عضو شرف
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: دير الزور _ العشارة
المشاركات: 1,367
معدل تقييم المستوى:
17
الفنون الشعريّة المستحدثة في العصرين المملوكي والعثماني
الفنون الشعريّة المستحدثة في العصرين المملوكي والعثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
انتشرت مقولة خطيرة بين الأوساط النقديّة الأدبيّة والتاريخيّة للعصرين المملوكي والعثماني ؛ مفادها أنّ هذين العصرين هما عصرا تخلّف وانحطاط , هذه المقولة بدأت مع المستشرقين الذين كادوا للدّين وأخذوا بتشويهه , وتشويه تاريخه ، وعلومه , وآدابه , فقد درسوه دراسة وافرة متعمّقة , وأظهروا له عناية فائقة ؛ الأمر الذي جعل كثيراً من الباحثين العرب الذين تقمّصوا آراء أساتذتهم الغربيّين يردّدون كلامهم دون دراسة وتمحيص , ممّا ساعد على انتشار هذه المقولة المغلوطة .
فنحن لو تأمّلنا نتاج هذين العصرين لوجدنا دُرَرَاً لا يأتي الزّمان بمثلها ؛ في العلوم , والتاريخ , والطب , والأدب ... , وجميع فروع الحياة .
فأبرز علماء المسلمين الموسوعيّين ظهروا في هذين العصرين ؛ من مثل النويري صاحب كتاب ( نهاية الأرب ) , والقلقشندي صاحب ( صبح الأعشى في صناعة الإنشا ) , والأبشيهي صاحب ( المستطرف في كلّ فنّ مستظرف ) , وابن منظور صاحب ( لسان العرب ) , والزبيدي صاحب ( تاج العروس في شرح القاموس ) , وابن أبي أصيبعة صاحب ( عيون الأنباء في طبقات الأطباء ) , وابن خلكّان صاحب ( وفيّات الأعيان ) , وعماد الدّين القزويني صاحب ( عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ) , ولسان الدّين الخطيب صاحب ( الإحاطة في أخبار غرناطة ) , وغيرهم كثير ...
كما برز كبار علماء المسلمين وأدبائهم من مثل : ابن حجر العسقلاني , والحافظ السيوطي , والسّخاوي , والبوصيري , وصفي الدّين الحلّي , والشاب الظريف , وعبد الغني النابلسي , وغيرهم ...
والسبب في وسم العصرين بهذه السمة , كما أرى , طمس المعالم الحضاريّة لهما , وإبعاد تهمة تأثّر الحضارة الغربيّة بهما , فالدّارس لهذه الفترة يلاحظ أنّها بداية انطلاق النهضة الغربيّة , وهذه النهضة تدين بانطلاقتها للحضارة العربيّة , لذلك أرادوا إبعاد حقيقة تأثّرهم بالحضارة العربيّة الإسلاميّة باتهامهم لهذين العصرين بالتخلّف والانحطاط , فكيف يتأثرون بأناسٍ متخلفين ( كما زعموا ) ؟
وأسأل الله أن يوفقني أن أكتب بحثاً مفصّلاً عن هذين العصرين , وأظهر مميّزاتهما , وتأثيرهما بالحضارة الغربيّة .
لكنّني سأسلّط الضوء هنا على بعض أنواع الشعر العربي التي ظهرت في هذين العصرين , والتي تعدّ بحقّ إبداعاً في عالم الشعر العربي ؛ على عكس ما يروّجه بعض الدّارسين من أنّ الشعر في هذين العصرين كان متكلّفاً يعتمد الصنعة , ويبتعد عن الإبداع والأصالة .
فأنا أرى أنّ وصول الشعراء إلى هذه الأنواع الجديدة يدلُّ على رفاهيّة وصلوا إليها في الشعر , فبعد أن وصلوا إلى ذروة في الشعر التقليدي أخذوا في البحث عن ألوانٍ جديدة مبتكرة , فأبدعوا فنوناً مستحدثة لم يعرفها السابقون .
ومع ذلك فنحن لا ننكر أنّ هناك كثير من الشعر الرديء والمستهجن في هذين العصرين , لكن يجب علينا ألا نطلق أحكاماً عامّةً دون دراسة , فالفنون الشعريّة الجديدة لا يستطيع أيّ شاعر أن يكتب بها إلا إذا كانت لديه ملكة شعريّة فذّة , وخيال متوقّد , فهي بحاجة إلى دراية واسعة بفنون الشعر واللغة والبلاغة ليستطيع الشاعر أن يبدع فيها .
ومن هذه الفنون :
أولاً : التأريخ الشعري :
اختلف مؤرّخو الأدب العربي في توقيت العصر الذي ابتُدع فيه التأريخ بالشعر اختلافاً كبيراً , فالأمير حيدر الشهابي ادّعى أنّ عبد الرحمن البهلول النحلاوي ـ وهو أحد أبناء القرن الثاني عشر الهجري ( الثامن عشر الميلادي ) ـ أوّل من اخترعه حيث قال : " وهو الذي اخترع فنَّ التاريخ على حساب الجمل , لأنّنا لم نجد تأريخاً على هذا الحساب قبل عهده "
أمّا الأب لويس شيخو فقد كتب مقالاً ضافياً في هذا الصّدد , وذكر فيه " أنّ حساب الجمل في الأدب العربي , ظلّ العرب يعرفونه حتّى أوائل العهود الإسلاميّة , فاستبدلوا به الأرقام الهنديّة , ثمَّ إنّهم ركّبوا حروف الجمل تركيباً له معناه اللغوي , إلى جانب دلالته التأريخيّة الحسابيّة , وسمّوه " التاريخ الحرفي " , وعرّفوه بأنّه : ما دَلَّ على ابتداء زمن بطريق جمل حروف معدودة , أو ما في معناها " .
أمّا الأبياري فقد زعم أنّه رأى في التواريخ ما يقضي أنّه كان مستعملاً في الجاهليّة الأولى عند شعرائها , ولكنّه لم يبرهن على ما ذهب إليه بدليل .
واتفق مصطفى صادق الرّافعي مع الأب لويس شيخو بأنّ أقدم ما وصل إلينا من هذا القبيل قول ابن الشَّبيب في الإمام المستنجد بالله ؛ وهو الخليفة الثاني والثلاثون من خلفاء العبّاسيّين :
أصبحت " لبّ " بني العبّاس كلّهم = إن عددت بحروف الجمل الخلفا
أراد ابن الشّبيب أن يقول : إنّ المستنجد هو الثاني والثلاثون من الخلفاء العبّاسيّين , وإنّ هذا العدد متضمّن في جمل "لبّ " ثمَّ انتشر هذا الفنُّ وشاع بين الشعراء , ولا سيّما في القرون المتأخّرة , وتقرّرت شروطه , وتعيّنت أنواعه , حتّى إنّه لم يجرِ في الأزمنة المتأخرة أمر ذو بال دون أن ينظم له بعض الشعراء تأريخاً . (1)
وتعتمد هذه الطريقة على حساب التاريخ تبعاً لترتيب الحروف الهجائيّة العربيّة , وهي : أبجد هوّز حطّي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ .
فكلّ حرف له قيمة عدديّة يمثلها كالتالي :
أ = 1 , ب = 2 , ج = 3 , د = 4 , هـ = 5 , و = 6 , ز = 7 , ح = 8 , ط = 9 , ي = 10 , ك = 20 , ل = 30 , م = 40 , ن = 50 , س = 60 , ع = 70 , ف = 80 , ص = 90 , ق = 100 , ر = 200 , ش = 300 , ت = 400 , ث = 500 , خ = 600 , ذ = 700 , ض = 800 , ظ = 900 , غ = 1000 .
لكن هناك شروط يجب توافرها في هذا الفنّ :
منها أن يتقدّم على ألفاظه كلمة " أرّخ " , أو " أرّخوا " , أو ما يدلّ على التاريخ , وإذا تصرف الشاعر في تقديم أو تأخير أو زيادة بعد لفظة " التاريخ " أشار إليه لئلا يستغلق على القارئ , كقول بعضهم في تأريخ بستان :
يهنيك تاريخٌ أتى ضبطه = ( بستان بسط باهر زاخر )
فلم يحسب في التاريخ قوله : " أتى ضبطه " .
وقال شاعر آخر :
( فتحنا العراق ) وذا اللفظ من = رشاقته جاء تاريخه
فقد قدّم كلمات التاريخ على ألفاظ البيت , ودلَّ على الألفاظ التي قصد بها التأريخ .
ومن شروط هذا الفنّ ألا يكون في بيتين , بل في بيت واحد , ويستحسن أن يقع في عجز البيت أو في قسم من العجز .
ومنها أنّ الحروف تحسب على صورتها دون مراعاة لفظها , فتحسب مثلاً ألف كلمة " فتى " ياء , وتاء التأنيث المنقّطة تاء , وغير المنقّطة هاء , ولا يحسب المشدّد إلا حرفاً واحداً , والهمزة التي لا كرسي لها لا تحسب شيئاً , ويحسبون ألف الإطلاق ألفاً , وهلمَّ جرا . (2)
وهذه بعض الأمثلة :
الأديب ماميه الانقشاري يؤرّخ تاريخ موت سلطان الروم السلطان سليم ابن السلطان سليمان :
فارق الملك سليم المجتبى = وغدا ضيفاً على باب الكريم
وغدا في الشهداء تاريخه = رحمة الله على حي سليم
ولماميه الانقشاري تاريخ ابتداء سلطنة سليم نصيف هو " تولّى سليم الملك بعد سليمان", وتولّى بعده ولده السلطان مراد, ولنامية الانقشاري في تاريخ ذلك :
بالبخت فوق التخت أصبح جالساً = ملك به رحم الإله عباده
وبه سرير الملك سرّ فأرّخوا = حاز الزمان من السرور مراده
فيكون تاريخ تولّيه ( حاز الزمان من السرور مراده ) = 982 هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني : بكري شيخ أمين , دار الآفاق ، بيروت ـ لبنان ، ط1 1979م , ص 166-167 .
2- مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني : بكري شيخ أمين , دار الآفاق ، بيروت ـ لبنان ، ط1 1979م , ص 170-171 .