معنى اتخاذ القبور مساجد
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»( ).
فالحديث لا يتناول أيَّ مكان آخر غير عين القبر، فلا يدخل فيه ما حول القبر أو ما جاوره أو ما كان فوق القبر غير مسامِتٍ له، أي على غير فتنة، فالمقصود بالحديث هو عين القبر من حيث: السجود عليه أوْ له، فإن المساجد جمع مسجد وهو ما يسجد (عليه) كما هو مقتضى اللغة العربية.
قال العلامة البيضاوي: « كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم ويجعلونها قبلة لهم يتوجهون في الصلاة نحوها فقد اتخذوا أوثانا ولذلك لعنهم الله ومنع المسلمين عن مثل ذلك » فبين أن المحذور هو أمران:
الأول: السجود للقبور وهو غاية التعظيم.
الثاني: جعلها قبلة والتوجه في الصلاة إليها – وإلى صاحبها- قلبيا وحسيا أي: عبادتها.
ولا يخفى أن بعضهم قد بالغ – بعد تغيير كتبهم وتحريفها- في تعظيم أنبيائهم فعبدوهم كما أخبر القرآن وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله .
قال ابنُ عبد البر: « في هذا الحديث إباحة الدعاء على أهل الكفر، وتحريم السجود على قبور الأنبياء، وفي معنى هذا أنه لا يحل السجود لغير الله عزَّ وجلّ، ويحتمل الحديث أن لا تُجْعل قبور الأنبياء قِبلة يُصلَّى إليها، ثم قال: وقد زعم قوم أنَّ في هذا الحديث ما يدل على كراهية الصلاة في المقبرة وإلى المقبرة ، وليس في ذلك عندي حجة »( ).
وقال ابن عبد البر في موضع آخر من التمهيد: «وكانت العرب تصلِّي إلى الأصنام وتعبدها، فخشى رسول الله على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم: كانوا إذا مات لهم نبي،عكفوا حول قبره كما يُصْنَعُ بالصنم، فقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: اللَّهُمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُصَلَّى إليه، ويُسْجَدً نحوه ويُعْبَدُ فقد اشتدَّ غضبُ الله على من فعل ذلك، وكان رسولُ الله يحذِّر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صَلُّوْا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدًا، كما صنعت الوثنية
بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه ممَّا لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم.. ».
ثم قال: « وقد احتجَّ بعضُ من لا يرى الصلاة في المقبرة بهذا الحديث، ولا حجة له فيه»( ).
والاتِّخاذُ الموجب لِلَّعن شرحه العلامة السيِّد عبد الله بن الصِّدِّيق الغُمَاري رحمه الله تعالى في رسالته « إعلام الراكع السَّاجد بمعنى اتِّخاذ القبور مساجد »، فقال:
« اتِّخاذ القبور مساجد، معناه: السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها، كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان، وهو شرك صريح، وهذا المعنى، منطوق اللفظ وحقيقته.
وثبتت أحاديث مبينة له ومؤيدة:
منها: حديث عائشة عند الشيخين، قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في مرضه الذي لم يقم منه: « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » ، قالت: « فلولا ذلك أبرزوا قبره، غير أنه خشى أن يُتَّخَذَ مسجدًا » ، أي يسجد له.
ومنها: ما رواه ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: « اللَّهُمَّ لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»( ). جملة لعن الله قومًا، بيان لمعنى جعل القبر وثنًا.
ومعنى الحديث: اللَّهُمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُسْجَدُ له ويُعْبَدُ كما سجد قوم لقبور أنبيائهم.
ومنها: ما رواه البزَّار عن أبي سعيد الخدري: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: « اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك أن يُتَّخَذ قبري وثنًا، فإنَّ الله تبارك وتعالى اشتدَّ غضبُه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » إسناده ضعيف لكن حديث أبي هريرة شاهد له.
ومنها: ما رواه ابن سعد في الطبقات قال: أخبرنا مَعْن بن عيسى، أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسْلَم، عن عطاء بن يسار أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: « اللَّهُمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . مرسل صحيح الإسناد
ومها: ما رواه ابن أبي شيبة، حَدَّثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عَجْلان، عن زيد بن أسْلَم قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اللَّهُمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُصلَّي له، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد » ، ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن زيد به، وإسناده صحيح( ).
تقرَّر في علم المعاني: أنَّ الجملتين إذا كانت بمعنى واحد، فإنهما يجرَّدان عن العاطف،كما في هذه الأحاديث؛ لإفادة اتِّحادهما في المعنى »( ).انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى عليه ورضوانه.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات