الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #32
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/السانحات - ص: 340
ولا بعثكم الاّ كنفس واحدة) (لقمان : 28) يفهّم معنى الاقتدار. فالتشبيهان يستلزمان حسب القاعدة المنطقية "عكس النقيض": من لا يقتدر على احياء الناس جميعاً لا يقتدر على احياء نفس واحدة.
بمعنى ان الآية الكريمة تدل اشارة الى هذا المعنى:
ما دامت قدرة الانسان - والممكنات - غير مقتدرة بالبداهة على خلق السموات والارض فلا يمكن ان تخلق شيئاً ابداً ولو حجرة واحدة.
بمعنى ان من لا يملك قدرة قادرة على تحريك الارض والنجوم والشموس كلها كتحريك خرز المسبحة وتدويرها، ليس له ان يدّعى الخلق والايجاد في الكون قطعاً.
اما ما يصنعه البشر ويتصرف فيه، فانما هو كشف لجريان النواميس الإلهية في الفطرة، وانسجام معها واستعمالها لصالحه.
فالى هذا الحد من الوضوح البيّن في البرهان وسطوعه انما هو من شأن اعجاز القرآن. والآية الكريمة الآتية تثبت ذلك:
(ما خلقكم ولا بعثكم الاّ كنفس واحدة)
لان القدرة الالهية ذاتية لا يتخللها العجز، وهي متعلقة بالملكوتية فلا تتداخل فيها الموانع، ونسبها قانونية، فالجزء يكون في حكم الكل والجزئي في حكم الكلي.
النقطة الاولى:
ان القدرة الإلهية الإزلية ضرورية للذات الجليلة المقدسة.
أي أنها بالضرورة لازمة للذات المقدسة، فلا يمكن ان يكون للقدرة منها فكاك مطلقاً، لذا فمن البديهي ان العجز الذي هو ضد القدرة لا يمكن أن يعرض للذات الجليلة التي استلزمت القدرة، لأنه عندئذ سيجتمع الضدان، وهذا محال.
فما دام العجز لا يمكن أن يكون عارضاً للذات، فمن البديهي انه لا يمكن ان يتخلل القدرة اللازمة للذات أيضاً.. ومادام العجز لا يمكنه ان يدخل في القدرة مطلقاً فبديهي اذن ان القدرة الذاتية ليست فيها مراتب، لأن وجود المراتب في كل شئ يكون بتداخل أضداده معه، كما هو في مراتب الحرارة التي تكون بتخلل البرودة، ودرجات الحسن التي تكون بتداخل القُبح.. وهكذا فقس.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 341
أما في الممكنات فلأنه ليس هناك لزومٌ ذاتي حقيقي أو تابع؛ اصبحت الأضداد متداخلة بعضها مع البعض الآخر، فتولّدت المراتب ونتجت عنها الاختلافات، فنشأت منها تغيرات العالم. وحيث أنه ليست هناك مراتب قط في القدرة الإلهية الأزلية، لذا فالمقدّرات هي حتماً واحدة بالنسبة الى تلك القدرة، فيتساوى العظيم جداً مع المتناهي في الصغر، وتتماثل النجوم مع الذرات، وحشر جميع البشر كبعث نفس واحدة.المسألة الثانية: ان القدرة الإلهية تتعلق بملكوتية الأشياء..نعم، ان لكل شئ في الكون وجهين كالمرآة : أحدهما: جهة الـمُلك وهي كالوجه المطلي الملّون من المرآة. والأخرى هي جهة الملكوت وهي كالوجه الصقيل للمرآة. فجهة الملك، هي مجال وميدان تجوّل الأضداد ومحل ورود أمور الحُسن والقُبح والخير والشر والصغير والكبير والصعب والسهل أمثالها.. لذا وضعَ الخالق الحكيم الاسباب الظاهرة ستاراً لتصرفات قدرته، لئلا تظهر مباشرةُ يد القدرة الحكيمة بالذات على الأمور الجزئية التي تظهر للعقول القاصرة التي ترى الظاهر، كأنها خسيسة غير لائقة، اذ العظمة والعزّة تتطلب هكذا.. الاّ انه سبحانه لم يعط التأثير الحقيقي لتلك الأسباب والوسائط؛ اذ وحدة الأحدية تقتضي هكذا أيضاً.
أما جهة الملكوت، فهي شفافة، صافية، نزيهة، في كل شئ، فلا تختلط معها ألوان ومزخرفات التشخصات... هذه الجهة متوجهة الى بارئها دون وساطة، فليس فيها ترتب الاسباب والمسبّبات ولا تسلسل العلل، ولا تدخل فيها العليّة والمعلولية ولا تتداخل الموانع، فالذرة فيها تكون شقيقة الشمس.
ان القدرة هي مجردة، أي ليست مؤلفة ومركبة، وهي مطلقة غير محدودة، وهي ذاتية أيضاً. أما محل تعلقها بالأشياء فهي دون وساطة، صافية دون تعكر، ودون ستار ودون تأخير، لذا لا يستكبر أمامها الكبير على الصغير، ولا تُرجح الجماعة على الفرد ولا يتبجّح الكل أمام الجزء ضمن تلك القدرة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 342
المسألة الثالثة: نسبة القدرة قانونية..
(ولله المثل الاعلى) (النحل: 60)
(ليس كمثله شئ) (الشورى: 11)
فهذه المسألة الغامضة سنقرّبها الى الذهن ببعض الأمثلة. حيث التمثيل يقرب التصوير الى الاذهان.المثال الأول: "الشفافية"
ان تجلّي ضوء الشمس يُظهر الهويةَ نفسَها على سطح البحر أو على كل قطرة من البحر، فلو كانت الكرة الأرضية مركّبة من قطع زجاجية صغيرة شفافة مختلفة تقابل الشمس دون حاجز يحجزها، فضوء الشمس المتجلي على كل قطعة على سطح الأرض وعلى سطح الأرض كلها يتشابه ويكون مساوياً دون مزاحمة ودون تجزؤ ودون تناقص.. فاذا افترضنا ان الشمس فاعل ذو إرادة واعطت فيض نورها واشعاع صورتها بارادتها على الأرض، فلا يكون عندئذٍ نشرُ فيضِ نورها على جميع الأرض اكثَر صعوبة من اعطائها على ذرة واحدة.المثال الثاني: "المقالة"
هب أنه كانت هناك حلقة واسعة من البشر يحمل كل واحد منهم مرآة بيده، وفي مركز الدائرة رجل يحمل شمعة مشتعلة، فان الضوء الذي يرسله المركز الى المرايا في المحيط واحد، ويكون بنسبة واحدة، دون تناقص ودون مزاحمة ودون تشتّت.المثال الثالث: "الموازنة"
إن كان لدينا ميزان حقيقي عظيم وحساس جداً وفي كفتيه شمسان او نجمان، أو جبلان، أو بيضتان، أو ذرتان.. فالجهد المبذول هو نفسه الذي يمكن ان يرفع احدى كفتيه الى السماء ويخفض الأخرى الى الارض.المثال الرابع: "الانتظام"
يمكن ادارة اعظم سفينة لأنها منتظمة جداً، كأصغر دمية للأطفال.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 343
المثال الخامس: "التجرد"
ان الميكروب مثلاً كالكركدن يحمل الماهية الحيوانية وميزاتها، والسمك الصغير جداً يملك تلك الميزة والماهية المجردة كالحوت الضخم، لأن الماهية المجردة من الشكل والتجسم تدخل في جميع جزيئات الجسم من اصغر الصغير الى اكبر الكبير وتتوجه اليها دون تناقص ودون تجزؤ، فخواص التشخصات والصفات الظاهرية للجسم لا تشوش ولا تتداخل مع الماهيّة والخاصة المجرّدة، ولا تغيّر نظرة تلك الخاصة المجردة.المثال السادس: "الطاعة"
ان قائد الجيش بأمره "تَقَدمْ" مثلما يحرّك الجندي الواحد فانه يحرّك الجيش بأكمله كذلك بالأمر نفسه. فحقيقة سر الطاعة هي ان لكل شئ في الكون ـ كما يشاهد بالتجربة ـ نقطة كمال، وله ميل اليها، فتضاعف الميل يولّد الحاجة، وتضاعف الحاجة يتحول الى شوق، وتضاعف الشوق يكوّن الانجذاب، فالانجذاب والشوق والحاجة والميل.. كلّها نوىً لأمتثال الأوامر التكوينية الرّبانية وبذورها من حيث ماهية الأشياء.
فالكمال المطلق لماهيات الممكنات هو الوجود المطلق، ولكن الكمال الخاص بها هو وجود خاص لها يُخرج كوامن استعداداتها الفطرية من طور القوة الى طور الفعل، فاطاعة الكائنات لأمر "كُنْ" كأطاعة ذرة واحدة التي هي بحكم جندي مطيع. وعند امتثال الممكنات وطاعتها للأمر الأزلي "كُن" الصادر عن الارادة الإلهية تندمج كليّاً الميول والأشواق والحاجات جميعها، وكل منها هو تجلٍّ من تجلّيات تلك الارادة أيضاً. حتى أن الماء الرقراق عندما يأخذ - بميل لطيف منه - أمراً بالانجماد، يظهر سرّ قوة الطاعة بتحطيمه الحديد.
فان كانت هذه الأمثلة الستة تظهر لنا في قوة الممكنات المخلوقات وفي فعلها وهي ناقصة ومتناهية وضعيفة وليست ذات تأثير حقيقى، فينبغي اذن ان تتساوى جميع الأشياء أمام القدرة الإلهية المتجلّية بآثار عظمتها.. وهي غير متناهية وأزلية وهي التي اوجدت جميع الكائنات من العدم البحت وحيّرت العقول جميعها، فلا يصعب عليها شئ اذن.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 344
ولا ننسى أن القدرة الإلهية العظمى لا توزن بموازيننا الضعيفة الهزيلة هذه، ولا تتناسب معها، ولكنها تُذكَر تقريباً للأذهان وازالة للأستبعاد ليس إلاَّ.
نتيجة الاساس الثالث وخلاصته: ما دامت القدرة الإلهية مطلقة غير متناهية، وهي لازمة ضرورية للذات الجليلة المقدسة، وأن جهة الملكوت لكل شئ تقابلها ومتوجهة اليها دون ستار ودون شائبة، وأنها متوازنة بالأمكان الاعتباري الذي هو تساوي الطرفين، وان النظام الفطري الذي هو شريعة الفطرة الكبرى مطيع للفطرة وقوانين الله ونواميسه، وان جهة الملكوت مجردة وصافية من الموانع والخواص المختلفة. لذا فان اكبر شئ كأصغره أمام تلك القدرة، فلا يمكن ان يحجم شئ أيّاً كان أو يتمرّد عليها. فإحياءُ جميع الأحياء يوم الحشر هينّ عليه كإحياء ذبابة في الربيع ولهذا فالآية الكريمة
(ما خَلقكم ولا بَعثُكُم إلاّ كَنَفْسٍ واحدة) أمرٌ حق وصدق جلي لا مبالغة فيه ابداً.
***

(ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله) (آل عمران : 64)
نورد نكتة واحدة من بين الوف نكات هذه الآية الكريمة:
انه بقطع النظر عن مشرب الصوفية، فان الاسلام يرفض الواسطة ويقبل الدليل، وينفي الوسيلة ويثبت الامام. بينما غيره من الاديان يقبل الواسطة. فبناء على هذا السر الدقيق يستطيع النصراني ان يصبح متديناً اذا اشغل مقامات من حيث الثروة والمنصب. بينما في الاسلام، العوام هم المتمسكون بالدين اكثر من ذوي الثروات والمناصب. وذلك لان النصراني ذا المقام يحافظ على نصرانيته وانانيته بقدر تعصبه في دينه، فلا ينقص ذلك من تكبره وغروره. بينما المسلم يبتعد عن التكبر والغرور بقدر تمسكه بالدين. بل ينبغي له ان يتنازل عن عزة المنصب.
ومن هنا فالنصرانية ربما تتمزق بهجوم العوام المظلومين على الظالمين الذين يعدّون انفسهم خواص النصارى، حيث النصرانية تعين تحكّمهم. بينما الاسلام لا ينبغي ان يتزعزع لانه ملك العوام اكثر من الخواص الدنيويين.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 345
(ولا تزر وازرة وزر اخرى) (الانعام: 164)
تمثل هذه الآية الكريمة اعدل دستور في السياسة الشخصية والجماعية والقومية. اما الآية الكريمة:
(انه كان ظلوماً جهولاً) (الاحزاب :72) فتبين استعداد الانسان الى الظلم الرهيب المغروز في فطرته.
والسر في ذلك هو:
ان القوى والميول المودعة في الانسان لم تحدد، خلافاً للحيوان؛ لذا فان الميل للظلم وحبّ الذات يتماديان كثيراً وبشكل مخيف.
نعم، ان حب الانسان لنفسه، وتحري مصلحته وحده، وحبه لذاته وحده، من الاشكال الخبيثة لـ " انا والانانية"، واذا ما اقترن العناد والغرور بذلك الميل تولدت فظائع بشعة بحيث لم يعثر لها البشر على اسم بعد. وكما ان هذا دليل على وجوب وجود جهنم كذلك لا جزاء له الاّ النار.
ولنتناول هذا الدستور في:
نطاق الشخص:
يحوز الشخص اوصافاً كثيرة. ان كانت صفة منها تستحق العداء، فيقتضي حصر العداء في تلك الصفة وحدها، حسب القانون الالهي الوارد في الآية الكريمة. بل على الانسان ان يشفق على ذلك الشخص المالك لصفات بريئة كثيرة اخرى ولا يعتدي عليه. بينما الظالم الجهول يعتدي على ذلك الشخص لصفة جانية فيه، لما في طبيعته من ظلم مغروز ، بل تسري عداوته لاوصاف بريئة فيه، حيث يخاصم الشخص نفسه، وربما لا يكتفي بالشخص وحده فيشمل ظلمه اقارب الشخص بل كلّ من في مسلكه. علماً ان تلك الصفة الجانية قد لا تكون نابعة من فساد القلب، وربما هي نتيجة اسباب اخرى، حيث ان اسباباً كثيرة تولد الشئ الواحد. فلا تكون الصفة جانية، بل حتى لو كانت تلك الصفة كافرة ايضاً لا يكون الشخص جانياً.
وفي نطاق الجماعة:
نشاهد ان شخصاً حريصاً ، قد طرح فكراً ينطوى على رغبة فقال بدافع الانتقام او بدافع اعتراض جارح: سيتبعثر الاسلام ويتشتت، او ستمحى الخلافة. فيتمنى ان


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 346
يهان المسلمون - العياذ بالله - وتخنق الاخوة الاسلامية، لكي يظهر صدق كلامه ويُشبع غروره وانانيته فحسب، بل يحاول ايضاح ظلم الخصم الجاحد في صورة عدالة، باختلاق تأويلات وحذلقات لا تخطر على بال.
وفي نطاق المدنية الحاضرة:
نشاهد ان هذه المدنية المشؤومة قد اعطت البشرية دستوراً ظالماً غداراً، بحيث يزيل جميع حســـــناتها، ويبين السر في قلق الملائكة الكرام لدى استفسارهم
(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) (البقرة: 30) اذ لو وجد خائن واحد في قصبة، فانها تقضي بتدميرها وبمن فيها من الابرياء، ولو وجد عاصٍ واحد في جماعة فهي تقضي بالقضاء على تلك الجماعة مع افرادها وعوائلها واطفالها. ولو تحصّن من لايخضع لقانونها في جامع ايا صوفيا فانها تقضي بتخريب ذلك البناء المقدس الذي هو اثمن من مليارات الذهب. وهكذا تحكم هذه المدنية بوحشية رهيبة.
فلئن كان المرء لا يؤاخذ حتى بجريرة اخيه، فكيف تدان ألوف الابرياء في قصبة او في جماعة لوجود مخرب واحد فيها. علماً انه لا تخلو مدينة او جماعة منهم.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 347
هيمنة القرآن الكريم

قال تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا) (آل عمران: 103)
(الم. ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) (البقرة: 1،2)
أرى ان مرد ماتبديه الامة الاسلامية من اهمال وعدم مبالاة نحو الاحكام الفقهية مايأتي:
ان اركان الدين واحكامه الضرورية نابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية المفسرة له، وهي تشمل تسعين بالمائة من الدين، اما المسائل الخلافية التي تحتمل الاجتهاد فلا تتجاوز العشرة منه.
فالبون اذن شاسع بين اهمية الاحكام الضرورية والمسائل الخلافية.
فلو شبهنا المسائل الاجتهادية بالذهب لكانت الاحكام الضرورية واركان الايمان اعمدة من الالماس. تُرى هل يجوز ان تكون تسعون عمودا من الالماس تابعة لعشرة منها من الذهب؟ وهل يجوز ان يوجه الاهتمام الى التي من الذهب اكثر من تلك التي من الالماس؟.
ان الذي يسوق جمهور الناس الى الاتباع وامتثال الاوامر، هو مايتحلى به المصدر من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس الى الانقياد اكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة، فينبغي اذن ان تكون الكتب الفقهية بمثابة وسائل شفافة - كالزجاج - لعرض قدسية القرآن الكريم، وليس حجاباً دونه، او بديلاً عنه.
ان ذهن الانسان ينتقل من الملزوم الى اللازم وليس الى لازم اللازم - كما هو مقرر في علم المنطق - ولو انتقل فبقصد غير طبيعي. فالكتب الفقهية شبيهة بالملزوم، والقرآن الكريم هو الدال على تلك الاحكام الفقهية ومصدرها، فهو اللازم، والصفة الملازمة الذاتية للقرآن الكريم هي القدسية المحفزة للوجدان. فلأن نظر العامة ينحصر


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 348
في الكتب الفقهية فحسب، فلا ينتقل ذهنهم الى القرآن الكريم الا خيالاً، ونادرا مايتصورون قدسيته - من خلال نظرهم المنحصر - ومن هنا يعتاد الوجدان التسيب، ويتعود على الاهمال فينشأ الجمود.
فلو كان قد بيّن القرآن الكريم ضمن بيان الضروريات الدينية مباشرة لكان الذهن ينتقل انتقالاً طبيعياً الى قدسيته، ولاثارت الشوق الى الاتباع، ولنبهت الوجدان الى الاقتداء، وعندها تنمو ملكة رهافة المشاعر لدى المخاطب بدلا من صممها امام حوافز الايمان وموقظاته.
فالكتب الفقهية اذن ينبغي ان تكون شفافة لعرض القرآن الكريم واظهاره، ولاتصبح حجابا دونه كما آلت اليه - بمرور الزمان - من جراء بعض المقلدين. وعندئذ تجدها تفسيراً بين يدي القرآن وليست مصنفات قائمة بذاتها.ان توجيه انظار عامة الناس في الحاجات الدينية توجيها مباشراً الى لقرآن الكريم، خطاب الله العزيز الساطع باعجازه والمحاط بهالة القدسية والذي يهز الوجدان بالايمان دائما.. إنما يكون بثلاث طرق:
1- اما ازالة ذلك الحجاب من امام القرآن الكريم بتوجيه النقد وتجريح الثقة باولئك المؤلفين للكتب الفقهية الذين يستحقون كل الاحترام والتوقير والثقة والاعتماد.. وهذا ظلم فاضح، وخطر جسيم، واجحاف بحق اولئك الائمة الاجلاء.
2- او تحويل تلك الكتب الفقهية تدريجيا الى كتب يستشف منها فيض القرآن الكريم، اي تصبح تفسيرا له، ويمكن ان يتم هذا باتباع طرق تربوية منهجية خاصة حتى تبلغ تلك الكتب الى مايشبه كتب الائمة المجتهدين من السلف الصالح امثال "الموطأ" لمالك بن انس و"الفقه الاكبر" لابي حنيفة النعمان. فعندئذ لايُقرأ كتاب "ابن حجر" - مثلاً - بقصد مايقوله ابن حجر نفسه، بل يُقرأ لاجل فهم مايأمر به القرآن الكريم، وهذا الطريق بحاجة الى زمن مديد.
3- او شد انظار جمهور الناس دوما الى مستوى اعلى من تلك الكتب - التي اصبحت حجابا - اي شدها باستمرار الى القرآن الكريم واظهاره فوقها دائما، مثلما يفعله ائمة الصوفية، وعندها تؤخذ الاحكام الشرعية والضروريات الدينية من منبعها


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 349
الاساس وهو القرآن الكريم، اما الامور الاجتهادية التي ترد بالواسطة فيمكن مراجعتها من مظانها.
ولايخفى ان مايستشعره المرء من جاذبية في كلام الصوفي الحق ومن طلاوة في حديثه غير مايستشعره في وعظ عالم في الفقه، فالفرق في هذا نابع من ذلك السر.ثم انه من الامور المقررة، ان مايوليه عامة الناس من تقدير لشئ وتثمينهم له ليس نابعاً - على الاغلب - مما فيه من كمال، بل مما يشعرون نحوه من حاجة وبما يحسون تجاهه من رغبة، فالساعاتي الذي يأخذ اجرة اكثر من عالم جليل مثال يؤيد هذا.فلو وجهت حاجات المسلمين الدينية كافة شطر القرآن الكريم مباشرة، لنال ذلك الكتاب المبين من الرغبة والتوجه - الناشئة من الحاجة اليه - اضعاف اضعاف ماهو مشتت الآن من الرغبات نحو الالوف من الكتب، بل لكان القرآن الكريم مهيمنا هيمنة واضحة على انفوس، ولكانت اوامره الجليلة مطبقة منفذة كليا. وما كان يظل كتابا مباركا يتبرك بتلاوته فحسب.
هذا وان هناك خطراً عظيماً في مزج الضروريات الدينية مع المسائل الجزئية الفرعية الخلافية، وجعلها كأنها تابعة لها، لان الذي يرى الآخرين على خطأ- ونفسه على صواب - يدعي:
ان مذهبي حق يحتمل فيه الخطأ والمذهب المخالف خطأ يحتمل فيه الصواب!
وحيث ان جمهور الناس يعجزون عن ان يميزوا تمييزاً واضحا بين الضروريات الدينية والامور النظرية الممتزجة معها، تراهم يعممون - سهواً او وهماً - الخطأ الذي يرونه في الامور الاجتهادية على الاحكام كلها، ومن هنا تتبين جسامة الخطر.
والذي اراه ان من يخطّئ الاخرين - ويرى نفسه في صواب دائما - مصاب بمرض ضيق الفكر وانحصار الذهن الناشئين من حب النفس. ولاشك انه مسؤول امام رب العالمين عن تغافله عن شمول خطاب القرآن الى البشرية كافة.
ثم ان فكر التخطئة هذا، منبع ثر لسوء الظن بالاخرين، والانحياز، والتحزب في الوقت الذي يطالبنا الاسلام بحسن الظن والمحبة والوحدة! ويكفيه بعدا عن روح


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس