"ومتى ظلَّلتك أنوار "القُدُّوس" دخلت في القُدُس، وأنت فرحٌ مأنوس، ولا تتحقَّق بحضرة القُدُّوس إلا إذا طَهَّرتَ إرادتَك من الارتكان على الملاذِّ الحسّيَّة، وحبِّ الذات، والأنانية. فكلُّ ذلك بمنـزلة الجنابة الحاجبة عن الدُّخول في الحضرة، حتى تنحصر إرادتك في مطلوب واحدٍ هو الله تعالى، لا ترى أجملَ منه فتطلبه، ولا أعزَّ منه فتركنَ إليه، ولا ألطفَ منه فتحبَّه. وعند ذلك لو عرضت عليك جمالات الملك والملكوت، والجنَّة وجميع مراتب الوجود لا تلتفت إليها، وهنا يلذُّ الملام، ويحلو الهيام (1)
فإذا سمعت من الخلق أنك مجنون أو جاهل، أو لا تفهم، زاد شوقك وإقبالك، وسجدت شكراً لله الذي أعطاك حقيقةً حجب عنها أهل اللَّوم والغفلة (2) .
وهنا سأتلو عليك ما حصل لسيدنا موسى الكليم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم، لمناسبى حضرة"القُدُّوس":
" خرج السيد موسى مع زوجته من الشام إلى مصر، وكانت زوجته حاملاً، فبينما هو سائر في الطريق ليلاً ، وكان في زمن الشتاء، جاء زوجته المخاض، فبحث سيدنا موسى عن قبس من النار، ليدفع عن زوجته شدَّة البرد فنظر إلى الوادي فرأى بجانب جبل الطُّور ناراً، فسار إليها ليقتبس منها، فلما أتاها وجدها أحاطت به، ونودي من الحضرة العليَّة نداءً منزَّهاً عن الحدود والجهة، فكلَّمه قائلاً له: { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ }(3) .
فلمَّا خلع نعليه وهما عند العارفين الدنيا والآخرة، أو الملك والملكوت، أومقتضى الجسم والروح.
ولا يليق للإنسان أن يدخل تلك الحضرة وفيه بقية لغير الله فهي بمنـزلة النعال الملوثة المبعدة عن الحضرة (4) .
وإن الربَّ تعالى لما تجلَّى لحبيبه موسى وتنـزَّل له على قدره حناناً وكرماً، فكان بمقتضى هذه المواجهة تقديس الوادي بإشراق نور الرب الهادي.
ولما كانت حضرة الربوبية حضرة عواطف وتنـزُّل ولطفٍ، فلذلك افتتحه بها، فلما خلع نعليه ودخل في الوادي المقدَّس، استعدَّ لأن يواجه الحق بحضرة الألوهية وهي حضرة العلو والكبرياء، والعزَّة، ليعرف الحضرتين، ويفوز بالكمالتين، فقال: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي }(5) .
وقد أراد الحق أن يؤانسه في تلك الحضرة لئلا يذوب من الهيبة، فقال تعالى له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (6) .
ومراده بتطويل الأوصاف تطويل مؤانسته بالحبيب، قال له الحق: { ألقها }، ومعنى ذلك: أن من ألقى عصاه تسليماً لله، منحه الله السرَّ الكبير. فألقاها ، فسرى فيها سرُّ الحياه، وكانت آية رفعت شأن موسى، وأحيت ذكره." اهـ
اقتباس:=================== الحاشية ==================
(1) : وتكون عبد القدوس الذي قدَّسه الله عز وجل عن الاحتجاب، فلا يسع قلبه غير الله ، وهو الذي وسع قلبه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم رواية عن ربه عز وجل في الحديث القدسي الجليل:" لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن" ومن وسع الحق قدس عن الغير، إذ لا يبقى عند تجلِّي الحق شيء غيره، فلا يسع" القدوس" إلا القلب المقدس عن الأكوان.
(2) : لأنك عند هذا المقام تكون قد تحقَّقت بمقام الفناء في الله تعالى ، وقد ورد عن سيدي ومولاي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: فيما رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا: (أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون). وروى الطبراني والبيهقي مرسلا: (اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون إنكم مراءُون). وما ذلك إلا لأن الذاكر لله تعالى كثيراً داخلٌ في حضرة القُدُّوس سبحانه، فيغيب عن الوجود وما فيه ويبقى لله وبالله وفي الله وعلى الله .
(3) : سورة طه – الآية 13.
(4) : ولما كان الحق تعالى من أسمائه القدوس، قدّس نفوس العابدين بحسن تأييده عن دنس المخالفات، وطهَّر قلوب الزاهدين بحسن تسديده عن الرغبة في الدنيا، واستشعار الشهوات، وطهّر أسرار العارفين بنور توحيده عن شهود ما سواه من سائر المكوَّنات. ويكون التعلق باسمه تعالى "القدوس": بطلب العصمة عن دنس المخالفات الظاهرة والباطنة، وبطلب حفظ القلوب من الهفوات، والأسرار من الفترات وأن يطهر جوارحه من لوث المعاصي والهفوات، ونفسه من متابعة الشهوات، وماله عن الحرام والشبهات، وقلبه عن كدورة الغفلات، وروحه عن المضاجعات والمساكنات، وسرّه عن الملاحظات والالتفاتات، فلا يتذلل لمخلوق بنفسه التي بها عبده، ولا يعظم مخلوقاً من حيث إنه مخلوق، بالقلب الذي به شهده، ولا يبالي بما فقده بعد ما وجده، ولا يرجع قبل الوصول إليه بعد ما قصده.
(5) : سورة طه - الآيتان 13-14.
(6) : سرة طه - الآيتان 17-18. " اهـ 4/273
(يتبع إن شاء الله تعالى.... )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات