علوم اليقين
"إن مراتب الرجال في المعرفة على ثلاثة أقسام:
الأول: علم اليقين (1) ، وهو أن تتلقَّى الحقائق عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعن الوارثين لأسراره، فتقوم بها، وتسلِّم لها، وتشتاق إلى شهودها، وهذا هو علم اليقين، الذي لا يتزعزع صاحبه، ولا يتحوَّل عنه.
وقد أخبرنا القرآن أن الله معنا، فنؤمن بتلك المعية (2) ، ونسلِّم بها مع ملاحظتها، حتى يكشف الله "الستَّار" عن معناها اللائق بحضرته تعالى، فيصبح العبد في "عين اليقين"، يشاهد الرب المعين، فإذا فني عن وجوده في شهود مولاه، وصل إلى "الحق اليقين".
وإنك لو اعتقدت عقيدة ثابتة في أن ربَّك هو الحفيظ النافع، فتكون فيهذه الحالة في "علم اليقين"، فإذا واجهك نور"الحفيظ، النافع" انكشف لك أن جميع ما لديك من الأسباب والماديات، والتفكير، كلّها بمدد نوره، ولو سلب هذا المدد لوقف نظامك في الحال.
ويكفيك أن النار لم تحرق الخليل، والسِّكين لم تؤثر في ابنه اسماعيل، فلو عرفت ذلك صرت في معية الله : عين اليقين؛ فلا تتحرك إلا وتشهده بمدده، ولا تسكن إلا وتشهده بعنايته، فإذا تجمَّلت بجمال الأسماء، وعشقت معانيها، وصلت إلى حق اليقين.... .
ولا تظنّ أن تلك المعيَّة محدودة، ولكنها سارية معك، وأنت في علم الله، وفي بطن أمك، وهي معك في الدنيا، والله على ما عليه كان، لا فرق عنده بين كونك في علمه، أو في عالم الأرواح، أو في عالم الأشباح (3) .
واعلم أن السرَّ في الوصول إلى هذه الحقائق : صحبة الرجال العارفين، وهو استحضار جمال الله ، ونعمه، وعطفه، وكرمه. وأنه أحياك، ورقَّاك، وجعل تلك المعاني فيك، فإذا ذكرت الله ذكرك، وهذا هو الشرف العظيم.
قال الله تعالى في الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في ملأ خير منه) (4) .
والذكر في النفس استحضار معاني المذكور، فيذكرك في نفسه، ويملأ قلبك نوراً، وإذا ذكرته في ملأ بين الإخوان، ذكرك في الملأ الأعلى، وأفاض عليك من الرضوان، فتكون ذاكراً مذكوراً، مؤيَّداً منصورا." اهـ 158
اقتباس:=================== الحاشية ===================
(1) : هناك علم اليقين، وعين اليقين وحق اليقين.
فعلم اليقين: ما كان من طريق النظر والاستدلال.
وعين اليقين: ما كان من طريق الكشوف، والنوال.
وحق اليقين: ما كان بتحقُّق الانفصال عن لوث الصلصال بورود رائد الوصال.
علم اليقين لا اضطراب فيه. وعين اليقين : هو العلم الذي أودعه الله تعالى الأسرار، والعلم إذا انفرد عن نعت اليقين كان علماً بشبهة، فإذا انضم إليه اليقين كان علماً بلا شبهة. وحق اليقين: ما أشار إليه علم اليقين وعين اليقين.
وقال الإمام الجنيد قدس سره العزيز:" حق اليقين ما يتحقَّق العبد بذلك، وهو أن يشاهد العيوب كما يشاهد المرئيات مشاهدة عيان، ويحكم على الغيب فيخبر عنه بالصدق، فعلم اليقين حال التفرقة. وعين اليقين حال الجمع. وحق اليقين: جمع الجمع بلسان التوحيد. انظر: عوارف المعارف للسهروردي 2/332.
(2) : في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . سورة الحديد - الآية 4.
(3) : وهذا كله داخل في عموم قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ }. أي في أي مرحلة من مراحل وجودكم، سواء في عالم الأرواح، أو في عالم الأشباح، أو في عالم البرزخ، وفي أي حالة من حالاتكم، وتقلب من تقلُّباتكم، فهو سبحانه وتعالى معكم يراكم، ويمدّكم بمدده، مجتمعين ومنفردين: { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا }.
(4) : في الحديث القدسي فيما يرويه صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ، وإذا تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً ، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة " رواه أحمد ، والشيخان ، والترمذي، وابن ماجة ، وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:" يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً ، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " .
وفي هذا الذكر أكرمك الله أيها العبد بكرامات ثلاث : جعلك ذاكراً له ؛ ولولا فضله لم تكن أهلاً لجريان ذكره عليك. وجعلك مذكوراً به ؛ إذ حقق نسبته لديك . وجعلك مذكوراً عنده ، فتمم نعمته عليك . يعني أن الله تعالى أكرمك أيها المؤمن بثلاث كرامات ، جمع لك فيهن أنواع الفضائل والمبرات .
الأولى : جعلك ذاكراً له بلسانك وقلبك ، ووجه حلاوة ذلك إليك ، ولولا فضله لم تكن أهلاً لجريان ذكره عليك.
والثانية : جعلك مذكوراً به عند الناس ؛ بأن يقال: هذا ولي الله وذاكره ؛ إذ حقق نسبته _ أي خصوصيته _ لديك ، وهي ما أظهره من أنوار الذكر والطاعة عليك.
والثالثة : جعلك مذكوراً عنده ، فتمم نعمته عليك بمزيد الإكرام ومنتهى الفضل والإنعام . وفي ذلك تصديق لقوله تعالى في الحديث القدسي : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " . وقال صلى الله عليه وسلم : " ما جلس قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " . والعندية هنا عندية مكانة _ أي شرف _ لا مكان ، تعالى الله عن ذلك ." اهـ 158
(يتبع إن شاء الله تعالى : مواجهة الأسماء الحسنى -تتجلَّى الأسماء الإلهية للمراقب لعزة الربوبية.... )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات