منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   رسائل ووصايا في التزكية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=15)
-   -   المكتوبات (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=6071)

عبدالرزاق 02-03-2011 01:25 AM

المكتوبات
 

بسم الله الرحمن الرحيم

وَبهِ نـَسْتـَعينُ

المكتوب الأول

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِِ{



((جواب مختصر عن اربعة اسئلة))

o السؤال الاول:

هل سيدنا الخضر عليه السلام على قيد الحياة؟ فان كان على قيد الحياة فلِمَ يعترض على حياته عدد من العلماء الأجلاّء؟

الجواب: انه على قيد الحياة، الاّ ان للحياة خمس مراتب، وهو في المرتبة الثانية منها، ولهذا شكّ عدد من العلماء في حياته.

الطبقة الاولى من الحياة: هي حياتنا نحن، التي هي مقيدة بكثير من القيود.

الطبقة الثانية من الحياة: هي طبقة حياة سيدنا الخضر وسيدنا إلياس عليهما السلام والتي فيها شئ من التحرر من القيود، اي يمكنهما ان يكونا في اماكن كثيرة في وقت واحد، وان يأكلا ويشربا متى شاءا. فهما ليسا مضطرين ومقيدين بضرورات الحياة البشرية دائماً مثلنا. ويروي اهل الكشف والشهود من الاولياء بالتواتر حوادث واقعة عن هذه الطبقة. فهذه الروايات تثبت وجود هذه الطبقة من الحياة وتنورها، حتى ان في مقامات الولاية مقاماً يُعبّر عنه بـ ((مقام الخضر)). فالولي الذي يبلغ هذا المقام يجالس الخضر عليه السلام ويتلقى عنه الدرس، ولكن يُظن احياناً خطأً أن صاحب هذا المقام هو الخضر بعينه.

الطبقة الثالثة من الحياة: هي طبقة حياة سيدنا ادريس وسيدنا عيسى عليهما السلام. هذه الطبقة تكتسب لطافة نورانية بالتجرد من ضرورات الحياة البشرية والدخول في حياة شبيهة بحياة الملائكة، فهما يوجدان في السموات بجسميهما الدنيويين - الذي هو بلطافة بدن مثالي ونورانية جسد نجمي - والحديث الشريف الوارد أن سيدنا عيسى عليه السلام ينـزل في آخر الزمان ويحكم بالشريعة المحمدية(1) حكمته هي الآتي:

انه ازاء ما تجريه الفلسفة الطبيعية من تيار الالحاد وانكار الالوهية في آخر الزمان، تتصفى العيسوية وتتجرد من الخرافات. وفي أثناء انقلابها الى الاسلام، يجرّد شخص العيسوية المعنوي سيف الوحي السماوي ويقتل شخص الالحاد المعنوي، كما ان عيسى عليه السلام الذي يمثل الشخص المعنوي للعيسوية يقتل الدجالَ الممثل للالحاد في العالم. بمعنى انه يقتل مفهوم انكار الالوهية.

الطبقة الرابعة من الحياة: هي حياة الشهداء، الثابتة بنص القرآن الكريم، أن لهم طبقة حياة أعلى وأسمى من حياة الأموات في القبور. نعم! ان الشهداء الذين ضحوا بحياتهم الدنيوية في سبيل الحق، ينعم عليهم سبحانه وتعالى بكمال كرمه حياة شبيهة بالحياة الدنيوية في عالم البرزخ، الاّ انها بلا آلام ولا متاعب ولا هموم؛ حيث لا يعلمون أنهم قد ماتوا، بل يعلمون أنهم قد ارتحلوا الى عالم افضل، لذا يستمتعون متعة تامة ويتنعمون بسعادة كاملة، اذ لا يشعرون بما في الموت من ألم الفراق من الأحبة، كما هو لدى الاموات الآخرين الذين يعلمون انهم قد ماتوا، رغم ان ارواحهم باقية. لذا فاللذة والسعادة التي يستمتعون بها في عالم البرزخ قاصرة عن اللذة التي يتمتع بها الشهداء. وهذا نظير المثال الآتي:

شخصان رأيا في المنام انهما قد دخلا قصراً جميلاً كالجنة. أحدهما يعلم أن ما يراه هو رؤيا. فاللذة التي يحصل عليها تكون ناقصة جداً، اذ يقول في نفسه: ستزول هذه اللذة بمجرد انتباهي من النوم. أما الآخر فلا يعتقد انه في رؤيا لذا ينال لذة حقيقية ويسعد سعادة حقيقية.

وهكذا يتميز كسب الشهداء من حياتهم البرزخية عن كسب الاموات منها.

ان نيل الشهداء هذا النمط من الحياة واعتقادهم أنهم أحياء ثابت بوقائع وروايات غير محدودة. حتى ان إجارة سيدنا حمزة رضى الله عنه، سيد الشهداء، لمن استجاره ولجأ اليه وقضاءه لحوائجهم الدنيوية، وحمل الآخرين لقضائها، وامثالها من حوادث واقعة كثيرة، نوّرت هذه الطبقة من الحياة واثبتتها. حتى انني شخصياً وقعت لي هذه الحادثة:

كان ابن اختي ((عبيد)) أحد طلابي، قد استشهد بقربي بدلاً عنى، في الحرب العالمية الاولى. فرأيت في المنام رؤيا صادقة عندي: انني قد دخلت قبره الشبيه بمنزل تحت الارض، رغم اني في الاسر على بعد مسيرة ثلاثة اشهر منه، واجهل مكان دفنه. ورأيته في طبقة حياة الشهداء. وقد كان يعتقد انني ميت، وذكر أنه قد بكى عليّ كثيراً، ويعتقد انه ما زال على قيد الحياة، الاّ انه قد بنى له منزلاً جميلاً تحت الارض حذراً من استيلاء الروس.

فهذه الرؤيا الجزئية - مع بعض الشروط والأمارات - اعطتني قناعة تامة - بدرجة الشهود - للحقيقة المذكورة.

الطبقة الخامسة من الحياة:هي الحياة الروحانية لأهل القبور.

نعم! الموت هو تبديل مكان واطلاق روح وتسريح من الوظيفة، وليس اعداماً ولا عدماً ولا فناءً. فتمثُّل ارواح الاولياء، وظهورهم لأصحاب الكشف، بحوادث لا تعد، وعلاقات سائر اهل القبور بنا، في اليقظة والمنام، واخبارهم ايانا اخباراً مطابقة للواقع.. وامثالها من الادلة الكثيرة، تنوّر هذه الطبقة وتثبتها.

ولقد اثبتت ((الكلمة التاسعة والعشرون)) الخاصة ببقاء الروح بدلائل قاطعة طبقة الحياة هذه اثباتاً تاماً.



السؤال الثاني:

ان الآية الكريمة: } الذي خَلَقَ الموت والحياةَ ليبلوَكُم ايّكُم أحْسَنُ عَمَلاً{ (الملك:2) وامثالها في القران الحكيم، تعد الموت مخلوقاً كالحياة، وتعتبره نعمة إلهية. ولكن الملاحظ ان الموت انحلال وعدم وتفسخ، وانطفاء لنور الحياة، وهادم اللذات... فكيف يكون ((مخلوقاً)) وكيف يكون ((نعمة))؟

الجواب: لقد ذكرنا في ختام الجواب عن السؤال الأول: ان الموت في حقيقته تسريح وانهاء لوظيفة الحياة الدنيا، وهو تبديل مكان وتحويل وجود، وهو دعوة الى الحياة الباقية الخالدة ومقدمة لها؛ اذ كما ان مجئ الحياة الى الدنيا هو بخلق وبتقدير إلهي، كذلك ذهابها من الدنيا هو ايضاً بخلق وتقدير وحكمة وتدبيرإلهي؛ لأن موت ابسط الأحياء - وهو النبات - يُظهر لنا نظاماً دقيقاً وابداعاً للخلق ما هو اعظم من الحياة نفسها وانظم منها، فموت الأثمار والبذور والحبوب الذي يبدو ظاهراً تفسخاً وتحللاً هو في الحقيقة عبارة عن عجن لتفاعلات كيمياوية متسلسلة في غاية الانتظام، وامتزاج لمقادير العناصر في غاية الدقة والميزان، وتركيب وتشكّل للذرات بعضها ببعض في غاية الحكمة والبصيرة، بحيث ان هذا الموت الذي لا يرى، وفيه هذا النظام الحكيم والدقة الرائعة، هو الذي يظهر بشكل حياة نامية للسنبل وللنبات الباسق المثمر. وهذا يعني ان موت البذرة هو مبدأ حياة النبات الجديدة، أزهاراً وأثماراً.. بل هو بمثابة عين حياته الجديدة؛فهذا الموت اذن مخلوق منتظم كالحياة..

وكذلك فان ما يحدث في معدة الانسان من موت لثمرات حية، أو غذاء حيواني، هو في حقيقته بداية ومنشأ لصعود ذلك الغذاء في اجزاء الحياة الانسانية الراقية. فذلك الموت اذن مخلوق اكثر انتظاماً من حياة تلك الاغذية.

فلئن كان موت النبات - وهو في ادنى طبقات الحياة - مخلوقاً منتظماً بحكمة، فكيف بالموت الذي يصيب الانسان وهو في ارقى طبقات الحياة؟ فلا شك ان موته هذا سيثمر حياة دائمة في عالم البرزخ، تماماً كالبذرة الموضوعة تحت التراب والتي تصبح بموتها نباتاً رائع الجمال والحكمة في (عالم الهواء).

اما كيف يكون الموت نعمة؟..

فالجواب: سنذكر اربعة وجوه فقط من اوجه النعمة والامتنان الكثيرة للموت.

اولها: الموت انقاذ للانسان من اعباء وظائف الحياة الدنيا ومن تكاليف المعيشة المثقلة. وهوباب وصال في الوقت نفسه مع تسعة وتسعين من الاحبة الاعزاء في عالم البرزخ، فهو اذن نعمة عظمى!

ثانيها: انه خروج من قضبان سجن الدنيا المظلم الضيق المضطرب، ودخول في رعاية المحبوب الباقي وفي كنف رحمته الواسعة، وهو تنعم بحياة فسيحة خالدة مستنيرة لا يزعجها خوف، ولا يكدرها حزن ولا همّ.

ثالثها: ان الشيخوخة وامثالها من الاسباب الداعية لجعل الحياة صعبة ومرهقة، تبيّن مدى كون الموت نعمة تفوق نعمة الحياة. فلو تصورت ان اجدادك مع ما هم عليه من احوال مؤلمة قابعون امامك حالياً مع والديك اللذين بلغا ارذل العمر، لفهمت مدى كون الحياة نقمة، والموت نعمة. بل يمكن ادراك مدى الرحمة في الموت ومدى الصعوبة في ادامة الحياة ايضاً بالتأمل في تلك الحشرات الجميلة العاشقة للازاهير اللطيفة، عند اشتداد وطأة البرد القارس في الشتاء عليها.

رابعها: كما ان النوم راحة للانسان ورحمة، ولا سيما للمبتلين والمرضى والجرحى، كذلك الموت - الذي هو اخو النوم - رحمة ونعمة عظمى للمبتلين ببلايا يائسة قد تدفعهم الى الانتحار.

اما اهل الضلال، فالموت لهم كالحياة نقمة عظمى وعذاب في عذاب، كما اثبتنا ذلك في ((كلمات)) متعددة اثباتاً قاطعاً وذلك خارج بحثنا هذا.

السؤال الثالث: اين جهنم؟

الجواب: لا يعلم الغيب الاّ الله، قال تعالى: } قل إنما العِلْمُ عندَ الله{ (الملك: 26) وقد جاء في بعض الروايات: ان جهنم تحت الارض(1). فالكرة الارضية بحركتها السنوية، تخط دائرة حول ميدان سيكون محشراً في المستقبل، كما بينا هذا في مواضع اخرى.

أما جهنم تحت الارض، فيعني: تحت مدارها السنوي، وان سبب عدم رؤيتها والاحساس بها هو لكونها ناراً بلا نور ومستورة بحجاب. ولا جرم ان في مدار جولان الارض، تلك المسافة المهولة، كثيراً جداً من المخلوقات، وهي لا تُشاهد، لفقدها النور، فكما أن القمر كلما سُحب نوره يفقد وجوده، كذلك ان كثيراً جداً من المخلوقات والاجرام لكونها معتمة لا نراها رغم انها أمام ابصارنا.

وجهنم اثنتان:

احداهما جهنم صغرى، والاخرى جهنم كبرى.

والصغرى بمثابة نواة الكبرى، اذ ستنقلب اليها في المستقبل وستكون منزلاً من منازلها.

ومعنى ان جهنم الصغرى تحت الارض، انها في مركزها، لأن تحت الكرة مركزها. ومن المعلوم في علم طبقات الارض ان الحرارة تتزايد درجة واحدة - على الاغلب - كلما حفر في الارض ثلاث وثلاثون متراً. بمعنى ان درجة الحرارة تبلغ في مركز الارض مائتى الف درجة، لان نصف قطر الارض اكثر من ستة الاف كيلو متر، اي ناره أشد من نار الدنيا بمائتي درجة، وهذا يوافق ما ورد في الحديث الشريف(1).

وقد أدت جهنم الصغرى هذه وظائف كثيرة جداً تخص جهنم الكبرى في هذه الدنيا وفي عالم البرزخ، كما اشارت اليها الاحاديث الشريفة.

أما في عالم الآخرة فستفرغ الارض أهلها وتلقي بهم في ميدان الحشر الذي هو في مدارها السنوي، كما تُسلّم ما في جوفها من جهنم صغرى الى جهنم كبرى بأمر الله جل جلاله. أما قول عدد من ائمة المعتزلة: ان جهنم سوف تخلق فيما بعد، فهو خطأ وغباء في الوقت نفسه، ناشئ من عدم انبساطها انبساطاً تاماً في الوقت الحاضر وعدم انكشافها انكشافاً تاماً بما يوافق اهل الارض. ثم ان رؤية منازل عالم الآخرة المستورة عنا بستار الغيب بابصارنا الدنيوية واراءتها الآخرين لا تحصل الاّ بتصغير الكون كله (اي الدنيا والآخرة)وجعلهما في حكم ولايتين. أو بتكبير عيوننا بحجم النجوم كي نعرف اماكنها ونعيّنها. فالمنازل التي تخص عالم الآخرة لا ترى بابصارنا الدنيوية. والعلم عند الله.

ولكن يفهم من اشارات بعض الروايات ان جهنم التي في الآخرة لها علاقة مع دنيانا، فقد ورد في شدة حرارة الصيف انها (من فيح جهنم)(1). فجهنم الكبرى اذن تلك النار الهائلة لا ترى بعين العقل الخافتة الصغيرة، ولكن نستطيع أن ننظر اليها بنور اسم الله ((الحكيم)) وذلك:

ان جهنم الكبرى الموجودة تحت المدار السنوي للارض كأنها قد وكّلت جهنم الصغرى الموجودة في مركز الارض، فتؤدي بها بعض وظائفها. وان ملك الله القدير ذي الجلال واسع جداً، فاينما وجّهت الحكمة الإلهية جهنم فهي تستقر هناك وعندها.

نعم. ان قديراً ذا جلال، وحكيماً ذا كمال، المالك لأمر ((كن فيكون)) الذي ربط القمر بالارض بحكمة كاملة وفق نظام، كما هو مشاهد، وربط الارض بالشمس بعظمة قدرته وفق نظام، وسيّر الشمس مع سياراتها بعظمة ربوبيته الجليلة، بسرعة مقاربة لسرعة الارض السنوية، يجريها الى شمس الشموس (بناءً على فرض) وجعل النجوم المتلألئة كالمصابيح، شواهد نورانية على عظمة ربوبيته، مظهراً بهذا ربوبية جليلة وعظمة قدرة قادرة، لا يستبعد عن كمال حكمة هذا القدير الجليل وعن عظمة قدرته وسلطان ربوبيته ان يجعل جهنم الكبرى في حكم خزان معمل الاضاءة، ويشعل بها نجوم السماء الناظرة الى الآخرة، ويمدّها منها بالحرارة والقوة، اي يبعث اليها النار والحرارة من جهنم، ويرسل اليها من الجنة - التي هي عالم النور - نوراً وضياءً. وفي الوقت نفسه يجعل من جهنم مسكناً لأهل العذاب وسجناً لهم.

وكذا ان الفاطر الحكيم الذي يضم شجرة عظيمة هائلة كالجبل في بذيرة صغيرة كالخردل، لا يستبعد عن قدرته وعن حكمته أن يحفظ جهنم الكبرى في بذرة جهنم الصغرى المستقرة في قلب الكرة الارضية.

نحصل من هذا:

ان الجنة وجهنم ثمرتان من غصن شجرة الخلق، قد تدلتا الى الأبد، وموضع الثمرة في منتهى الغصن.

وانهما نتيجتان لسلسلة الكائنات هذه، ومحل النتائج يكون في طرفي السلسلة، السفلية منها والثقيلة في الاسفل، والعلوية النورانية منها في الاعلى.

وانهما مخزنان لسيل الشؤون الإلهية والمحاصيل الارضية المعنوية، ومكان المخزن يكون حسب نوع المحاصيل، الفاسدة منها في اسفله، والجيدة في اعلاه.

وانهما حوضان للموجودات السيالة المتموجة والجارية نحو الابد. ومحل الحوض يكون في موضع سكون السيل وتجمعه. بمعنى أن خبثه وقذارته في الاسفل، طيباته ونقيّاته في الاعلى.

وأنهما موضعان لتجلي اللطف والقهر والرحمة والعظمة، وموضع التجلي يكون في اي موضع كان. ويفتح الرحمن الجميل والقهار الجليل موضع تجليه اينما شاء.

أما وجود الجنة وجهنم، فقد اثبت اثباتاً قاطعاً في ((الكلمة العاشرة والكلمة الثامنة والعشرين والكلمة التاسعة والعشرين)) الاّ اننا نقول هنا:

ان وجود الثمرة قطعي ويقين كقطعية ويقين وجود الغصن.. ووجود النتيجة يقين كيقين وجود السلسلة.. ووجود المخزن يقين كيقين وجود المحاصيل.. ووجود الحوض يقين كيقين وجود النهر.. ووجود موضع التجلي يقين كيقين وجود الرحمة والقهر.

السؤال الرابع:

العشق المجازي للمحبوبات يمكن ان ينقلب الى عشق حقيقي، فهل يمكن أن ينقلب العشق المجازي للدنيا الذي يحمله اكثر الناس الى العشق الحقيقي؟

الجواب: نعم، اذا شاهد ذلك العاشق المجازي لوجه الدنيا الفاني، قبحَ الزوال ودمامة الفناء على ذلك الوجه. فاعرض عنه، وبحث وتحرى عن محبوب باق لا يزول. ووفقه الله للنظر الى وجَهي الدنيا الجميلين - وهما مرآة الاسماء الحسنى ومزرعة الآخرة - انقلب حينئذٍ العشق المجازي غير المشروع الى عشق حقيقي. ولكن بشرط الاّ يلتبس عليه، دنياه الزائلة غير المستقرة المرتبطة بحياته، بالدنيا الخارجية؛ اذ لو نسي نفسه نسيان اهل الضلالة والغفلة وخاض في غمار آفاق الدنيا وظن دنياه الخاصة كالدنيا العمومية، فعشقها، فانه يقع في مستنقع الطبيعة ويغرق. الاّ من أنجته يد العناية نجاة خارقة للعادة.

فتأمل في التمثيل الآتي الذي ينور لك هذه الحقيقة:

هب اننا نحن الاربعة دخلنا في غرفة، على جدرانها الاربعة مرايا كبيرة كبر الحائط. فعندئذٍ تصبح تلك الغرفة الجميلة خمس غرف. احداها حقيقية وعمومية، والاربعة الاخرى مثالية وخصوصية. وكل منا يستطيع ان يبدّل شكل غرفته الخاصة وهيئتها ولونها بوساطة مرآته. فلو صبغناها باللون الأحمر فانها تُري الغرفة حمراء ولو صبغناها باللون الأخضر فانها تريها خضراء.. هكذا، يمكننا ان نعطي للغرفة اوضاعاً متنوعة بالتغيير في المرآة والتصرف فيها، بل نستطيع وضعها في اوضاع جميلة أو قبيحة، أو اي شكل نرغب فيه، ولكننا لا نستطيع ان نغيّر ونبدل الغرفة العمومية الخارجة عن المرآة بسهولة ويسر. فأحكام الغرفتين الخصوصية والعمومية مختلفتان، وان كانتا واحدة متحدة في الحقيقة. فأنت بتحريك أصبع يمكنك تخريب غرفتك، بينما لا يمكنك تحريك حجر من تلك الغرفة العمومية ولو قيد أنملة.

وهكذا الدنيا فهي منزل جميل مزيّن، وحياة كل منا مرآة كبيرة واسعة، ولكل منا دنياه الخاصة من هذه الدنيا العمومية. ولكل منا عالمه الخاص به، الاّ ان عمود دنيانا ومركزها وبابها، حياتنا، بل ان دنيانا وعالمنا الخاص، صحيفة، وحياتنا قلم، يكتب بوساطته كثير من الاشياء التي تنقل الى صحيفة اعمالنا. فان احببنا دنيانا، ثم شاهدنا انها زائلة فانية لا قرار لها كحياتنا - لأنها مبنية فوقها - وشعرنا بهذا الزوال، وادركناه، عندئذٍ تتحول محبتنا نحوها الى محبة نقوش الاسماء الإلهية الحسنى التي تمثلها دنيانا الخاصة، المرآة لها. ومنها تنتقل المحبة الى محبة تجليات الاسماء الحسنى.

ثم اننا اذا ادركنا ان دنيانا الخاصة مزرعة مؤقتة للآخرة والجنة، وحوّلنا احاسيسنا الشديدة ومشاعرنا القوية نحوها كالحرص والطلب والمحبة وامثالها، الى نتائج تلك المزرعة وثمراتها وسنابلها، تلك هي فوائدها الاخروية. ينقلب عندها ذلك العشق المجازي الى عشق حقيقي. وبخلاف هذا نكون ممن قال الله تعالى في حقهم } نَسوُا الله فَاَنْساهم اَنْفُسَهُمْ اُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ{ (الحشر: 19). فالذي ينسى نفسه ويغفل عنها، ولم يفكر بزوال حياته، وحسَِبَ دنياه الخاصة الفانية ثابتة كالدنيا العمومية،ناسياً زوال الحياة، عاداًّ نفسه خالداً فيها فسكن اليها وتمسك بها بجميع حواسه ومشاعره يغرق فيها وينتهي أمره. فتكون تلك المحبة وبالاً عليه وعذاباً أليما، لأنها تولد شفقة ورقّة قلب يائس يأس اليتيم، فيقاسي الألم من احوال ذوي الحياة حتى يستشعر الم الرقة والفراق مما يصيب المخلوقات الجميلة المعرضة لصفعات الزوال والفراق، ويجد نفسه مكتوف الايدي ازاءها فيتجرع الألم في يأس مرير.

أما الشخص الأول الذي نجى من شِباك الغفلة، فانه يجد بلسماً شافياً ازاء شدة الم الشفقة تلك، اذ يشاهد في موت ذوي الحياة وفي زوال مَن يتألم لأوضاعهم، بقاء مرايا ارواحهم التي تمثل تجليات دائمة لأسماء دائمة لذات جليلة باقية خالدة. وعندئذٍ تنقلب شفقته الى سرور دائم، ويشاهد وراء جميع المخلوقات الجميلة المعرّضة للفناء والزوال، نقشاً واتقاناً وتجميلاً وتزييناً واحساناً وتنويراًً دائمياًً، يُشعره بجمال منزه وحسن مقدس، حتى يرى ذلك الزوال والفناء نمطاً لتزييد الحسن وتجديد اللذة وتشهير الصنعة، مما يزيد لذته وشوقه واعجابه.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالقادر حمود 02-03-2011 01:47 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثاني

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ{

(قطعة من الجواب الذي بعثه الى تلميذه المذكور المعلوم لما أرسل من هدية(1))

ثالثاً: لقد أرسلت اليّ هدية، تريد ان تغيّر بها قاعدة في غاية الأهمية من قواعد حياتي.

انني يا أخي لا أقول: ((لا أقبل هديتك مثلما لا أقبلها من شقيقي (عبد المجيد)(2) وابن اخي (عبد الرحمن)(3). فانك أسبق منهما وأقرب الى روحي، لذلك؛ فلو تُردّ هدية كل شخص، فهديتك لاتُردّ، على ان تكون لمرة واحدة فقط.

وأبين بهذه المناسبة سرّ قاعدتي تلك بالآتي:

كان (سعيد القديم) لا يتحمل أذى المنّ من أحد، بل كان يفضّل الموت على ان يظل تحت ثقل المنة. ولم يخالف قاعدته، رغم مقاساته المشقات والعناء. فهذه الخصلة الموروثة من (سعيد القديم) الى اخيك العاجز هذا، ليست تزهّداً ولا استغناءً مصطنعاً عن الناس، بل ترتكز على بضعة اسباب واضحة:

الاول:

ان أهل الضلال يتهمون العلماء باتخاذهم العلم مغنماً. فيهاجموهم ظلماً وعدواناً بقولهم: ((انهم يجعلون العلم والدين وسيلة لكسب معيشتهم)) فيجب تكذيب هؤلاء تكذيباً فعلياً.

الثاني:

نحن مكلّفون باتباع الانبياء - عليهم السلام - في نشر الحق وتبليغه، وان القرآن الكريم يذكر الذين نشروا الحق انهم اظهروا الاستغناء عن الناس بقولهم: } إن أجريَ الاّ على الله{ } ان اجريَ الاّ على الله{ . وان الآية الكريمة: } اتّبعوا مَن لا يسئَلُكُم اجراً وهم مُهتدون{ في سورة يس، تفيد معاني جمّة، ومغزى عميقاً، فيما تخص مسألتنا هذه.

الثالث:

لقد بُيّن في ((الكلمة الاولى)): ((يلزم الاعطاء باسم الله، والأخذ باسم الله)). ولكن الذي يحدث غالباً هو ان المعطي، غافل، فيعطي باسم نفسه، فيتمنّن ضمناً، او ان الآخذ غافل يُسنِد الشكر والثناء الخاص بالمنعم الحقيقي الى الاسباب الظاهرية فيخطئ.

الرابع:

ان التوكل والقناعة والاقتصاد خزينة عظيمة، وكنز ثمين لايعوضان بشئ. لاأريد ان اسد ابواب تلك الخزائن والكنوز التي لا تنفد بأخذ المال من الناس. فشكراً للرزاق ذي الجلال بآلاف المرات انه لم يُلجئني منذ طفولتي الى البقاء تحت منّة احدٍ من الناس. فأرجو من رحمته تعالى معتمداً على كرمهِ ان يُمضي بقية عمري ايضاً بتلك القاعدة.

الخامس:

لقد اقتنعت قناعة تامة منذ حوالي سنتين بامارات وتجارب كثيرة؛ انني لست مأذوناً بقبول أموال الناس ولا سيما هدايا الميسورين والموظفين، اذ أتأذى بقسمٍ منها، بل يُدفع به الى الأذى ليُحول دون أكلها، وأحياناً يُحوَّل الى صورة تضرني. فهذه الحالة اذن أمرٌمعنوي بعدم اخذ اموال الناس ونهىٌ عن قبولها.

وكذا، فان فيّ استيحاشاً من الناس، لا أستطيع قبول زيارة كل شخص في كل حين، فقبول هدايا الناس، يلزمني قبولي زيارتهم في وقت لا أريدها اخذاً بمراعاة شعورهم. وهذا ما لا أحبّذه.

انني افضّل ان آكل كسرة خبزٍ يابس، وان ألبس ثوباً فيه مائة رقعة ورقعة ينقذني من التصنع والتملق، على ان آكل اطيب حلوى الآخرين، وألبس افخر ملابسهم واضطر الى مراعاة مشاعرهم وهذا ما اكرهه.

السادس:

ان السبب المهم للاستغناء عن الناس هو ما يقوله ابن حجر(1) الموثوق حسب مذهبنا (الشافعي):يحرم قبول ما يوهب لك بنية الصلاح، ان لم تكن صالحاً(2).

نعم ان انسان هذا العصر يبيع هديته البخسة بثمن باهظ، لحرصه وطمعه، فيتصور شخصاً مذنباً عاجزاً مثلي ولياً صالحاً، ثم يعطيني رغيفاً هديةً. فاذا اعتقدت انني صالح - حاشلله - فهذا علامة الغرور، ودليل على عدم الصلاح. وان لم اعتقد صلاحي، فقبول ذلك المال غير جائز لي.

وايضاً ان أخذ الصدقة والهدية مقابل الاعمال المتوجهة للاخرة يعني قطف ثمرات خالدة للآخرة، بصورة فانية في الدنيا.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:51 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثالث

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يـُسَبـِّحُ بـِحَمْدِه{

(قسم من الرسالة التي بعثها الى طالبه المعروف)

خامساً: كنتَ قد كتبتَ في احدى رسائلك، رغبتك في أن تشاركني ما تجيش به مشاعري واحاسيسي هنا. فاستمع اذاً الى واحدةٍ من الفٍ منها، وهو:

في احدى الليالي، كنت على ارتفاع عظيم، في وكر منصوب على قمة شجرة ((القطران)) المرتفعة على قمة من قمم جبل ((ضام)). نظرت مِن هناك الى وجه السماء الأنيس الجميل المظيـّن بمصابيح النجوم، فرأيت أن في القَسم الوارد في الآية الكريمة: } فلا اُقسِمُ بالخنـّسِ ` الجَوار الكـُنـّسِ{ (التكوير:15-16) نوراً سامياً من انوار الاعجاز، وشاهدت فيه سراً بليغاً لامعاً من اسرار البلاغة.

نعم! ان هذه الآية الكريمة تشير الى النجوم السيارة والى استتارتها وانتشارها. فتعرض الآية أمام نظر المشاهد نقشاً بديعاً متقن الصنع في وجه السماء، وترسم لوحة رائعة تلقن العبرة والدرس.

نعم! هذه السيارات ما ان تخرج من دائرة قائدها الشمس وتدخل في دائرة النجوم الثابتة الاّ وتعرض في وجه السماء روائع النقش المتجدد، وبدائع الاتقان تتجدد حيناً بعد حين.. فقد تتكاتف احداها مع مثيلتها، وتـُظهران معاً آية باهرة في الجمال.. وقد تدخل احداها بين صغيرات النجوم فتقودها قيادة الكبيرة للصغيرات.. ولا سيما نجم الزُهـَرة اللامعة في الأفق، بعد الغروب في هذا الموسم خاصة ومثيلتها تسطع قبل الفجر.. فياله من جمال زاهر يضفيانه على الافق!.

ثم بعد انها كل نجم وظيفته، واشرافه على الاُخريات، وايفاء خدماته كالمكوك في نسج نقوش الصنعة البديعة، يرجع الى دائرة سلطانه المهيبة، الشمس، فيتسربل بالنور، ويتستر، ويختفي عن الانظار.

فهذه السيارات التي عبـّر عنها القرآن الكريم بـ((الخنـّس)) ((الكنـّس)) يجريها سبحانه وتعالى مع ارضنا هذه جريان سفينة تمخر عباب الكون، ويسيـّرها طيران الطير في فضاء العالم، ويسيح بها سياحة طويلة، في انتظام كامل.دالاً بها على عظمة ربوبيته وابـّهة الوهيته جل جلاله، كالشمس في وضع النهار.

فيا لأبـّهة مليك مقتدر، من بين سفائنه وطائراته ما هو اكبر جسامة من الارض ألف مرة، وتقطع مسافة ثماني ساعات في ثانية واحدة! قس بنفسك مدى السعادة السامية، ومدى الشرف العظيم في العبودية لهذا المليك الجليل، والانتساب اليه بالايمان، والضيافة على مائدة اكرامه وافضاله.

ثم نظرت الى القمر، ورأيت أن الآية الكريمة } والقمرَ قدّرناهُ منازلَ حتى عادَ كالعـُرجون القديم{ (يس:39) تعبـّر عن نور مشرق من الاعجاز.

نعم! ان تقدير القمر تقديراً دقيقاً جداً، وتدويره حول الارض وتدبيره وتنويره، واعطاءه اوضاعاً ازاء الارض والشمس، محسوبة بحساب في منتهى الدقة والعناية، تتحير منه العقول، يرشد كل ذي شعور يشاهد هذه الدقة في التقدير ان يقول: ان القدير الذي ينظم هذه الامور على هذه الشاكلة الخارقة ويقـدّرها تقديراً دقيقاً، لا يصعب عليه شيء، مما يوحى: ان الذي يفعل هذا قادر على كل شيء.

ثم ان القمر يعقب الشمس، هذا التعقيب مقدر حسابه، لا يخطىء حتى في ثانية واحدة، ولا يتباطأ عن عمله قيد انملة، مما يدفع كل متأمل فيه الى القول: سبحان من تحيـّر في صنعه العقول. اذ يأخذ القمر شكل هلال رقيق ولاسيما نهاية شهر آيار – مثلما يحدث في احيان اخرى – ويتخذ شكل عرجون قديم اثناء دخوله منزل الثريا. حتى لكأن الثريا عنقود يتدلى بهذا العرجون القديم، من وراء ستار الخضراء(1) القاتمة مما يوحى للخيال وجود شجرة عظيمة نورانية وكأن غصناً دقيقاً من تلك الشجرة قد خرق ذلك الستار واخرج نهايته مع عنقود هناك، وصار الثريا والهلال.

هذا اللوحة الرائعة تلقي الى الخيال: ان النجوم الاخرى ثمرات تلك الشجرة الغيبية. فشاهد لطافة الآية الكريمة } كالعـُرجون القديم{ وذق حلاوة بلاغتها.

ثم خطرت بالبال الآية الكريمة } هـُوَ الـَّذي جـَعَلَ لكْم الارضَ ذَلولاً فامْشوا في مـَناكِبها { (الملك:15) التي تشير الى ان الارض سفينة مسخـّرة ودابة مأمورة: من هذه الاشَارة رأيت نفسي في موقع رفيع من تلك السفينة العظيمة السائرة سريعاً في فضاء الكون، فقرأت: } سبحان الـَّذي سَخـّر لنا هذا وما كـُنـّا له مـُقْرنين{ (الزخرف:13) التي تـُسنّ قراءتها حين ركوب الدابة من فرس وسفينة وغيرهما(2).

وكذا رأيت أن الكرة الارضية، قد أخذت بهذه الحركة طور ماكينة السينما التي تبين المشاهد وتعرضها، فحرّكتْ ما في السموات من نجوم، وبدأت تسوقها سوقالجيش، عارضة مناظر جذابة ومشاهد لطيفة توقع أهل الفكر والعقل في حيرة واعجاب، وتجعلهم في نشوة من مشاهدتها. فقلت: سبحان الله… ما أقل هذه التكاليف التي تؤدي بها هذه الاعمال العظام العجيبة الغريبة والراقية الرفيعة؟

ومن هذه النقطة خطرت بالبال نكتتان ايمانيتان:

اولاها: قبل بضعة ايام سألني أحد ضيوفي سؤالاً، اساس سؤاله المنطوي على شبهة هو: ان الجنة وجهنم بعيدتان جداً، هب ان اهل الجنة يمرون ويطيرون كالبرق والبراق من المحشر ويدخلون الجنة بلطف إلهي. ولكن كيف يذهب اهل جهنم الى جهنم وهم يزرحون تحت اثقال اجساهدهم واحمال ذنوبهم الجسيمة؟ وبأية وساطة يذهبون اليها؟

والذي ورد بالبال هو: لو دُعيت الامم جميعاً الى مؤتمر عام يعقد في امريكا مثلاً. فان كل امة تركب سفينتها الكبيرة وتذهب الى هناك. وكذلك سفينة الارض التي اعتادت السياحة الطويلة في بحر محيط الكون، والتي تقطع في سنة واحدة مسافة تبلغ خمساً وعشرين الف سنة، هذه الارض تأخذ أهليها وتحملهم الى ميدان الحشر وتفرغهم هناك. وكذا تفرغ نار جهنم الصغرى الموجودة في جوفها، والتي تبلغ درجة حرارتها مائتي الف درجة – الموافقة لما جاء في الحديث الشريف – بدلالة تزايد الحرارة كل ثلاث وثلاثين متراً، درجة واحدة. والتي تؤدي بعض وظائف جهنم الكبرى في الدنيا والبرزخ - حسب رواية الحديث - وتفرغها في ميدان الحشر. ثم تتبدل الارض بأمر الله الى ارض باقية جميلة غيرها، وتصبح منزلاً من منازل عالم الآخرة.

النكتة الثانية التي وردت بالبال:

ان الصانع القدير، الفاطر الحكيم، الواحد الأحد، قد سنّ سنة، واجرى عادة وهي اداء اعمال كثيرة جداً بشئ قليل جداً، وانجاز وظائف جليلة جداً بشئ يسيرجداً، اظهاراً لكمال قدرته وجمال حكمته ودليلاً على وحدانيته جل جلاله.

ولقد ذكرت في بعض ((الكلمات)) أنه:

اذا اُسندت الاشياء كلها الى واحد أحد، تحصل سهولة ويسر بدرجة الوجوب، وإن اُسندت الى اسباب عدة وصنّاع كثيرين تظهر مشاكل وعوائق وصعوبات بدرجة الامتناع. لأن شخصاً واحداً، وليكن ضابطاً أو بنّاءً، يحصل على النتيجة التي يريدها، ويعطى الوضع المطلوب، لكثرة من الجنود، او كثرة من الاحجار ولوازم البناء، بحركة واحدة وبسهولة تامة، بحيث لو احيل ذلك الأمر الى افراد الجيش أو الى احجار البناء لتعسّر استحصال تلك النتائج بل لا يمكن قطعاً الاّ بصعوبة عظيمة.

فما يشاهد في هذه الكائنات من افعال السير والجولان والانجذاب والدوران ومن المناظر اللطيفة والمشاهد المعبّرة عن التسبيح، ولا سيما في الفصول الاربعة وفي اختلاف الليل والنهار.. اقول لو اسندت هذه الافعال الى الوحدانية فان واحداً أحداً بأمر واحد منه الى كرة واحدة بالحركة يستحصل على اوضاع رفيعة ونتائج ثمينة كاظهار عجائب الصنعة في تبدل المواسم وغرائب الحكمة في اختلاف الليل والنهار، ولوحات راقية في حركة النجوم والشمس والقمرالظاهرية وامثالها من الافعال، تحصل كلها لأن الموجودات كلها جنوده، فيعين جندياً بسيطاً كالارض حسب ارادته ويجعله قائداً على النجوم، ويجعل الشمس الضخمة سراجاً لإعطاء اهل الارض الحرارة والنور، ويجعل الفصول الاربعة - التي هي الواح نقوش القدرة الإلهية - مكوكاً، والليل والنهار اللذين هما صحيفة كتابة الحكمة الربانية نابضاً، ويقدّر القمر منازل لمعرفة المواقيت، ويجعل النجوم على هيئة مصابيح مضيئة لطيفة متلألئة بايدي الملائكة المنجذبين بنشوة السرور والفرح.. هكذا يُظهر حِكَماً كثيرة تخص الارض بمثل هذه الاوضاع الجميلة.

فهذه الاوضاع ان لم تطلب من ذاتٍ جليلة ينفذ حكمه في الموجودات كلها ويتوجه اليها كلها بنظامه وقانونه وتدبيره، يلزم اذاً ان تقطع الشموس والنجوم كلها مسافات لاحدّ لها في كل يوم بحركة حقيقية، وبسرعة لا حدّ لها!.

وهكذا ففي الوحدانية سهولة بلا نهاية كما ان في الكثرة صعوبة بلا نهاية. ولأجل هذا يعطي ذوو المهن والتجارة وحدةً للكثرة، اي يشكلون شركات فيما بينهم تسهيلاً للامور وتيسيراً لها.

حاصل الكلام: ان في طريق الضلال مشكلات لا نهاية لها، وفي طريق الوحدانية والهداية سهولة لا نهاية لها.





الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:52 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الرابع

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

سلام الله ورحمته وبركاته عليكم وعلى اخوانكم لا سيما.... الخ

اخوتي الاعزاء!

انا الآن في موضع، على ذروة شجرة صنوبر ضخمة عظيمة، منتصبة على قمة شاهقة من قمم جبل ((ضام)) . لقد استوحشتُ من الإنس واستأنست بالوحوش.. وحينما ارغب في المحاورة والمجالسة مع الناس اتصوركم بقربي خيالاً، واجاذبكم الحديث وأجد السلوان بكم. وانا على رغبة في أن اظل هنا وحيداً مدة شهر او شهرين، ان لم يحدث ما يمنع، وإن رجعت الى ((بارلا)) نتحرى معاً حسب رغبتكم عن وسيلة لمجالسة ومحاورة بيننا. فقد اشتقتُ اليها اكثر منكم.

والآن اكتب اليكم ما ورد بالبال من خواطر على شجرة الصنوبر هذه:

اولاها: خاطرة فيها شئ من الخصوصية، فهي من اسراري، ولكن لا يُكتم عنكم السر، وهو:

ان قسماً من اهل الحقيقة يحظون باسم الله ((الودود)) من الاسماء الحسنى، وينظرون الى واجب الوجود من خلال نوافذ الموجودات بتجليات المرتبة العظمى لذلك الاسم. كذلك اخوكم هذا الذي لا يعدّ شيئاً يذكر، وهو لا شئ، قد وُهب له وضع يجعله يحظى باسم الله ((الرحيم)) واسم الله ((الحكيم)) من الاسماء الحسنى، وذلك اثناء ما يكون مستخدماً لخدمة القرآن فحسب، وحينما يكون منادياً لتلك الخزينة العظمى التي لا تنتهي عجائبها.

فجميع ((الكلمات)) انما هي جلوات تلك الحظوة. نرجو من الله تعالى ان تكون نائلة لمضمون الآية الكريمة } ومَن يؤتَ الحِكمةَ فقد اُوتيَ خيراً كثيراً{ (البقرة:269).

ثانيتها: لقد وردت هذه الفقرة الرقيقة فجأة بالبال، وهي: ان ما يقال في الطريقة النقشبندية:

((در طريق نقشبندى لازم آمد جار ترك:

ترك دنيا، ترك عقبى، ترك هستى، ترك ترك))(1).

ووردت هذه الفقرة الاتية عقب الفقرة السابقة مباشرة وهي:

((در طريق عجز مندى لازم آمد جار جيز

فقر مطلق عجز مطلق شكر مطلق شوق مطلق اي عزيز))(2).

ثم خطر بالبال ما كتبتَـه انت: ((انظر الى الصحيفة المتلونة الزاهية لكتاب الكون… الخ)) ذلك الشعر الغني بالمعاني والزاهي بألوان الوصف.

نظرت الى النجوم المتدلية في سقف السماء، من خلال ذلك الشعر. وقلت: ليتني كنت شاعراً، فاتم هذا الشعر. ومع انني لا املك موهبة في الشعر والنظم، الاّ انني شرعت به، ولكن لم استطع ان انظمه شعراً فكتبته كما ورد في القلب. فان شئت حوّله نظماً يا من انت وارثي.

والخاطرة التي وردت دفعة هي:

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره مكتوب الحكمة النيّر على الوجود.

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة(1).

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علـّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

فنحن لأهل السموات مساجدٌ سيارة ومساكنٌ دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيرة، ولا يسمع اقوالنا البينة، فنحن آيات ناطقة بالحق.

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:52 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الخامس

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ{

لقد قال رائد السلسلة النقشبندية وشمسها الامام الرباني رضي الله عنه(1) في مؤلفه ((مكتوبات)):

((انني ارجّح وضوح مسألة من الحقائق الايمانية وانكشافها على آلاف من الاذواق والمواجيد والكرامات))(2).

وقال ايضاً: ((ان منتهى الطرق الصوفية كافة هو وضوح الحقائق الايمانية وانجلاؤها))(3).

وقال كذلك: ((ان الولاية ثلاثة اقسام: الولاية الصغرى: وهي الولاية المشهورة. وقسم ثان: هو الولاية الوسطى. وقسم ثالث: هو الولاية الكبرى. هذه الولاية الكبرى هو فتح الطريق الى الحقيقة مباشرة دون الدخول في برزخ التصوف وذلك بوساطة وراثة النبوة))(1).

وقال ايضاً: ((ان السلوك في الطريقة النقشبندية يسير على جناحين، اي الاعتقاد الصحيح بالحقائق الايمانية، والعمل التام بالفرائض الدينية. فاذا ما حدث خلل وقصور في اي من هذين الجناحين يتعذر السير في ذلك الطريق))(2).

بمعنى ان الطريقة النقشبندية لها ثلاثة مشاهد:

اولها وأسبقها واعظمها: هو خدمة الحقائق الايمانية خدمة مباشرة ، تلك الخدمة التي سلكها الامام الرباني في اخريات ايامه.

الثاني: خدمة الفرائض الدينية والسنة النبوية تحت ستار الطريقة.

الثالث: السعي لإزالة الامراض القلبية عن طريق التصوف والسير بخطى القلب.

فالاول من هذه الطرق هو بحكم الفرض، والثاني بحكم الواجب، والثالث بحكم السنة.

فما دامت الحقيقة هكذا: فاني أخال أن لو كان الشيخ عبد القادر الكيلاني(3) والشاه النقشبند(4) والامام الرباني وأمثالهم من اقطاب الايمان رضوان آ عليهم اجمعين في عصرنا هذا، لبذلوا كل ما في وسعهم لتقوية الحقائق الايمانية والعقائد الاسلامية، ذلك لانهما منشأ السعادة الابدية، وان اي تقصير فيهما يعني الشقاء الابدي.

نعم، لا يمكن دخول الجنة من دون ايمان، بينما يدخلها الكثيرون جداً دون تصوف. فالانسان لا يمكن ان يعيش دون خبز، بينما يمكنه العيش دون فاكهة. فالتصوف فاكهة والحقائق الاسلامية خبز.

وفيما مضى كان الصعود الى بعض من حقائق الايمان يستغرق اربعين يوماً، بالسير والسلوك، وقد يطول الى اربعين سنة، ولو هيأت الرحمة الإلهية في الوقت الحاضر طريقا للصعود الى تلك الحقائق لا يستغرق اربعين دقيقة! فليس من العقل أن لا يبالى بهذا الطريق؟!

فالذين قرأوا بانعام ثلاثاً وثلاثين رسالة من ((الكلمات)) يقرون بأن تلك ((الكلمات)) قد فتحت امامهم طريقاً قرآنياً قصيراً كهذا.

فما دامت الحقيقة هكذا. فاني اعتقد:

ان ((الكلمات)) التي كُتبت لبيان اسرار القرآن هي انجع دواء لأمراض هذا العصر وأفضل مرهم يمرر على جروحه، وانفع نور يبدد هجمات خيول الظلام الحالك على المجتمع الاسلامي، وأصدق مرشد ودليل لاولئك الحيارى الهائمين في وديان الضلالة.

فيا أخي! انك تعلم جيداً أن الضلالة إن كانت ناجمة من الجهل فازالتها يسير وسهل. ولكن ان كانت ناشئة من العلم فازالتها عسير ومعضل. وقد كان هذا القسم الأخير نادراً فيما مضى من الزمان، وربما لا تجد من الألف الا واحداً يضل باسم العلم. واذا ما وجد ضالون من هذا النوع ربما يسترشد منهم واحد من الألف. ذلك لأن امثال هؤلاء يعجبون بأنفسهم، فمع انهم يجهلون يعتقدون أنهم يعلمون.

واني اعتقد ان الله سبحانه وتعالى قد منح ((الكلمات)) المعروفة، التي هي لمعات معنوية من اعجاز القرآن الكريم خاصية الدواء الشافي والترياق المضاد لسموم زندقة هذه الضلالة في هذا العصر.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:53 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب السادس

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

سلام الله ورحمته وبركاته عليكما وعلى اخوانكما ما دام الملوان(1) وتعاقب العصران وما دام القمران(2) واستقبل الفرقدان(3).

اخويّ الغيورين، زميلَيّ الشهمين، يا مبعثيّ سلواني في دار الغربة، الدنيا..

لما كان المولى الكريم سبحانه وتعالى قد جعلكما مشاركين لي في المعاني التي أنعمها على فكري، فمن حقكما اذاً مشاركتي في مشاعري وأحاسيسي.

سأحكى لكما بعضاً مما كنت اقاسيه من ألم الفراق في غربتي هذه، طاوياً ما هو اكثر ايلاماً منه لئلا اجعلكما تتألمان كثيراً.

لقد بقيت منذ شهرين او ثلاثة وحيداً فريداً، وربما يأتيني ضيف في كل عشرين يوماً او ما يقرب من ذلك، فأظل وحيداً في سائر الاوقات. ومنذ ما يقرب من عشرين يوماً ليس حولي احد من اهل الجبل، فلقد تفرقوا.

ففي هذه الجبال الموحية بالغربة، وعندما يرخى الليل سدوله، فلا صوت ولا صدى، الاّ حفيف الاشجار الحزين.. رأيتني وقد غمرتني خمسة ألوان من الغربة.

اولها: اني بقيت وحيداً غريباً عن جميع أقراني واحبابي واقاربي، بما اخذت الشيخوخة مني مأخذاً، فشعرت بغربة حزينة من جراء تركهم لى ورحيلهم الى عالم البرزخ.

ومن هذه الغربة انفتحت دائرة غربة اخرى، وهي انني شعرت بغربة مشوبة بألم الفراق حيث تركتني اكثر الموجودات التي اتعلق بها كالربيع الماضي.

ومن خلال هذه الغربة انفتحت دائرة غربة اخرى، وهي الغربة عن موطني واقاربي، فشعرت بغربة مفعمة بألم الفراق، اذ بقيت وحيداً بعيداً عنهم.

ومن خلال هذه الغربة ألقت عليّ اوضاع الليل البهيم والجبال الشاخصة امامي، غربة فيها من الحزن المشوب بالعطف ما اشعرني ان ميدان غربة اخرى انفتحت امام روحي المشرفة على الرحيل عن هذا المضيف الفاني متوجهة نحو أبد الأباد، فضمتنى غربة غير معتادة، واخذني التفكير، فقلت فجأة: سبحان الله! وفكرت كيف يمكن ان تقاوم كل هذه الظلمات المتراكبة وانواع الغربة المتداخلة!.

فاستغاث قلبي قائلاً:

يا رب! انا غريب وحيد، ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي.

فأقول: الغوث الغوث. ارجو العفو، واستمد القوة من بابك يا إلهي!.

واذا بنور الايمان وفيض القرآن ولطف الرحمن يمدّنى من القوة ما يحول تلك الانواع الخمسة من الغربة المظلمة، الى خمس دوائر نورانية من دوائر الانس والسرور. فبدأ لساني يردد: } حسبنا الله ونعم الوكيل{ (آل عمران: 173) وتلا قلبي الآية الكريمة: } فان تولّوا فقل حَسبيَ الله لاّ إله الا هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم{ (التوبة:129).

وخاطب عقلي كذلك نفسي القلقة المضطربة المستغيثة قائلاً:

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.

انما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، واثام في اثام في بلاء.

اذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء، ووفاء في بلاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر كالبلابل؛ فالازهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في بلاء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وانت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.

وقلت كما قال أحد اساتذتي مولانا جلال الدين الرومي(1) مخاطباً نفسه:

او كفت : ((ألستُ)) وتوكفتى: ((بلى))

شكر ((بلى)) جيست؟ كشيدن بلا

سرّ بلا جيست كة يعنى منم

حلقة زنِ دركهِ فقر و فنا(2)

((أتدري ما سر البلاء؟.. انه طرقُ باب الفقر والاستغناء عن الناس)).

وحينئذٍ قالت نفسي: أجل! أجل!. ان الظلمات لتتبدد وباب النور لينفتح بالعجز والتوكل والفقر والالتجاء . فالحمد لله على نور الايمان والاسلام.

وقد رأيت هذه الفقرة من ((الحكم العطائية)) المشهورة تنطوي على حقيقة جليلة وهي قوله:

ماذا وجَدَ من فقده وماذا فقد مَن وجده؟(3)

اي: ان الذي وجده فقد وجد كل شئ، ومن فقده لا يجد شيئاً سوى البلاء.

وفهمت سراً من اسرار الحديث الشريف ((... طوبى للغرباء...))(1) فشكرت الله.

فيا اخويّ!

ان ظلمات انواع الغربة هذه، وان تبددت بنور الايمان، الاّ انها تركت فيّ شيئاً من بصمات احكامها، واوحت بهذه الفكرة:

ما دمت غريباً واعيش في الغربة وراحلاً الى الغربة، فهل انتهت مهمتي في هذا المضيف، كي اوكلكم و((الكلمات)) عني. واقطع حبال العلاقات عن الدنيا قطعاً كلياً؟

وحيث أن هذه الفكرة وردت على البال بهذه الصورة، فكنت اسألكم:

هل ((الكلمات)) المؤلفة كافية؟ وهل فيها نقص؟ واعني بهذا السؤال: هل انتهت مهمتى كي أنسى الدنيا واُلقي بنفسي في احضان غربة نورانية لذيذة حقيقية باطمئنان قلب واقول كما قال مولانا جلال الدين:

دانى سماع جة بود؟ بى خود شدن ز هستى

أندر فناى مطلق ذوق بقا جشيدن (2)

ليت شعري هل لي أن ابحث عن غربة رفيعة سامية!.

ولأجل هذا كنت اجابهكم بتلك الأسئلة.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:54 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب السابع

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.

اخوتي الاعزاء!

لقد ابلغتم الحافظ توفيق الشامي(1) ليقول لي مسألتين هما:

اولاً: ان اهل الضلالة الحاليين، يجدون في زواج الرسول e بزينب موضع نقد واعتراض، كما كان دأب المنافقين في سالف الزمان. اذ يعدونه زواجاً مبنياً على الشهوة ودوافع نفسانية!

الجواب: حاش لله وكلا! ألف ألف مرة كلا! ان يد الشبهات السافلة احط من أن تبلغ طرفاً من ذلك المقام الرفيع السامي.

نعم! ان من كان مالكاً لذرة من الانصاف يعلم انه e من الخامسة عشرة الى الاربعين من عمره - تلك الفترة التي تغلي فيها الحرارة الغريزية وتلتهب الهوسات النفسانية - قد التزم بالعصمة التامة والعفة الكاملة، بشهادة الاعداء والاصدقاء، واكتفى بزوجة واحدة شبه عجوز، وهي خديجة الكبرى رضى الله عنها. فلابد ان كثرة زواج هذا الكريم العفيف صلى الله عليه وسلم بعد الاربعين - اي في فترة توقف الحرارة الغريزية وسكون الهوسات - ليست نفسانية بالضرورة والبداهة، وانما هي مبنية على حِكم مهمة، احداها هي:

ان اقوال الرسول e وافعاله واحواله واطواره وحركاته وسكناته، هي منبع الدين ومصدر الاحكام والشريعة.

ولقد روى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هذه الاحكام وحملوا مهمة تبليغ ما ظهر لهم من حياته صلى الله عليه وسلم. أما أسرار الدين واحكام الشريعة النابعة من احواله المخفية عنهم، في نطاق اموره الشخصية الخاصة به، فان رواتها وحامليها هي زوجاته الطاهرات، فقد أدَّيْنَ هذه المهمة على وجهها حق الأداء. بل ان ما يقرب من نصف احكام الدين واسراره يأتي عن طريقهن.

بمعنى ان هذه الوظيفة الجليلة يلزم لها زوجات كثيرات، وذوات مشارب مختلفة كذلك.

أما زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب، فقد ذكر في الشعاع الثالث من الشعلة الاولى من الكلمة الخامسة والعشرين، فيما يخص الآية الكريمة } ما كان محمدٌ أبا أحدٍ منْ رجالِكم ولكن رسولَ الله وخاتمَ النبيين{ (الاحزاب:40)، ان الآية الواحدة تفيد معاني عديدة، بوجوه عديدة، حسب فهم طبقات الناس.

فحصة طبقة من الناس من فهم هذه الآية الكريمة:

أن زيداً رضى الله عنه الذي كان مولى رسول الله e ، ويحظى بخطابه له: يا بني! لم يجد نفسه كفواً لزوجته العزيزة النفس فطلقها لذلك، كما وردت الروايات الصحيحة، وبناء على اعترافه بنفسه. اي أن زينب رضى الله عنها، قد خُلقت على مستوى آخر من الاخلاق العالية، فشعر بها زيد بفراسته بأنها على فطرة سامية تليق ان تكون زوجة نبي. حيث وجد نفسه غير كفوءة لها فطرة، مما سبب عدم الامتزاج النفسي والانسجام الروحي بينهما، فطلقها، وتزوجها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأمر إلهي.

فالآية الكريمة } زوجناكها{ (الاحزاب: 37) تدل باشارتها على أن ذلك النكاح قد عقد بعقد سماوي، فهو عقد خارق للعادة، وفوق العرف والمعاملات الظاهرية، اذ هو عقدٌ عُقد بحكم القدر الإلهي المحض، حتى انقاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لذلك الحكم مضطراً وما كان ذلك برغبة من نفسه.

وهذا الحكم القدري يتضمن حكماً شرعياً مهماً وحكمة عامة ومصلحة شاملة.

فبأشارة الآية الكريمة } لكي لا يكون على المؤمنين حَرجٌ في أزواجِ أدعيائهم{ (الاحزاب:37). ان خطاب الكبار للصغار بـ : يا بني! ليس حراماً، اذ لا يغير الاحكام كقول المظاهر لزوجته (اي قوله أنت عليّ كظهر أمي).

وكذا فان الانبياء والكبار لدى خطابهم لأمتهم ولرعاياهم، ولدى نظرهم اليهم، نظر الابوة، انما هو باعتبار مهمة الرسالة وليست باعتبار الشخصية الانسانية حتى يحرم الزواج منهم.

وطبقة ثانية من الناس يفهمون هكذا:

ان سيداً عظيماً وآمراً حاكماً ينظر الى رعاياه نظر الابوة. اي يشفق عليهم شفقة الوالد. فان كان ذلك الآمر سلطاناً روحانياً، ظاهراً وباطناً، فرحمته تزداد حينئذ عن شفقة الاب أضعافاً مضاعفة. والافراد بدورهم ينظرون اليه نظر الوالد، كأنهم أولاد حقيقيون له، وحيث أن نظر الأبوة من الصعوبة انقلابه الى نظر الزوج، ونظر البنت ايضاً لا يتحول بسهولة الى نظر الزوجة، لذلك وجد العامة حرجاً في تزوج النبي e ببنات المؤمنين، والقرآن الكريم يصحح مفاهيمهم قائلاً:

ان النبي يشفق عليكم ويعاملكم معاملة الاب، وينظر اليكم باسم الرحمة الإلهية، فانتم كالابناء بالنسبة للرسالة التي يحملها. ولكن ليس هو اباكم باعتبار الشخصية الانسانية، لكي يقع الحرج في الأمر، أمر الزواج. وحتى لو خاطبكم بيا أبنائي وأولادي فانتم لستم اولاده وفق الاحكام الشرعية، فلا تكونون اولاده فعلاً.



الباقي هو الباقي





سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:54 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب الثامن

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

ان لدخول اسمَي ((الرحمن الرحيم)) في البسملة وذكرهما في بدء كل امر ذي بال، حِكَماً كثيرة. أعلق بيان تلك الحكم على مشيئة الله الى وقت آخر، ذاكراً هنا شعوراً خاصاً بي.

اخي!

اني ارى اسمي ((الرحمن الرحيم)) نوراً عظيماً الى حد كبير، بحيث يحيط ذلك النور بالكون كله، وارى فيهما من القوة والسطوع لكل روح، بحيث يحققان لها جميع حاجاتها الابدية، وينجيانها من اعدائها التي لا تحد.

فلقد وجدت أن أهم وسيلة للوصول الى هذين النورين العظيمين تكمن في ((الفقر مع الشكر)) و((العجز مع الشفقة)) أي بتعبير آخر: العبودية والافتقار.

ولمناسبة هذه المسألة اقول، ولكن مخالفاً لأقوال العلماء المحققين، بل حتى مخالفاً لاستاذي الامام الرباني:

ان المشاعر والاحاسيس الشديدة الساطعة التي كان يشعر بها سيدنا يعقوب تجاه سيدنا يوسف عليهما السلام ليست مشاعر نابعة من المحبة والعشق.بل نابعة من الشفقة، لأن الشفقة أنفذ من المحبة والعشق، وأسطع منهما واعلى وأنزه، فهي الأليق بمقام النبوة.

أما المحبة والعشق، فان كانتا شديدتين نحو المحبوبات المجازية والمخلوقات، فلا تليقان بمقام النبوة الرفيع.

بمعنى ان ما يبيّن القرآن الكريم مشاعر سيدنا يعقوب واحاسيسه تجاه سيدنا يوسف (عليهما السلام) في أسطع صورة وألمع اعجاز والتي هي وسيلة الوصول الى اسم ((الرحيم))، إنما هي درجة رفيعة سامية للشفقة.

أما العشق الذي هو وسيلة الوصول الى اسم ((الودود)) فهو في محبة ((زليخا)) (امرأة العزيز) ليوسف عليه السلام.

اذاً فالقرآن الكريم بأيّ مدى بيّن سمو مشاعر سيدنا يعقوب ورفعته على احاسيس زليخا، فان الشفقة ايضاً تبدو أرفع وأسمى من المحبة بتلك الدرجة.

ولقد قال استاذي الامام الرباني: ان المحاسن الجمالية ليوسف عليه السلام هي من قبيل المحاسن الاخروية، لذا فالمحبة المتوجهة نحوها ليست من انواع المحبة المجازية حتى يبدو النقص والقصور فيها. ذلك لأنه يرى أن العشق المجازي لا يليق تماماً بمقام النبوة.

وانا اقول:

يا استاذي المحترم! ان هذا تأويل متكلف. أما الحقيقة فينبغي ان تكون هكذا:

ان تلك المشاعر والاحاسيس ليست مشاعر محبة، بل هي مرتبة من الشفقة التي هي أسطع من المحبة بمائة درجة وأوسع منها وأسمى.

نعم! ان الشفقة بجميع انواعها لطيفة، نزيهة، أما العشق والمحبة فلا يُتنازَل الى كثير من انواعهما.

ثم ان الشفقة واسعة، اذ الوالد الذي يشفق على اولاده يشفق ايضاً على جميع الصغار، بل حتى على ذوي الارواح، فيبين نوعاً من انوار اسم ((الرحيم)) المحيط بكل شئ. بينما العشق يحصر النظر بمحبوبه وحده. ويضحي بكل شئ في سبيله. أو يذم الآخرين ضمناً ويهوّن من شأنهم اعلاءً لقدر محبوبه وثناءً عليه.

فمثلاً قد قال احد العاشقين:

((ان الشمس لتخجل من جمال محبوبتي،فتتستر بحجاب السحاب لئلا تراها)).

ايها العاشق! بأي حق تُخجل الشمس، تلك الصحيفة النورانية التي تظهر ثمانية اسماء عظمى؟



ثم ان الشفقة خالصة، لا تطلب شيئاً من المشفق عليه، فهي صافية لا تطلب عوضاً. والدليل على هذا، الشفقة المقرونة بالتضحية التي يحملها والدات الحيوانات، والتي هي ادنى مراتب الشفقة، فهي لا تطلب مقابل شفقتها شيئاً.

بينما العشق يطلب الاجرة والعوض. وما نواح العاشقين الا نوع من الطلب، وسؤال للاجرة.

اذاً فان شفقة سيدنا يعقوب التي هي اسطع نورٍ يتلمع في أسطع سور القرآن، سورة يوسف، تظهر اسمي ((الرحمن الرحيم)) وتعلن: ان طريق الشفقة هي طريق الرحمة، وان ضماد ألم الشفقة ذاك انما هو: } فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الراحمين{ (يوسف: 64).







الباقي هو الباقي





سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:55 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب التاسع

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{



((جزء من رسالة بعثها الى تلميذه المعهود، ذلك التلميذ الخالص))

........

ثانياً:

ان توفيقكم ونجاحكم في نشر الأنوار القرآنية ونشاطكم وشوقكم في هذا السبيل، انما هو اكرام إلهي، بل هو كرامة قرآنية وعناية ربانية.اهنئكم يا اخي. ولمناسبة ذكر الكرامة والإكرام والعناية ساذكر فرقاً بين الكرامة والاكرام وهو الآتي:

ان اظهار الكرامة فيه ضرر ان لم يكن هناك ضرورة، بينما اظهار الاكرام تحديث بالنعمة. فالشخص المتشرف بالكرامة اذا ما صدر عنه أمرخارق للعادة وهو يعلم، فلربما يكون صدور ذلك الامر الخارق استدراجاً ان كانت نفسه الأمارة باقية من حيث اعجابه بنفسه والاعتماد على كشفه واحتمال وقوعه في الغرور.

ولكن ان صدر عنه أمر خارق دون علمه وشعوره، كمن يأتيه من يحمل سؤالاً في قلبه، فيجيب عنه جواباً شافياً من نوع الانطاق بالحق فانه لا يعتمد على نفسه بعد ادراكه الامر، بل تزداد ثقته بالله واطمئنانه اليه، قائلاً: ان لي حفيظاً رقيباً يتولاني بالتربية اكثر مني. فيزيد توكله على الله.

هذا القسم، كرامة لا خطورة فيها، وصاحبها غيرمكلف باخفائها. ولكن عليه الاّ يسعى قصد اظهارها للفخر، لأنه ربما ينسب ذلك الامر الخارق الى نفسه، اذ فيه شئ من كسب الانسان في الظاهر.

أما الاكرام فهو أسلم من القسم الثاني السليم من تلك الكرامة وهو في نظري أعلى منه وأسمى. فاظهاره تحدث بالنعمة، لأن ليس فيه نصيب من كسب الانسان. فالنفس لا تستطيع ان تسنده اليها.

وهكذا يا أخي! ان ما رأيتُه وكتبته سابقاً من احسانات إلهية، فيما يخصك ويخصني ولا سيما في خدمتنا للقرآن، انما هو اكرام إلهي، اظهاره تحدث بالنعمة. ولهذا اكتب اليكم عن التوفيق الإلهي في خدمتنا من قبيل التحدث بالنعمة. وانا على علم انه يحرك فيكم عرق الشكر لا الفخر.

ثالثاً:

أرى أن أسعد انسان في هذه الحياة الدنيا هو ذلك الذي يتلقى الدنيا مضيف جندية ويذعن انها هكذا، ويعمل وفق ذلك. فهو بهذا التلقي يتمكن أن ينال أعظم مرتبة ويحظى بها بسرعة، تلك هي مرتبة رضى الله سبحانه، اذ لا يمنح قيمة الالماس الثمينة الباقية لقطع زجاجية تافهة، بل يجعل حياته تمضي بهناء واستقامة.

نعم! ان الأمور التي تعود الى الدنيا هي بمثابة قطع زجاجية قابلة للكسر بينما الأمور الباقية التي تخص الآخرة هي بقيمة الألماس المتين الثمين.

فما في فطرة الانسان من رغبة ملحة ومحبة جياشة وحرص رهيب وسؤال شديد وأحاسيس اخرى من أمثال هذه، وهي أحاسيس شديدة وعريقة، انما وهبت له ليغنم بها أموراً اخروية. لذا فان توجيه تلك الأحاسيس وبذلها بشدة نحو أمور دنيوية فانية انما يعني اعطاء قيمة الالماس لقطع زجاجية تافهة.

ولقد وردت هذه النقطة على خاطري لمناسبة هذه المسألة فسأذكرها لكم، وهي:

ان العشق محبة قوية شديدة، فحينما يتوجه الى محبوبات فانية، فان ذلك العشق اما يجعل صاحبه في عذاب أليم مقيم، أو يدفعه ليتحرى عن محبوب حقيقي حيث لا يستحق ذلك المحبوب المجازي تلك المحبة الشديدة. وعندها يتحول العشق المجازي الى عشق حقيقي.

وهكذا ففي الانسان ألوف من أمثال هذه الأحاسيس، كل منها لها مرتبتان - كالعشق - احداهما مجازية، والاخرى حقيقية.

فمثلاً: القلق على المستقبل. هذا الاحساس موجود في كل انسان، فعندما يقلق قلقاً شديداً على المستقبل يرى أنه لا يملك عهداً للوصول الى ذلك المستقبل الذي

يقلق عليه، فضلاً عن أن ذلك المستقبل القصير الأمد مكفول من حيث الرزق - من قبل الرزاق - فاذاً لا يستحق كل هذا القلق الشديد. وعندها يصرف وجهه عنه، متوجهاً الى مستقبل حقيقي مديد، وهو ما وراء القبر والذي لم يُكفَل للغافلين.

ثم ان الانسان يبدي حرصاً شديداً نحو المال والجاه، ولكنه يرى أن ذلك المال الفاني الذي هو امانة بيده مؤقتاً، وذلك الجاه الذي هو مدار شهرة ذات بلاء، ومصدر رياء مهلك، لا يستحقان ذلك الحرص الشديد. وعند ذلك يتوجه الى الجاه الحقيقي الذي هو المراتب المعنوية ودرجات القرب الإلهي وزاد الآخرة، ويتوجه الى المال الحقيقي الذي هو الاعمال الاخروية. فينقلب الحرص المجازي الذي هو اخلاق ذميمة الى حرص حقيقي الذي هو اخلاق حميدة سامية.

ومثلاً: يعاند الانسان ويثبت ويصر على أمور تافهة زائلة فانية ثم يشعر أنه يصر على شئ سنة واحدة، بينما هو لا يستحق اصرار دقيقة واحدة. فليس الا الاصرار والعناد يجعله يثبت على أمور ربما هي مهلكة ومضرة به. ولكن ما ان يشعر أن هذا الحس الشديد لم يوهب له ليبذل في مثل هذه الامور التافهة، وان صرفه في هذا المجال مناف للحقيقة والحكمة، تراه يوجه ثباته واصراره وعناده الشديد في تلك الامورالتافهة الى أمور باقية وسامية ورفيعة تلك هي الحقائق الايمانية والاسس الاسلامية والاعمال الاخروية. وعندها ينقلب الحس الشديد للعناد المجازي الذي هو خصلة مرذولة الى خصلة سامية وسجية طيبة وهي العناد الحقيقي، وهو الثبات الشديد على الحق.

وهكذا على غرار هذه الامثلة الثلاثة فان الاجهزة المعنوية الممنوحة للانسان اذا ما استعملها في سبيل النفس والدنيا، غافلاً وكأنه مخلد فيها؛ تصبح تلك الاجهزة المعنوية منابع اخلاق دنيئة ومصادر اسرافات في الامور ومنشأ عبثية لا طائل وراءها. ولكن اذا ما وجه احاسيسه تلك، الخفيفة منها الى الدنيا والشديدة منها الى العقبى وأعمال الآخرة والافعال المعنوية، فانها تكون منشأ للاخلاق الفاضلة وسبيلاً ممهداً الى سعادة الدارين ومنسجماً انسجاماً تاماً مع الحكمة والحقيقة.

ومن هنا فاني أخال ان سبباً من أسباب عدم تأثير نصيحة الناصحين في هذا الزمان هو: انهم يقولون لسيئي الخلق: لا تحسدوا. لا تحرصوا. لا تعادوا. لا تعاندوا. لا تحبوا الدنيا. بمعنى انهم يقولون لهم غيّروا فطرتكم. وهو تكليف لا يطيقونه في الظاهر. ولكن لو يقولون لهم: اصرفوا وجوه هذه الصفات الى أمور الخير، غيّروا مجراها، فعندئذ تجدي النصيحة وتؤثر في النفوس، وتكون ضمن نطاق ارادة الانسان واختياره.

رابعاً:

لقد دار بين علماء الاسلام كثيراً بحثٌ حول الفروق بين الايمان والاسلام. فقال قسم: كلاهما واحد. وآخرون قالوا: انهما ليسا واحداً بل لا ينفك احدهما عن الآخر. واوردوا آراء كثيرة مختلفة مشابهة لهذا. وقد فهمت فرقاً بينهما كهذا:

ان الاسلام التزام، والايمان اذعان. أو بتعبير آخر: الاسلام هو الولاء للحق والتسليم والانقياد له. أما الايمان فهو قبول الحق وتصديقه.

ولقد رأيت - فيما مضى - بعضاً ممن لا دين لهم يظهرون ولاءً شديداً لأحكام القرآن، بمعنى ان ذلك الملحد قد نال اسلاماً بجهة التزامه الحق، فيقال له: مسلم بلا دين. ثم رأيت بعض المؤمنين لا يظهرون ولاءً لأحكام القرآن ولا يلتزمون بها، اي أنهم ينالون عبارة: مؤمن غير مسلم.

تُرى أيمكن ان يكون ايمان بلا إسلام سبب النجاة يوم القيامة؟

الجواب: كما ان الاسلام بلا إيمان لا يكون سبب النجاة، كذلك الايمان بلا إسلام لا يكون سبب النجاة.

فـلله الحمد والمنة، ان موازين رسائل النور قد بينت ثمرات الدين الاسلامي وحقائق القرآن ونتائجهما بياناً شافياً وافياً - بفيض الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم - بحيث لو فهمها حتى من لا دين له لا يمكن ان يكون غير موالٍ لها.

وقد اظهرت هذه الرسائل دلائل الايمان والاسلام وبراهينهما كذلك قوية راسخة بحيث لو فهمها غير المسلم يصدّق بها لا محالة، ويؤمن بها رغم بقائه على غير الاسلام.

نعم، ان ((الكلمات)) قد وضّحت ثمار الايمان والاسلام توضيحاً جميلاً حلواً، كجمال ثمار طوبى الجنة ولذتها، واوضحت نتائجهما اليانعة الطيبة كأطايب سعادة الدارين، حتى انها تمنح كل من رآها واطلع عليها وعرفها شعور الولاء والانحياز التام والتسليم الكامل. بل اظهرت براهين الايمان والاسلام قوية راسخة رسوخ الموجودات كلها، وكثيرة كثرة الذرات، فيعطي من الاذعان والرسوخ ما لا منتهى لهما في الايمان. حتى انني حينما أقرأ - احياناً - كلمة الشهادة في اوراد الشاه النقشبند، واقول: ((على ذلك نحيا وعليه نموت وعليه نبعث غداً)) اشعر بمنتهى الالتزام، بحيث لا اضحى بحقيقة ايمانية واحدة لو اعطيتُ الدنيا بأسرها. لأن افتراض ما يخالف حقيقة واحدة لدقيقة واحدة أليم عليّ ألماً لا يطاق. بل ترضخ نفسي لتعطي الدنيا بأسرها - لو كانت لي - مقابل حقيقة ايمانية. وحينما اقول: ((وآمنا بما ارسلتَ من رسول، وآمنا بما انزلتَ من كتاب، وصدّقنا)) أشعر بقوة ايمانية عظيمة لا منتهى لها، واعد ما يخالف اية حقيقة من حقائق الايمان محالاً عقلياً، وارى اهل الضلال في منتهى البلاهة والجنون.

بلّغ سلامي الى والديك مع وافر الاحترام وارجُ منهما الدعاء لي، ولكونك اخي فهما في حكم والديّ ايضاً. بلغ سلامي الى اهل قريتكم جميعاً. ولا سيما من يستمع لـ ((الكلمات)) منك.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي

عبدالرزاق 02-03-2011 01:56 AM

رد: المكتوبات
 
المكتوب العاشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

جواب عن سؤالين:

الاول: هو هامش المقصد الثاني من الكلمة الثلاثين الخاصة بـ((انا وتحولات الذرات)):

لقد ذُكر في القرآن : ((إمام مبين)) و ((كتاب مبين)) في عدة مواضع. وقال قسم من المفسرين: انهما بمعنى واحد. وقال آخرون: معناهما مختلف. وفسّروا حقيقتهما بوجوه متضاربة. وخلاصة ما قالوه: انهما عنوانان للعلم الإلهي. ولقد حصل لي الاطمئنان التام والقناعة التامة بفيض القرآن الكريم أن:

((الامام المبين)) عنوانٌ لنوعٍ من العلم الإلهي وأمره، بحيث يتوجّه الى عالم الغيب اكثر مما يتوجه الى عالم الشهادة. أي: أنه يتوجه الى الماضي والمستقبل اكثر من توجهه الى الحال والزمن الحاضر. وبعبارة اخرى: انه سجلٌ للقدر الإلهي ينظر الى أصل كل شئ والى نسله، الى عروقه والى بذوره، اكثر مما ينظر الى وجوده الظاهري. وقد اُثبت وجود هذا السجل في ((الكلمة السادسة والعشرين)) ، وفي حاشية ((الكلمة العاشرة)) . نعم! ان هذا الامام المبين عنوانٌ لنوع من العلم الإلهي وأمره، وهذا يعني: ان إنتاج مبادئ الاشياء وجذورها واصولها - بكمال الانتظام - للاشياء، في غاية الابداع والاتقان، يدل على أن ذلك التنظيم والاتقان إنما يتمان وفق سجل دساتير للعلم الإلهي. كماان نتائج الاشياء وأنسالها وبذورها، سجل صغير للأوامر الإلهية لكونها تتضمن برامج ما سيأتي من الموجودات وفهارسه، فيصح ان يقال: ان البذرة مثلاً عبارة عن مجسّمة مصغرة للبرامج والفهارس التي تنظم جميع تركيب الشجرة الضخمة، وللاوامر التكوينية التي تعيّن تلك التصاميم والفهارس وتحدّدها.

الحاصل: ان ((الامام المبين)) هو في حكم فهرس وبرنامج شجرة الخلق، الممتدة عروقها واغصانها وفروعها حول الماضي والمستقبل وعالم الغيب. فـ((الامام المبين)) بهذا المعنى سجل للقدر الإلهـي، وكراس دساتيره. والذرات تُساق الى حركاتها ووظائفها في الاشياء باملاء من تلك الدساتير وبحكمها. أما ((الكتاب المبين)) فهو يتوجه الى عالم الشهادة اكثر من توجهه الى عالم الغيب، أي: ينظر الى الزمان الحاضر اكثر مما ينظر الى الماضي والمستقبل. فهو: عنوانٌ للقدرة الإلهية وارادتها، وسجل لهما وكتاب، اكثر مما هو عنوان للعلم الإلهي وأمره. وبتعبير آخر: انه اذا كان ((الامام المبين)) سجلاً للقَدَر الإلهي فـ ((الكتاب المبين)) سجل للقُدرة الإلهية. أي أن الانتظام والاتقان في كل شئ، سواءً في وجوده، في ماهيته، في صفاته، في شؤونه يدلان على أن الوجود يُضفى على الشئ وتُعيَّن له صوَره، ويشخَّص مقداره، ويعطى له شكله الخاص، بدساتير قدرة كاملة وقوانين إرادة نافذة. فتلك القدرة الإلهية والارادة الإلهية اذاً لهما مجموعة كلية وعمومية لقوانينه وسجل عظيم، بحيث يُفصَّل ويُخاط ثوبُ أنماط الوجود الخاص لكل شئ ويُلبَس عليه ويُعطى له صوره المخصوصة، وفق تلك القوانين. وقد اثبت وجود هذا السجل في رسالة ((القدر الإلهي والجزء الاختياري(( كما اثبت فيها ((الامام المبين)).

فانظر الى حماقة الفلاسفة وارباب الضلالة والغفلة! فلقد شعروا بوجود اللوح المحفوظ للقدرة الإلهية الفاطرة، وأحسّوا بمظاهر ذلك الكتاب البصير للحكمة الربانية، وارادتها النافذة في الاشياء، ولمسوا صُوَره ونماذجه، إلاّْ انهم اطلقوا عليه اسم ((الطبيعة)) - حاشَ لله - فاخمدوا نورَه.

وهكذا، باملاءٍ من الإمام المبين، أي بحُكم القَدَر الإلهي ودستوره النافذ، تكتب القدرةُ الإلهية - في ايجادها - سلسلةَ الموجودات - التي كلٌ منها آية - وتوجِد وتحرِك الذرات في لوح ((المحو والاثبات)) الذي هو الصحيفة المثالية للزمان.

أي ان حركات الذرات انما هي اهتزازات وحركات اثناء عبور الموجودات - من جراء تلك الكتابة، ومن ذلك الاستنساخ - من عالم الغيب، الى عالم الشهادة، أي من العلم الى القدرة. أما ((لوح المحو والاثبات)) فهو سجل متبدل للّوح المحفوظ الاعظم الثابت الدائم، ولوحة ((كتابة ومحو)) له في دائرة الممكنات أي الاشياء المعرضة دوماً الى الموت والحياة، الى الفناء والوجود. بحيث ان حقيقة الزمان هو هذا.

نعم! فكما ان لكل شئ حقيقة، فحقيقة ما نسميه بالزمان الذي يجري جريان النهر العظيم في الكون هي في حكم صحيفة ومداد لكتابات القدرة الإلهية في لوح المحو والاثبات. ولا يعلم الغيب إلاّ الله.



السؤال الثاني: اين ميدان الحشر؟

الجواب: العلم عند الله.. وان حكمة الخالق الحكيم الرفيعة التي يظهرها في كل شئ حتى في ربط حكم كثيرة جليلة بشئ صغير جداً، تشير صراحة الى ان الكرة الارضية لا تخط اثناء سيرها السنوي دائرة عظيمة عبثاً وعلى غير هدى. بل انها تدور حول شئ عظيم، وتخط دائرة محيطة لميدان عظيم، وتعيّن حدوده، وتجول حول مشهر عظيم، وتسلّم محاصيلها المعنوية اليه، لتعرض تلك المعروضات امام انظار الناس في ذلك المحشر. بمعنى أن ميدان حشر عظيم سيُبسط من منطقة الشام - كما في رواية(1) - التي ستكون في حكم نواة تملأ دائرة عظيمة محيطها يبلغ ما يقرب مسافة خمس وعشرين الف سنة.

وتُرسل الآن محاصيل الارض المعنوية الى دفاتر والواح ذلك الميدان المعنوي، المحجوب عنا تحت ستار الغيب، وحينما يُفتح الميدان في المستقبل، ستُفرغ الارض ايضاً باهليها الى الميدان نفسه وتمضي محاصيلها المعنوية تلك من الغيب الى الشهادة.

نعم! ان الكرة الارضية في حكم مزرعة، وبمثابة نبع، وكأنها مكيال، قد انتجت من المحاصيل الوفيرة ما يملأ ذلك الميدان الاكبر، وسالت منها مخلوقات كثيرة يستوعبها ذلك الميدان، وخرجت منها مصنوعات كثيرة تملأ ذلك الميدان.اي ان الكرة الارضية نواة، وان ميدان الحشر مع ما فيه، شجرة وسنبل ومخزن.

نعم! كما ان نقطة نورانية تخط خطاً او دائرة بحركتها السريعة، فالكرة الارضية كذلك تكون سبباً لتمثيل دائرة وجودٍ، بحركتها السريعة والحكيمة، وتلك الدائرة مع محاصيلها تكون محور تشكل ميدان الحشر الاكبر.. } قل إنما العلمُ عندَ الله{ .





الباقي هو الباقي





سعيد النورسي


الساعة الآن 01:25 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى