الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #33
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,201
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 350
الاسلام ما شق من جروح غائرة في ارواح المسلمين المتساندة، ومابثه من فرقة بين صفوفهم، فابعدهم عن اوامر القرآن الكريم.
***

بعد ان كتبت هذه المسألة بفترة قصيرة، تشرفت برؤيا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام. كنت في حظوة مجلسه الجليل في مدرسة دينية، سيعلمني من القرآن درسا. فعندما اتوا بالمصحف الشريف قام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم احتراماً للقرآن، فخطر لي آنئذ ان هذا ارشاد للامة لتوقير القرآن الكريم واجلاله.
ثم حكيت الرؤيا لاحد الصالحين فعبَّره هكذا:
ان هذه اشارة واضحة وبشرى عظيمة الى ان القرآن الكريم سيحوز مايليق به من مقام رفيع في العالم اجمع.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 351
دعوة الى انشاء
مجلس شورى للاجتهاد
1

قال تعالى:
(وامرهم شورى بينهم) (الشورى: 38)
(وشاورهم في الامر) (آل عمران: 159)
يرينا التاريخ انه: متى ما كان المسلمون متمسكين بدينهم فقد ترقوا بقدر تمسكهم بدينهم، بينما تدنوا كلما بدأ ضعف الدين يدب فيهم. بخلاف مايحدث لاصحاب الاديان الاخرى؛ اذ متى ماتمسكوا بدينهم فقد اصبحوا كالوحوش الكاسرة ومتى ماضعف لديهم الدين ترقوا في مضمار الحضارة.
ان ظهور جمهور الانبياء في الشرق رمزٌ من القدر الإلهي: ان المهيمن على شعور الشرقيين هو الدين. فما نراه في الوقت الحاضر من مظاهر اليقظة في انحاء العالم الاسلامي تثبت لنا ان الذي ينبه العالم الاسلامي وينقذه من الذل والهوان هو الشعور الديني ليس الاّ.
وقد ثبت ايضاً ان الذي حافظ على هذه الدولة المسلمة (العثمانية) هو ذلك الشعور رغم جميع الثورات والمصادمات الدامية التي نشبت في ارجائها.. فنحن نتميز بهذه الخاصية عن الغرب، ولانقاس بهم.
ان السلطنة والخلافة متحدتان بالذات ومتلازمتان لاتنفكان وان كانت وجهة كل منهما مغايرة للاخرى.. وبناء على هذا فسلطاننا هو سلطان وهو خليفة في الوقت نفسه يمثل رمز العالم الاسلامي. فمن حيث السلطنة يشرف على ثلاثين مليوناً، ومن
_____________________
1 لقد طالبت بهذه الفكرة اعضاء »تركيا الفتاة« ابان اعلان الدستور، فلم يوافقوا عليها، وبعد مضي اثنتي عشرة سنة طالبتهم بها ايضاً فقبلوها ولكن المجلس النيابي قد حل. والآن اعرضها مرة اخرى على نقطة تمركز العالم الاسلامي. - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 352
حيث الخلافة ينبغي ان يكون ركيزة ثلاثمائة مليون من المسلمين الذين تربطهم رابطة نورانية، وان يكون موضع امدادهم وعونهم.
فالوزارة تمثل السلطنة، اما المشيخة الاسلامية فهي تمثل الخلافة. فبينا نرى الوزارة تستند اصلاً الى ثلاثة مجالس شورى - وقد لاتوفي هذه المجالس حاجاتها الكثيرة - نجد ان المشيخة قد اودعت الى اجتهاد شخص واحد، في وقت تعقدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في ادق الامور، فضلا عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الافكار وتدني الاخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنية الزائفة فينا.
من المعلوم ان مقاومة الفرد تكون ضعيفة امام المؤثرات الخارجية، فلقد ضُحي بكثير من احكام الدين مسايرة للمؤثرات الخارجية.
وبينما كانت الامور بسيطة والتسليم للعلماء وتقليدهم جارياً كانت المشيخة مودعة الى مجلس شورى - ولو بصورة غير منتظمة - ويتركب من شخصيات مرموقة، اما الان وقد تعقدت الامور ولم تعد بسيطة وارتخى عنان تقليد العلماء واتباعهم.. اقول كيف يا ترى يكون بمقدور شخص واحد القيام بكل الاعباء؟
ولقد اظهر الزمان ان هذه المشيخة الاسلامية - التي تمثل الخلافة - ليست خاصة لاهل استانبول او للدولة العثمانية، وانما هي مؤسسة جليلة تعود للمسلمين عامة. فوضعها الحالي المنطفئ لايؤهلها للقيام باعباء ارشاد استانبول وحدها ناهيك عن ارشاد العالم الاسلامي!
لذا ينبغي ان تؤول هذه المشيخة الى درجة ومنزلة تتمكن بها كسب ثقة العالم الاسلامي فتكون كالمرآة العاكسة لمشاكل المسلمين. وتغدو منبعاً فياضاً للاجتهادات والافكار. وعندها تكون قد ادت مهمتها حق الاداء تجاه العالم الاسلامي.
لسنا في الزمان الغابر، حيث كان الحاكم شخصا واحدا، ومفتيه ربما شخص واحد ايضاً، يصحح رأيه ويصوبه. فالزمان الآن زمان الجماعة والحاكم شخص معنوي ينبثق من روح الجماعة. فمجالس الشورى تملك تلك الشخصية، فالذي يفتي لمثل هذا الحاكم ينبغي ان يكون متجانساً معه، اي ينبغي ان يكون شخصاً


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 353
معنويا نابعا من مجلس شورى عالٍ، كي يتمكن من ان يُسمع صوته للآخرين، ويسوق ذلك الحاكم الى الصراط السوي في امور الدين.
والا فسيبقى صوته كطنين الذباب امام الشخص المعنوي الناشئ من الجماعة، حتى لو كان فرداً فذاً عظيما. فهذا الموقع الحساس يعرض قوة المسلمين الحيوية الى الخطر مادام باقياً على وضعه المنكفئ هذا، حتى يصح لنا ان نقول:
ان الضعف الذي نراه في الدين، والاهمال الذي نشاهده في الشعائر الاسلامية، والفوضى التي ضربت اطنابها في الاجتهادات قد تفشت نتيجة ضعف المشيخة وانطفاء نورها، حيث ان الشخص الموجود خارج المشيخة يمكنه ان يحتفظ برأيه ازاء المشيخة المستندة الى شخص واحد. بينما كلام شيخ الاسلام المستند الى مجلس شورى المسلمين يجعل اكبر داهية يتخلى عن رأيه او يحصر اجتهاده في نفسه في الاقل.
نعم، ان كل من يجد في نفسه كفاءة واستعدادا للاجتهاد يمكنه ان يجتهد، ولكن لايكون هذا الاجتهاد موضع عمل الا عندما يقترن بتصديق نوع من اجماع الجمهور. فمثل هذا الشيخ - اي شيخ الاسلام المستند الى مجلس شورى - يكون قد نال هذا السر. فكما نرى في كتب الشريعة ان مدار الفتوى: الاجماع، ورأي الجمهور، يلزم الآن ذلك ايضاً ليكون فيصلاً قاطعاً لدابر الفوضى الناشبة في الآراء.
ان الوزارة والمشيخة جناحا هذه الدولة المسلمة، فان لم يكونا جناحين متساويين متكافئين فلا يدوم لها المضي، وان مضت المشيخة على وضعها الحاضر فسوف تنسلخ عن كثير من المقدسات الدينية امام اجتياح المدنية الفاسدة.
الحاجة استاذ لكل امر. هذه قاعدة، فالحاجة شديدة لمثل هذا المجلس الشوري الشرعي، فان لم يؤسس في مركز الخلافة فسيؤسس بالضرورة في مكان آخر.
وعلى الرغم من ان القيام ببعض المقدمات يناسب ان يسبق تأسيس هذا المجلس - كمؤسسة الجماعات الاسلامية والحاق الاوقاف بالمشيخة وامثالها من الامور - فان الشروع بتأسيس المجلس مباشرة ثم تهيئة المقدمات له يحقق الغرض ايضاً. فالدوائر الانتخابية - للاعيان والنواب - رغم محدوديتها واختلاط وظائفها قد تكون لها


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 354
تأثير بالواسطة، رغم ان الوضع يستوجب تأسيس مجلس شورى اسلامي خالص كي يتمكن كفالة المهمة السامية.
ان استخدام اي شئ في غير موضعه يكون مآله التعطل، ولايبين اثره المرجو منه. فدار الحكمة الاسلامية التي انشئت لغاية عظيمة، اذا خرجت من طورها الحالي واشركت في الشورى مع رؤساء الدوائر الاخرى في المشيخة وعُدّت من اعضائها، واستُدعي لها نحوا من عشرين من العلماء الاجلاء الموثوقين من انحاء العالم الاسلامي كافة، عندها يمكن ان يكون هناك اساس لهذه المسألة الجسيمة.
لا ينبغي ان نكون مترددين ومتخوفين، فلا نعطي الدنية والرشوة من ديننا بالتخوف والتردد. وتلعين المدنية الزائفة بما سببت من ضعف الدين، مما يشجع الخوف ويزيد الضعف ويقوي التأثيرات الخارجية.. فالمصلحة المرجحة المحققة لاتضحى لاجل مضرة موهومة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 355
حوار في رؤيا

"
المعنى وكذا الألفاظ التي ظلت في الخاطر هي
نفسها كما جاءت في الرؤيا"

كنت في أيلول سنة 1919 اتقلب في اضطراب شديد، من جراء اليأس البالغ الذي ولّدته حوادث الدهر. كنت أبحث عن نور بين هذه الظلمات المتكاثفة القاتمة.. لم استطع ان أجده في يقظة هي رؤياً في منام. بل وجدته في رؤيا صادقة هي يقظةٌ في الحقيقة.
سأسجل هنا تلك النقاط التي اُستنطقتها واُجريت على لساني من كلام، دون الخوض في التفاصيل. وهي كالآتي:
دخلتُ عالم المثال في ليلة من ليالي الجمعة. جاءني أحدهم وقال:
- يدعوك مجلس موقر مهيب منعقد لبحث مصير العالم الاسلامي، وما آلت اليه حاله.
فذهبت، ورأيت مجلساً منوراً قد حضره السلف الصالحون، وممثلون من العصور، من كل عصر ممثل.. لم أر مثيلهم في الدنيا.. فتهيبت، ووقفت في الباب تأدباً واجلالاً.
قال أحدهم موجهاً كلامه لي:
- يا رجل القدر!.. ويا رجل عصر النكبة والفتنة والهلاك!.. بيّن رأيك في هذا الموضوع. فان لك رأياً فيه.
قلت وانا واقف: سلوني أُجبْ!
قال أحدهم:
- ماذا ترى في عاقبة هذه الهزيمة - التي آلت اليها الدولة العثمانية - وماذا كنتَ تتوقع ان يؤول اليه أمر الدولة العثمانية لو قُدِّر لها الانتصار؟.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 356
قلت: ان المصيبة ليست شراً محضاً، فقد تنشأ السعادة من النكبة والبلاء، مثلما قد تفضي السعادة الى بلاء.. فهذه الدولة الاسلامية التي أخذت على عاتقها - سابقاً - القيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - حفاظاً على العالم الاسلامي وهو كالجسد الواحد، ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء لأجله، وحملت راية الخلافة اعلاءً لكلمة الله وذوداً عن استقلال العالم الاسلامي.. ستعوّض عما أصابتها من مصيبة، وستزيلها السعادةُ التي سوف يرفل بها عالم الاسلام.
إذ عجّلت هذه المصيبة بعث الاخوة الاسلامية ونماءها في أرجاء العالم الاسلامي، تلك الاخوة التي هي جوهر حياتنا وروحنا. حتى اننا عندما كنا نتألم كان العالم الاسلامي يبكي، فلو أوغلت أوروبا في إيلامنا لصرخ العالم الاسلامي.
فلو متنا فسوف يموت عشرون مليوناً "من العثمانيين الأتراك" ولكن نُبعث ثلاثمائة "أي: ثلاثمائة مليوناً من المسلمين".
نحن نعيش في عصر الخوارق. فبعد مضي سنتين أو ثلاث على موتنا سنرى أحياءً يبعثون.
لقد فقدنا بهذه الهزيمة سعادة عاجلة زائلة، ولكن تنتظرنا سعادة آجلة دائمة، فالذي يستبدل مستقبلاً زاهراً فسيحاً بحال حاضرٍ جزئي متغير محدود، لاشك أنه رابح..
واذا بصوت من المجلس:
- بيّن! وضّح ما تقول!
قلت: حروب الدول والامم قد تخلت عن مواضعها لحروب الطبقات البشرية. والانسان مثلما يرفض ان يكون أسيراً لا يرضى ان يكون أجيراً أيضاً.
فلو كنا منتصرين غالبين، لكنا ننجذب الى ما لدى أعدائنا من الاستعمار والتسلط، وربما كنا نغلو في ذلك. علماً ان ذلك التيار - التيار الاستعماري الاستبدادي - تيار ظالم ومنافٍ لطبيعة العالم الاسلامي، ومباين لمصالح الاكثرية المطلقة من أهل الايمان، فضلاً عن ان عمره قصير، ومعرّض للتمزق والتلاشي. ولو كنا متمسكين بذلك التيار لكنا نسوق العالم الاسلامي الى ما ينافي طبيعته الفطرية.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 357
فهذه المدنية الخبيثة التي لم نرَ منها غير الضرر، وهي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيئاتُها على حسناتها، تحكم عليها مصلحة الانسان بالنسخ، وتقضي عليها يقظة الانسان وصحوته بالانقراض.
فلو كنا منتصرين لكنا نتعهد حماية هذه المدنية السفيهة المتمردة الغدارة المتوحشة معنىً في أرجاء آسيا.
قال أحدهم من المجلس:
- لِمَ ترفض الشريعة هذه المدنية؟ 1
قلت: لأنها تأسست على خمسة أسس سلبية:
فنقطة استنادها هي: القوة، وهذه شأنها: الاعتداء.
وهدفها وقصدها: المنفعة، وهذه شأنها: التزاحم.
ودستورها في الحياة: الجدال والصراع، وهذا شأنه: التنازع.
والرابطة التي تربط المجموعات البشرية هي: العنصرية والقومية السلبية التي تنمو على حساب الآخرين. وهذه شأنها: التصادم، كما نراه.
وخدمتها للبشرية خدمة فاتنة جذابة هي: تشجيع هوى المنفعة، واثارة النفس الأمارة، وتطمين رغباتها وتسهيل مطاليبها. وهذا الهوى شأنه: اسقاط الانسان من درجة الملائكية الى درك الحيوانية الكلبية. وبهذا تكون سبباً لمسخ الانسان معنوياً.
فمعظم هؤلاء المدنيين لو انقلب باطنهم بظاهرهم لوجد الخيال تجاهه صور الذئاب والدببة والحيات والقردة والخنازير.
ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمئة من البشرية الى أحضان الشقاء واخرجت عشرة بالمئة منها الى سعادة مموهة زائفة. وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء واولئك، علماً ان السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية؛ بيد ان سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس.
_____________________
1 المقصود محاسن المدنية التي اسدتها الى البشرية ، وليست سيئاتها وآثامها التي يلهث وراءها الحمقى ظناً منهم ان تلك السيئات حسنات حتى اوردونا الهلاك، ولقد تلقت البشرية صفعتين مريعتين وهما الحربان العالميتان من جراء ما طفحت به كفة سيئات المدنية على حسناتها وتغلبت آثامها على محاسنها حتى ابادتا تلك المدنية الآثمة فقاءت دماً لطخت به وجه الكرة الارضية كله. نسأل الله ان تغلب بقوة الاسلام في المستقبل محاسن المدنية لتطهّر وجه الارض من لوثاتها وتضمن السلام العام للبشرية قاطبة. المؤلف



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 358
لأجل كل هذا لا يرضى القرآن الكريم بمدنية لا تضمن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى.
ثم انه بتحكم الهوى الطليق من عقاله، تحولت الحاجات غير الضرورية الى مايشبه الضرورية، اذ بينما كان الانسان محتاجاً الى أربعة اشياء في حياة البداوة والبساطة اذا به في هذه المدنية يحتاج الى مئة حاجة، وهكذا أردَته المدنية فقيراً مدقعاً.
ثم، لأن السعي والعمل لايكفيان لمواجهة المصاريف المتزايدة، انساق الانسان الى مزاولة الخداع والحيلة وأكل الحرام. وهكذا فسد أساس الاخلاق.
وبينما تعطي هذه المدنية للجماعة والنوع ثروة وغنى وبهرجة اذا بها تجعل الفرد فقيراً محتاجاً، فاسد الأخلاق.
ولقد قاءت هذه المدنية وحشية فاقت جميع القرون السابقة.
وانه لجدير بالتأمل، استنكاف العالم الاسلامي من هذه المدنية، وعدم تلهفه لها، وتحرجه من قبولها، لأن الهداية الالهية التي هي الشريعة تعطي خاصية الاستقلال والاستغناء عن الآخرين، ولا يمكن ان تطعّم هذه الشريعة بالدهاء الروماني ولا ان تمتزج معها ولا يمكن ان تبلعها أو ان تتبعها.
ان دهاء الرومان واليونان - أي حضارتيهما - وهما التوأمان الناشئان من أصل واحد، قد حافظا على استقلالهما وخواصهما رغم مرور العصور وتبدل الاحوال ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية او ادماجها بهما، فلقد ظل كلٌ منهما كالماء والدهن لايقبلان الامتزاج، بل انهما يعيشان الآن بروحهما بانماط متنوعة واشكال مختلفة.
فلئن كان التوأمان، مع وجود عوامل المزج والدمج والاسباب الداعية له، لم يمتزجا طوال تلك الفترة، فكيف يمتزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلمات تلك المدنية التي اساسها دهاء روما! لا يمكن بحال من الأحوال ان يمتزجا أو يهضما معاً.
قالوا: فما هي المدنية التي في الشريعة؟


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 359
قلت: أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسساً ايجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.
نعم! ان نقطة استنادها هي الحق بدلاً من القوة. والحق من شأنه: العدالة والتوازن. وهدفها: الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنها: المحبة والتجاذب.
وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشرية: الرابطة الدينية، والوطنية، والمهنية بدلاً من العنصرية. وهذه شأنها: الأخوة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند اعتداء الاجانب.
ودستورها في الحياة: التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاون من شأنه التساند والاتحاد.وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكماً على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى: رفع الانسانية الى مراقي الكماات، فهي اذ تحدد الهوى وتحدّ من النزعات النفسانية تُطمئن الروح وتشوقها الى المعالي.
بمعنى اننا بانهزامنا في الحرب تبعنا التيار الثاني الذي هو تيار المظلومين وجمهور الناس. فلئن كان المظلومون في غيرنا يشكلون ثمانين بالمئة منهم ففي المسلمين هم تسعون بل خمس وتسعون بالمئة.
ان بقاء العالم الاسلامي مستغنياً عن هذا التيار الثاني، او معارضاً له ، ظل دون مستند اومرتكز، وهدر جميع مساعيه. فبدلاً من الذوبان والتميع تحت استيلاء المنتصر، كان عليه ان يتصرف تصرف العاقل فيكيّف ذلك التيار الى طراز اسلامي ويستخدمه. ذلك لان عدو العدو صديق ما دام عدواً له، وصديق العدو عدو مادام صديقاً له.
ان هذين التيارين ، اهدافهما متضادة، منافعهما متضادة، فلئن قال احدهما: مت، لقال الآخر: ابعث. فنفعُ احدهما يسلتزم ضررنا واختلافنا وتدنينا وضعفنا مثلما تقتضي منفعة الآخر قوتنا واتحادنا بالضرورة.
كانت خصومة الشرق تخنق انبعاث الاسلام وصحوته. وقد زالت وينبغي لها ذلك. اما خصومة الغرب فينبغي ان تدوم لانها سبب مهم في تنامي الاخوة الاسلامية ووحدتها.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس