وقد كان للقرآن الكريم وجود كبير في القصة , فقد استمد من قصة الكهف حين أوى حيّ إلى الأجمة ليختبأ فيها
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف:10) , واقتبـس من قصـة قابيل وهابيل عندما اقتتل الغرابان , فقام أحدهما بدفن الآخر
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } (المائدة:31) , وذلك عندما أراد دفن الظبية بعد موتها .
وقد أورد ابن طفيل جملة من آي الذكر الحكيم , منها ما أورده بحرفيته كالآيات ,
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) ،
{ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سـبأ:3) ,
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يّـس:82) ,
{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:88) ,
{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر:16) ,
{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:7) ,
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7) ,
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى,وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا,فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعـات:37,38,39 ) ,
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} (مريم:71) ,
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح:23),
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ,أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}(الواقعة:11,10) ,
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال:17) .
ومنها ما أخذ معناه وتصرف في صياغته , كقوله :" وشاهد ذواتاً كثيرة مفارقة للمادة كأنها مرايا صدئة , قد ران عليها الخبث , ورأى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم قط بباله , ورآها في آلام لا تنقضي وحسرات لا تنمحي , قد أحاط بها سرادق العذاب , وأحرقتها نار الحجاب , ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب "
(1) , فهنا يظهر تأثره الكبير بآي الذكر الحكيم حيث اقتبس المفردات القرآنية واستقى معنى الآيات ليعبر عن مراده من القول , وقد جمع فيه معاني الآيات التالية:
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14) ,
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور} (فاطر:36) ,
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} (الكهف:29) ,
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} (لأعراف:46) , ومن اقتباساته القرآنية أيضاً , قوله :" ويزيل الظنون المعترضة , ويعيذ من همزات الشياطين "
(2) , مأخوذ من قوله تعالى :
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (المؤمنون:97) , وقوله:" وتحقق عنده أنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"
(3) , مأخوذ من قوله تعالى :
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس:62) , وقوله:" وأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً "
(4) , مأخوذ من قوله تعالى :
{ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } (الفرقان:44) , وقوله:" وابتهلا إلى الله تعالى أن يهيئ لهما من أمرهما رشداً"
(5) , مأخوذ من قوله تعالى :
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف:10) .
ومن ذلك أيضاً قوله:" وتصفح طبقات الناس بعد ذلك , فرأى كل حزب بما لديهم فرحين , قد اتخذوا إلههم هواهم, ومعبودهم شهواتهم , وتهالكوا في حطام الدنيا , ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر , لا تنجع فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الحكمة الحسنة , ولا يزدادون بالجدل إلا إصراراً , وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها , قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ... واشتروا بها ثمناً قليلاً , و ألهاهم عن ذكر الله تعالى التجارة والبيع , ولم يخافوا يوماً تنقلب فيه القلوب والأبصار ..." (
6) , فقد اقتبس جمله من الآيات :
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:53) ,
{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32) ,
{ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28) ,
{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (طـه:16) ,
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50) ,
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:86) ,
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (لأعراف:51) ,
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ,حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (التكاثر:2,1) ,
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل:125) ,
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت:35) ,
{ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة:41) ,
{ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44) ,
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً }(الجمعة:11) ,
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:254) ,
{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}
وكما استمد ابن طفيل تعابيره من القرآن الكريم ؛ فقد استقى من الحديث الشريف , إما رواية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عزّ وجلّ :
{ كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به } (7) , أو استشهاداً به ضمن سياق الكلام
{ شاهد ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر } (8) , حيث يصف المشاهد التي يعجز عن وصفها الواصفون عند رؤية الله تعالى , ومن ذلك قوله : { فلكل عمل رجال , وكل ميسر لما خلق له }
(9) .
ويأخذ كلام علي بن أبي طالبرضي الله عنه : " إذ الدنيا والآخرة كضرتين ؛ إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى "
(10) .
ونجده يستفيد من حافظته الشعرية في تدعيم قيمة نصه الفنية , يقول:" سئمت تكاليف الحياة الدنيا "
(11) , وهو مقتبس من قول زهير بن أبي سلمى:
(12)
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش = ثمانين حولاً , لا أبا لك , يسأم
ونلاحظ في هذه القصة عنصر الصدفة يلعب دوراً كبيراً منذ البداية حتى النهاية , إذ لعبت دورها عندما وصل حيّ بن يقظان إلى الجزيرة حيث فقدت الظبية ابنها فرعت حيّاً , والصدفة أيضاً هي التي أرسلت الغرابين ليقتتلا فيقتل أحدهما الآخر ليعلم حيّاً كيف يدفن جسد الظبية , والصدفة هي التي أشعلت النار ليكتشفها حيّ ويعرف أثرها , وبالتالي فالصدفة أيضاً هي الأساس في تفكره في وجود عنصر من هذه النار في روح الظبية التي ماتت .
وقد كان للخيال دور كبير في القصة , فهي بالأساس تقوم عليه في مكانها وأحداثها , حتى لنستطيع أن نعدها شيئاً من الأسطورة .
إذن فقد اعتمد ابن طفيل في قصته الخيال الفلسفي الصوفي المرتكز على المبادئ الإسلامية , والحقائق العلمية مدللاً على إمكانية العقل السليم التوصل إلى حقيقة الذات الإلهية عن طريق التأمل و المشاهدة والتطلع الدائم و التجربة .