بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليلة النصف من شعبان
وفي شهر شعبان ليلة معظمة مباركة مكرمة وهي ليلة النصف منه التى يتجلى الله فيها على خلقه بعموم مغفرته وشمول رحمته فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويجيب دعاء السائلين ويفرج عن المكروبين ويعتق فيها جماعة من النار ويكتب فيها الأرزاق والأعمال . وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة متعددة وهى لا تخلو من ضعف أو انقطاع وإن كان بعضها أخف ضعفـاً ومع ذلك فقد صحح الحافظ ابن حبان بعضها ونذكر أشهر ما ورد في هذا الباب : أخرج الطبراني وابن حبان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلّىالله عليه وسلّم قال : " يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان ويغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن " رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه .
والمشاحن : منافق شرير يبعث الشقاق ويوقد نار العداوة بين المتحابين ، وقال ابن الأثير في النهاية : المشاحن المعادي ، والشحناء العداوة (1) . (1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 / 449
وروى البيهقي من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّىالله عليه وسلّم قال : " أتاني جبرائيل عليه السلام فقال : هذه ليلة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم كلب (1) (1) قوله ( بعدد شعور غنم كلب ) يعني غنم بني كلب ، وبنو كلب قبيلة كبيرة هم أكثر قبائل العرب أو من أكثرها غنماً . ولا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى مسبل ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدمن خمر…" وذكر الحديث بتمامه .
وروى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلّىالله عليه وسلّم قال: " يطلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين : مشاحن وقاتل نفس " . وإسناده لين كما قال الحافظ المنذري .
وأخرج الترمذى وابن ماجه عن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت : فقدت النبي صلّىالله عليه وسلّم فخرجت فإذا هو في البقيع رافـعاً رأسه إلى السماء فقال :" أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسـوله " فقلت : ظننت أنك أتيت بعض نسـائك فقال : " إن الله تبارك وتعالى ينـزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب " قال الترمذي : حديث عائـشـة لا نعرفه إلا من هـذا الوجـه .
وسمـعت محمداً - يعني البخاري – يضعف هذا الحديث وذلك لأن فيه انقطاعاً في موضعين .
وأخرج البيهقي عن مكحول عن كثير بن مرة وهو تابعي عن النبيصلّىالله عليه وسلّم : " في ليلة النصف من شـعبان يغفر الله لأهل الأرض إلا مشركاً أو مشاحناً " قال البيهقي : هذا مرسل جيد . اهـ.
وأخرج البيهقي عن العلاء بن الحارث أن السـيدة عائشة رضى الله عنها قالت : قام رسـول الله صلّىالله عليه وسلّم من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبـهامه فتحرك فرجعت فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته قال : " يا عائشة - أو يا حميراء - أظننت أن النبي صلّىالله عليه وسلّم قد خاس بك ؟ " قلت: لا والله يا رسول الله ولكنى ظننت أنك قبضت لطول سجودك ، فقال : " أتدرين أي ليلة هذه ؟ " قلت: الله ورسـوله أعلم ، قال : " هذه ليلة النصف من شعبان إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم " قال البيهقي: هذا مرسـل جيد ويحتمل أن يكون العلاء أخذه من مكحول . اهـ
أسماء ليلة النصف من شعبان
ذكر بعض العلماء لليلة النصف من شـعبان أسـماء كثيرة – وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى غالباً – وقد أوصل أسماءها أبو الخير الطالقاني لاثنين وعشرين اسماً ، فمن أسمائها :
الليلة المباركة ، ليلة القسمة ، ليلة التكفير ، ليلة الإجابة ، ليلة الحياة ، وليلة عيد الملائكة ، ليلة الشفاعة ، ليلة البراءة ، ليلة الصك ، ليلة الجائزة ، ليلة الرجحان ، ليلة التعظيم ، ليلة القدر ، ليلة الغفران .
العمل بالأحاديث الضعيفة في الفضائل
خلاصة مهمة في أحاديث ليلة النصف من شعبان
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في اللطائف: إن جمهور أئمة الحديث ضعفوها وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه.
وقال ابن حجر الهيتمي في الدر المنضود : وقد اتفق الأئمة من المحدثين والفقهاء وغيرهم كما ذكره النووي وغيره على جواز العمل بالحديث الضعيف في الفضائل والترغيب والترهيب لا في الأحكام ونحوها ما لم يكن شديد الضعف.
واشترط العز بن عبد السلام وابن دقيق العيد مع ذلك أن يكون مندرجاً تحت أصل عام . فقول أبي بكر بن العربي : لا يعمل به مطلقاً ليس في محله . وقيل يعمل به مطـلقاً إذا لم يكن في الباب غيره ولم يكن ثمة ما يعارضه ونقل هذا عن الإمام أحمد رضى الله عنه ، وقال أبو داود صاحب السنن : إنه يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره .
وما ورد من الأحاديث في فضل ليلة النصف وفضل إحيائها مما يجوز العمل به مع ضعفه لتوفر الشروط فيه (1) . (1) الكلمات الحسان في فضائل ليلة نصف شعبان ، للشيخ حسنين محمد علي مخلوف العدوي ، ص 6
قال سيدي الوالد الإمام الحبيب علوي بن عباس المالكي الحسني في الفتاوي : أجمع أهل الحديث وغيرهم على أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال ، وممن قال بذلك الإمام أحمد بن حنبل وابن المبارك والسفيانان والعنبري وغيرهم ، فقد نقل عنهم أنـهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روينا في الفضائل تساهلنا .
قال العلامة الرملي في فتاويه ما نصه : قد حكى النووي في عدة من تصانيفه الإجماع على العمل بالحديث الضعيف في الفضائل ونحوها خاصة .
قال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به . وقال الحاكم : سمعت أبا زكريا العنبري يقول: الخبر إذا ورد لم يحلّل حراماً ولم يحرّم حلالاً ولم يوجـب حكماً وكان في ترغيب وترهيب غمض عنه وتساهل في روايته . ولفظ ابن مهدى كما قال في المدخل : إذا روينا عن النبي صلّىالله عليه وسلّم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال ، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال
ولفظ الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني عنه : الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجئ فيها حكم .
اعتناء السلف بليلة النصف
قال ابن رجب الحنبلي : وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونـها ويجتهدون فيها في العبادة ، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها ، وقد قيل إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها ، منهم طائفة من عُبّاد أهل البصرة وغيرهم .
وأنكر ذلك أكثر علماء أهل الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا : ذلك كله بدعة (1). (1) لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 161
ونحن لا ننكر على من يرى أن الاجتماع بدعة ، فهذا رأيه وفكره بحسب اجتهاده ونظره وبحثه وهو من حقه أن يرى وينظر ويفكر ويقرر كما يشاء ما دام أنه يسعى في الخير ويجتهد في الوصول إليه لكن المصيبة الكبرى التي يقع فيها كثير من هؤلاء المنكرين هو حجب الحقائق عن الناس وإبراز أقوالهم فقط بأدلتها
أو جهة الاستنباط والاستظهار فيها وبـهذا يوهمون العامة والمثقفين البسطاء أنه ليس في الباب إلا هذا القول وأن ما سواه باطل أو كذب وهذا في الحقيقة هو عين التدليس والكذب.
وأقول لهم : اجتهدوا كما شئتم وأيدوا ما شئتم وقولوا ما شئتم بعد بيان الخلاف الوارد في المسألة و إثبات ما جاء كما جاء مـهـما كان هذا الخلاف ولو كان مخالفاً لأقوالكم ثم أيدوا ما شئتم وردّوا ما شئتم .
وانظر أخي الكريم إلى ابن رجب وأمانته فيما قال فقد بدأ كلامه بذكر الخلاف فقال : اختلف علماء الشام في صفة إحيائها على القولين .
أحدهما : أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد .
والثاني : أنه يكره في المساجد ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه إلى آخر كلامه . ثم رجّح وصحّح ما يراه فقال : وهذا هو الأقرب .
الله أكبر ! ما أعظم هذه الأمانة ويا ليت أصحابنا من الدعاة والوعاظ يلاحظون هذا المنهج الراقي العقلاني الصافي في كلامهم وهجومهم على العلم والعلماء والمتعبدين والعاملين بـهذه الفضائل .
معنى القول بالبدعة في هذا الباب :
والبدعة تطلق في الشرع على ما قابل السنة فتكون سيئة مذمومة ، وعند الإطلاق تنصرف إليها .
وقد تطلق على ما استحدث بعد عهد النبوة واندرج تحت أصل عام مستحسن شرعاً ، فتكون حسنة ممدوحة .
قال الإمام الغزالي في كتاب آداب الأكل من الإحياء : ليس كل ما بعد الرسول صلّىالله عليه وسلّم منهياً عنه بل المنهي عنه بدعة تضاد السنة الثابتة وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علته ، بل الابتداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب . اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: والتحقيق أن البدعة إن كانت مما يندرج تحت أصل مستحسن شرعاً فهي حسنة ، وإن كانت مما يندرج تحت أصل مستقبح شرعاً فهي مستقبحة ، وإلا فهي من قسم المباح ، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة . اهـ
وممن ذهب إلى انقسامها إلى الأحكام الخمسة الإمام القرافي تبعاً لشيخه العز بن عبدالسلام كما نقله الإمام الشاطبي في الاعتصام.
فمن ذهب إلى القول الأول عَنى أن الإحياء ليس بدعة مذمومة بل هو بدعة مستحسنة ، ولعله لاندراجه تحت أصل مستحسن شرعاً وهو الذكر والدعاء المشروعان انفراداً واجتماعاً في المساجد وغيرها وفي كل وقت وحال .
ومن ذهب إلى القول الثانى عَنى أنه بدعة مذمومة شرعاً لكراهة التزام عبادة معينة في وقت معين لم يرد بـها الشرع فيه على سبيل اللزوم .
قال الإمام القرافي : إن تخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادة بدعة مكروهة . اهـ
وقال الشاطبي : إن التزام صيام يوم النصف من شعبان ، وقيام ليلته بدعة مذمومة. اهـ
وفي الاعتصام تحقيق شافٍ وافٍ في موضوع البدع وتعريفها وضوابطها وهو من أهم الموضوعات المتعلقة بالأحكام ، فراجعه.
وقد درج على استحباب إحياء ليلة النصف ببعض العبادات انفراداً وببـعضـها اجتماعاً العلامـة شـهـاب الدين أحمد ابن حجازي الفشني في كتابه ( تحفة الإخوان ) تبعاً لحجة الإسلام الغزالي مطلقاً وللحافظ ابن رجب في حالة الانفراد ، وللأئمة من التابعين ومن وافقهم الذاهبين إلى استـحبابه في حالتي الانفراد والاجتماع فقال : والحاصل أن إحياء ليلة النصف مستحب لما ورد فيه من الأحاديث ، ويكون ذلك بالصلاة بغير تعيين عدد مخصوص ، وبقراءة القرآن فرادى وبذكر الله تعالى والدعاء والتسبيح والصلاة على النبي صلّىالله عليه وسلّم جماعة وفرادى ، وبقراءة الأحاديث وسماعه ، وعقد الدروس والمجالس للتفسير وشرح الأحاديث ، والكلام على فضائل هذه الليلة ، وحضور تلك المجالس وسماعها وغير ذلك من العبادات. اهـ
فضل الذكر انفراداً واجتماعاً
أما ذكر الله تعالى في أي وقت وحال فهو خير الأعمال وأزكاها عند الله تعالى . وفي الحديث : " ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله تعالى " . والاجتماع فيه مشروع مرغّب فيه كما يدل عليه الحديث القدسي : " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه " .
وحديث مسلم : " لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السـكينة وذكرهم الله في من عنده " ويؤخذ منهما فضل الاجتماع على مذاكرة العلم ومدارسة القرآن وقراءة التفسير والحديث والفقه وعلى الترغيب والترهيب ، إذ كلها ذكر لله تعالى وللاجتماع فيها فضل عظيم (1 ) الكلمات الحسان في فضائل ليلة نصف شعبان للشيخ حسنين محمد علي مخلوف العدوي ص 9
--------------------------------------------------------------------------------
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ونبيك النبي الأمي وعلى آله وصبحه وسلم تسليما
من رسالة السيد العلوي المالكي رحمه الله