رد: ألف دلالة ودلالة في الصلاة على نور الوحي والرسالة
مقام المحمودية:
مهما حاولنا التسلق والجري بأذهاننا وراء معرفة الحقيقة المحمدية والمقام المحمدي المحمود فإن محاولاتنا عاجزة عن تحديد درجة محمودية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن مقامه الشريف بفعل صلاة الله عليه الدائمة يرقى في كل لحظة وحين وفي أقل من اللحظة والحين.
فمن عظم مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عقول البشرية كلها لا تستطيع إدراك ذلك، ولا أن يحوموا حول حماه.
ويكفي في الدلالة على ذلك التمعن في معرفة أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم وخصوصا في معرفة اسمه محمد.
قال أبو عبد الله البكي في شرح الحاجبية:
وهو في اللغة الذي يحمد حمدا بعد حمد، ولا يكون "مفعل" إلا لمن تكرر منه الفعل مرة بعد مرة، فهو اسم مطابق لذاته ومعناه صلى الله عليه وآله وسلم إذ ذاته محمودة على ألسنة العوالم من كل الوجوه حقيقة وأوصافا وخلقا وخلقا وأعمالا وأحوالا وعلوما وأحكاما، وجميع عوالمه المتنزل لها والظاهر بها.
فهو محمود في الأرض وفي السماء، وهو أيضا محمود في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا ما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة وفي الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد ـ كما يقتضي اللفظ ـ، ومع ذلك فهو الحامد إذ ما حمده أحد إلا بما علمه إياه إذ هو نبي الجميع فهو الحامد.
وإن شئت قلت: هو الحامد لله تعالى على الإطلاق بالتحقيق، وبحمده لله حمده الله على ألسنة عباده، فهو الحامد المحمود إلا أنه أخص من حيث تنزل الأمر ومبتدأ الفاعلية بالأحمدية ومن حيث بلوغ الأمر ومنتهى المفعولية بالمحمودية، فكان اسمه في السماء "أحمد" وفي الأرض "محمد"، فهو صلى الله عليه وآله وسلم خير من حمد وأفضل من حمد.
وعلى التحقيق لم يحمد ولم يحمد إلا هو، وكيف لا؟! ولواء الحمد بيده وهو صاحب المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون هـ.
وقال الإمام محمد المهدي الفاسي رحمه الله في مطالعه عند شرحه لاسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: وحيد:
يقال فلان واحد ووحيد، أي منفرد. وهو صلى الله عليه وآله وسلم الوحيد في مقامه وحاله وعلومه وأسراره وأنواره وأخلاقه وسيره وشمائله وفضائله وحسنه وإحسانه ومعراجه وارتقائه إلى حيث لم يبلغه سواه، وشريعته وعقله وجاهه وتعلق سائر الخلق به، لا ثاني له في شيء من ذلك كله، وهو أول المخلوقات، فكان واحدا أيضا لا ثاني له قبل خلق الخلق، والله أعلم هـ.
وقال أيضا عند شرحه لاسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: طاهر: فهو الطاهر في نفسه حسا ومعنى، المنزه عن كل ما لا يناسب علي منصبه، والطهارة: النظافة والنقاء والنزاهة والخلوص من العيب.
أما الطهارة الحسية فكل شيء منه صلى الله عليه وآله وسلم طاهر، وقد نص العلماء على طهارة النطفة التي تكون منها صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجوها من الخلاف الذي في طهارة المني، ونصوا أيضا على أن جسده الطاهر الشريف طاهر بعد الموت وأخرجوه من الخلاف الذي في طهارة جسد الآدميين بعد الموت، ونصوا أيضا على طهارة جميع فضلاته، وأخذوا ذلك من تقريره صلى الله عليه وآله وسلم لمالك بن سنان وعبد الله بن الزبير على شرب دمه، وأم أيمن وأم يوسف على شرب بوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الطهارة المعنوية فقد برأه الله تعالى من كل خلق ذميم ونزهه عنه وأكرمه بكل خلق كريم وأثنى عليه به، وعصمه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله وجميع أحواله عن كل ما لا يرضاه له صلى الله عليه وآله وسلم هـ.
وقال أيضا عند شرحه لاسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: مطهر: فهو بمعنى اسمه طاهر، إلا أن الطاهر منظور فيه إلى طهارته صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه، ومخبر فيه بذلك من غير نظر إلى الذي فعل به ذلك، والمطهر منظور فيه إلى الذي طهره ومفيد أن تلك الطهارة هي بفعل فاعل أرادها منه وخصه بها وإظهارا للعناية به، وذلك الفاعل لا تمتري العقول في أنه الله سبحانه، ومشير إلى قوله تعالى: (ويطهركم تطهيرا) هـ.
وقال أيضا عند شرحه لاسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: طيب: فلا ريب أنه صلى الله عليه وآله وسلم أطيب الطيبين ولا أطيب منه، وحسبك أن عرقه كان أطيب الطيب، وكان من توصل إليه يجعله في طيبه، ومن تطيب به عبقت رائحته وشمها أهل المدينة وعلموا به، ولا يجدون له شبها في الطيب، وكان لا يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرقه وعرفه هـ.
وقال أيضا عند شرحه لاسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: جامع: لأنه صلى الله عليه وآله وسلم الجامع لما افترق في غيره من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وكذا الأولياء والعلماء رضي الله عنهم، وكيف لا؟! وهم صور تفصيله وخلفاؤه ومظاهره وتعيناته، فما منهم إلا وهو سابح في نوره وممتد من بحره، كل على حسب مقامه، وكل خير وبركة قلت أو جلت منه حصلت، وبطلعته ظهرت، وعنده امتد للوجود كله كما امتدت الشجرة عن البذرة، وهو بذرة الوجود، وأقرب موجود، ويعسوب الأرواح، وهو الروح الأعظم وآدم الأكبر، وهو ذو الكلمة الجامعة والرسالة المحيطة، وهو الجامع للخلق على الله والجامع لشملهم بتأليفه بينهم وجمع شتاتهم، والجامع لدوائر الخيرات والرسالات والنبوات والحقائق العيانية وأسرار التوحيد الربانية وجوامع الغيوب الفردانية هـ.
وهكذا نستشف درجة محمودية النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي لا تحد ولا تدرك بالحس ولا بالمعنى من خلال سائر الأسماء المحمدية التي جعلت حبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم كما أشارت إلى ذلك بعض أسمائه مقف لجميع الخلق، وهو، أي هذا الاسم الكريم: مقفي، بدوره من أعظم أسمائه الدالة على كرم ذاته وفضله.
قال الإمام محمد المهدي الفاسي رحمه الله في ذلك: وهو على وزن مفعل، أي جعلني الله مقفيا حتى نهضت في الفضائل ودرجات القرب حتى قفيت الكل وجعلتهم خلفي وورائي يتبعوني في كل عمل وفضل جسماني وروحاني.. هـ.
وهو نفس مدلول ما جاء في اسمه صلى الله عليه وآله وسلم باللغة السريانية بقولهم المنحمنا، وهي كما سيدي عبد العزيز الدباغ رضي الله عنه عبارة عن كلمتين: المن وحمنا، ومعناها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو النعمة التي بلغت الغاية ولم يدركه سابق ولاحق.
***
لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
وفي غياب مثل هذا البيان يظل الإنسان على طبيعته من استصحاب أفكار وتصورات مشوبة بألوان الشك والحيطة والحذر حول شخصيات العالم المحيط به، مهما علت في الفضل وتميزت بالمكرمات.
فطبيعة الإنسان في أصل خلقتها ميالة إلى التحرر من ربقة تقديس الأشخاص مهما ظهر كمالهم وبرز إلى الوجود فضلهم. إلا إذا اعتلت هذه الطبيعة فسقطت في فخ الاستعباد البشري.
فالشهادة أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله لا تكون إلا بعد الشهادة أن لا إله إلا الله. وهو النسق الإلهي يأتي في نفس السياق الطبيعي الذي خلقت فيه النفس البشرية.
فالإنسان مجبول بطبيعته للاقتداء والتخلق بربه وخالقه، وهو وجه من وجوه صياغة الله لتشريع الصلاة على رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن الله عز وجل يقول لنا: إذا كان ربكم سبحانه يصلي على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتخلقوا أنتم بذلك فصلوا عليه. وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة من تقديم الإعلام بصلاته تعالى عليه هو وملائكته على أمر المؤمنين بالصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول الإمام محمد المهدي الفاسي رحمه الله في مطالع المسرات بجلاء دلائل الخيرات في سياق الدلالة على هذا المعنى وبيان مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
وللأداء لبعض ما يجب له صلى الله عليه وآله وسلم إذ هو الواسطة بين الله سبحانه وتعالى وبين العباد، وجميع النعم الواصلة إليهم التي أعظمها الهداية للإسلام إنما هي ببركته وعلى يديه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:
لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
والقيام برسم العبودية بالرجوع لما يقتضي الأصل نفيه، فهو أبلغ في الامتثال، ومن أجل ذلك كانت فضيلة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كل عمل.
والذي يقتضي الأصل نفيه هو كون العبد يتقرب إلى الله تعالى بالاشتغال بحق غيره لأن قولنا: اللهم صل على سيدنا محمد، هو اشتغال بحق سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأصل التعبدات أن لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالاشتغال بحقه.
ولكن لما كان الاشتغال بالصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإذن من الله تعالى كان الاشتغال بها أبلغ في امتثال أمر الآمر بها هـ.
قلت: هذا في مجرد الامتثال للأمر الإلهي. أما إذا انتبهنا للطريقة التي شرعها وسنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بنا لنكون بذلك ممتثلين لهذا الأمر الرباني، فإنها لا تعدو أن تكون دعاءا وتوجها إلى الله وتضرعا إليه ووقوفا بين يديه واعتمادا عليه وتوحيدا له.
ولهذا كانت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل العبادات، فقد قال أبو الليث السمرقندي رحمه الله: إذا أردت أن تعرف أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من سائر العبادات فانظر هذه الآية، فأمر الله عباده بسائر العبادات، وصلى الله بنفسه أولا، وأمر ملائكته بالصلاة عليه، ثم أمر المؤمنين بأن يصلوا عليه هـ.
إذن، لقد كانت الآية الكريمة الآمرة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتؤكد عن طريق بيانات السنة المحمدية أن التعلق بالحبيب صلى الله عليه وآله وسلم لن يكون إلا على أساس التوحيد لله عز وجل الذي لا يتم إلا بنبذ كل ند يتأله ويتقدس دون الله سبحانه.
وهذا هو المراد من قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم.
ذلك لأن النصارى مآخذون على تأليههم لسيدنا عيسى عليه السلام وليس على تقديسهم إياه. فالمبالغة في الإطراء والمدح المذمومة شرعا في حق الأنبياء هي المبالغة التي تجعل الأنبياء أو تجعل غيرهم من البشر أندادا لله تعالى.
وهذا هو الدور الذي يقوم به شيخ التربية مع مريديه وتلامذته الذين سلموا أنفسهم له، فيوجههم نحو هذا المعنى بكل ما أوتيه من علم وحكمة وهمة، ليقدمهم إلى حبيبنا وسيدنا محمد وهم مستشعرون حضوره عليه الصلاة والسلام بينهم واستغفاره لهم وترحمه عليهم، عبدا لله ورسولا مبعوثا من عند الله إلى الأحمر والأسود.
قال ابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام:
وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعا لمحبة الله وتعظيمه كمحبة رسوله وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لحب الله تعالى له، ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له، فهي محبة لله من موجبات محبة الله. وكذلك محبة أهل العلم والإيمان ومحبة الصحابة رضي الله عنهم وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله لهم هـ.
ومن ثم كان الدعاء بالصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقوم مقام شيخ التربية عند الصوفية الكرام.
فأهمية الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تتوجه أيضا عند الحديث عمن يبحث عن طرائق القرب من الله عز وجل لما فيها من التوسل إلى الله تعالى وبه عز وجل، وأيضا لما فيها من التوسل إلى الله بحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لا وسيلة أقرب ولا أعظم من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
يتبع..