ما أراده ابن طفيل من القصة : (1)
لقد أراد ابن طفيل أن يبين في قصته الحقائق الآتية :
1- المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة ؛ من المحسوسات الجزئية إلى ( الأفكار الكلية ) .
2- أن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله , بآثاره في مخلوقاته , وإقامة الأدلة الصادقة على ذلك .
3- أن هذا العقل قد يعتريه الكلال والعجز في مسالك الأدلة عندما يريد تصوير الأزلية المطلقة , والعدم المطلق , واللانهاية , والزمان , والقدم , والحدوث , وما شاكل ذلك .
4- أن العقل سواء ترجح لديه ( قدم العالم أو حدوثه ) , فإن اللازم من كل واحد من الاعتقادين شيء واحد , وهو وجود الله .
5- أن الإنسان قادر بعقله على إدراك أسس الفضائل , وأصول الأخلاق العملية والاجتماعية , والتحلي بها , وإخضاع الشهوات الجسدية لحكم العقل من غير إهمال لحق الجسد , أو تفريط فيه .
6- أن ما تأمر به الشريعة الإسلامية , وما يدركه العقل السليم بنفسه من الحق والخير والجمال ؛ يلتقيان عند نقطة واحدة بلا خلاف .
7- أن الحكمة كل الحكمة ؛ هي فيما سلكه الشرع من مخاطبة الناس على قدر عقولهم دون مكاشفتهم بحقائق الحكمة وأسرارها , وأن الخير كل الخير للناس ؛ هو التزام حدود الشرع وترك التعمق .
قصص عربية تحمل نفس الاسم : (2)
هناك قصص كثيرة في تراثنا العربي تحمل نفس اسم قصة حيّ بن يقظان , أو أسماء أبطالها , فلابن سينا قصتان شخصياتها تحمل نفس أسماء قصة ابن طفيل ؛ الأولى تحمل نفس الاسم
(حيّ بن يقظان ) وموضوعها نفس موضوع قصة ابن طفيل , والثانية تحمل اسم
( سلامان وأسال ) وهي قريبة إلى قصة العباسة مع يحيى البرمكي .
ولحنين بن إسحاق الفيلسوف العربي المشهور قصة
(سلامان و إيسال ) وكان نقلها عن اليونانية , غير أن إيسال في هذه القصة امرأة جميلة مرضعة لولد هرمانوسبن هرقل وهو سلامان الذي تعلق لما كبر بمرضعته وأحبها , وهرب معها وغرقا في البحر فهلكت إيسال ونجا سلامان وسلا حبيبته , واعتلا عرش أبيه بعد موته وأمر بكتابة قصته هذه .
ولابن الأعرابي في كتابه النوادر قصة
( سلامان وإيسال ) , لكنها تختلف عن قصة ابن طفيل ؛ فسلامان عند ابن الأعرابي رجل طيب النفس يسعى للخير ويطلبه بشتى الوسائل , و إيسال رجل شرير يسعى للإضرار بالغير يقعان معاً في الأسر فلقي الأول جزاء فعله الخير فنجا , ولقي الثاني جزاء شره فبقي في الأسر حتى مات .
ولكل من بديع الزمان الهمذاني , وأبي محمد الشيرازي قصة تحمل نفس اسم قصة ابن طفيل .
أثر القصة في الأدبين ؛ العربي والغربي : (3)
كان لقصة حيّ بن يقظان أبعد الأثر فوجهت وألهمت أدباء كثيرين عرباً وأعاجم , فلقد تأثر بها السهروردي واتخذ لبطل قصته
( الغربة الغريبة ) اسم حيّ بن يقظان , كما نسج عبدالرحمن جامي في قصته الرمزية على منوال ابن طفيل وسماها
(سلامان وإيسال ) .
وترجمت قصة حيّ بن يقظان إلى العبرية سنة 1349هـ , وترجمها بوكوك في أوكسفورد إلى اللاتينية بعنوان
(الفيلسوف الذي علم نفسه بنفسه) مع نصها العربي سنة 1671م , وترجمت إلى الهولندية سنة 1672م , وترجمها أوكلي إلى الإنكليزية سنة 1708م , وترجمها إلى الألمانية إنجهورن سنة 1782 وترجمها بونس بويجس إلى الأسبانية سنة 1900م,وترجمها بتروف إلى الروسية سنة 1920م , وترجمها بالنثيا إلى الإسبانية سنة 1934م وأعاد ترجمتها سنة 1948م , وترجمها إلى الفرنسية ليون جوتييه سنة 1900م ثم أعاد ترجمتها سنة 1936م .
ومن أبرز القصص العالمية المقتبسة من قصة حيّ بن يقظان قصة
( روبنسن كروز ) لدانييل ديفو سنة 1719م, وحاكاها جورج كبت في ترجمة له بالإنكليزية , وقصص ديارد كيلنج التي جمعها في مؤلفه " الأدغال " , كما اقتبس قصة حيّ الكاتب الأمريكي أدغار رايس بوروز في مجموعة قصص جعل بطلها الشخصية الخيالية " طرزان " , ونجد قصصاً أخرى على غرار قصة حيّ لوليام ل سيستر نشرت في نيويورك سنة 1938م , ولموريس ب غاردنر نشرها ببوسطن سنة 1936م
وهذا ما يؤكد ما كان لقصة حيّ بن يقظان من تأثير كبير على الأدباء والفلاسفة قديماً وحديثاً , وما ألهمته الكتاب والقصاصين من أطر , ووقائع , وشخصيات , ومواضيع لأدبهم , ومن خيال , وفن لقصصهم !!
خـــــــــــــــــاتمة:
وهكذا نرى ابن طفيل وقد درس سيرة الحياة الإنسانية مستخدماً الفن في شكله الأدبي القصصي للتعبير عن فكره الفلسفي , وليبين سبل اكتساب المعرفة التي يراها مخلوقة ومتطورة ومتنوعة , ويمكن للحواس بواسطة النظر والملاحظة والتجربة والقياس إدراكها , كما يقدر الإنسان عن طريق الحدس والإشراق الصوفي اكتساب المعرفة غير المتصلة بالحواس , وبصفة عامة الارتقاء من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية الخالصة المتأتية عن الاستنتاج والتولد , ,ومن الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة , ومن العلوم أو المعرفة الإنسانية إلى العلوم العقلية الصحيحة , ومن علوم الطبيعة إلى العلوم الإلهية .