الوصول إلى الله تعالى. ولكن ينبغي الإِشارة إلى أن هذه المقامات التي أوردناها في كتابنا هذا ليست كل مقامات السير، إِذ الحقيقة أن هناك مقاماتٍ كثيرةً، فقد ذكر شيخنا محمد الهاشمي رحمه الله تعالى تفاصيلها، فقال: (ومنهم من جعلها مائة وسماها منازل السائرين إلى الله تعالى. وقد ألف شيخ الإِسلام أبو إِسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي الفقيه الحنبلي المفسر الصوفي المتوفى سنة 481هـ في ذلك رسالةً، ذكرَ فيها مائة منزلة، وأجاد في تقسيمها وإيضاحها، وأفاد الراغبين في الوقوف عليها، وسماها: منازل السائرين إلى الحق عز شأنه) [“شرح شطرنج العارفين” لسيدي الشيخ محمد الهاشمي رحمه الله ص12].








عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:21 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
الباب الرابع

من ثمرَات التصوف

1ـ الحب الإِلهي. 2ـ الكشف. 3ـ الإِلهام. 4ـ كرامات الأولياء.

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:21 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
1- الحب الإلهي





المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إِدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق والأنس والرضا.. ولا قبل المحبة مقام إِلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد.. [“الإحياء” للإمام الغزالي كتاب المحبة والشوق ج13. ص2570].

والمحبة لا تُحدُّ بحد أوضح منها، والتعاريف والحدود لا تزيدها إِلا خفاءً، فتعريفها وُجودها؛ إِذ التعاريف للعلوم. أما المحبة فهي حالة ذوقية تفيض على قلوب المحبين، ما لها سوى الذوق إِفشاء. وكل ما قيل في المحبة ما هو إِلا بيان لآثارها، وتعبير عن ثمارها، وتوضيح لأسبابها.

قال الشيخ الأكبر ابن عربي الحاتمي رحمه الله تعالى: (واختلف الناس في حدّها، فما رأيت أحداً حدَّها بالحد الذاتي، بل لا يتصور ذلك، فما حدَّها مَنْ حدّها إِلا بنتائجها وآثارها ولوازمها، ولاسيما وقد اتصف بها الجناب الإِلهي العزيز وهو الله. وأحسن ما سمعت فيها ما حدثنا به غير واحد عن أبي العباس الصنهاجي، قالوا: سمعناه وقد سئل عن المحبة، فقال: الغيرة من صفات المحبة، والغيرة تأبى إِلا الستر، فلا تُحد) [“الفتوحات المكية” لابن عربي الحاتمي الطائي. الباب الثامن والسبعون بعد المئة في معرفة مقام المحبة].

وقال ابن الدباغ رحمه الله تعالى: (فإن المحبة لا يعبِّر عنها حقيقة إلا مَنْ ذاقها، ومن ذاقها استولى عليه من الذهول على ما هو فيه أمر لا يمكنه معه العبارة، كمثل من هو طافح سكراً، إِذا سئل عن حقيقة السكر الذي هو فيه، لم يمكنه العبارة في تلك الحال؛ لاستيلائه على عقله. والفرق بين السكرين: أن سكر الخمر عرضي، يمكن زواله، ويعبر عنه في حين الصحو، وسكر المحبة ذاتي ملازم، لا يمكن من وصل إِليه أن يصحو عنه، حتى يخبر فيه عن حقيقته، كما قيل:

يصحو من الخمر شاربوها والعشق سكر على الدوام [“مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب” لعبد الرحمن بن محمد الأنصاري المعروف بابن الدباغ ص21]. لذلك لما سئل الإِمام الجنيد رحمه الله تعالى عن المحبة، كان جوابَه فيضانُ الدموع من عينيه، وخفقان القلب بالهيام والشوق، ثم عبر عما يجده من آثار المحبة.

قال أبو بكر الكتاني رحمه الله تعالى: (جرتْ مسألةٌ في المحبة بمكة أعزها الله تعالى أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه، ودمعت عيناه ثم قال: عبدٌ ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إِليه بقلبه، أحرق قلبه أنوارُ هيبته، وصفاء شربه من كأس وُدِّه، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإِن تكلم فبالله، وإِن نطق فعن الله، وإِن تحرك فبأمر الله، وإِن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جزاك الله يا تاج العارفين) [“مدارج السالكين” ج3. ص11].



دليلها وفضلها:

الأدلة على محبة الله لعبده، ومحبة العبد لربه كثيرة. قال الله تعالى: {يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وقال تعالى: {والذين آمنوا أشَدُّ حُبّاً للهِ} [البقرة: 165]. وقال تعالى: {قل إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ ويغفِرْ لكُمْ ذنوبَكُم} [آل عمران: 31]. ويحببكم الله: دليل على المحبة وفائدتها وفضلها.

وفي السنة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث مَنْ كنَّ فيه وجد حلاوة الإِيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إِليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إِلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله تعالى: مَنْ عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إِليَّ عبدي بشيء أحبَّ إِليَّ من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إِليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإِذا أحببتُه كنتُ سمعُه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإِن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب التواضع].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذا أحب الله العبد دعا جبريلَ فقال: إِني أحب فلاناً فأحبَّه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إِن الله يحب فلاناً فأحِبُّوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كان من دعاء داود عليه السلام: اللهم إِني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إِلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد”[أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات وقال: حسن غريب]:

والقرآن والسنة مملوءان بذكر مَنْ يحبه الله من عباده، وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم كقوله تعالى: {واللهُ يُحِبُّ الصابرينَ} [آل عمران: 146]. {واللهُ يُحِبُّ المحسنينَ} [المائدة: 93]. {إنَّ اللهَ يُحِبُّ التوابينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ} [البقرة: 222]. وقوله في ضد ذلك: {واللهُ لا يُحِبُّ الفسادَ} [البقرة: 205]. {واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مختالٍ فخورٍ} [الحديد: 23]. {واللهُ لا يُحِبُّ الظالمينَ} [آل عمران: 57].

وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الله ورسوله من شرائط الإِيمان في أحاديث كثيرة فقال: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إِليه من أهله وماله والناس أجمعين” [رواه البخاري ومسلم في صحيحهما في كتاب الإيمان عن أنس رضي الله عنه].

وقد وجه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أصحابه للمحبة، لما لها من الأثر العظيم والمقام الرفيع، ولَفَتَ أنظارهم إِلى نعمه تعالى وبالغ إِفضاله، ثم بيَّن لهم أنَّ حبهم لله يقتضي حبهم لحبيبه الأعظم عليه الصلاة والسلام، كما أنَّ حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوصلهم إِلى حب الله تعالى. قال عليه الصلاة والسلام: “أَحِبُّوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأَحِبّوني بحب الله” [رواه الترمذي في كتاب المناقب وقال: حسن غريب رواه الترمذي في كتاب المناقب وقال: حسن غريب].

وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم المحبين بالمعية مع محبوبهم، فقد روى أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله؟ قال: “ما أعددتَ لها؟” قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله. قال: “أنت مع مَنْ أحببتَ”. قال أنس: فقلنا ونحن كذلك؟ قال: “نعم”. ففرحنا بها فرحاً شديداً [رواه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب، ومسلم في صحيحه في كتاب البر عن أنس رضي الله عنه].

والأحاديث في المحبة كثيرة، وكلها تشير إِلى عظيم فضلها، وبالغ أثرها، وحين تحقق الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم بمحبة الله ورسوله بلغوا أوج الكمال في الإيمان والأخلاق والتضحية، وأنستهم حلاوة المحبة مرارة الابتلاء وقساوة المحن، وحملهم دافع المحبة على بذل الروح والمال والوقت، وكلِّ غالٍ ونفيسٍ في سبيل محبوبهم لعلهم يحوزون رضوانه وحبه.

والحقيقة أن الإِسلام أعمال وتكاليف وأحكام، وروحه المحبة، والأعمال بلا محبة أشباح لا حياة فيها.



الأسباب المورثة للمحبة:

ذكر العلماء من الأسباب المورثة للمحبة أموراً كثيرة، وأهمها عشرة:

أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.

الثاني: التقرب إِلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإِنها توصل إِلى درجة المحبوبية بعد المحبة.

الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا التذكر.

الرابع: إِيثار محابِّه على محابِّك عند غلبة الهوى، والتسنُّمُ إِلى محابِّه وإِنْ صعب المرتقى.

الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتُها ومعرفتها، وتقلبُه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبَّه لا محالة.

السادس: مشاهدة بره وإِحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإِنها داعية إِلى محبته.

السابع: انكسار القلب بكليته بين يديه تعالى تذللاً وتواضعاً.

الثامن: الخلوة به وقت التجلي الإِلهي لمناجاته لاسيما في الأسحار، وتلاوةُ كلامه، والوقوفُ بالقلب والتأدبُ بين يديه، ثم ختْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة.



التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، كما ينتقي أطايب الثمر. ومن الأدب في مجالستهم ألاَّ تتكلم في حضرتهم إِلا إِذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمتَ أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.

العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل [انظر كتاب “مدارج السالكين” ص11 -12].

فمن هذه الأسباب وغيرها وصل المحبون إِلى منازل المحبة.



علامات المحبة:

كثير من الناس من يدَّعي محبة الله ورسوله، وما أسهل دعوى اللسان. فلا ينبغي للإِنسان أن يغتَرَّ بخداع النفس، بل عليه أن يعلم أن للحب علامات تدل عليه، وثماراً تظهر في القلب واللسان والجوارح، فإِذا أراد ألاَّ يغش نفسه فلْيضعْها في موازين الحب، ولْيمتحْنها بعلاماته، وهي كثيرة، منها:

1 - حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام، فلا يُتصور أن يحب القلب محبوباً إِلا ويحب مشاهدته ولقاءه، وإِذا علم أنه لا وصول إِلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت، فعليه أن يكون محباً للموت غير فارٌّ منه، لأن الموت مفتاح اللقاء. قال عليه الصلاة والسلام: “مَنْ أحب لقاء الله أحب الله لقاءه” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق، ومسلم في صحيحه في كتاب الذكر، باب من أحب لقاء الله]. ولهذا كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، يحبون الشهادة في سبيل الله، ويقولون حين يُدَعْون للمعركة: مرحباً بلقاء الله.

2 - أن يكون مؤثِراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيلزم الطاعة، ويجتنب الكسل واتباع الهوى، ومَنْ أحبَّ الله لا يعصيه، ولذلك قال ابن المبارك رحمه الله تعالى:

تعصي الإِلهَ وأنتَ تُظهر حبَّه هذا لَعمري في القياس بديعُ

لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه إِنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ



وفي هذا المعنى قيل أيضاً:

وأَتركُ ما أهوى لما قد هويتَه فأرضى بما ترضى وإِن سخطتْ نفسي



فطاعة الله تعالى ومحبته تستلزم اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال والأخلاق، قال تعالى: {قل إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون الله فاتَّبِعوني يُحبِبْكُم اللهُ ويغْفِرْ لكم ذنوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

3 - أن يكون مكثراً لذكر الله تعالى، لا يفتُرُ عنه لسانه، ولا يخلو عنه جنانه، فمَنْ أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره.

خيالُكَ في قلبي وذِكرُكَ في فمي ومثواكَ في قلبي فأين تُغيَّبُ

4 - أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاتهِ لله تعالى وتلاوةِ كتابه، فيواظب على التهجد ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت، فأقل درجات المحبة التلذذُ بالخلوة بالحبيب، والتنعمُ بمناجاته.

5 - أن لا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عز وجل، ويُعظمَ تَأسفَه على فوت كل ساعة خلتْ عن ذكر الله وطاعته، فيكثر رجوعه عند الغفلات، بالاستعطاف والتوبة.

6 - أن يتنعم، ويتلذذ بالطاعة، ولا يستثقلها، ويسقطَ عنه تعبها.

7 - أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله رحيماً بهم، شديداً على جميع أعداء الله، كما قال تعالى: {أشدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بينَهُم}

[الفتح: 29].

8 - أن يكون في حبه خائفاً متفائلاً تحت الهيبة والتعظيم، وقد يُظن أن الخوف ينافي الحب، وليس كذلك، بل إِدراك العظمة يوجب الهيبة كما أن إِدراك الجمال يوجب الحب، وللمحبين مخاوف على حسب مراتبهم، كخوف الإِعراض وخوف الحجاب وخوف الإِبعاد. ولذا قال بعض المحبين:

الحبيب عرفته وأنا منه خائف لا يحبك إِلا من هو بك عارف

9 - كتمان الحب، واجتناب الدعوى، والتوقي من إِظهار الوجد والمحبة تعظيماً للمحبوب وإِجلالاً له، وهيبة منه، وغَيْرة على سره، وبعض المحبين عجز عن الكتمان فقال:

يخفي فيبدي الدمعُ أسرارَه ويُظهر الوجد عليه النَّفَسُ

وبعضهم قال:

ومَنْ قلبه مع غيره كيف حاله؟ ومَنْ سره في جفنه كيف يكتم؟

10 - الأنس بالله والرضا به. وعلامة الأنس بالله عدمُ الاستئناس بالخلق والتلذذُ بذكر الله، فإِن خالطهم فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة. قال علي كرم الله وجهه في وصف المحبين المستأنسين بالله: هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، واستلانوا بما استوعر المُتْرفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إِلى دينه [نظر كتاب المحبة والشوق من “إِحياء علوم الدين” للغزالي، و”الفتوحات المكية” لابن عربي].



مراتب المحبة:

ذكر العلماء للمحبة مراتب عشراً:

أولها العلاقة: وسميت بذلك لتعلق القلب بالمحبوب.

الثانية الإِرادة: وهي ميل القلب إِلى محبوبه وطلبهُ له.

الثالثة الصبابة: وهي انصباب القلب إِلى المحبوب بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماءِ في المنحدر.

الرابعة الغرام: وهو الحب اللازم للقلب لا يفارقه، بل يلازمه كملازمة الغريم لغريمه.

الخامسة الوداد: وهو صَفوُ المحبة، وخالصها، ولبها.

السادسة الشغف: وهو وصول الحب إِلى شغاف القلب. قال الإِمام الجنيد رحمه الله تعالى: الشغف أن لا يرى المحب جفاءً، بل يراه عدلاً منه ووفاءً.

وتعذيبُكم عذبٌ لديَّ وجَوْرُكم عليَّ بما يقضي الهوى لكمُ عدلُ



السابعة العشق: وهو الحب المفرط الذي يُخاف على صاحبه منه.

الثامنة التتيُّم: وهو التعبد والتذلل، يقال: تيَّمه الحب أي ذَلَّلَهُ وعبَّده.

التاسعة التعبد: وهو فرق التتيم، فإِن العبد لم يبق له شيء من نفسه.

العاشرة الخلة: انفرد بها الخليلان إِبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه، حتى لم يبقَ موضع لغير المحبوب [انظر كتاب “مدارج السالكين” ص18].

وقد رأى الصوفية أن سر هذه الحياة يقوم على حرفين اثنين: الحاء والباء:

وأحسنُ حالة الإِنسان صدقٌ وأكملُ وصفِه حاءٌ وباءُ

فالتكاليف تَسْهلُ وتَلَذُّ إِذا ما وُجِدَ الحب:

لولاك يا سِرَّ الوجود ما طاب عيشي ولا وجودي

ولا ترَنَّمْتُ في صلاتي ولا ركوعي ولا سجودي



وإِذا تمكن الحب من القلب أخرج هذه الدنيا الفانية من سويدائه، وعاش صاحبه حياة طيبة منعمة، لا يعرف الهمُّ سبيلَه إِليه.

مر بعض الصوفية على رجل يبكي على قبر، فسأله عن سبب بكائه فقال: إِنّ لي حبيباً قد مات. فقال: لقد ظلمتَ نفسك بحبك لحبيب يموت، فلو أحببتَ حبيباً لا يموت لما تعذبت بفراقه.

وفي واقعنا أمثلة كثيرة عمن يسترخص موته عند يأسه من لقاء من يحبه، أو انقطاع أمله مما تعلق قلبه به من متاع زائل. فالانتحار، وحرق النفس والترامي على صخرة الموت.. أمور كلنا نسمعها عن محبين بائسين خاسرين، وقد قيل:

فإِن شئتَ أن تحيا حياةً هنيئةً فلا تتخذْ شيئاً تخافُ له فَقْدا

فأين هؤلاء من أحباب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين أحبوا الله، ورضوا به رباً، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وبالإِسلام ديناً!

فمنهم مَنْ أحب الموت، ورحب به ليلقى مِن ورائه أحبابَه.. (غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه) [قال ذلك بلال رضي الله عنه عند احتضاره. ومرَّ عزوه في صفحة 293].

ومنهم مَنْ ضحى بنفسه ودمه في ساحات الجهاد، لينال رضوان الله ويحظى بلقائه، ومنهم ومنهم.. وفرق كبير بين من يضحي بنفسه في سبيل الله تعالى، وبين من يضحي بنفسه لفقد شيء خسيس تافه:

أنت القتيلُ بأيِّ مَنْ أحببتَه فاخترْ لنفسك في الهوى مَنْ تصطفي



وأعلى وأغلى الثمرات التي يقطفها المحب، هو الحب المتبادل: {يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. والرضى المتبادل: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ورَضُوا عنْهُ} [البينة: 8]. والذكر المتبادل: {فاذكروني أذكُرْكُم} [البقرة: 152].

مر عيسى عليه السلام على طائفة من العبَّاد، قد وهنت أبدانهم، وتغيرت ألوانهم من العبادة؛ فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: نحن عباد الله تعالى. فقال: ولأي شيء تعبدتم؟ قالوا: خَوَّفَنا الله من ناره، فخفنا منها. فقال: إِن الله تعالى قد أَمَّنكم مما خفتم منه. ثم جاوزهم لآخرين أشد منهم عبادة، فقال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: شَوَّقنا الله جنتَه وما أعد فيها لأوليائه، فنحن نرجوها بعبادتنا. فقال: إِن الله أعطاكم ما رجوتم. ثم جاوزهم ومر بآخرين يتعبدون فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المحِبون لله عز وجل، لم نعبده خوفاً من ناره، ولا شوقاً إِلى جنته، ولكن حباً له وتعظيماً لجلاله؛ فقال أنتم أولياء الله حقاً، وقد أُمِرْتُ أن أُقيم معكم، وأقام بين أظهرهم [“نور التحقيق” ص84].

يشير هذا الشاهد إِلى أن الناس يتفاوتون باختلاف هممهم؛ فمنهم من يريد الدنيا؛ ومنهم من يريد الآخرة، ومنهم من يريد الله تعالى.

سمع بعض الصوفية قارئاً يقرأ: {مِنْكُم مَنْ يريدُ الدُّنيا ومِنْكُم مَنْ يريدُ الآخرة} [آل عمران: 152]. فقال: وأين من يريد الله؟!..

ولهذا قال الإِمام علي رضي الله عنه: (إِن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإِن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإِن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار).

وقيل في وصف الذين أرادوا الله، وأحبوه دون غيره:

فما مقصودُهم جناتُ عدنٍ ولا الحور الحسانُ ولا الخيامُ

سوى نظرِ الجليلِ وذا مناهم وهذا مقصدُ القومِ الكرامُ

(لله در أقوام إِذا جن عليهم الليل سمعت لهم أنين الخائف.. وإِذا أصبحوا رأيت عليهم تغير ألوان..

إِذا ما الليل أقبل كابدوهُ ويسفر عنهمُ وهمُ ركوعُ

أطارَ الشوقُ نومَهمُ فقاموا وأهلُ الأمنِ في الدنيا خشوعُ

أجسادهم تصبر على التعبد، وأقدامهم ليلَها مقيمة على التهجد، لا يُرَدُّ لهم صوت ولا دعاء، تراهم في ليلهم سجداً ركعاً، وقد ناداهم المنادي، وأطربهم الشادي:

يا رجالَ الليل جِدّوا رُبَّ صوتٍ لا يُرَدُّ

لا يقوم الليلَ إِلا مَنْ له حَزم وجِدُّ

لو أرادوا في ليلتهم ساعة أن يناموا أقلقهم الشوق إِليه فقاموا، وجذبهم الوجد والغرام فهاموا، وأنشدهم مريدُ الحضرة عن لسان الحضرة وبثَّهم، وحملهم على المناجاة وحثَّهم:

حُثُّوا مطاياكم وجِدُّوا إِن كان لي في القلوب وَجْدُ

قد آن أن تظهرَ الخبايا وتُنشَر الصحف فاستعدُّوا

الفرش مشتاقة إِليهم، والوسائد متأسفة عليهم، النوم قرَّم إِلى عيونهم [قال في “القاموس”. القرَم محركة: شدة شهوة اللحم، وكثر حتى قيل في الشوق إِلى الحبيب. ج4. ص163. وكأنه يقول: النوم مشتهى إِلى عيونهم، إِلا أن الشوق إِلى الله تعالى أبعد النوم عن عيونهم]، والراحة مرتاحة إِلى جنوبهم. الليل عندهم أجلُّ الأوقات في المراتب، ومُسامرهم عند تهجدهم يرعى الكواكب. هجروا المنام في الظلام، وقلدوا بطول المقام، وناجَوْا ربهم بأطيب كلام، وأنِسوا بقرب الملك العلاَّم، لو احتجب عنهم في ليلهم لذابوا، ولو تغيَّب عنهم لحظة لما طابوا.. يديمون التهجد إِلى السحر ويتوقعون ثمر اليقظة والسهر..

بلغنا أن الله تبارك وتعالى يتجلى للمحبين، فيقول لهم: مَنْ أنا؟ فيقولون: أنت مالك رقابنا، فيقول: أنتم أحبتي، أنتم أهل ولايتي وعنايتي هاوجهي فشاهدوه، ها كلامي فاسمعوه، ها كأسي فاشربوه: {وسَقاهُمْ ربُّهم شراباً طَهوراً} [الدهر: 21].. إِذا شربوا طابوا، وإِذا طابوا طربوا، وإِذا طربوا قاموا، وإِذا قاموا هاموا.

لمّا حملتْ ريح الصبا قميصَ يوسف، لم يفضض ختامَه إِلا يعقوبُ.. ما عرفه أهل كنعان ومِنْ عندهم خرجَ، ولا يهوذا وهو الحامل [كتاب “نهر الذهب في أخبار من ذهب” للشيخ كامل بن حسين الحلبي الشهير بالغزي ج2. ص191 و192].

والحب فطرة في النفس الزكية، تنزع بها إِلى تفهم حقيقتها والشوق إِلى التعرف على خالقها. ويزداد الحب كلما ازداد الإِيمان، وبمقدار كمال النفس يكون الحب، وعلى قدر الحب تكون السعادة ويكون النعيم. وحب الله تعالى يسمو بالذوق الإِنساني؛ إِذ يحوّل صاحبه إِلى لطيفة راضية مطمئنة.

ولقد جرّد الصوفية الحب عن المطامع والشهوات، وأخلصوا الحب لله تعالى، فليس في حبهم علة، ولا لعشقهم دواء إِلا رضى مولاهم، تقول رابعة العدوية رحمها الله تعالى:

كلُّهم يعبدون من خوفِ نارٍ ويرون النجاةَ حظاً جزيلا

أوْ لكي يسكنوا الجِنانَ فيحظَوا بكؤوسٍ ويشربوا السلبيلا

أو يقيموا بين القصورِ جميعاً أنا لا أبتغي بحِبِّي بديلا



ومعنى ذلك أنها لا ترى الحياة إِلا حباً في الله، ووقوفاً عند أوامره ونواهيه، لأن المحب لمن يحب مطيع. ولبعض المحبين:

فليتَك تحلو والحياةُ مريرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غضابُ

وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ

إِذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هينٌ وكلُّ الذي فوقَ الترابِ ترابُ



ولقد عرف الصوفية طريق الحب فساروا فيه..

قال الله تعالى في الحديث القدسي: “وما تقربَ عبدي بشيء أحبَّ إِليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إِليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإِذا أحببْتُه كنت سمعَهُ الذي يسمع به، وبصرَهُ الذي يبصر به، ويدَهُ التي يبطشُ بها، ورجلَهُ التي يمشي بها، وإِنْ سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب التواضع عن أبي هريرة رضي الله عنه].



وهو أصل السلوك إِلى الله تعالى، والوصول إِلى معرفته.

سئل ذو النون المصري رحمه الله تعالى عن المحبة فقال: (أن تحب ما أحب الله، وتبغض ما أبغض الله، وتفعل الخير كله، وترفض كل ما يشغل عن الله، وأن لا تخاف في الله لومةَ لائم، مع العطف على المؤمنين، والغلظة على الكافرين، واتِّباعِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص18].



وقال أيضاً: (من علامات المحب لله، متابعةُ حبيب الله في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص18].

وقال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: (من أحب الله علَّم نفسه التواضع، وقطع عنها علائق الدنيا، وآثر الله تعالى على جميع أحواله، واشتغل بذكره، ولم يترك لنفسه رغبة فيما سوى الله تعالى، وقام بعبادته..) [“البرهان الؤيد” للسيد أحمج الرفاعي ص59].

وقال محمد بن علي الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى: (حقيقة محبته دوام الأنس بذكره)[“طبقات الصوفية” ص219].

وقال ابن الدباغ رحمه الله تعالى: (ولما كان مطلبَ ذوي العقول الكاملة والنفوس الفاضلة نَيْلُ السعادة القصوى التي معناها الحياة الدائمة في الملأ الأعلى، ومشاهدةُ أنوار حضرة قدس المولى، والتلذذُ بمطالعة الجمال الإِلهي الأسنى، ومعاينة مطالع النور القدس الأبهى. وهذه السعادة لا تحصل إِلا لنفس زكية، قد سبقتْ لها في الأزل العنايةُ الربانية، بتيسيرها لسلوك الطرق العلمية والعملية المفضيات بها إِلى المحبة الحقيقية، والشوق إِلى الأنوار الإِلهية؛ وبحصول هذه السعادة يحصل للنفوس العارفة من اللذة والابتهاج ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فيجب على كل ذي لب المبادرةُ إِلى تحصيل هذا الأمر الجليل، وورود هذا المورد السلسبيل الذي لم يصل إِليه من الناس إِلا القليلُ. فالعاشق يحنُّ إِلى هذا الموطن الجليل، وينجذب جملة إِلى ظله الظليل ونسيمه العليل، وورودِ منهله العذب، فلا يشيم البرقَ إِلا لأنه يأتي من ذلك الجناب الرفيع، ويخبر عن سر جماله البديع؛ فلهذا كان لَمعانُ البُروق يقطع بالشوق أفلاذ كبد المشوق) [“مشارق أنوار القلوب” لابن الدباغ المتوفى سنة 696هـ. ص36].

بمثل هذا الذوق وصل الصوفية إِلى الاطمئنان والرضا في ظلال الحب الإِلهي، ورأوا متعاً روحية دونها متع الحياة وشهواتها. وحسبهم أنهم يُسَرّون مع الله، وينعمون بقربه، ويشعرون بفضله وجوده {رَضِيَ اللهُ عنْهُم ورَضُوا عنْهُ} [البينة: 8]. {يُُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. فاختارهم بعد ما أحبّهم ورضي عنهم، أولئك خلاصة خلقه، وخواص أحبابه، فقيل فيهم:





قومٌ أَخلصوا في حُبِّه فاختارهم ورضي بهم خُدَّاما

قومٌ إِذا جَنَّ الظلامُ عليهمُ أبصرْتَ قوماً سجداً وقياما

يتلذذون بذكره في ليلهم ويكابدون به النهارَ صياما

فسيغنمون عرائساً بعرائسٍ ويُبَوَّؤن من الجِنان خياما

وتَقَرُّ أعينُهم بما أُخفِي لهم وسيسمعون من الجليل سلاما

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:22 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
2- الكشف




تعريفه:



قال السيد رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الفِراسة في اللغة: التثبت والنظر، وفي اصطلاح أهل الحقيقة: هي مكاشفة اليقين، ومعاينة الغيب) [تعريفات السيد ص110].

وقال العارف بالله ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (الفراسة هي خاطر يهجم على القلب، أو وارد يتجلى فيه، لا يخطىء غالباً إِذا صفا القلب، وفي الحديث: “اتقوا فراسة المؤمن، فإِنه ينظر بنور الله” [رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في كتاب التفسير]. وهي على حسب قوة القرب والمعرفة، فكلما قوي القرب، وتمكنت المعرفة صدقت الفراسة، لأن الروح إِذا قربت من حضرة الحق لا يتجلى فيها غالباً إِلا الحق [“معراج التشوف” ص18].

والكشف نور يحصل للسالكين في سيرهم إِلى الله تعالى؛ يكشف لهم حجاب الحس، ويزيل دونهم أسباب المادة نتيجة لما يأخذون به أنفسهم من مجاهدة وخلوة وذكر [قال حجة الإِسلام الغزالي رحمه الله تعالى: (إِن جلاء القلب وإِبصاره يحصل بالذكر، وإِنه لا يتمكن منه إِلا الذين اتقوا، فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى). “إِحياء علوم الدين” للغزالي ج3. ص11]. فتنعكس أبصارهم في بصائرهم، فينظرون بنور الله وتنمحي أمامهم مقاييس الزمان والمكان، فيطَّلعون على عوالمَ من أمر الله اطلاعاً لا يستطيعه مَنْ لا يزال في قيد الشهوات والشكوك والبدع العقائدية والوساوس الشيطانية، ولا تتسع له إِلا تلك القلوب النيّرة السليمة التي زالت عنها ظلمات الدنيا وغواشيها، وانقشعت عنها غيوم الشكوك ووساوسها، وكثافةُ الماديات وأوضارها.

نعم إِنَّ من غض بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وعمَّر باطنه بمراقبة الله تعالى، وتعوَّد أكل الحلال لم يخطىء كشفه وفراسته، ومن أطلق نظره إِلى المحرمات تنفست نفسه الظلمانية في مرآة قلبه فطمست نورها.

ويرجع هذا الكشف إِلى أن العبد إِذا انصرف عن الحس الظاهر إِلى الحس الباطن تغلبت روحه على نفسه الحيوانية المتلبسة ببدنه - والروح لطيفة كشَّافة - فيحصل له حينئذ الكشف، ويتلقى واردات الإِلهام.

يقول المؤرخ ابن خلدون رحمه الله تعالى فيما نحن بصدده: (ثم إِن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إِدراكُ شيء منها؛ والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إِذا رجع عن الحس الظاهر إِلى الباطن، ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغَلَب سلطانه، وتجدد نُشُوؤهُ. وأعان مع ذلك الذكر؛ فإِنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزايد إِلى أن يصير شهوداً، بعد أن كان عِلماً، ويكشف حجاب الحس، ويتم صفاء النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإِدراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإِلهي.. إِلى أن قال: وهذا الكشف كثيراً ما يَعرِض لأهل المجاهدة؛ فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم.. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها، وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت الرسالة القشيرية على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم) [“مقدمة ابن خلدون” ص329].

وهذا الكشف وراثة محمدية صادقة، وَرِثَها أصحابه رضي الله عنهم، بسبب صدقهم وتصديقهم وصفاء سريرتهم.



الكشف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وقبل أن نذكر شيئاً عن هؤلاء المورثين من الصحابة ومَنْ بعدهم، نذكر نوعاً من كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي منحه الله إِياه، على أن الكشف له عليه الصلاة والسلام معجزة، وللصحابة والأولياء من بعده كرامة، وكلُّ كرامة لولي معجزةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم.

عن أنس رضي الله عنه قال: أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: “أقيموا صفوفكم وتراصُّوا، فإِني أراكم من وراء ظهري” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب أبواب الجماعة، ومسلم في كتاب الصلاة].

ولما كان الكشف بعيداً عن عالم الحس، وينمحي أمامه المقياس الزماني والمكاني، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يستوي عنده في الرؤية القرب والبعد:

يقول أنس رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وجعفراً وابن رواحة، ورفع الراية إِلى زيد، فأُصيبوا جميعاً، فنعَاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الناس قبل أن يجيءَ الخبر، فقال: “أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأُصيب، وإِن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إِمرة، فَفُتِح له” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز وكتاب المناقب]. قاله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة مؤتة.



الكشف في القرآن الكريم:

قال الله تعالى في حق إِبراهيم خليل الله عليه السلام: {وكذلِكَ نُري إبراهيمَ مَلكُوتَ السمواتِ والأرضِ ولِيَكُونَ مِنَ الموقنينَ} [الأنعام: 75].

وكذلك ما أخبر الله عز وجل عن الخضر عليه السلام، حين صحب موسى عليه السلام في المسائل الثلاثة:

الأولى: انكشف للخضر أن السفينة التي ركبها مجاناً في طريقهم عبر البحر، سيأخذها ملك غاشم ظلماً، فخرقها ليعيبها ولينقذها من شر ذلك الغاصب مكافأة للمعروف بالمعروف: {أمَّا السفينَةُ فكانتْ لمساكينَ يعمَلُونَ في البحر فأردْتُ أنْ أعيبَها وكانَ وراءهم مَلِكٌ يأخُذ كلَّ سفينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79].

الثانية: كُشف له عن الغلام؛ إِن بقي حياً فسيقتل أبويه في كبره، ويوقعهما في الكفر، فقتله رحمة بأبويه المؤمنيْن، واستجابة لإِرادة الله تعالى بإِبداله بخير منه زكاةً ورحمة: {وأمّا الغلامُ فكانَ أبواهُ مؤمنينِ فخشينا أنْ يُرهِقَهما طُغياناً وكُفراً . فأردنا أن يُبدِلَهُما رَبُّهما خيراً منه زكاةً وأقرب رُحْماً} [الكهف: 80ـ81].

الثالثة: كشف له الكنز الذي تحت الجدار، وكان لغلامين يتيمن من أب صالح، فأقام الجدار حفظاً للكنز، ورحمةً للغلامين، ومحبةً لأبيهما الصالح، بلا أجر وبلا مقابل، مروءةً وإِخلاصاً: {وأمّا الجدارُ فكانَ لغُلامينِ يتيمينِ في المدينة وكان تحتهُ كنزٌ لهما وكانَ أبوهما صالحاً فأرادَ ربُّكَ أنْ يبْلُغا أشُدَّهما ويَسْتَخرِجا كنْزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].



الكشف عند الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن:

الكشف عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

وهو الذي شهد الله له بالصدِّيقية بقوله: {والذي جاء بالصِّدْقِ [رسول الله صلى الله عليه وسلم] وصَدَّقَ بِهِ [أبو بكر رضي الله عنه]}. وإِني أذكر واقعة واحدة من كثير، تكشف لنا الغطاء عن ذلك، ومن أين لإِنسانٍ أن يحصيَ مآثِرَ أبي بكر رضي الله عنه.

عن عروة عن أبيه رضي الله عنهما، عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر لما حضرته الوفاة، دعاها فقال: إِنه ليس في أهلي بعدي أحد أحب إِليَّ غنى منك، ولا أعز علي فقراً منك وإِني كنت نحلتك [النَّحلة: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق كذا في غريب الحديث لابن الأثير ج4 ص139] من أرض بالعالية جَدادَ [الجداد: قال ابن الأثير: الجداد بالفتح والكسر: صرام النخل وهو قطع ثمرتها يقال جد الثمرة يجدها جداً ج1. ص173] - يعني: صرام - عشرين وسقاً [الوسق: قال في القاموس: ستون صاعاً أو حمل بعير، وأوسق البعير حمله حملاً]، فلو كنتِ جددْتِهِ تمراً عاماً واحداً انحازَ لك، وإِنما هو مال الوارث، وإِنما هما أخواك وأختاك. فقلتُ: إِنما هي أسماء، فقال: وذاتُ بطنِ ابنةِ خارجة، قد أُلقي في روُعي أنها جاريةٌ فاستوصي بها خيراً، فولدت أُمَّ كلثوم [أخرجه ابن سعد في الطبقات، ذكر وصية أبي بكر. ج3. ص195].

قال التاج السبكي رحمه الله تعالى: (وفيه كرامتان لأبي بكر رضي الله عنه:

إِحداهما: إِخبارُه أنه يموت في ذلك المرض، حيث قال: وإِنما هو اليوم مالُ وارث.

والثانية: إِخبارُه بمولود يولد له، وهو جارية. والسر في إِظهار ذلك استطابة قلب عائشة رضي الله عنها في استرجاع ما وهبه لها ولم تقبضْه، وإِعلامها بمقدار ما يخصها، لتكون على ثقة، فأخبرها بأنه مال وارث، وأنَّ معها أخوين وأختين [“حجة الله على العالمين” للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ص860].

الكشف عند عمر بن الخطاب الخليفة الثاني رضي الله عنه:

وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من الملهَمين:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد كان فيمَنْ قبلكم من الأمم ناس مُحدَّثون، فإِن يكُ في أمتي أحدٌ فإِنه عمر” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة].

فإِن أمته عليه الصلاة والسلام أفضلُ الأمم، وإِذا ثبت أنهم وُجدوا في غيرها فوجودهم فيها أولى، وإِنما أورده مورد التأكيد، كقول القائل: إِن كان لي صديق ففلان. يريد اختصاص كمال الصداقة لا نفيها عن غيره. والمحدَّث: هو الملهَمُ الصادق الظن، وهو مَنْ أُوقِعَ في قلبه شيءٌ من قِبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيرُه.

قال التاج السبكي رحمه الله تعالى: (كان عمر رضي الله عنه قد أمَّرَ سارية بن زنيم الخلجي على جيش من جيوش المسلمين، وجهزه على بلاد فارس، فاشتد على عسكره الحال على باب نهوند وهو يحاصرها، وكثرت جموع الأعداء، وكاد المسلمون ينهزمون، وعمر رضي الله عنه بالمدينة، فصعد المنبر وخطب، ثم استغاث في أثناء خطبته بأعلى صوته: [يا سارية! الجبل. من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم] [قال العجلوني: وإِسناده كما قال الحافظ ابن حجر حديث حسن ج2. ص380]. فأسمع الله تعالى سارية وجيشه أجمعين، وهم على باب نهاوند صوتَ عمر، فلجؤوا إِلى الجبل، وقالوا هذا صوت أمير المؤمنين، فنجوا وانتصروا).

وقال التاج السبكي رحمه الله تعالى: (لم يقصد إِظهار الكرامة، وإِنما كُشِف له، ورأى القوم عياناً، وكان كمن هو بين أظهرهم حقيقة، وغاب عن مجلسه بالمدينة واشتغلت حواسه بما دهم المسلمين، فخاطب أميرهم خطاب مَنْ هو معه) [“حجة الله على العالمين” للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ص860]. ففي هذه القصة شيئان:

الأول: الكشف الصحيح والرؤية العيانية على بعد آلاف الأميال، وأين (التلفزيون) في مثل هذه القصة الواقعة قبل أربعة عشر قرناً؟

الثاني: إِبلاغ صوته ساريةَ على هذا البعد الشاسع.

ورأى عمر رضي الله عنه قوماً من مذحج فيهم الأشتر فصعَّد النظر فيه وصوَّب ثم قال: (قاتله الله إِني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً فكان منه ما كان) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج1. ص143].

وأخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب قال: (إِنْ كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكْذِبُه الكِذبة فيقول: احبس هذه، ثم يحدثه بالحديث فيقول: احبس هذه، فيقول له: كل ما حدثتُك حق إِلا ما أمرتني أن أحبسه) [“تاريخ الخلفاء” للعلامة جلال الدين السيوطي ص127 -128].

وأخرج عن الحسن قال: (إِن كان أحد يعرف الكذب إِذا حُدّث فهو عمر بن الخطاب) [“تاريخ الخلفاء” للعلامة جلال الدين السيوطي ص127 -128].

وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هدية الحمصي قال: (أُخبِر عمر بأن أهل العراق حَصبَوا أميرهم، فخرج غضبان، فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: اللهم إِنهم قد لبَّسوا عليّ فالبس عليهم، وعجِّلْ عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية؛ لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم).

قلت: أشار به إِلى الحجاج. قال ابن لهيعة: وما وُلِدَ الحجاج يومئذ [“تاريخ الخلفاء” للعلامة جلال الدين السيوطي ص127 -128].



الكشف عند عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه:

ذكر التاج السبكي رحمه الله تعالى في الطبقات وغيره: (أنه دخل على عثمان رضي الله عنه رجل، كان قد لقي امرأة في الطريق، فتأملها، فقال له عثمان رضي الله عنه: يدخل أحدكم، وفي عينيه أثر الزنا؟ فقال الرجل: أوحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ولكنها فراسة المؤمن). وإِنما أظهر عثمان هذا تأديباً للرجل، وزجراً له عن شيءٍ فعله [“حجة الله على العالمين” للنبهاني ص862].

الكشف عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له: “أنت أخي” [أخرجه الترمذي في كتاب المناقب عن ابن عمر، وقال: حسن غريب]. وقال له أيضاً: “ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟” [رواه البخاري في المغازي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه].

عن الأصبغ رحمه الله تعالى قال: أتينا مع عليّ فمررْنا بموضع قبر الحسين، فقال علي: (ههنا مناخ ركابهم، وههنا موضع رحالهم، وههنا مهراق دمائهم. فتية من آل محمد صلى الله عليه وسلم يقتلون بهذه العَرْصة، تبكي عليهم السماء والأرض) [“الرياض النضرة في مناقب العشرة” للمحب الطبري ج2. ص295].

وقال علي رضي الله عنه لأهل الكوفة: (سينزل بكم أهلُ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستغيثون بكم فلم يغاثوا) فكان منهم في شأن الحسين ما كان [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج1. ص143].

ولو أردنا أن نستقصي تراجم الصحابة الكرام رضي الله عنهم في كشفهم وفراستهم، لخرجنا عن موضوعنا في رسالتنا هذه.



كشف العارفين:

روي عن الإِمام الشافعي ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى: (أنهما كانا بِفِناء الكعبة، ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجاراً، وقال الآخر: بل حداداً، فتبادر من حضر إِلى الرجل فسأله فقال: كنت نجاراً وأنا اليوم حداد) [“تفسير القرطبي” ج10. ص44].

وعن أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى قال: (دخلت المسجد الحرام، فرأيت فقيراً عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كَلٍّ على الناس؛ فناداني وقال: {واعلموا أنَّ اللهَ يعلَمُ ما في أنْفُسِكُم فاحذَروهُ} [البقرة: 235]. فاستغفرْتُ الله في سرِّي، فناداني وقال: {وهوَ الذي يَقْبَلُ التوبَةَ عن عبادِهِ} [الشورى: 25]. ثم غاب عني، ولم أره) [“الإِحياء” للغزالي ج3 ص21].

ومثل هذا وقع لغيره. يقول خير النسَّاج رحمه الله تعالى: (كنت جالساً في بيتي، فوقع لي أن الجنيد بالباب، فنفيت عن قلبي ذلك، فوقع ثانياً وثالثاً، فخرجت، فإِذا الجنيد، فقال: لِمَ لم تخرج مع الخاطر الأول؟) [“الرسالة القشيرية” ص110].

وحُكي عن إِبراهيم الخوّاص رحمه الله تعالى قال: (كنت في بغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل شاب ظريف طيب الرائحة، حسن الحرمة حسن الوجه، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي، فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت وخرج الشاب، ثم رجع إِليهم وقال: إِيش قال الشيخ؟ فاحتشموه، فألح عليهم فقالوا: قال: إِنك يهودي. قال: فجاءني، وأكبَّ على يدي وأسلم، فقيل: ما السبب؟ قال نجد في كتبنا أن الصدّيق لا تخطىء فراسته فقلتُ: أمتحنُ المسلمين، فتأملتهم فقلت: إِن كان فيهم صدّيق، ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه، فلبَّستُ عليهم، فلما اطّلع عليَّ وتفرَّس فيَّ علمتُ أنه صدّيق، وصار الشاب من كبار الصوفية) [“الرسالة القشيرية” ص110].

ولا عجب في ذلك فقد أخبر عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إِن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم” [رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك. وإِسناده حسن، كما في مجمع الزوائد ج10 ص268].

ووقف نصراني على الجنيد رحمه الله تعالى، وهو يتكلم في الجامع على الناس، فقال: أيها الشيخ! ما معنى حديث: “اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله” [رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري. في كتاب التفسير]. فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أسلمْ فقد جاء وقت إِسلامك، فأسلم الغلام [“الفتاوى الحديثية” لابن حجر الهيثمي ص229].

وحديث الفراسة أصل في الكشف الذي يقع لكثير من الأولياء، تجد الواحد منهم يكاشف الشخص بما حصل له في غيبته، كأنه حاضر معه. وهي فتنة في حق مَنْ لم يتخلق بأخلاق الرحمن.

وقد يكون الكشف عن أصحاب القبور منعَّمين أو معذَّبين:

قال العلامة عبد الرؤوف المناوي رحمه الله تعالى عند شرحه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لولا أن لا تَدافَنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر” [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجنة ومتعة نعيمها، والنسائي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه]. وإِنما أَحبَّ إِسماعهم عذاب القبر دون غيره من الأهوال لأنه أول المنازل. وفيه أن الكشف بحسب الطاقة، ومَنْ كُوشف بما لا يطيقه هلك.

تنبيه: قال بعض الصوفية: (والاطلاع على المعذَّبين والمنعَّمين في قبورهم واقع لكثير من الرجال، وهو هول عظيم، يموت صاحبه في اليوم والليلة موتات، ويستغيث ويسأل الله أن يحجبه عنه، وهذا المقام لا يحصل للعبد إِلا بعد غلبة روحانيته على جسمانيته، حتى يكون كالروحانيين. فالذين خاطبهم الشارع هنا هم الذين غلبت جسمانيتهم لا من غلبت روحانيتهم، والمصطفى صلى الله عليه وسلم كان يخاطب كل قوم بما يليق بهم) [“فيض القدير، شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج5. ص342].

وما حكي من فراسة المشايخ وإِخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر، إِلا أن الجاحد لا تفيده هذه الشواهد والأخبار مما ذكرناه من النقول الصحيحة عن الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم؛ مادام لا يؤمن إِلا بالمادة ولا يصدِّق ما وراءها.

قال تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى: (اعلم أن المرء إِذا صفا قلبه صار ينظر بنور الله، فلا يقع بصره على كدرٍ أو صافٍ إِلا عرفه. ثم تختلف المقامات، فمنهم من يعرف أن هناك كدراً ولا يدري ما أصله، ومنهم من يكون أعلى من هذا المقام فيدري أصله، كما اتفق لعثمان رضي الله عنه، فإِنَّ تأمُّل الرجل للمرأة أورثه كدراً فأبصره عثمان، وفهم سببه.

وهنا دقيقة: وهي أن كل معصية لها كدر، وتُورِث نكتة سوداء في القلب فيكون رَيْناً، كما قال تعالى: {كلا بلْ رانَ على قُلُوبِهِمْ ما كانوا يًكْسِبُونَ} [المطففين: 14]. إِلى أن يستحكم والعياذ بالله، فيظلم القلب وتغلق أبواب النور فيُطْبَع عليه، فلا يبقى سبيل إِلى التوبة. كما قال تعالى: {وَطُبِعَ على قلوبِهِمْ فَهُمْ لا يفقَهُونَ} [التوبة: 87].

إِذا عرفتَ هذا؛ فالصغيرة من المعاصي تورث كدراً صغيراً بقدرها قريب المحو بالاستغفارِ وغيره من المكفرات. ولا يدركه إِلا ذو بصر حادٌّ كعثمان رضي الله عنه، حيث أدرك هذا الكدر اليسير، فإِنَّ تأمُّل المرأة والنظر إِليها أدركه عثمان وعرف أصله [قال العلامة الألوسي في كتابه “روح المعاني” عند قوله تعالى: {قل للمُؤمِنينَ يغُضُّوا مِنْ أبضارِهِم} [النور: 30]: (ثم إِن غض البصر عما يحرم النظر إِليه واجب، ونظرة الفجأة - لاتَعَمَّد فيها - معفو عنها. فقد أخرج أبو داود، والترمذي وغيرهما عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإِن لك الأولى وليست لك الآخرة” تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي ج18. ص125. وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل عين زانية”. رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات. وعن علقمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “زنا العينين النظر”. رواه الطبراني. الحديثان في مجمع الزوائد. ج6. ص256. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني عن ربه عز وجل: “النظرة سهم مسموم من سهام إِبليس، مَنْ تركها مِنْ مخافتي أبدلته إِيماناً يجد حلاوته في قلبه”. رواه الطبراني والحاكم من حديث حذيفة وقال: صحيح الإِسناد. وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَتغضُّن أبصاركم ولَتحفظُن فروجكم، أو ليكسفَن الله وجوهكم”. رواه الطبراني. وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم ينظر إِلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إِلا أحدث له الله عبادة يجد حلاوتها في قلبه”. رواه الإِمام أحمد. في الترغيب والترهيب ج3. ص34 -36]. وهذا مقام عالٍ يخضع له كثير من المقامات.

وإِذا انضم إِلى الصغيرة صغيرة أخرى ازداد الكدر، وإِذا تكاثرت الذنوب حتى وصلت - والعياذ بالله - إِلى ما وصفناه من ظلام القلوب صار بحيث يشاهده كل ذي بصر، فمن رأى متضمخاً بالمعاصي قد أظلم قلبه؛ ولم يتفرس فيه ذلك فليعلم أنه إِنما لم يبصره لما عنده من العمى المانع للأبصار، وإلا فلو كان بصيراً لأبصر هذا الظلام الداجي، فبقدر بصره يبصر، فافهم ما نتحفك به) [“حجة الله على العالمين” للنبهاني البيروتي ص862].

فالفراسة أمر جائز الوقوع، وهي منحة إِلهية يكرم الله بها عباده الصالحين الذين تمسكوا بدينهم، وحفظوا جوارحهم، وصقلوا قلوبهم، وهذبوا نفوسهم.

قال المناوي في شرح الجامع الصغير عند قوله عليه الصلاة والسلام: “إِنَّ لكل قوم فراسة، وإِنما يعرفها الأشراف”: (قاعدة الفراسة وأسُّها: الغض عن المحارم، قال الكرماني: من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوم المراقبة، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المخالفات، واعتاد أكل الحلال لم تخطىء فراسته ابداً. اهـ فمن وُفِّق لذلك أبصر الحقائق عياناً بقلبه) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” للمناوي ج2. ص515].

وعلى كلٍ فالقلوب تختلف باختلاف صقلها وتنظيفها من أدران الذنوب المظلمة، فهي كالزجاج كلما صقل ازداد ثمنه، وكشف الجراثيم التي لا ترى. فأين زجاج النافذة من زجاج المجهر الذي يكشف الجراثيم الدقيقة؟ وكما لا يقاس زجاج النافذة بزجاج المجهر، كذلك لا تقاس القلوب الصافية المصقولة بالقلوب المكدرة المظلمة، ولا تقاس الملائكة بالشياطين.

فمن جدَّ وجد، ومن سار على الطريق وصل، ومن أتقن المقدمة وصل إِلى النتيجة، والبدايات تدل على النهايات.

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:23 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 


3- الإلهام




قال الشريف الجرجاني رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الإلهام: ما يُلقَى في الرُّوع بطريق الفيض. وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم. وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية، ولا نظر في حجة) [“تعريفات الشريف” الجرجاني ص23].

والإِلهام إِما أن يكون من قِبَلِ الله تعالى، أو من قبل ملائكته، يُفْهَم منه أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب..



أما الذي من قِبل الله تعالى:

فحكى لنا حضرةُ الله تعالى في كتابه عن مريم رضي الله عنها حينما أوتْ إِلى شجرة النخل في أيام الشتاء، فخاطبها بإِلهام ووحي من دون واسطة وقال لها: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جَنياً . فكُلِي واشرَبي وقرِّي عيناً} [مريم: 25].

قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: (إِنَّ ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإِلهام والإِلقاء في القلب، كما كان في حق أُم موسى عليه السلام في قوله: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] [“التفسير الكبير” للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669].

وكذلك أخبرنا عن أُم موسى عليه السلام، حينما ضاق بها الحال من أمر ابنها عليه السلام، وداهمها جنود فرعون لقتله، فألهمها، وأوحى إِليها بلا واسطة، فقال تعالى: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى أنْ أرضِعيهِ فإذا خِفتِ عليه فألْقِيهِ في اليَّمِ ولا تخافي ولا تحزَني إنَّا رادُّوه إليكِ وجاعِلُوه مِنَ المرسلينَ} [القصص: 7] [قال العلامة الألوسي في تفسيره عند هذه الآية ج16. ص170: (والمراد بالإِيحاء عند الجمهور ما كان بإِلهام، كما في قوله تعالى: {وأوحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ} [النحل: 68].. إِلى أن قال: وإِلهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بُعد فيه، فإِنه نوع من الكشف)].

ألقتْ ابنها وفلذة كبدها بين أمواج البحر الخضم. إِلى أين يذهب هذا الولد الكريم بين هياج موج البحر يا ترى؟! إِنه الهلاك بعينه، لكنها كانت على يقين من أمرها، لِمَا اعتادت من سماع الوحي الذي يأتيها من ربها بلا واسطة، في خلوتها وجلوتها.



هذه امرأة مؤمنة، وولية وليست نبية [اتفق الأكثرون على أن أم موسى لم تكن نبية لأن النبوة منحصرة في الرجال. {وما أرسَلْنا قبلَكَ إلا رجالاً نوحي إليهِم} [يوسف: 109]. والوحي جاء في القرآن لا بمعنى النبوة، بل بالإِلهام كما قال تعالى: {وإذ أوحيتُ إلى الحواريينَ} [المائدة: 111]. {وإذ أوحينا إلى أمِّكَ ما يُوحَى} [طه: 38]]، وتلك مريم رضي الله عنها في أُمة إِسرائيلية، فما بالك بالأمة المحمدية التي شهد الله لها بالخيرية على سائر الأمم؟! قال تعالى: {كُنْتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للناسِ تأمُرونَ بالمعروفِ وتنْهَونَ عن المُنْكَرِ} [آل عمران: 110].



وأما الإِلهام من قبل الملائكة:

فالمَلَك يحدِّث الإِنسانَ، كما قال صلى الله عليه وسلم: “..وأما لَمَّةُ الملك فإِيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله” [رواه الترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال: حديث حسن غريب. واللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب. كما في غريب الحديث].

قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وإذْ قالتْ الملائِكَةُ يا مريَمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطَهَّرَكِ واصطَفاكِ على نساءِ العالَمينَ} [آل عمران: 42]: (اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: {وما أرْسلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجالاً نوحِي إليهِم مِنْ أهْلِ القرى} [يوسف: 109]. وإِذا كان كذلك؛ كان إِرسال جبريل عليه السلام كرامة لها، وكلمها شفاهاً، وليس هذا خاصاً بها، بل هناك كثير من الصالحين كلمتهم الملائكة عليهم السلام) [“التفسير الكبير” للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669]. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله على مَدْرجتِه مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أُريد أخاً لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإِني رسول الله إِليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه” [رواه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة باب فضل الحب في الله عن أبي هريرة رضي الله عنه].

أرصد الله على مدرجته ملكاً: أي وكَّله بحفظ المدْرجَة، وهي الطريق وجعله رصَداً: أي حافظاً مُعَداً. تَرُبُّها: أي تحفظها وتربيها كما يربي الرجلُ ولدَه.

قال العلامة محمد بن علاّن الصديقي الشافعي رحمه الله تعالى شارح رياض الصالحين عند قوله: “فأرصد الله تعالى على مدرجته مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟”: (ظاهره أن المَلكَ خاطبه وشافهه) [دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين ج3. ص232].

وقال الله تعالى: {إنَّ الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عليهِمْ الملائِكَةُ أنْ لا تخافوا ولا تحزَنُوا وأبْشِروا بالجَنَّةِ التي كنتم توعَدُونَ . نحنُ أولياؤكُم في الحياة الدنيا وفي الآخِرة} [فصلت: 30ـ31].

قال العلامة الألوسي رحمه الله تعالى مفسراً تنزل الملائكة في هذه الآية: (تتنزل عند الموت والقبر والبعث. وقيل: تتنزل عليهم: يمدونهم فيما يَعِنُّ ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية، بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن، بطريق الإِلهام.

وهذا هو الأظهر؛ لما فيه من الإِطلاق والعموم الشاملِ لتنزلهم في المواطن الثلاثة وغيرها، وأن جمعاً من الناس يقولون بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحايين، وإِنهم يأخذون منهم ما يأخذون، فتذكر.

ثم قال في قوله تعالى: {وأبشِروا بالجَنَّة التي كنْتُم توعَدونَ} [فصلت: 31]. أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام، هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة.

وقال في قوله تعالى: {نحنُ أولياؤكُمْ في الحياة الدنيا} [فصلت: 31]: من بشاراتهم في الدنيا، أي أعوانكم في أموركم، نلهمكم الحق ونرشدكم إِلى ما فيه خيركم وصلاحكم. إِلى أن قال: إِن الملائكة تقول لبعض المتقين شفاهاً في غير تلك المواطن: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) [روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للعلامة محمود الألوسي البغدادي رحمه الله تعالى المتوفى سنة 1270هـ. ج24 ص107].

وقال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: (ثم إِنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين {نحنُ أولياؤكُمْ في الحياة الدنيا وفي الآخِرَةِ}[فصلت: 31] : ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية بالإِلهامات والمكاشفات اليقينية والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح بإِلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إِليها.

وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا، فهي تكون باقية في الآخرة، فإِن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إِلى الشمس، والقطرة بالنسبة إِلى البحر. والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: “لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إِلى ملكوت السماوات”. فإِذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر والشعلة بالشمس، فهذا هو المراد من قوله: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 31] [تفسير الإِمام الرازي ج7. ص371].

وقد كان عمران بن الحصين رضي الله عنه يسمع تسبيح الملائكة حتى اكتوى، فانحبس ذلك عنه، ثم أعاده الله إِليه. وروى ابن الأثير رحمه الله تعالى في أسد الغابة بسنده إِليه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكَيّ، قال عمران: فاكتوينا، فما أفلحنا ولا نجحنا.

قال: وكانت الملائكة في مرضه تسلم عليه، فاكتوى ففقد التسليم ثم عادت إِليه [وقد ألف العلامة الكبير جلال الدين السيوطي رسالة سماها “تنوير الحلك في إِمكان رؤية النبي والملك” ننقل منها ما يهمنا في موضوعنا الذي نتكلم فيه.

قال جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى: (أخرج مسلم في صحيحه عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين رضي الله عنه: قد كان يسلم علي حتى اكتويت فترك ثم تركت الكي فعاد. وأخرج مسلم من وجه آخر عن مطرف قال: بعث إِلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إِني محدثك فإِن عشتُ فاكتمْ عني، وإِن متُّ فحدِّثْ بها إِن شئتَ: إِنه قد سُلِّم عليّ.

قال النووي في شرح مسلم: معنى الحديث الأول أن عمران بن حصين كانت به بواسير، فكان يصبر على ألمها، وكانت الملائكة تسلم عليه، واكتوى، وانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكي فعاد سلامهم عليه. قال: وقوله في الحديث الثاني: فإِن عشتُ فاكتمْ عني، أراد به الإِخبار بالسلام عليه، لأنه كره أن يُشاع عنه ذلك في حياته لما فيه من التعرض للفتنة بخلاف ما بعد الموت.

وقال القرطبي في شرح مسلم: يعني أن الملائكة كانت تسلم عليه إِكراماً له واحتراماً، إِلى أن اكتوى فتركت السلام عليه، ففيه إِثبات كرامات الأولياء..

وقال القاضي أبو بكر بن العربي أحد الأئمة المالكية، شارح صحيح الترمذي، في كتاب قانون التأويل: ذهبت الصوفية إِلى أنه إِذا حصل للإِنسان طهارة النفس في تزكية القلب، وقطع العلائق، وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس، والإِقبال على الله تعالى بالكلية، علماً دائماً وعملاً مستمراً، كشفت له القلوب، ورأى الملائكة وسمع أقوالهم، واطلع على أرواح الأنبياء، وسمع كلامهم، ثم قال ابن العربي من عنده: ورؤية الأنبياء والملائكة وسماع كلامهم ممكن كرامة، وللكافر عقوبة). الحاوي للفتاوي ج2 ص257، 258 للعلامة جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ].

ولقد سمى الصوفية العلم الناتج من الإِلهام علماً لدنياً حاصلاً بمحض فضل الله وكرمه بغير واسطةِ عبارةٍ.

قال بعضهم:

تعلّمْنَا بلا حرفٍ وصوْتِ قرأْناه بلا سهْوٍ وفوْتِ



يعني بطريق الفيض الإِلهي، والإِلهام الرباني، لا بطريق التعليم اللفظي، والتدريس القولي.

وقد سئل الإِمام الغزالي عن الإِلهام فقال: (الإِلهام ضوء من سراج الغيب، يسقط على قلبٍ صافٍ لطيفٍ فارغٍ) كل هذا يدل على إِمكان الكشف وصحة الإِلهام؛ إِذا كان القلب صافياً فارغاً من علائق الدنيا وهمومها، ومِنْ صدأ الذنوب وظلماتها. فالشياطين الظلمانية لا تقع إِلا على القلوب العفنة، كما يقع الذباب على الأواني الوسخة، فتُحجبُ القلوب عن مطالعة ما حُجب عنها، يقول صلى الله عليه وسلم: “لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إِلى ملكوت السماء” [رواه الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه]. وتُصرَفُ وسوستُها عن تلك القلوب بذكر الله تعالى ومراقبته: “إِن الشيطان واضع خَطمه على قلب ابن آدم، فإِنْ ذَكَرَ الله خنسَ وإِن نسي الْتقم قلبه” [رواه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى والبيهقي عن أنس، كما في الترغيب والترهيب. خطمه: فمه. ج2. ص400]. لأن القلب إِذا اعتاد الوسوسة، والغفلة عن ذكر الله تعالى مَرِضَ. وأما إِذا اعتاد الذكر، وسُقيَ بأنواره، وسطعت عليه شمس تجليات الله تعالى حيِيَ وكان في عداد الأحياء، يقول عليه الصلاة والسلام: “مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربَّه مثل الحي والميت” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه].

فإِذا واظب المؤمن على ذكر الله تعالى، وكان مستقيماً على شرعه متحلياً بالتقوى، مستأنساً بربه صار حياً بالله. ويقول القوم: القلوب نوعان: قلب لا يولد ولم يأنِ له أن يولد، بل يظل جنيناً في بطن الشهوات والغي والضلال. وقلب وُلد، وخرج إِلى فضاء التوحيد، وحلَّق في سماء المعرفة، وخلص من ظلمات النفس وشهواتها واتباع هواها، فقرَّت عينُه بالله تعالى وأنارت جوانبَهُ أشعةُ اليقين، وجعلته مرآةً شفافة، لا سبيل للشيطان إِليه، ولا سلطان له عليه. وليس هذا ببعيد، فالطاقة الروحية قد انطلقت إِلى عالم الغيب، وصار صاحبها حَيَّاً بعد أن كان ميتاً، ومنوراً بعد أن كان مظلماً، وملكياً بعد أن كان شيطانياً: {أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فأحيَيناهُ وجعلنا لهُ نوراً يمشي بهِ في الناسِ} [الأنعام: 122].

ولا شك أن تلك الأسرار الروحية، لا تُدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له في شيء منها لا يضره أن يكلها إِلى أربابها، وأن يعطي القوس باريها:

فللكثافةِ أقوامٌ لها خُلقوا وللمحبةِ أكبادٌ وأجفان



وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به وتسليمه لأهله، وأقل عقوبة مَنْ ينكره أن لا يُرزق منه شيئاً. وهو علم الصديقين والمقربين [وفي الإِحياء للغزالي بحث مستفيض في الموضوع فليُرجع إِليه].




عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:23 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
4- كرامات الأولياء



- إثبات الكرامات

- الحكمة من الكرامات

- الفرق بين الكرامة والإستدراج

- موقف الصحابة من الكرامات

- موقف الصوفية من الكرامات



كثر تساؤل الناس في هذا الزمان عن الكرامات؛ هل هي ثابتة في الشرع؟ هل لها دليل من الكتاب والسنة؟ ما هي الحكمة من إِجرائها على يد الأولياء والمتقين؟ .. إِلخ. وبما أن موجات الإِلحاد والمادية، وتيارات التشكيك والتضليل قد كثرت في هذا الوقت، فأثرت في عقول كثير من أبنائنا، وأضلَّت العديد من مثقفينا، وحملتهم على الوقوف من الكرامات موقف المنكر الجاحد، أو الشاكِّ المتردِّد، أو المستغرب المتعجب نتيجة لضعف إِيمانهم بالله وقدرته وقلة تصديقهم بأوليائه وأحبابه.

فلا يسعنا إِلا أن نعالج هذا الموضوع إِظهاراً للحق، ونصرة لشريعة الله تعالى.









إثبات الكرامات:

لقد ثبتت كرامات الأولياء في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي آثار الصحابة رضوان الله عليهم، ومَنْ بعدهم إِلى يومنا هذا، وأقرها جمهور العلماءِ من أهل السنة والجماعة، من الفقهاء والمحدِّثين والأصوليين ومشايخ الصوفية، وتصانيفُهم ناطقة بذلك، كما ثبتت كذلك بالمشاهدة العيانية في مختلف العصور الإِسلامية. فهي ثابتة بالتواتر في المعنى، وإِن كانت التفاصيل آحاداً ؛ ولم ينكرها إِلا أهل البدع والانحراف ممن ضعف إِيمانهم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله [قال العلامة اليافعي رحمه الله تعالى: (والناس في إِنكار الكرامات مختلفون، فمنهم من ينكر كرامات الأولياء مطلقاً، وهؤلاء أهل مذهب معروف، عن التوفيق مصروف. ومنهم من يكذب بكرامات أولياء زمانه ويصدق بكرامات الأولياء الذين ليسوا في زمانه كمعروف الكرخي والإِمام الجنيد وسهل التستري وأشباههم رضي الله عنهم، فهؤلاء كما قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: والله ما هي إِلا إِسرائيلية، صدقوا بموسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أدركوا زمنه. ومنهم من يصدق بأن لله تعالى أولياء لهم كرامات ولكن لا يصدق بأحد معيَّنٍ من أهل زمانه). روض الرياحين، للإِمام اليافعي ص18].





الدليل عليها من كتاب الله تعالى:

1ـ قصة أصحاب الكهف وبقائهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلاثمائة وتسع سنين، وأنه تعالى كان يحفظهم من حر الشمس: {وتَرى الشمسَ إذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عنْ كهفِهِم ذاتَ اليمينِ وإذا غَرَبَتْ تقرِضُهُم ذاتَ الشمالِ} [الكهف: 17]. إِلى أن قال: {وتحسَبُهُم أيقاظاَ وهُمْ رُقودٌ ونُقلِّبُهُم ذات اليمين وذات الشمال وكلْبُهُم باسِطٌ ذراعيهِ بالوصيدِ} [الكهف: 18]. إِلى أن قال: {ولَبِثوا في كَهْفِهِم ثلاثمئةٍ سنين وازدادوا تسعاً} [الكهف: 25] [قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره الكبير عند قصة أصحاب الكهف: (احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر، فنقول: الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول..) انظره مفصلاً في التفسير الكبير للعلامة فخر الدين الرازي ج5 ص682].

2ـ هزُّ مريم جذعَ النخلة اليابس، فاخضرَّ وتساقط منه الرُّطَبُ الجني في غير أوانه، قال تعالى: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جنيّاً} [مريم: 25].

3ـ ما قص الله علينا في القرآن، من أن زكريا عليه السلام كان كلما دخل على مريم المحراب، وجد عندها رزقاً، وكان لا يدخل عليها أحد غيره عليه السلام فيقول: يا مريم أنَّى لك هذا ؟ تقول: هو من عند الله. قال الله تعالى: {كلَّما دخَلَ عليها زكريا المحرابَ وَجَدَ عندَها رِزْقاً قال يا مريمُ أنَّى لكِ هذا قالَتْ هوَ مِنْ عندِ اللهِ} [آل عمران: 37].

4ـ قصة آصف بن برخيا مع سليمان عليه السلام على ما قاله جمهور المفسرين في قوله تعالى: {قالَ الذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتيكَ بهِ قبْلَ أنْ يرتَدَّ إليكَ طرفُكَ} [النمل: 40]. فجاء بعرش بلقيس من اليمن إِلى فلسطين قبل ارتداد الطرف.



الدليل عليها من السنة الصحيحة:

1ـ قصة جُرَيْجٍ العابد الذي كلمه الطفل في المهد. وهو حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إِلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إِسرائيل رجل يقال له جُرَيْج، كان يصلي فجاءته أمه، فدعتْه، فقال: أُجيبُها أوْ أصلي ؟ فقالت: اللهم لا تمتْه حتى تريه وجوه المومسات. وكان جريج في صومعته فتعرّضت له امرأة وكلمته ؛ فأبى. فأتت راعياً، فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج. فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه وسبّوه، فتوضأ وصلّى، ثم أتى الغلام ؛ فقال: مَن أبوك يا غلام ؟ فقال: الراعي. قالوا: نبني صومعتك من ذهب ؟ قال: لا، إِلا من طين.."].

2ـ قصة الغلام الذي تكلم في المهد [وهذا تمام الحديث المذكور آنفاً: ".. وكانت امرأة ترضع ابناً لها من بني إِسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه". قال أبو هريرة: كأني أنظر إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إِصبعه. "ثم مرَّ بأمَة، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت: لِمَ ذاك ؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمَة يقولون: سرقت، زنت، ولم تفعل". رواه البخاري في صحيحه في كتاب ذكر بني إِسرائيل، واللفظ له. ومسلم في كتاب بر الوالدين].

3ـ قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار، وانفراج الصخرة عنهم بعد أن سَدَّتْ عليهم الباب. وهو حديث متفق عليه [وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إِلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إِنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إِلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبِق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبْتُ لهما غبُوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثْتُ والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برِقَ الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما. اللهم إِن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فَفَرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الآخر: اللهم إِنه كانت لي بنتُ عم، كانت أحب الناس إِلي، فأردتها على نفسها، فامتنعت مني: حتى ألمَّتْ بها سنة من السنين فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلتْ، حتى إِذا قدرتُ عليها قالت: لا أحل لك أن تفضَّ الخاتم إِلا بحقه، فتحرَّجْتُ من الوقوع عليها فانصرفْتُ عنها وهي أحب الناس إِلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إِن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرجْ عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهبَ، فثمَّرتُ أجرَه، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله! أدِّ إِليَّ أجري، فقلت له: كلُّ ما ترى من أجرك من الإِبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله: لا تستهزىء بي. فقلت: إِني لا أستهزىء بك. فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً. اللهم فإِن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرجْ عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون". أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإِجارة واللفظ له، ومسلم في كتاب الذكر].

4ـ قصة البقرة التي كلمت صاحبها. وهو حديث صحيح مشهور [روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل راكب على بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إِليه البقرة فقالت: إِني لم أُخلَق لهذا، وإِنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنْتُ بهذا أنا وأبو بكر وعمر". رواه البخاري في صحيحه في كتاب المزارعة، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، والترمذي في كتاب المناقب].



الدليل عليها من آثار الصحابة:

وقد نُقِل عنهم من الكرامات الشيء الكثير.

1ـ قصة أبي بكر رضي الله عنه مع أضيافه في تكثير الطعام، حتى صار بعد الأكل أكثرَ مما كان. وهو حديث صحيح في البخاري [أخرج البخاري: أن أبا بكر كان عنده أضياف، فقدم لهم الطعام فلما أكلوا منه ربا من أسفله حتى إِذا شبعوا قال لامرأته: (ياأخت بني فراس ما هذا ؟ قالت: وقرة عيني لهي [تعني القصعة] أكثر منها قبل أن يأكلوا.. إِلى آخر القصة].

2ـ قصة عمر رضي الله عنه، وهو على منبر المدينة ينادي بقائده: يا سارية الجبل! وهو حديث حسن [انظر الحديث ص 344].

3ـ قصة عثمان رضي الله عنه مع الرجل الذي دخل عليه، فأخبره عما أحدث في طريقه من نظره إِلى المرأة الأجنبية. الحديث [انظر الحديث ص 346].

4ـ سماع علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلامَ الموتى. كما أخرجه البيهقي [أخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: (دخلنا مقابر المدينة مع علي رضي الله عنه، فنادى: يا أهل القبور السلام عليكم ورحمة الله، تخبرونا بأخباركم أم نخبركم ؟ قال: فسمعنا صوتاً: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين خبِّرنا عما كان بعدنا. فقال علي: أما أزواجكم فقد تزوجن، وأما أموالكم فقد اقتُسمت، والأولاد قد حُشِروا في زمرة اليتامى، والبناء الذي شيدْتم فقد سكنه أعداؤكم، فهذه أخبار ما عندنا، فما أخبار ما عندكم ؟ فأجابه ميت: قد تخرَّقت الأكفان، وانتثرت الشعور، وتقطعت الجلودَ، وسالت الأحداق على الخدود، وسالت المناخر بالقيح والصديد، وما قدَّمناه وجدناه وما خلَّفناه خسرناه، ونحن مُرْتَهنون)].

5ـ قصة عبَّاد بن بشر وأسيد بن حضير رضي الله عنهما اللذيْن أضاءتْ لَهمَا عصا أحدهما عندما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة. وهو حديث صحيح أخرجه البخاري [أخرج الحاكم في كتاب معرفة الصحابة وصححه والبيهقي وأبو نعيم وابن سعد، وهو في البخاري من غير تسمية الرجلين: "أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة، خرجا وبيد كل واحد منهما عصا فأضاءت لهما عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، حتى إِذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله"].

6ـ قصة خبيب رضي الله عنه في قطف العنب الذي وُجدفي يده يأكله في غير أوانه. وهو حديث صحيح [أخرج البخاري في صحيحه في باب غزوة الرجيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن خبيباً كان أسيراً عند بني الحارث بمكة، في قصة طويلة، وفيها أن بنت الحارث كانت تقول: (ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرة وإِنه لموثَق في الحديد، وما كان إِلا رزق رزقه الله)].

7ـ قصة سعد وسعيد رضي الله عنهما، وهي أن كلاً منهما دعا على من كذب عليه، فاستجيب له. أخرجه البخاري ومسلم [الأول منهما: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان والبيهقي من طريق عبد الملك بن عمير عن جابر رضي الله عنه قال: شكا ناس من أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص إِلى عمر (فبعث معه من يسأل عنه بالكوفة، فطِيف به في مساجد الكوفة، فلم يُقل له إِلا خير حتى انتهى إِلى مسجد، فقال رجل يُدْعى أبا سعدة: أما إِذ أنشدتنا فإِن سعداً كان لا يقسم بالسوية ولا يسير بالسرية ولا يعدل في القضية، فقال سعد: اللهم إِن كان كاذباً فأطلْ عمره، وأطل فقره وعرضه للفتن، قال ابن عمير: فرأيتُه شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وقد افتقر يتعرض للجواري في الطريق يغمزهن، فإِذا قيل له: كيف أنت ؟ يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد).

والثاني: سعيد بن زيد رضي الله عنه. فقد أخرج مسلم في كتاب المساقاة عن عروة بن الزبير رضي الله عنه: (أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئاً من أرضها فخاصمته إِلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: وما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طُوِّقه إِلى سبع أرضين" فقال له مروان: لا أسألك بَيِّنَةً بعد هذا. فقال: اللهم إِن كانت كاذبة فَعَمِّ بصرها واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينا هي تمشي في أرضها إِذ وقعت في حفرة فماتت)].



8ـ قصة عبور العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر على فرسه ونبع الماء بدعائه. أخرجه ابن سعد في الطبقات [كان أبو هريرة يقول: (رأيتُ من العلاء بن الحضرمي ثلاثةَ أشياء لا أزال أحبه أبداً، رأيته قطع البحر على فرسه يوم دارينَ. وقدم من المدينة يريد البحرين، فلما كانوا بالدهناء نفد ماؤهم، فدعا الله فنبع لهم من تحت رملة، فارتووا وارتحلوا، وأنسي رجل منهم بعض متاعه، فرجع فأخذه ولم يجد الماء. وخرجتُ معه من البحرين إِلى صف البصرة فلما كنا بلِياسٍ مات ونحن على غير ماء، فأبدى الله لنا سحابة فمُطرنا فغسلناه وحفرنا له بسيوفنا ولم نُلْحِدْ له، فرجعنا لنُلْحِدَ له فلم نجد موضع قبره). الطبقات الكبرى لابن سعد. ج4. ص363].

9ـ قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه في شربه السم. أخرجه البيهقي وأبو نعيم والطبراني وابن سعد بإِسناد صحيح [أخرج البيهقي وأبو نعيم عن أبي السفر قال: نزل خالد بن الوليد الحيرة، فقالوا له: احذر السم لا تسقيكه الأعاجم فقال: ائتوني به، فأخذه بيده وقال: بسم الله وشربه، فلم يضره شيئاً. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ج3. ص125].

10ـ إِضاءة أصابع حمزة الأسلمي رضي الله عنه في ليلة مظلمة. أخرجه البخاري في التاريخ [أخرج البخاري في التاريخ عن حمزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فتفرقنا في ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا ظهرهم وما هلك منهم وإِن أصابعي لتنير). انظر تهذيب التهذيب ج3. ص30].

11ـ قصة أم أيمن وكيف عطشت في طريق هجرتها، فنزل عليها دلو من السماء فشربتْ. رواه أبو نعيم في الحلية [عن عثمان بن القاسم قال: (خرجت أم أيمن مهاجرة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إِلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد وهي صائمة في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد حتى كادت أن تموت من شدة العطش، قال: وهي بالروحاء أو قريباً منها، فلما غابت الشمس قالت: إِذا أنا بحفيف شيء فوق رأسي، فرفعتُ رأسي ؛ فإِذا أنا بدلو من السماء مدلَّى برشاء أبيض، قالت: فدنا مني حتى إِذا كان حيث أستمكن منه تناولْتُه فشربت منه حتى رويت، قالت: فلقد كنت بعد ذلك اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش، وما عطشْتُ بعدها. أخرجه أبو نعيم في الحلية ج2. ص67].

12ـ سماع بعض الصحابة سورة الملك، من قبر بعد أن ضرب خباء فوقه. رواه الترمذي [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإِذا فيه إِنسان يقرأ سورة {تبارك الذي بيده الملك} حتى ختمها،فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله: إِني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإِذا فيه إِنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر". أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، وقال: حديث حسن غريب].

13ـ تسبيح القصعة التي أكل منها سلمان الفارسي وأبو الدرداء رضي الله عنهما وسماعهما التسبيح. رواه أبو نعيم [أخرج البيهقي وأبو نعيم عن قيس قال: (بينما أبو الدرداء وسلمان يأكلان من صحفة إِذا سبَّحتْ وما فيها)].

14ـ قصة سفينة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسد. أخرجه الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية [عن محمد بن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ركبتُ البحر فانكسرتْ سفينتي التي كنت فيها، فركبْتُ لوحاً من ألواحها، فطرحني اللوح في أجمة فيها الأسد، فأقبل إِليَّ يريدني، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه وأقبل إِليَّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق، وهمهم فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به). أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة ج3. ص606، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأبو نعيم في الحلية ج1. ص368 وسفينة هو: قيس بن فروخ وكنيته أبو عبد الرحمن. ذكره ابن حجر في التهذيب ج4. ص125].

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير مما ورد عن كرامات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توالى ورود الكرامات الكثيرة على يد الأولياء في عهد التابعين وتابعي التابعين إِلى يومنا هذا، مما يصعب عده، ويضيق حصره [قال العلامة التاج السبكي في الطبقات الكبرى: للكرامة أنواع: النوع الأول إِحياء الموتى. 2ـ كلام الموتى. 3ـ المشي على الماء. 4ـ انقلاب الأعيان. 5ـ إِنزواء الأرض. 6ـ كلام الحيوانات والجمادات. 7ـ إِبراء العلل. 8ـ طاعة الحيوان. 9ـ طي الزمان. 10ـ نشر الزمان. 11ـ إِمساك اللسان عن الكلام وانطلاقه.. إِلى أن عد خمسة وعشرين نوعاً. وذكر لكل نوع مثالاً وحكاية جرت للعلماء ومشايخ الصوفية فراجعه هناك تجده مفصلاً]، وقد ألف العلماء في ذلك مجلدات كثيرة، وصنف أكابر الأئمة منهم مصنفات في إِثبات الكرامة للأولياء، منهم: فخر الدين الرازي وأبو بكر الباقلاني، وإِمام الحرمين، وأبو بكر بن فورك، وحجة الإِسلام الغزالي، وناصر الدين البيضاوي، وحافظ الدين النسفي، وتاج الدين السبكي، وأبو بكر الأشعري، وأبو القاسم القشيري، والنووي، وعبد الله اليافعي، ويوسف النبهاني، وغيرهم من العلماء المحققين الذين لا يحصى عددهم، وصار ذلك علماً قوياً يقينياً ثابتاً، لا تتطرق إِليه الشكوك أو الشبهات.

وقد يتساءل بعضهم: لماذا كانت كرامات الصحابة على كثرتها أقل من كرامات الأولياء الذين جاؤوا بعد عصر الصحابة ؟!.. ويجيب على ذلك تاج الدين السبكي في الطبقات بقوله: (الجواب: ما أجاب به الإِمام الجليل أحمد بن حنبل رضي الله عنه حين سئل عن ذلك، فقال: أُولئك كان إِيمانهم قوياً، فما احتاجوا إِلى زيادة شيء يقوون به، وغيرهم كان إِيمانهم ضعيفاً لم يبلغوا إِيمان أولئك فقووا بإِظهار الكرامات لهم) [جامع كرامات الأولياء للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ج1. ص20].





الحكمة من إجراء الكرامات على يد الأولياء:

اقتضت حكمة الله تعالى أن يكرم أحبابه وأولياءه بأنواع من خوارق العادات، تكريماً لهم على إِيمانهم وإِخلاصهم، وتأييداً لهم في جهادهم ونصرتهم لدين الله، وإِظهاراً لقدرة الله تعالى، ليزداد الذين آمنوا إِيماناً، وبياناً للناس أن القوانين الطبيعية والنواميس الكونية إِنما هي من صنع الله وتقديره، وأن الأسباب لا تؤثر بذاتها ؛ بل الله تعالى يخلق النتائج عند الأسباب لا بها، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.

وقد يقول معترض: إِن تأييد الحق ونشر دين الله لا يكون بخوارق العادات، بل يكون بإِقامة الدليل المنطقي والبرهان العقلي.

فنقول: نعم لابد من نشر تعاليم الإِسلام بتأييد العقل السليم والمنطق الصحيح والحجة الدامغة، ولكن التعصب والعناد يدعوان إِلى أن تخرق العادات بالكرامات كما اقتضت حكمة الله أن يؤيد أنبياءه ورسله بالمعجزات إِظهاراً لصدقهم، وتأييداً لهم في دعوتهم، وحملاً للعقول المتحجرة والقلوب المقفلة أن تخرج من جمودها، وتتحرر من تعصبها، فتفكر تفكيراً سليماً مستقيماً يوصلها إِلى الإِيمان الراسخ، واليقين الجازم. ومن هنا يظهر أن الكرامة والمعجزة تلتقيان في بعض الحِكَم والمقاصد، إِلا أن الفارق بينهما أن المعجزة لا تكون إِلا للأنبياء عليهم السلام، والكرامة لا تكون إِلا للأولياء، وكلُّ كرامة لولي معجزةٌ لنبي.





الفرق بين الكرامة والاستدراج:

لا بد من التنبيه إِلى الفرق بين الكرامة والاستدراج، وذلك لأننا نشاهد بعض الفسقة المنسوبين للإِسلام تجري على يديهم خوارق العادات؛ مع أنهم مجاهرون بالمعصية، منحرفون عن دين الله تعالى. فالكرامة لا تكون إِلا على يد وليٌّ، وهو صاحب العقيدة الصحيحة، المواظب على الطاعات، المتجنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {ألا إنَّ أولِياءَ اللهِ لا خوفٌ عليهِمْ ولا هُمْ يحزَنُونَ . الذينَ آمنوا وكانُوا يتَّقونَ} [يونس: 62ـ63]. وأما ما يجري على يد الزنادقة والفسقة من الخوارق كطعن الجسم بالسيف وأكل النار والزجاج وغير ذلك، فهو من قبيل الاستدراج.

ثم إِن الولي لا يسكن إِلى الكرامة، ولا يتفاخر بها على غيره، قال العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير: (إِن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة، بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد، وحذره من قهر الله أقوى، فإِنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج.

وأما صاحب الاستدراج، فإِنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه، ويظن أنه إِنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقاً لها، وحينئذٍ يحتقر غيره، ويتكبر عليه، ويحصل له أَمْنٌ مِنْ مكْرِ الله وعقابه، ولا يخاف سوء العاقبة، فإِذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجاً لا كرامة، فلهذا قال المحققون: أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إِنما وقع في مقام الكرامات، فلا جَرَمَ أن ترى المحققين يخافون من الكرامات، كما يخافون من أنواع البلاء، والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه) ثم ذكرها حتى عدَّ إِحدى عشرة حجة، نذكر منها واحدة.

قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: (إِنَّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً لكرامة بسبب عمله، حصل لعمله وقع عظيم في قلبه، ومَنْ كان لعمله وقع عنده كان جاهلاً، ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير، وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور، وكلُّ معارفهم وعلومهم في مقابلة عزته حيرةٌ وجهلٌ، رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: {إليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصالحُ يرفَعُهُ} [فاطر: 10]. فقال: علامةُ أن الحق رفع عملك أن لا يَبْقى عندك [أي عملك] فإِن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع، وإِن لم يبق معك فهو مرفوع) ["تفسير الرازي" ج5. ص692].

وعلى هذا فإِننا حين نرى أحداً من الناس يأتي بخوارق العادات لا نستطيع أن نحكم عليه بالولاية، ولا يمكن أن نعتبر عمله هذا كرامة حتى نرى سلوكه وتمسكه بشريعة الله. قال أبو يزيد رحمه الله تعالى: (لو أن رجلاً بسط مُصلاَّه على الماء وتربَّعَ في الهواء فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر والنهي) ["اللمع" للطوسي ص400].







موقف الصوفية من الكرامات:

إِن بعض المنحرفين عن الصوفية يدَّعي أن مقصد الصوفية من سيرهم هو الوصول إِلى الكرامات [من بينهم عبد الرحمن الوكيل الذي دفعه الحقد الدفين والخلق الذميم إِلى التهجم على السادة الصوفية وتزييف كلامهم والدس عليهم، فجمع الأشياء التي دُسَّتْ على الصوفية وجعلها في كتاب له] وهم في هذا إِنما يُترجمون عما في نفوسهم من أمراض خبيثة وعلل دفينة ؛ مع أننا نرى الصوفية يهتمون بتزكية النفس وتخليصها من صفاتها المذمومة كالرياء والنفاق، وتحليتها بالصفات العالية، أن يكون سيره معهم بعيداً عن العلل والغايات، وألا يبتغي إِلا وجه الله تعالى ورضاه. كما نراهم يستترون من الكرامة بعداً عن شبهة الرياء.

قال الشيخ أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى: (من لم يكن كارهاً لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصي فهو في حقه حجاب، وسترها عليه رحمة، فإِنَّ من خرق عوائد نفسه لا يريد ظهور شيء من الآيات وخوارق العادات له، بل تكون نفسه عنده أقل وأحقر من ذلك، فإِذا فَنِيَ عن إِراداته جملةً فكان له تحقق في رؤية نفسه بعين الحقارة والذلة، حصلت له أهلية ورود الألطاف، والتحقق بمراتب الصديقين) [نور التحقيق لحامد صقر ص127].

وقال علي الخواص رحمه الله تعالى: (الكُمَّل يخافون من وقوع الكرامات على أيديهم، ويزدادون بها وجلاً وخوفاً لاحتمال أن تكون استدراجاً) [اليواقيت والجواهر لعبد الوهاب الشعراني ج2 ص113].

ثم إِن الصوفية يمنعون إِظهار الكرامة إِلا لغرض صحيح ؛ كنصرة شريعة الله أمام الكافرين والمعاندين [كما حدث مع الشيخ محي الدين بن عربي في قصته مع الفيلسوف، وهو يرويها لنا بقوله: (حضر عندنا سنة ست وثمانين وخمسمائة فيلسوفٌ ينكر النبوة على الحد الذي يثبتها المسلمون، وينكر ما جاءت به الأنبياء من خرق العوائد وأن الحقائق لا تتبدل، وكان زمن البرد والشتاء وبين أيدينا منقل عظيم يشتعل ناراً، فقال المنكر المكذب: إِن العامة تقول: إِن إِبراهيم عليه السلام أُلقي في النار فلم تحرقه، والنار محرقة بطبعها الجسوم القابلة للاحتراق، وإِنما كانت النار المذكورة في القرآن في قصة إِبراهيم عبارة عن غضب نمرود وحنقه، فهي نار الغضب. فلما فرغ من قوله قال له بعض الحاضرين [أي الشيخ محي الدين نفسه]: فإِن أريتك أنا صدق الله في ظاهر ما قاله في النار أنها لم تحرق إِبراهيم، وأن الله جعلها عليه ـ كما قال ـ برداً وسلاماً، وأنا أقوم لك في هذا المقام مقام إِبراهيم في الذبِّ عنه ؟ فقال المنكر: هذا لا يكون، فقال له: أليست هذه النار المحرقة ؟ قال: نعم. فقال: تراها في نفسك، ثم ألقى النار التي في المنقل في حِجْر المنكر، وبقيتْ على ثيابه مدة يقلبها المنكر بيده، فلما رآها لم تحرقه تعجب، ثم ردها إِلى المنقل، ثم قال له: قرّبْ يدك أيضاً منها، فقرَّبَ يده فأحرقته. فقال له: هكذا كان الأمر، وهي مأمورة، تحرق بالأمر وتترك الإِحراق كذلك، والله تعالى الفاعل لما يشاء. فأسلم ذلك المنكِرُ واعترف). الباب الخامس والثمانون ومائة من الفتوحات المكية ج2. ص371] وكإِبطال سحر الكافرين والضالين أو الفسقة المشعوذين الذين يريدون أن يضلوا الناس عن دينهم ويشككوهم في عقائدهم وإِيمانهم [ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية من أنَّ صوفياً ناظر برهمياً، والبراهمة قوم تظهر لهم خوارق لمزيد الرياضات، فطار البرهمي في الجو، فارتفعت إِليه نعل الشيخ ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه حتى وقع على الأرض منكوساً على رأسه بين يدي الشيخ والناس ينظرون. انظر الفتاوى الحديثية لابن حجر ص222]. أما إِظهارها بدون سبب مشروع فهو مذموم، لما فيه من حظ النفس والمفاخرة والعجب.

قال الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى: (ولا يخفى أن الكرامة عند أكابر الرجال معدودة من جملة رعونات النفس، إِلا إِنْ كانت لنصر دين أو جلب مصلحة، لأن الله تعالى هو الفاعل عندهم، لا هُمْ، هذا مشهدهم، وليس وجه الخصوصية إِلا وقوع ذلك الفعل الخارق على يدهم دون غيرهم ؛ فإِذا أحيا كبشاً مثلاً أو دجاجة فإِنما ذلك بقدرة الله لا بقدرتهم، وإِذا رجع الأمر إِلى القدرة فلا تعجب) [الباب الخامس والثمانون والمائة من الفتوحات المكية. كذا في اليواقيت والجواهر للشعراني ج2. ص117].

ثم إِن الصوفية يعتبرون أن أعظم الكرامات هي الاستقامة على شرع الله تعالى.

قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في رسالته: (واعلم أن من أجلِّ الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات، والحفظ من المعاصي والمخالفات) ["الرسالة القشيرية" ص160].

وذُكر عند سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى الكرامات فقال: (وما الآياتُ وما الكراماتُ ؟! أشياء تنقضي لوقتها، ولكن أكبر الكرامات أنْ تُبدّلَ خُلُقاً مذموماً من أخلاق نفسك بخُلق محمود) ["كتاب اللمع" للطوسي ص400].

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى: (الكرامة الحقيقية إِنما هي حصول الاستقامة، والوصول إِلى كمالها. ومرجعها أمران: صحة الإِيمان بالله عز وجل. واتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ؛ فالواجب على العبد أن لا يحرص إِلاّ عليهما ولا تكون له همة إِلا في الوصول إِليهما. وأما الكرامة بمعنى خرق العادة فلا عبرة بها عند المحققين، إِذ قد يُرْزَقُ بها من لم تكتمل استقامته، وقد يُرْزَق بها المستدرَجون) وقال: (إِنما هي كرامتان جامعتان محيطتان ؛ كرامة الإِيمان بمزيد الإِيقان وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوي والمخادعة، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إِلى غيرهما فهو عبد مُفْتَرٍ كذاب، ليس ذا حظ في العلم والعمل بالصواب ؛ كمن أُكرم بشهود الملك على نعت الرضا فجعل يشتاق إِلى سياسة الدواب وخلع الرضا) [نور التحقيق ص128].

وقال الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: (واعلم أن الكرامة على قسمين: حسية ومعنوية، ولا تعرفُ العامةُ إِلا الحسية ؛ مثل الكلام على الخاطر، والإِخبار بالمغيبات الماضية والكائنة والآتية، والأخذ من الكون، والمشي على الماء، واختراق الهواء، وطي الأرض، والاحتجاب عن الأبصار، وإِجابة الدعاء في الحال، ونحو ذلك. فالعامة لا تعرف الكرامات إِلا مثل هذا. وأما الكرامة المعنوية فلا يعرفها إِلا الخواص من عباد الله تعالى، والعامة لا تعرف ذلك وهي أن يُحفظ على العبد آداب الشريعة، وأن يُوفَّق لفعل مكارم الأخلاق واجتناب سفاسفها، والمحافظة على أداء الواجبات مطلقاً في أوقاتها والمسارعة إِلى الخيرات، وإِزالة الغل والحقد من صدره للناس والحسد وسوء الظن، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة، وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس، ومراعاة حقوق الله تعالى في نفسه وفي الأشياء، وتفقد آثار ربه في قلبه، ومراعاة أنفاسه في دخولها وخروجها، فيتلقاها بالأدب إِذا وردتْ عليه ويُخرجها وعليه حلة الحضور مع الله تعالى، فهذه كلها عندنا كرامات الأولياء المعنوية التي لا يدخلها مكر ولا استدراج) [الباب الرابع والثمانون ومائة من الفتوحات المكية ج2. ص369].

ثم إِن السادة الصوفية لا يعتبرون ظهور الكرامات على يد الولي الصالح دليلاً على أفضليته على غيره. قال الإِمام اليافعي رحمه الله تعالى: (لا يلزم أن يكون كلُّ مَنْ له كرامة من الأولياء أفضلَ من كل من ليس له كرامة منهم، بل قد يكون بعض مَنْ ليس له كرامة منهم أفضل من بعض مَنْ له كرامة، لأن الكرامة قد تكون لتقوية يقين صاحبها، ودليلاً على صدقه وعلى فضله لا على أفضليته، وإِنما الأفضلية تكون بقوة اليقين، وكمال المعرفة بالله تعالى) [كتاب نشر المحاسن الغالية لعبد الله اليافعي ص119].

كما أن الصوفية يعتبرون أن عدم ظهور الكرامة على يد الولي الصالح ليس دليلاً على عدم ولايته.

قال الإِمام القشيري رحمه الله تعالى في رسالته: (لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في الدنيا، لم يقدح عدمها في كونه ولياً) وقال شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري في شرحه لرسالة القشيري عند هذا الكلام: (بل قد يكون أفضل ممَّنْ ظهر له كرامات، لأن الأفضلية إِنما هي بزيادة اليقين لا بظهور الكرامة) [الرسالة القشيرية ص159].

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:24 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
الباب الخامس

تَصحيح الأفكار عن التصوف

1ـ بين الحقيقة والشريعة

2ـ الدس على العلوم الإِسلامية

أـ التفسير ب ـ الحديث ج ـ التاريخ د ـ التصوف

3ـ تأويل كلام السادة الصوفية

4ـ وحدة الوجود والحلول والاتحاد

5ـ بين الصوفية وأدعياء التصوف

6ـ أعداء التصوف

7ـ شهادات

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:24 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
1 - بين الحقيقة والشريعة



تمهيد وتعريف:

لقد ورد في حديث جبريل المشهور الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقسيمُ الدين إِلى ثلاثة أركان، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: “فإِنه جبريل أتاكم يعلمُكُمْ دينَكمْ” [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإِيمان. والإِمام أحمد في مسنده في باب الإِيمان والإِسلام والإِحسان ج1. ص64].

1 - فركن الإِسلام: هو الجانب العملي؛ من عبادات ومعاملات وأُمور تعبدية، ومحله الأعضاء الظاهرة الجسمانية. وقد اصطلح العلماء على تسميته بالشريعة، واختص بدراسته السادة الفقهاء.

2 - وركن الإِيمان: وهو الجانب الاعتقادي القلبي؛ من إِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر.. وقد اختص بدراسته السادة علماء التوحيد.

3 - وركن الإِحسان: وهو الجانب الروحي القلبي؛ وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك، وما ينتج عن ذلك من أحوال وأذواق وجدانية، ومقامات عرفانية، وعلوم وهبية، وقد اصطلح العلماء على تسميته بالحقيقة، واختص ببحثه السادة الصوفية.

ولتوضيح الصلة بين الشريعة والحقيقة نضرب لذلك مثلاً الصلاة، فالإِتيان بحركاتها وأعمالها الظاهرة، والتزام أركانها وشروطها، وغير ذلك مما ذكره علماء الفقه، يمثل جانب الشريعة، وهو جسد الصلاة. وحضور القلب مع الله تعالى في الصلاة يمثل جانب الحقيقة، وهو روح الصلاة.

فأعمال الصلاة البدنية هي جسدها، والخشوع روحها. وما فائدة الجسد بلا روح؟! وكما أن الروح تحتاج إِلى جسد تقوم فيه، فكذلك الجسد يحتاج إِلى روح يقوم بها، ولهذا قال الله تعالى: {أقيمُوا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ} [البقرة: 110]. ولا تكون الإِقامة إِلا بجسد وروح، ولذا لم يقل: أوجدوا الصلاة.

ومن هذا ندرك التلازم الوثيق بين الشريعة والحقيقة كتلازم الروح والجسد. والمؤمن الكامل هو الذي يجمع بين الشريعة والحقيقة، وهذا هو توجيه الصوفية للناس، مقتفين بذلك أثر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.



وللوصول إِلى هذا المقام الرفيع، والإِيمان الكامل، لابد من سلوك الطريقة، وهي مجاهدة النفس، وتصعيد صفاتها الناقصة إِلى صفات كاملة، والترقي في مقامات الكمال بصحبة المرشدين، فهي الجسر الموصل من الشريعة إِلى الحقيقة.

قال السيد رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الطريقة هي السيرة المختصة بالسالكين إِلى الله تعالى، من قطع المنازل والترقي في المقامات) [تعريفات السيد ص94].

فالشريعة هي الأساس، والطريقة هي الوسيلة، والحقيقة هي الثمرة وهذه الأشياء الثلاثة متكاملة منسجمة، فَمَنْ تمسَّك بالأولى منها سلك الثانية فوصل إِلى الثالثة، وليس بينها تعارض ولا تناقض. ولذلك يقول الصوفية في قواعدهم المشهورة: (كل حقيقة خالفت الشريعة فهي زندقة). وكيف تخالف الحقيقةُ الشريعةَ وهي إِنما نتجت من تطبيقها.

يقول إِمام الصوفية أحمد زروق رحمه الله تعالى: (لا تصوف إِلا بفقه، إِذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إِلا منه. ولا فقه إِلا بتصوف، إِذ لا عمل إِلا بصدق وتوجه لله تعالى. ولا هما [التصوف والفقه] إِلا بإِيمان، إِذ لا يصح واحد منهما دونه. فلزم الجميع لتلازمها في الحكم، كتلازم الأجسام للأرواح، ولا وجود لها إِلا فيها، كما لا حياة لها إِلا بها، فافهم) [“قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق قاعدة 3. ص3].

ويقول الإِمام مالك رحمه الله تعالى: (مَنْ تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق) [“شرح عين العلم وزين الحلم” للإِمام مُلا علي القاري ج1. ص33].

تزندق الأول لأنه نظر إِلى الحقيقة مجردة عن الشريعة، فقال بالجبر وأن الإِنسان لا خيار له في أمر من الأمور، فهو يتمثل قول القائل:

ألقاهُ في اليمِّ مكتوفاً وقال لهإِياك إِياك أنْ تبتلَّ بالماءِ فعطَّل بذلك أحكام الشريعة والعمل بها، وأبطل حكمتها والنظر إِليها.

وتفسَّق الثاني لأنه لم يدخل قلبه نورُ التقوى، وسرُ الإِخلاص وواعظ المراقبة، وطريقة المحاسبة، حتى يحجب عن المعصية، ويتمسك بأهداب السنة.

وتحقق الثالث لأنه جمع كل أركان الدين: الإِيمان، والإِسلام، والإِحسان، التي اجتمعت في حديث جبريل عليه السلام.

وكما حفظ علماء الظاهر حدود الشريعة، كذلك حفظ علماء التصوف آدابها وروحها، وكما أبيح لعلماء الظاهر الاجتهاد في استنباط الأدلة واستخراج الحدود والفروع، والحكم بالتحليل والتحريم على ما لم يَرِدْ فيه نص، فكذلك للعارفين أن يستنبطوا آداباً ومناهج لتربية المريدين وتهذيب السالكين.

ولقد تحقق السلف الصالح والصوفية الصادقون بالعبودية الحقة والإِسلام الصحيح، إِذ جمعوا بين الشريعة والطريقة والحقيقة، فكانوا متشرِّعين متحققين، يهدون الناس إِلى الصراط المستقيم.

فالدين إِن خلا من حقيقته جفَّت أصولُه، وذوت أغصانه، وفسدت ثمرته.



مناقشة المتحاملين على الصوفية:

أما هؤلاء المعترضون على السادة الصوفية:

- إِن كانوا ينكرون هذا التقسيم إِلى [شريعة، وطريقة، وحقيقة] على النحو الذي بيَّناه آنفاً، فهم لاشك يريدون بذلك أن يفصلوا روح الإِسلام عن جسده، وأن يهدموا ركناً هاماً من أركان الدين الثلاثة الموضحة في حديث جبريل عليه السلام، ويخالفوا علماء الإِسلام وكبار فقهائه.

يقول ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته المشهورة (بِرَدِّ المحتار): (الطريقة: هي السيرة المختصة بالسالكين من قطع المنازل، والترقي في المقامات). ويقول في الصفحة التي تليها: (فالحقيقة: هي مشاهدة الربوبية بالقلب، ويقال: هي سر معنوي لا حدَّ له ولا جهة. وهي والطريقة والشريعة متلازمة، لأن الطريق إِلى الله تعالى لها ظاهر وباطن، فظاهرها الشريعة والطريقة، وباطنها الحقيقة. فبطون الحقيقة في الشريعة والطريقة، كبطون الزبْد في لبنه، لا يُظفر من اللبن بزبده بدون مخضّه، والمراد من الثلاثة [الشريعة، والطريقة، والحقيقة] إِقامة العبودية على الوجه المراد من العبد) [حاشية ابن عابدين ج3. ص303].

ويقول الشيخ عبد الله اليافعي رحمه الله تعالى: (إِن الحقيقة هي مشاهدة أسرار الربوبية. ولها طريقة هي عزائم الشريعة، فمن سلك الطريقة وصل إِلى الحقيقة. فالحقيقة نهاية عزائم الشريعة. ونهاية الشيء غير مخالفة له، فالحقيقة غير مخالفة لعزائم الشريعة) [نشر المحاسن الغالية ج1. ص154].

وقال صاحب كشف الظنون في حديثه عن علم التصوف: (ويقال: علم التصوف علم الحقيقة أيضاً، وهو علم الطريقة، أي تزكية النفس عن الأخلاق الردية، وتصفية القلب عن الأغراض الدَّنية. وعلم الشريعة بلا علم الحقيقة عاطل، وعلم الحقيقة بلا علم الشريعة باطل.

علم الشريعة وما يتعلق بإِصلاح الظاهر بمنزلة العلم بلوازم الحج. وعلم الطريقة وما يتعلق بإِصلاح الباطن بمنزلة العلم بالمنازل، وعقبات الطريق. فكما أن مجرد علم اللوازم، ومجرد علم المنازل لا يكفيان في الحج الصوري بدون إِعداد اللوازم وسلوك المنازل، كذلك مجرد العلم بأحكام الشريعة وآداب الطريقة لا يكفيان في الحج المعنوي، بدون العمل بموجبيهما) [كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة ج1. ص413].

- وإِن كان المعترضون يقرّون فكرة التقسيم السالفة الذكر، ولكنهم ينكرون هذه التسمية: [الشريعة، والطريقة، والحقيقة].

نقول لهم: هذا تعبير درج عليه العلماء، وجرى عليه الفقهاء كما بيَّنا وهو اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاحات.

- وإِن كانوا يقرون التقسيم والتسمية، ولكنهم ينكرون على الصوفية أحوالهم القلبية، وأذواقهم الوجدانية، وعلومهم الوهبية.

نقول لهم: إِن هذه أمور يكرم الله تعالى بها عباده المخلصين، وأحبابه الصادقين، ولا حجر على القدرة الإِلهية.

إِنما هي أذواق ومفاهيم، وكشوفات وفتوحات، منحهم الله إِياها، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “العلم علمان: علم في القلب، وفي رواية: علم ثابت في القلب، فذلك العلم النافع. وعلم على اللسان، فذلك حجة الله على خلقه” [رواه الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه بإِسناد حسن، ورواه ابن عبد البر النمري في كتاب العلم عن الحسن مرسلاً بإِسناد صحيح كما في الترغيب والترهيب ج1. ص67].

ويدل على ذلك حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن معاذ بن جبل دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “كيف أصبحتَ يا معاذ؟”.قال: أصبحتُ مؤمناً بالله تعالى. قال: “إِن لكل قول مصداقاً، ولكل حق حقيقة، فما مصداق ما تقول؟”. قال: يا نبي الله! ما أصبحت صباحاً قط إِلا ظننت أني لا أمسي، وما أمسيت مساء قط إِلا ظننت أني لا أصبح، ولا خطوت خطوة إِلا ظننت أني لا أتبعها أخرى، وكأني أنظر إِلى كل أمة جاثية تدعى إِلى كتابها، معها نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله وكأني أنظر إِلى عقوبة أهل النار، وثواب أهل الجنة. قال: “عرفت فالزم” [أخرجه أبو نعيم في الحلية ج1. ص242].

فلم يصل الصالحون إِلى هذه الكشوفات والمعارف إِلا بتمسكهم بالكتاب والسنة، واقتفائهم أثر الرسول الأعظم وأصحابه الكرام، ومجاهدتهم لأنفسهم، من صيام وقيام، وزهدهم في هذه الدنيا الفانية، كما أكرم الله معاذاً رضي الله عنه بهذا الكشف الذي أقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “عرفتَ فالزم”.

وهذا الإِمام الشعراني رحمه الله تعالى يتحدث عن إِكرام الله تعالى للصوفية الذين ساروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أمثال معاذ رضي الله عنه فيقول:

(اعلم يا أخي أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم وآداب وأسرار وحقائق، تعجز الألسنة عنها، نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من أحكام، حين عملوا بما علموه من أحكامها) [“التصوف الإِسلامي والإِمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور ص70].

وقد كان علماء السلف الصالح رضي الله عنهم يعملون بكل ما يعلمون على وجه الإِخلاص لله تعالى، فاستنارت قلوبهم، وخلصت من العلل القادحة أعمالهم، فلما ذهبوا وخلف من بعدهم أقوام لا يعتنون بالإِخلاص في علمهم ولا في عملهم أظلمت قلوبهم، وحُجبت عن أحوال القوم فأنكروها.

وهناك مغرضون يتحاملون على الصوفية مستشهدين بكلام ابن تيمية وغيره، ويتهمونهم زوراً وبهتاناً، بأنهم يهتمون بالحقيقة فقط، ويهملون جانب الشريعة، وأنهم يعتمدون على كشفهم ومفاهيمهم ولو خالفت الشريعة، فهذا كله افتراء باطل، يشهد على بطلانه كلام ابن تيمية نفسه. فقد تحدث ابن تيمية رحمه الله تعالى عن تمسك السادة الصوفية بالكتاب والسنة في قسم علم السلوك من فتاواه فقال: (والشيخ عبد القادر [الجيلاني رحمه الله تعالى] ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمراً بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمراً بترك الهوى والإِرادة النفسية، فإِن الخطأ في الإِرادة من حيث هي إِرادة إِنما تقع من هذه الجهة، فهو يأمر السالك أن لا تكون له إِرادة من جهته هو أصلاً؛ بل يريد ما يريد الربُّ عز وجل؛ إِما إِرادة شرعية إِن تبين له ذلك، وإِلا جرى مع الإِرادة القدرية، فهو إِما مع أمر الرب وإِما مع خلقه. وهو سبحانه له الخلق والأمر. وهذه طريقة شرعية صحيحة)[مجموع فتاوى أحمد بن تيمية ج10. ص488 -489].

وقال أيضاً: (فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإِبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر [الجيلاني]، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوِّغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إِلى أن يموت. وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإِجماع السلف وهذا كثير في كلامهم) [“مجموع فتاوى أحمد بن تيمية” ج10. ص516 -517].

وهذه نبذة يسيرة من أقوال أئمة السادة الصوفية وتوجيهاتهم تشهد على:

تمسكهم بالكتاب والسنة:

قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى: (كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة. طِرْ إِلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وسلم) [“الفتح الرباني” للشيخ عبد القادري الجيلاني ص29].

وقال منكراً على من يعتقد أن التكاليف الشرعية تسقط عن السالك في حال من الأحوال: (ترك العبادات المفروضة زندقة. وارتكاب المحظورات معصية، لا تسقط الفرائض عن أحد في حال من الأحوال) [“الفتح الرباني” للشيخ عبد القادري الجيلاني ص29].

ويقول سهل التستري رحمه الله تعالى: (أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكفِ الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص210].

وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى يقول: (إِذا عارض كشفُك الصحيح الكتابَ والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إِن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإِلهام) [“إِيقاظ الهمم” ج2. ص302 -303].

وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى: (كلُّ باطنٍ يخالفه ظاهرٌ فهو باطلٌ) [“الرسالة القشيرية” ص27].

وقال أبو الحسين الوراق رحمه الله تعالى: (لا يصل العبد إِلى الله إِلا بالله، وبموافقة حبيبه صلى الله عليه وسلم في شرائعه، ومَنْ جعل الطريق إِلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث يظن أنه مهتد) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص300].

وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى: (إِن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب والجوهر، فيحتاج سالكها إِلى ميزان شرعي في كل حركة وسكون) [“لطائف المنن والأخلاق” للشعراني ج1. ص2].

وقال أيضاً: (إِن حقيقة طريق القوم علم وعمل، سداها ولحمتها شريعة، وحقيقة، لا أحدهما فقط) [“لطائف المنن والأخلاق” للشعراني ج1 ص25].

وقال الشعراني أيضاً: (فَمَنْ دقَّق النظر عَلِمَ أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة. وكيف يخرج والشريعة صلتهم إِلى الله عز وجل في كل لحظة) [“التصوف الإِسلامي والإِمام الشعراني” لطه عبد الباقي سرور ص71].

وسئل أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى عن الصوفي فقال: (هو الذي يأخذ كتاب الله بيمينه وسنة رسوله بشماله، وينظر بإِحدى عينيه إِلى الجنة، وبالأخرى إِلى النار، ويأتزر بالدنيا، ويرتدي بالآخرة، ويلبي من بينهما للمولى: لبيك اللهم لبيك) [“شطحات الصوفية” لعبد الرحمن البدوي ص96].

ومن جملة توجيه أبي يزيد رحمه الله تعالى: (عشرة أشياء فريضة على البدن: أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والتواضع لله، وكف الأذى عن الإِخوان، والنصيحة للبَرِّ والفاجر، وطلب مرضاة الله في جميع أموره، وطلب المغفرة، وترك الغضب، والكبرُ والبغيُ والمجادلةُ من ظهور الجفا، وأن يكون وصي نفسه يتهيأُ للموت) [“شطحات الصوفية” ص103].

ومع كل هذا نجد الحاقدين على التصوف إِذا سمعوا بشيء من أخلاق القوم قالوا: [هذا منزع صوفي، لا شرعي] فيتوهم السامع أن التصوف أمر خارج عن أصل الشريعة، والحال أنه لب الشريعة كما رأيت. وإِنَّ مَنْ يطالع كتب القوم السليمة من الدس؛ مثل: كتاب الحلية لأبي نعيم، والرسالة القشيرية، وكتاب التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، واللمع للطوسي، والإِحياء للغزالي، وطبقات الصوفية للسلمي، والرعاية لحقوق الله للمحاسبي، والوصايا للشيخ محي الدين بن عربي، وغير ذلك من كتب الصوفية، لا يكاد يجد خُلُقاً مما فيها يخالف الشريعة أبداً، لكثرة محاسبة الصوفية لأنفسهم وأخذهم بالعزائم، فإِن حقيقة طريق القوم علم وعمل، سداها ولحمتها شريعة وحقيقة.



التحذير من الفصل بين الحقيقة والشريعة:



هناك أُناس ادَّعَوْا التصوف كذباً ونفاقاً، انحرفوا عن الإِسلام، وقالوا: إِن المقصود من الدين هو الحقيقة فقط، وعطلوا أحكام الشريعة، فأسقطوا عن أنفسهم التكاليف، وأباحوا المخالفات، وقالوا: إِن المُعَوَّل عليه صلاح القلب، ويقولون: [نحن أهل الباطن، وهم أهل الظاهر]. فهؤلاء ضالون منحرفون زنادقة، لا يجوز أن نأخذ أعمالهم وأحوالهم حجة على السادة الصوفية الصادقين المخلصين.

وإِن السادة أئمة الصوفية قد نبهوا إِلى خطرهم، وحذروا من صحبتهم ومجالستهم، وتبرؤوا من سيرهم وانحرافهم. قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى لبعض أصحابه: (قم بنا حتى ننظر إِلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية، وكان رجلاً مقصوداً مشهوراً بالزهد، فمضينا إِليه، فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببصاقه تجاه القبلة، فانصرف أبو يزيد ولم يسلّم عليه، وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه) [“الرسالة القشيرية” ص16]. وقال أيضاً: (لو نظرتم إِلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة) [“الرسالة القشيرية” ص16].

وقال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (وكل شيخ لم يظهر بالسنة فلا يصح اتباعه لعدم تحقق حاله، وإِن صح في نفسه وظهر عليه ألف ألف كرامة من أمره) [“قواعد التصوف” للشيخ أحمد رزوق ص76].

وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: (احذر صحبة ثلاث من أصناف الناس: الجبابرة الغافلين، والقُرَّاء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين) [“شرح الحكم” لابن عجيبة ج1. ص76].

وقال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: (لا تقولوا كما يقول بعض المتصوفة: [نحن أهل الباطن، وهم أهل الظاهر]. هذا الدين الجامع باطنه لب ظاهره، وظاهره ظرف باطنه، لولا الظاهر لما بطن، لولا الظاهر لما كان الباطن ولما صح. القلب لا يقوم بلا جسد، بل لولا الجسد لفسد، والقلب نور الجسد. هذا العلم الذي سماه بعضهم بعلم الباطن، هو إِصلاح القلب، فالأول عمل بالأركان وتصديق بالجَنان. إِذا انفرد قلبك بحسن نيته وطهارة طويته، وقتلْتَ وسرقْتَ وزنيتَ، وأكلتَ الربا، وشربتَ الخمر، وكذبت وتكبرت وأغلظت القول، فما الفائدة من نيتك وطهارة قلبك؟ وإِذا عبدت الله وتعففت، وصمت وتصدقت وتواضعت، وأبطن قلبُكَ الرياء والفساد، فما الفائدة من عملك؟) [“البرهان المؤيد” للسيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى. توفي سنة 578هـ بأم عبيدة بالعراق ص68].

وينكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى على من يعتقد أن التكاليف الشرعية تسقط عن السالك في حال من الأحوال، كما مَرَّ بك قوله: (ترك العبادات المفروضة زندقة، وارتكاب المحظورات معصية. لا تسقط الفرائض عن أحد في حال من الأحوال) [“الفتح الرباني” للشيخ عبد القادر الجيلاني ص29].

وقال شيخ الصوفية الإِمام الجنيد رحمه الله تعالى: (مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص159].

وقال أيضاً: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إِلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام، واتبع سنته ولزم طريقته، فإِنَّ طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص159].

وذكر رجل عنده المعرفة فقال: أهل المعرفة بالله يصلون إِلى ترك الحركات [الأعمال] من باب البر والتقرب إِلى الله عز وجل. فقال الجنيد رحمه الله تعالى: (إِن هذا قول قوم تكلموا بإِسقاط الأعمال [الصالحة التكليفية] وهو عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، فإِن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإِليه رجعوا فيها، ولو بقيتُ ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إِلا أن يحال بي دونها) [“الرسالة القشيرية” ص22]. وقال أيضاً: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال لكن عن الجوع [الصوم] وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات) [“الرسالة القشيرية” ص22].

وقال إِبراهيم بن محمد النصر أباذي رحمه الله تعالى: (أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلق، وحسن صحبة الرفقاء، والقيام بخدمتهم، واستعمال الأخلاق الجميلة، والمداومة على الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات، وما ضل أحد في هذا الطريق إِلا بفساد الابتداء، فإِن فساد الابتداء يؤثر في الانتهاء) [طبقات الصوفية للسلمي ص488].









فقهاء الصوفية:

لقد كان علماء الشريعة الإِسلامية من الفقهاء والمحدِّثين، يسيرون على أثر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فيجمعون بين الشريعة والطريقة والحقيقة، ويؤدون العبادات العملية متحققين بسر الإِخلاص فيها، متذوقين حلاوتها، مدركين أسرارها، وقد كانت لهم مجاهدات لتهذيب نفوسهم وإِصلاح قلوبهم. ولِمَا تحلَّوْا به من صلاح وتقوى ومعرفة نالوا هذه المراتب العلمية، ومنحهم الله تعالى هذا الفهم لكتابه والتعمق في شرعه، ونفع الله الأمة بعلومهم على مرِّ السنين والأيام، فكأنهم أحياء بآثارهم الخالدة وجهودهم العلمية المباركة.

نقل الفقيه الحنفي الحصكفي صاحب الدر: أن أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى قال: (أنا أخذتُ هذه الطريقة من أبي القاسم النصر أباذي، وقال أبو القاسم: أنا أخذتها من الشبلي، وهو من السري السقطي، وهو من معروف الكرخي، وهو من داود الطائي، وهو أخذ العلم والطريقة من أبي حنيفة رضي الله عنه، وكلٌ منهم أثنى عليه وأقرّ بفضله..) ثم قال صاحب الدر معلقاً: (فيا عجباً لك يا أخي! ألم يكن لك أسوة حسنة في هؤلاء السادات الكبار؟ أكانوا مُتَّهمين في هذا الإِقرار والافتخار، وهم أئمة هذه الطريقة وأرباب الشريعة والحقيقة؟ ومَن بعدهم في هذا الأمر فلهم تبع، وكل ما خالف ما اعتمدوه مردود مبتدع) [الدر المختار ج1. ص43. وعليه حاشية ابن عابدين وهو محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي فقيه الديار الشامية وإِمام الحنفية في عصره، له من التآليف [رد المحتار على الدر المختار] في خمسة مجلدات يعرف بحاشية ابن عابدين، وله رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية جزءان، ونسمات الأسحار شرح المنار، ومجموعة الرسائل.. مولده ووفاته في دمشق سنة 1198 -1252هـ].

ولعلك تستغرب عندما تسمع أن الإِمام الكبير، أبا حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، يعطي الطريقة لأمثال هؤلاء الأكابر من الأولياء والصالحين من الصوفية!.

فهلاَّ تأسى الفقهاء بهذا الإِمام، فساروا على نهجه، وجمعوا بين الشريعة والحقيقة، لينفع الله بعلمهم، كما نفع بإِمامهم الأعظم، الإِمام الكبير، معدن التقوى والورع أبي حنيفة رحمه الله تعالى!

يقول ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته متحدثاً عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، تعليقاً على كلام صاحب الدر الآنف الذكر: (هو فارس هذا الميدان، فإِن مبنى علم الحقيقة على العلم والعمل وتصفية النفس، وقد وصفه بذلك عامة السلف، فقال أحمد بن حنبل [رحمه الله تعالى] في حقه: إِنه كان من العلم والورع والزهد وإِيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد، ولقد ضُرِب بالسياط لِيَلِيَ القضاء، فلم يفعل. وقال عبد الله بن المبارك [رحمه الله تعالى]: ليس أحد أحق من أن يُقْتَدى به من أبي حنيفة، لأنه كان إِماماً تقياً نقياً ورعاً عالماً فقيهاً، كشف العلم كشفاً لم يكشفه أحد ببصر وفهم وفطنة وتقى. وقال الثوري لمن قال له: جئتُ من عند أبي حنيفة: لقد جئتَ من عند أعبد أهل الأرض) [“حاشية ابن عابدين” ج1. ص43].

ومن هذا نعلم أن الأئمة المجتهدين والعلماء العاملين، هم الصوفية حقيقة.

فإِن قال قائل: لو أن طريق التصوف أمر مشروع، لوضع فيه الأئمة المجتهدون كتباً، ولا نرى لهم قط كتاباً في ذلك؟

يجيب الشعراني رحمه الله تعالى على هذا فيقول: (إِنما لم يضع المجتهدون في ذلك كتاباً لقلة الأمراض في أهل عصرهم، وكثرة سلامتهم من الرياء والنفاق. ثم بتقدير عدم سلامة أهل عصرهم من ذلك، فكان ذلك في بعض أناس قليلين، لا يكاد يظهر لهم عيب. وكان معظم همة المجتهدين إِذ ذاك إِنما هو في جمع الأدلة المنتشرة في المدائن والثغور مع أئمة التابعين وتابعيهم، التي هي مادة كل علم، وبها يُعرف موازين جميع الأحكام، فكان ذلك أهم من الاشتغال بمناقشة بعض أناس في أعمالهم القلبية التي لا يظهر بها شعار الدين، وقد لا يقعون بها في حكم الأصل.

ولا يقول عاقل قط: إِن مثل الإِمام أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رضي الله عنهم، يعلم أحدهم من نفسه رياءً أو عُجباً أو كبراً أو حسداً أو نفاقاً ثم لا يجاهد نفسه ولا يناقشها أبداً. ولولا أنهم يعلمون سلامتهم من تلك الآفات والأمراض لقدموا الاشتغال بعلاجها على كل علم) [“لطائف المنن والأخلاق” للشعراني ج1 ص25 -26].


عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:25 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
2 - الدس على العلوم الإسلامية

التفسير - الحديث - التاريخ - التصوف





لقد تعرض الإِسلام منذ انبثاق فجره إِلى خصوم أشداء، وأعداء ألِدَّاء حاولوا تقويض بنيانه، وتحطيم أركانه، عن طريق تشويه معالمه، ودس الأباطيل والخرافات في علومه، كما نرى ذلك في التفسير والحديث وفي التاريخ والتصوف.. وغيرها.

أما التفسير: فكثيراً ما نقرأ في كتبه بعض الإِسرائيليات التي ليست إِلا أساطير كاذبة، وعقائد غير إِسلامية، نقلها إِلى الدين الإِسلامي اليهود الذين اعتنقوا الإِسلام غير مخلصين، أو مخلصين ولكن علقت بأذهانهم هذه الأساطير حين كانوا على دين اليهودية، فنقلوها عن كتب أنبيائهم التي دخلها التحريف والتغيير، وتقبَّلها بعض المسلمين على أنها صحيحة.

وقد وفق الله تعالى علماء المسلمين إِلى تمحيص هذه الإِسرائيليات وتنبيه المسلمين إِلى ضررها، وخصوصاً منها ما يضر بالعقيدة، كالإِخبار بأن أيوب عليه السلام مرض حتى ظهر الدود على جسده، وكنسبة المعاصي إِلى بعض الأنبياء، فقد زعموا أن داود عليه السلام عشق امرأة بعض جنوده، ثم أَرسلَ زوجَها لبعض المواقع الحربية لقتله، فقُتل وتزوجها. كما زعموا أن يوسف عليه السلام همَّ بامرأة العزيز هَمَّ فُحْشٍ وسوء، ولفَّقوا في ذلك قصصاً وحكايات لا تليق بمقام الرسل الكرام، الذين عصمهم الله من كل سوء وفاحشة.

فالواجب على كل مسلم نبذُ هذه الإِسرائيليات، والاعتماد على المصادر الإِسلامية الصحيحة الشهيرة.

وأما الحديث: فلقد حاول الدسَّاسون المغرضون تشويه معالم الإِسلام عن طريق وضع أحاديث مكذوبة مفتراة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يقصدون بذلك تحطيم العقيدة، ودس الأفكار الهدَّامة؛ كالتجسيم والتشبيه والفوقية والجهة، وغير ذلك من العقائد الفاسدة.

كما وضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب ما أنزل الله بها من سلطان. وإِذا قيل لهم: لِمَ تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: “مَنْ كذب عليَّ متعمداً فليتبوأْ مقعده من النار”؟ [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في كتاب الإِيمان، والترمذي في كتاب العلم، وابن ماجه في أبواب السنة] قالوا: نحن نكذب له لا عليه. كما كان بعضهم يضع الحديث تقرباً إِلى الحكام، وتزلفاً إِلى الملوك، رغبة في مطمع دنيوي ومكسب مادي

ولكن الله تعالى قيَّض لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علماء مخلصين غيورين، محَّصوا تلك الأحاديث، وبينوا الصحيحة من الضعيفة، والموضوعة من الحسنة، والمشهورة من الغريبة، كالمُزّي والزين العراقي والذهبي وابن حجر وغيرهم [وقد جمع بعض العلماء الغيورين على الأحاديث النبوية كتباً بيَّنوا فيها الأحاديث الموضوعة منها: اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي، وكشف الخفاء للعجلوني، وأسنى المطالب للحوت البيروتي].

وأما التاريخ: فقد كان ميداناً خصباً للدس والافتراءِ؛ حيث ألصق المضللون في تاريخ الإِسلام قصصاً وحوادث من نسيج خيالهم. حاولوا بذلك تشويه سيرة الخلفاء وملوك الإِسلام، كما نسبوا إِلى هارون الرشيد أُموراً غريبة منكرة، نجدها في أكاذيب ألف ليلة وليلة.

ولا يخفى ما أحدثه المضللون الصليبيون والمستشرقون ومَنْ لفَّ لَفَّهم في تاريخ الإِسلام من افتراءات وتُرَّهَاتٍ وأضاليل واضحة البطلان لم يقصدوا بها إِلا التهديم والتشكيك.

ولكن المؤرخين المسلمين المحققين كالذهبي، والطبري، وابن كثير، وابن الأثير، وابن هشام وغيرهم، قد دوَّنوا التاريخ الإِسلامي، وهذبوه ونفوا عنه الدخائل، وأخرجوه نقياً سليماً. فعلى طالب الحقيقة أن يعود إِلى هذه المراجع الصحيحة، كي يميز الخبيث من الطيب، والغث من السمين.

وأما التصوف: فكغيره من العلوم الدينية، لم يَسْلم من الدس والتحريف من هؤلاء الدخلاء والمفترين.

فمنهم من أدخل في كتب الصوفية أفكاراً منحرفة، وعبارات سيئة ما أنزل الله بها من سلطان، كقولهم:



وما الكلبُ والخنزيرُ إِلا إِلهنا وما الربُّ إِلا راهبٌ في كنيسة



{كَبُرَتْ كَلِمَةً تخرُجُ مِنْ أفوَاهِهِمْ إنْ يَقُولونَ إلا كَذِباً} [الكهف: 5].

ومنهم من أراد أن يفسد دين المسلمين بأشياء أُخر تمس عقائدهم؛ فنسب إِلى بعض رجال الصوفية أقوالاً تخالف عقيدة أهل السنة؛ كالقول بالحلول والاتحاد، وبأن الخالق عين المخلوق، والكون عين المكوِّن.

ومنهم من حاول تشويه تاريخ رجال الصوفية، ونزع ثقة الناس بهم، فدَسَّ في كتبهم حوادث وقصصاً من نسج خياله، فيها ارتكاب للمنكرات واقتراف للآثام والكبائر، كما نجد ذلك كثيراً في الطبقات الكبرى للإِمام الشعراني رحمه الله تعالى، وهو منها بريء كما سيأتي.

ومنهم المبشِّرون والمستشرقون، وأبواق الاستعمار الذين درسوا كتب السادة الصوفية، وكتبوا عنهم المؤلفات لأجل التحريف والتزوير والدس، يقصدون بذلك أن يطعنوا الإِسلام في صميمه، وأن يسلخوا روح الدين عن جسده، ولقد خُدع بهم أقوام أرادوا أن يفهموا التصوف من كتب هؤلاء المستشرقين، كأمثال [نكلسون الإِنكليزي، وجولد زيهر اليهودي، وماسينيون الفرنسي وغيرهم]، فوقعوا في أحابيلهم، وتسمَّمُوا من أفكارهم، وانجرفوا في تيار محاربة الصوفية. ولا أدري كيف يثق مسلم صادق بأقوال عدوه المخادع الماكر؟

ومنهم السُّذَّجُ الذين يصدقون هؤلاء وهؤلاء، فيعتقدون بهذه الأمور المدسوسة ويثبتونها في كتبهم. وكل هذا بعيد عن الصوفية والتصوف.

فإِن قال قائل: إِنَّ ما نسب إِلى الصوفية من أقوال مخالفة هي حقاً من كلامهم بدليل وجودها في كتبهم المطبوعة المنشورة.

نقول: ليس كل ما في كتب الصوفية لهم؛ لأنها لم تسْلم من حملات الدس والتحريف. وما أحوجنا إِلى تضافر جهود المؤمنين المخلصين لتنقية هذا التراث الإِسلامي الثمين ممَّا لحق به من دس وتحريف.

ولو ثبت بطريق صحيح عن بعض الصوفية كلام مخالف لحدود الشريعة فنقول: ليست كلمة فرد واحد حجة على جماعة، شعارها ومذهبها التمسك بالكتاب والسنة. حتى إِنهم ليقولون: إِن أول شرط الصوفي أن يكون واقفاً عند حدود الشريعة، وألا ينحرف عنها قيد شعرة. فإِذا هو تخطى هذا الشرط، ووصف نفسه بأنه صوفي، فقد اختلق لنفسه صفة ليست فيه وزعم ما ليس له.

وإِن من إِضاعة الوقت الثمين الانشغالَ بمثل هذه التُّرَّهَات والأباطيل المفتراة على هؤلاء القوم في هذه الأوقات التي يوجد ما هو أهم من المجادلة بها، فهي معروفة لدى الصوفية المحققين والعلماء المدققين. وعلينا أن نعرف أن التصوف ليس علماً نتلقاه بقراءة الكتب ومطالعة الكراريس، ولكنه أخلاق وإِيمان، وأذواق ومعارف، لا ينال إِلا بصحبة الرجال، الذين اهتدوا بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وورثوا عنه العلم والعمل والأخلاق والمعارف. وهو علم ينتقل من الصدر إِلى الصدر، ويفرغه القلب في القلب.

وهناك أقوام مغرضون، درسوا كتب السادة الصوفية وتتبعوا ما فيها من دس وتشويه وتحريف واعتبروها حقائق ثابتة، وارتكزوا عليها في حملاتهم العنيفة وتهجماتهم الشديدة على السادة الصوفية الأبرار. ولو أنهم قرأوا ما يعلنه رجال التصوف في جميع كتبهم من استمساكهم بالشريعة واعتصامهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتقيدهم بالمذاهب الإِسلامية المعتبرة، وتَبَنِّيهِمْ عقيدة أهل السنة والجماعة، كما بيناه آنفاً في بحث بين الحقيقة والشريعة، لأدركوا تماماً أن ما ورد في كتبهم مما يناقض هذا المبدأ الواضح والمنهج السوي، إِنما هو مؤول أو مدسوس.

وإِليك بعض أمثلة الدس المفتراة على الصوفية والعلماء في كتبهم:

يقول ابن الفراء في طبقاته نقلاً عن أبي بكر المروزي ومسدد وحرب إِنهم قد رووا الكثير من المسائل، ونسبوها للإِمام أحمد بن حنبل.. وبعد أن يفيض في ذكر هذه المسائل يقول:

(رجلان صالحان بُليا بأصحاب سوء: جعفر الصادق، وأحمد بن حنبل، أما جعفر الصادق فقد نسبت إِليه أقوال كثيرة، دونت في فقه الشيعة الإِمامية على أنها له، وهو بريء منها. وأما الإِمام أحمد، فقد نسب إِليه بعض الحنابلة آراء في العقائد لم يقل بها) [التصوف الإِسلامي والإِمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور ص82].

وسئل الإِمام الفقيه ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى ونفعنا به: في عقائد الحنابلة ما لا يخفى على شريف علمكم، فهل عقيدة الإِمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كعقائدهم؟

فأجاب بقوله: (عقيدة إِمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنان المعارف متقلبه ومأواه، وأفاض علينا وعليه من سوابغ امتنانه، وبوأه الفردوس الأعلى من جنانه، موافقةٌ لعقيدة أهل السنة والجماعة من المبالغة التامة في تنزيه الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً؛ من الجهة والجسمية وغيرها من سائر سمات النقص، بل وعن كل وصف ليس فيه كمال مطلق، وما اشتهر بين جهلة المنسوبين إِلى هذا الإِمام الأعظم المجتهد من أنه قائل بشيء من الجهة أو نحوها فكذب وبهتان وافتراء عليه. فلُعن من نسب إِليه، أو رماه بشيء من هذه المثالب التي برأه الله منها، وقد بين الحافظ الحجة القدوة الإِمام أبو الفرج بن الجوزي من أئمة مذهبه المبرئين من هذه الوصمة القبيحة الشنيعة أن كل ما نسب إِليه من ذلك كذب عليه وافتراء وبهتان، وأن نصوصه صريحة في بطلان ذلك وتنزيه الله تعالى عنه، فاعلم ذلك، فإِنه مهم) [الفتاوى الحديثية لابن حجر المكي ص148].

وأما الإِمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد دُسَّ عليه كتاب نهج البلاغة أو أكثره، فقد ذكر الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة علي بن الحسين الشريف المرتضى أنه: (هو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، ومَنْ طالعه جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنَفَس القرشيين الصحابة، وبنَفَس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل) [ميزان الاعتدال للذهبي ج3 ص124].

وممن دُسَّ عليهم الإِمام الشعراني رحمه الله تعالى، وأكثر ما دُسَّ عليه في الطبقات الكبرى، ولقد أوضح ذلك في كتابه لطائف المنن والأخلاق فقال: (ومما مَنَّ الله تبارك وتعالى به عليَّ، صبري على الحسدة والأعداء، لما دسوا في كتبي كلاماً يخالف ظاهر الشريعة، وصاروا يستفتون عليَّ زوراً وبهتاناً، ومكاتبتهم فيَّ لِبابِ السلطان، ونحو ذلك. إِعلم يا أخي أن أول ابتلاء وقع لي في مصر من نحو هذا النوع، أنني لما حججْتُ سنة سبع وأربعين وتسعمائة، زَوَّر عليَّ جماعة مسألة فيها خرق لإِجماع الأئمة الأربعة، وهو أنني أفتيتُ بعض الناس بتقديم الصلاة عن وقتها إِذا كان وراء العبد حاجة، قالوا: وشاع ذلك في الحج، وأرسل بعض الأعداء مكاتبات بذلك إِلى مصر من الجبل، فلما وصلتُ إلى مصر، حصل في مِصْرَ رَجٍّ عظيم، حتى وصل ذلك إِلى إِقليم الغربية والشرقية والصعيد وأكابر الدولة بمصر، فحصل لأصحابي غاية الضرر، فما رجعتُ إِلى مصر إِلا وأجد غالب الناس ينظر إِليَّ شذراً، فقلت: ما بال الناس؟ فأخبروني بالمكاتبات التي جاءتهم من مكة، فلا يعلم عدد من اغتابني، ولاث بعرضي إِلا الله عز وجل.

ثم إِني لما صنفت كتاب البحر المورود في المواثيق والعهود، وكتب عليه علماء المذاهب الأربعة بمصر، وتسارع الناس لكتابته، فكتبوا منه نحو أربعين نسخة، غار من ذلك الحسدةُ، فاحتالوا على بعض المغفلين من أصحابي، واستعاروا منه نسخته، وكتبوا لهم منها بعض كراريس، ودسوا فيها عقائد زائغة ومسائل خارقة لإِجماع المسلمين، وحكايات وسخريات عن جحا، وابن الراوندي، وسبكوا ذلك في غضون الكتاب في مواضع كثيرة، حتى كأنهم المؤلف، ثم أخذوا تلك الكراريس، وأرسلوها إِلى سوق الكتبِيِّين في يوم السوق، وهو مجمع طلبة العلم، فنظروا في تلك الكراريس، ورأوا اسمي عليها، فاشتراها من لا يخشى الله تعالى، ثم دار بها على علماء جامع الأزهر، ممن كان كتب على الكتاب ومن لم يكتب، فأوقع ذلك فتنة كبيرة، ومكث الناس يلوثون بي في المساجد والأسواق وبيوت الأمراء نحو سنة، وأنا لا أشعر. وانتصر لي الشيخ ناصر الدين اللقاني، وشيخ الإِسلام الحنبلي، والشيخ شهاب الدين بن الجلبي، كل ذلك وأنا لا أشعر، فأرسل لي شخص من المحبين بالجامع الأزهر، وأخبرَني الخبرَ فأرسلت نسختي التي عليها خطوط العلماء، فنظروا فيها، فلم يجدوا فيها شيئاً مما دسه هؤلاء الحسدة، فسبُّوا من فعل ذلك، وهو معروف.

وأعرفُ بعض جماعة من المتهوِّرين، يعتقدون فيَّ السوء إِلى وقتي هذا، وهذا بناء على ما سمعوه أولاً من أُولئك الحسدة، ثم إِن بعض الحسدة، جمع تلك المسائل التي دُسَّت في تلك الكراريس وجعلها عنده، وصار كلما سمع أحداً يكرهني، يقول له: إِن عندي بعض مسائل تتعلق بفلان، فإِن احتجت إِلى شيء منها أطلعتك عليه، ثم صار يعطي بعض المسائل لحاسد بعد حاسد إِلى وقتي هذا، ويستفتون عليَّ وأنا لا أشعر، فلما شعرتُ، أرسلت لجميع علماء الأزهر أنني أنا المقصود بهذه الأسئلة، وهي مفتراة عليَّ، فامتنع العلماء من الكتابة عليها)[كتاب “لطائف المنن والأخلاق” للشعراني ج2. ص190ـ191].

وقد ذكر المؤرخ الكبير عبد الحي بن العماد الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه شذرات الذهب في أخبار من ذهب ترجمة الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى وبعد أن أثنى عليه، وذكر مؤلفاته الكثيرة، وأثنى عليها أيضاً قال فيه: (وحسده طوائف فدسوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع، وعقائد زائغة، ومسائل تخالف الإِجماع، وأقاموا عليه القيامة، وشنَّعوا وسبُّوا، ورموه بكل عظيمة، فخذلهم الله، وأظهره الله عليهم وكان مواظباً على السنة، ومبالغاً في الورع، مُؤثِراً ذوي الفاقة على نفسه حتى بملبوسه، متحملاً للأذى، موزعاً أوقاته على العبادة؛ ما بين تصنيفٍ وتسليكٍ وإِفادة.. وكان يُسمَعُ لزاويته دوي كدوي النحل ليلاً ونهاراً، وكان يحيي ليلة الجمعة بالصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يزل مقيماً على ذلك، معظَّماً في صدور الصدور، إِلى أن نقله الله تعالى إِلى دار كرامته) [“شذرات الذهب في أخبار من ذهب” للمؤرخ الفقيه الأديب عبد الحي الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ. ج8. ص374].

وقال الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه اليواقيت والجواهر: (وقد دسَّ الزنادقة تحت وسادة الإِمام أحمد بن حنبل في مرض موته، عقائد زائغة، ولولا أن أصحابه يعلمون منه صحة الاعتقاد، لافتتنوا بما وجوده تحت وسادته) [اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر للشيخ عبد الوهاب الشعراني ج1. ص8].

وكذلك ذكر الشيخ مجد الدين الفيروز أبادي صاحب القاموس في اللغة: أن بعض الملاحدة صنف كتاباً في تنقيص الإِمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأضافه إِليه، ثم أوصله إِلى الشيخ جمال الدين بن الخياط اليمني، فشنَّع على الشيخ أشد التشنيع، فأرسل إِليه الشيخ مجد الدين يقول له: (إِني معتقد في الإِمام أبي حنيفة غاية الاعتقاد، وصنفت في مناقبه كتاباً حافلاً وبالغتُ في تعظيمه إِلى الغاية، فأحرِقْ هذا الكتاب الذي عندك، أو اغسله، فإِنه كذب وافتراء عليَّ) [لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج1. ص127].

وقال الفقيه الكبير أحمد بن حجر الهيثمي المكي رحمه الله تعالى: (وإِياك أن تغترَّ بما وقع في كتاب الغنية لإِمام العارفين، وقطب الإِسلام والمسلمين، الشيخ عبد القادر الجيلاني. فإِنه دسه عليه فيها مَنْ سينتقم الله منه، وإِلا فهو بريء من ذلك. وكيف تروج عليه هذه المسألة الواهية مع تضلعه من الكتابِ والسنةِ وفقهِ الشافعيةِ والحنابلةِ، حتى كان يفتي على المذهبين. هذا مع ما انضم لذلك من أن الله مَنَّ عليه من المعارف والخوارق الظاهرة والباطنة. وما أنبأ عنه ما ظهر عليه وتواتر من أحواله.. إِلى أن قال: فكيف يُتصور أو يُتوهم أنه قائل بتلك القبائح التي لا يصدر مثلها إِلا عن اليهود وأمثالهم ممن استحكم فيهم الجهل بالله وصفاته وما يجب له وما يجوز وما يستحيل. سبحانك هذا بهتان عظيم) [“الفتاوى الحديثية” لابن حجر ص149].

وكذلك دسوا على الإِمام الغزالي عدة مسائل في كتاب الإِحياء، وظفر القاضي عياض بنسخة من تلك النسخ فأمر بإِحراقها [“اليواقيت والجواهر” ج1. ص8].

قال الشعراني رحمه الله تعالى: (وممَّا دسُّوا على الغزالي، وأشاعه بعضهم عنه، قولهم عنه إِنه قال: [إِن لله عباداً لو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها، وإِن لله عباداً لو سألوه أن يقيم الساعة الآن لأقامها]. فإِن مثل ذلك كذب وزور على الإِمام حجة الإِسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يجب على كل عاقل تنزيه الإِمام عنه، لأنه يردُّ النصوص القاطعة الواردة في مقدمات الساعة، فيؤدي ذلك إِلى تكذيب الشارع صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وإِنْ وُجد ذلك في بعض مؤلفات الإِمام فذلك مدسوس عليه من بعض الملاحدة، وقد رأيت كتاباً كاملاً مشحوناً بالعقائد المخالفة لأهل السنة والجماعة، صنَّفه بعض الملحدين ونسبه إِلى الإِمام الغزالي، فاطلع عليه الشيخ بدر الدين ابن جماعة، فكتب عليه: كذبَ والله وافترى مَنْ أضافَ هذا الكتاب إِلى حجة الإِسلام) [“لطائف المنن والأخلاق” للشعراني ج1. ص127].

وقال أيضاً: (وكذلك دسوا عليَّ أنا في كتابي المسمى بالبحر المورود جملةً من العقائد الزائغة، وأشاعوا تلك العقائد في مصر ومكة نحو ثلاث سنين، وأنا بريء منها كما بَيَّنْتُ في خطبة الكتاب لمَّا غيرتها، وكان العلماء كتبوا عليه وأجازوه، فما سكنت الفتنة حتى أرسلت إِليهم النسخة التي عليها خطوطهم) [“اليواقيت والجواهر” ج1. ص8].

هذا وقد ملأ خصومُه الدنيا حوله حقداً وحسداً، وافتراء وكذباً وتضليلاً، لاسيما في كتبه المعروفة، وأشهرها الطبقات الكبرى.

فلو قارن المُنْصِفُ بين كلام الشعراني رحمه الله تعالى الذي يعلن فيه تمسك الصوفية بالشريعة، وقد مر بك في بحث بين الحقيقة والشريعة [انظر بحث بين الحقيقة والشريعة ص381 من هذا الكتاب] وبين كلامه في الطبقات الكبرى لرأى تبايناً ظاهراً، ولظهر له كذب ما في الطبقات.

وكذلك دسوا على الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى، قال الشعراني: (كان رضي الله عنه متقيداً بالكتاب والسنة، ويقول: كل مَنْ رمى ميزان الشريعة من يده لحظة هلك.. إِلى أن قال: وهذا اعتقاد الجماعة إِلى قيام الساعة، وجميع ما لم يفهمه الناس من كلامه إِنما هو لِعُلِّو مراقيه، وجميع ما عارض من كلامه ظاهر الشريعة وما عليه الجمهور فهو مدسوس عليه، كما أخبرني بذلك سيدي أبو طاهر المغربي نزيل مكة المشرفة، ثم أخرج لي نسخة الفتوحات التي قابلها على نسخة الشيخ التي بخطه في مدينة قونيه، فلم أر فيها شيئاً مما كنت توقفت فيه وحذفته حين اختصرت الفتوحات.. ثم قال الشعراني رحمه الله تعالى: إِذا علمت ذلك، فيحتمل أن الحسدة دسوا على الشيخ في كتبه، كما دسوا في كتبي أنا، فإِنه أمر قد شاهدته عن أهل عصري في حقي، فالله يغفر لنا ولهم آمين) [“اليواقيت والجواهر” للشعراني ج1 ص9].

ذكر الفقيه الحنفي صاحب الدر المختار أن: (من قال عن فصوص الحكم للشيخ محي الدين بن عربي، إِنه خارج عن الشريعة، وقدصنفه للإِضلال، ومَنْ طالعه ملحد، ماذا يلزمه؟ أجاب: نعم،فيه كلمات تباين الشريعة، وتكلف بعض المتصلِّفين لإِرجاعها إِلى الشرع، لكن الذي تيقنْتُه أن بعض اليهود افتراها على الشيخ قدس الله سره،فيجب الاحتياط بترك مطالعة تلك الكلمات. قال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته على الدر المختار عندقوله: [لكن الذي تيقنْتُه]: وذلك بدليلٍ ثبت عنده، أو لسببِ عدمِ اطلاعه على مراد الشيخ فيها، وأنه لا يمكن تأويلها، فتعيَّن عنده أنها مفتراة عليه، كما وقع للشيخ الشعراني أنه افترى عليه بعض الحساد في بعض كتبه أشياء مكفرة، وأشاعها عنه، حتى اجتمع بعلماء عصره، فأخرج لهم مسودة كتابه التي عليها خطوط العلماء فإِذا هي خالية عما افْتُرِيَ عليه. وقال ابن عابدين أيضاً عند قوله: [فيجب الاحتياط]: لأنه إِن ثبت افتراؤها فالأمر ظاهر، وإِلا فلا يفهم كلُّ أحد مرادَه فيها، فيُخشى على الناظر فيها من الإِنكار عليه، أو فهم خلاف المراد) [حاشية ابن عابدين ج3. ص303، وصاحب الدر المختار الشيخ محمد علاء الدين الحصكفي المتوفى سنة 1088هـ].

ومن المدسوس على الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى أيضاً: القول بأن أهل النار يتلذذون بدخولهم النار، وأنهم لو أخرجوا منها، تعذبوا بذلك الخروج.

قال الشعراني رحمه الله تعالى: (وإِن وُجد نحو ذلك في شيء من كتبه فهو مدسوس عليه، فإِني مررت على كتاب الفتوحات المكية جميعه فرأيته مشحوناً بالكلام على عذاب أهل النار) [“الكبريت الأحمر” ص276 طبعة 1277. كذا في مجلة العشيرة المحمدية عدد محرم 1381 ص21].

وقال أيضاً: (كذب مَنْ دسَّ في كتاب الفصوص والفتوحات، أن الشيخ محي الدين بن عربي قال بأن أهل النار يتلذذون بالنار، وأنهم لو أُخرجوا منها لاستغاثوا، وطلبوا الرجوع إِليها، كما رأيت ذلك في هذين الكتابين. وقد حذفت ذلك من الفتوحات حال اختصاري لها. حتى ورد عن الشيخ شمس الدين الشريف، بأنهم دسوا على الشيخ في كتبه كثيراً من العقائد الزائغة التي نقلت عن غير الشيخ، فإِن الشيخ مِنْ كُمَّل العارفين بإِجماع أهل الطريق، وكان جليس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدوام، فكيف يتكلم بما يهدم شيئاً من أركان شريعته، ويساوي بين دينه وبين جميع الأديان الباطلة، ويجعل أهل الدارين سواء؟! هذا لا يعتقده في الشيخ إِلا من عزلَ عنه عقله. فإِياك يا أخي أن تصدق، من يضيف شيئاً من العقائد الزائغة إِلى الشيخ، واحمِ سمعك وبصرك وقلبك، وقد نصحتُك والسلام. وقد رأيت في عقائد الشيخ محي الدين الواسطي ما نصه: ونعتقد أن أهل الجنة والنار مخلدون في دارَيْهِما، لا يخرج أحد منهم من داره أبد الآبدين ودهر الداهرين.. قال: ومرادنا بأهل النار الذين هم أهلها من الكفار والمشركين والمنافقين والمعطِّلين، لا عصاة الموحدين فإِنهم يخرجون من النار بالنصوص) [“اليواقيت والجواهر” للشعراني ج2. ص205].

ويؤيد ما ذكرنا بأن هذا القول مدسوس على الشيخ محي الدين ما ذكره الشيخ نفسه في الباب الحادي والسبعين وثلثمائة من الفتوحات، عندما تغلق أبواب النار، كيف يصير أهلها كقطع اللحم حينما تغلي بهم النار ويصير أعلاهاأسفلها. وكذلك ما ذكره الإِمام الباجوري الشافعي في شرحه على جوهرة التوحيد: (وما يقال بتمرن أهل النار بالعذاب، حتى لو أُلْقُوا في الجنة لتألموا مدسوس على القوم [الصوفية] كيف وقد قال تعالى: {فذُوقُوا فَلَنْ نَزيدَكُم إلا عَذاباً} [النبأ: 30] [حاشية العلامة شيخ الإِسلام إِبراهيم الباجوري ص108].

فكيف يعتقد مسلم هذه العقيدة الفاسدة التي تخالف عقيدة أهل السنة والجماعة؟ وقد نص على ذلك الشيخ محمد بن يوسف الكافي، بعد أن ذكر فريق الجنة، وأنهم مخلدون فيها ومنعمون، ذكر فريق أهل النار فقال: (وفريق السعير خالدون فيه أبداً، لا ينقطع عنهم ألم العذاب، وقال بعضهم: [ينقطع عنهم، وينقلب في حقهم استلذاذاً، بحيث لو عُرضت عليهم الجنة لأَبوْها، لما هم فيه من الاستلذاذ]. ومعتقد هذا كافر بلا شك ولا ريب، لتكذيبه الله تعالى في خبره: {إنَّ الذينَ كَفَروا وماتوا وهُم كُفَّارٌ أولئكَ عليهِم لعنَةُ اللهِ والملائكَةِ والناسِ أجمعينَ . خالدينَ فيها لا يخفَّفُ عنهُمُ العذابُ ولا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 161 -162]. وفي خبره أيضاً: {إنَّ الذينَ كفرُوا بآياتِنا سوف نُصْليهم ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودهُم بَدَّلْناهُم جُلوداً غيرها ليذوقوا العذابَ} [النساء: 56]. وغير ذلك من الآيات الدالة على استمرار عذابهم) [المسائل الكافية للشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي ص19].

ومما نسب إِلى الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى أيضاً افتراءً عليه القولُ: بسقوط التكليف.

يقول العلامة الشعراني رحمه الله تعالى: (وقد ذكر الشيخ محي الدين أنه لا يجوز لولي قط المبادرة إِلى فعل معصية اطلع من طريق كشفه على تقديرها عليه، كما لا يجوز لمن كُشف له أن يمرض في اليوم الفلاني من رمضان، أن يبادر للفطر في ذلك اليوم، بل يجب عليه الصبر حتى يتلبس بالمرض، لأن الله تعالى ما شرع الفطر إِلا مع التلَبُّس بالمرض أو غيره من الأعذار، قال: وهذا مذهبنا ومذهب المحققين من أهل الله عز وجل) [مجلة العشيرة المحمدية عدد محرم 1381 ص21].

ومما دُسَّ على العارف الكبير الشيخ إِبراهيم الدسوقي رحمه الله تعالى قوله: (أذن لي ربي أن أتكلم وأقول أنا الله، فقال لي: قل: أنا الله ولا تبالِ) وفي هذا من الشناعة والاجتراء، ما يغني عن الإِطالة [مجلة العشيرة المحمدية عدد محرم 1381 ص23].

ومما دُسَّ على رابعة العدوية رحمها الله تعالى، قولها عن الكعبة: [هذا الصنم المعبود في الأرض] [وقد عمد بعض المغرضين الدساسين إِلى تقصي جميع النصوص المدسوسة والمكذوبة على الصوفية ليتخذها ذريعة في حملته المغرضة، وتهجمه الشنيع على الصوفية بأسلوب مقذع وعبارات منحطة بعيدة عن أخلاق الإِسلام وصفات المؤمنين لا يدفعه إِلى ذلك إِلا حقد دفين وهوى نفسي ومآرب شخصية]. وهذا ابن تيمية نفسه يُكذِّب نسبة هذا القول إِليها ويبين أنه مدسوس ومكذوب عليها، فقد قال حين سئل عن ذلك: (وأما ما ذكر عن رابعة من قولها عن البيت: إِنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة المؤمنة التقية، ولو قال هذا من قال لكان كافراً يستتاب، فإِن تاب وإِلا قتل، وهو كذب. فإِن البيت لا يعبده المسلمون؛ ولكنهم يعبدون رب البيت بالطواف به والصلاة إِليه) [“مجموعة الرسائل والمسائل” لابن تيمية ج1 ص80ـ81].

ولو ذهبنا نستقصي ألوان التزييف في التاريخ الإِسلامي والتصوف لما وَسِعْتَنا هذه الرسالة، إِذ التصوف كان نصيبه من الدس والافتراء أعظم من غيره، لأن المزيفين أدركوا أن التصوف هو روح الإِسلام، وأن الصوفية هم قوته النافذة الضخمة وشعلته الوضاءة المشرقة، فأرادوا أن يطفئوا هذا النور. قال تعالى: {يُريدونَ لِيُطْفِئوا نورَ اللهِ بأفواهِهِم واللهُ مُتِمُّ نورِهِ ولو كَرِهَ الكافرونَ} [الصف: 8].

وإِننا لا ننسى أن الذي ساعد على الدس والتضليل والافتراء عدم الطباعة الفنية والمراقبة الشديدة في الماضي، كما هي عليه اليوم في عصرنا الحاضر من الطبع المنظم، ومن العقوبات القانونية لمن يتجرأ على طبع شيء من الكتب بغير إِذن مؤلفها، بخلاف عصر النسْخ للكتب الخطية، فقد كان الدساسون والكذابون يروجون كتباً فيها ما فيها من الدجل والكذب ما الله به عليم، ويُدخلون على كتب العلماء وخصوصاً الصوفية الدسائس والأباطيل.

ولكن الله تعالى - وله الحمد - قيَّضَ لهذا الدين رجالاً سهروا على تنقية الكتب الإِسلامية، وبيَّنوا المدسوس فيها من الصحيح.

ونحن بهذا الكتاب المتواضع نساهم في تنقية التصوف الإِسلامي مما علق به من دسائس وأمور دخيلة عليه، لنعيد له صفاءه وبريقه ولينتفع الناس من طاقاته الروحية ونفحته الإِيمانية في هذا العصر الذي خيَّمت عليه ظلمات المادية وآثام الإِباحية وتيارات الإِلحاد والوجودية..

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:26 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
3 - تأويل كلام السادة الصوفية



إِن ما نراه في كتب الصوفية من الأمور التي يخالف ظاهرها نصوص الشريعة وأحكامها، هي:

- إِما أن تكون مدسوسة عليهم من قبل الزنادقة والحسدة وأعداء الإِسلام كما بيَّنَّا.

- وإِما أن يكون كلاماً قابلاً للتأويل، تحدثوا به من باب الإِشارة أو الكناية أو المجاز، كما نرى ذلك في كثير من الكلام العربي، ونجده بارزاً في كتاب الله تعالى في مواطن عديدة، كما في قوله تعالى: {وأُشرِبُوا في قُلوبِهِمُ العِجْلَ} [البقرة: 93]. أي حب العجل.

وقوله تعالى: {واسألِ القريَةَ} [يوسف: 82]. أي أهل القرية.

وقوله عز وجل: {أوَ مَنْ كانَ ميْتاً فأحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. أي كان ميت القلب، فأحياه الله تعالى.

وقوله تعالى: {لتُخرِجَ الناسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النورِ} [إِبراهيم: 1]. أي من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان.

كما نلاحظ في بعض الآيات القرآنية الكريمة تعارضاً في الظاهر، ولكنا لو تعمقنا في فهمها، ودققنا في مدلولها ومتعلقها، لوجدناها قابلة للتأويل، وبذلك لا نستطيع أن نقول: إِن في القرآن تعارضاً أو تصادماً.

فمثلاً؛ يقول الله تعالى: {إنَّكَ لا تهدِي مَنْ أحبَبْتَ} [القصص: 56]. ويقول في موطن آخر: {وإنَّكَ لَتَهدِي إلى صراطٍ مُستَقيمٍ} [الشورى: 52].

فقد يرى مَنْ ليس عنده علم في التفسير أن بين النصَّيْن تعارضاً؛ لأن الأول ينفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم الهداية، والثاني يثبت له الهداية. ولكنه لو سأل أهل الذكر لأخبروه أن الهداية في الآية الأولى بمعنى خلْقِ الهداية، وأن معناها في الآية الثانية الدلالة والإِرشاد. فلا تعارض بين النصَّين عند أهلِ الفهم.

وكذلك نجد أن بعض الأحاديث النبوية الشريفة لا يصح حملها على ظاهرها، بل لابد من تأويلها على معان تلائم باقي نصوص الشرع، وتطابق صريح القرآن الكريم، وفي هذا المعنى يقول الإِمام الشعراني رحمه الله تعالى: (وقد أجمع أهل الحق على وجوب تأويل أحاديث الصفات، كحديث: “ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إِلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخَر؛ فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيَه؟ من يَستغفرني فأغفرَ له؟” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب أبواب التهجد عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء]. وقد بلغ بأحد الضالين أن يقول، وكان على منبر، فنزل درجة منه وقال للناس: ينزل ربكم عن كرسيه إِلى السماء؛ كنزولي عن منبري هذا، وهذا جهل ليس فوقه جهل) [“التصوف الإِسلامي والإِمام الشعراني” لطه عبد الباقي سرور ص105].

ومن جملة التأويل في الحديث، تأويل حديث “إِن الله خلق آدم على صورته” [رواه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة عن أبي هريرة رضي الله عنه وأول الحديث: “إِذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه..”]. قال العلامة ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى مؤولاً ذلك: (ويصح أن يكون الضمير لله تعالى كما هو ظاهر السياق، وحينئذٍ يتعين أن المراد بالصورة الصفة، أي أن الله تعالى خلق آدم على أوصافه. من العلم والقدرة وغيرهما، ويؤيد هذا الحديثُ الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: “كان صلى الله عليه وسلم خُلُقُه القرآن” [هذا الحديث فقرة من حديث طويل ولفظه: “قال سعد بن هشام: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألسْتَ تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإِن خُلُقَ نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن”. رواه مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل]، وحديث: “تخلقوا بأخلاق الله تعالى”.

فالمطلوب من الكامل أن يطهِّر أخلاقه، وأوصافه من كل نقص، ليحصل له نوعُ تأسٌّ بأخلاق ربه، أي صفاته، وإِلا فشتَّان ما بين أوصاف القديم والحادث. وبهذا التقرير يُعلَم أن هذا الحديث غاية المدح لآدم عليه السلام، حيث أوجد الله فيه صفاتٍ كصفاته تعالى بالمعنى الذي قررته.. إِلى أن قال: والحاصل أن الحديث إِن أعيدَ الضمير فيه لله تعالى، وجب تأويله على ما هو المعروف من مذهب الخلف الذي هو أحكمُ وأعلمُ، خلافاً لفرقة ضلوا عن الحق، وارتكبوا عظائِم من الجهة والتجسيم اللذيْن هما كفر عند كثير من العلماء، أعاذنا الله من ذلك بمنِّه وكرمه) [الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي ص214].

قال العلامة المناوي في شرحه على الجامع الصغير، عند قوله صلى الله عليه وسلم: “إِن الله يقول يوم القيامة، يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أمَا علمتَ أنَّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمتَ أنك لو عُدتَه لوجدتني عنده”؟ [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة عن أبي هريرة رضي الله عنه]... إِلخ الحديث: (سئل بعض العارفين عن تَنَزُّلاتِ الحق في إِضافة الجوع والظمأ لنفسه؛ هل الأَوْلى إِبقاؤُها على ما وردت، أو تأويلها كما أوَّلها الحق لعبده حين قال: كيف أطعمك.. إِلخ؟ فقال: الواجب تأويلها للعوام لئلا يقعوا في جانب الحق بارتكاب محظور وانتهاك حرمة، وأما العارف فعليه الإِيمان بها على حد ما يعلمه الله، لا على حد نسبتها للخلق لاستحالته، وحقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، فلا يجتمع قط مع خلقه في جنس ولا نوع ولا شخص، ولا تلحقه صفةُ تشبيه؛ لأنها لا تكون إِلا لمن يجتمع مع خلقه في حال من الأحوال. ولذا أبقاها السلف على ظاهرها لئلا يفوتَهم كمال الإِيمان، لأنه ما كلفهم إِلا بالإِيمان به لا بماأولوه، فقد لا يكون مراداً للحق، فالأدب إِضافتنا إِليه كلَّ ما أضافه لنفسه تعالى.. إِلخ) [فيض القدير شرح الجامع الصغير للعلامة المناوي ج2 ص313].

فإِذا كان كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وقد أوتي الفصاحة والبلاغة ووضوح اللفظ وإِشراق التعبير وجوامع الكلم؛ قد احتاج في بعض الأحيان إِلى التأويل؛ بحمل معانيه على غير ما يفيده ظاهر لفظه، فإِن كلام غيره من أمته ممن لم يبلغ شأوه في البيان والفصاحة قابل للتأويل محتمل للتفسير من باب أولى.

ومن ناحية أخرى، فإِن لكل فن من الفنون أو علم من العلوم كالفقه والحديث والمنطق والنحو والهندسة والجبر والفلسفة اصطلاحات خاصة به، لا يعلمها إِلا أرباب ذلك العلم، فهل يفهم الطبيب اصطلاح المهندس، أو يفهم المهندس اصطلاح الطبيب حين يعبر كل منهما عن آلاته ومسميات فنه؟

ومن قرأ كتب علم من العلوم دون أن يعرف اصطلاحاته، أو يطلع على رموزه وإِشاراته، فإِنه يؤول الكلام تأويلات شتى مغايرة لما يقصده العلماء، ومناقضة لما يريده الكاتبون فيتيه ويضل.

وللصوفية اصطلاحاتهم التي قامت بعض الشيء مقام العبارة في تصوير مدركاتهم ومواجيدهم، حين عجزت اللغة عن ذلك. فلابد لمن يريد الفهم عنهم من صحبتهم حتى تتضح له عباراتهم، ويتعرف على إِشاراتهم ومصطلحاتهم؛ فيستبين له أنهم لم يخرجوا عن الكتاب والسنة، ولم ينحرفوا عن الشريعة الغراء، وأنهم هم الفاهمون لروحها، الواقفون على حقيقتها، الحارسون لتراثها.

قال بعض العارفين: (نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقنا) [“اليواقيت والجواهر” للشعراني ج1. ص22]. لأن الغاية من تدوين هذه العلوم إِيصالها لأهلها، فإِذا اطلع عليها مَنْ ليس من أهلها جهلها، ثم عاداها، لأن الإِنسان عدو لما جهل. ولذلك قال السيد علي بن وفا رحمه الله تعالى: (إِنَّ من دَوَّنَ المعارف والأسرار لمْ يدوِّنها للجمهور، بل لو رأى مَنْ يطالع فيها ممَّن ليس هو بأهلها لنهاهُ عنها) [نفس المصدر السابق].

وتوضيحاً للموضوع نقول:

إِن كلام السادة الصوفية في تحذير من لا يفهم كلامهم ولا يعرف اصطلاحاتهم من قراءة هذه الكتب ليس من قبيل كتم العلم، ولكن خوفاً من أن يفهم الناس من كتبهم غير ما يقصدون، وخشية أن يؤولوا كلامهم على غير حقيقته، فيقعوا في الإِنكار والاعتراض، شأن من يجهل علماً من العلوم. لأن المطلوب من المؤمن أن يخاطب الناس بما يناسبهم من الكلام وما يتفق مع مستواهم في العلم والفهم والاستعداد، ولهذا أفرد البخاري في صحيحه باباً في ذلك فقال: “باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وقال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ الله ورسولهُ؟” [“صحيح البخاري” كتاب العلم]. قال العلامة العيني رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الحديث: (ترك بعض الناس من التخصيص بالعلم لقصور فهمهم، والمراد كلموهم على قدر عقولهم، وفي كتاب العلم لآدم بن إِياس عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره: “ودعوا ما ينكرون”. أي ما يشتبه عليهم فهمه، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يُذكَر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه، ذكره مسلم في مقدمة كتابه بسند صحيح قال: “ما أنتَ بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إِلا كان لبعضهم فتنة”. لأن الشخص إِذا سمع ما لا يفهمه، وما لا يتصور إِمكانه يعتقد استحالته جهلاً، فلا يصدق وجوده، فإِذا أُسنِدَ إِلى الله ورسوله يلزم تكذيبهما) [“عمدة القاري شرح صحيح البخاري” للإِمام العيني ج2. ص204 -205].

وقال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (في كل علم ما يخص وما يعم، فليس التصوف بأولى من غيره في عمومه وخصوصه، بل يلزم بذل أحكام الله المتعلقة بالمعاملات من كلٍ عموماً، وما وراء ذلك على حسب قابِله لا قدر قائِله، لحديث: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟” [رواه البخاري تعليقاً في كتاب العلم باب من خص قوماً دون آخرين عن علي رضي الله عنه]. وقيل للجنيد رحمه الله تعالى: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال: الجواب على قدر السائل. قال عليه السلام: “أُمِرْنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم”[ رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما]) [قواعد التصوف للشيخ زروق ص7].

ولهذا ذكر الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى في الباب الرابع والخمسين من الفتوحات ما نصه: (اعلم أن أهل الله لم يضعوا الإِشارات التي اصطلحوا عليها فيما بينهم لأنفسهم، فإِنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك، وإِنما وضعوها منعاً للدخيل بينهم، حتى لا يعرف ما هم فيه، شفقةً عليه أن يسمع شيئاً لم يصل إِليه فينكره على أهل الله، فيُعاقَبُ بحرمانه، فلا يناله بعد ذلك أبداً، قال: ومن أعجب الأشياء في هذه الطريق، بل لا يوجد إِلا فيها، أنه ما من طائفة تحمل علماً من المنطقيِّين والنحاة وأهل الهندسة والحساب والمتكلمين والفلاسفة؛ إِلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إِلا بتوقيف منهم، لابد من ذلك. إِلا أهل هذه الطريقة خاصة، فإِن المريد الصادق إِذا دخل طريقهم، وما عنده خبر بما اصطلحوا عليه، وجلس معهم، وسمع منهم ما يتكلمون به من الإِشارات، فَهِمَ جميع ما تكلموا به، حتى كأنه الواضع لذلك الاصطلاح، ويشاركهم في الخوض في ذلك العلم. ولا يستغرب هو ذلك من نفسه، بل يجد علم ذلك ضرورياً لا يقدر على دفعه، فكأنه ما زال يعلمه، ولا يدري كيف حصل له ذلك. هذا شأن المريد الصادق، وأما الكاذب فلا يعرف ما يسمع، ولا يدري ما يقرأ، ولم يزل علماء الظاهر في كل عصر يتُوقون في فهم كلام القوم. وناهيك بالإِمام أحمد بن سريج، حضر يوماً مجلس الجنيد، فقيل له: ما فهمتَ من كلامه؟ فقال: لا أدري ما يقول، ولكن أجد لكلامه صولة في القلب ظاهرة. تدل على عمل في الباطن وإِخلاص في الضمير، وليس كلامه كلام مبطل. ثم إِن القوم لا يتكلمون بالإِشارة إِلا عند حضور مَنْ ليس منهم، أو في تأليفهم لا غير.. ثم قال: ولا يخفى أن أصل الإِنكار من الأعداء المبطلين إِنما ينشأ من الحسد، ولو أن أولئك المنكرين تركوا الحسد، وسلكوا طريق أهل الله، لم يظهر منهم إِنكار ولا حسد، وازدادوا علماً إِلى علمهم. ولكن هكذا كان الأمر، ولا حول ولا قوة إِلا بالله العلي العظيم) [اليواقيت والجواهر للشعراني ص19].

وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته شارحاً كلام صاحب الدر المختار، حين سئل عن فصوص الحكم للشيخ محي الدين بن عربي: (يجب الاحتياط؛ لأنه إِن ثبت افتراؤها فالأمر ظاهر، وإِلا فلا يفهم كل واحد مراده فيها، فيُخشى على الناظر فيها من الإِنكار عليه، أو فهم خلاف المراد. وللحافظ السيوطي رسالة سماها: [تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي]، ذكر فيها أن الناس افترقوا فيه فرقتين: الفرقة المصيبة تعتقد ولايته، والأخرى بخلافها. ثم قال: والقول الفصل عندي فيه طريقة لا يرضاها الفرقتان؛ وهي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه، وقد نُقل عنه أنه قال: [نحن قومٌ يحرم النظر في كتبنا]، وذلك أن الصوفية تواطؤوا على ألفاظ، اصطلحوا عليها، وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها بين الفقهاء، فمن حملها على معانيها المتعارفة كفر، نص على ذلك الغزالي في بعض كتبه وقال: إِنه شبيه بالمتشابه في القرآن والسنة، كالوجه واليد والعين والاستواء. وإِذا ثبت أصل الكتاب عنه [عن الشيخ محي الدين] فلابدّ من ثبوتِ كلِّ كلمة لاحتمال أن يُدس فيه ما ليس منه، من قِبَلِ عدو أو ملحد أو زنديق، وثبوتِ أنه قصد بهذه الكلمة المعنى المتعارف، وهذا لا سبيل إِليه، ومن ادَّعاه كفر لأنه من أمور القلب التي لا يطلع عليها إِلا الله تعالى. وقد سأل بعضُ أكابر العلماء بعضَ الصوفية: ما حملكم على أنكم اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يُستشنع ظاهرها؟ فقال: غيرة على طريقنا هذا أن يدَّعيَه من لا يُحْسنه ويدخل فيه من ليس أهله) [حاشية ابن عابدين ج3 ص303].

وسئل العلامة ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى: ما حكم مطالعة كتب ابن عربي وابن الفارض؟ فأجاب بقوله: (حكمها أنها جائزة مطالعة كتبهما، بل مستحبة، فكم اشتملت تلك الكتب على فائدة لا توجد في غيرها، وعائدة لا تنقطع هواطل خيرها، وعجيبة من عجائب الأسرار الإِلهية التي لا ينتهي مددُ خيرها، وكم تَرجمت عن مقامٍ عجز عن الترجمة عنه من سواها، ورمزت برموز لا يفهمها إِلا العارفون، ولا يحوم حول حومة حماها إِلا الربانيون، الذين هم بين مواطن الشريعة الغراء وأحكام ظواهرها على أكمل ما ينبغي جامعون، ولذلك كانوا بفضل مؤلفيها معترفين.. إِلى أن قال: هذا وإِنه قد طالع هذه الكتب أقوام عوام جهلة طغام، فأدمنوا مطالعتها، مع دقة معانيها ورقة إِشاراتها وغموض مبانيها، وبنائها على اصطلاح القوم السالمين عن المحذور واللوم، وتوقف فهمها بكمالها على إِتقان العلوم الظاهرة، والتحلي بحقائق الأحوال والأخلاق الباهرة، فلذلك ضعُفتْ أفهامهم، وزلَّتْ أقدامهم، وفهموا منها خلاف المراد، واعتقدوه صواباً فباؤوا بخسار يوم التناد، وألحدوا في الاعتقاد، وهوت بهم أفهامهم القاصرة إِلى هفوة الحلول والاتحاد، حتى لقد سمعتُ شيئاً من هذه المفاسد القبيحة، والمكفرات الصريحة، من بعض من أدمن مطالعة تلك الكتب، مع جهله بأساليبها وعظم ما لها من الخطب. وهذا هو الذي أوجب لكثير من الأئمة الحط عليها، والمبادرة بالإِنكار إِليها، ولهم في ذلك نوع عذر، لأن قصدهم فطم أولئك الجهلة عن تلك السموم القاتلة لهم، لا الإِنكار على مؤلفيها من حيث ذاتهم وحالهم) [الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي المكي ص216].

وقال الشعراني رحمه الله تعالى: (وبالجملة فلا تَحِلُّ قراءة كتب التوحيد الخاص، وكتب العارفين إِلا لعالم كامل، أو من سلك طريق القوم. وأما من لم يكن واحداً من هذين الرجلين، فلا ينبغي له مطالعة شيء من ذلك، خوفاً عليه من إِدخال الشُبَهِ التي لا يكاد الفَطِنُ أن يخرج منها، فضلاً عن غير الفطن، ولكن من شأن النفس كثرة الفضول، ومحبة الخوض فيما لا يعنيها) [التصوف الإِسلامي والإِمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور ص104 -105].

وقال الشيخ عبد الكريم الجيلي رحمه الله تعالى في كتابه الإِنسان الكامل: (ثم ألتمس من الناظر في هذا الكتاب، بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئاً في هذا الكتاب إِلا وهو مؤيَّد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه إِذا لاح له شيء من كلامه بخلاف الكتاب والسنة، فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه، لا من حيث مرادي الذي وضعتُ الكلام لأجله، فليتوقف عن العمل به مع التسليم، إِلى أن يفتح الله عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. إِلى أن قال: واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم في نفسه مؤيَّداً بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعك من فهمه، فلم تستطع أن تتناوله بيدك من محله، فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، والطريقُ في هذا التسليمُ)[ الإِنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ص5. وليحذر القارىء من مطالعة هذا الكتاب لأن فيه كلمات مخالفة لعقيدة أهل السنة، ولا تقبل التأويل بحال مع أنه قد ألف كتابه مؤيداً بالكتاب والسنة، كما نص عليه مؤلفه في مقدمة كتابه. ونحن متأكدون أن الكثير مما فيه مدسوس عليه. انظر بحث الدس من هذا الكتاب ص398].

يتبين لنا من هذه النصوص التي نقلناها عن الفقهاء الأعلام والسادة الصوفية أمور أهمها:



أـ أنه لا يصح لغير السالك في طريق الصوفية، أن يطالع كتبهم، خشية أن يفهمها على غير حقيقتها، وخلاف ما يريده مؤلفوها؛ لأنه بعيد عن فهم اصطلاحاتهم، ومعرفة إِشاراتهم.

غير أن كتب الصوفية إِجمالاً تنقسم إِلى ثلاثة أقسام:

1 - القسم الأول: يبحث عن تصحيح العبادات، وحسن إِقامتها بصورتها وروحها، من الخشوع والحضور فيها مع الله تعالى، مع مراعاة آدابها الظاهرة كذلك.

2 - القسم الثاني: يبحث في مجاهدة النفس وتزكيتها، والقلب وأحواله؛ من تخليته عن صفاته الناقصة كالشكوك والوساوس والرياء والحقد والغل والسمعة والجاه والحسد وغيرها من الصفات المذمومة. وتحليته بالصفات الكاملة كالتوبة والتوكل والرضا والتسليم والمحبة والإِخلاص، والصدق والخشوع والمراقبة وغيرها من الصفات الحسنة.

وهذان القسمان مذكوران في كتاب الإِحياء للإِمام الغزالي، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، وأمثالهما. وتسمى هذه العلوم علومَ المعاملة.

3 - القسم الثالث: يبحث عن المعارف الربانية والعلوم الوهبية والأذواق الوجدانية والحقائق الكشفية. ومعظم كتب الشيخ محي الدين ابن عربي رحمه الله تعالى من هذا القسم؛ كالفتوحات المكية والفصوص. وكذلك كتاب الإِنسان الكامل للشيخ عبد الكريم الجيلي رحمه الله تعالى. وعلى أمثال هذه الكتب ينصبُّ التحذير من قراءتها لغير السالكين العارفين من الصوفية. وتسمى هذه العلوم علومَ المكاشفة.

ب - أن التصوف لا يُنال بقراءة الكتب، ولا بمعرفة الاصطلاحات بل لابد من السلوك مع رجاله ومجالسة أهله. قال الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى: (سمعت سيدي علياً الخواص رضي الله عنه يقول: إِياك أن تعتقد يا أخي إِذا طالعت كتب القوم، وعرفت مصطلحهم في ألفاظهم أنك صرت صوفياً، إِنما التصوف التخلق بأخلاقهم، ومعرفة طرق استنباطهم لجميع الآداب والأخلاق التي تحلَّوْا بها من الكتاب والسنة) [لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج2 ص149].

ج - أن السادة الصوفية إِنما وضعوا هذه الرموز والإِشارات كي لا يأخذ علمهم إِلا مَنْ سار في طريقهم. وقد بينا أن التصوف لا ينال بقراءة الأوراق، بل بصحبة أهل الأذواق.



د - أن النصوص التي فيها الكفر والزيغ والمُرُوق من الدين مدسوسة على القوم حتماً، لما رأيتَ من تمسكهم بالكتاب والسنة مما مر معك مِنْ نُقُول.

هـ - أن ما ثبت عنهم بالتأكيد، ويمكن تأويله وحمله على وجه صحيح من عقيدة أهل الحق؛ أهل السنة والجماعة، وجب تأويله عليها، لأنها هي عقيدتهم التي يعتقدونها ويصرحون بها، ويُثبتونها دائماً في مقدمات كتبهم كما هي سنتهم، وانظر إِن شئت مقدمة الرسالة القشيرية، والفتوحات المكية، والتعرُّفَ لمذهب أهل التصوف، وإِحياء علوم الدين وغيرها من الكتب.

و - أن ما نسب إِليهم مما لا يمكن تأويله على وجه صحيح، إِن صح عنهم فهو مردود على صاحبه، لا نسلمه له ولا نعتقده، بل نقول بكفر مُعْتَقَدِه، ولكنا لا نكفر شخصاً معيناً، لأنا لا ندري خاتمته، ولأننا مسؤولون أولاً وآخراً عن عقيدة أهل الحق، أهل السنة والجماعة، لا عن عقيدة أي إِنسان آخر.

وإِليك أيها القارىء الكريم بعض الأمثلة عن أُمور وعبارات أنكرها الجاهلون، فتحاملوا على الصوفية ووصَموهم بالخروج عن الشريعة، ولكنك حين تفهم مرادهم، وتطلع على قصدهم، يتبين لك أن إِنكار المنكرين كان إِما عن جهل وتسرع، أوعن حسد وتحامل.

1 - يقول الإِمام الشعراني رحمه الله تعالى: (مما نُقِلَ عن القوم قولهم: [دخلنا حضرةَ الله، وخرجنا عن حضرةِ الله]. ليس مرادهم بحضرة الله عز وجل مكاناً معيناً، فإِن ذلك ربما يُفهم منه التحيُّزُ للحق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإِنما مرادهم بالحضرة حيث أطلقوا شهودُ أحدهم أنه بين يدي ربه عز وجل، فما دام يشهد أنه بين يديْ ربه عز وجل فهو في حضرته، فإِذا حُجب خرج عن حضرته) [لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج1. ص127].

2 - وقال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: (كنت ذات يوم مع بعض إِخواني فأنشدت قائلاً:

يا مَنْ يراني ولا أراه كم ذا أراهُ ولا يراني

فقال ذلك الأخ الذي كان معي لما سمع هذا البيت: كيف تقول إِنه لا يراك، وأنت تعلم أنه يراك؟ قال: فقلت مرتجلاً:

يا مَنْ يراني مذنباً ولا أراه آخذاً

كم ذا أراه منعِماً ولا يراني لائِذاً

[كتاب النصرة النبوية للشيخ مصطفى المدني على هامش الرائية ص82].



3 - وقال الشعراني رحمه الله تعالى: (ومما نقل عن الغزالي أنه قال: [ليس في الإِمكان أبدع مما كان]. ولعل مراده رضي الله تعالى عنه أن جميع الممكنات أبرزها الله على صورةِ ما كانت في علمه تعالى القديم، وعلمه القديم لا يقبل الزيادة، وفي القرآن العظيم: {أعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]. فلو صح أن في الإِمكان أبدع مما كان، ولم يسبق به علم الله تعالى للزم عليه تقدم جهل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً،وهذا هو معنى قول الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى في تأويل ذلك: إِن كلام حجة الإِسلام في غاية التحقيق، لأنه ما ثَمَّ إِلا رتبتان: قِدَمٌ وحدوث؛ فالحق تعالى له رتبة القِدَم، والحادث له رتبة الحدوث، فلو خلق الله تعالى ما خلق إِلى ما لا يتناهى عقلاً، فلا يرقى عن رتبة الحدوث إِلى رتبة القدم أبداً) [“لطائف المنن والأخلاق” للشعراني ج1. ص126].

4 - وقال محمد أبو المواهب الشاذلي رحمه الله تعالى مؤولاً كلام أبي يزيد رحمه الله تعالى: [خضْنا بحراً وقفتْ الأنبياء بساحله]. (قلنا: خاض العارفون بحر التوحيد أولاً بالدليل؛ وبعد ذلك وصلوا إِلى مرتبة الشهود والعيان، والأنبياء عليهم السلام وقفوا بأول وهلة على ساحل العيان، ثم وصلوا إِلى ما لا يعبر عنه بالعرفان. فكانت بدايتهم عليهم السلام نهاية العارفين) [قوانين حكم الإِشراق إِلى كافة الصوفية في جميع الآفاق، قانون الولاية الخاصة ص58].

5 - ومما نقل عن أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى قوله: [يصل الولي إِلى رتبة يزول عنه فيها كلفة التكليف]. فأجاب أبو المواهب بقوله: (قلنا: يكون الولي أولاً يجد كلفة التعب، فإِذا وصل،وجد بالتكليف الراحة والطرب، من باب قوله صلى الله عليه وسلم: “أرحْنا بها يا بلال” [يا بلال أرحنا بالصلاة. رواه الإِمام أحمد في مسنده. ورواه أبو داود في كتاب الأدب: باب في صلاة العتمة يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها عن سالم بن أبي الجعد]. ذلك مقصد الرجال) [“قوانين حكم الإِشراق” ص59].

6 - ومن الكلمات التي لها تأويل شرعي صحيح كلمة [مدد] التي يُردِّدها بعض الصوفية، فينادي بها أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يخاطب بها شيخه.

وحجة المعترِض عليهم أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله واستعانة بسواه ولا يجوز السؤال إِلا له ولا الاستعانة إِلا به؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إِذا سألت فاسأل الله، وإِذا استعنت فاستعن بالله” [أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقال: حديث حسن صحيح]، ثم إِن الله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أنه هو مصدر الإِمداد حين قال: {كُلاً نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عطاءِ ربِّك...} [الإِسراء: 20].

وقد جهل هؤلاء المعترضون أن السادة الصوفية هم أهل التوحيد الخالص، الذين يأخذون بيد مريديهم ليذيقوهم حلاوة الإِيمان، وصفاء اليقين؛ ويخلصوهم من شوائب الشرك في جميع صوره وأنواعه.

ولتوضيح المراد من كلمة [مدد] نقول: لابد للمؤمن في جميع أحواله أن تكون له نظرتان:

- نظرية توحيدية لله تعالى، بأنه وحده مسبب الأسباب، والفاعل المطلق في هذا الكون، المنفردُ بالإِيجاد والإِمداد، ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه، مهما علا قدره أو سمت رتبته من نبي أو ولي.

- ونظرة للأسباب التي أثبتها الله تعالى بحكمته، حيث جعل لكل شيء سبباً.

فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بتأثيرها الاستقلالي، فإِذا نظر العبد إِلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك، لأنه جعل الإِله الواحد آلهة متعددين. وإِذا نظر للمسبِّب وأهمل اتخاذ الأسباب، فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شيء سبباً. والكمال هو النظر بالعينين معاً، فنشهد المسبِّبَ ولا نهمل السبب. ولتوضيح هذه الفكرة نسوق بعض الأمثلة عليها:

- إِن الله تعالى وحده هو خالق البشر؛ ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سبباً عادياً، وهو التقاء الزوجين، وتكوُّنُ الجنين في رحم الأم، وخروجه منه في أحسن تقويم.

- وكذلك فإِن الله تعالى هو وحده المميت؛ ولكنه جعل للإماتة سبباً هو ملك الموت، فإِذا لاحظنا المسبب قلنا: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ...}

[الزمر: 42].

وإِذا قلنا: إِن فلاناً قد توفاه ملك الموت، لا نكون قد أشركنا مع الله إِلهاً آخر؛ لأننا لاحظنا السبب، كما بينه الله تعالى في قوله: {قُلْ يتوَفاكُمْ مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّلَ بِكُم} [السجدة: 11].

- وكذلك فإِن الله تعالى هو الرزاق، ولكنه جعل للرزق أسباباً عادية كالتجارة والزراعة.. فإِذا لاحظنا المسبب في معرض التوحيد، أدركنا قوله تعالى: {إنَّ اللهَ هوَ الرَّزَّاقُ ذو القوَّةِ المتِينُ} [الذاريات: 58]. وإِذا لاحظنا السبب وقلنا: إِن فلاناً يُرزَقُ من كسبهِ، لا نكون بذلك قد أشركنا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، عن المقدام رضي الله عنه]. وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين النظرتين توضيحاً للأمر وبياناً للكمال في قوله: “وإِنما أنا قاسم والله يعطي” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً، عن معاوية رضي الله عنه].

- وكذلك الأمر بالنسبة للإِنعام، ففي معرض التوحيد قوله تعالى: {وما بِكُم مِنْ نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]. لأنه المنعم الحقيقي وحده. وفي معرض الجمع بين ملاحظة المسبِّب والسبب قوله تعالى: {وإذْ تَقولُ للذي أَنْعَمَ اللهُ عليهِ وأنْعَمْتَ عليه...} [الأحزاب: 37]. فليس الرسول صلى الله عليه وسلم شريكاً لله في عطائه، وإِنما سيقت النعم لزيد بن حارثة رضي الله عنه بسببه صلى الله عليه وسلم، فقد أسلم على يديه، وأُعتِقَ بفضله، وتزوج باختياره..

- وكذلك بالنسبة للاستعانة، إِذا نظرنا للمسبب قلنا: “إِذا استعنْتَ فاستعن بالله”. وإِذا نظرنا للسبب قلنا: {وتعاونوا على البرِّ والتقوى} [المائدة: 2]. “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” [أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، عن أبي هريرة رضي الله عنه]. فإِذا قال المؤمن لأخيه: أَعِنِّي على حمل هذا المتاع؛ لا يكون مشركاً مع الله تعالى أحداً أو مستعيناً بغير الله، لأن المؤمن ينظر بعينيه، فيرى المسبِّب والسبب، وكل من يتهمه بالشرك فهو ضال مضل.

- وهكذا الأمر بالنسبة للهداية؛ إِذا نظرنا للمسبب، رأينا أن الهادي هو الله وحده، لهذا قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إنَّكَ لا تهدِي مَنْ أحبَبْتَ} [القصص: 56]. وإِذا لاحظنا السبب، نرى قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وإنَّكَ لَتَهدي إلى صراطٍ مُستَقيمٍ} [الشورى: 52]. أي تكون سبباً في هداية من أراد الله هدايته.

والعلماء العارفون المرشدون هم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم في هداية الخلق ودلالتهم على الله تعالى. فإِذا استرشد مريد بشيخه، فقد اتخذ سبباً من أسباب الهداية التي أمر الله بها، وجعل لها أئمة يدلون عليها {وجَعَلْنا مِنْهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بأمرِنا لمَّا صَبَروا وكانوا بآياتِنا يوقِنونَ} [السجدة: 24].

وصلة المريد هي صلة روحية، لا تفصلها المسافات ولا الحواجز المادية، وإِذا كانت الجُدُر والمسافات لا تفصل أصوات الأثير فكيف تفصل بين الأرواح المطلقة؟! لذا قالوا: (شيخك هو الذي ينفعك بُعدُه كما ينفعك قربُه) وبما أن الشيخ هو سبب هداية المريد؛ فإِن المريد إِذا تعلق بشيخه، وطلب منه المدد، لا يكون قد أشرك بالله تعالى، لأنه يلاحظ هنا السبب، كما أوضحناه سابقاً، مع اعتقاده أن الهاديَ والمُمِدَّ هو الله تعالى، وأن الشيخ ليس إِلا سبباً، أقامه الله لهداية خلقه، وإِمدادهم بالنفحات القلبية، والتوجيهات الشرعية. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو البحر الزاخر الذي يستمد منه هؤلاء الشيوخ وعنه يصدرون.

فإِذا سلمنا بقيام الصلة الروحية بين المريد وشيخه، سلمنا بقيام المدد المترتب عليها، لأن الله يرزق البعض بالبعض في أمر الدين والدنيا.

ولعل القارىء الكريم بعد هذا، قد اكتفى بهذه الأمثلة من كلام القوم، وبتلك النقول الصريحة من عباراتهم، حتى إِذا ما رأى كلاماً مشتبهاً يحتمل ويحتمل، أحسن الظن بهم، والتمس سبلاً لتأويل كلامهم بعد أن تبين له أن التأويل جائز في كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الفقهاء والمحدثين والأصوليين والنحويين وغيرهم. ولهذا قال الإِمام النووي رحمه الله تعالى: (يحرم على كل عاقل أن يسيء الظن بأحد من أولياء الله عز وجل، ويجب عليه أن يؤول أقوالهم وأفعالهم مادام لم يلحق بدرجتهم، ولا يعجز عن ذلك إِلا قليل التوفيق)
[“اليواقيت والجواهر” ج1. ص11].

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:26 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
4 - وحدة الوجود والحلول والاتحاد





الحلول والاتحاد:

إِن من أهم ما يتحامل به المغرضون على السادة الصوفية اتهامهم جهلاً وزوراً بأنهم يقولون بالحلول والاتحاد، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد حلَّ في جميع أجزاء الكون؛ في البحار والجبال والصخور والأشجار والإِنسان والحيوان.. إِلخ، أو بمعنى أن المخلوق عين الخالق، فكل الموجودات المحسوسة والمشاهدة في هذا الكون هي ذات الله تعالى وعينه. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

ولاشك أن هذا القول كفر صريح يخالف عقائد الأمة. وما كان للصوفية وهم المتحققون بالإِسلام والإِيمان والإِحسان أن ينزلقوا إِلى هذا الدرك من الضلال والكفر، وما ينبغي لمؤمن منصف أن يرميهم بهذا الكفر جزافاً دون تمحيص أو تثبت، ومن غير أن يفهم مرادهم، ويطلع على عقائدهم الحقة التي ذكروها صريحة واضحة في أُمهات كتبهم، كالفتوحات المكية، وإِحياء علوم الدين، والرسالة القشيرية وغيرها..

ولعل بعض المغرضين المتحاملين على الصوفية يقولون: إِن هذا القول بتبرئة السادة الصوفية من فكرة الحلول والاتحاد، إِنما هو تهرب من الواقع أو دفاع مغرض عن الصوفية بدافع التعصب والهوى، فهلاَّ تأتون بدليل من كلامهم يبرىء ساحتهم من هذه التهم؟!.

فلبيان الحقيقة الناصعة نورد نبذاً من كلام السادة الصوفية تثبت براءتَهم مما اتُّهموا به من القول بالحلول والاتحاد، وتحذيرَهم الناسَ من الوقوع في هذه العقيدة الزائغة، وتُظهِر بوضوح أن ما نسب إِليهم من أقوال تفيد الحلول أو الاتحاد إِما مدسوسة عليهم، أو مؤولة [انظر موضوعي الدس ص 398 والتأويل ص 415 في هذا الكتاب] بما يلائم هذه النصوص الصريحة التالية الموافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة.

يقول الشعراني رحمه الله تعالى: (ولعمري إِذا كان عُبَّاد الأوثان لم يتجرؤوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله؛ بل قالوا: ما نعبدهم إِلا ليقربونا إِلى الله زلفى، فكيف يُظَن بأولياء الله تعالى أنهم يدَّعون الاتحاد بالحق على حدٌّ ما تتعقله العقول الضعيفة؟! هذا كالمحال في حقهم رضي الله تعالى عنهم، إِذ ما مِن وليٌّ إِلا وهو يعلم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وأنها خارجة عن جميع معلومات الخلائق، لأن الله بكل شيء محيط) [اليواقيت والجواهر ج1 ص83].

والحلول والاتحاد لا يكون إِلا بالأجناس، والله تعالى ليس بجنس حتى يحلَّ بالأجناس، وكيف يحل القديم في الحادث، والخالق في المخلوق!؟ إِن كان حلولَ عَرَض في جوهر فالله تعالى ليس عرضاً، وإِن كان حلولَ جوهر في جوهر فليس الله تعالى جوهراً، وبما أن الحلول والاتحاد بين المخلوقات محال؛ إِذ لا يمكن أن يصير رجلان رجلاً واحداً لتباينهما في الذات؛ فالتباين بين الخالق والمخلوق، وبين الصانع والصنعة، وبين الواجب الوجود والممكن الحادث أعظم وأولى لتباين الحقيقتين.

وما زال العلماء، ومحققو الصوفية يبينون بطلان القول بالحلول والاتحاد، وينبهون على فساده، ويحذرون من ضلاله. قال الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى في عقيدته الصغرى: (تعالى الحق أن تحله الحوادث أو يحلها)[الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

وقال في عقيدته الوسطى: (اعلم أن الله تعالى واحد بالإِجماع، ومقام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد في شيء) [الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

وقال في باب الأسرار: (لا يجوز لعارف أن يقول: أنا الله ، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا العارف من هذا القول حاشاه، إِنما يقول: أنا العبد الذليل في المسير والمقيل) [الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

وقال في الباب التاسع والستين ومائة: (القديم لا يكون قط محلاً للحوادث، ولا يكون حالاً في المحدَث) [الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

وقال في باب الأسرار: (من قال بالحلول فهو معلول، فإِن القول بالحلول مرض لا يزول، وما قال بالاتحاد إِلا أهل الإِلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول) [الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

وقال في باب الأسرار أيضاً: (الحادث لا يخلو عن الحوادث، ولو حل بالحادثِ القديمُ لصح قول أهل التجسيم، فالقديم لا يحل ولا يكون محلاً) [الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

وقال في الباب التاسع والخمسين وخمسمائة بعد كلام طويل: (وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق، ولا حل فيه الحق، إِذ لو كان عينَ الحق، أو حلَّ فيه لما كان تعالى قديماً ولا بديعاً) [الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

وقال في الباب الرابع عشر وثلاثمائة: (لو صحَّ أن يرقى الإِنسان عن إِنسانيته، والمَلكُ عن ملكيته، ويتحد بخالقه تعالى، لصحَّ انقلاب الحقائق، وخرج الإِله عن كونه إِلهاً، وصار الحق خلقاً، والخلق حقاً، وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجباً، فلا سبيل إِلى قلب الحقائق أبداً) [الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

وكذلك جاء في شعره ما ينفي الحلول والاتحاد كقوله:

ودعْ مقالةَ قوم قال عالمُهم بأنَّه بالإِله الواحد اتحَدا

الاتحادُ مُحُالٌ لا يقول به إِلا جهولٌ به عن عقلهِ شَرَدَا

وعن حقيقتِه وعن شريعتِه فاعبدْ إِلهَك لا تشركْ به أَحَدا



وقال أيضاً في الباب الثاني والتسعين ومائتين: (من أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي يتوهمه بعضهم، أن تعلم عقلاً أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إِليه بذاتها، وإِنما كان القمر محلاً لها، فكذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه) [الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، كما في اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81].

قال صاحب كتاب نهج الرشاد في الرد على أهل الوحدة والحلول والاتحاد: (حدثني الشيخ كمال الدين المراغي قال: اجتمعتُ، بالشيخ أبي العباس المرسي - تلميذ الشيخ الكبير أبي الحسن الشاذلي - وفاوضْته في هؤلاء الاتحادية، فوجدته شديد الإِنكار عليهم، والنهي عن طريقهم، وقال: أتكون الصنعة هي عين الصانع؟!) [الحاوي للفتاوي في الفقه وعلوم التفسير للعلامة جلال الدين السيوطي ج2. ص134].

وأما ما ورد من كلام السادة الصوفية في كتبهم مما يفيد ظاهره الحلول والاتحاد، فهو إِما مدسوس عليهم، بدليل ما سبق من صريح كلامهم في نفي هذه العقيدة الضالة. وإِما أنهم لم يقصدوا به القول بهذه الفكرة الخبيثة والنحلة الدخيلة، ولكن المغرضين حملوا المتشابه من كلامهم على هذا الفهم الخاطىء، ورموهم بالزندقة والكفر.

أما الراسخون في العلم والمدققون المنصفون من العلماء فقد فهموا كلامهم على معناه الصحيح الموافق لعقيدة أهل السنة والجماعة، وأدركوا تأويله بما يناسب ما عرف عن الصوفية من إِيمان وتقوى.

قال العلامة جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه الحاوي للفتاوي: (واعلم أنه وقع في عبارة بعض المحققين لفظ الاتحاد، إِشارة منهم إِلى حقيقة التوحيد، فإِن الاتحاد عندهم هو المبالغة في التوحيد. والتوحيد معرفة الواحد والأحد، فاشتبه ذلك على من لا يفهم إِشاراتهِم، فحملوه على غير محمله؛ فغلطوا وهلكوا بذلك.. إِلى أن قال: فإِذن أصل الاتحاد باطل محال، مردود شرعاً وعقلاً وعرفاً بإِجماع الأنبياء ومشايخ الصوفية وسائر العلماء والمسلمين، وليس هذا مذهب الصوفية، وإِنما قاله طائفة غلاة لقلة علمهم وسوء حظهم من الله تعالى، فشابهوا بهذا القولِ النصارى الذين قالوا في عيسى عليه السلام: اتَّحَد ناسوتُهُ بلاهوتِهِ. وأما مَنْ حفظه الله تعالى بالعناية، فإِنهم لم يعتقدوا اتحاداً ولا حلولاً، وإِن وقع منهم لفظ الاتحاد فإِنما يريدون به محو أنفسهم، وإِثبات الحق سبحانه.

قال: وقد يُذْكَر الاتحاد بمعنى فناء المخالفات ، وبقاء الموافقات، وفناء حظوظ النفس من الدنيا، وبقاء الرغبة في الآخرة، وفناء الأوصاف الذميمة، وبقاء الأوصاف الحميدة، وفناء الشك، وبقاء اليقين، وفناء الغفلة وبقاء الذكر.

قال: وأما قول أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: [سبحاني، ما أعظم شأني] فهو في معرض الحكاية عن الله، وكذلك قول من قال: [أنا الحق] محمول على الحكاية، ولا يُظَنُّ بهؤلاء العارفين الحلول والاتحاد،لأن ذلك غير مظنون بعاقل، فضلاً عن المتميزين بخصوص المكاشفات واليقين والمشاهدات. ولا يُظَنُّ بالعقلاء المتميزين على أهل زمانهم بالعلم الراجح والعمل الصالح والمجاهدة وحفظ حدود الشرع الغلطُ بالحلول والاتحاد، كما غلط النصارى في ظنهم ذلك في حق عيسى عليه السلام. وإِنما حدث ذلك في الإِسلام من واقعاتِ جهلةِ المتصوفة، وأما العلماء العارفون المحققون فحاشاهم من ذلك.. إِلى أن قال:

والحاصل أن لفظ الاتحاد مشترك، فيطلق على المعنى المذموم الذي هو أخو الحلول، وهو كفر. ويطلق على مقام الفناء اصطلاحاً اصطلح عليه الصوفية، ولا مشاحة في الاصطلاح، إِذ لا يمنع أحد من استعمال لفظ في معنى صحيح، لا محذور فيه شرعاً، ولو كان ذلك ممنوعاً لم يجز لأحد أن يتفوه بلفظ الاتحاد، وأنت تقول: بيني وبين صاحبي زيد اتحاد.

وكم استعمل المحدِّثون والفقهاء والنحاة وغيرهم لفظ الاتحاد في معان حديثية وفقهية ونحوية.

كقول المحدِّثين: اتحد مخرج الحديث.

وقول الفقهاء: اتحد نوع الماشية.

وقول النحاة: اتحد العامل لفظاً أو معنى.

وحيث وقع لفظ الاتحاد من محققي الصوفية، فإِنما يريدون به معنى الفناء الذي هو محو النفس، وإِثبات الأمر كله لله سبحانه، لا ذلك المعنى المذموم الذي يقشعر له الجلد. وقد أشار إِلى ذلك سيدي علي بن وفا، فقال من قصيدة له:

يظنُّوا بي حلولاً واتحاداً وقلبي مِنْ سوى التوحيد خالي

فتبرأ من الاتحاد بمعنى الحلول، وقال في أبيات أُخَرَ:

وعلمُك أنَّ كلَّ الأمرِ أمْري هو المعنى المسمى باتحاد

فذكر أن المعنى الذي يريدونه بالاتحاد إِذا أطلقوه، هو تسليم الأمر كله لله، وترك الإِرادة معه والاختيار، والجريُ على مواقع أقداره من غير اعتراض، وترك نسبة شيءٍ ما إِلى غيره) [الحاوي للفتاوي في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإِعراب وسائر الفنون للعلامة جلال الدين السيوطي صاحب التآليف الكثيرة المتوفى سنة 911هـ. ج2. ص134].

ونقل الشعراني عن سيدي علي بن وفا رحمهما الله تعالى قوله: (المراد بالاتحاد حيث جاء في كلام القوم فناء العبد في مراد الحق تعالى، كما يقال: بين فلان وفلان اتحاد، إِذا عمل كل منهما بمراد صاحبه، ثم أنشد:

وعلمُك أنَّ كلَّ الأمرِ أمري هو المعنى المسمَّى باتحاد

[اليواقيت والجواهر للشعراني ج1. ص83].



وقال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين شرح منازل السائرين: (الدرجة الثالثة من درجات الفناء: فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين، وهو الفناء عن إِرادة السوى، شائماً برق الفناءِ عن إِرادة ما سواه، سالكاً سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه، فانياً بمراد محبوبه منه، عن مراده هو من محبوبه، فضلاً عن إِرادة غيره، قد اتحد مراده بمراد محبوبه، أعني المراد الديني الأمري، لا المراد الكوني القدري، فصار المرادان واحداً.. ثم قال: وليس في العقل اتحاد صحيح إِلا هذا، والاتحاد في العلم والخبر. فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحداً مع تباين الإِرادتين والعلمين والخبرين، فغاية المحبة اتحاد مراد المحب بمراد المحبوب، وفناء إِرادة المحب في مراد المحبوب. فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم؛ قد فَنَوْا بعبادة محبوبهم، عن عبادة ما سواه، وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة به والطلب منه عن حب ما سواه. ومَنْ تحقق بهذا الفناء لا يحب إِلا في الله، ولا يبغض إِلا فيه، ولا يوالي إِلا فيه، ولا يعادي إِلا فيه، ولا يعطي إِلا لله، ولا يمنع إِلا لله، ولا يرجو إِلا إِياه، ولا يستعين إِلا به، فيكون دينه كله ظاهراً وباطناً لله، ويكون الله ورسولهُ أحبَّ إِليه مما سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إِليه،

بل ُعادي الذي عادى مِن الناسِ كلِّهم جميعاً ولو كانَ الحبيبَ المصافيا

وحقيقة ذلك فناؤه عن هوى نفسه، وحظوظها بمراضي ربه تعالى وحقوقه، والجامع لهذا كله تحقيق شهادة أن لا إِله إِلا الله علماً ومعرفة وعملاً وحالاً وقصداً، وحقيقة هذا النفي والإِثبات الذي تضمنتْهُ هذه الشهادة هو الفناء والبقاء، فيفنى عن تأله ما سواه علماً وإِقراراً وتعبداً، ويبقى بتألهه وحده، فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحيد، الذي اتفقت عليه المرسلون صلوات الله عليهم، وأُنزلت به الكتب، وخلقت لأجله الخليقة، وشرعت له الشرائع، وقامت عليه سوق الجنة، وأسس عليه الخَلْق والأمر.. إِلى أن قال: وهذا الموضع مما غلط فيه كثير من أصحاب الإِرادة. والمعصوم من عصمه الله، وبالله المستعان والتوفيق والعصمة) [مدارج السالكين شرح منازل السائرين ج1. ص90 و91 للعلامة الشهير ابن قيم الجوزية المتوفى 751هـ].

وقال في موضع آخر: (وإِن كان مشمراً للفناء العالي، وهو الفناء عن إِرادة السوى، لم يبق في قلبه مرادٌ، يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني، بل يتحد المرادان؛ فيصير عين مراد الرب تعالى هو عين مراد العبد، وهذا حقيقة المحبة الخالصة، وفيها يكون الاتحاد الصحيح، وهو الاتحاد في المراد، لا في المريد ولا في الإِرادة) [مدارج السالكين شرح منازل السائرين ج1. ص90 و91 للعلامة الشهير ابن قيم الجوزية المتوفى 751هـ].

ورغم أن ابن تيمية مخاصم للسادة الصوفية، وشديد العداوة لهم، فإِنه يبرِّىءُ ساحتهم من تهمة القول بالاتحاد، ويؤول كلامهم تأويلاً صحيحاً سليماً. أما تبرئته لساحتهم، فقد قال في فتاويه: (ليس أحد من أهل المعرفة بالله، يعتقد حلول الرب تعالى به أو بغيره من المخلوقات، ولا اتحاده به، وإِن سُمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية، الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية) [مجموع فتاوى ابن تيمية قسم التصوف ج11. ص74 -75].

وقال أيضاً: (كل المشايخ الذين يُقتدَى بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات. وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إِفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق، وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا) [مجموع فتاوى ابن تيمية قسم علم السلوك ج10. ص223].

وأما تأويله لكلامهم فقد قال في مجموعة رسائله: (وأما قول الشاعر في شعره:

أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا

فهذا إِنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبّين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل؛ وهذا تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إِذا كان قد استغرق في محبوبه، حتى فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:

غبتُ بكَ عنِّي فظننْتُ أنَّك أنِّي

فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ) [مجموع رسائل ابن تيمية ص52].

من هذه النصوص المتعددة تبين لنا أن كل ما ورد في كلام السادة الصوفية من كلمة [اتحاد] إِنما يراد بها هذا الفهم السليم الذي يوافق عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا يصح أن نحمل كلامهم على معان تخالف ما صرحوا به من تبنِّيهم لعقيدة أهل السنة والجماعة. وما على المنصف إِلا أن يحسن الظن بالمؤمنين، ويؤول كلامهم على معنى شرعي مستقيم [انظر بحث تأويل كلام السادة الصوفية ص 415].

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:27 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
وحدة الوجود:

اختلف علماء النظر في موقفهم من العارفين المحققين القائلين بوحدة الوجود، فمنهم من تسرع باتهامهم بالكفر والضلال، وفهم كلامهم على غير المراد. ومنهم من لم يتورط بالتهجم عليهم، فتثبت في الأمر ورجع إِليهم ليعرف مرادهم. لأن هؤلاء العارفين مع توسعهم في هذه المسألة لم يبحثوا فيها بحثاً يزيل إِشكال علماء النظر، لأنهم تكلموا في ذلك ودوَّنوا لأنفسهم وتلاميذهم لا لمن لم يشهد تلك الوحدة من غيرهم، لذلك احتاج الأمر للإِيضاح لتطمئن به قلوب أهل التسليم من علماء النظر.

ومن العلماء الذين حققوا في هذه المسألة، وفهموا المراد منها السيد مصطفى كمال الشريف. حيث قال: (الوجود واحد، لأنه صفة ذاتية للحق سبحانه وتعالى، وهو واجب فلا يصح تعدده، والموجود هو الممكن، وهو العالَمُ فصح تعدده باعتبار حقائقه. وقيامُه إِنما هو بذلك الوجود الواجب لذاته، فإِذا زال بقي الوجود كما هو، فالموجود غير الوجود، فلا يصح أن يقال الوجود اثنان: وجود قديم ووجود حادث، إِلا أن يراد بالوجود الثاني الموجود من إِطلاق المصدر على المفعول، فعلى هذا لا يترتب شيء من المحاذير التي ذكرها أهل النظر على وحدة الوجود القائل بها أهل التحقيق.. إِلى أن قال: الحِسُّ لا يرى إِلا الهياكل أي الموجود، والروحُ لا تشهد إِلا الوجود، وإِذا شهدت الموجود فلا تشهده إِلا ثانياً، على حدِّ مَنْ قال: ما رأيت شيئاً إِلا ورأيت الله قبله، وأراد بهذه الرؤية الشهودَ لا رؤية البصر، لأن الرؤية من خصائص البصر، والشهود من خصائص البصيرة، لذلك ورد: أشهد أن لا إِله إِلا الله، ولم يرد أرى؛ بل ولا يصح أن يقال: أرى) [رسالة وحدة الوجود للعلامة مصطفى كمال الشريف ص27 -28].

وهكذا شأن العلماء المنصفين، يغارون على الشريعة الغراء، ويتثبَّتون في الأمور، دون أن يتسرعوا بتكفير أحد من المؤمنين، ويرجعون في فهم كل حقيقة إِلى أهل الاختصاص بها.

ونظراً لأن مسألة وحدة الوجود أخذت حظاً كبيراً من اهتمام بعض العلماء، وشغلت أذهان الكثير منهم، أردنا أن نزيد الموضوع إِيضاحاً وتبسيطاً خدمة للشريعة وتنويراً للأفهام فنقول:

إِن الوجود نوعان: وجود قديم أزلي؛ وهو واجب، وهو الحق سبحانه وتعالى، قال تعالى: {ذلِكَ بأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ} [الحج: 22]. أي الثابت الوجود، المحَقَّق.

ووجود جائز عرضي ممكن، وهو وجود من عداه من المُحْدَثات.

وإِن القول بوحدة الوجود، وأن الوجود واحد هو الحق تعالى يحتمل معنيين: أحدهما حق، والثاني كفر، ولهذا فالقائلون بوحدة الوجود فريقان:

1 - الفريق الأول: أرادوا به اتحاد الحق بالخلق، وأنه لا شيء في هذا الوجود سوى الحق، وأن الكل هو، وأنه هو الكل، وأنه عين الأشياء، وفي كل شيء له آية تدل على أنه عينه.. فقوله هذا كفر وزندقة وأشد ضلالة من أباطيل اليهود والنصارى وعبدة الأوثان.

وقد شدَّد الصوفية النكير على قائله، وأفتَوْا بكفره، وحذَّروا الناس من مجالسته. قال العارف بالله أبو بكر محمد بناني رحمه الله تعالى: (فاحذر يا أخي كلَّ الحذر من الجلوس مع من يقول: ما ثَمَّ إِلا الله، ويسترسل مع الهوى، فإِن ذلك هو الزندقة المحضة، إِذ العارف المحقق إِذا صح قدمه في الشريعة، ورسخ في الحقيقة، وتَفَوَّهَ بقوله: ما ثَمَّ إِلا الله، لم يكن قصدهُ من هذه العبارة إِسقاطَ الشرائع وإِهمال التكاليف، حاش لله أن يكون هذا قصده) [مدارج السلوك إِلى ملك الملوك للعارف الكبير محمد بناني المتوفى 1284هـ].

2 - الفريق الثاني: قالوا ببطلان وكفر ما ذُكِرَ؛ من أن الخالق عين المخلوق، وإِنما أرادوا بوحدة الوجود وحدة الوجود القديم الأزلي، وهو الحق سبحانه، فهو لاشك واحد منزه عن التعدد. ولم يقصدوا بكلامهم الوجود العرضي المتعدد. وهو الكون الحادث، نظراً لأن وجوده مجازي، وفي أصله عَدَمِيٍّ لا يضر ولا ينفع. فالكون معدوم في نفسه، هالك فانٍ في كل لحظة. قال تعالى: {كُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إلا وَجهَهُ} [القصص: 88]. وإِنما يُظهره الإِيجاد، ويُثْبتُه الإِمداد. الكائنات ثابتة بإِثباته، وممحوةٌ بأَحدِّيَة ذاته، وإِنما يُمْسكه سر القيومية فيه. وهؤلاء قسمان:

1 - قسم أخذ هذا الفهم بالاعتقاد والبرهان، ثم بالذوق والعَيان، وغلب عليه الشهود، فاستغرق في لُجج بحار التوحيد، ففني عن نفسه فضلاً عن شهود غيره، مع استقامته على شرع الله تعالى وهذا قوله حق.

2 - وقسم ظن أن ذلك علم لفظي، فتوغل في تلاوة عباراته، وتمسَّك بظواهر إِشاراته، وغاب في شهودها عن شهود الحق، فربما هانت الشريعة في عينيه، لما يلتذ به من حلاوة تلك الألفاظ، فيقع على أم رأسه، ويتكلم بما ظاهره أن الشريعة في جهة يختص بها أهل الغفلة، والحقيقة في جهة أخرى يختص بها أهل العرفان، ولَعمري إِن هذا لهو عين الزور والبهتان، وما ثَمَّ إِلا شريعةٌ ومقامُ إِحسان.

وعلى كلٌّ فالأَوْلى بالصوفي في هذا الزمان أن يبتعد عن الألفاظ والتعابير التي فيها إِيهام أو غموض أو اشتباه [انظر بحث بين الحقيقة والشريعة ص 381 من هذا الكتاب] لئلا يوقع الناس بسوء الظن به، أو تأويل كلامه على غير ما يقصده، ولأن كثيراً من الزنادقة والدخلاء على الصوفية قد تكلموا بمثل هذه العبارات الموهمة والألفاظ المتشابهة، لِيَظْهروا ما يُكِنُّونَه في قلوبهم من عقائد فاسدة، ولِيصلوا بذلك إِلى إِباحة المحرمات، ولِيبرِّرُوا ما يقعون فيه من المنكرات والفواحش، فاختلط الحق بالباطل، وأُخِذَ المؤمن الصادق بجريرة الفاسق المنحرف.

لهذا سيَّجَ الصوفية بواطنهم وظواهرهم بالشريعة الغرَّاء، وأوْصَوْا تلامذتهم بالتمسك بها قولاً وعملاً وحالاً، فهي عندهم باب الدخول وسلم الوصول، ومَنْ حاد عنها كان من الهالكين، وقد مر بك كلام الصوفية في التمسك بالشريعة فارجع إِليه في هذا الكتاب [أما ما ثبت من كلام أعلام الصوفية مما فيه غموض أو اشتباه فمردُّه أحد سببين:

أ - إِما لأنهم التزموا اصطلاحاتٍ ورموزاً وإِشاراتٍ لا يفهمها غيرهم كما أشرنا إِلى ذلك في بحث التأويل.

ب - وإِما لأنهم تكلموا بها في حالات الغلبة والشطح. ولذلك لا يجوز لمن لم يذق مذاقهم ولم يبلغ مراتبهم أن يقلدهم في هذه العبارات ويتشدق بها أمام الناس].

وختاماً نقول: إِن تلك النقول عن العلماء الأعلام، وعن الصوفية أنفسهم، تكشف للقارىء الكريم أن الصوفية مُبَرؤَّوُن مما نُسب إِليهم من القول بالحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، وأن كلامهم مؤوَّل على وجه شرعي، وموافق لما عليه أهل السنة والجماعة، من العقيدة الصحيحة السليمة، وأنهم ما نالوا هذه المواهب العرفانية إِلا بالتمسك بالكتاب والسنة، وأنهم حقيقة رجال السلف الصالح - رضي الله عنهم - الذين تمسكوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفلحوا وتحققوا بالاتباع الكامل له عليه الصلاة والسلام، فنالوا الرضى من الله تعالى، وفازوا بسعادة الدارين. {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ والرسولَ فأولئِكَ معَ الصِّدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً} [النساء: 69].

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:27 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
5 - بين الصوفية وأدعياء التصوف



لقد شوَّهَ التصوفَ رجالٌ مغرِضونَ تَزَيَّوْا بزيه، وانتسبوا له، فأساؤوا إِليه بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم، والتصوف منهم براء.

فمن أجل خدمة الحق وإِظهاره علينا أن نفرق بين أدعياء التصوف المنحرفين، وبين السادة الصوفية الصادقين العارفين، وخصوصاً الأئمة منهم الذين كانت لهم درجات عليا في الإِيمان والتقوى والورع، وآثار كبرى في نشر الأخلاق والدين والدعوة إِلى الله تعالى في سائر العصور والبلدان، وعلينا أن نقف وقفة رجل متمسك بشرعه ودينه ونقول: هناك فرق كبير بين التصوف والصوفي، وليس المتصوف بانحرافه وشذوذه ممثلاً للتصوف، كما أن المسلم بأفعاله المنكَرة ليس ممثلاً لإِسلامه ودينه.

ومتى كان في شريعة الحق والدين أن يُؤَاخذ الجار بظلم الجار؟ وأن يتحمل الإِسلامُ في جوهره النقي أخطاءَ المسلمين المنحرفين؟ وأن تنسب إِلى هذه الفئة الطيبة النقية أخطاءُ المتصوفة الشاذين؟.

وإِنكار بعض العلماء على أفعال شاذة منسوبة إِلى الصوفية إِنما يستهدف هؤلاء الغلاة المنحرفين من أدعياء التصوف. ولطالما حذَّر مرشدو الصوفية الناسَ منهم. قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في كتابه قواعد التصوف: (فغلاةُ المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين، وكالمطعون عليهم من المتفقهين، يُرَدُّ قولُهم، ويُجتنَبُ فعلُهم، ولا يُترَكُ المذهب الحق الثابت بنسبتهم له وظهورهم فيه) إِلخ [قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق قاعدة 35، ص13].

