الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #34
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/السانحات - ص: 360
واذا بامارات التصديق تتعالى من المجلس. فقالوا:
نعم، كونوا على أمل؛ ان اعظم صوت داوٍ في انقلابات المستقبل هو صوت الاسلام الهادر.
وسأل احدهم ايضاً:
ان المصيبة نتيجة جناية، ومقدمة ثواب. فما الذي اقترفتم حتى حكم عليكم القدر الإلهي بهذه المصيبة، اذ المصائب العامة تنزل لأخطاء الاكثرية؟ وما ثوابكم العاجل؟
قلت :
مقدمتها اهمالنا لثلاثة اركان من اركان الاسلام؛ الصلاة ، الصوم، الزكاة. اذ طلب منا الخالق سبحانه ساعة واحدة فقط من اربع وعشرين ساعة لأداء الصلوات الخمس فتقاعسنا عنها . فجازانا بتدريب شاق دائم لاربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات. اي ارغمنا على نوع من الصلاة.. وانه سبحانه طلب منا شهراً من السنة نصوم فيه رحمة بنفوسنا، فعزّت علينا نفوسنا فأرغمنا على صوم طوال خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا. ونه سبحانه طلب منا الزكاة عُشراً او واحداً من اربعين جزءٍ من ماله الذي انعمه علينا، فبخلنا وظلمنا. فأرغمنا على دفع زكاة متراكمة. فـ " الجزاء من جنس العمل".
اما ثوابنا العاجل، فرفعُه سبحانه وتعالى خُمس هذه الامة المذنبة - اي اربعة ملايين منهم - الى مرتبة الولاية ومنحهم درجة الشهادة والمجاهدين. فالمصيبة العامة الناشئة من خطأ العامة ازالت ذنوب الماضي.
فقال احدهم ايضاً:
- إن كان آمراً بخطأٍ ألقى الامة الى الهلاك؟
قلت:
- ان المصاب يرجو الثواب. فإما ان تُعطى له حسنات الآمر الذي ارتكب الخطأ، وهي لا تعدّ شيئاً. او تعطيه خزينة الغيب. وثوابه في مثل هذه الامور من خزينة الغيب هي درجة الشهادة والمجاهدين.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 361
رأيت ان المجلس قد استحسن هذا الكلام. وانتبهت من النوم من شدة انفعالي. ووجدت نفسي في الفراش مشبّكاً يديّ، يتصبب مني العرق.
وهكذا مضت تلك الليلة.
***

وفي اليوم نفسه والامل يطفح مني ذهبت الى مجلس آخر، مجلس دنيوي فسألوني.
- لِمَ لا تتدخل بالسياسة منذ مجيئك؟
قلت : اعوذ بالله من الشيطان والسياسة.
نعم، ان السياسة الحاضرة لاستانبول شبيهة بالانفلونزا تسبب الهذيان. فنحن لسنا متحركين ذاتياً، بل نتحرك بالوساطة. فاوروبا تنفخ ونحن نرقص هنا، فهي تلقّن بالتنويم - المغناطيسي - ونحن نتصورها نابعة من انفسنا ونجري اثر تلقينها بتخريب اعمى اصم. فمادام المنبع في اوروبا فالتيار القادم اما سيكون تياراً سلبياً او ايجابياً.
فالذين يتبعون السلبي هم كالحرف الذي يعرّف "دلّ على معنى في نفس غيره، او لا يدل على معنى في نفسه" بمعنى ان جميع افعاله ستكون لصالح الخارج مباشرة. لان ارادته لا حكم لها. فلا تنفعه النية الخالصة. ولاسيما التيار سلبي فيكون اداة لا تعقل للخارج بضعف من جهتين.
اما التيار الآخر الايجابي فيلبس لبوس التأييد والموافقة من الداخل، فهو كالاسم الذي يعرّف "دلّ على معنى في نفسه". فافعاله لنفسه، ولكن ما يترتب عليها للخارج. الاّ انه لايؤاخذ عليه لان لازم المذهب ليس مذهباً. ولا سيما اذا انضم بجهتين الى الايجابي والضعيف في التيار الخارجي، فيمكن ان يجعل الخارجَ اداةً له لا تشعر.
قالو:
  1. الا ترى الالحاد يتفشى؟ انه من الضرورة الاندفاع الى الميدان باسم الدين.
قلت:


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 362
نعم، ضروري، ولكن بشرط قاطع هو ان يكون الدافع المحرك عشق الاسلام والحمية الدينية. اذ الخطورة إن كان الدافع او الموجّه هو السياسة او التحيز. فالأول قد يعفى عنه حتى لو أخطأ بينما الثاني مسؤول عن عمله حتى لو اصاب.
قيل: كيف نفهم ذلك؟
قلت: مَن فضّل رفيقه السياسي الفاسق على متدين يخالف رأيه السياسي، بإساءة الظن به، فالدافع اذن هو السياسة.
ثم ان اظهار الدين الذي هو ملك مقدس للناس كافة - بالتحيز والتحزب - انه أخص بمن في مسلكه دون غيره، يثير الاكثرية الغالبة ضد الدين. فيكون سبباً في التهوين من شأن الدين.. فالدافع اذن هو التحيز.
مثال: يتصارع اثنان فما ان يشعر احدهما انه سيُغلب، عليه ان يعطي القرآن الذي بيده الى القوي ليقوم الآخر بحمايته ولئلا يسقطا معاً في الوحل. مظهراً محبته وتبجيله للقرآن. فتكون محبته للقرآن لكونه قرآناً. ولكن لو اتخذه ترساً تجاه القوي، فانه يثير غضبه بدلاً من ان يحرك غيرته لحمايته.
فمن يحرم القرآن من خادم قوي ويجعله في يد ضعيف، حتى اذا سقط سقط معه ايضاً، فهذا يعني انه يحب القرآن لنفسه لا للقرآن.
نعم ، ان خدمة الدين وسوق الناس اليه انما تكون بالحث على الالتزام وتذكير اصحابه بوظائفهم الدينية. وبخلاف ذلك، فان مخاطبتهم بانكم ملحدون، يسوقهم الى التعدي.
ألا لا يُستغل الدين في الداخل في الامور السلبية التخريبية. ولقد رأيتم الاعتداء على الشريعة بظن ان الخليفة الذي دام حكمه ثلاثين سنة قد اُستغل في اجراءات سياسية سلبية. تُرى من الذي يستفيد من آراء السياسيين السلبيين الحاليين؟ أتعرفونهم؟.. انني ارى انهم الخصم اللدود للاسلام، الذي غرز خنجره في قلب الاسلام.
قالوا:
كنت تعارض الاتحاد والترقي، الاّ انك تسكت عليهم الآن.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 363
قلت: لكثرة هجوم الاعداء عليهم.
ان هدف الهجوم الذي يشنه الاعداء هو العزم والثبات اللذان يتحلون بهما وعدم كونهم وسيلة لتنفيذ مآرب الاعداء في تسميم افكار المسلمين. وهذا من حسناتهم.
انني ارى ان الطريق طريقان؛ ككفتي الميزان. خفة احداهما تولد ثقل الاخرى.
فأنا لا اصفع انور 1 بجانب "انترانيك" 2، ولا اصفع "سعيد حليم" 3 بجانب "فنزيلوس" 4. وفي نظري ان الذي يصفعهما سافل منحط.
قالوا: التحزب ضرورة من ضروريات المشروطية.
قلت: ان خطوط الافكار عندنا بدلاً من ان تتقارب للتلاقي تنحرف مبتعدة الواحدة عن الاخرى كلما امتدت . لذا لانجد نقطة التلاقي، لا في الوطن، ولا في الكرة الارضية. فالافكار اشبه ما تكون بالوجود والعدم لا يجتمعان، حيث ان وجود احدهما يقتضي عدم الآخر.
ان العناد يلزم احياناً المغالين في التعصب الضلال والباطل، حتى اذا ساعد الشيطان احدهم قال له: انه ملك ويترحم عليه ، بينما اذا رأى ملَكاً في صف من يخالفه في الرأي، قال انه شيطان قد بدل ملابسه، فيبدأ بمعاداته ويلعنه. ويرى الامارة الواهية برهاناً بظنه الحسن، بينما يرى البرهان امارة واهية بسوء الظن، كمن ينظر في المنظار احد طرفيه الذي يقرّب والاخر يبعّد الشئ. وهذا ظلم فاضح يبيّن الحكمة في الآية الكريمة
(ان الانسان لظلوم كفار) (ابراهيم: 34) وذلك لان قواه وميوله لم تتحدد فطرة بخلاف الحيوان، فميله نحو الظلم لايحد ولا سيما اذا
_____________________
1 انور باشا: (1881 - 1922) كان وزيراً للحربية في حكومة الاتحاد والترقي سنة 1913 هرب الى المانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى ومنها الى تركستان وشكل جيشاً لمقاومة الروس واستشهد في احدى المعارك.
2 انترانيك: رئيس منظمة الطاشناق الارمنية، أشغل الدولة العثمانية مدة طويلة من الزمن بعدد من ثوراته ضد الدولة.
3 سعيد حليم: (1863 - 1921) كان رئيساً للوزراء عندما كان انورباشا وزيراً للحربية. أدين مع (67) من رفقائه باقحامهم الدولة العثمانية في الحرب العالمية. فنفي على اثره الى جزيرة مالطه، وظل فيها سنتين، ثم التجأ الى ايطاليا حيث حظر دخوله الى تركيا ومصر اذ كانت تحت الاحتلال البريطاني. اغتيل في 6 / 1 / 1921 بيد شخص ارمني قرب روما.
4 فنزيليوس: (1864 - 1936) من رجال اليونان البارزين في السياسة، كان محامياً ثم قائد الثوار في جزيرة كريت أسقط في سنة 1910 رئيس الوزراء قسطنطين وحلّ محله. اصبح سبباً لكثير من الاضطرابات والقلاقل في البلاد هرب سنة 1935 الى باريس، وتوفي بعد سنة. (المترجم)



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 364
انضمت الى ذلك الميل الاشكال الخبيثة للانانية كالاعجاب بالنفس وتحرى المصلحة الشخصية والكبر والعناد والغرور، تتولد جرائم بشعة لم تجد البشرية لها اسماً، ولا جزاء لها الاّ نار جهنم مثلما هي دليل على ضرورة وجودها.
فمثلاً: اذا استاء من صفة جانية لشخص، فانه يشمل ظلمه الى جميع صفاته البريئة ايضاً بل الى احبته بل الى من في مسلكه ، فيكون متمرداً امام الآية الكريمة
(ولا تزر وازرة وزر اخرى) (الانعام:164)
ومثلاً: قد قال احد الحريصين بدافع الانتقام: سيُغلب الاسلام، وسيتمزق قلبه. فلأجل ان يظهر صدق كلامه المشؤوم النابع من روح سقيمة وفكر كاذب، يتمنى ان يهان المسلمون ويصفق له ويتلذذ من ضربات العدو. فهذا التصفيق والترحيب واللذة جعلت الاسلام في موضع مجروح.
حيث العدو الذي غرز خنجره في قلب الاسلام لا يكتفي بسكوتنا عليه بل يقول: رحّب بي، تلذذ من اعمالي ، وكنّ لي حباً...
فدونكم ذنب عظيم وظلم شنيع لايجازيهما الاّ ميزان الحشر الاعظم.
قيل:
كنا نعلم اننا نُغلب، فقد دفعونا الى المصيبة عن علم.
قلت: كيف تكون نتيجة الحرب بديهياً بالنسبة لكم وانتم لا ثقافة لكم. وتكون خافية عن شخص عظيم كهندنبرغ 1؟ اخشى ان يكون ما تسمونه فكراً هو رغبة والعياذ بالله. اذ يلبس الانتقام الشخصي الظالم احياناً لباس الفكر. يا هؤلاء لقد وقعتم في طين نجس تلوثون وجوهكم به وكأنه المسك والعنبر؟
فهذا ايضاحي وبياني لما دار في مجلس مثالي في الليل المنير وفي محفل الدنيويين في النهار المظلم. فليست هذه المحاورة من بنات الفكر ولم تسل من العقل سيلاناً بل تفجرت من القلب. فان شئت فاقبلها وان شئت ردّها وارفضها، ولكن بشرط ان تفهمها.
_____________________
1 (187 - 1934) مارشال الماني انتصر على الروس 1914. رئيس الاركان في الحرب العالمية الاولى . رئيس جمهورية الرايخ 1925 - 1934 . المترجم.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 365
ذيل الرؤيا

سكت في الحج في اثناء سرده الرؤيا، لان اهمال الحج واهمال ما ينطوي عليه من حكم لا يُنزل المصيبة وحدها بل ينزل غضب الله وقهر الجبار. وجزاؤه ليس كفارة الذنوب بل كثارتها.
نعم، ان اهمال السياسة الاسلامية الرفيعة في الحج والمتضمنة توحيد الافكار بالتعارف وتشريك المساعي بالتعاون هو الذي ادّى الى تهيئة الوسط الملائم للاعداء ليستخدموا ملايين المسلمين في العداء للاسلام.
فها هو الهندي جالس يبكي على رأس ابيه الذي قتله ، ظناً منه انه عدوّه.
وها هما التتار والقفقاس ، واقفان عند قدمي جثة ساعدا على قتلها.. وبعد فوات الاوان يدركان انها والداهما.
وها هم العرب قتلوا شقيقهم البطل خطأً، ومن حيرتهم لا يعرفون كيف يبكون وينتحبون.
وهاهي افريقيا قتلت اخاها دون علم به، والآن تصرخ وتولول.
وها هو العالم الاسلامي ساعد على قتل ولده المقدام غافلاً دون علم به. فهو يلطم وينفّش شعره كالوالدة الحنون.
فالملايين من المسلمين دُفعوا الى سياحات طويلة في العالم، تحت لواء العدو الذي هو الشر المحض، بدلاً من شدّ الرحال الى الحج وهوالخير المحض.
فاعتبروا!
[كما ان الضرورات تبيح المحظورات، كذلك تسهّل المشكلات].
ان الدجاجة التي يضرب بها المثل في الخوف والجبن تهاجم الجاموس الضخم حفاظاً على فراخها.. فها هي الجسارة الفائقة.
وخوف العنز من الذئب يضرب به المثل، الا ان خوفه ينقلب الى دفاع ومقاومة في حالة الاضطرار حتى يقارع الذئب.. فها هي الشجاعة الخارقة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 366
نعم، ان الميل الفطري لا يُقاوم. فغرفة من ماء لو وضعت في كرة من حديد لفتّت الماءُ الحديدَ كلما تعرض للبرودة في الشتاء، وذلك لميله الى الانبساط والتمدد.
فجسارة الدجاجة الرؤوم على فراخها.. وشجاعة الاضطرار لدى العنز العزيز النفس يمثلان هيجاناً فطرياً.. فمثل هذا الهيجان الفطري لو تعرض له ظلم الكافر البارد، لفتّت كل شئ امامه كالماء في كرة الحديد. (والقرويون الروس امثلة شهود على هذا).
ومع هذا فان الشهامة الخارقة التي تنطوي عليها ماهية الايمان. والشجاعة التي تتحدى العالم الكامنة في طبيعة العزة الاسلامية يمكن ان تُظهر المعجزات في كل وقت وآن بانبساط الاخوة الاسلامية وتوسعها.
ستشرق شمس الحقيقة يوماً
أفيظل العالم في ظلام الى الابد؟


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 367
ذيل الذيل
لدواء اليأس 1
الحمد لله الذي قال : (ولا يغتب بعضكم بعضاً) (الحجرات: 12)
والصلاة على محمد الذي قال: (من قال هلك الناس هلك الناس فهو اهلكهم) 2.
فان محاكم التفتيش المدنية لهذا العصر، انجبت لقطاءها - غير الشرعيين - باستعمالها وسائل رهيبة في تلقيح بعض الاذهان، وتجري بهم حقدها الدفين على الاسلام للثار منه ، محاولةً فتح الباب امام ما يصرف المسلمين عن الدين، او جعلهم في الاقل مهملين له، او بإمالتهم نحو النصرانية، او التخلي عن الاسلام بإلقاء الشبهات والشكوك في العقول، وتشيع بهذا مكراً سيئاً هو الآتي:
- ايها المسلم! تأمل اينما وجد مسلم فهو فقير، غافل، جاهل الى حدٍ ما ، بينما النصراني اينما حلّ فهو متحضر، يقظ، صاحب ثروة... وهذا يعني.. الخ..
وانا اقول:
- ايها المسلم لا ترخِ يدك عن الاسلام الذي هو حامي وجودنا وكياننا تجاه الدمار الذي تولّده هذه النتيجة المخيفة لتقدم اوروبا، بل عض عليه بالنواجذ واستعصم به بقوة، والاّ فمصيرك الهلاك.
نعم ، نحن نتدنى الى اسفل وهم يرقون الى أعلى ، ولهذا سببان اثنان احدهما مادي والآخر معنوي.
السبب الاول:
الوضع الفطري لأوروبا التي هي كنيسة النصرانية عامة، ومنبع حياتها، فهي ضيقة، جميلة، تملك الحديد، متعرجة السواحل، تلتف فيها الانهار والبحار التفاف الامعاء في الجسد، مناخها بارد.
_____________________
1 رسالة "دواء اليأس " هي " الخطبة الشامية " وذيلها "تشخيص العلة " وهذا البحث ذيل لذيلها. الاّ انه نشر مع هذه الرسالة فأبقيناه في موضعه. المترجم.
2 في صحيح مسلم 4 / 2237 "اذا قال الرجل هلك الناس فهو اهلكهم ".



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 368
نعم، ان اوروبا على الرغم من كونها عُشر الخمس للكرة الارضية، فانها جذبت ربع البشرية نحوها بلطافة مناخها الفطري.
وانه ثابت حكمةً : ان اجتماع الافراد الكثيرين يولّد الحاجات، فلا يستوعب انتاج الارض تلك الحاجات التي تتزايد باسباب كثيرة - كالتقليد وغيره - ومن هنا تصبح الحاجة ام الاختراع والصناعة، وحب الاستطلاع معلّم العلم، والضيق الروحي مولد السفاهة.
نعم ان التوجه نحو الصناعة والميل الى المعرفة ينشأ من الكثرة. فبسبب ضيق المكان في اوروبا، وكثرة بحارها وانهارها التي هي وسائط نقل طبيعية فيها، فان التعارف ينتج التجارة، والتعاون الاشتراك في الاعمال، مثلما يولد التّماس تلاحق الافكار والمنافسة والتسابق.
ولكثرة ما فيها من الحديد - الذي هو منبع جميع صناعات اوروبا اعطى لمدنيتهم السلاح القوي حتى غصبت انقاض مدنيات الدنيا كلها وأغارت عليها، الى حد اثقلت كفتها وأخلّت بميزان الكرة الارضية.
ثم ان البرودة المعتدلة التي من شأنها ان تأخذ كل شئ ببطء وتتركه ببطء، قد أعطت لسعيهم الثبات والمتانة، فأدامت مدنيتهم.
ثم ان تشكل دولهم المستندة الى العلم، وتصادم قواهم المتكافئة، وازعاجات استبداداتهم الغدارة ، ومضايقات تعصبهم المقيت الظالم - كتعصب محاكم التفتيش - والذي آل الى خلاف المقصود، والتسابق الجاري بين عناصرها المتوازنة.. كل ذلك نمّى استعدادات الاوروبيين ، وفجّر قابلياتهم فظهرت لديهم المزايا، والفكر القومي.
السبب الثاني:
هو نقطة الاستناد. نعم ان اي نصراني كان اذا ما رفع رأسه ومدّ يده الى اي مقصد من المقاصد المتسلسلة المتداخلة، اذا به يجد وراءه نقطة استناد قوية تعزز قوته المعنوية وتبعث فيها الحياة، حتى يجد في نفسه من القوة ما يمكّنه ان يقتحم كل صعب وعظيم من الاعمال.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 369
فتلك النقطة، نقطة الاستناد، هي مدنية اوروبا التي هي معسكر"كتلة مسلحة" وكنيستها العظيمة، وهي مستعدة في كل آن ان تنفخ الحياة في عروق رفقاء دينها الذين يمدون اليها ايديهم من كل صوب. ومتهيأة ايضاً لقطع الشريان النابض للمسلمين، فلقد عجنت بتعصب محاكم التفتيش المدنية الماكرة، والالحاد النابع من الفكر المادي. فاوروبا تختال غروراً بانتصار مدنيتها على الآخرين.
اَلا يُشاهد الانكليز الذين تقنّعوا بقناع الحرية، يمدّون أيدهم الى كل جهة ويتحرون عن نصراني، فاينما وجدوه بعثوا فيه الحياة.. فها هي الحبشة والسودان... وها هي الطيار والارتوش وها هي لبنان وحوران.. وها هي ماسور وألبانيا.. وها هم الكرد والارمن.. والترك والروم.. الخ.
حاصل الكلام:
ان الذي ينفث فيهم الحياة هو الأمل.. والذي يقتلنا هو اليأس. وقد اشتهر احدهم بقوله: "استطيع ان احرّك الكرة الارضية من مكانها اذا وجدتُ نقطة استناد" ففي هذا القول المفترض نقطة عجية، هي: ان هذا الانسان الصغير جداً اذا ما وجد نقطة استناد يستطيع ان يدير اعظم الاشياء كالكرة الارضية.
فيا أهل الاسلام!
ان نقطة استنادنا تجاه المصائب والدواهي، التي القت بثقلها العظيم، عِظم الارض، على العالم الاسلامي، هي الاسلام الذي يأمر بالاتحاد النابع من المحبة، وبامتزاج الافكار الناشئ من المعرفة، وبالتعاون الذي تولده الاخوة.
فانظر بدءاً من العالم الاسلامي، تلك الدائرة الواسعة، وانتهاء الى طالب علم في المدرسة الشرعية كأصغر دائرة... تجد ان لكل منها عقد حياتية، وتلك العقد مرتبطة ببعضها متسلسلة ومستندة الى تلك النقطة العظمى، كافراد المجتمع وروابطه.. بمعنى انه يمكن ان يصحو المسلمون ويبدأوا بالرقي متى ما نبّهوا وبُث فيهم روح النماء، فلا صحوة بخنق تلك العقد الحياتية.
وإلاّ فان قيام احد بالموازنة والمقارنة بين محاسن اوروبا ومساوئنا، وثمرة تلاحق الافكار لديهم مع ثمرة سعي شخص واحد عندنا 1. فكما انه يبين بهذه المقارنة
_____________________
1 ان اسناد محاسن المدنية الى النصرانية التي لافضل لها فيها، والصاق التدني والتقهقر بالاسلام الذي هو عدوّ له، دليل على دوران المقدرات بخلاف دورتها وعلى قلب الاوضاع - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 370
الظالمة المجحفة الخادعة انه لقيط اوروبا لاظهار افتتانه بها ونفوره من امته، فانه ايضاً بالهجاء النابع من الخداع والفكر الثوري والميل الى التخريب، والمشحون بالعصيان والافتراء والتعرض للشرف، يظهر فرعونيته والثناء على نفسه والتربيت على غروره ضمناً مبدياً دون علم منه عداءه للاسلام. علماً انه المكلف بالشعور بالشفقة على امته شرعاً وعقلاً وحكمة، الاّ انه بحكم الفرعونية والانانية والغرور يضع الشعور بالتحقير بدلاً من الشعور بالشفقة، والميل الى النفور من الامة بدلاً من ميل الانجذاب اليها، وارادة الاستخفاف بها بدلاً من محبتها، ويوصمها بالجهل بدلاً من احترامها ويرغب في التكبر عليها بدلاً من الرحمة بها، ويقيم روح الانفرادية بدلاً من روح التضحية والفداء لها. فيثبت بهذا كله انه لايملك حمية للأمة وانه مبتوت الاصالة، فيكون جانياً منفوراً منه في نظر الحقيقة بحيث يتصرف تصرف الاحمق الابله، كمن يحاول إلباس ملابس اعجبته لراقصة ساقطة في باريس عالماً فاضلاً في المسجد.
ذلك لان الحمية هي نتيجة ضرورية للمحبة والاحترام والرحمة فلا حمية بدون هذه الامور، والاّ فهي حمية كاذبة وخادعة. والنفور من الامة خلاف الحمية ايضاً، فقساوسة اوربا الذين يشنون هجومهم على المتعصبين عندنا، كل منهم اكثر تعصباً وتزمتاً في مسلكهم السقيم. فلو مدح عالم ديني الشيخ الكيلاني بافراط كمدح اولئك لشكسبير لكُفّر.
هيهات اين المحبة من هؤلاء ؟
ان احدى العقد الحياتية المحركة للمجتمع والدافعة الى الفعالية، هو الفكر الادبي. الذي بدأ فينا وحده بالنمو - مع الاسف - ولا سيما ادب الهجاء ورغبة تحقير الاخرين. والذي ينطوي على الاعجاب بالنفس والغلو في الوصف في اسلوب شعري وبما لا يليق بالادب. فهو ادب خارج عن الادب الحقيقي الذي تؤدبنا به الآية الكريمة
(ولا يغتب بعضكم بعضاً) بحيث يهاجم كل الآخر. ومع ردّ تعرضات ضمنية للأمة وللاسلام بوجه اولئك القسس، نمر مرّ الكرام على هجائهم اللاديني واهانة الآخرين، فنمضي قائلين : ربما يستحقون ذلك.
انني اظن ان الباعث على ذل هذه الامة اكثر من الجهل هو الذكاء الابتر العقيم غير المرافق لنور القلب. وفي نظري ان اخطر مرض هو الانحياز المتطرف، لانه يدفع الى خلاف المقصود، باخراج كل شئ عن طوره.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 371
ايها الاخ! لقد بدأت عندنا تباشير اسباب فتية، قوية، بدلاً من تلك الاسباب الهرمة التي ولّدت تقدم النصرانية.
وقد فصلت ذلك في كتاب آخر. 1

حكاية:
قبل عشر سنوات (المقصود سنة 1910م) ذهبت الى "تفليس" وصعدت تل الشيخ صنعان ، كنت اتأمل تلك الارجاء واراقبها. اقترب مني احد رجال البوليس فقال :
- بم تنعم النظر؟
قلت: اخطط لمدرستي!
قال : من اين انت؟
قلت : من بتليس
قال: وهنا تفليس!
قلت : بتليس وتفليس شقيقتان
قال: ماذا تعني؟
قلت : لقد بدأ ظهور ثلاثة انوار متتابعة في آسيا، في العالم الاسلامي، وستظهر عندكم ثلاث ظلمات بعضها فوق بعض ، سيُمزّق هذا الستار المستبد ويتقلص ، وعندها آتي الى هنا وانشئ مدرستي.
قال: هيهات ! انني احار من فرط أملك؟
قلت : وانا احار من عقلك ! أيمكن ان تتوقع دوام هذا الشتاء؟ إن لكل شتاء ربيعاً ولكل ليل نهاراً.
قال: لقد تفرق المسلمون شذر مذر.
قلت: ذهبوا لكسب العلم ، فها هو الهندي الذي هو ابن الاسلام الكفوء يدرس في اعدادية الانكليز.
_____________________
1 المقصود الخطبة الشامية - المترجم.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 372
وها هو المصري الذي هو ابن الاسلام الذكي يتلقى الدرس في المدرسة الادارية السياسية للانكليز..
وها هو القفقاس والتركستاني اللذان هما ابنا الاسلام الشجاعان يتدربان في المدرسة الحربية للروس.. الخ.
فيا هذا ! ان هؤلاء الابناء البررة النبلاء، بعد ما ينالون شهاداتهم، سيتولى كل منهم قارة من القارات، ويرفعون لواء ابيهم العادل، الاسلام العظيم ، خفاقاً ليرفرف في آفاق الكمالات، معلنين سر الحكمة الازلية المقدرة في بني البشر رغم كل شئ.
وهذا هو نصف حكايتي.
مثال:
والآن سأمثل للحالة الروحية التي تدفع الى القول : نفسي نفسي.. ماذا عليّ. بالآتي:
يتقابل شخصان وتبدأ المناظرة والمفاخرة بينهما، احدهما جسور ولكن عضت النوائب 1 عشيرته الاصيلة. والآخر جبان، لكنه ينتمي الى عشيرة اخرى تبسمت لها الاقدار. فالاول ما ان يرفع رأسه ويرى ذلّ عشيرته لا تستطيع عزة نفسه تحمّل الذل، فيخفض رأسه وينظر الى نفسه، فيراها محملة الى حدٍّ ما بالعزة. وعندها يبدأ غروره المجروح بالانانية بالصراخ قائلاً: وماذا عليّ.. ها أنذا! وهاهي افعالي انا .. فينسحب من تلك العشيرة او ينتسب الى اخرى مظهراً عدم اصالته.
أما الثاني فكلما رفع رأسه سطعت امام ناظريه مفاخر عشيرته فينتفخ غروره. ولكن ما ان ينظر الى نفسه يراها واهية، وعندها يتيقظ روح التضحية والفداء في الشعور القومي. فيقول : فداكِ نفسي يا عشيرتي!.
فاذا فهمت الرمز الكامن في هذا المثال، فان في ميدان العالم هذا،ميدان الامتحان والمجاهدة والسباق، اذا تظاهرت مشاعر كل مسلم ونصراني، وكردي ورومي، في اثناء المبارزة في الحمية، تجد سر المثال. ولكن هذا التفاوت ليس كما يظنه الناس وربما هو ناتج من النظر الظاهري والسطحي وغلط الحس.
_____________________
1 بمعنى ان »الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر « ليس مجازاً - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 373
ايها المسلم!
اياك ان تنخدع . فلا تخفض رأسك! فان قطعة ألماس نادرة مهما كانت صدئة افضل من قطعة زجاج لامعة دوماً. فان ضعف الاسلام الظاهري ناشئ من خدمة هذه المدنية الحاضرة في سبيل دين آخر.
آن الأوان اذن ان تبدل هذه المدنية صورتها، فاذا ما بدّلتها فالقضية تنعكس.
فكما قيل في البداية اينما كان المسلم فهو البدوي بالنسبة للنصراني، مستنكف عن المدنية لا يكترث بها ويتحرج في قبولها، فاذا ما بدّلت الصورة فالوضع يتبدل..
وكل آت قريب. وان مع العسر يسراً.
سعيد النورسي
* * *
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس