عرض مشاركة واحدة
قديم 03-09-2009
  #14
أبو أنور
يارب لطفك الخفي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 3,299
معدل تقييم المستوى: 20
أبو أنور is on a distinguished road
افتراضي رد: ألف دلالة ودلالة في الصلاة على نور الوحي والرسالة

مسألة أفضل الصيغ وكيمياء السعادة:

لا شك أن مسألة أفضل الكيفيات في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسبية. وما ورد عن نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اختلاف الصيغ التي علمها لصحابته الكرام يدل على أنها لا توجد صيغة واحدة في الصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الإمام ابن مسدي رحمه الله: وقد روي في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة، وصنف في ذلك جماعة جمعوا الأبواب وهذبوا التراجم، وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أن هذا الباب لا يوقف فيه مع المنصوص، وأن من رزقه الله بيانا فأبان عن المعاني، بالألفاظ الفصيحة المباني، الصريحة المعاني، مما يعرب عن كمال شرفه صلى الله عليه وآله وسلم وعظيم حرمته، كان ذلك واسعا هـ.

ويشهد لهذا المعنى ما رواه زيد بن خارجة رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف الصلاة عليك؟ فقال:
صلوا واجتهدوا، ثم قولوا: اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا واجتهدوا، نص في جواز الاجتهاد في صياغة أي دعاء بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال ابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام:
الدعاء عبودية لله، وافتقار إليه، وتذلل بين يديه، فكلما كثره العبد وطوله وأعاده وأبداه ونوع جمله، كان ذلك أبلغ في عبوديته، وإظهار فقره، وتذللـه وحاجته، وكان ذلك أقرب له من ربه، وأعظم لثوابه هـ.

قلت: نعم، الصيغ النبوية في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي النموذج المحتذى به في صياغة أي كيفية جديدة انطلاقا وبمراعاة أسس وعوامل محددة.

أما الصيغة النبوية الجامعة لكل ما ورد من صحيح الأحاديث فهي كما سطرها شيخنا في كتابه: زاد المتقين في صحيح أذكار وأدعية سيد المرسلين:

اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه وذريته كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

قال شيخنا أبو الفتوح حفظه الله معلقا:
هذه الصيغة جامعة مركبة من عدة روايات صحيحة.. وقد جمعها العراقي تامة، وقبله النووي بأنقص منها هـ.

وأما العوامل التي ينبغي مراعاة بعضها أو جملة منها لتأصيل وتقعيد صيغة في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهي:

أولا، عامل التضرع والتوسل إلى الله عز وجل.

وهو المشار إليه في ألفاظ البدء والختام للصيغ النبوية بـ: "اللهم"، و"إنك حميد مجيد".

فقائل: اللهم، كأنه يقول: يا من اجتمعت له الأسماء الحسنى، ولذلك شددت الميم لتكون عوضا عن علامة الجمع. فاللهم كما قال الحسن البصري رحمه الله مجتمع الدعاء.

قال ابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام:
والدعاء ثلاثة أقسام:

أحدها، أن تسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته، وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).

والثاني، أن تسأله بحاجتك وفقرك وذلك، فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير ونحو ذلك.

والثالث، أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحدا من الأمرين.

فالأول أكمل من الثاني، والثاني أكمل من الثالث، فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل هـ.

قلت: وقائل: "إنك حميد مجيد"، في مقام التعليل للمطلوب من تكريم الله وإعلائه لمقام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالله هو الفاعل لما يستوجب به الحمد من النعم المترادفة، مكرم بكثرة الإحسان إلى جميع عباده.

ومن الصيغ المأثورة التي يستشف منها حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحقق المسلم شرط التضرع والخشوع أثناء دعائه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد في مسند الفردوس عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
اللهم إني أسألك يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا جار المستجيرين، يا مأمن الخائفين، يا عماد من لا عماد له، يا سند من لا سند له، يا ذخر من لا ذخر له، يا حرز الضعفاء، يا كنز الفقراء، يا عظيم الرجاء، يا منقذ الهلكى، يا منجي الغرقى، يا محسن، يا مجمل، يا منعم، يا مفضل، يا عزيز، يا جبار، يا منير، أنت الذي سجد لك سواد الليل، وضوء النهار وشعاع الشمس، وحفيف الشجر، ودوي الماء، ونور القمر، يا الله أنت الله الذي لا شريك له، أسألك أن تصلي على سيدنا محمد عبدك ورسولك وعلى آل سيدنا محمد.

وقد أخرج الدينوري في "المجالسة" عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: هذا الدعاء هو دعاء الفرج ودعاء الكرب:
يا حابس يد إبراهيم عن ذبح ابنه، وهما يتناجيان اللطف، يا أبت يا بني، يا مقيض الركب ليوسف في البلد القفر وغيابة الجب وجاعله بعد العبودية نبيا ملكا، يا من سمع الهمس من ذي النون في ظلمات ثلاث: ظلمة قعر البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، ويا راد حزن يعقوب، ويا راحم عبرة داود، ويا كاشف ضر أيوب، يا مجيب دعوة المضطرين، يا كاشف غم المهمومين، صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، أسألك أن تفعل بي كذا وكذا هـ.

ثانيا، عامل استحضار عظمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلو مقامه.

ومن الصيغ المأثورة التي تؤكد في تحريرها على مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنزلته عند الله سبحانه:
اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه المقام المحمود يغبطه به الأولون والآخرون.

ثالثا، عامل استحضار عجزنا عن مكافأة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم المكافأة التي يرضى بنا عنا رب العالمين.

رابعا، عامل استحضارنا لانفراد الرب جل جلاله بعلمه بمقام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يليق به.

خامسا، عامل استحضارنا لضرورة نيابة الله عنا في الصلاة الكاملة التامة الواجبة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

سادسا، عامل استحضار دخول الآل بتحديداته المختلفة في صلاة الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

ففي بعض الصيغ النبوية لكيفية الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنصيص واضح على مثل هذه التحديدات كأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذريته وأهل بيته.

سابعا، عامل استحضار مجال إعلاء الله لمقام نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الحافظ السخاوي رحمه الله في القول البديع:
وأشار بقوله: "في العالمين"، إلى اشتهار الصلاة والبركة على سيدنا إبراهيم في العالمين، وانتشار شرفه وتعظيمه، وأن المطلوب لنبينا عليه الصلاة والسلام صلاة تشبه تلك الصلاة، وبركة تشبه تلك البركة في انتشارها في الخلق وشهرتها هـ.

ثامنا، عامل تأكيد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ تؤدي معنى من معان إعلاء المقام.

فالمراد بقولنا في إحدى الصيغ النبوية المشهورة:
وبارك على سيدنا محمد .. .
النمو والزيادة من الخير والكرامة.

وهي، أي البركة والتبريك، تشرح لنا معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتؤكد على معنى المطالبة بالرفع من مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الحافظ السخاوي رحمه في القول البديع:
فإذا قلنا: اللهم بارك على سيدنا محمد، فالمعنى: اللهم أدم ذكر سيدنا محمد ودعوته وشريعته وكثر أتباعه وأشياعه، وعرف أمته من يمنه وسعادته أن تشفعه فيهم وتدخلهم جناتك وتحلهم دار رضوانك، فيجمع التبريك عليه الدوام والزيادة والسعادة هـ.

تاسعا ، عامل الرغبة في الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

عاشرا، عامل تحديد ما يتوخاه المرء من دعائه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فضل وأجر ومثوبة وجزاء.

حادي عشر، عامل استحضار أولية وأولوية وولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على جميع المؤمنين.
وهو المعنى الذي أشارت إليه صيغ نبوية كريمة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما صلى ربنا على سيدنا إبراهيم عليه السلام.

فكما أنه قد تقدمت من الله الصلاة على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، فإننا نسأل ربنا الصلاة على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد بطريق الأولى، لأن الذي يثبت للفاضل يثبت للأفضل بطريق الأولى.
فالتشبيه هنا لم يكن في القدر ولا في الرتبة وإنما كان لأصل الصلاة بأصل الصلاة.

فهذه إحدى عشر عامل حسب ما يحضرني الآن كلها تؤطر لعملية استخراج جديدة لأي صيغة نورانية في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وللعالم المتصدر في زمنه ودائرة دعوته لمجلس التربية الروحية الحق في موافقة أي صيغة من الصيغ المتوارثة في الصلاة على رسول الله على أن تكون هي الصيغة التي تميز تربيته إذا رأى بنور الله الذي متعه الله إياه أن في طياتها عناصر لكيمياء سعادة من يتتلمذ عليه في عصره من الطلبة والمريدين.

إذ كانت العوامل السالفة الذكر في حضورها أو غيابها عن الوعي الجماعي للمجتمع في زمان ما متفاوتة، وتأتي الصيغة المختارة من الشيخ المربي لتؤكد على ضرورة استحضار عامل من العوامل تم إغفاله في تربية الأفراد في عصره.

كما أن الصيغة المختارة تترجم طبيعة التنظيم الروحي الزاحف في المجتمع كما أراده الشيخ المربي.

فالذي يؤكد على علو المقام المحمدي مثلا يريد لتنظيمه الروحي أن يأخذ طابعا جماليا تتخلله كل معاني التسامح والانفتاح والبسط والمحبة في طريق استقطابي لا يعرف لغة المدافعة والمواجهة الحديدية.

أما الذي يؤكد على ضرورة استحضار تحديدات آل سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أزواج النبي وذريته فإن تنظيمه الروحي يراد له أن يكون جامعا لشتات الأمة بصالحيها دون غيرهم رابطا بذلك ماضي الأمة بحاضرها ومستقبلها في إطار الالتفاف حول المرجعية الأولى للمسلمين جميعا.

وهكذا يمكن استقصاء جل الصيغ المتوارثة في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي اختيرت من شيوخ تربية روحية عنوانا وشعارا لحركتهم ومشروعهم في تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعلاء مقامه.

على أن بعض المشايخ، ومنهم شيخنا المبارك سيدي أبو الفتوح عبد الله بن القادر التليدي حفظه الله، لا يحاولون إطلاقا التحيز إلى صيغة معينة ويتركون لمريديهم حرية اختيار الصيغة التي تناسبهم وتلائم وضعهم وفكرهم ومقاصدهم في وردهم للصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ذلك لأنهم ـ أي هؤلاء المشايخ ـ لا يفضلون أن يكون لهم تنظيم أصلا، وإن كانوا أهلا لجمع شتات الأمة جمعاء، ويقتصرون في تربيتهم لمريديهم على مجالس العلم والمذاكرة.

يتبع..
أبو أنور غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس