رد: صيقل الإسلام
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 405
ولكن اطمأنوا، ان قصد من لم ينضم منهم الى الماسونية، ليس اضرار الدين، بل نفع الأمة وتأمين سلامتها، ولكن البعض منهم يفرطون في الهجوم على التعصب المقيت الذي لايليق بالدين. ويبدو انكم تطلقون على الذين سبق منهم خدمات للحرية والمشروطية أو الذين ارتضوا بهما اسم "جون تورك". فاعلموا ان قسماً من اولئك هم مجاهدو الاسلام، وقسماً منهم فدائيو سلامة الأمة، فالذين يشكلون القسم الأعظم منهم والعقدة الحياتية لهم هم من غير الماسونيين ويمثلون اكثرية الاتحاد والترقي. فهناك علماء ومشايخ في صفوف "جون تورك" بقدر عشائركم.. رغم وجود زمرة من الماسونيين المفسدين السفهاء فيهم، وهم قلّة قليلة لا يتجاوزون عشرة بالمئة منهم، بينما التسعون بالمئة الباقية منهم مسلمون ذوو عقيدة امثالكم ومعلوم ان الحكم للأكثرية... فأحسنوا الظن بهم. إذ إن سوء الظن يضركم ويضرهم معاً حسب قاعدة [ان زين عين الرضا، حسن النظر باللطف والشفقة، وان نور الفؤاد بالرفق والرحمة، ولقد سما على الحق باقدام التوفيق وسعد من اختار الاستضاءة بمصباح (أنا عند ظن عبدي بي)] 1.
س: لِمَ يضرّهم سوء ظنّنا؟.
ج: لأن كثيراً منهم - مثلكم - لم يمحّصوا الاسلام وما عرفوا الاّ ظواهره بالتقليد، والتقليد يتشتت ويتمزق بإلقاء الشبهات والشكوك فانظروا مثلاً: اذا خاطبتم بعضهم: بانكم لادين لكم - وبخاصة من كان منهم سطحياً في الدين ومتوغلاً في الفلسفة المادية - فلربما يتردد ويشك في أمره بوساوس من أن مسلكه خارج عن الاسلام فيشرع بالقيام باعمال وحركات منافية للاسلام، ناشئة من اليأس والعناد ولسانه يردد: ليكن مايكون فلا أبالي..
فيا ايها البعيدون عن الانصاف!.. أرايتم كيف تصبحون سبباً لضلالة بعض المنكوبين؟! علماً ان كثيراً ما يصلح الفاسد اذا كرّر عليه القول: انت صالح، انت فاضل، ويفسد الصالح اذا ما كرر عليه انت فاسد، انت طالح. وهذا أمر مجرّب وقد حدث كثيراً.
س: لماذا؟.
_____________________
1 كرر النظر في هذه الفقرة العربية الأخيرة، ففيها شفرات ولها اشارات. المؤلف.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 406
ج: لأنه لو كان في ضمير البعض سوء، فلا ينبغي ان يُهاجَم، لأن هناك كثيراً من السيئات كلما بقيت مستورة تحت ستار الحسنة ولم يمزق عنها حجابها وتغوفل عنها، انحصرت في نطاق ضيق وربما يسعى صاحبُها لإصلاحها تحت حجاب الحياء. ولكن ما ان يُمزَّق الحجابُ ويُرفع حتى يُرمى بالحياء فيُزال، واذا ما أُظهر معه الهجوم، فالسيئة تتوسع توسعاً هائلاً… ولقد رأيت في حادثة (31 مارت) 1 حالة قريبة من هذا: عندما نادى من كانوا يجودون بارواحهم للاسلام من اصحاب الهمم بالدعوة الى المشروطية، والذين كانوا يعتقدون ان نعمة المشروطية غاية المنى وجوهر الحياة، وجدّوا في تطبيق تفرعاتها وفق الشريعة مرشدين المسؤولين في الدولة وموجهين لهم للتوجه الى القبلة في صلاة العدالة طالبين اعلاء الشريعة المقدسة حقاً بقوة المشروطية، وابقاء المشروطية بقوة الشريعة، محمّلين مخالفة الشريعة السيئات السابقة جميعَها، فما ان نادى هؤلاء بهذا النداء وقاموا بتطبيق بعض الامور الفرعية اذا ببعض مَن لايميّز يمينه عن شماله يبرز أمامهم ويجابهونهم ظناً منهم ان الشريعة تشد أزر الاستبداد - حاشاها - فقلّدوا كالببغاء منادين: "بأنّا نطالب بالشريعة" فاختفى الهدف ولم يعد يُفهم القصد الحقيقي، وانجر الوضع الى مارأيتم. ومعلوم ان الخطط قد مُهّدت وحيكت من قبل. فلما آل الأمر الى هذا هجم بعض من يتقنع كذباً بالحمية على ذلك الاسم السامي، واعترضوا متعدين عليه. فدونكم نقطة سوداء مظلمة جديرة بالاعتبار. [ولقد قعدت الهمة بتلك النقطة ولم تقدر على النهوض. ولقد شوشت طنطنة الاغراض صدى موسيقى الحرية، ولقد تقلصت المشروطية منحصرة اسماً على قليلين، فتفرق عنها حماة ذمارها] 2
_____________________
1 حادثة 31 مارت 1325 (حسب التقويم الرومي)، وهي حادثة تمرد وعصيان عسكري بدأ في معسكر »طاش قشلة« في استانبول، ثم انتشر الى معسكرات اخرى فيها، ثم نزل الجنود المتمردون الى الشوارع، وقتلوا بعض الوزراء والنواب والضباط.
وقعت هذه الحادثة في 13 نيسان 1909 اي بعد اعلان المشروطية الثانية ووصول جمعية الاتحاد والترقي الى موقع مؤثر في الحكم، ولكنها لم تكن قد شددت قبضتها بعدُ، أتهم السلطان عبد الحميد ظلماً باثارة التمرد، واستدعت الجمعية مدداً عسكرياً من مقرها الرئيس في »سلانيك« ومع ان السلطان كان بمقدوره تشتيت هذا المدد العسكري الاّ انه لم يفعل حقناً للدماء. وبعد وصول الجيش الى استانبول اُعلنت الاحكام العرفية وقُضي على التمرد، وشكلت محكمة عسكرية اعدمت الكثيرين، وانتهزت الجمعية هذه الحادثة وقامت بعزل السلطان. المترجم
2 قف أمام هذه الفقرة.. لاتغادرها.. انعم النظر فيها.. ولقد سكت - في تلك الحادثة - الشهام الغيارى والنجباء والكرماء من أولي العزائم والهمم العالية، وكمّمت الصحافة المغرضة صوت الحرية الحقة، فانحصرت المشروطية في قلّة قليلة جداً من الناس وتشتت عنها فدائيوها. المؤلف.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 407
س: لِمَ نتضرر ممن نظن أن لادين لهم؟.
ج: سأمثل لكم صورة تمثيلية على شاشة الخيال تبيّن لكم مضاره. تصوّروا في هذه الصحراء قصراً وسط بستان زاهر، وفي زاوية من القصر هناك حمام للمياه المعدنية -كمستحمكم في وادى "بيت الشباب" 1 - فأنتم مضطرون الى الدخول في ذلك القصر شئتم أم أبيتم بسبب ارتعاشكم من شدة البرد ولكمات الثلج ولطمات الريح. ولكن لأنكم قد سمعتم - أو رأيتم - ان في باب القصر اشخاصاً عمياناً وفي الحوض رجالاً عراةً يستحمون فتتوهمون - من هذا - ان القصر كلّه دار عميان ومنزل عرايا... فلما أردتم الدخول والوهم آخذ بايديكم - تنزعون عنكم لباس الطاعة لتوافقوهم، وتغمضوا عين الحقيقة - التي هي العقيدة - لئلا تنظروا الى عوراتهم، علماً أن عيونهم مفتحة وعوراتهم مستورة، يتشاورون فيما بينهم بتفكر وتأمل في غرفٍ محتشمة ويداوون في بعض الزوايا العميان ويخدمون العرايا لسترهم.
فبالله عليك اذا دخلت عليهم بهذه الصورة الجنونية، وعورتك مكشوفة وعينك معصوبة، فهل تتصور اعظم من هذه الحالة المزرية الداعية الى الاستهزاء والسخرية.
وفي نظري أن من جاء - في الحقيقة - من نسل مسلم، لاتترك فطرتُه ووجدانهُ الاسلامَ البتة، حتى إن تجرد عقلُه وفكرُه عن الاسلام. بل حتى اولئك الذين هم أشدّ سفاهة وبلاهة يوالون الاسلام الذي هو سور حصين لمستندنا. وسيما المطلعين على السياسة. ولم يشهد التأريخ منذ العصر النبوي السعيد الى الآن ان رجّح مسلم ديناً آخر على الاسلام بمحاكمته العقلية، أو دخل ديناً آخر بدليل عقلي. نعم! هناك من يمرق من الدين، فتلك مسألة أخرى.. أما التقليد فلا أهمية له... بينما منتسبو سائر الأديان قد دخلوا ويدخلون حظيرة الاسلام افواجاً أفواجاً بالمحاكمة العقلية والبراهين القاطعة، فاذا ما أريناهم الاسلام الصادق المستقيم، والصدق والاستقامة اللائقين بالاسلام، فسوف يدخلون في الاسلام أفواجاً. وكذلك يشهد التأريخ وينبئنا ان رقي المسلمين وتمدنهم يكمن في اتباعهم حقيقة الاسلام ويتناسب معه، في حين رقي الآخرين وتمدنهم يتناسب تناسباً عكسياً مع تمسكهم بدينهم.. وكذا تشهد لنا الحقيقة ان الانسان المنتبه لايمكن أن يكون هملاً بدون دين البتة، ولاسيما المتيقظ
_____________________
1 منطقة في جنوب شرقي تركيا تعد مركز عشائر الارتوشي الكردية. المترجم.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 408
الذي ذاق طعم الانسانية وعرف ماهية ذاته وأنه مهيأ ومرسل الى الخلود، فلايمكن لهذا أن يعيش دون دين مطلقاً، لأن المتنبه إن لم يتمسك بالدين الحق الذي هو جوهر الحقيقة، لايمكنه أن يقف دون "نقطة استناد" أمام هجوم الكائنات عليه ودون "نقطة استمداد" لاستثمار آماله غير المحدودة.. ومن هذا السر فقد انتبه الآن في الجميع ميلُ البحث والتحري عن الدين الحق. فثبت من براعة الاستهلال هذا بأن الاسلام هو الدين الفطري للبشرية في المستقبل.
أيا من لاينصفون! كيف ضاقت في نظركم حقيقةُ الاسلام التي لها القدرة على أن تعم العالم أجمع وتوحّده وتربّيه وتضيئَه نوراً. فرُحتم تحصرون الاسلام في الفقراء وفي المتعصبين من العلماء، وتريدون ان تطردوا نصف أهله منه، كيف تجرأتم على ذلك الاسلام العظيم الذي هو القصر النوراني الجامع لكمالات الانسانية كلها وهو المربي المزكّي لأحاسيس البشرية النبيلة ومشاعرها الراقية كلها، فتخيلتموه خيمة المآتم السوداء مضروبة على حشد من الفقراء والبدو الجائعين.
نعم! ان المرء بحسب ما تريه مرآتُه. فمرآتُكم السوداء الكاذبة اذاً قد مثّلت لكم الأمر هكذا.
س: انت تغالي وتفرط، اِذ تُظهر الخيال عينَ الحقيقة وتُهيننا بظنك اننا جهلاء، فنحن في عصر آخر الزمان 1 والفساد يستشري وسينقلب من سئ الى أسوأ.
ج: لماذا تكون الدنيا ميدان تقدمٍ وترقٍ للجميع، وتكون لنا وحدنا ميدان تأخر وتدنٍ.. فهل الأمر هكذا؟! فها أنذا آليتُ على نفسي ألاّ أخاطبكم، فأدير اليكم ظهري وأتوجه بالخطاب الى القادمين في المستقبل: أيا مَن اختفى خلف عصر شاهق لما بعد ثلاثمائة سنة، يستمع الى كلمات النور بصمت وسكون. وتلمحنا بنظر خفي غيبي.. أيا من تتسمّون بـ "سعيد وحمزة ، وعمر وعثمان وطاهر، ويوسف وأحمد وامثالهم" انني أتوجه بالخطاب اليكم: ارفعوا هاماتكم وقولوا: "لقد صدقت" وليكن هذا التصديق دَيْناً في اعناقكم. ان معاصري هؤلاء وان كانوا لايعيرون سمعاً
_____________________
1 ربما جاء هذا الاعتراض من وليّ عظيم كان حاضراً في ذلك الوقت فاعترض على ما أحسّه سعيد القديم - قبل خمس وأربعين سنة - »بحسّ مسبق« من أن ميدان رسائل النور الضيق هو واسع جداً وهو سياسي ايضاً. لذا صدرت أغلب أجوبته في هذه الرسالة في ضوء ذلك الاحساس. فلربما أبدى ذلك الولي العظيم اعتراضه على هذه النقطة فقط - المؤلف.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 409
لأقوالي، لندعهم وشأنهم. انني أتكلم معكم عبر أمواج الاثير الممتدة من الوديان السحيقة للماضي - المسمّى بالتأريخ - الى ذرى مستقبلكم الرفيع.. ماحيلتي لقد استعجلتُ وشاءت الاقدارُ أن آتي الى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم ستأتون اليها في ربيع زاهر كالجنة، ان ما يُزرع الآن ويُستنبت من بذور النور ستتفتح أزاهير يانعة في أرضكم.. نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا، أنكم اذا جئتم لتعبروا الى سفوح الماضي، عوجوا الى قبورنا، واغرسوا بعض هدايا ذلك الربيع على قمة "القلعة" 1 التي هي بمثابة شاهد قبر مدرستي، والمستضيفة لرفاتنا وعظامنا والحارسة لتراب "خورخور" 2 سنوصي الحارس ونذكّره... نادونا... ستسمعون صدى "هنيئاً لكم" ينطلق من قبورنا [ولو من الشاهد على طيف الضيف].
ان عيون هؤلاء الذين يرتضعون معنا ثدي هذا الزمان في قفاهم تنظر الى الماضي دوماً، وتصوراتُهم شبيهة بهم معزولة وبلا حقيقة، هؤلاء الصبيان وان كانوا ينظرون الى حقائق هذا الكتاب 3 ويتوهمونها خيالاً.. فلا أبالي، لأنني على ثقة من أن مسائل هذا الكتاب ستتحقق فيكم واضحة.
أيا من أخاطبكم، ألا معذرةً، اني اصرخ عالياً، وأنا معتلٍ منارة العصر الثالث عشر الهجري، ادعو اولئك المدنيين المتحضرين صورةً وشكلاً والمتهاونين في الدين حقيقة، والذين يجولون في أودية الماضي السحيق فكراً.. ادعوهم الى الجامع.. فيا ايتها القبور المتحركة برجلين اثنتين، ايتها الجنائز الشاخصة! ويا أيها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما.. وهو الاسلام، انصرفوا من أمام باب الجيل المقبل، لا تقفوا امامه حجر عثرة، فالقبور تنتظركم.. تنحّوا عن الطريق ليأتي الجيل الجديد الذي سيرفع أعلام الحقائق الاسلامية عالياً ويهزها خفاقة تتماوج على وجوه الكون.
س: ان أسلافنا كانوا أفضل منا أو مثلنا، فهل يكون احفادنا أفسد منّا؟
ج: ايها الأتراك والأكراد، لو أنني أقمت اجتماعاً عظيماً، ودعوت أجدادكم من قبل ألف سنة وكذا اولادكم من بعد عصرين.. دعوتهم جميعاً الى المجلس الصاخب لهذا العصر، ألا يقول اجدادكم الذين اصطفوا يميناً:
_____________________
1 المقصود قلعة مدينة "وان" التي هي بمثابة شاهد قبر للمدرسة الدارسة (خورخور) والتي تمثل نموذجاً لمدرسة الزهراء في وان - المؤلف.
2 اسم نبع صغير اسفل قلعة »وان« وعنده مدرسة المؤلف. المترجم.
3 انه ينبئ بحس مسبق عن كليات رسائل النور التي ستؤلف في المستقبل - المؤلف.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 410
أيها الاولاد التافهون والخلف المتبذّرون، أأنتم زبدة حياتنا ونتيجتها؟ هيهات.. لقد جعلتمونا أسوةً عقيمة وتركتمونا عاقرين..!!. وكذا، أفلا يقول اولادكم الذين اصطفوا يساراً والمقبلون من مدنية المستقبل، مصدقين اجدادكم المصطفين يميناً:
أيها الآباء الكسالى!.. أ أنتم تمثلون حياتنا كلها دقّها وجلّها، أمَ أنتم رمزها والحد الأوسط لرابطتنا مع اولئك الاجداد الأشاوس؟ هيهات لَكَمْ اصبحتم انتم أنموذجاً تافهاً وعيّنة لا حقيقة لها وقياساً ذا إلتباس واختلاط. 1
فيا أيها البدو الرحل ويا أدعياء الانقلاب 2.
لقد رأيتم على لوحة الخيال 3 أن الطرفين معاً قد أقاما الحجة عليكم في هذا الاجتماع.
س: نحن لانستحق هذا القدر من الاهانة والتحقير. نقطع على أنفسنا عهداً على اننا لانتقاعس عن التمسك بالأَخلاف ولانتشبث بأذيال الأسلاف [ففتحنا السمع لكلامك فمرحباً به].
ج: يمكنكم الآن أن تعودوا الى وظيفتكم في طرح الاسئلة لأنكم أظهرتم الندامة.
س: هل بحث علماء السلف عن مساوئ الاستبداد؟ 4.
ج: نعم، وألف مرة نعم. ان أغلب الشعراء في قصائدهم وكثيراً من المؤلفين في ديباجات كتبهم، شكوا من الزمان واعترضوا على الدهر وهجموا على الفَلَك 5 وداسوا الدنيا بالاقدام وسحقوها...
فاذا استمعتم اليهم بأذن القلب ونظرتم اليهم بعين العقل لرأيتم أن سهام الاعتراضات جميعها لاتستهدف ولاتصيب الاّ صدر الاستبداد الذي تلففَ وتزمّلَ بستار الماضي المظلم. ولسمعتم الصراخات والآهات جميعها انما تصدر من تحت مخالب الاستبداد، ومع ان الاستبداد لم يكن يُرى، ولم يكن يُعلَم اسمه ومعناه، الاّ
_____________________
1 من عبارات علم المنطق. وقد قالها لحضور مجلس طلابه الذين تلقوا في وقتها درساً في المنطق - المؤلف.
2 أضيف مؤخراً - المؤلف.
3 فالخيال بدوره مثل المشاهد السينمائية - المؤلف.
4 ان ذلك الدرس الذي القي قبل اربعين سنة لهو درس ضروري في الوقت الحاضر كذلك، اذ ان هذه المحاورة الدائرة بين السؤال والجواب قادرة على مواكبة الحياة وتعيش حية في كل وقت وهي نابضة بالحياة الآن - المؤلف.
5 الفلك: يعني الدهر، ايام الحياة، الحياة المقدّرة على الانسان - المترجم.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 411
أن أرواح الجميع كانت تتسمّم بمعناه، وتتألم به، وتعلم أن هناك أحداً ينفث السم. حتى ان بعض الدهاة كلما كان يتنفس كان يصرخ صراخاً من الاعماق، الاّ أن العقل ماكان ليدرك ماهيته جيداً، اذ كان مُنبثاً في الظلمات غير متجمع على حال. لذا عندما ظنوا البلايا - المحال ازالتُها - مصائب سماوية، بدأوا بشن الهجوم على الزمان وصنع الدهر وصوّبوا سهاماً نحو صدر الفَلَك، اذ من القواعد المقررة انه: اذا خرج أمرٌ من دائرة الجزء الأختياري، ومن الجزئية ودخل الدائرة الكلية العمومية، أو كان دفعه محالاً بحسب العادة يُسند الى الزمان، ويُلقى اللوم على الدهر، وترمى قبة الفلك بالحجارة، واذا أنعمت النظر جيداً لرأيت ان الاحجار الآيبة تنقلب يأساً وتتحجر في القلب [انظر كيف أطالوا فيما لايلزم وكلما اضاءت لهم السعادة أثنوا على مَن سادهم، وكلما أظلم عليهم شتموا الزمان 1].
س: أما تكون الشكوى من الزمان والاعتراض على الدهر اعتراضاً على بدايع صنعة الصانع جلّ جلاله؟
ج: كلا، ثم كلا، بل ربما تعني الشكوى ما يأتي:
كأن الشاكي يقول: ان ماهية العالم المنظمة بدستور الحكمة الأزلية غير مستعدة لانجاز الأمر الذي أطلبه، والشئ الذي أبغيه، والحالة التي اشتهيها، ولايسمح به قانون الفلك المنقش بيد العناية الأزلية، ولاتوافقه طبيعة الزمان المطبوعة بمطبعة المشيئة الأزلية، ولا تأذن له الحكمة الإلهية المؤسّسِة للمصالح العامة.. لذا لا يقطف عالمُ الممكنات من يد القدرة الإلهية تلك الثمرات التي نطلبها بهندسة عقولنا وتَشَهّي هوانا وميولنا. وحتى لو أعطتها لَماَ تمكن من قبضها والاحتفاظ بها، ولو سقطتْ لَمَا تمكّن من حملها. نعم لا يمكن أن تسكن دائرة عظيمة عن حركاتها المهمة لاجل هوى شخص...
س: ما تقول في كثير من الشعراء والعلماء الذين أفرطوا - في زمانهم - في الثناء على الامراء والحكام؟ مع انك تنظر الى كثير منهم نظرك الى مستبدين؟ فاذاً قد أساءوا العمل.
_____________________
1 تمهل، لاتغادر هذه الفقرة، ادركها جيداً. وهي تعني: انهم يمنحون الحسنات الى الرؤساء ويلصقون السيئات بالزمان، فيبدون شكواهم بالشتم - المؤلف.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 412
ج: [ولولا خلال سنّة الشعر مادرى بُناة المعالي كيف تُبنى المكارم]
كانت نواياهم حسب هذه القاعدة هي حض الأمراء - بحيلة لطيفة - على الترفع عن السيئات، وجعلهم يتسابقون في مضمار الحسنات بادخال المكافأة الشعرية موضع التسابق في الأوساط، ولكن لما كانت تلك المكافأة الشعرية قد سُلِبتْ من عرق جبين أمة عظيمة فقد تصرفوا تصرفاً مستبداً، أي انهم قد أساءوا في العمل وان أحسنوا في النيّة.
س: لِمَ ؟.
ج: أفلا ترون ان محصل كلامهم في قصائدهم وبعض مؤلفاتهم إنما هو غصبٌ ضمني لمحاسن قوم عظيم وإغارة عليها، ثم اهداء تلك المحاسن الى شخص مستبد. فباظهارهم أن تلك المحاسن صادرة منه، أثنوا على الاستبداد - من هذه الزاوية - دون أن يشعروا.
س: نحن معاشر الاتراك والاكراد لنا من الشجاعة ما يملأ قلوبنا، بل ملء أجسادنا.. بل انبسطت حتى تجلّت بين هذه الوديان جبالاً محصنة لنا، ولنا من الذكاء ما يملأ رؤوسنا، ولنا من الغيرة ما يملأ صدرونا، ولنا من الطاعة ما يملأ أبداننا وجوارحنا، فأفرادنا يملأون الأودية حياةً وتتزين بهم الجبال 1 فما بالنا بقينا هكذا سافلين مفلسين أذلاء، حتى صرنا لقىً على الطريق يدوسنا الممتطون للرقي والسارعون المجدون للمستقبل، مع ان الامم المجاورة، وان كانوا أقلّ منا عدداً وأقصر منا قوة، الاّ انهم يتطاولون علينا [ان ركسهم يغلب طاهرنا] 2 .
ج: أما حينما انفتح بالمشروطية باب للتوبة وتاب الكثيرون، فليس لي حق في توبيخ الرؤساء وتعنيفهم، الاّ انني ألقم السابقين وأعنيهم، فان انجرح شعور البعض واحترامه فليعذرني، إذ احترام الحق وعدم جرحه أولى، فاحترام شعور الملّة أعلى وأغلى شأناً منهم. اعلموا أن سبباً مهماً لذلك التدني هو بعض الرؤساء والخدّاعون المتظاهرون بالحميّة ممن يدّعون الفداء والتضحية للأمة، أو قسم من المتشيخين المدّعين غير المؤهلين للولاية.
_____________________
1 اذاً لم تفتر قوتهم المعنوية - المؤلف.
2 اذا أردت فأنعم النظر، فان العبارة تشير الى »وارتكس« »عضو المبعوثان« من الأرمن والسيد »ملا طاهر« النائب عن »حكاري« في ذلك الوقت - المؤلف.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 413
فهذه السنّة السيئة المخالفة للسنة النبوية السنيّة هي الأخرى من سيئات الاستبداد.
س: كيف ؟
ج: ان لكل أمة من الأمم حوضاً معنوياً يشكل جسارة الأمة، ويصون عرضها، وتجتمع فيه قوتها. ولها كذلك خزينة معنوية تشكل سخاء الأمة، وتضمن منافعها العامة. وتخزن فيها ما فضل من الأموال. فالقسمان المذكوران من الرؤساء - بعلم أو بدون علم - فد فتحوا ثغرات وثقوباً في جوانب ذلك الحوض وتلك الخزينة. وسحبوا موارد البقاء وأَسالوا مادة الحياة، فجففوا الحوض وأفرغوا الخزينة، فاذا استمر الأمر على هذا المنوال فستنهار الدولة تحت غَلَبة الديون البالغة المليارات، فكما أن الرجل اذا فقد كلاً من قواه الغضبية - الدافعة - وقواه الشهوية - الجاذبة - يصبح ميتاً وان كان حياً يرزق.. وكما أن القطار اذا ثقب خزانه البخارى بثقوب يتعطل عن الحركة.. وكما ان المسبحة اذا انقطع خيطها تتبعثر حباتها.. كذلك الأمر في الأمة - التي هي شخصية معنوية - فان الرؤساء الذين يجففون حوضَ قوتِها ويفرغون خزينة ثروتها ويقطعون حبل فكرها الملّي، يفتتّونها قطعاً وأوصالاً، ويجعلونها سائبة ذليلة دون كيان، عديم الوجود... نعم، [حقيقت كتم نمى كنم براى دل عامى جند]، فلا اجرح شعور الحقيقة لأجل فئة من العوام.
س: ان هذا المقام أجدر بالتفصيل، فلا تدعه مجملاً ومبهماً؟
ج: ان العهد السابق قد انتهز بداوتكم وجهلكم، وحاك خططاً، فاستغلها قسم من الكبراء باسلوب خبيث مستخدمين القوة والارغام، فثقبوا ذلك الكنز وذلك النبع، وأسالوا زلال الحياة في صحراء قاحلة وأرض سبخة، فما نبتَ ولا اخضرّ الاّ كسالى وانتهازيين، حتى كانوا يستغلون الضعف البشري والعواطف الحساسة لدى اولئك المساكين الذين مدّوا ايديهم الى صيد صغير، بتنفيرهم من ثروة الدنيا لترتخي اظفارهم عن الصيد... فيفلت منهم ، ليخطفوه هم بمخالبهم لأنفسهم.
نعم ان لكل امة سخاءً وكرماً وهو بذل مقدار من ثروتها لمصلحة الامة ومنفعتها، بيد أنه اُستغل سخاء الأمة فينا استغلالاً سيئاً بخلاف سخاء الأمم الأخرى الذي يتخزن في جوفها حوضاً واسعاً ليسقي بستان العلوم والمعارف، وكذا من طبيعة كل امة جسارةً، لأجل المحافظة على شرف الامة وصيانة عرضها.
صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 414
وقد أساء بعض الكبراء في العهد السابق استعمال هذه الجسارة فألقوها في صحراء الاختلاف وأضاعوها وأخذ كلٌّ يضرب عنق الآخر بغمدٍ من تلك القوة وغلاف منها، حتى كسروه... وهكذا انكسرت... حتى أنهم صرفوا - فيما بينهم - تلك القوة العظيمة المركبة من خمسمائة ألف من الأبطال المستعدين للحفاظ على شرف الامة فأبادوها في أرض الأختلافات جاعلين أنفسهم مستحقين للتأديب والتأنيب. فان استفدتم من "المشروطية" و"الحرية الشرعية" وسددتم تلك الثغرات أو جعلتموها مسايل اليه كالحوض، وأعطيتم تلك القوة الرائعة بيد الدولة لصرفها في الخارج فستحصلون ثمنها رحمةً، وعدالة ومدنية.
فان شئتم نتبادل فيما بيننا اسلوب الحوار، فأنا أسألكم وأجيبوا انتم.
ج: [فاسأل ولا تجد به خبيراً].
س: هل يمكن ان تكون أمة الارمن اشجع منكم؟ 1.
ج: كلا، ثم كلا، لم تكن ولن تكون..
س: فلماذا اذن لايبوح فدائيهم بأسراره ولايفشي عن أخيه شيئاً ولو قطّع إرباً إرباً وأحرق حرقاً، بينما لو طُعن شجاع منكم يفرش اسراره جميعاً مع دمه المهراق... فما سبب هذا التفاوت العظيم في الشجاعة؟...
ج: نحن لانعرف كنه ماهيته، ولكننا نعلم ان ثمة شيئاً يصيّر الذرة جبلاً ويخضع الأسد للثعلب، فذلك وظيفتك - في الاجابة - نحن لانطيق حملها، فقد عرفنا وجود ذلك الشئ فعليك بشرح ماهيتنا.
ج: فاستمعوا اذاً، وافتحوا آذانكم جميعاً، فان همة أرمني متيقظ بالفكر الملّي، هي مجموع أمته، وكأن أمته قد صغرت واصبحت نفسَه أو استقرت في قلبه، فمهما كانت روحه عزيزة وغالية عنده الاّ أن أمته أعظم عنده وأعزّ. وحتى لو كان له ألف روح لضحّى به مفتخراً لما يحمل من فكر سامٍ -بالنسبة اليه - علماً أن أقصى ما كان يتصوره اشجعكم في السابق - ولا أقصد الحاليين - الذي لم يك متيقظاً ولا داخلاً في النور، ولاعالماً بشرف الملّة الاسلامية، هو مجرد شرف نفسه أو نفعها، أو شرف
_____________________
1 ان الأتراك والأكراد لكونهم علماء عظاماً في فن الشجاعة، اصبحوا هم المجيبين وأنا السائل - المؤلف.