"وحضرة الألوهية حضرة الغنى المطلق، والعز المحقَّق.
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه سيد الخلائق - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (1) .
فحضرة الألوهية ترتعد من عزتها فرائص المقرَّبين. والعارف بالله لا يأمن مكر الله، ولو صرَّفه الله في العوالم، ولا ييأس من روح الله، ولو انغمس في الذنوب العظائم، لا يرى في الوجود مخلوقاً أنقص من نفسه، ولا يتعالى على مخلوق ، وتأخذه الغيرة بالله على انتهاك الحرمات، وهو فانٍ عن نفسه، وحظِّه، وجميع الشهوات، عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، فلم يرتكن على مخلوق لأنه رأى إشراقة الجمال فتنعَّم بشهودها، وشرب الطهور من قول الله تعالى:{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } (2) .
انطوت العبارة، وانكشفت حقائق الآثار، فشاهد العدم بارزاً بنور القدم، فقال: " سبحانك يا قدير! يا من أقمت العبد في صورة "السميع، البصير".
ومن أراد أن يتنعَّم بشهود الحضرة فعليه أولاً أن يتطهَّر من الذنوب الظاهرة بالتوبة، ومن العيوب الباطنة بالخشية، ثم يغسل وجوده الباطل بماء الحقيقة، حتى يرجع لأصله، ويحظى بوصله، فإن وجود العبد بنفسه باطل، وهو حدثٌ يجب الطهارة منه، فيتحقق المدد من جنابه، فضلاً منه إليه، ويكون هو الدليل عليه، سطعت أنوار ودِّه فجميع الورى يسبحون في نوره.... .
والله لولا الله ما اهتدينا = ولا تصدَّقنا ولا صلينا (3)
1والله لـولا الله مـا iiاهتدينـا ولا تصدَّقنا ولا صلينا (3)
هو الموفق الهادي، وعليه توكلي واعتمادي، لولا ظهوره ما ظهرت الكائنات، ولولا نوره ما لاحت المخلوقات." اهـ182
اقتباس:======================= الحاشية =====================
(1) : سورة الأحزاب – الآية 37.
(2) : سورة البقرة – الآية 115.
(3) : وهذا البيت من جملة الأشعار التي أنشدها سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم متمثلاً بها لا منشئاً لها، فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل الشعر حيث عصمه الله منه . وقد ثبت في الصحيح أنه صلى اللّه عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه، ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي اللّه عنهم، فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون:
لا هم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
إن أولاء قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع صلى اللّه عليه وسلم صوته يقوله: أبينا، ويمدها، وقدر روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
لكن قالوا: هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه، وكذلك كا ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غار، فنكبت إصبعه، فقال صلى اللّه عليه وسلم:
هل أنت إلا اصبع دميت *** وفي سبيل اللّه ما لقيت
وكل هذا لا ينافي كونه صلى اللّه عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له، فإن اللّه تعالى إنما علمه القرآن العظيم {الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} ، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته صلى اللّه عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً. قال صلى اللّه عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً" . أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً، قال ابن كثير. وإسناده على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين، الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد اللّه بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي اللّه عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم (أمية ابن أبي الصلت) الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "آمن شعره وكفر قلبه"، وقد أنشد بعض الصحابة رضي اللّه عنهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم مائة بيت يقول صلى اللّه عليه وسلم عقب كل بيت: "هيه"، يعني يستطعمه فيزيده من ذلك، وفي الحديث: "إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً" أخرجه أبو داود من حديث أبي بن كعب وابن عباس رضي اللّه عنهما. ولهذا قال تعالى: {وما علمناه الشعر} ." اهـ 182
(يتبع إن شاء الله تعالى مع الاستحضار براق الأخيار.... )