إِن الخير والشر موجود في كل طائفة من الناس إِلى يوم القيامة، فليس كل الصوفية سواء، كما أنه ليس كل العلماء والفقهاء والمدرسين والقضاة والتجار والأمراء سواء؛ إِذ فيهم الصالح وفيهم الأصلح، وفيهم الفاسد وفيهم الأفسد، هذا أمر ظاهر لا شبهة فيه عند الجمهور اعرفِ الحقَّ تعرفْ أهلَه، ويعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.

ونحن ننكر ما أنكره العلماء على هؤلاء الأدعياء من المتصوفة المنحرفين، الشاذين عن دين الله تعالى، وأما المتمسكون بالكتاب والسنة، المستقيمون على شرع الله تعالى فهم الذين نَعنيهم، ونقتفي أثرهم، وسنعرض لك في الفصل التالي شهادة علماء الأمة الإِسلامية من سلفها إِلى خلفها بهم.

6 - أعداء التصوف



إِن الذين طعنوا في التصوف الإِسلامي، وتهجموا عليه، واتهموه بشتى أنواع الأكاذيب والافتراءات، ورموه بالانحراف والزيغ؛ إِما أن يكون باعثهم على ذلك الحقد والعداوة المتأصلة للإِسلام، وإِما أن يكون سبب وقوعِهم في هذا الإِثم جهلهم المطبق بحقيقة التصوف.





1 - أما الصنف الأول:

فهم أعداء الإِسلام من الزنادقة المستشرقين وأذنابهم وعملائهم الذين صنعتْهم الصليبية الماكرة والاستعمار البغيض، لطعن الإِسلام ودك حصونه، وتشويه معالمه، وبث سموم الفرقة والخصام بين صفوف أبنائه.

وقد كشفهم السيدُ محمد أسد، في كتابه: الإِسلام على مفترق الطرق في بحث: شبح الحروب الصليبية [انظر كتاب الإِسلام على مفترق الطرق ص52. أما المؤلف فنمساوي الأصل وكان اسمه ليوبولدفايس، فاعتنق الإِسلام وتسمى باسم “محمد أسد” وينصرف في الوقت الحاضر إِلى ترجمة معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إِلى اللغة الإِنكليزية].

وقد عكف هؤلاء المغرضون على دراسة الإِسلام دراسة دقيقة مستفيضة كي يعرفوا سرَّ قوَّته، ولِيعلموا من أي باب يلجون، وفي أي طريق يسيرون للوصول إِلى أهدافهم الماكرة ومآربهم الخبيثة. ومن أشهر كتَّابهم: نكلسون الإِنكليزي، وجولدزيهر اليهودي، وماسينيون الفرنسي وغيرهم.



فتارة يدُسُّون السم في الدسم، ويمدحون الإِسلام في بعض كتبهم كي ينالوا ثقة القارىء، فإِذا اطمأنَّ إِليهم، وركن إِلى أقوالهم شككوه في عقائده، وحشوا قلبه بأباطيل ألصقوها بالإِسلام زوراً وبهتاناً.

وتارة ينْتحلون صفة الباحث العلمي المتجرد، أو يلبسون ثوب الغيور على الدين، المتباكي على تراثه، فيشنون حملةً شعْواء على التصوف، وقد عرفوا أنه روح الإِسلام وقلبه النابض، فيدّعون أنه مقتبس من اليهودية أو النصرانية أو البوذية، ويتهمون رجاله بعقائد مكفرة وأفكار منحرفة ضالة، كالقول بالحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، ووحدة الأديان، وغير ذلك.

ونحن لا نعتِبُ عليهم لأنهم أعداء، وهذا شأن العدو الماكر، ولا ندخل في تفاصيل الردِّ عليهم، وتفنيد افتراءاتهم بعد أنْ علمنا أغراضهم ومآربهم الخبيثة. ولكننا نعتب على جماعة يدّعون الإِسلام ثم يتبنَّون آراءَ هؤلاء الخصوم الألداء وخصوصاً في طعن الإِسلام في روحه وجوهره، ألا وهو التصوف. فهل يصِح لمسلم عاقل أن يتخذ أقوال الأعداء المتحاملين المغرضين الكافرين حجة لطعن إِخوته المؤمنين؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولو كان هؤلاء المستشرقون صادقين في دفاعهم عن الإِسلام مخلصين في زعمهم بتنقيته من الشوائب وغيرتهم عليه وحبهم له، فلماذا لم يعتنقوه؟! ولِمَ لم يتخذوه منهجاً لهم في حياتهم؟!







2 - وأما الصنف الثاني:



فهم الذين جهلوا حقيقة التصوف الإِسلامي ولم يأخذوه عن رجاله الصادقين وعلمائه المخلصين؛ بل نظروا إِليه نظرة سطحية بعيدة عن التمحيص والتبين، وهؤلاء أقسام:



أـ قسم أخذوا فكرتهم عن التصوف من خلال أعمال وسلوك بعض الدخلاء والمنحرفين من أدعياء التصوف؛ دون أن يُفرِّقوا بين التصوف الحقيقي الناصع، وبين بعض الوقائع المشوهة التي تصدر عن الدخلاء على الصوفية والتي لا تَمُتُّ إِلى الإِسلام بصلة [انظر بحث بين الصوفية وأدعياء التصوف ص449 في هذا الكتاب].



ب - وقسم خُدعوا بما وجدوه في كتب السادة الصوفية من أمور مدسوسة أو مسائل دخيلة؛ فأخذوها على أنها حقائق ثابتة، دون تحقيق أو تثبت [انظر بحث الدس على العلوم الإِسلامية ص 398 في هذا الكتاب] أو إِنهم أخذوا الكلام الثابت في كتب الصوفية ففهموه على غير مراده، حسب فهمهم السطحي وعلمهم المحدود، وأهوائهم الخاصة، دون أن يرجعوا إِلى كلام الصوفية الواضح الذي لا يحيد عن لب الشريعة، والذي يعطي الضوء الناصع والنور الكاشف لتأويل هذا الكلام المتشابه [انظر بحث التأويل ص 415 في هذا الكتاب]. مثلهم في ذلك كمثل الذي في قلبه زيغ ومرض؛ فأخذ الآيات القرآنية المتشابهة في القرآن الكريم فأوَّلها حسب هواه وانحرافه، دون أن يلتفت إِلى سائر الآيات القرآنية المُحْكَمَة التي تُلْقي النور على معاني هذه الآيات المتشابهة وتوضح معانيها، وتبين أغراضها. قال الله تعالى في حقهم: {هُوَ الذي أنْزَلَ عليكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكتابِ وأُخَرُ مُتشابهاتٌ فأمَّا الذينَ في قُلوبِهِم زيغٌ فيتَّبِعونَ ما تشابَهَ منهُ ابتغاءَ الفتنَةِ وابتغاءَ تأويلِهِ}[آل عمران: 7]. لهذا ولئلا يلتبس الأمر على جاهل أحمق أو مغرض متحامل، وضع علماء الصوفية عقائدهم صريحة واضحة لا تحيد عن مذهب أهل السنة والجماعة، ومنهم الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى، فقد ذكر عقيدته واضحة مفصلة في مطلع كتابه الفتوحات المكية، وكذلك صاحب الرسالة القشيرية وغيرهما..



ج - وقسم هم المغشوشون المخدوعون الذين أخذوا ثقافتهم وعلومهم عن المستشرقين كما بيَّنَّا سابقاً، وتَبنَّوا مزاعمهم وأباطيلهم كأنها بَدَهياتٌ لا تقبل الجدل، أو تنزيل من حكيم حميد. ولم تسعفهم الفطانة والذكاء إِلى إِدراك حقيقة هؤلاء المستشرقين الذين نَصَبُوا أنفسهم وجنَّدوا ثقافتهم لهدم الإِسلام، بتشويه معالمه، وطعنه في جوهره وروحه.

إِلا أن هذه الأمة الإِسلامية لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله [أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون” ومرَّ الحديث وعزوه ص42]، ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلاً، يدعونَ مَنْ ضل إِلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهلَ الضلال والعمى، اهتدوا بهدي النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، واستضاءوا بنوره على مر الأزمان والدهور..

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:28 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
الباب السادس

شهادات علماء الأمة الإِسلامية من سلفها إِلى خلفها للتصوف ورجاله



ختاماً لهذه الرسالة أنقل لك طرفاً يسيراً من الأقوال والشهادات عن التصوف لبعض أكابر علماء الأمة، ورجال الفكر والدعوة منذ الصدر الأول إِلى يومنا هذا.

ولا أراك محتاجاً إِلى هذه الشهادات، بعد أن عرفت جوهر التصوف وتبين لك أنه روح الإِسلام، وأحد أركان الدين الثلاثة: الإِسلام والإِيمان والإِحسان.

ولكن هناك بعض النفوس قد عميت عن رؤية النور، وتجاهلت حقائق الإِسلام، وحكمت على الصوفية من خلال أعمال بعض المنحرفين والمبتدعين من أدعياء التصوف دون تبيُّنٍ ولا تمحيص، فإِلى هؤلاء وإِلى كل جاهل بحقيقة التصوف نسوق هذه الأقوال؛ كي يدركوا أثر التصوف وضرورته لإِحياء القلوب، وتهذيب النفوس، وكي يطلعوا على ثمرات التصوف ونتائجه في انتشار الإِسلام في مختلف الديار وشتى الأمصار.



1 - الإِمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى:

وقد مر بك في بحث بين الشريعة والحقيقة الكلام المفصل عن الإِمام الأكبر أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، وكيف أنه كان يعطي الشريعة والطريقة، وأنه كان فارس هذا الميدان، كما ذكر العلامة ابن عابدين في حاشيته المشهورة [أبو حنيفة أحد الأئمة الأربعة، أشهر من أن يعرف، توفي في بغداد سنة 150هـ. انظر (395 - 396) من هذا الكتاب].





2 - الإِمام مالك رحمه الله تعالى:

يقول الإِمام مالك رحمه الله تعالى: (مَنْ تفقَّهَ ولم يتصوف فقد تفسق، ومَنْ تصوَّف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمعَ بينهما فقد تحقَّق) [حاشية العلامة علي العدوي على شرح الإِمام الزرقاني على متن العزية في الفقه المالكي ج3. ص195. وشرح عين العلم وزين الحلم للإِمام ملا علي القاري المتوفى 1014هـ. ج1. ص33. والإِمام مالك رحمه الله تعالى أحد الأئمة الأربعة المشهورين توفي سنة 179هـ في المدينة المنورة].





3 - الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى:

قال الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى [الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى أحد الأئمة الأربعة المشهورين توفي في مصر سنة 204هـ]: (صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين، وفي رواية سوى ثلاث كلمات:

قولهم: الوقت سيف إِن لم تقطعه قطعك.

وقولهم: نفسَك إِن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.

وقولهم: العدم عصمة) [تأييد الحقيقة العلية للإِمام جلال الدين السيوطي ص15].

وقال أيضاً: (حُبِّبَ إِليَّ من دنياكم ثلاث: تركُ التكلف، وعِشرةُ الخلق بالتلطُّف، والاقتداء بطريق أهل التصوف) [“كشف الخفاء ومزيل الإِلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس” للإِمام العجلوني المتوفى سنة 1162هـ. ج1. ص341].







4 - الإِمام أحمد رحمه الله تعالى:

كان الإِمام أحمد رحمه الله تعالى [الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أحد الأئمة الأربعة المشهورين توفي سنة 241هـ] قبل مصاحبته للصوفية يقول لولده عبد الله رحمه الله تعالى: (يا ولدي عليك بالحديث، وإِياك ومجالسة هؤلاء الذين سموا أنفسهم صوفية، فإِنهم ربما كان أحدهم جاهلاً بأحكام دينه. فلمَّا صحب أبا حمزة البغدادي الصوفي، وعرف أحوال القوم، أصبح يقول لولده: يا ولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم، فِإِنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة) [“تنوير القلوب” ص405 للعلامة الشيخ أمين الكردي المتوفى سنة 1332هـ].

ونقل العلامة محمد السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى عن إِبراهيم بن عبد الله القلانسي رحمه الله تعالى أن الإِمام أحمد رحمه الله تعالى قال عن الصوفية: (لا أعلم أقواماً أفضل منهم. قيل: إِنهم يستمعون ويتواجدون، قال: دعوهم يفرحوا مع الله ساعة..) [“غذاء الألباب شرح منظومة الآداب” ج1. ص120].







5 - الإِمام المحاسبي رحمه الله تعالى:

ويقول الإِمام المحاسبي رحمه الله تعالى، متحدثاً عن جهاده المرير للوصول إِلى الحق حتى اهتدى إِلى التصوف ورجاله، وهو من أروع ما كتب في وصف الحياة الصوفية والخلقية والإِيمانية: (أما بعد، فقد انتهى البيان إِلى أن هذه الأمة تفترق على بضع وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية، والله أعلم بسائرها؛ فلم أزل برهة من عمري، أنظر اختلاف الأمة، وألتمس المنهاج الواضح والسبيل القاصد، وأطلب من العلم والعمل، وأستدل على طريق الآخرة بإِرشاد العلماء، وعقلت كثيراً من كلام الله عز وجل بتأويل الفقهاء، وتدبرت أحوال الأمة، ونظرت في مذاهبها وأقاويلها، فعقلت من ذلك ما قدّر لي، ورأيت اختلافهم بحراً عميقاً، غرق فيه ناس كثير، وسلم منه عصابة قليلة، ورأيت كل صنف منهم، يزعم أن النجاة لمن تبعهم، وأن المهالك لمن خالفهم، ثم رأيت الناس أصنافاً:

فمنهم العالم بأمر الآخرة، لقاؤه عسير، ووجوده عزيز.

ومنهم الجاهل، فالبعد عنه غنيمة.

ومنهم المتشبه بالعلماء، مشغوف بدنياه، مؤثر لها.

ومنهم حامل علم، منسوب إِلى الدين، ملتمس بعلمه التعظيم والعلو، ينال بالدين من عرض الدنيا.

ومنهم حامل علم، لا يعلم تأويل ما حمل.

ومنهم متشبه بالنُّسَّاك، متحرٌّ للخير، لا غناء عنده، ولا نفاذ لعلمه [إِلى قلوب السامعين]، ولا معتمَد على رأيه.

ومنهم منسوب إِلى العقل والدهاء، مفقود الورع والتقى.

ومنهم متوادُّون، على الهوى وافِقون، وللدنيا يذِلون، ورياستَها يطلبون.

ومنهم شياطين الإِنس، عن الآخرة يصدون، وعلى الدنيا يتكالبون، وإِلى جمعها يُهرعون، وفي الاستكثار منها يرغبون، فهم في الدنيا أحياء، وفي العُرف موتى، بل العُرف عندهم منكر، والاستواء [بين الحي والميت] معروف.

فتفقدْت في الأصناف نفسي، وضِقتُ بذلك ذرعاً، فقصدت إِلى هدى المهتدين، بطلب السداد والهدى، واسترشدت العلم، وأَعملْت الفكر، وأطلت النظر، فتبيَّن لي من كتاب الله تعالى وسنة نبيه وإِجماع الأمة، أن اتباع الهوى يعمي عن الرشد، ويضل عن الحق، ويطيل المكث في العمى.

فبدأتُ بإِسقاط الهوى عن قلبي، ووقفت عند اختلاف الأمة مرتاداً لطلب الفرقة الناجية، حذِراً من الأهواء المُرْدية والفرقة الهالكة، متحرزاً من الاقتحام قبل البيان، وألتمس سبيل النجاة لِمُهْجةِ نفسي.

ثم وجدْتُ باجتماع الأمة في كتاب الله المنزل أن سبيل النجاة في التمسك بتقوى الله وأداء فرائضه، والورع في حلاله وحرامه وجميع حدوده، والإِخلاص لله تعالى بطاعته، والتأسِّي برسوله صلى الله عليه وسلم. فطلبت معرفة الفرائض والسنن عند العلماء في الآثار، فرأيت اجتماعاً واختلافاً، ووجدتُ جميعهم مجتمعين على أن علم الفرائض والسنن عند العلماء بالله وأمره، الفقهاء عن الله العاملين برضوانه الورعين عن محارمه المتأسين برسوله صلى الله عليه وسلم والمؤثرين الآخرة على الدنيا؛ أُولئك المتمسكون بأمر الله وسنن المرسلين.

فالتمست من بين الأمة هذا الصنف المجتمَعَ عليهم والموصوفين بآثارهم، واقتبست من علمهم، فرأيتهم أقل من القليل، ورأيت علمهم مندرساً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “بدأ الإِسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء” [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإِيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه]، وهم المتفرِّدون بدينهم، فعظمتْ مصيبتي لفقد الأولياء الأتقياء، وخشيتُ بغتة الموت أن يفاجئني على اضطرابٍ من عمري لاختلاف الأمة، فانكمشت في طلب عالم لم أجد لي من معرفته بُدّاً، ولم أقصّر في الاحتياط ولا في النصح. فقيَّضَ لي الرؤوف بعباده قوماً وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإِيثار الآخرة على الدنيا، ووجدت إِرشادهم ووصاياهم موافقة لأفاعيل أئمة الهدى، [ووجدتهم] مجتمعين على نصح الأمة، لا يُرَجُّون أبداً في معصيته، ولا يُقَنِّطون أبداً من رحمته، يرضون أبداً بالصبر على البأساء والضراء والرضا بالقضاء والشكر على النعماء، يُحبِّبون الله تعالى إِلى العباد بذكرهمْ أياديه وإِحسانه، ويحثُّون العباد على الإِنابة إِلى الله تعالى، علماء بعظمة الله تعالى، علماء بعظيم قدرته، وعلماء بكتابه وسنته، فقهاء في دينه، علماء بما يحب ويكره، وَرِعين عن البدع والأهواء، تاركين التعمق والإِغلاء، مبغضين للجدال والمراء، متورِّعين عن الاغتياب والظلم مخالفين لأهوائهم، محاسبين لأنفسهم، مالكين لجوارحهم، ورعين في مطاعمهم وملابسهم وجميع أحوالهم، مُجانبين للشبهات، تاركين للشهوات، مجتزئين بالبُلْغة من الأقوات، متقللين من المباح، زاهدين في الحلال، مشفِقين من الحساب، وَجِلين من المعاد، مشغولين بينهم، مُزْرِين على أنفسهم من دون غيرهم، لكل امرىء منهم شأن يغنيه، علماء بأمر الآخرة وأقاويل القيامة وجزيل الثواب وأليم العقاب. ذلك أورثهم الحزن الدائم والهَمَّ المقيم، فشغلوا عن سرور الدنيا ونعيمها. ولقد وصفوا من آداب الدين صفات، وحدُّوا للورع حدوداً ضاق لها صدري، وعلمت أن آداب الدين وصدق الورع بحر لا ينجو من الغرق فيه شبهي، ولا يقوم بحدوده مثلي، فتبين لي فضلهم، واتضح لي نصحهم، وأيقنتُ أنهم العاملون بطريق الآخرة والمتأسون بالمرسلين، والمصابيح لمن استضاء بهم، والهادون لمن استرشد.

فأصبحت راغباً في مذهبهم مقتبساً من فوائدهم قابلاً لآدابهم محباً لطاعتهم، لا أعدل بهم شيئاً، ولا أوثر عليهم أحداً، ففتح الله لي علماً اتضح لي برهانه، وأنار لي فضله، ورجوت النجاة لمن أقرَّ به أو انتحله، وأيقنت بالغوث لمن عمل به، ورأيت الاعوجاج فيمن خالفه، ورأيت الرَّيْن متراكماً على قلب من جهله وجحده، ورأيت الحجة العظمى لمن فهمه، ورأيت انتحاله والعمل بحدوده واجباً عليَّ، فاعتقدته في سريرتي، وانطويت عليه بضميري، وجعلته أساس ديني، وبنيت عليه أعمالي، وتقلَّبْت فيه بأحوالي. وسألت الله عز وجل أن يوزِعَني شكرَ ما أنعم به عليَّ، وأن يقويني على القيام بحدود ما عرَّفني به، مع معرفتي بتقصيري في ذلك، وأني لا أدرك شكره أبداً) [كتاب الوصايا ص27 -32. للإِمام أبي عبد الله الحارث المحاسبي المتوفى 243هـ. وهو من أمهات الكتب الصوفية المعتمدة].







6 - عبد القاهر البغدادي رحمه الله تعالى:

قال الإِمام الكبير حجة المتكلمين عبد القاهر البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه الفَرْقُ بين الفِرَقِ: (الفصل الأول من فصول هذا الباب في بيان أصناف أهل السنة والجماعة. اعلموا أسعدكم الله أن أهل السنة والجماعة ثمانية أصناف من الناس:

1 - صنف منهم أحاطوا علماً بأبواب التوحيد والنبوة وأحكام الوعد والوعيد والثواب والعقاب وشروط الاجتهاد والإِمامة والزعامة..

2 - والصنف الثاني منهم: أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث من الذين اعتقدوا في أُصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته الأزلية وتبرَّؤُا من القدر والاعتزال، وقالوا بدوام نعيم الجنة على أهلها، ودوام عذاب النار على الكفرة، وقالوا بإِمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأحسنوا الثناء على السلف الصالح من الأمة، ورأوا وجوب الجمعة خلف الأئمة الذين تبرؤا من أهل الأهواء الضالة، ورأَوْا وجوب استنباط أحكام الشريعة من القرآن والسنة ومن إِجماع الصحابة، ويدخل في هذه الجماعة أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم.

3 - والصنف الثالث منهم: هم الذين أحاطوا علماً بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وميزوا بين الصحيح والسقيم منها، وعرفوا أسباب الجرح والتعديل، ولم يخلطوا علمهم بذلك بشيء من بدع أهل الأهواء الضالة.

4 - والصنف الرابع منهم: قوم أحاطوا علماً بأكثر أبواب الأدب والنحو والتصريف، وَجَروْا على سَمْتِ أئمة اللغة كالخليل وأبي عمرو بن العلاء وسيبويه.

5 - والصنف الخامس منهم: هم الذين أحاطوا علماً بوجوه قراءات القرآن وبوجوه تفسير آيات القرآن وتأويلها على وفق مذاهب أهل السنة دون تأويلات أهل الأهواء الضالة.

6 - والصنف السادس منهم: الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا، واختَبروا فاعتبروا، ورضوا بالمقدور وقنعوا بالميسور، وعلموا أن السمع والبصر والفؤاد كل أُولئك مسؤول عن الخير والشر، ومحاسب على مثاقيل الذر، فأعدُّوا خير الإِعداد ليوم المعاد، وجرى كلامهم في طريقَيْ العبارة والإِشارة على سَمْتِ أهل الحديث دون من يشتري لهو الحديث، لا يعملون الخير رياء، ولا يتركونه حياء، دينُهم التوحيد ونفي التشبيه، ومذهبهم التفويضُ إِلى الله تعالى، والتوكلُ عليه والتسليمُ لأمره، والقناعةُ بما رزقوا، والإِعراضُ عن الاعتراض عليه. {ذلكَ فضلُ اللهِ يؤتِيهِ مَنْ يشاءُ واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ} [الجمعة: 4].

7 - والصنف السابع منهم: قوم مرابطون في ثغور المسلمين في وجوه الكفرة، يجاهدون أعداء المسلمين ويحمون حمى المسلمين.

8 - والصنف الثامن منهم: عامة البلدان التي غلب فيها شعائر أهل السنة، دون عامة البقاع التي ظهر فيها شعار أهل الأهواء الضالة..) [الفَرْقُ بين الفِرَقِ للإِمام عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429هـ. ص189].







7 - الإمام القشيري رحمه الله تعالى:

وقال الإِمام أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في مقدمة رسالته المشهورة متحدثاً عن الصوفية: (جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفَضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصَّهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق. صفَّاهم من كدورات البشرية، ورقَّاهم إِلى محل المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية، ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية، فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات التكليف، وتحققوا بما مَنَّه سبحانه لهم من التقليب والتصريف، ثم رجعوا إِلى الله سبحانه وتعالى بصدق الافتقار ونعت الانكسار، ولم يتَّكِلوا على ما حصل منهم من الأعمال أو صفا لهم من الأحوال، علماً منهم بأنه جلَّ وعلا يفعل ما يريد، ويختار من يشاء من العبيد، لا يحكم عليه خلق، ولا يتوجه عليه لمخلوق حق، ثوابه ابتداء فضل، وعذابه حكم بعدل، وأمره قضاء فصل) [الرسالة القشيرية للإِمام أبي القاسم القشيري المتوفى سنة 465هـ. ص2].





8 - الإمام الغزالي رحمه الله تعالى:

وها هو ذا حجة الإِسلام الإِمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى يتحدث في كتابه المنقذ من الضلال عن الصوفية وعن سلوكهم وطريقتهم الحقة الموصلة إِلى الله تعالى فيقول:

(ولقد علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السيرة، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق.. ثم يقول رداً على من أنكر على الصوفية وتهجَّم عليهم: وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقةٍ طهارتُها - وهي أول شروطها - تطهيرُ القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراقُ القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله) [المنقذ من الضلال لحجة الإِسلام الغزالي المتوفى سنة 505هـ. ص131].





9 - الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى:

قال العلامة الكبير والمفسر الشهير الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (الباب الثامن في أحوال الصوفية: اعلم أن أكثر مَنْ حَصَرَ فرق الأمة، لم يذكر الصوفية وذلك خطأ، لأن حاصل قول الصوفية أن الطريق إِلى معرفة الله تعالى هو التصفية والتجرد من العلائق البدنية، وهذا طريق حسن.. وقال أيضاً: والمتصوفة قوم يشتغلون بالفكر وتجرد النفس عن العلائق الجسمانية، ويجتهدون ألاَّ يخلو سرَّهم وبالَهم عن ذكر الله تعالى في سائر تصرفاتهم وأعمالهم، منطبعون على كمال الأدب مع الله عز وجل، وهؤلاء هم خير فرق الآدميين) [اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للإِمام فخر الدين الرازي ص72 -73 توفي سنة 606هـ بمدينة هراة. يقول محرر كتاب اعتقادات فرق المسلمين علي سامي النشار: (وفي أواخر أيامه [فخر الدين الرازي] وقد بلغ أوج كماله العلمي حدث له ما حدث لأبي حامد الغزالي من قبل، فقلَّتْ ثقته بالعقل الإِنساني، وأحسَّ عجزه، وأدرك تماماً أنه لا يستطيع الإِحاطة بالوجود في ذاته، فأدركتْه حالة صوفية كانت تنتابه منها في بعض مجالس وعظه نوباتٌ فيصرخ مستغيثاً.

وعظ يوماً بحضرة السلطان شهاب الدين الغوري، وحصلت له حال فاستغاث: (يا سلطان العالم لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي يبقى).

ونظم أشعاراً تغلب عليها النزعة الصوفية كقوله:

نهايةُ إِقدام العقول عقالُ وأكثرُ سعي العالمينَ ضلالُ

وأرواحُنا في وَحشةٍ من جِسومنا وحاصلُ دنيانا أذى ووبالُ

ولم نستفد من بحثنا طولَ عمرنا سوى أنْ جمعنا فيه قيلَ وقالوا



وكان للإِمام فخر الدين الرازي صلة قوية بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي على أثر إِرسال رسالة جاءته من الشيخ محي الدين بن عربي، بين له فيها قيمة العلوم العرفانية الوهبية وشوَّقَه لها، وهذه الرسالة مطبوعة بالمطبعة السلفية بمصر وتسمى “رسالة شيخ الطريقة محي الدين بن عربي إِلى الإِمام ابن الخطيب الري المعروف بفخر الرازي” نسخها وأبرزها وصححها عبد العزيز الميمني الراجقوتي الأثري المقرىء بالجامعة الإِسلامية في عليكرة بالهند عام 1334 في مجموعة ثلاث رسائل].







10 - العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى:

قال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى [عز الدين بن عبد السلام يلقب بشيخ العلماء وبسلطان العلماء ولد سنة 577هـ، وتوفي سنة 660هـ. انتهت إِليه الإِمامة، وبلغ منزلة الاجتهاد مع الزهد والورع. ولد بالشام، ووفد مصر فأقام بها أكثر من عشرين عاماً، ناشراً للعلم آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. وألَّفَ كتباً كثيرة، وأخذ التصوف عن شهاب الدين السهروردي، وسلك على يد الشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى، وكان يقول إِذا حضر مجلسه وسمع كلامه: هذا كلام قريب العهد بالله]:

(قعد القوم من الصوفية على قواعد الشريعة التي لا تنهدم دنيا وأخرى ، وقعد غيرهم على الرسوم، ومما يدلك على ذلك، ما يقع على يد القوم من الكرامات وخوارق العادات، فإِنه فرع عن قربات الحق لهم، ورضاه عنهم، ولو كان العلم من غير عمل، يرضي الحق تعالى كل الرضى، لأجرى الكرامات على أيدي أصحابهم، ولو لم يعملوا بعلمهم، هيهات هيهات) [نور التحقيق للشيخ حامد صقر ص96].







11 - الإمام النووي رحمه الله تعالى:

قال الإِمام النووي رحمه الله تعالى في رسالته المقاصد: أصول طريق التصوف خمسة:

1 - تقوى الله في السر والعلانية.

2 - اتباع السنة في الأقوال والأفعال.

3 - الإِعراض عن الخلق في الإِقبال والإِدبار.

4 - الرضى عن الله في القليل والكثير.

5 - الرجوع إِلى الله في السراء والضراء) [مقاصد الإِمام النووي في التوحيد والعبادة وأصول التصوف ص20 توفي الإِمام النووي سنة 676هـ في قرية من قرى الشام تسمى: نوى].





12 - ابن تيمية رحمه الله تعالى:

تحدث أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن تمسك الصوفية بالكتاب والسنة في الجزء العاشر من مجموع فتاويه فقال: (فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر [الجيلاني] والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يعمل المأمور ويدع المحظور إِلى أن يموت. وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإِجماع السلف، وهذا كثير في كلامهم) [مجموع فتاوى أحمد بن تيمية ج10. ص516 -517].







13 - الإِمام الشاطبي رحمه الله تعالى:

ذَكَرتْ “المسلم مجلة العشيرة المحمدية” تحت عنوان: الإِمام الشاطبي [الشاطبي هو إِبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي المتوفى سنة 790هـ]. صوفي سلفي للسيد أبي النقى أحمد خليل: (كتاب الاعتصام من الكتب التي يعتبرها المُتسلِّفة مرجعاً أساسياً لبعض آرائهم، ويرون في الشيخ أبي إِسحاق الشاطبي إِماماً لهم، وقد عقد الإِمام الشاطبي في كتابه هذا فصولاً كريمة عن التصوف الإِسلامي، وأثبت أنه من صميم الدين، وليس هو مبتدَعاً، ووفَّى المقام هناك بما تخرس له الألسن، وتسلم له العقول والقلوب، فاستمعْ إِلى الإِمام الشاطبي يقول:



إِن كثيراً من الجهال، يعتقدون في الصوفية أنهم متساهلون في الاتباع والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه، مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به. فأول شيء بَنَوْا عليه طريقهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها، حتى زعم مُذكِّرُهُم وحافظ مأخذهم، وعمود نحلتهم أبو القاسم القشيري: إِنهم إِنما اختصوا باسم التصوف انفراداً به عن أهل البدع. فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسَمَّ أفاضلهم في عصرهم باسم عَلَمٍ سوى الصحبة، إِذ لا فضيلةَ فوقها، ثم سمي من يليهم التابعون، ثم اختلف الناس، وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية في الدين: الزهاد والعبَّاد. قال: ثم ظهرت البدع وادَّعى كل فريق أن فيهم زهاداً وعُبَّاداً، فانفرد خواص أهل السنة، المراعون أنفسهم مع الله، والحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف، فتأمل تغنم، والله أعلم) [المسلم مجلة العشيرة المحمدية، عدد ذي القعدة سنة 1373هـ].





14 - ابن خلدون رحمه الله تعالى:

وقال ابن خلدون رحمه الله تعالى في كلامه عن علم التصوف: (هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدَهم طريقةَ الحق والهداية، وأصلُها العكوفُ على العبادة والانقطاع إِلى الله تعالى، والإِعراضُ عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهدُ فيما يُقبِل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفرادُ عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف، فلمَّا فشا الإِقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إِلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية) [مقدمة ابن خلدون ص328. وهو عبد الرحمن بن الشيخ أبي بكر محمد بن خلدون الحضرمي ولد عام 732هـ وتوفي سنة 808هـ].





15 - تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى:

وقال الشيخ تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى في كتابه معيد النعم ومبيد النقم، تحت عنوان الصوفية: (حَيَّاهمُ الله وبيَّاهم وجمعنا في الجنة نحن وإِياهم. وقد تشعبت الأقوال فيهم تشعباً ناشئاً عن الجهل بحقيقتهم لكثرة المُتلبِّسين بها، بحيث قال الشيخ أبو محمد الجويني: لا يصح الوقف عليهم لأنه لا حدَّ لهم. والصحيح صحته، وأنهم المعرضون عن الدنيا المشتغلون في أغلب الأوقات بالعبادة.. ثم تحدث عن تعاريف التصوف إِلى أن قال: والحاصل أنهم أهل الله وخاصته الذين ترتجى الرحمة بذكرهم، ويُستنزل الغيث بدعائهم، فرضي الله عنهم وعنَّا بهم) [كتاب معيد النعم ومبيد النقم ص119 للإِمام تاج الدين عبد الوهاب السبكي المتوفى سنة 771هـ].





16 - جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى:

وقال العلامة المشهور جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه تأييد الحقيقة العليَّة: (إِن التصوف في نفسه علم شريف، وإِن مداره على اتباع السنة وترك البدع ، والتبرِّي من النفس وعوائدها وحظوظها وأغراضها ومراداتها واختياراتها، والتسليمِ لله، والرضى به وبقضائه، وطلبِ محبته، واحتقارِ ما سواه.. وعلمتُ أيضاً أنه قد كثر فيه الدخيل من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم، فأدخلوا فيه ما ليس منه، فأدى ذلك إِلى إِساءة الظن بالجميع، فوجَّه أهلُ العلم للتمييز بين الصنفين ليُعلمَ أهل الحق من أهل الباطل، وقد تأملتُ الأمور التي أنكرها أئمة الشرع على الصوفية فلم أرَ صوفياً محقِّقَاً يقول بشيء منها، وإِنما يقول بها أهل البدع والغلاةُ الذين ادَّعَوْا أنهم صوفية وليسوا منهم) [تأييد الحقيقة العلية ص57. للعلامة جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ].







17 - ابن عابدين رحمه الله تعالى:

وتحدَّثَ خاتمة المحققين العلامة الكبير والفقيه الشهير الشيخ محمد أمين المشهور بابن عابدين رحمه الله تعالى في كتابه المسمى مجموعة رسائل ابن عابدين الرسالة السابعة [شفاء العليل وبَلُّ الغليل في حُكْمِ الوصية بالختمات والتهاليل] عن البدع الدخيلة على الدين مما يجري في المآتم والختمات، من قِبل أشخاص تزيَّوْا بزِي العلم، وانتحلوا اسم الصوفية، ثم استدرك الكلام عن الصوفية الصادقين حتى لا يُظن أنه يتكلم عنهم عامة فقال: (ولا كلام لنا مع الصُدَّقِ من ساداتنا الصوفية المبرئين عن كل خصلة رديَّة، فقد سُئل إِمامُ الطائفتين سيدنا الجنيد: إِن أقواماً يتواجدون ويتمايلون؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإِنهم قوم قطَّعت الطريقُ أكبادَهم، ومزَّق النصبُ فؤادَهم، وضاقوا ذرعاً فلا حرج عليهم إِذا تنفسوا مداواةً لحالهم، ولو ذُقْتَ مذاقهم عذرتهم في صياحهم.. وبمثل ما ذكره الإِمام الجنيد، أجاب العلامة النحرير ابن كمال باشا لما استفتي عن ذلك حيث قال:

ما في التَّواجُدِ إِن حقَّقْتَ من حرجٍ ولا التمايلِ إِن أخلْصَتَ من بَاسِ

فقمتَ تسعى على رِجْلٍ وحُقَّ لِمَنْ دعاه مولاه أن يسعى على الرِّاسِ



الرخصة فيما ذكر من الأوضاع عند الذكر والسماع للعارفين الصارفين أوقاتهم إِلى أحسن الأعمال، السالكين المالكين لضبط أنفسهم عن قبائح الأحوال، فهم لا يستمعون إِلا من الإِله، ولا يشتاقون إِلاَّ له؛ إِنْ ذكروه ناحوا، وإِن شكروه باحوا، وإِن وجدوه صاحوا، وإِن شهدوه استراحوا، وإِن سرحوا في حضرات قربه ساحوا. إِذا غلب عليهم الوجد بغلباته، وشربوا من موارد إِراداته، فمنهم مَنْ طرقتْه طوارق الهيبة فخرَّ وذاب، ومنهم من برِقتْ له بوارق اللطف فتحرَّك وطاب، ومنهم من طلع عليهم الحِبُّ من مطلع القرب فسكر وغاب. هذا ما عَنَّ لي في الجواب، والله أعلم بالصواب.

وأيضاً فإِن سماعهم ينتج المعارف الإِلهية، والحقائق الربانية، ولا يكون إِلا بوصف الذات العلية والمواعظ الحِكَمِيَّة، والمدايح النبوية.

ولا كلام لنا أيضاً مع من اقتدى بهم، وذاق من مشربهم، ووجد من نفسه الشوق والهيام في ذات الملك العلاَّم، بل كلامنا مع هؤلاء العوام، الفسقة اللئام.. إِلخ) [الرسالة السابعة، شفاء العليل وبل الغليل في حكم الوصية بالختمات والتهاليل ص172 -173 للفقيه الكبير ابن عابدين ولد سنة 1198 وتوفي 1252هـ وقد ذكرنا سابقاً شيئاً من ترجمته].







18 - الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى:

ذكرت مجلة المسلم مقالة تحت عنوان رأي الشيخ محمد عبده في التصوف، نقلها عنه المرحوم الشيخ علي محفوظ في رسالة الإِبداع فقال: (قال الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى: قد اشتبه على بعض الباحثين في تاريخ الإِسلام وما حدث فيه من البدع والعادات التي شوهتْ جماله، السببُ في سقوط المسلمين في الجهل، فظنوا أن التصوف من أقوى الأسباب لوقوع المسلمين في الجهل بدينهم وبُعدهم عن التوحيد الخالص الذي هو أُسُّ النجاة، ومدار صحة الأعمال، وليس الأمر كما ظنوا، فنذكر لك الغرض منه على وجه الإِجمال، وما آل إِليه أمره بعد ذلك.

ظهر التصوف في القرون الأولى للإِسلام، فكان له شأن عظيم، وكان المقصود منه في أول الأمر تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس، وترويضها بأعمال الدين وجذبها إِليه، وجعله وجداناً لها، وتعريفها بحِكَمه وأسراره بالتدريج. وكان الفقهاء الذين وقفوا عند ظواهر الأحكام المتعلقة بأعمال الجوارح والمعاملات ينكرون عليهم معرفة أسرار الدين، ويرمونهم بالزيغ والإِلحاد، وكانت السلطة للفقهاء لحاجة الأمراء والسلاطين إِليهم، فاضطر الصوفية إِلى إِخفاء أمرهم، ووضْع الرموز والاصطلاحات الخاصة بهم، وعدم قبول أحد معهم إِلا بشروط واختبار طويل، فقالوا: لابد فيمن يحب أن يكون معنا أن يكون أولاً طالباً فمريداً فسالكاً، وبعد السلوك إِما أن يصل وإِما أن ينقطع، فكانوا يختبرون أخلاق الطالب وأطواره زمناً طويلاً، ليعلموا أنه صحيح الإِرادة صادق العزيمة، لا يقصد مجرد الوقوف على أسرارهم، وبعد الثقة يأخذونه بالتدريج شيئاً فشيئاً) [مجلة المسلم - العدد السادس - غرة المحرم 1378هـ. ص24. ولد الشيخ محمد عبده 1266هـ. وتوفي 1323هـ في مصر].





19 - الأمير شكيب أرسلان رحمه الله تعالى:

جاء في كتاب حاضر العالم الإِسلامي للأمير شكيب أرسلان رحمه الله تعالى تحت عنوان: نهضة الإِسلام في أفريقيا وأسبابها: (وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر حصلت نهضة جديدة عند أتباع الطريقتين: القادرية والشاذلية، ووُجدت طريقتان، هما: التيجانية والسنوسية.

فالقادرية هم أحمسُ مبشري الدين الإِسلامي في غربي أفريقيا من السنيغال إِلى بنين التي بقرب مصب النيجر. وهم ينشرون الإِسلام بطريقة سلمية بالتجارة والتعليم، وتجد التجار الذين من السونينكة والماندجولة المنتشرين على مدن النيجر وفي بلاد كارتا وماسينة، كلهم من مريدي الطريقة القادرية. ومِنْ مريديهم من يخدمون في مهنة الكتابة والتعليم، ويفتحون كتاتيب ليس في زوايا الطريقة فقط، بل في كل القرى، فيلقِّنون صغار الزنج الدين الإِسلامي أثناء التعليم، ويرسلون النجباء من تلاميذهم على نفقة الزوايا إِلى مدارس طرابلس والقيروان وجامع القرويين بفاس والجامع الأزهر بمصر. فيُخرَّجون من هناك طلبة مجازين، أي أساتذة، ويعودون إِلى تلك البلاد لأجل مقاومة التبشير المسيحي في السودان) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج2. ص396].

وتحدث عن شيخ الطريقة القادرية فقال: (وكان عبد القادر الجيلاني الموجود في جيلان من فارس متصوفاً عظيماً زكي النشأة، وله أتباع لا يُحصى عددهم، ووصلت طريقته إِلى أسبانيا، فلما زالت دولة العرب من غرناطة انتقل مركز الطريقة القادرية إِلى فاس، وبواسطة أنوار هذه الطريقة زالت البدع من بين البربر، وتمسكوا بالسنة والجماعة، كما أن هذه الطريقة هي التي في القرن الخامس عشر، اهتدى على يدها زنوج غربي أفريقيا.

وتحدث عن السنوسية فقال: فالسنوسية نشروا طريقتهم في وادي والبافيرمي وبوركو، وتبعوا نهر بينوى إِلى أن بلغوا النيجر الأدنى حيث نجدهم يَهدون تلك القبائل إِلى الإِسلام. وبواسطة السنوسية صارت نواحي بحيرة تشاد هي مركز الإِسلام العام في أواسط أفريقيا، ويُقوَّم عدد مريدي الطريقة السنوسية بأربعة ملايين، وطريقة هؤلاء الجماعة في التبشير هي أن يشتروا الأرقاء صغاراً من السودان، ويربُّوهم في جغبوب وغذامس وغيرها، ثم متى بلغوا أشدَّهم وأكملوا تحصيل العلم أعتقوهم، وسرحوهم إِلى أطراف السودان، يَهدون أبناء جلدتهم الباقين على الفتيشية.

وهكذا يرحل كل سنة مئات من مبشري السنوسية لِبَثِّ دعاية الإِسلام في جميع أفريقيا الداخلية، من سواحل الصومال شرقاً، إِلى سواحل السينغامبية غرباً، ولقد حَذَا سيدي محمد المهدي وأخوه سيدي محمد الشريف حذو والدهما في السعي إِلى الغرض الذي توخاه، ألا وهو تخليص الإِسلام من النفوذ الأجنبي، وإِعادة الإِمامة العامة كما كانت في عصر الخلفاء. وبالإِجمال: فإِن مريدي هذه الطرق هم الذين سعوا في نشر الإِسلام، وَوُفِّقُوا إِليه في أفريقيا) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج2. ص400].

وتحدث عن السنوسية أيضاً بقوله: (وأيُّ دليل أقطع من المبشرين السنوسين الحُمَّس الغُيَّر الذين خرَّجتهم زوايا الصحراء، وهم يُعدُّون بالألوف المؤلَّفةِ، وما انفكوا يجوبون كل بلاد وثنية مبشرين بالوحدانية داعين إِلى الإِسلام. وهذه الأعمال التي قام بها المبشرون المسلمون في غربي أفريقيا وأوسطها خلال القرن التاسع عشر إِلى اليوم لَعجيبةٌ من العجائب الكبرى، وقد اعترف عدد كبير من الغربيين بهذا الأمر، فقد قال أحد الإِنكليز في هذا الصدد منذ عشرين سنة: إِن الإِسلام ليفوز في أواسط أفريقيا فوزاً عظيماً، حيث الوثنية تختفي مِن أمامه اختفاء الظلام من فلق الصباح، وحيث الدعوة النصرانية كأنها خرافة من الخرافات..) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج1. ص301].

وتحدَّثَ عن الطريقة الشاذلية فقال: (وأما الشاذلية فنسبتها إِلى أبي الحسن الشاذلي، أخذ عن عبد السلام بن مشيش، الذي أخذ عن أبي مدين وكانت ولادة أبي مدين في إِشبيلية سنة 1127 ميلادية، وقرأ في فاس، وحجَّ البيت الحرام، ثم استقر يعلم التصوف في بجاية، وتبعه خلقٌ كثير.. وهي من أوليات الطرق التي أدخلت التصوف في المغرب، ومركزها بوبريت في مراكش. وكان من أشياخها سيدي العربي الدرقاوي المتوفى سنة 1823م الذي أوجد عند مريديه حماسة دينية شديدة امتدت إِلى المغرب الأوسط، وكان للدرقاوية دور فعال في مقاومة الفتح الفرنسي) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج1. ص301].

وختم الأمير شكيب أرسلان موضوعه عن نهضة الإِسلام في أفريقيا فقال: (وأكثر أسباب هذه النهضة الأخيرة راجعة إِلى التصوف والاعتقاد بالأولياء) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج1. ص301].





20ـ الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى:

قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى: (لقد انفرد الصوفية بركن عظيم من أركان الدين، لا يطاولهم فيه مطاول، وهو التهذيب علماً وتخلقاً وتحققاً، ثم لما دونت العلوم في الملة، كتب شيوخ هذه الطائفة في الأخلاق ومحاسبة النفس..) [مجلة المنار السنة الأولى ص726].





21 - الشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله تعالى:

قال الأستاذ والمؤرخ محمد راغب الطباخ رحمه الله تعالى في كتابه الثقافة الإِسلامية: (فإِذا كان التصوف عبارة عن تزكية النفوس وتصفية الأخلاق، فنعمَ المذهبُ ونعمَ المقصدُ، وذلك هو الغاية من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ففي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: “إِنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق” [رواه البخاري في الأدب المفرد في باب حسن الخلق عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الإِمام أحمد والبيهقي والحاكم في الترجمة النبوية وقال: صحيح على شرط مسلم]. وقد تأملنا سيرة الصوفية في القرون الأولى من الإِسلام، فوجدناها سيرة حسنة جميلة مبنية على مكارم الأخلاق والزهد والورع والعبادة، منطبقة على الكتاب والسنة. وقد صرَّح بذلك سيد هذه الطائفة أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى كما في ترجمته في تاريخ ابن خَلِّكَانْ حيث قال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة.

وفي شرح الإِحياء للعلامة الزبيدي ج1 ص174: وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق، إِلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم. وهي في ترجمته في الرسالة [القشيرية] ص19. وفيها: قال الجنيد: من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة. ثم قال بعد السند عن الجنيد: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة. وقال الجنيد: عِلْمُنا هذا مشيَّد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال سري السقطي: التصوف اسم لثلاثة معان: وهو الذي لا يطفئ نورُ معرفته نورَ ورعه، ولا يتكلم بباطنِ علمٍ ينقضه عليه ظاهرُ الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله تعالى.

وفي شذرات الذهب ج5. ص279 في ترجمة أبي الحسن الشاذلي، ومن كلامه: كل علم تسبق إِليك فيه الخواطر، وتميل النفس وتلتذ به فارم به، وخذ بالكتاب والسنة.

ولغيرهم في هذا الباب عبارات كثيرة، تجدها منثورة في كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف للإِمام الكلاباذي، وفي الرسالة القشيرية وغيرهما..

وهؤلاء فوق ما اتصفوا به من تهذيب النفس والورع والزهد والعبادة، قد قاموا في عصورهم بالواجب عليهم؛ من إِرشاد الخلق إِلى الحق، والدعوة إِليه، وصدّهم الناسَ عن التكالب على الدنيا وجمع حطامها من أي وجه كان، والاسترسال في الشهوات والملذات مما يؤدي إِلى الانهماك في المحرمات والغفلة عن الواجبات وما خُلِق الإِنسان له، وتكون نتيجة ذلك انتشار الفوضى، وظهور الفساد، وكثرة البغي والهرج.

فكان هؤلاء بوعظهم وإِرشادهم، والحِكَمِ والحقائق التي تفجرت من ينابيع قلوبهم، هم حراس الأخلاق، والآخذين بيد الأمة إِلى مناهج الحق وسبل الرشاد، والدعاة إِلى السعادة الحقيقية، وهي قيام الإِنسان بجميع ما أُمر به مع عدم نسيانه نصيبَه من الدنيا، فكانوا في جملة السامعين في هذه الأمة والمجيبين لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ منكُمْ أُمَّةٌ يَدعونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينْهَونَ عنِ المنكرِ وأولئكَ هم المُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

فسلفُ الصوفية هم أعلام الملة وسادة الأمة وسراجها الوهاج ونورها الوضاح، وبهم وبأمثالهم من المحدِّثين والفقهاء اهتدت الأمة إِلى الصراط المستقيم، وسلكت المنهاج القويم، وانتظمت أحوال معاشهم، وصلحت أُمور معادهم، وفازوا فوزاً عظيماً.

وإِذا تتبعنا آثار الصوفية وتراجمهم، نجد أن الكثير منهم قد كان للواحد منهم أتباع يعدون بالألوف، كلما انتسب إِليه شخص آخى بينه وبين سابقيه؛ فتمكنتْ بين أتباعه والمنتسبين إِليه أواصر الأُلفة وروابط المحبة، وتواسوا فيما بينهم، وتواصوا بالحق، وعطف غنيُّهم على فقيرهم، ورحم كبيرُهم صغيرَهم، فأصبحوا بنعمة الله إِخواناً، وصاروا كالجسد الواحد، وكانوا في منتهى الطاعة والانقياد لشيخهم، يقومون لقيامه، ويقعدون لقعوده، ويمتثلون أوامره، ويتبادرون لأدنى إِشاراته.

ومن جليل أعمال الصوفية وآثارهم الحسنة في الأمة الإِسلامية أن الملوك والأمراء متى قصدوا الجهاد، كان الكثير من هؤلاء بإِيعاز، وبغير إِيعاز يُحرِّضون أتباعهم على الخروج إِلى الجهاد. ولعظيم اعتقادهم فيهم، وانقيادهم لهم كانوا يبتدرون إِلى الانتظام في سلك المجاهدين، فيجتمع بذلك عدد عظيم من أطراف ممالكهم، وكثيراً ما كان أولئك يرافقون الجيوش بأنفسهم،ويدافعون ويحرِّضون؛ فيكون ذلك سبباً للظفر والنصر.

وإِذا تَتبَّعْتَ بطون التاريخ وجدْتَ من ذلك شيئاً كثيراً، على أننا لا ننسى أن مثل هذا العمل قد كان في كثير من المحدِّثين والعلماء العاملين.

ومن آثار الصوفية أنه إِذا حصل اختلاف بين الناس في أمور دنياهم وخصوصاً بين إِخوانهم المنسوبين إِليهم، فإِنهم يرجعون إِلى شيخهم، فيفصل بينهم بما أنزل الله، ويعودون وهم راضون، ويستغنون عن الترافع إِلى الحكام لفصل ما بينهم من الخصومات.

وهذا مما شاهدناه بأعيننا، وسمعناه بآذاننا في أوائل هذا القرن من بعض بقاياهم، بل كان بعض الناس يُنذر أخاه بالشكوى إِلى الشيخ إِن لم ينصفه، فيعود هذا إِلى حظيرة الحق خشية أن يبلغ الشيخ عنه شيئاً، وهو يحرص أن تبقى سمعته لديه طيبة وسيرته حسنة) [الثقافة الإِسلامية للمؤرخ الكبير الأستاذ محمد راغب الطباخ ص302 -304 ولد 1293هـ وتوفي 1370هـ في حلب].





22 - أحمد الشرباصي:

قال الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي الكاتب الإِسلامي المعروف والمدرِّس في الأزهر الشريف في مجلة الإِصلاح الاجتماعي تحت عنوان: الأخلاق عند الصوفية، بعد أن تحدث عن التصوف وتعريفه واشتقاقه: (وأنا أعتقد أن حقيقة التصوف الكاملة،هي مرتبة الإِحسان الذي حدده رسول الإِسلام محمد عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل حين قال: “الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك” [رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإِيمان عن عمر رضي الله عنه]. ومن هذا تفهم أن كثيراً من أدعياء التصوف لا ينطبق عليهم ذلك القانون الدقيق العميق، فهم عن حقيقته خارجون.

وأساس التصوف في الواقع هو تربية الذوق. والخُلُق الكريم ليس إِلا ذوقاً سليماً، تتغلب به شخصية الإِنسان على شخصية الحيوان في حياة الناس.

وقد اهتم الصوفية أكبر الاهتمام بالأخلاق، بل لقد جعلوا الأخلاق في مناهجهم،هي العماد والسناد،وهي عمود أمرهم كله، بحيث لو رفعتَ كلمة التصوف، ووضعتَ بدلها كلمة الأخلاق لما فارقتَ الحقيقة، ولما جانبتَ الواقع في قليل أو كثير، لأن العمدة في التصوف على مجاهدة النفس وتطهيرها، وتحليتها بكل جمال وكمال، وهذا جماع مكارم الأخلاق.

ولقد كان من مظاهر اهتمام الصوفية بالجوانب الأخلاقية أنهم تبنَّوْا حركة الفتوة ومبادىء الفروسية، ومزجوا بين مبادئهم ومبادىء الفتيان، حتى تكوَّن من ذلك في تاريخ الفتوة فصل مستقل،اتخذ عنوان فتوة الصوفية. ومن هذا أخذ الصوفية مبدأ الإِيثار،وتقديم الغير على النفس، حتى قال القشيري: أصْلُ الفتوة أن يكون العبد أبداً في أمر غيره. وقال ابن أبي بكر الأهوازي: أصل الفتوة ألا ترى لنفسك فضلاً أبداً.

وأخذوا بمبادىء كفِّ الأذى، وبذلِ الندى، وكفِّ الشكوى، وسترِ البلوى، والعفوِ عن العِدا، والسمِّو إِلى العُلا.

وهم يأخذون بالمبدأ الأخلاقي المحمدي: “طُوبى لِمَنْ شغله عيبُه عن عيوب الناس” [رواه الديلمي في الفردوس عن أنس رضي الله عنه]. ولذلك يقول ابن عطاء الله السكندري، وهو ممن جمع بين عمق التفكير وروعة التعبير: تشوُّفُك إِلى ما بطَنَ فيك من العيوب خيرٌ من تشوفك إِلى ما حُجِبَ عنك من الغيوب.

ومن منهاج الصوفية الأخلاقي عملهم بمختلف الوسائل والأسباب على إِماتة المطامع،لتقوى الشخصية الروحية في نفس الإِنسان. ولذا قال أبو بكر الوراق وهو من أعلام القوم: لو قيل للطمع من أبوك؟ لأجاب: الشك في المقدور. فلو قيل له: فما هي حرفتك؟ لأجاب: اكتساب الذل، فلو قيل له: فما هي غايتك؟ لأجاب: الحرمان. وفي هذا المجال يقول ابن عطاء الله السكندري: ما بَسَقَتْ أغصانُ ذلِّ إِلا على بذر طمع.

وقد قَدِمَ الإِمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه البصرة، فدخل جامعها، فوجد القُصَّاص يقصون على الناس، فأقامهم، حتى إِذا جاء إِلى الحسن البصري، وهو سيد الفتيان عند الصوفية، فقال له علي: يا فتى! إِني سائلك عن أمر؛ فإِن أجبتني أبقيْتُك، وإِلا أقمتك كما أقمت أصحابك - وكان قد رأى عليه سَمْتاً وهدياً - فقال الحسن: سل ما شئت. فقال علي: ما مِلاكُ الدين؟ فقال الحسن: الورع. قال: فما فساد الدين؟ قال: الطمع. قال: اجلس، فمثلك من يتكلم على الناس.

وهمَّ ابن عطاء الله السكندري يوماً بشيء من الطمع، فسمع هاتفاً يقول له: السلامةُ في الدين بترك الطمع في المخلوقين.

وصاحب الطمع لا يشبع أبداً، ألا ترى أن حروفه كلها مجوفة، الطاء والميم والعين؟!. ولما علَّم الصوفيةُ أتباعَهم القناعة والاستغناء فتحوا أمامهم الباب إِلى الأَنفةِ والعزَّةِ، ومن هنا نراهم يتحدثون كثيراً عن استخفافهم بالبغي والبغاة، وعدم اكتراثهم بالطغيان أو الطغاة، وعدم اغترارهم بالجاه أو أصحاب الجاه.

ومن منهاج الصوفية الأخلاقي الدعوة إِلى التضحية والجهاد، والتحريض على استجابة داعي الكفاح والاستشهاد.

ومن منهاجهم الأخلاقي تعليمُ الصبر والمبالغة فيه، وكِدْتُ أقول والإِسراف فيه، فلقد دخل ذو النون على أخ له صوفي مريض، واشتد الداء به فأنَّ أنَّةً، فقال له ذو النون: ليس بصادق في حبه من لم يصبر على ضربه. فقال المريض كالمستدركِ: بل ليس بصادق في حبه من لم يتلذذ بضربه..

ومن منهاجهم الأخلاقي التنشئةُ على المراقبة لله، حتى يرث العبد من وراء هذه المراقبة صلة بالله وقرباً منه. ومن لطائفهم في التربية الأخلاقية، أنهم يطالبون إِخوانهم باليسر والسهولة والمطاوعة في الصداقة، حتى لا تكون هناك كُلفةٌ، وما دام الصوفي قد وثق بأخيه ديناً وخُلُقاً وتصرفاً؛ فلا محل لاعتراضه عليه في شيء. ويتصل بهذا تنفيرُهم من الاغترار بالطاعة، وإِبعادُهم عن اليأس من المغفرة

ومن منهاجهم الأخلاقي تعليمُ الثبات والرزانة وعدم الاستجابة لدواعي الاستخفاف) [مجلة الإِصلاح الاجتماعي ص4].

وقال الأستاذ أحمد الشرباصي أيضاً في تقدمته لكتاب نور التحقيق: (هذا هو التصوف الجليل النبيل، أضاعه أهلهُ، وحافَ عليه أعداؤه الصرحاء، وشوَّه جماله أدعياؤه الخبثاء، وتطاول عليه الزمن، وهو مجهول منكور، أو مذموم محذور، على الرغم من جماله وعظم رجاله الماضين وأبطاله، واتساع اختصاصه ومجاله، وخطورة أقواله وأعماله، فغدا كالدرة الثمينة حجبتها اللفائف السود؛ فظنها الجاهلون سوداء بسواد لفائفها، وهم لو وصلوا إِليها، وجلَوْا عنها ما حاق بها أو حاطها من أستار لانبهرتْ أعينهم من ساطع الضياء وفريد البهاء.

لهفي على التصوف الحق الناطق بنقائه وصفائه، أين الذين يُطلِعون الحيارى من أبناء الكون على ما فيه من أخبار وأسرار؟! أين الذين يصرخون بين القطعان الضالة من البشر، ليقولوا لها: إِن التصوف جزء من الإِسلام وجانب من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن التصوف مظلوم، فقد أضيف إِليه كثير مما ليس منه عن حسن نية أو سوء قصد، وقد كتم أدعياؤه كثيراً من أموره، وقد تطاول عليه بالتحريف قوٌم نَكِلُ حسابهم إِلى الله، وقد تسرع بالسخرية منه مَنْ لم يطرقوا بابه، ولم يذوقوا شرابه، ولم يطالعوا كتابه.. ولم يجد التصوف الكريم الذي أضاعه الناس مع هذه العوامل الهدامة كلها من يأخذ بناصره، أو يجلو الغياهبَ عن مآثره، أو يعرض على الشانئين أو الخاطئين سلاسل مفاخره. وقد علمتْنَا الدراسات والتجارب أن الحق إِذا لم يجد أهلاً، ولم يفز بمؤيد أو مستجيب انطوى وتوارى، حتى يهيء الله له بعد قليل أو طويل من يُذكِّر به أو يدعو إِليه، أو يحمل الناس رغبة أو رهبة عليه، فإِذا هو بعد انطوائه السيد المطاع.

أرأيت إِلى كنز وسيع عجيب، فيه المال الغزير الذي لا يحصى، وفيه أدوية الجسم الشافية التي لاتخون، وفيه علاج النفس الذي يهدي، وفيه نور القلب الذي لا يخبو.. ماذا يكون من شأنك لو أن إِنساناً أخبرك بوجود هذا الكنز في مكان ما، ورسم لك الطريق إِليه، وذكر لك ما تحتاجه الرحلةُ نحوه من مجهود وتكاليف؟.. ألا تحاول أن تبذل جهدك وتستنفذ طاقتك، وتعمل وسعك حتى تصل إِلى هذا الكنز الذي ستجد عنده جاه الدنيا وعز الآخرة؟..

كذلك شأن التصوف يا صاح، إِنه الدواء المخفي والكنز المطوي والسر العلمي، إِنه الدواء الذي يحتاج إِليه جسمك وفهمك وخلقك، ولكنك لن تصل إِليه ولن تنتفع به حتى تتجه بمشاعرك نحوه، وحتى تُقبل ببصرك وبصيرتك عليه، وحتى تبذل من ذات يدك، وذات نفسك ومن وقتك وبحثك ما يهيء لك البلوغ إِليه والوقوف عليه، فهل فعلت من ذلك شيئاً وقد عرفت الطريق إِلى النعيم؟.

إِنه لا يعنيني أبداً أن تكون صوفياً أوْ لا تكون، ولا يهمني كثيراً أن تكون من أعداء الصوفية أو من أوليائهم، ولكن يهمني أولاً وقبل كل شيء أن تكون على بصيرة من أمرك، وأن لا تجهل شيئاً جليلاً يطالبك دينُك وعقْلُك بأن تعرفه، ومن هنا يتحتم عليك أن تدرس التصوف لتتصوره وتفهمه وتفقهه، وبعد ذلك تحكم له أو عليه، وأزيدك بياناً فأقول لك: إِنه قد يكون في التصوف وتاريخه وسير رجاله ما أضيف إِليه أو افتراه المفترون عليه، ومن هنا يستتر حق وراء باطل، ومن هنا أيضاً يطالبك دينك بأن تقوم لتهتك حجاب الباطل، وتستضيء بنور الحق.. فهلاَّ يكفي ذلك لتحريضك على دراسة التصوف؟.

وكم أودُّ في النهاية أن تقوم حركةٌ علمية واسعة بيننا، تدور حول دراسة التصوف ونشر أسفاره، وتمحيص أُموره وموضوعاته، بل وبسط ما يُلحق به من شطحات نابية وخرافات منكرة ودسائس خبيثة، حتى نعرف الباطل ونتبين جذوره، ثم نَكُرَّ عليه بالحجة الدامغة، فإِذا الباطل زاهق، وإِذا الحق سيد مطاع.

يا أبناءَ الإِسلام! إِنَّ التصوف يحتل من أخلاقكم وتاريخكم جانباً كبيراً، وقد ضيعتموه أزماناً طوالاً، فحسْبُكم ما كان، وأقبلوا على التصوف ففيه غذاء ودواء، والله الهادي إِلى سبيل السواء) [تصدير كتاب نور التحقيق للشيخ حامد إِبراهيم محمد صقر ص1 -3].





23 - أبو الحسن الندوي:

يقول أبو الحسن علي الحسني الندوي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ومعتمد ندوة العلماء بالهند في بحث الصوفية في الهند وتأثيرهم في المجتمع، من كتابه المسلمون في الهند: (إِن هؤلاء الصوفية كانوا يبايعون الناس على التوحيد والإِخلاص واتباع السنة، والتوبة عن المعاصي وطاعة الله ورسوله، ويحذِّرون من الفحشاء والمنكر والأخلاق السيئة والظلم والقسوة ويرغِّبونهم في التحلي بالأخلاق الحسنة، والتخلي عن الرذائل مثل الكبر والحسد والبغضاء والظلم وحب الجاه، وتزكية النفس وإِصلاحها، ويعلمونهم ذكر الله والنصح لعباده والقناعة والإِيثار، وعلاوة على هذه البيعة التي كانت رمز الصلة العميقة الخاصة بين الشيخ ومريديه إِنهم كانوا يعِظون الناس دائماً، ويحاولون أن يُلْهِبوا فيهم عاطفة الحب لله سبحانه، والحنين إِلى رضاه، ورغبة شديدة لإِصلاح النفس وتغيير الحال..

ثم تحدث عن مدى تأثير أخلاقهم وإِخلاصهم وتعليمهم وتربيتهم، ومجالسهم في المجتمع والحياة، وضرب بعض الأمثلة التي تُلقي الضوء على هذا الواقع التاريخي فتحدث عن الشيخ أحمد الشهيد رحمه الله تعالى فقال: إِن الناس أقبلوا عليه إِقبالاً منقطع النظير، وإِنه لم يمر ببلدة إِلا وتاب عليه، وبايعه عدد كبير من الناس، وإِنه أقام في كَلْكُتَّا شهرين، ويقدر أن الذين كانوا يدخلون في البيعة لا يقل عددهم عن ألف نسمة يومياً، وتستمر البيعة إِلى نصف الليل، وكان من شدة الزحام لا يتمكن من مبايعتهم واحداً واحداً فكان يمد سبعة أو ثمانية من العمائم، والناس يمسكونها ويتوبون ويعاهدون الله، وكان هذا دأبه كل يوم سبع عشرة أو ثماني عشرة مرة..

وتحدَّث عن شيخ الإِسلام علاء الدين رحمه الله تعالى فقال: إِن السنوات الأخيرة من عهده، تمتاز بأن كسدَتْ فيها سوقُ المنكرات من الخمر والغرام، والفسق والفجور، والميسر والفحشاء بجميع أنواعها، ولم تنطق الألسن بهذه الكلمات إِلا قليلاً، وأصبحت الكبائر تشبه الكفر في أعين الناس، وظلَّ الناس يستحيون من التعامل بالربا والادخار والاكتناز علناً، وندرتْ في السوق حوادثُ الكذب والتطفيف والغش.. ثم قال: إِن تربية هؤلاء الصوفية والمشايخ ومجالسهم كانت تنشىء في الإِنسان رغبة في إِفادة الناس وحرصاً على خدمتهم ومساعدتهم..

ثم بيَّن الأستاذ الندوي أنَّ تأثير هذه المواعظ، ودخول الناس في الدين، وانقيادهم للشرع أدى إِلى أن تعطلت تجارة الخمر في كَلْكُتَّا وهي كبرى مدن الهند ومركز الإِنجليز، وكسدت سوقُها، وأقْفرت الحانات، واعتذر الخمارون عن دفع الضرائب للحكومة، متعلِّلين بكساد السوق، وتعطلِ تجارة الخمر.. ثم قال: إِن هذه الحالة كانت نتيجة أخلاق هؤلاء المصلحين والدعاة والصوفية والمشايخ وروحانيتهم، أن اهتدى بهم في هذه البلاد الواسعة عدد هائل من الناس، وتابوا عن المعاصي والمنكرات واتباع الهوى. لم يكن بوسع حكومة أو مؤسسة أو قانون أن يؤثر في هذه المجموعة البشرية الضخمة ويحيطها بسياج من الأخلاق والمبادىء الشريفة لزمنٍ طويل..

وفي ختام البحث قال الأستاذ الندوي حفظه الله تعالى: لقد كانت هناك بجهود هؤلاء الصوفية أشجار كثيرة وارفة الظلال في مئات من بلاد الهند، استراحت في ظلها القوافل التائهة والمسافرون المُتْعَبون، ورجعوا بنشاط جديد وحياة جديدة) [المسلمون في الهند ص140ـ146 للعلامة الكبير أبي الحسن الندوي].

وتحدث الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه رجال الفكر والدعوة في الإِسلام عن الصوفية وأثرها في نشر الإِسلام بصدد حديثه عن الصوفي الشهير والمرشد الكبير سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه، فقال: (وكان يحضر مجلسه نحو من سبعين ألفاً، وأسلم على يديه أكثر من خمسة آلاف من اليهود والنصارى، وتاب على يديه من العيارين والمسالحة [المسالح: الجماعة أو القوم ذووا السلاح] أكثر من مائة ألف، وفتح باب البيعة والتوبة على مصراعيه، فدخل فيه خلق لا يحصيهم إِلا الله، وصلحت أحوالهم، وحسن إِسلامهم، وظلَّ الشيخ يربيهم ويحاسبهم، ويشرف عليهم وعلى تقدمهم. وأصبح هؤلاء التلاميذ الروحانيون يشعرون بالمسؤولية بعد البيعة والتوبة وتجديد الإِيمان، ثم يجيز الشيخ كثيراً منهم ممن يرى فيه النبوغ والاستقامة والمقدرة على التربية، فينتشرون في الآفاق يدعون الخلق إِلى الله، ويربون النفوس، ويحاربون الشرك والبدع والجاهلية والنفاق، فتنتشر الدعوة الدينية وتقوم ثكنات الإِيمان ومدارس الإِحسان، ومرابط الجهاد ومجامع الأخوة في أنحاء العالم الإِسلامي.

وقد كان لخلفائه وتلاميذه، ولمَنْ سار سيرتهم في الدعوة وتهذيب النفوس من أعلام الدعوة وأئمة التربية في القرون التي تلَتْه فضل كبير في المحافظة على روح الإِسلام وشعلة الإِيمان، وحماسة الدعوة والجهاد وقوة التمرد على الشهوات والسلطات. ولولاهم لابتلعت الماديةُ التي كانت تسير في رحاب الحكومات والمدنيات هذه الأمة، وانطفأتْ شرارة الحياة والحب في صدور أفرادها. وقد كان لهؤلاء فضل كبير لنشر الإِسلام في الأمصار البعيدة التي لم تغزها جيوش المسلمين، أو لم تستطع إِخضاعها للحكم الإِسلامي وانتشر بهم الإِسلام في أفريقيا السوداء وفي أندونيسيا وجزر المحيط الهندي وفي الصين وفي الهند) [رجال الفكر والدعوة في الإِسلام لأبي الحسن الندوي ص248 -250].

وتحدث الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه روائع إِقبال عن زيارته للشاعر بعد أن ذكر إِقبالٌ التصوفَ ورجاله والتجديد الإِسلامي في الهند بواسطتهم، وبعد أن أثنى على الشيخ أحمد السرهندي والشيخ ولي الله الدهلوي والسلطان محي الدين أورنك زيب رحمهم الله تعالى، قال: إِنني أقول دائماً: لولا وجودُهم وجهادهم لابتلعت الهندُ وحضارتُها وفلسفتُها الإِسلامَ) [روائع إِقبال للأستاذ أبي الحسن الندوي ص7].





24 - أبو الأعلى المودودي:

قال العلامة الكبير الأستاذ أبو الأعلى المَوْدودي في كتابه مبادىء الإِسلام تحت عنوان التصوف: (إِن علاقة الفقه إِنما هي بظاهر عمل الإِنسان فقط، ولا ينظر إِلا هل قمتَ بما أُمرِتَ به على الوجه المطلوب، أم لا؟ فإِن قمتَ فلا تهمه حالُ قلبك وكيفيته. أما الشيء الذي يتعلق بالقلب ويبحث عن كيفيته فهو التصوف، إِن الفقه لا ينظر في صلاتك مثلاً إِلا هل قد أتممْتَ وضوءك على الوجه الصحيح أم لا؟ وهل صلَّيْتَ مولياً وجهك شطر المسجد الحرام أم لا؟ وهل أدَّيْتَ أركان الصلاة كلها، أم لا؟ وهل قرأتَ في صلاتك بكل ما يجب أن تقرأ فيها أمْ لا؟ فإِن قمتَ بكل ذلك فقد صحت صلاتك بحكم الفقه.

إِلاَّ أن الذي يهم التصوف هو ما يكون عليه قلبك حين أدائك هذه الصلاة من الحالة. هل أَنبْتَ فيها إِلى ربك أم لا؟ وهل تجرَّد قَلبُك فيها عن هموم الدنيا وشؤونها أم لا؟ وهل أنشأتْ فيك هذه الصلاة خشيةَ الله واليقين بكونه خبيراً بصيراً، وعاطفة، ابتغاء وجهه الأعلى وحده أمْ لا؟ وإِلى أيِّ حدٌّ نزهت هذه الصلاة روحه؟ وإِلى أي حد أصلحتْ أخلاقه؟ وإِلى أي حد جعلته مؤمناً صادقاً عاملاً بمقتضيات إِيمانه؟. فعلى قدر ما تحصل له هذه الأمور، وهي من غايات الصلاة وأغراضها الحقيقية، في صلاته تكون صلاته كاملة في نظر التصوف، وعلى قدر ما ينقصها الكمال من هذه الوجهة، تكون ناقصة في نظر التصوف.

فهكذا لا يهم الفقه في سائر الأحكام الشرعية إِلا هل أدى المرء الأعمال على الوجه الذي أمره به لأدائها أم لا؟ أما التصوف فيبحث عما كان في قلبه من الإِخلاص وصفاء النية وصدق الطاعة عند قيامه بهذه الأعمال.

ويمكنك أن تُدرك هذا الفرق بين الفقه والتصوف بمثلٍ أضْربه لك: إِنك إِذا أتاك رجل، نظرت فيه من وجهتين: إِحداهما: هل هو صحيح البدن كامل الأعضاء؟ أم في بدنه شيء من العرج أو العمى؟ وهل هو جميل الوجه أو دميمه؟ وهل هو لابس زياً فاخراً أو ثياباً بالية؟

والوجهة الأخرى: إِنك تريد أن تعرف أخلاقه وعاداته وخصاله ومبلغه من العلم والعقل والصلاح. فالوجهة الأولى وجهة الفقه، والوجهة الثانية وجهة التصوف.

وكذلك إِذا أردْتَ أن تتخذ أحداً صديقاً لك، فإِنك تتأمل في شخصه من كلا الوجهتين، وتحب أن يكون جميل المنظر وجميل الباطن معاً.

كذلك لا تَجْمُلُ في عين الإِسلام إِلا الحياة التي فيها اتباعٌ كامل صحيح لأحكام الشريعة من الوجهتين الظاهرة والباطنة.

ومثل الذي طاعته صحيحة في الظاهر، ولكن يعوزه روح الطاعة الحقيقية في الباطن، كمثل جسد جميل قد فارقه روحُه.

ومثل الذي في عمله الكمالات الباطنة كلها، وليست طاعته صحيحة على حسب الوجه المراد في الظاهر، كمثل رجل صالح دميم الوجه مطموس العينين أعرج القدمين. وسهل عليك بهذا المثال أن تعرف العلاقة بين الفقه والتصوف.

ثم تحدث الأستاذ المودودي عن الدخلاء الذين تشبهوا بالصوفية بلباسهم وكلامهم، وباينوهم بأفعالهم وأخلاقهم وقلوبهم، والتصوف منهم براء. وهكذا شأن كل منصفٍ غيور على دينه. ثم حذر الأستاذ المودودي من هؤلاء المدَّعين فقال: (ولا يستحق من لا يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً صحيحاً، ولا يتقيد بما أرشد إِليه من صراط الحق، أن يُسميَ نفسه صوفياً إِسلامياً، فإِن مثل هذا التصوف ليس من الإِسلام في شيء أبداً.. ثم بين حقيقة الصوفي الصادق وحالته المثالية التي تطابق تعاليم التصوف السامية فقال: إِنما التصوف عبارة - في حقيقة الأمر - عن حب الله ورسوله الصادق بل الولوع بهما والتفاني في سبيلهما، والذي يقتضيه هذا الولوع والتفاني ألاّ ينحرف المسلم قيد شعرة عن اتباع أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فليس التصوف الإِسلامي الخالص بشيء مستقل عن الشريعة، وإِنما هو القيام بأحكامها بغاية من الإِخلاص، وصفاء النية وطهارة القلب) [مبادىء الإِسلام لأبي الأعلى المودودي، موضوع التصوف. ص114 -117].





25 - صبري عابدين:

قال الأستاذ صبري عابدين في حديثه في ندوةِ لواء الإِسلام في موضوع الصوفية وعلاقتها بالدين: (شهدْتُ بنفسي كيف حال الصوفية في السودان وأريتريا والحبشة والصومال. إِن السلطة الصوفية للسيد الميرغني لها اعتبارها، وبصورة خاصة ولاية القاضي في أريتريا لا توليها الحكومة، إِنما هو يولي القاضي والخطيب والمؤذن، وله حق الولاية الدينية بصفته رئيس الطريقة الصوفية.

والواقع أن الصوفية ينشرون الإِسلام في العالم، وأذكر لكم أنه منذ خمسين عاماً، كتب الشيخ البكري كتاباً ذكر فيه نقلاً عن المبشرين يقول: إِن هؤلاء يقولون: ما ذهبنا إِلى أقاصي المناطق البعيدة عن الحضارة والمدنية في أفريقيا وأقاصي آسيا إِلا وجدنا الصوفيَّ يسبقنا إِليها، وينتصر علينا.

ليتَ المسلمين يفهمون مافي الصوفية من قوة روحية ومادية، فجنودهم مجندون للإِسلام. رأيتُ على حدود الحبشة والسودان وأريتريا بعثة سويدية للتبشير، ووجدْتُ إِلى جانبهم أكواخاً أقامها الصوفيون، وأفسدوا على المبشرين السويديّين إِقامتهم أربعين سنة. ولذلك أرجو أن نتعاون لإِخماد هذه الحركات التي تؤذينا، دينياً وسياسياً، وإِن الذين يحملون على الصوفية ليسوا فوق مستوى الشبهات، بل هم غارقون في الشبهات.. إِلى أن قال: أكبرُ المصائب التي أصابت المسلمين أنهم لم يأخذوا بالإِسلام كله، أما الصوفية فقد ألزموا أنفسهم أن يأخذوا بالإِسلام كله، بل زادوا عليه. إِنهم ألزموا أنفسهم ألاَّ يأخذوا بالرخص بل بالعزائم، مع أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه. لماذا؟ لأن مذهبهم يقوم على الزهد بالمعنى الذي يفهمه العلم، وأزيد على ذلك أن أساس الزهد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم زاهداً في هذه الحياة ولذائذها. عاش الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقل إِلى الرفيق الأعلى ولم يأكل رغيفاً مرقَّقَاً، ولا أكل على خوان.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى للخلفاء الراشدين ولِمَنْ تبعه وللمسلمين كافة. والصوفية قد ألزموا أنفسهم، كما نصوا على ذلك في كتبهم، على أنْ لا يكون بينهم صوفياً إِلا من استمسك بالكتاب والسنة، ووضعوا لذلك أُصولاً في كتبهم: الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري وإِحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، وكتاب قواعد التصوف لأحمد زروق.

وإِنا نقول: إِن الذين يبحثون في بعض العلوم وينتقدونها، وينكرونها وهم لم يطلعوا عليها، مثلهم مثل رجل لا يفهم في الطب شيئاً فينكر الطب، وكالإِسكافي الذي ينكر الهندسة.

وفي مصر هنا، في الوقت الذي جاءت جيوش الصليبية إِلى دمياط، كان للصوفية أمثال أبي الحسن الشاذلي وعز الدين بن عبد السلام، وأبي الفتح ابن دقيق العيد، وآخرين من العلماء خدمة جليلة في مقاومة الصليبيين) [مجلة لواء الإِسلام - العدد العاشر - السنة التاسعة 1375هـ - 1956م ندوة لواء الإِسلام: الصوفية وعلاقتها بالدين ص645 -647].





26 - محمد أبو زهرة:

قال الأستاذ العلامة محمد أبو زهرة في حديثه عن التصوف في ندوة لواء الإِسلام: (إِن التصوف في ظاهره يتضمن ثلاث حقائق:

الحقيقة الأولى: محاربة الهوى والشهوة، والسيطرةُ على النفس. وكان المتصوفة يأخذون بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِذ يقول: أيها الناس اقْدَعوا [اقدعوا: من قدع بمعنى: منع وكف، وقدع فرسه كبحه، كذا في القاموس] هذه النفوس عن شهواتها، فإِنها مريئة وبيئة. أي إِن الإِنسان يستمرؤها، ولكن عاقبتها وخيمة.

والحقيقة الثانية التي تتضمنها ظاهرة التصوف هي: الاتصال الروحي ومخاطبة الوجدان والنفس.

والحقيقة الثالثة: أن التصوف يقتضي في وقائعه التي نراها تابعاً ومتبوعاً، شيخاً ومريداً، يقتضي موجهاً وشخصاً يوجَّه، يقتضي استهواءً نفسياً وتوجيهاً نفسياً.

وهذه الظواهر، بصرف النظر عن أن الإِسلام قررها نظاماً، أولم يقررها. هذه الوقائع الثابتة، هل يمكن أن تتخذ سبيلاً للإِصلاح، أو أنها ضرر محض؟

أما أنها ضرر محض، فما أظن أحداً يوافق على ذلك، لأن التصوف حقيقة واقعة ككل الأشياء، يقبل أن يكون ضاراً ويقبل أن يكون نافعاً، يقبل أن يكون ممدوحاً، ويقبل أن يكون مذموماً. وحسبنا أن نقول: إِن الصلاة ذاتها مُدحتْ وذُمتْ، فقال الله تعالى: {فويلٌ للمُصلِّينَ . الذينَ هُمْ عَنْ صلاتِهم ساهونَ} [الماعون: 4 -5]. وقال سبحانه في وصف المؤمنين: {الذين يقيمون الصلاةَ ويؤتُونَ الزكاةَ وهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ يوقنونَ} [لقمان: 4]. وكذلك التصوف التصوف - كما قال الأُستاذ فودة - في عصورنا المتأخرة كان له مزايا، وكانت له آثار واضحة، فالمسلمون في غرب أفريقيا وفي وسطها وفي جنوبها كان إِيمانهم ثمرةً من ثمرات التصوف.

والإِمام السنوسي الكبير عندما أراد أن يصلح بين المسلمين، اتجه أول ما اتجه إِلى أن نهج منهاجاً صوفياً، وكان منهاجه في ذاته عجيباً غريباً، فإِنه اتخذ المريدين، ثم أراد أن يجعل من هؤلاء المريدين رجال أعمال كأحسن ما يكون رجال الأعمال، ولذلك أنشأ الزوايا. وأولُ زاوية أنشأها في جبل حول مكة، ثم انتقل بزواياه في الصحراء، وهذه الزوايا كانت واحات عامرة في وسط الصحراء، وبعمل رجالهم وقواتهم وتوجيههم، استنبط الماء وجعل فيها زرعاً وغراساً وثماراً، ووجَّههم وعلَّمهم الحرب والرماية حتى أقضُّوا مضاجع الإِيطاليين أكثر من عشرين سنة، عندما عجزت الدولة العثمانية عن أن تعين أهل ليبيا. واستمرت المقاومة السنوسية بهذه الزوايا، إِلى أن أذلَّ الله الدولة الإِيطالية، وإِذا السنوسية تحيا من جديد، وكنا نودُّ أن تحيا كما ابتدأت طريقة صوفية عاملة قوية

لا أودُّ أن أتعرض لنشأة التصوف في الإِسلام وقبل الإِسلام، ولكني لا أستطيع أن أقول إِن عمر بن الخطاب لم يكن متصوفاً، وهو الذي قال فيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: “لو كان في هذه الأُمة محدَّثون لكان عمر بن الخطاب” [“إِن من أمتي محدثين ومكلمين وإِن عمر منهم” أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج مسلم في صحيحه: “لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإِن يك في أمتي أحد فإِنه عمر” من حديث عائشة رضي الله عنها في كتاب فضائل الصحابة]. والذي كان يعتقد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان من أقرب أصحابه إِلى الله، حتى إِنه عندما كان ذهب إِلى العمرة وجَّهَ إِليه القول، وقال له: “لا تنسنا من دُعائك يا أخي” [رواه أبو داود في باب الدعاء عن عمر رضي الله عنه، والترمذي في كتاب الدعوات وقال: حديث حسن صحيح، ولفظه: “أي أُخيَّ أشرِكنا في دعائك ولا تنسنا”].

ولا أستطيع أن أقول: إِن أبا بكر الصديق الذي كان يركب الصعب من الأمور ضابطاً نفسه، والذي أُثر عنه أنه قال كلاماً نسب إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفت الرواية في قائله: “رجعنا من الجهاد الأصغر [وهو القتال] إِلى الجهاد الأكبر [وهو مجاهدة النفس] [بل هو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الديلمي عن جابر رضي الله عنه. راجع كشف الخفاء للعجلوني ج1. ص424]”. وأبو بكر الذي يقول: فِرَّ من الشرف يتبعْك الشرف.

وقد كان وما زال هناك موجهون وشيوخ لهم مريدون ولهم أتباع وهؤلاء هم الذين نرجو أن يعود التصوف على أيديهم كما ابتدأ.



هل نحن الآن في حاجة إِلى التصوف المصلح المثمر؟



أقول: إِذا كان الماضون لم يكونوا في حاجة إِليه، بل كان المتصوف يعمل لله ولنفسه ولمريديه، فنحن في عصرنا هذا أشد الناس حاجة إِلى متصوف يعمل بنظام التصوف الحقيقي، وذلك لأن شبابَنا قد استهوته الأهواء، وسيطرت على قلبه؛ فأصبحت دور السينما أشد المغريات وأشد الوسائل جلباً لها، والمجلات الفارغة، والإِذاعة اللاهية اللاعبة، أصبح كلُّ هذا يستهويه، وإِذا سيطرت الأهواء والشهوات على جيل من الأجيال أصبحت خُطبُ الخطباء لا تُجدي، وكتابة الكتَّاب لا تُجدي، ومواعظُ الوعاظ لا تجدي، وحِكم العلماء لا تجدي، وأصبحت كل وسائل الهداية لا تجدي شيئاً. وحسبك أن ترى المجلات الدينية توزع بأقل من نصف العشر أو ربع العشر مما توزعه المجلات اللاهية العابثة.

إِذن لا بد لنا من طريق آخر للإِصلاح، هذا الطريق أنْ نتجه إِلى الاستيلاء على نفوس الشباب، وهذا الاستيلاء يكون بطريق الشيخ ومريديه، بحيث يكون في كل قرية، وفي كل حيٌّ من أحياء المدن، وفي كل بيئة علمية أو اجتماعية أو سياسية، رجال يقفون موقف الشيخ الصوفي من مريديه.

إِن العلاقة بين المريد والشيخ، وبين مراتب هذا المريد هي التي يمكن أن تهذب وأن توجه. يقول الشاطبي في كتابه الموافقات: إِنَّ بين المعلم والمتعلم روحانية تجعله ينطبع بفكره، وينطبع بكل ما يلقنه من معلومات. نحن في حاجة إِلى هؤلاء الذين يستهوون الشباب ليصرفوهم عن هذا الهوى الماجن، وليوجهوهم.



كان هنا منذ بضع سنين أو عشر سنين رجلٌ اتجه إِلى الشباب، وحاول أن يتخذ معهم في إِصلاحهم ما يتخذه الصوفي مع المريدين، وقد نجح إِلى حد كبير، ولولا اشتغاله بالسياسة ما فسد أمره قط.

ولذلك أُوجبُ أن نتجه إِلى الصوفية كعلاج أخير لوقاية الشباب من الفساد، ولا أعتقد أن هناك علاجاً أجدى منها).

وخلاصة الحديث عن التصوف في ندوة لواء الإِسلام: أن التصوف كأمر واقع، كان فيه خير، وخالطه بعض الشر، وإِذا خلص من شره، واتجه إِلى المعاني الروحية، كان سبيل إِصلاح للمجتمع الإِسلامي. وإِن الشباب المسلم وقع تحت استهواءات مختلفة تؤدي إِلى الانحراف، ولا سبيل إِلى رده إِلى الاستقامة الإِسلامية إِلا باستهواء يكون كاستهواء الشيخ الصوفي لمريديه، وحينئذٍ تعمل الصوفية أفضل الأعمال لإِصلاح الشباب [مجلة لواء الإِسلام، العدد الثاني عشر، شعبان 1379هـ الموافق 1960م ندوة لواء الإِسلام، التصوف في الإِسلام. ص758 و766].



عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:29 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
الباب السابع



شيخنا محمَّد الهاشمي رحمه الله تعالى





هذا ويسعدني في نهاية هذا البحث أن أنوه بفضل شيخنا المربي الكبير، والعارف بالله، المرشد سيدي محمد الهاشمي رحمه الله تعالى في نقله هذه المعاني الروحية، والحقائق الربانية التي تكلمنا عنها إِلى هذا البلد الكريم، وتجسيدها في صورة واقعية، تُحدِّثُنا عنها أرواح مريديه وتلامذته، وتُشهِدنا إِياها حياتُهم الذاخرة بذكر الله وحق عبادته، كما شهد له بذلك معاصروه من أكابر السادة العلماء. لذا أختم كتابي بطيِّبِ ذكراه، وسرد نبذٍ عن حياته الطيبة.



ولادته:

ولد سماحة الأستاذ المرشد الكبير سيدي محمد بن الهاشمي قدس الله روحه من أبوين صالحين، كلاهما من آل بيت النبوة، يرجع نسبهما إِلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، يوم السبت 22 شوال 1298هـ في مدينة سبدة التابعة لمدينة تلمسان، وهي من أشهر المدن الجزائرية. وكان والده من علمائها وقاضياً فيها، فلما توفي ترك أولاداً صغاراً، والشيخ أكبرهم سناً.

بقي الشيخ مدة من الزمن ملازماً للعلماء، قد انتظم في سلكهم جاداً في الازدياد من العلم، ثم هاجر مع شيخه محمد بن يَلِّس إِلى بلاد الشام فاراً من ظلم الاستعمار الإِفرنسي، الذي منع الشعب الجزائري من حضور حلقات العلماء وتوجيههم. وكانت هجرتهما في 20 رمضان سنة 1329هـ عن طريق طنجة ومرسيليا، متوجهين إِلى بلاد الشام. فمكثا في دمشق أياماً قلائل، وعمِلَتْ الحكومة التركية آنذاك على تفريق جميع المغاربة الجزائريين، وكان نصيبه رحمه الله تعالى أن ذهب إِلى تركيا وأقام في أضنة، وبقي شيخه ابن يَلِّس في دمشق. وعاد بعد سنتين إِلى دمشق؛ فالتقى بشيخه ابن يَلِّس وَصَحبه ولازَمه.

وفي بلاد الشام تابع أخذ العلم عن أكابر علمائها. ومن أشهرهم المحدِّث الكبير بدر الدين الحَسَني، والشيخ أمين سويد، والشيخ جعفر الكتاني، والشيخ نجيب كيوان، والشيخ توفيق الأيوبي، والشيخ محمود العطار وأخذ عنه علم أُصول الفقه، والشيخ محمد بن يوسف المعروف بالكافي وأخذ عنه الفقه المالكي، وقد أجازه أشياخه بالعلوم العقلية والنقلية.

أما من ناحية التصوف فقد أذن له شيخه محمدبن يَلِّس بالورد العام لما رأى من تفوقه على تلامذته، من حيث العلمُ والمعرفةُ والنصحُ لهم وخدمتُهم. ولما قدم المرشد الكبير أحمد بن مصطفى العلوي من الجزائر لأداء فريضة الحج؛ نزل في دمشق بعد وفاة سيدي محمد بن يَلِّس سنة 1350هـ، وأذن له بالورد الخاص [تلقين الاسم الأعظم] والإِرشاد العام.



أخلاقه وسيرته:

كان رحمه الله تعالى متخلقاً بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، متابعاً له في جميع أقواله وأحواله وأخلاقه وأفعاله، فقد نال الوراثة الكاملة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكان متواضعاً حتى اشتهر بذلك ولم يسبقه أحد من رجال عصره في تواضعه.

وكان يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه. دخل عليه رجل فقبَّل يد الشيخ رحمه الله تعالى؛ وأراد الشيخ أن يقبل يده، فامتنع الرجل عن ذلك وقال: أستغفرُ الله يا سيدي أنا لست أهلاً لذلك، أنا أَقبل رجلكم. فقال الشيخ رحمه الله تعالى: إِذا قَبَّلت رِجْلَنَا فنحن نقبل رجلَكم.

وكان يحب أن يخدم إِخوانه بنفسه، فيأتي الزائر، ويأتي التلميذ فيبيت عنده فيقدِّم له الطعام، ويحمل له الفراش مع ضعف جسمه. وكم جئناه في منتصف الليل، وطرقنا بابه، فيفتح الباب وهو بثيابه التي يقابل بها الناس، كأنه جندي مستعد. فما رأيناه في ثوب نوم أبداً.

وكان حليماً لا يغضب إِلا لله. حَدَث أن جاءه رجل من دمشق إِلى بيته وأخذ يتهجم عليه، ويتهكم به، ويتكلم بكلمات يقشعر لها جلد المسلم؛ ولكن الشيخ رضي الله عنه لم يزد على قوله له: الله يجزيك الخير، إِنك تُبين عيوبنا، وسوف نترك ذلك ونتحلى بالأخلاق الفاضلة. وما أن طال المقام بالرجل إِلا وأقبل على الشيخ، يقبل قدميه ويديه، ويطلب منه المعذرة.

وكان كريماً لا يرد سائلاً. وكم رأينا أشخاصاً يأتون إِليه فيعطيهم ويكرمهم، ولاسيما في مواسم الخير؛ حيث يأتي الناس لبيته، وترى موائد الطعام يأتيها الناس أفواجاً أفواجاً يأكلون منها، ولا تزال ابتسامته في وجهه، وقد بلغ من كرمه أنه بنى داره التي في حي المهاجرين بدمشق قسمين: قسم لأهله، وقسم لتلاميذه ومريديه.

وكان من صفاته رضي الله عنه واسع الصدر وتحمل المشقة والتوجيه، وشدة الصبر مع بشاشة الوجه؛ حتى إِني استغربت مرة صبره فقال لي: يا سيدي! مشربُنَا هذا جمالي. وكان يأتي إِليه الرجل العاصي فلا يرى إِلا البشاشة من وجهه وسعة الصدر، وكم تاب على يديه عصاة منحرفون، فانقلبوا بفضل صحبته مؤمنين عارفين بالله تعالى.

حَدَث أنه كان سائراً في الطريق بعد انتهاء الدرس، فمر به سكران؛ فما كان من الشيخ رحمه الله تعالى إِلا أن أزال الغبار عن وجهه، ودعا له ونصحه، وفي اليوم الثاني كان ذلك السكران أول رجل يحضر درس الشيخ، وتاب بعد ذلك وحسنتْ توبته.

وكان رحمه الله تعالى يهتم بأحوال المسلمين ويتألم لما يصيبهم، وكان يحضر جمعية العلماء التي تقام في الجامع الأموي، يبحث في أمور المسلمين ويحذِّر من تفرقتهم، وقد طبع رسالة تبين سبب التفرقة وضررها، وفائدة الاجتماع على الله والاعتصام بحبل الله سماها: القول الفصل القويم في بيان المراد من وصية الحكيم.

وكان رحمه الله تعالى يكره الاستعمار بكل أساليبه، ويبحث في توجيهه عن مدى صلة الحوادث مع الاستعمار وكيفية الخلاص من ذلك. ولما نَدبتْ الحكومة الشعب إِلى التدرُّب على الرماية، ونظَّمت المقاومة الشعبية، سارع الشيخ لتسجيل اسمه بالمقاومة الشعبية، فكان يتدرب على أنواع الأسلحة مع ضعف جسمه ونحوله وكبر سنه. وبهذا ضرب للشعب المثل الأعلى لقوة الإِيمان والعقيدة والجهاد في سبيل الله، وذكَّرنا بِمَنْ قبله من المرشدين الكُمَّل الذين جاهدوا الاستعمار وحاربوه؛ أمثال عمر المختار والسنوسي وعبد القادر الجزائري. وما المجاهدون الذين قاموا في المغرب، لإِخراج الاستعمار وأذنابهم إِلا الصوفية.

وكان رحمه الله تعالى حسن السيرة والمعاملة، مما جعل الناس، يُقبلون عليه ويأخذون عنه التصوف الحقيقي، حتى قيل: لم يشتهر الهاشمي بعلمه مع كونه عالماً، ولم يشتهر بكراماته مع أن له كرامات كثيرة، ولكنه اشتهر بأخلاقه، وتواضعه، ومعرفته بالله تعالى.

وكان رحمه الله تعالى إِذا حضرْتَ مجلسه، شعرت كأنك في روضة من رياض الجنة؛ لأن مجلسه ليس فيه ما يشوبه من المكدرات والمنكرات. فكان رحمه الله تعالى يتحاشى أن يُذكر في حضرته رجل من المسلمين وينقص. ولا يحب أن يذكر في مجلسه الفساق وغيرهم، ويقول: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.

وبقي رحمه الله تعالى دائباً في جهاده مستقيماً في توجيهه للمسلمين وإِخراجهم مما وقعوا فيه من الضلال والزيغ. فقد كانت حلقاته العلمية متوالية من الصباح حتى المساء؛ ولاسيما علم التوحيد الذي هو من أُصول الدين، فيبيِّنَ العقائد الفاسدة والإِلحادية، مع بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، والرجوع إِلى الله تعالى؛ والتعلق به دون سواه.



نشاطه في الدعوة والإِرشاد:

كان بيته قبلة للعلماء والمتعلمين والزوار، لا يضجر من مقابلتهم، ويقيم - مع ضعف جسمه - حلقات منظمة دورية للعلم والذكر في المساجد والبيوت، ويطوف في مساجد دمشق، يجمع الناس على العلم وذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يزل مثابراً على همته ونشاطه ودعوته حتى أيامه الأخيرة.

تتلْمذَ عليه نخبةٌ طيبةٌ صالحة من العلماء وطلاب العلم، ومن مختلف طبقات الأمة يهتدون بإِرشاداته، ويغترفون من علومه، ويقتبسون من إِيمانه ومعارفه الذوقية، ويرجعون إِليه في أُمورهم.

وقد أذن للمستفيدين منهم بالدعوة والإِرشاد، وبذا انتشرت هذه الطاقة الروحية الكبرى في دمشق وحلب، وفي مختلف المدن السورية والبلدان الإِسلامية.



مؤلفاته:

1 - مفتاح الجنة شرح عقيدة أهل السنة.

2 - الرسالة الموسومة بعقيدة أهل السنة مع نظْمها.

3 - البحث الجامع والبرق اللامع والغيث الهامع فيما يتعلق بالصنعة والصانع.

4 - الرسالة الموسومة بسبيل السعادة في معنى كلمتي الشهادة مع نظمها.

5 - الدرة البهية.

6 - الحل السديد لما استشكله المريد من جواز الأخذ عن مرشدين.

7 - القول الفصل القويم في بيان المراد من وصية الحكيم.

8 - شرح شطرنج العارفين للشيخ محي الدين بن عربي.

9 - الأجوبة العشرة.

10 - شرح نظم عقيدة أهل السنة.

وغير ذلك من الرسائل.

وقد أخذ التصوف عن سيدي الهاشمي رحمه الله تعالى كثيرٌ من العلماء وغيرهم لا يعلم عددهم إِلا الله.

وهكذا قضى الشيخ الهاشمي حياته في جهاد وتعليم، يربي النفوس، ويزكي القلوب الراغبة في التعرف على مولاها، لا يعتريه ملل ولا كسل. واستقامته على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وحالاً، ووصيتُه في آخر حياته: عليكم بالكتاب والسنة، تشهد له بكمال وراثته.

وهكذا رحل الشيخ الكبير إِلى رضوان الله تعالى وقربه يوم الثلاثاء 12 من رجب 1381هـ الموافق 19 كانون الأول 1961م، وصُلي عليه بالجامع الأموي، ثم شيعتْه دمشق تحمله على الأكف إِلى مقبرة الدحداح، حيث وُورِي مثواه، وهو معروف ومُزَار. ولئن وارى القبرُ جسدَه الطاهر الكريم، فما وارى علمه وفضله ومعارفه وما أسدى للناس من معروف وإِحسان، فلِمثْل هذا فليعملِ العاملون. وهذا من بعض سيرته الكريمة، وما قدمناه غيضٌ من فيضٍ ونقطة من بحر، وإِلا فسيرة العارفين منطوية في تلامذتهم، ومن أين للإِنسان أن يحيط بما تكنه صدورُهم وأسرارهم؟

وفي مثله قال القائل:

إِنْ تسلْ أين قبورُ العظما فعلى الأفواه أو في الأنفس

وبمثل هذه الشخصيات الحية نقتدي وبمثلهم نتشبَّه.

فتشبَّهُوا إِن لم تكونوا مثلَهم إِنَّ التشبُّهَ بالكرامِ فلاحُ

وقد قيل:

موتُ التقي حياةٌ لا انقطاعَ لها قدْ مات قومٌ وهمْ في الناس أحياءُ

وقد أذن لنا رحمه الله تعالى، قبل رحيله عن دار الدنيا، بالورد العام والخاص، والتربية والإِرشاد، كما هو مبيَّن في نص الإِجازة التي نقدمها لك على الصفحات التالية.

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:30 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
الإِجازة




أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المنعم المجيد، المنزه عن التقيد بالإِطلاق والتقييد، الذي نور بصائر العارفين بنور معرفته، وقذف في قلوبهم أنواراً وصلوا بها إِلى ميادين مكاشفته، وجعل الاقتداء بهم سبباً لنيل الآمال، والرضا منه عنهم سُلَّماً موصلاً إِلى الإِخلاص في الأعمال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، المنزل عليه: {إنَّ الذينَ يُبايعُونَكَ إنَّما يبايعونَ اللهَ} [الفتح: 10]، وعلى آله وأصحابه الذين أَذن لهم بِبثِّ العلم ونشره في الأمة المحمدية، حتى صار الإِذن سنة نبوية، تداولها أهل الهمم العلية، وعلى التابعين لهم بإِحسان، الداعين إِلى الله بإِذنه، الذين لا تزال شمسهم على الآفاق طالعة، وأنوارهم في السرائر والقلوب لامعة، الذين يحافظون على أمانة الله حتى يُبلِّغونها إِلى نظرائهم في التقوى والعلم بالله.

أما بعد: فإِني لهذه المناسبة أذنْتُ وأجزتُ أفراداً من إِخواننا في طريقتنا الشاذلية الدرقاوية العلية لِمَا تفرسْتُه في أخلاقهم، واعتمدته من أحوالهم، إِذناً عاماً مطلقاً في سائر الأوراد والأحزاب الشاذلية، وفي الورد الخاص، الذي هو ذكر الاسم المفرد [الله] الذي هو الاسم الأعظم عند أهل الله، بشروطه المعروفة عندهم، فيتأكد على كل واحد منهم أن يُربّي كل من اتخذه شيخاً له في طريق الله، وأرجو الله أن ينفعهم وينفع بهم، ومن جملتهم: أخونافي الله الأبر الأود، الفقيه العارف بالله، التقي الأمجد ولي الله، الصادق في المحبة والعهد، سيدي الشيخ عبد القادر بن عبد الله عيسى عزيزي الحلبي، كما أذن لي أُستاذي سيدي أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي رضي الله عنه، وأرجو الله أن أكون مأذوناً من الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأرجو له مثل ذلك، ثم أقول:

فاعرفْ يا أخي فضل الإِذن وسره، ولا تجهله، إِذ المأذونُ مأمونٌ، إِذ هو في ضمان الله تعالى، ثم في ضمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في ضمان شيوخ الطريقة رضي الله عنهم.

فاعرف هذا، واعتقده ولا تجهله، واعلم أن الإِذن الحقيقي والإِجازة الحقيقية هي ما حصل لكم من الإِذن الشفهي الباطني والإِجازة القلبية الحقيقية، فهي التي يُعمل بها، وهي التي تنْفعل لها القلوب، وتنقاد لها النفوس، ولولا الضرورة لما اعتاد عليه الناس من الإِجازة بالكتابة، لَمَا كتب أهل الله إِجازة لمأذون من الله ومن الرسول ثم منهم إِجازة شفوية قلبية حقيقية. وكن ذا حزمٍ وعزمٍ في تربية كل من اتخذك شيخاً له من عباد الله، ولا تستحِ من أحد في حق الله، وأوصيك بالنصيحة للإِخوان بقدر الإِمكان، وبالمحافظة على حدود الله في السر والإِعلان، وكن بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، محبةً في الله واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرجو الله للجميع التوفيق، وأن يقينا وإِياهم من سوء الطوارق، ويسلك بنا وبهم أحسن الطرائق، ويحمينا وإِياهم من كل عائق، ونسأل الله بكل مَنْ رَامَ الانتظام في سلك أهل الله نفحة خير من نفحات الله، نسلك بها سبيل النجاة، ونصل بها إِلى حقيقة تقوى الله بجاه صاحب الجاه، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يوم يتجلى الحق تعالى لعباده برضاه، والظن في الله جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.

قاله وكتبه العبد الفقير إِلى الله تعالى: محمد بن أحمد بن الهاشمي بن عبد الرحمن التلمساني أصلاً، الدمشقي سكناً، الشاذلي الدرقاوي طريقة. عامله الله والمسلمين باللطف والإِحسان. آمين.

حررت هذه الإِجازة المباركة في 16 ربيع الأول 1377.



خادم الطريقة القادرية الشاذلية الدرقاوية العلوية

عبد الله محمد بن الهاشمي التلمساني

دمشق



عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:30 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
سند الطريقة الشاذلية







لما كان الإِسناد من الدين، ولولا الإِسناد لقال مَنْ شاء ما شاء. ولما كان مشرب القوم رضوان الله عليهم أجمعين أبلغ المشارب في التحقيق، وأسنى المعارج في التدقيق، تَعيَّن على كل منتسب إِليهم أن يحقق مستنده على الوجه الأحق، لأن الحقائق لا تؤخذ من كل ذي دعوى، إِلا بعد تحقق صحة دعواه على الوجه الأكمل.

ولما كان سند طريق القوم مسلسلاً إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أثبتْنا هذا السند على الصفحات التالية متسلسلاً شيخاً عن شيخ إِلى سيدنا الحسن البصري، ثم سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم إِلى حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إِلا أن بعض العلماء أنكر سماع الحسن البصري من الإِمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، ولكن الحافظ المحدث الفقيه جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى، أثبت سماع الحسن البصري من علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وتبعه في ذلك الفقيه المحدث الحجة أحمد بن حجر الهيثمي المكي رحمه الله تعالى.

وإِليك تحقيق كل منهما في هذا الموضوع:

أولاً - قال الحافظ المحدث جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه الحاوي للفتاوي: (أنكر جماعة من الحفاظ سماع الحسن البصري من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتمسَّكَ بهذا بعض المتأخرين؛ فخدش به طريق لبس الخرقة. وأثبته جماعة، وهو الراجح عندي لوجوه، وقد رجحه أيضاً الحافظ ضياء الدين المقدسي في المختارة. وتبعه على ذلك الحافظ ابن حجر [العسقلاني] في أطراف المختارة [وكذلك أثبت الحافظ ابن حجر العسقلاني سماع الحسن البصري من علي كرم الله وجهه في كتابه تهذيب التهذيب ج2. ص264].

الوجه الأول: إِن العلماء ذكروا في الأصول في وجوه الترجيح أن المثْبِتَ مقدَّم على النافي، لأن معه زيادة علم.

الوجه الثاني: إِن الحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر باتفاق. وكانت أُمه خَيْرَةُ مولاةَ أُمِّ سلمة رضي الله عنها، فكانت أُم سلمة تخرجه إِلى الصحابة يباركون عليه، وأخرجته إِلى عمر، فدعا له: اللهم فقهه في الدين وحببْه إِلى الناس. ذكره الحافظ جمال الدين المزي في التهذيب، وأخرجه العسكري في كتاب المواعظ بسنده. وذكر المزي أنه [الحسن البصري] حضر يوم الدار، وله أربع عشرة سنة. ومن المعلوم أنه من حين بلغ سبع سنين أُمِر بالصلاة، فكان يحضر الجماعة ويصلي خلف عثمان إِلى أن قتل عثمان، وعلي إِذ ذاك بالمدينة، فإِنه لم يخرج منها إِلى الكوفة إِلا بعد قتل عثمان. فكيف يُستنكر سماعهُ منه وهو كل يوم يجتمع به في المسجد خمس مرات من حين ميَّزَ إِلى أن بلغ أربع عشرة سنة؟

وزيادة على ذلك: إِن علياً كان يزور أُمهات المؤمنين، ومنهن أُم سلمة، والحسن في بيتها هو وأُمه.

الوجه الثالث: إِنه ورد عن الحسن ما يدل على سماعه منه. أورد المزي في التهذيب من طريق أبي نعيم قال: حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن بن زكريا حدثنا أبو حنيفة محمد بن صفية الواسطي حدثنا محمد بن موسى الجرشي حدثنا ثُمامة بن عبيدة حدثنا عطية بن محارب عن يونس بن عبيد قال: سألت الحسن قلت: يا أبا سعيد! إِنك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِنك لم تدركه؟ قال: يا ابن أخي! لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك. إِني في زمان كما ترى - وكان في عمل الحجاج - كل شيء سمعتني أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن علي بن أبي طالب، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر علياً.

ثم ساق الحافظ السيوطي عدة أحاديث رواها الحسن عن علي رضي الله عنهما. منها: قال أحمدفي مسنده: حدثنا هُشيم أخبرنا يونس عن الحسن عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “رُفع القلمُ عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المصاب حتى يكشف عنه”. أخرجه الترمذي وحسنه [راجع تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي عند شرحه لهذا الحديث (ج4/ص686)]، والنسائي، والحاكم وصححه، والضياء المقدسي في المختارة. قال الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي عند الكلام على هذا الحديث: قال علي بن المديني: الحسن رأى علياً بالمدينة وهو غلام. وقال أبو زرعة: كان الحسن البصري يوم بُويِعَ لعلي ابن أربع عشرة سنة، ورأى علياً بالمدينة ثم خرج [علي رضي الله عنه] إِلى الكوفة والبصرة ولم يلقه الحسن بعد ذلك. وقال الحسن: رأيت الزبير يبايع علياً. اهـ.

قلت: وفي هذا القدر كفاية، ويُحمل قولُ النافي على ما بعد خروج علي من المدينة) [الحاوي للفتاوي للحافظ المحدث الفقيه جلال الدين السيوطي. ج2. ص102 -103].

ثانياً - وسئل الحافظ ابن حجر الهيثمي - نفع الله بعلومه - هل سمع الحسن البصري من كلام علي كرم الله وجهه، حتى يتم للسادة الصوفية سند خرقتهم وتلقينهم الذكر المروي عنه عن علي كرم الله وجهه؟

فأجاب بقوله: (اختلف الناس فيه، فأنكره الأكثرون، وأثبته جماعة. قال الحافظ السيوطي: وهو الراجح عندي كالحافظ ضياء الدين المقدسي في المختارة، والحافظ شيخ الإِسلام ابن حجر [العسقلاني] في أطراف المختارة لوجوه:

الأول: إِن المُثبِتَ مقدَّم على النافي.

الثاني: إِنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وميَّزَ لسبعٍ وأُمر بالصلاة؛ فكان يحضر الجماعة ويصلي خلف عثمان إِلى أن قُتِل، وعلي إِذ ذاك بالمدينة يحضر الجماعة كل فرض، ولم يخرج منها إِلا بعد قتل عثمان، وسن الحسن إِذ ذاك أربع عشرة سنة. فكيف يُنكر سماعه منه مع ذلك، وهو يجتمع معه كل يوم بالمسجد خمس مرات مدة سبع سنين؟! ومن ثَمَّ قال علي بن المديني: رأى الحسن علياً بالمدينة وهو غلام. وزيادة على ذلك: إِن علياً كان يزور أُمهات المؤمنين، ومنهن أُم سلمة والحسن في بيتها، هو وأُمه خيْرة إِذ هي مولاة لها. وكانت أُم سلمة رضي الله عنها تخرجه إِلى الصحابة يباركون عليه. وأخرجته إِلى عمر رضي الله عنه فدعا له: اللهم فقهْه في الدين وعلِّمْهُ وحبِّبْهُ إِلى الناس. ذكره المزي، وأسنده العسكري، وقد أورد المزي في التهذيب من طريق أبي نعيم: أنه سئل عن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدركه؟ فقال: كل شيءٍ قلته فيه فهو عن علي؛ غير أني في زمانٍ لا أستطيع أن أذكر علياً، أيْ زمان الحجاج. ثم ذكر الحافظ أحاديث كثيرة، وقعت له من رواية الحسن عن علي كرم الله وجهه. وفي بعضها ورجاله ثقات قول الحسن: سمعت علياً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل أُمتي مثل المطر..” الحديث) [الفتاوى الحديثية لخاتمة الفقهاء والمحدثين الشيخ أحمد بن حجر الهيثمي المكي. ص129. وتمام الحديث: “..لا يدرى أوله خير أم آخره” رواه الترمذي في كتاب الأمثال وقال: حسن غريب].

وبعد أن ثبت سماع الحسن البصري من علي رضي الله عنهما، وصح سند السادة الصوفية إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ريبة ولا شك، ولا أدنى شبهة أقول:

قد أخذ العبد الفقير الطريق عن سيدي ومولاي الشيخ محمد الهاشمي صاحب الأخلاق المحمدية طيَّبَ الله ثراه، وجزاه عنا خير الجزاء. وقد لقَنَنَا وأذنَ لنا بالورد العام والورد الخاص وهو تلقين الاسم المفرد: الله.

وشيخنا محمد الهاشمي أخذ عن شيخه السيد محمد بن يَلِّس وعن شيخه أحمد بن مصطفى العلوي [حين ترى في السند أن أحد المرشدين قد أخذ الطريق عن شيخين فالمراد أنه ابتدأ سيره عند أحدهما، وبعد وفاة الشيخ الأول التقى بالشيخ الثاني فلقنه الطريق وأذن له بالإِرشاد]، وهما عن الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي الشريف المستغانمي.. إِلى آخر السند كما هو مذكور في شجرة السند التي أثبتناها على الصفحة التالية.

وقد رسمنا هذه الشجرة عن الكتب التالية:

1 - إِرشاد الراغبين للشيخ حسن بن عبد العزيز أحد مريدي الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي رحمه الله تعالى.

2 - الأنوار القدسية للشيخ محمد ظافر المدني.

3 - أوراد السادة الشاذلية الدرقاوية التلمسانية.

4 - مجموع الأوراد المسمى: الدرة البهية في أوراد الطائفة العلوية للعارف بالله سيدي عدة بن تونس المستغانمي.

والحمد لله الذي شرَّفنا بالانضمام في سلك هذه السلسلة الذهبية للطريقة الشاذلية الدرقاوية، ونسأله تعالى أن يكرمنا بما أكرم به رجالها، وأن يحشرنا في زمرتهم تحت لواء سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا معهم ومنهم، إِنه سميع مجيب. آمين.




عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:31 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
الختام




وبعد،

فلعلك أيها القارىء - وقد عرفتَ التصوف الحق، واطلعت على كلام الأئمة الأعلام، وما ذكروه عنه، وعرفت صحة نسبته وتسلسله إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ التصوف لك منهجاً، وتُحلِّق في أجوائه الصافية، وتتعبد في محاريبه، وتسبح في أنواره وتعرج في معارجه، فتكون صورة مثالية عن هؤلاء الصوفية، الذين ورثوا الوراثة الكاملة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. إِذ هم العلماء بالله تعالى، الداعون إِلى الله على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إِمامهم في جميع حالاتهم، والعلم بالله تعالى صفتهم، والعبادة حليتهم، والتقوى شعارهم، وحقائق الحقيقة أسرارهم. لهم من الساعات من إِمداد فضل الله مزيد، ولهيب شوقهم يتأجج ويقول: هل من مزيد؟!

لقد تفانى الصوفية في حب مولاهم، وعاشوا في ذكره ومناجاته، فعلَّمهم وطهرهم، وزكاهم وأدبهم، واصطفاهم واجتباهم، وأحبهم ورضي عنهم، ففتح لقلوبهم ملكوت السموات، وأراهم عجائب كونه وبدائع قدرته وأسرار خليقته، وأفاض عليهم هداياه وعطاياه علوماً وأذواقاً.



فما أجدر الباحثين والمفكرين ورواد الحقيقة بالبحث عن ذلك التراث الإِسلامي العظيم الذي تركه لهم أسلافهم من قبلُ وديعة في أيديهم، وأمانة في أعناقهم، فيأخذوه عن أهله، ويَقدروه حقَّ قدره، ثم بعد ذلك يخلصوه من كل شائبة تعكر صفوه، أو تهبط به إِلى المكان الذي لا يليق به.

فهل فكَّرَ المنصفون من أُولي الرأي والفكر والقلم، أن يشحذوا هممهم فيسيروا في قافلة أهله، حتى ينهلوا من منهله العذب، فينفوا عن التصوف تُرَّهاتِه ودخيله، كما نفى أهل الحديث عن الحديث أكاذيبه، وأهل التفسير عن التفسير إِسرائيلياته، حتى يتسنى لناشد الحقيقة أن يجدها سليمة صحيحة، ويميزها عما سواها؟

هذا ما وفقنا الله لإِثباته في هذا الكتاب، وهو الموفق للهداية والمرشد إِلى الصواب. جعله الله خالصاً لوجهه الكريم، ونفع به مَنْ قرأه وهداه إِلى الصراط المستقيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.





الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد، الذي جعل الأولياء نبراساً يقتدى بهم؛ {أولئكَ الذينَ هدى اللـهُ فبِهُداهُمُ اقتَدِهْ} [الأنعام:90] والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



أما بعد:

لمحة موجزة عن حياة المؤلف رحمه الله تعالى



هو سيدي الشيخ عبد القادر بن عبد الله بن قاسم بن محمد بن عيسى عزيزي الحلبي الشاذلي، يصل نسبه بالشيخ عمر البعاج إلى سبط رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الحسين بن علي رضي الله عنهما.

ولد في مدينة حلب الشهباء سنة 1338 من الهجرة النبوية الشريفة، والمصادف 1920 من ميلاد السيد المسيح عليه السلام، من أبوين أميّين من عوام المسلمين، وعاش في كنفهما عيشة رغد ورخاء، حيث كان والده يعمل في الجمارك.



حُبب إليه رحمه الله تعالى في مقتبل عمره النشاط والرياضة والكشافية؛ فكان يلبس أحسن الثياب، ويتزين في أفخم صالونات حلب للحلاقة، ويتطيب بأفخر أنواع الطيب.

ثم جذبتْه يدُ العناية الإلهية من الدنيا وزينتها، فأعرض عما كان فيه من اللهو واللعب والزينة والطيب، وحلق شعره، ولبس الثياب المرقعة، وصحب الصالحين من أهل الجذب، في الفترة من سنة 1939 حتى 1942، مدة أربع سنوات تقريباً، كان خلالها يميل إلى الجذب مع بقيةٍ من الصحو حفظتْه من حال أهل الجذب.

وكان رحمه الله تعالى قبل ذلك لا يثبت على عمل من الأعمال الدنيوية رغم محاولاته الكثيرة، فقد عمل نجاراً وخياطاً، واشتغل بالتجارة فترة قصيرة، ولكنه لم يثبت على ذلك، صرفاً من الله تعالى عن ذلك، إلى أن أقنعه والده بالعمل معه في الجمارك، ولكن جذبته يد العناية الإلهية من الدنيا وأسبابها، فأقبل على الله تعالى.

ثم حُبِّب إليه طلب العلم، فصحب العلماء، منهم الشيخ محمد زمّار والشيخ أحمد معودّ، ثم صحب الشيخ حسن حساني شيخ الطريقة القادرية، فسلك الطريق على يديه، وأذن له الشيخ حسن بالختم القادري، وخلال صحبته للشيخ حسن حساني انتسب إلى المدرسة الشعبانية في 24/12/1949 ودرس فيها مدة ست سنوات كاملات، كان خلالها إماماً لمسجد ساحة حَمَد، وكان مسجداً لا تُقام فيه الجمعة، وكان مهملاً، وكاد أن يُخرب، فعمل الشيخ على ترميمه وإصلاحه، وأحدث فيه منبراً للخطابة، وذلك في 21/1/1957.

اجتمع في الشيخ رحمه الله تعالى خلال دراسته في المدرسة الشعبانية من الصفات الطيبة المباركة، والأخلاق العلية، والهمة العالية، ما ينبىء عن خير واعدٍ، فسلك على يديه عدد من زملائه في المدرسة وهو لا يزال طالباً فيها، فكان شيخاً من جهة وتلميذاً طالباً من جهة أخرى.

ومما يدل على علو همته، وصدق إقباله على الله عز وجل؛ أنه لم تغرَّه المشيخة، ولم يقنع بما وصل إليه من الحال والجاه، فراح يبحث عن المرشد الكامل الذي يعرّفه على الله عز وجل، ويعبر عن ذلك فيقول رحمه الله تعالى:

“كنت أقرأ في كتاب (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) لابن عجيبة، فأرى فيه أشياء لم أكن متحققاً بها - رغم كوني شيخاً - فعرفت أنه لا بد لي من صحبة مرشدٍ كامل”.

ولم يجد بغيته في حلب فسافر إلى دمشق، والتقى بكثير من مشاهير علمائها، ممن اجتمع عليهم خلق كثير لعلمهم وفصاحتهم وبلاغتهم، ولكنه لم يجد في واحد منهم مبتغاه، فتردد إلى زيارة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى، فأُلهم بصحبة الشيخ محمد الهاشمي شيخ الطريقة الشاذلية، فبحث عنه فوجده في الجامع الأموي الكبير بدمشق يُقرر بعض مباحث علم التوحيد، وحوله ثلة قليلة من إخوانه يعظهم ويعلمهم، فأقبل على مجلس الشيخ وحضره ثم تعرف إلى الشيخ محمد الهاشمي رحمه الله تعالى، فقال له الشيخ محمد الهاشمي: “جئتَ آخرَ الناس، وتكونُ أولَهم بإذن الله، فأنا أنتظرك منذ زمنٍ طويل.” فتَّم للشيخ رحمه الله تعالى مبتغاه من صحبة المرشد الكامل، فصحب الشيخ الهاشمي رحمه الله تعالى سنة 1952م إلى أن توفاه الله تعالى.

ولما رأى الشيخُ محمد الهاشمي رحمه الله تعالى في شيخنا أهليته للإرشاد، أذن له بالورد العام والخاص في الطريقة الشاذلية، كما أذن له بالتربية والإرشاد كما هو مبين في الإجازة الموجود نصها على صفحات آخر هذا الكتاب، وذلك في سنة 1337 هـ - 1958 م.

استمر الشيخ رحمه الله تعالى إماماً وخطيباً في مسجد ساحة حَمَد، إلى أن توفي الشيخ محمد الرزّاز إمام وخطيب جامع العادلية، حيث انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إليه، فأقام فيه مجلساً للذكر بعد صلاة العشاء من يوم الخميس من كل جمعة، وكان ذلك في 21/12/1963م.

كان جامع العادلية مهملاً، حيث كانت ساحته مرعى للمواشي، وكان يشكو إلى الله تعالى قلة المصلين، فراح الشيخ يعمل على إصلاحه وصيانته، حتى غدا الجامع مقصداً لطلاب العلم، وأهل الطريق، وعمر الجامع بمجالس العلم ومجالس الذكر، وطارت شهرة الشيخ في الآفاق، فأقبل الناس عليه بمختلف فئاتهم من عوام ومثقفين وطلاب علم، فغدا جامع العادلية مدرسة تشع بالعلم والنور، وانتشر طريق التصوف بعد أن نقَّاه الشيخ من كثير من المخالفات الشرعية والشطحات وغيرها مما كان الناس ينفرون منه - كما تجد ذلك على صفحات هذا الكتاب - وعشق الناس التصوف، وانتشرت طريقة الشيخ في كل أنحاء القطر العربي السوري، فلا تكاد تجد مدينة أو قرية إلا وللشيخ فيها إخوان ومريدون، بل جاوز ذلك إلى البلاد المجاورة؛ كالأردن وتركيا ولبنان والعراق، ثم جاوزت شهرة الشيخ ذلك كله، فلا تكاد تجد بلداً في الدنيا إلا وللشيخ فيه إخوان ومريدون، فوصلت طريقته إلى الكويت والسعودية والمغرب، وجنوب إفريقيا والهند وباكستان، وإنكلترا وبلجيكا وفرنسا، وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول العالم، مما يدل على باع الشيخ الطويل في المعرفة والتربية والإرشاد.

يعد الشيخ رحمه الله تعالى في طليعة المجددين للطرق الصوفية عامة والطريقة الشاذلية خاصة، يشهد لذلك كتابه هذا الذي طبع مرات متعددة وترجم إلى اللغة الإنكليزية واللغة التركية، وطارت شهرته في الآفاق، كما يشهد لعلو مقام الشيخ كثرةُ إخوانه على اختلاف فئاتهم من جميع طبقات الناس في كل بقاع الأرض، الذين يعتبرون بحق كتباً ناطقة عن الشيخ الذي لم يخلف من الثروة العلمية إلا هذا الكتاب، وذلك بسبب واجبات الدعوة الإصلاحية التي حملها على كاهله في نشر الطريق الصحيح القائم على الكتاب والسنة المطهرة، كما تلمح ذلك على صفحات هذا الكتاب.

إن خلاصة منهاجه وما أراد أن ينقله للناس قد أودعه وبيَّنه في كتابه “حقائق عن التصوف” الذي كان بحق فتحاً في علم الشريعة والطريقة والحقيقة، فتلقاه الناس بالقبول والانتفاع على مختلف طبقاتهم، واستفاد منه خلق كثير.

كان للشيخ كرامات كثيرة وكشوفات واضحة، ولكنه كان يعرض عن كل ذلك ويُحَذِّر إخوانه من الركون إلى الكرامات والكشوفات، ويقرر أن أعظم الكرامات الاستقامة على شرع الله عز وجل، وكان يعرف الطريقة فيقول رحمه الله تعالى: الطريقة هي العمل بالشريعة.

“دعي مرة إلى وليمة طعام لأحد التجار، فلما أكل بعض اللقيمات استأذن من صاحب البيت ليغسل فاه، فقام الشيخ رحمه الله تعالى فتقايأ وأخرج كل ما أكله، وقال لصاحب الدعوة: أنت تأخذ بعض الأموال من البنوك بالربا، والله حارب المرابي، إذا أردت أن آتي لعندك ثانية فلا تطعمني من طعامك، فتاب الرجل من فورها، ولم يمض عليه سنة حتى صحح معاملته من الربا وأصبح من الصالحين المشهود لهم بالصلاح بعد ذلك”.

ويعرف الشيخ رحمه الله تعالى التصوف فيقول: “التصوف كله أخلاق، فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف”.

“سعى مرة في الإصلاح بين زوجين، وخلال ذلك اطلع على ظلم الرجل وتسلطه، فنصحه، ولكن الرجل حمل الحقد والضغينة، عوضاً من أن يستجيب للنصح، وبعد مدة من الزمن، استغفل الرجلُ الشيخَ في ممر معتم قرب جامع ساحة حَمَد، فتهجم عليه وطعنه بأداة حادة على وجهه قرب فمه، فسال الدم من الشيخ، فهرب الرجل، ونُقل الشيخ إلى المستشفى، وترك علامة على وجه الشيخ لم تمحها الأيام حتى توفاه الله، ولكن أخلاق النبوة التي كان متحلياً بها الشيخ دعته إلى العفو والمسامحة والصفح، فتوفي الرجل بعد أشهر، فكان أولَ المصلين عليه صلاة الجنازة الشيخُ رحمه الله تعالى”.

أُكْرِمَ رحمه الله تعالى بمجاورة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة قرابة خمس سنوات، ثم أقام بالأردن بعمان يدعو إلى الله تعالى، كما هو شأن الصادقين المتحققين حيثما حلوا ونزلوا، فاستفاد منه خلق كثير من علمه وحاله ودعوته.

وفي سنة 1991 سافر إلى تركيا لزيارة بعض إخوانه، فاشتد عليه المرض هناك، فأدخل المشفى في مدينة مرعش، ثم نُقل بعد ذلك إلى استانبول ودخل أحد مشافيها.

تعجب القائمون على معالجته من أطباء ومختصين، كيف لا يتوجع أو يظهر ألماً، وهو ساكت لا يتكلم، مستغرق بقلبه وببصره وبكله إلى الله تعالى.

فأراد أحد أولاده أن يطمئن عن شعوره وإحساسه وإدراكه، وعن غيبته التي طالت، وعن عقله وهو لا يكلم أحداً، وكان بينه وبين والده - رحمه الله تعالى - ملاطفة ومدارسة فسأله عن بيت من الشعر كان قد سمعه منه رحمه الله تعالى ليثبت للموجودين آنذاك بأن الله تعالى هو يتولى الصالحين، وأنه كامل الوعي والإحساس والعقل، ولكنه منجذب بمحبة الله تعالى ومستغرق به سبحانه وتعالى، فذكّره بهذا البيت من الشعر:

يا سائلي عن رسول الله كيف سها والسهو...

ثم سكت وقال له: يا سيدي من فضلك أكمل لي هذا البيت وكان يمازحه، فالتفت إليه وقال متمماً:

................... والسهو عن كل قلبٍ غافلٍ لاهي

سها عن كل شيء سرُّه فسها عمَّا سوى الله فالتعظيم لله



وأعاد شطر البيت مراراً: والسهو عن كل قلبٍ غافلٍ لاهيٍ.

ثم دمعت عيناه رحمه الله تعالى وبكى ولم يكلم أحداً بعدها.

كان انتقاله رحمه الله تعالى إلى جوار ربه، عشية يوم السبت الساعة السادسة، في الثامن عشر من ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وأربع مائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة، الموافق للسادس والعشرين من تشرين الأول سنة إحدى وتسعين وتسع مائة وألف للميلاد ( 18 ربيع الآخر 1412 هـ 26 تشرين الأول 1991م) وكان مثواه الأخير بجوار الصحابي الجليل سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في استانبول، فخسر المسلمون بموته علماً عاملاً ومرشداً كاملاً من أعلام الطريق والدعوة إلى الله تعالى، تغمده الله برحمته وأعلى مقامه، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد نُقِشَ على قبره قول الله عز وجل

{ومَنْ يُهاجِرْ في سبيل اللهِ يجِدْ في الأرضِ مُراغَماً كثيراً وَسَعَةً ومّنْ يَخرُجْ مِنْ بيتِهِ مهاجراً إلى اللهِ ورسولِه ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموتُ فقد وقعَ أجرهُ على اللهِ وكانَ اللهُ غفوراً رحيماً} [النساء: 100].

{ربِّ أوزِعني أنْ أشكُرَ نعمَتَكَ التي أنْعَمْتَ عليَّ وعلى والِدَيَّ وأنْ أعملَ صالحاً ترضاهُ وأدخِلْني برحمتِكَ في عبادك الصالحينَ}[النمل: 19].

اللهم احشرنا معه تحت لواء سيد المرسلين سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم،وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

23 شوال 1421

18/1/2001



ورثة المؤلف

عبدالقادر حمود 01-20-2022 10:32 PM

رد: كتاب حقائق عن التصوف
 
:61:


الساعة الآن 08:03 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى