كن كالنحل ولا تكن كالذباب ..........
بسم الله الرحمن الرحيم
كن كالنحل ولا تكن كالذباب !!
الناس في تعاملهم بعضهم مع بعض صنفان: صنف يراعي ذوقيات
المعاملات ويلتزم بها، ويصوب نظره إلى جوانب الخير في الناس، قاصداً
تفعيلها وتنشيطها، فهو يحسن الظن بهم، ويعلم أنه ما من شخص على
وجه البسيطة مهما كان مُسيئاً – إلا وتكمن داخله جوانب خير، فمن
يتعامل مع الناس بذوق قاصداً تفعيل الخير الكامن داخلهم واستثماره.. فهو
كالنحلة، تتنقل بين الزهور بشتى أشكالها وأنواعها، وترتشف رحيقها، ثم
تخرجه عسلاً شهياً، وبذلك تفيد نفسها وغيرها.. ومثل هذا الإنسان يدرك
أن الخير في فطرة الناس، وربما تحجبه غشاوة رقيقة أو جهالة عابرة، أو
سوء خلق يمكن علاجه، ومن ثم يمكن استخراج الخير من كل إنسان إذا
ما أحسنا التعامل معه مراعين ذوقيات القول والعمل.
أما الصنف الثاني من الناس – وهو الذي يشبه الذبابة في منهج تعاملها،
فذاك صنف يفترض أن ما بداخل الناس كله شر، ولا خير فيهم على الإطلاق، ومن ثم يتعامل معهم عل هذا الأساس، فيسيء الظن بهم،
ويتعامل معهم على حذر، يكذبهم ولا يصدقهم، ويستخونهم ولا يأتمنهم،
فيؤذي نفسه والآخرين، فكن كالنحل ولا تكن كالذباب.
ولكي تكون كالنحل، يجب أن تلمّ بأسس الذوقيات في شتى مجالات
الذوق وتتحلَّى بها.
- الذوقيات في الأماكن العامة والمواصلات:
التدخين، قد يكون الإنسان مريضاً يتضرر من التدخين، بل ربما يهلكه
فيدخل محلاً تجارياً أو يركب وسيلة مواصلات عامة، ويجد شخصاً يدخن،
فيطلب منه إطفاء السيجارة بذوق ولطف وصوت خفيض، فيرد عليه بصلف
وجفاء وغلظة: أنا حُرٌّ، وإذا لم يعجبك فيمكنك أن تغادر المكان.
إن حرية الواحد منا يجب أن تنتهي عندما يُشتَم منها رائحة الإضرار بالآخرين.
وقد تجد في الأسواق شباباً يعتدون بالنظر على حُرمان الناس وأعراضهم،
بل منهم من يتطاول فيؤذي بنات الناس ونساءهم بالمعاكسات والشتائم
والسخرية، وأحياناً يصل الأمر إلى الإيذاء باليد!!
تلك سلوكيات خاويات من أبسط قواعد الذوق، وما برزت إلى واقعنا إلا
لغياب الذوق عند هؤلاء الشباب، بل صار الأمر مزعجاً، إذ تحولت كثير من
الإناث إلى متبجحات قليلات الحياء، يعاكسن الشباب والرجال في
الأسواق، بالنظرة المسمومة، أو بالكلمة المحمومة، أو بغير ذلك من وسائل الفتن، كالملابس، والتزين، والتطيب.. وغيرها
- ذوقيات المضيف:
1- طلاقة الوجه: وتتحقق هذه الطلاقة بعدة أمور، منها: البشاشة،
والتبسم في وجه الضيف، وإظهار البشر والإيناس، ومضاحكة الضيف، وإبراز
السرور به، وإبراز حلول الخير بقدومه، وما أجمل قول الشاعر في ذلك:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ***** ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى***** ولكنما وجه الكريم خصيب
ومن الأمثال العامية المصرية قولهم: "لاقيني ولا تغديني"، أي قابلني بوجه
بشوش وترحاب أفضل من سوء المقابلة مع الطعام.
2- المصافحة: فقد كان (ص) يصافح أصحابه، ولا ينزع يده من يد صاحبه
حتى يسبقه صاحبه في ذلك، فالمصافحة تُشعر الضيف بالمحبة والقبول،
كما أنها كما قال الحسن البصري: تزيد الود.
3- العناق: فهو دليل قوي على الشوق والحب، وخاصة إذا كان الضيف قادماً من سفر.
4- النداء بأحب الأسماء: فذلك – أيضاً – من سنة حبيبنا (ص): لأن ذلك يدخل السرور على قلب الزائر.
ويقول الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ***** ولا ألقبه والسوأة اللقب
5- أن نتجنب سؤاله: كم سيمكث؟
بعض الناس فور أن يأتيهم الضيف يبادرون بسؤاله: كم ستبقى معنا؟ وهذا يسبب حرجاً للضيف، وليس من ذوقيات الضيافة.
6- الاهتمام به في طعامه ومنامه وراحته: والأمر هنا يحتاج إلى اعتناق
المنهج الإسلامي المعتدل، فبعض الناس يرهق نفسه، ويبدو متكلفاً،
ويشق على أهله وولده، وهذا عكس هدى الإسلام؛ حيث الاعتدال في
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)
(الفرقان/ 67)، وواضح هنا أيضاً أن الشح والإمساك ليس هو المنهج القويم.
فمن هدي حبيبنا الكريم (ص) قوله: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
فلم يقل: فليرهق نفسه، ولم يقل: فليمسك، بل الإكرام هنا هو الاعتدال،
الذي أكده ربنا سبحانه وتعالى في موضع آخر من كتابه، حيث يقول:
(وَلاتَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).
فالسمر المباح مع الضيف يزيل عنه الإحساس بالاغتراب، ويشعره
بالسعادة وأنه بين أهله وذويه.
- ذوقيات المحادثات:
من ذوقيات التحدث، أن يحسن المتحدث اختيار الألفاظ حتى وإن كان
الحديث مزاحاً، ومن الذوق في التحدث هنا أيضاً تجنب الغيبة وطعن الآخرين
والتشهير بهم، فقد نهى (ص) عن ذلك في قوله: "ليس المؤمن بالطعان
ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء.
ومن ذوقيات الحديث ألا تستأثر أنت بالكلام ولا تدع مجالاً لغيرك أن يتحدث،
وتجلسه في موضع المستمع، فليس من الذوق احتكار الحديث.
وبعض الناس عندما يحدثك يجعل النصيب الأكبر في رواية بطولاته وإنجازاته،
ويحدثك عن شخصه العبقري الذي لا مثيل له، فهو الفارس الذي لا يشق
له غبار!!
ومن ذوقيات الحديث أيضاً أن تغض صوتك؛ فإن رفع الصوت أكثر من المطلوب
رعونة، وهو سلوك قبّحه القرآن الكريم في وصفه:
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان/ 19).
ومن ذوقيات المحادثة أيضاً آداب الاستماع، وذلك بأن تنصت إلى من يتحدث، وتنظر إليه باهتمام، ولا تقاطعه.
ومن ذوقيات الحديث أن تتحدث بالفصحى، وخاصة عندما تتحدث مع
جنسيات عربية أخرى، مراعياً أنّ لكل مقام مقالاً، فمثلاً إذا ألقيت طرفة
فمسموح لك أن تلقيها بالعامية، ومن الذوق بالمستمعين إليك، وذلك في
سياقها الطبيعي، فذلك يقربك وجدانياً ممن يستمعون إليك، ومن الذوق
عندما تستمع إلى غيرك ألا تظهر له أنك تعلم ما يقوله.
ومن المواقف القصصية التي تؤكد هذه المعاني، أن رجلاً حدَّث بحديث،
فاعترضه آخر، فغضب عطاء وقال: ما هذه الأخلاق؟ ما هذه الطباع؟ والله إن
الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه، وعسى أن يكون سمعه مني،
فأنصت إليه، وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك".
وقد يحكي شخص قصة أو موقفاً أو طرفة، ويوجد شخص في المجلس
نفسه يعرف النهاية فيقطع حديث الرجل، ويذكر النهاية، وذلك ليس من الذوق.
يقول أبو تمام:
من لي بإنسان إذا أغضبته ***** وجهلت كان الحلم ردَّ جوابه
وإذا صبوت إلى المُدام شربت من ***** أخلاقه وسكرتُ من آدابه
وتراه يصغي للحديث بطرفه ***** وبسمعه ولعله أدرى به
فأبو تمام هنا يثني على هذا الذوق في البيت الأخير، لإصغاء من أثني
عليه لغيره، وربما يكون أعلم من المتحدث بهذا الحديث.
وقد تكون في مجلس تحدث واستماع، فيعرض المتحدث سؤالاً على
المستمعين، فمن الذوقيات هنا ألا تبادر بالإجابة طلباً للشهرة وإبراز العلم
للناس