عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,200
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - المقدمات والتقديم

المثنوي العربي النوري - ص: 12
نوحاً مريراً على شقائه الروحي كنواح النغم الحزين المنفرد بحزنه من بين منظومة اللحن الضاحك البهيج.
وكما حاور "النورسي" جموح النفس، وناقش نزقها وتمردها، وردّ على اعتراضاتها حتى راضت وقنعت واطمأنت، فانه كذلك ناقش المؤلهين للطبيعة، واستعرض مقولاتهم، ثم ردّ عليها واحدةً تلو الأخرى، وخلص في خاتمة المطاف إلى خطل راي مَنْ ينسب اليها الحياة والخلق والايجاد من دون الله تعالى..
ولما كانت "نفسه" دائمة الحضور معه، قائمة بين جنبيه، تناقش فكره الايماني، وجهاً لوجه، وتلقي باعتراضاتها حوله، لذا فإنّ "النورسي" كتب ما كتب بقصد ترويض هذه النفس الجموح الثائرة على كل فكر تقليدي، وبنية تبديد شكوكها، وقهر عنادها، وإقناعها بصحة أفكاره، ومصداقية قناعاته.
ومن هنا فليس غريباً ان يكتنف بعض افكاره في "المثنوي" شئ من الغموض غير المقصود، لانه لم يكن مقصوداً من كتاباته سوى نفسه، فلربما كفاه السطر والسطران لتفهم عنه نفسُه، وتعرف مراده، ولا تكفيه الصفحة والصفحتان ليفهم عنه القارئ بعض مراده. 1
ومن حق القارئ الذي يقرأ هذا الكلام أن يسأل نفسه:
اذا كان مقصود "النورسي" فيما كتب في هذا الكتاب "نفْسَهُ" فما جدوى نشره، وإغراء الآخرين بقراءته؟ وهو لم يُكْتَبْ لهم أصلاً، ولم يُصْنّف لأجلهم؟
وللجواب على هذا السؤال نقول:
ان "النفس الإنسانية" هي واحدة في جوهرها، وواحدة في أسباب صحتها ومرضها، كالجسد تماماً، فاذا كانت الأمراض التي يمكن أن تصيب جسد "زيد" هي نفسها التي يمكن أن تصيب جسد "عمرو" وان ما يفيد "زيداً" من دواء يفيد "عمرواً" أيضاً، فكذلك فإن أمراض "النفس" هي واحدة لدى جميع البشر مع بعض الفروقات بين نفس ونفس. فالعلاج الذي استعمله "النورسي" لنفسه قد يفيد أى انسان آخر يعاني ما كان يعانيه "النورسي" من نفسه، وهو يقول بهذا الصدد:
_____________________
1 افادة مرام رسالة "شمة" و "نقطة"



المثنوي العربي النوري - ص: 13
"ولا تخف من تمرد النفس، لأن نفسي الأمارة المتمردة المتجبرة انقادت، وذللت تحت سطوة ما في هذه الرسالة من الحقائق، بل شيطاني الرجيم أفحم وانخنس.. كن مَنْ شئت، فلا نفسُك أطغى واعصى من نفسي، ولا شيطانُك أغوى واشقى من شيطاني". 1
فضلاَ عن التجارب الذاتية التي تخوضها النفوس العظيمة، هي رصيد جديد يضاف الى رصيد الإنسانية ويثري معرفتها بشؤون الروح والوجدان، ويمنح أفرادها ما يفيد في اجتياز قلقهم الروحي بنجاح، وتخطي عواصف شكوكهم بسلام، وقد اعتاد البشر - منذ أقدم العصور - أن يفيد بعضهم من تجارب البعض الآخر، ولولا هذه السنّة الحسنة التي درج عليها الناس لما وصلت البشرية الى هذا الصرح الهائل العظيم من المعارف والعلوم والأفكار.
ونكاد نلمس بين سطور "المثنوي" غبار الصراع الدؤوب الذي خاضه "النورسي" بشجاعته ضد تمردات نفسه وجنوحاتها قبل ان تسلس له القياد، وتسلم له الزمام، حتى اننا لنتعاطف معه، ونأسى من أجله ونحن ننظر بعين الخيال الى ما عاناه هذا الرجل من عذاب قبل ان يحقق انتصاره النهائي على الجانب المستعصي من نفسه..
وما من أحد من المؤمنين إلاّ وله مع نفسه العصية مواقف او بعض مواقف - كالتي كانت للنورسي مع نفسه - مع اختلاف درجات التوتر والقلق والصراع ضعفاً وقوةً، وقلة وكثرةً، في الأشخاص، تبعاً لدرجات إيمانهم ويقينهم؛ لذا فما من أحد إلاّ وله في تجربة "النورسي" ما يفيده بدرجة أو باخرى.. واذا ما فاتنا النزر اليسير من علاجات "النورسي" لنفسه، بسبب بعض الغموض في بعض وصفاته، الاّ أننا سنفيد - بلا ريب - من الشئ الكثير منها، وكما يقول:
"لا تقل: اذا لم ادرِ الكل لا اريد الكل.. فاذا كنت في بستان أتترك الثمرات ان لم تأكل كلها" 2
فَرُبّ زهرة تقطفها من حديقة "المثنوي" تغنيك بشذاها وجمالها عن عشرات الأزهار، ورُبّ فاكهة تنالها يدك تعطيك مذاق مائة فاكهة وفاكهة.
_____________________
1 انظر: تنبيه، اخطار، اعتذار.
2 افادة مرام "شمة من نسيم هداية القرآن"




المثنوي العربي النوري - ص: 14
فالمثنوي.. كتاب فريد في مصداقيته، قد سجل فيه "النورسي" بأمانة وعفوية وصدق سيرة نفسه وما كان يعتورها من قلق واطمئنان، وينتابها من صحة وسقام، ويتناوشها من شك ويقين، من دون زيادة أو نقصان، حتى إنه ليترك نفسه تنساب - على سجيتها - مع انسياب قلمه، فلا يجري على كلامه في بداهته الأولى أيّ تبديل او تعديل، حفاظاً على براءة عفويته، وخوفاً من أن يدخل على كلامه مايخدش صدقه، ويمسُّ بكارة معانيه 1..
وما يتكرر في أول كل خاطرة من خواطر "المثنوي" من "اعلم" فالمقصود: "اعلم يا سعيد". أو "إعلمي"، فالمقصود: "إعلمي يا نفسي" فبسر قوة الصدق الذي يشيع في ثنايا الكتاب - لأنه ليس بعد الصدق مع النفس من صدق - وبسرّ قوة الروح المسكوب في كلماته - لأنه ليس من روح أقوى من روح عجنته المعاناة، وانضجته نار التجربة - يمكن لأي انسان الإفادة من تجربة هذا الكتاب في ترويض نفسه، والتحرر من رهقها، وكذلك تنقية مداركه العقلية من مفاهيمها الخاطئة عن ربوبية "الطبيعة" و"اُلوهية" ماديتها. فبإنهدام هذين الوثنين النفس والطبيعة وتحرر الإنسان من طغيان سطوتهما عليه، ينفسح له المجال واسعاً لميلاد ذاته الحرة من جديد، وانتفاضها من بين أنقاض عالمه المتهدم مفعمةً بالعافية، طافحةً بالحيوية، فلا تلبث حتى تسرع في استرداد وعيها الأعمّ الأشمل، وإدراكها الأصح الأصوب، فترى - بصفاء نظرها وسريرتها - أنّ كل موجود - بحد ذاته - حرفٌ ضائع لا معنى له ما لم يعطه اسم "الله" الأعظم معناه بالانتساب اليه، ويسبغ عليه مغزاه على قدر ارتباطه به وفهمه عنه..
فالكائنات والموجودات - بما فيها الإنسان - حروف خاوية حائرة تجوب كتاب العالم، فلا تقرُّ او تجد لها مكاناً فوق سطور هذا الكتاب الكبير ما لم تستمد معانيها من اسماء الله الحسنى، وما لم يمسها مدد من أمدادها، وينسكب فيها مِدَادٌ من مِدَادِ بحار القُدرة.. فلا شئ موجود على الحقيقة ما لم يعطه الله شيئيته، ويمنحه كيانه، ويقدّر وجوده. فاذا وصل الانسان الى هذه النقطة من الادراك، ولاسيما بعد عظيم المعاناة، فقد وصل الى "التوحيد" الخالص، وتشرب جوهر الإيمان والاسلام، وعرف جدوى الوجود ومعناه..
_____________________
1 انظر افادات المرام ولا سيما افادة مرام "حبة".



المثنوي العربي النوري - ص: 15
وهذا هو ما يرمي "المثنوي" ويهدف الى تحقيقه في نفس صاحبه أولاً، وفي نفس كل قارئ من بعده.
***
والتوحيد الخالص من شوائب الشك، والذي يشكل لبَّ الايمان، وجوهر عقيدة الاسلام، هو في "المثنوي" ليس أمراً تقريرياً، ولا معنىً تلقينياً، ولا عقيدة تقليدية، ولا كلاماً محفوظاً مردداً يردده المسلم بلسان جاف، وقلب بارد، ووعي ذاهل، كما هو مشاهد اليوم لدى الكثير من المسلمين.. فلا غرو إذا ما عجزت "كلمة التوحيد" اليوم - وقد خالطها هذا القصور المعيب - أن تخرق أبواب الروح، وتلج الى أعماق الفؤاد، لتطلق قوى المسلم، وتفجر طاقات كيانه الروحي الذي اصابه الضمور وغدا عاجزاً عن ممارسة أي نشاط يمكن أن يزيد في نموه، ويقوي فيه بصيرة الكشف الذكي عن "علوم التوحيد" العظيمة في مظانها الأصلية من نفس الكون والانسان.
فالتوحيد الذي يدعونا اليه "المثنوي" ليس تقريرياً، ولا تلقينياً، ولا تقليدياً، ولا ترديدياً، بل استكشافياً.. فيه ما في الاستكشاف من متعة ومغامرة ومعاناة، فهو يأخذنا - عبر خواطره - في جولة استكشافية في أغوار النفس الانسانية، ويدور بنا في أنسجة الروح والفكر والضمير، ثم يزيح التراب عن ذاكرة الكون المؤودة تحت ركام علوم العصر، ويستنطقها لتحدثنا عن بصمات "التوحيد"، وتدلنا على آيات الاله الواحد الذي لا يقبل الشريك.. ولا يتركنا الا ونحن قد اكتشفنا "التوحيد" والتقيناه في أشد الأشياء الكونية والنفسية بداهةً، فينبثق في صميم افئدتنا إنبثاقاً، وينغرس بشكل عفوي في أعماق أرواحنا وضمائرنا، فيهز هذا التوحيد الاستكشافي أعماق النفس، ويفعم الذهن بطاقات الذكاء، ويشدُّ في الوجدان أجهزة التلقي عن الكون والحياة، فيستمر المسلم كشافاً رائداً لأعمق الحقائق - في الكون والانسان - في ديمومة لا تتوقف حتى تتوقف حياته.. فيزيد فهماً، ويتسع وعياً ويخصب وجوداً وحياةً.
والايمان بالله واحداً أحداً فرداً صمداً هو أحد المحاور الثلاثة - بعد النفس والطبيعة - الذي يدور حوله "النورسي" في أفكاره وخواطره المسجلة على


المثنوي العربي النوري - ص: 16
صفحات "المثنوي". وهو يرى ان العقل المسلم ينبغي ان يكون قرآني التصور لمفاهيم التوحيد، ولصفات الكمال والجلال والجمال التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى. وأن هذا "العقل" الذي تشكل المفاهيم القرآنية تصوراته عن الألوهية والربوبية.. لا يمكن أن يرقى الى قمته عقلٌ كائناً ما كان ما دام محجوباً عن القرآن.
و"النورسي" وان لم يكن قد استعرض تصورات العقليين للألوهية والربوبية، وتصورات غيرهم من أصحاب الأديان والمذاهب والنحَل الاّ أننا نحسُّ من خلال كلامه عن أسماء الله تعالى وصفاته، وكأنه يردّ - ضمناً - على هذه التصورات المنحرفة، ويفندها الواحدة تلو الأخرى.
ففى كلامه كما سيلمس القارئ بنفسه ردّ ضمني على مَنْ يزعم - من العقليين - بأن الله تعالى خلق العالم وفرغ من خلقه، ولا شأن له به بعد ذلك..
وردٌّ على مَنْ يدّعي عدم علم الله بالجزئيات - تعالى عن هذا علواً كبيراً..
وردّ على مَنْ يؤمن بالله ولكنه يتردد ويتلجلج في ايمانه بالملائكة والكتب والرسل والقدر، واليوم الآخر، والنشر والحشر، والجنة والنار.. الى آخر تلك التصورات السقيمة المجانبة للحق، والمجافية لما أثبته القرآن وجاءت به السنة المطهرة..
إنَّ الآية القرآنية
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ وَهو السّمِيعُ البصِيرُ) (الشورى: 11) قد أوفَتْ وكفت وردّت على تصورات العقول البشرية - بقصورها ومحدوديتها - لله سبحانه وتعالى، وأزرت بقياساتها الفاسدة ابتداءً من تصورات أدنى الوثنيين عقولاً، ومروراً بأكبر عقل من عقول فلاسفة الإغريق، وانتهاءً بآخر ما وصل اليه العقل الرياضي والعلمي الحديث.. والآية - بحد ذاتها - إشارة الى أن المسألة أجلّ وأعظم من أن تترك للأمزجة والخيالات والعقول القاصرة لكي تخوض فيها وترى فيها رأيها من غير هدىٍّ يهديها من الله الذي هو أعلم بنفسه، وأعلم بخلقه، وقدرات عقولهم عن الفهم عنه، وادراك ما هوفي مكنتهم من معاني أسمائه وصفاته.
***
و"النورسي" يرى في "الاسماء والصفات" حلاً للغز العالم، وجواباً على أسئلة كثيرة ربما كان أهمها وأعظمها على الأطلاق هو السؤال الذي حار فيه أكبر العقول


المثنوي العربي النوري - ص: 17
من فلاسفة هذا العصر وفلاسفة كل العصور السابقة، وهو: لماذا مُنِِِحْنَا منحة الخلق..؟ وأعطينا فرصة الوجود..؟ وهذا العالم ما حكمة وجوده..؟ وما مغزى انبعاثه عن العدم..؟ الى آخر هذه الأسئلة التي ما زالت مثار اهتمام العقول الحائرة من بني البشر.
و"النورسي" في خواطره عن صفات الله الجمالية يلتقي الحل، ويقع على الأجابات المقنعة، فهو يرى ان الرسام حين يرسم أجمل لوحاته - ولا مشاحة في المثال - إنما يعبر عن فيض الجمال الذي يغمر نفسه، وهو يفعل ذلك ليرى جمال نفسه في لوحاته وليُرِيَ هذا الجمال للآخرين ممّنْ يملكون القدرة على تذوقه وفهمه والتأثر به.. فكم يكون موقفنا سخيفاً وغير منطقي لو توجهنا بالسؤال لهذا الفنان قائلين: ماذا تفعل..؟ وما الذي يحملك على مسك فرشاتك لترسم هذه اللوحة..؟ وما سرّ ذلك ؟ وما حكمته؟ أليس التوجه بمثل هذا السؤال عبثاً لا معنى له؟ الا يدل على قصور عقولنا؟ وسذاجة أفهامنا؟
فكذلك (ولله المثل الأعلى) فان الصفات الجمالية والكمالية وصفات القدرة التي يدور غالب أفكار "المثنوي" وخواطره حولها، هذه الصفات التي وصف الله - جلّ شأنه - بها نفسه ومنها: (الخالق، الباريء، المصور، الرحمن، الرحيم، اللطيف، الودود، الرزاق، الكريم، القادر، العليم..) الى آخر هذه الصفات لا بد لها من التجلي بمعانيها الجمالية والكمالية في الخلق والايجاد، وان ترتسم صورتها في مرآة العالم والوجود، وتنسكب بمحاسنها وألوانها على صور الكائنات والموجودات، ليراها مَنْ وصف نفسه بـ: "أحسن الخالقين"، وليريها للإنسان في خفايا نفسه، وفيما يحيط به من موجودات. فيرى - هذا الانسان - ويتأمل ويعتبر، ويشهد ويشغف، ويعجب ويشدَه، ثم لا يقف عند هذا بل يمر سريعاً من الرسم الى الرّسام، ومن النقش الى النقاش، ومن الظل الى الأصل، وبذلك - أي بهذا الانتقال السريع - يصبح الانسان جديراً بالفهم عن الله سبحانه وتعالى، الذي قدّر ان يكون محط عنايته، وخليفته في أرضه.. وهي بلا شك ستبلغ - أي هذه الصفات الجمالية والكمالية - مداها الأعظم والأشمل والأوفى من الجمال والكمال في حياة الانسان


المثنوي العربي النوري - ص: 18
الأخرى، وعمره الثاني في كنف الرحمن وفي جنته التي هي أروع لوحاته جمالاً وحسناً وكمالاً وقدرة..
وكما أنّ اللوحة الفنية العظيمة لرسام عبقري، لا يقدر على تذوق محاسنها، وترشف روح الجمال فيها، الاّ مَنْ كان له إلمام ببعض قواعد الرسم، ممّن رهُف حسُّه، ورقّ شعوره، وملك نفساً نقيةً صافية، وقلباً سريع الحساسية بلمحات الحسن والجمال، فكذلك فإن "الجنة" - ولا مشاحة في المثال مرة أخرى - هذه اللوحة المعجزة والتي رسمتها يد القدرة بألوان اللطف والرحمة الإلهيين، لابُدّ والاّ يزاح عنها الستار الاّ لمَنْ يمتلك رصيداً جمالياً في روحه وبدنه، واستعداداً ذوقياً يهئ له سبل الاستمتاع بهذا الجمال الذي لا عين رأت مثله، ولا أذن سمعت وصفه، ولا خطر على قلب بشر، كما جاء وصفه - بهذا المعنى - في الحديث الشريف .
ولذا فقد كرّس "النورسي" جملةً عظيمة من خواطره في "المثنوي" لتشويق الانسان، وترغيبه بالجنة، ولفت نظر النفس الى محاسنها، وتمهيد سبل معرفتها، والوصول اليها، وذلك بتهيئة أحاسيسه الذوقية والجمالية وإرهافها - وهو بعد في الدنيا - وتنقية حواس الروح والبدن من الشوائب والأكدار، وتطهير الضمير والوجدان من قبح الرذائل والآثام، وبهذا تجمل "النفس" فيشتاق جمالها الى جمال الجنة فيتناغمان ويتجاذبان ثم اذا قضي الأجل يلتقيان، فيندغمان ويتذاوبان في حرارة الاشتياق وبهجة اللقاء.
والآخرة بأحداثها وأهوالها، ونشرها وحشرها وجنتها ونارها، ليست -عند النورسي - قضية هامشية تحتل هامش ذهنه، وفضول وقته، وبقايا همّه - كما هي اليوم لدى الغالبية العظمى من الناس - وانما هي شهود دائم، وحضور قائم، ووجود شاخص، لا يبرح فكره، ولا يغادر وجدانه، يراها بنظر بصيرته كما يرى الأشياء بنظر عينه، وتتحسسه روحه كما يتحسس كل مشهود ومعلوم، وينفعل كيانه بها إنفعال منْ يَبْدَهُه الشئ العظيم والخطير، فيستهوِله ويتعظمه، ويخافه ويرجوه، ويرغب به، ويرهب منه.. فما دام الذي بين الانسان وبين أن تقوم قيامته، وتحل آخرته، هو أن يأتي زمن موته، وهو زمن مجهول قدرُهُ، محجوب سرّ قدومه، مكتوم وقت نزوله، ولكنه آت لا ريب فيه، لذا فالآخرة - بهذا الاعتبار - هي غائبة حاضرة، بعيدة


المثنوي العربي النوري - ص: 19
قريبة، مجهولة معلومة، مستورة مكشوفة.. هكذا يتحدث عنها "النورسي" - مستعيناً بما يرمز اليها من شؤون الدنيا - ويصف قيامتها وحشرها ونارها وجنتها وصف مَنْ يراها ويسمعها، ويغشاهُ وقتها وزمانها، وما لم يكن الشلل الروحي قد استفحل دبيبه في كيان المرء، وما لم يكن قد سرى خدَره المتيبسَ الى أمداء عميقة وسحيقة فيه، بحيث لم يعد يجدي فيه أي علاج.. فأغلب الظن ان "المثنوي" قادر باذن الله - بما تفيض به كلماته من بداهة الصدق المقنع - على تحرير هذا المرء من أصفاد شلله، وقادر على إجراء ذلك التمسيد المنشط للذرات الباردة المتيبسة في وجدان هذا المرء، وبعث الدفء والحركة والأحساس بالعافية في كيانه كله، فلا يلبث أن يندفع - في فورة عافيته - مخترقاً شغاف الأوهام بسنى النور الذي أشرقت شمسُه في فؤاده، ومبدداً دياجي الأباطيل ببوارق الحق الذي سطع ضوءُه في افاق عقله.
وتجربة "النورسي" في مثنويه تعلمنا بان "الحقيقة الدينية" - كأية حقيقة وجودية أخرى بل أكثرها علواً وشرفاً - لا يمكن ان تفصح عن نفسها، وتكشف عن سرها الاّ اذا بحث عنها وجهد في استكشافها الكيان البشري برمته، أي: بنزاهة الفكر، وإخلاص الضمير، وطهارة الروح والبدن، لان كل هذه الجوانب - التي منها يتكون الكيان البشري ويستقيم أمره - لها مجساتها الخاصة التي بها تجس جانباً من جوانب الحقيقة وتتلمسها متلذذةً بهذا التلمس والتحسس. وبمجموع هذه المجسات المتساندة والمتعاونة في الكيان البشري، وبالجوارح جميعاً - المادية والمعنوية - يمكن الاحاطة بالحقيقة الدينية والتقاطها وجعلها تسفر عن نفسها كأنصع وأجمل ما تكون، لتنال كل جارحة منها حظها، وتترشف منها ما يلائم مزاجها، ويرضي حاسة ذوقها، ولعلّ في إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي معراجه الى الملكوت الأعلى بكيانه البشري كله - لا بجزء من هذا الكيان - إيماء الى ان المعارف الدينية والتعبدية لا يمكن للمرء ان يستكمل جميع ما يتقطر منها من حلاوة ولذة الا باستخدام جميع أحاسيس كيانه الروحية منها والمادية. فكما ان آلام هذا الكيان ليست واحدة، فألم العين ليس كألم الأذن، وألم الأذن غير ألم الضرس، وأوجاع النفس غير أوجاع البدن، فكذلك فان مباهج هذا الكيان وأفراحه وأذواقه ليست واحدة على التحقيق..

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس