الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #41
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,199
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 437
المحكمة العسكرية العرفية
او
شهادة مدرستي المصيبة
"التي طبعت سنة (1908م)"
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة
إحسان قاسم الصالحى
صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 439
باسمه سبحانه
(وإن منْ شىءٍ إلاّ يُسبّحُ بحمده)
المقدمة
حينما كانت "الحرية" قرينة الجنون، جعل الاستبداد الضعيف مستشفى المجاذيب مدرسةً لي.
وحينما كانت العدالة والاستقامة التبستا مع الرجعية، صيّر الاستبداد الشديد في المشروطية السجن مدرسةً لي.
فيا ايها المحترمون الناظرون الى شهادتي هذه! ارجو أن تبعثوا ارواحكم وخيالكم ضيوفاً الى ذهنٍ طالب بدوي عصبي المزاج والى جسده، وهو يكابد الاضطراب وقد انخرط حديثاً في المدنية، وذلك لئلا تقعوا في خطأ تخطئة الآخرين.
لقد قلت في المحكمة العسكرية العرفية في اثناء حادثة (31) مارت:
انني طالب شريعة، لذا ازن كل شئ بميزان الشريعة. فالاسلام وحده هو ملتي، لذا اُقيّم كل شئ وانظر اليه بمنظار الاسلام.
وانني اذ أقف على مشارف عالم البرزخ الذي تدعونه "السجن" منتظراً في محطة الاعدام القطار الذي يقلني الى الآخرة اشجب وانقد ما يجري في المجتمع البشري من احوال ظالمة غدارة. فخطابي ليس موجهاً اليكم وحدكم وانما اُوجهه الى بني الانسان كلهم في هذا العصر. فلقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة:
(يوم تبلى السرائر) (الطارق: 9) فمن كان اجنبياً غير محرَم فلا ينظر اليها. انني متهئ بكل شوق للذهاب الى الآخرة، ومستعد للرحيل اليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق. تصوروا مبلغ اشتياقي اليها بهذا المثال:


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 440
قروي مغرم بالغرائب سمع بعجائب استانبول وغرائبها وجمالها ومباهجها، كم يشتاق اليها؟
فانا الآن مثل ذلك القروي مشتاق الى الآخرة التي هي معرض العجائب والغرائب.
لذا فان إبعادي ونفيي الى هناك لايُعدّ عقاباً لي. ولكن إن كان في قدرتكم وفي استطاعتكم تعذيبي وايقاع العقاب عليّ فعذّبوني وجداناً، فدونه ليس عذاباً ولاعقاباً بل فخراً وشرفاً.
لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل ايام الاستبداد. الاّ انها الآن تعادي الحياة باكملها. فان كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق؛ فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين.
لقد كنت آمل ان يهئ لي موضع لأبيّن فيه افكاري. وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث منها أفكاري.
في الايام الاولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري:
"وانت ايضاً قد طالبت بالشريعة"!
قلت: لو كان لي الف روح، لكنت مستعداً لأن اضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة، اذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة. اقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون.
وقالوا كذلك: هل انضممت الى "الاتحاد المحمدي؟ 1
قلت: نعم بكل فخر واعتزاز! أنا من اصغر اعضائه، ولكن بالوجه الذي اعرّفه. أروني احداً خارج ذلك الاتحاد من غير الملحدين.
وهكذا فانا انشر اليوم ذلك الخطاب لأنقذ المشروطية من التلوث، وانجي اهل الشريعة من اليأس، واخلّص ابناء العصر من وصم الجهل والجنون في نظر التأريخ، وانتشل الحقيقة من الأوهام والشبهات.
_____________________
1 تشكلت هذه الجمعية في 5 نيسان 1909 ، واعلن عنها في اجتماع ديني حاشد في جامع اياصوفيا، القى فيه الاستاذ النورسي خطبة رائعة. المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 441
فها انا ابدأ بخطابي.
ايها القادة! ايها الضباط!
ان خلاصة جناياتي التي اقتضت سجني هي:
[اذا محاســـني اللاتي ادلّ بها كانت ذنوبي فقل لي كيف اعتذر؟].
وفي البداية اقول:
ان الشريف لايتنزل لارتكاب جريمة. وإن اُتهم بها فلايخاف من الجزاء والعقاب. فلئن اُعدمتُ ظلماً فاني أغنم ثواب شهيدين معاً. وان لبثت في السجن فهو بلاريب افضل مكان في ظل هذه الحكومة الظالمة التي ليس فيها من الحرية الاّ لفظها. فالموت مظلوماً هو خير من العيش ظالماً.
واقول كذلك: ان بعضاً ممن جعلوا السياسة اداة للالحاد، يتهمون الآخرين بالرجعية او باستغلال الدين لاجل السياسة ليستروا سيئاتهم وجرائمهم.
ان عيون السلطة وجواسيسها أشد قساوة من سابقيهم، فكيف يوثق بهم ويعتمد عليهم وكيف نبني العدالة على أقوالهم؟.
فضلاً عن ان الانسان، اذ لايسلَم من تقصير ونقص، بينما تراه يتحرى العدالة يقع في الظلم بالجبن والخب. ولكن جمع تقصيرات متفرقة وقعت في مدة مديدة ومن تصرف اشخاص كثيرين - والتي يمكن تفاديها بما يتخللها من محاسن - وتوهم صدورها من شخص واحد في وقت واحد يجعل ذلك الشخص مستحقاً لعقاب شديد. بينما هذا الامر بحد ذاته ظلم عظيم.
والآن سنباشر بذكر جناياتي البالغة احدى عشرة جناية ونصف جناية وهي:
الجناية الاولى: في السنة الماضية، في بداية اعلان الحرية، ارسلتُ مايقارب من خمسين اوستين برقية الى العشائر القاطنين في شرقي البلاد، وذلك بوساطة ديوان رئاسة الوزارة. كان مضمون تلك البرقيات:
"ان المسألة التي سمعتموها وهي المشروطية والقانون الاساسي فما هي الاّ العدالة الحقة والشورى الشرعية. تلقُوها بقبول حسن. اسعوا للحفاظ عليها؛ لان سعادتنا الدنيوية في المشروطية. فلقد قاسينا الامرّين من الاستبداد اكثر من الآخرين".


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 442
وقد أتت من كل مكان اجابات إيجابية لهذة البرقيات. بمعنى انني قمت بتنبيه الولايات الشرقية ولم اتركهم غافلين، يستغفلهم استبداد جديد..
وحيث انني لم اقل مالي وللناس ارتكبتُ إذن جناية، حتى دخلت هذه المحكمة!
الجناية الثانية: لقد قمت بالقاء خطب عدة على العلماء عامة وعلى كثير من طلاب الشريعة، وذلك في كل من جامع اياصوفيا وبايزيد والفاتح والسليمانية، وبينت العلاقة الحقيقية بين الشرع الحقيقي والمشروطية. واوضحت ان الاستبداد المتعسف لاصلة له بالشريعة الغراء، وإن الشريعة قد أتت لهداية العالم اجمع كي تزيل التحكم الظالم والاستبداد كما هو مضمون الحديث الشريف (سيد القوم خادمهم) 1 وانا على استعداد لأبرهن برهاناً قاطعاً كل كلمة جاءت في أيّ خطبة كانت من الخطب التي ألقيتها لمن له اي اعتراض كان.
وقد قلت: ان المسلك الحقيقي للشريعة إنما هو حقيقة المشروطية المشروعة.
بمعنى انني رضيت بالمشروطية بالدلائل الشرعية، وليس كما رضي بها بعض دعاة المدنية الغربية، اذ قبلوها تقليداً وفهموها خلافاً للشريعة. فلم أتنازل عن الشريعة ولم اعطها أنا مرة لشئ.
وحيث انني سعيتُ لانقاذ الشريعة وصون علمائها من شبهات اوروبا واوهامها فقد أرتكبت اذن جريمة حتى رأيت هذا النمط من معاملاتكم معي!
الجناية الثالثة: لقد توجست خيفة من ان يلوث صفاء القلوب لدى الولايات الشرقية، فيستغل بعض دعاة الاحزاب ابناء بلدي الذين يقرب تعدادهم عشرين الف شخص، حيث انهم يعملون بالحمالة وهم ذوو نفوس طيبة ساذجة غافلة. فتجولت جميع الاماكن والمقاهي التي يتواجد فيها الحمالون، وبينت لهم المشروطية في السنة الماضية بقدر مايستوعبونه. فقلت لهم بهذا المعنى:
ان الاستبداد ظلم وتحكم في الآخرين، اما المشروطية فهي العدالة والشريعة. فالسلطان اذا ما اطاع اوامر سيدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وسار في نهجه المبارك فهو
_____________________
1 رواه ابو عبدالرحمن السلمي في آداب الصحبة، ورواه الخطيب، واخرجه الديلمي، ورواه الطبراني بمعناه، فالحديث ضعيف كما علمت، على انه قد يقال انه حسن لغيره لتعدد طرقه كما مر فتدبر(باختصار عن كشف الخفاء 2/463).



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 443
الخليفة، ونحن نطيعه، والاّ فالذين يعصون الرسول صلى الله عليه وسلم ويظلمون الناس هم قطاع طرق ولو كانوا سلاطين.
ان عدونا هو الجهل والضرورة والاختلاف، وسنجاهد هؤلاء الاعداء الثلاثة بسلاح الصناعة والمعرفة والاتفاق. وسنتعاون ونتصادق يداً بيد مع الاتراك وهم اخواننا الحقيقيون الذين كانوا السبب - من جهة - لإيقاظنا من غفلتنا ودفعنا الى سبيل الرقي.
نعم، نتعاون معهم ومع جميع من يجاورنا، لان الخصام والعداء فساد ايّ فساد. فلا نملك وقتاً للخصام.
ونحن لانتدخل بشؤون الحكومة، حيث اننا لاندرك حكمتها.
ولقد أجدت هذه النصيحة وتركت أثراً في اولئك الحمالين الذين قاطعوا العمل في انزال البضائع النمساوية - مثلما اقاطع البضائع الاوروبية قاطبة - حيث تصرفوا تصرفاً يتسم بالعقلانية وبعيداً عن التهور.
وحيث انني كنت السبب في تقويم ارتباطهم بالسلطان وتسويتها وفتح حرب اقتصادية مع النمسا فقد ارتكبت اذن جناية حتى وقعت في هذه المصيبة!
الجناية الرابعة: ان اوروبا تظن الشريعة هي التي تمدّ الاستبداد بالقوة وتعينه. حاش وكلا.. ان الجهل والتعصب المتفشيان فينا قد ساعدا اوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من ان الشريعة تعين الاستبداد. لذا تألمت كثيراً من اعماق قلبي على ظنهم السئ هذا بالشريعة، فكما انني اكذّب ظنهم فقد رحّبت بالمشروطية باسم الشريعة قبل اي شخص. ولكني خشيت من ان يقوم استبداد آخر لتصديق هذا الظن، لذا صرخت من اعماقي، وبكل ما اوتيت من قوة في خطاب امام المبعوثين.. في جامع اياصوفيا وقلت:
افهموا المشروطية في ضوء المشروعية وتلقوها على اساسها، ولقّنوها الآخرين على هذه الصورة. كي لا تلوثها اليد القذرة لاستبداد جديد متستر وملحد باتخاذ ذلك الشئ الطيب المبارك ترساً لأغراضه الشخصية. قيّدوا الحرية باداب الشرع لان عوام الناس والجاهلين يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق، فلا يطيعون بعد ان ظلوا


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 444
احراراً سائبين بلاقيد و شرط. ولتكن قبلتكم في صلاة العدالة على المذاهب الاربعة كي تصحّ صلاتكم. لأنني قد اعلنت دعوىً: انه يمكن استخراج حقائق المشروطية صراحة وضمناً وإذناً من بين المذاهب الاربعة.
وحيث اني قد اخذت على عاتقي - وانا طالب شريعة - مايفرض على العلماء جملة من الوظائف والواجبات فقد اقترفت اذن جناية.. ولهذا تلقيت مثل هذا العقاب!
الجناية الخامسة: لقد دأبت الصحف على زعزعة الاخلاق الاسلامية بقياسين فاسدين وبما يوهن العزة والإقدام، حتى اهلكوا الافكار العامة السائدة. فتصديت لهم بمقالات نشرتها في الجرائد وقلت لهم:
يا ارباب الصحف! على الادباء ان يلتزموا بالآداب، وعليهم ان يتأدبوا بالآداب اللائقة بالاسلام فينبغي ان تكون اقوالهم صادرة من صدور لاتحيد لجهة، ومن قلوب عموم الناس، فيشترك معهم عموم الامة.
ويجب تنظيم برنامج المطبوعات بما في وجدانكم من شعور ديني ونية خالصة.
بينما انتم بقياس فاسد، اي بقياس الريف باستانبول، واستانبول باوروبا اوقعتم الرأي العام والافكار السائدة في مستنقع آسن. فنبهتم عروق الاغراض الشخصية والمنافع الذاتية واخذ الثأر، حيث يلقن الطفل الصغير الذي لم يدرج بعد في المدرسة، الفلسفة الطبيعية المادية. فكما لا تليق بالرجل فساتين الراقصات فلاتطبق مشاعر اوروبا في استانبول. اذ اختلاف الاقوام وتخالف الاماكن والاقطار شبيهة بتباين الازمنة والعصور. بمعنى ان الثورة الفرنسية لاتكون دستوراً لنا. فالخطأ ينجم من تطبيق النظريات وعدم التفكر بمتطلبات الوقت الحاضر.
فانا القروي الذي لا اجيد الكتابة قد قمت باسداء النصائح الى امثال هؤلاء المحررين الحاملين لاغراض شخصية ومغالطات في رؤية الامور التي يعملون فيها بذكائهم.. فارتكبت اذن جناية!
الجناية السادسة: لقد شعرت مراراً في اجتماعات ضخمة بالمشاعر المتهيجة لدى الناس، فخشيت ان يخلّ عوام الناس النظام وأمن البلاد بمداخلتهم في السياسة،


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 445
فقمت بتهدأة تلك المشاعر الجياشة بكلام يلائم لسان طالب علم قروي قد تعلم اللغة التركية حديثاً.
فمثلاً: في اجتماع الطلاب في جامع بايزيد، وفي المولد النبوي المقام في اياصوفيا، وفي مسرح الفرح. هدّأتُ - الى حدٍ ما- ثورة الناس وغضبهم . فلولا تلك الكلمات والخطب لعصفت عاصفة هوجاء تعصف بهم.
فانا البدوي الذي لم اختلط بعدُ كثيراً بالحضارة، ولعلمي بدسائس المدنيين.. قد تدخلت في امورهم فارتكبت اذن جناية!
الجناية السابعة: لقد طرق سمعي ان جمعية باسم "الاتحاد المحمدي" قد تأسست، فتوجست خيفة شديدة، من صدور حركات خاطئة من بعضهم تحت هذا الاسم المبارك.
ثم سمعت اشخاصاً مرموقين - من امثال سهيل باشا والشيخ صادق 1 قد حوّلوا هذا الاسم الى شئ بسيط ويسير إذ حصروه في العبادة واتباع سنن مطهرة، فقطعوا علاقتهم بتلك الجمعية السياسية. فلا يتدخلون بعدُ بالسياسة. فخشيت مرة اخرى حيث قلت: ان هذا الاسم هو حقّ المسلمين كافة، فلا يقبل تخصصاً ولاتحديداً. فكما اني منتسب الى جمعيات دينية عديدة من جهة - حيث قد رأيت ان اهدافها واحدة - كذلك انتسب الى ذلك الاسم المبارك.
ولكن الاتحاد المحمدي الذي اعرفه وانضممت اليه هو الدائرة المرتبطة بسلسلة نورانية ممتدة من الشرق الى الغرب ومن الجنوب الى الشمال. فالذين ينضوون تحت رايتها يتجاوز عددهم ثلاثمائة مليوناً في هذا العصر، وان جهة الوحدة والارتباط في هذا الاتحاد هو توحيد الله. قسمه وعهده هو الايمان. والمنتسبون اليه جميع المؤمنين منذ الخليقة. وسجل اسماء اعضائه هو اللوح المحفوظ. وناشر افكاره جميع الكتب الاسلامية والصحف اليومية التي تستهدف اعلاء كلمة الله. ومحالّ اجتماعاته ونواديه هي الجوامع والمساجد والتكايا والمدارس الدينية. ومركزه: الحرمان الشريفان.
_____________________
1 من الاعضاء المؤسسين لجمعية الاتحاد المحمدى - المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 446
فجمعية مثل هذه.. رئيسها هو فخر العالمين سيدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ومسلكها ومنهجها؛ مجاهدة كل شخص نفسه اي التخلق باخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واحياء السنة النبوية ومحبة الآخرين واسداء النصح لهم ما لم ينشأ منه ضرر.
والنظام الداخلي لهذا الاتحاد: السنة النبوية.
وقانونه: الاوامر الشرعية ونواهيها.
وسيوفه: البراهين القاطعة، حيث أن الظهور على المدنيين المثقفين انما هو بالاقناع وليس بالضغط والاجبار. وان تحرّي الحقيقة لايكون الاّ بالمحبة، بينما الخصومة تكون ازاء الوحشية والتعصب.
اما اهدافهم ومقاصدهم فهي اعلاء كلمة الله .
هذا وان نسبة الاخلاق والعبادة وامور الآخرة والفضيلة في الشريعة هي تسع وتسعون بالمئة بينما نسبة السياسة لاتتجاوز الواحدة بالمائة. فليفكر فيها اولياء امورنا.
والآن فان مقصدنا هو سوق الجميع بشوق وجداني الى كعبة الكمالات بطريق الرقي، وذلك بتحريك تلك السلسلة النورانية، اذ إن الرقي المادي سبب عظيم لاعلاء كلمة الله في هذا الزمان.
وهكذا فانا احد أفراد هذا الاتحاد ومن الساعين لرفع رايته واظهار اسمه والاّ فلست من الاحزاب والجمعيات التي تسبب الفرقة بين الناس.
الحاصل: لقد بايعت السلطان سليم وقبلت فكره في الاتحاد الاسلامي، لان ذلك الفكر هو الذي ايقظ الولايات الشرقية، فهم قد بايعوه على ذلك.
فالشرقيون الآن هم اولئك لم يتغيروا. فأسلافي في هذه المسألة هم: الشيخ جمال الدين الافغاني، ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. ومن العلماء الاعلام على سواعي، والعالم تحسين. والشاعر نامق كمال الذي دعا الى الاتحاد الاسلامي والسلطان سليم الذي قال:
"ان مغبة الاختلاف والتفرقة يقلقاني حتى في قبري
فسلاحنا في دفع صولة الاعداء انما هو الاتحاد
ان لم تتحد الامة فإنّي اتحرق أسىً"
السلطان ياوز سليم


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 447
ولقد دعوت ظاهراً الى هذا الاتحاد المحمدي من اجل مقصدين عظيمين:
المقصد الاول: انقاذ ذلك الاسم من التحديد والتخصيص، ولأعلن شموله المؤمنين عامة كي لايقع الخلاف والفرقة ولا ترد الشبهات والاوهام.
المقصد الثاني: ليكون سداً امام افتراق الفرق والاحزاب الذي كان سبباً في هذه المصيبة الفائتة العظيمة 1، وذلك بمحاولة التوحيد بينها، فيا اسفي لم يسعفنا الزمن فجاء السيل فاوقعني ايضاً.
ثم كنت اقول: لو نشب حريق فسأحاول اطفاء جزء منها في الاقل، ولكن احترقت حتى ملابسي العلمية. وذهبتْ - برضى مني - الشهرة الكاذبة التي لا استطيع تعهدها.
فأنا الذي لست الاّ رجلاً عادياً، قد اخذت على عاتقي مسائل مهمة تقض مضاجع النواب والاعيان والوزراء، فاذن قد ارتكبت جناية!.
الجناية الثامنة: لقد سمعت ان قسماً من الجنود بدأوا ينتسبون الى بعض الجمعيات، فتذكرت الحادثة الرهيبة للانكشاريين. فقلقت كثيراً واضطربت، فكتبت في احدى الصحف:
ان اسمى جمعية وأقدسها في الوقت الحاضر، هي جمعية الجنود المؤمنين. فجميع الذين انخرطوا في سلك الجندية المؤمنة المضحية ابتداءً من الجندي الى القائد هم داخلون في هذه الجمعية. اذ إن أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الاتحاد والاخوة والطاعة والمحبة واعلاء كلمة الله. فالجنود المؤمنون قاطبة يدعون الى هذا الهدف. ألا ان الجنود هم المراكز، فعلى الامة والجمعيات ان ينتسبوا الى الجنود. اذ الجمعيات الاخرى ماهي الاّ لجعل الامة جنوداً في المحبة والاخوة. اما الاتحاد المحمدي الذي هو شامل لجميع المؤمنين فهو ليس جمعية ولا حزباً، اذ مركزه وصفّه الاول المجاهدون والشهداء والعلماء والمرشدون.
فليس هناك مؤمن ولاجندي فدائي سواءً أكان ضابطاً او جندياً خارج عن هذا الاتحاد، لذا فلا داعي للانتساب الى جمعيات اخرى. ومع هذا فلا اتدخل في امور بعض الجمعيات الخيرة التي لها الحق في ان تطلق على نفسها الاتحاد المحمدي.
_____________________
1 المقصود حادثة 31 مارت. المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 448
فانا الذي لست الاّ طالب شريعة، قد غصبت مهمة العلماء العظام فاذن قد ارتكبت جناية!
الجناية التاسعة: لقد شاهدت الحركة الرهيبة التي حدثت في (31) مارت لبضع دقائق. فسمعت مطالب عدة؛ فكما اذا اديرت الوان سبعة بسرعة لايظهر الاّ اللون الابيض فكذلك لم يظهر من تلك المطالب الاّ لفظ الشريعة التي تخفف فساد تلك المطالب المتباينة من الالف الى الواحد، وتنقذ العوام من الفوضى والاضطراب، والتي تحافظ حفاظاً معجزاً على السياسة من ان تكون لعبة بيد الافراد. فادركت ان الامر ينساق الى الفساد؛ اذ الطاعة قد اختلت، والنصائح لا تجدي؛ والاّ كنت اندفع الى اطفاء تلك النار مثلما كنت اطفئ غيرها، ولكن العوام هم الاغلبية، واصدقائي غافلون وبسطاء، وانا اظهر بمظهر الشهرة الكاذبة.
فبعد ثلاث دقائق انسحبت ذاهباً الى "باقركوي" 1 كي احول بين معارفي وبين التورط في هذا الامر. واوصيت كل من قابلني بعدم التدخل. فلو كان لي تدخل - بمقدار أنملة - لكنت اظهر في هذا الامر ظهوراً عظيماً حيث ان ملابسي تعلن عني وشهرتي التي لا اريدها ذائعة بين الجميع. وربما كنت اثبت وجودي بمقاومة جيش الحركة الى اياستافانونس 2 ولو وحدي ثم اموت بشرف ورجولة. وعندئذٍ كان تدخلي في الامور من البديهيات. فلا تبقى حاجة الى التحقيق.
وفي اليوم الثاني استفسرت من الجنود المطيعين - الذين هم يمثلون عقدة الحياة لنا - فقالوا ان الضباط قد لبسوا ملابس الجنود، فالطاعة ليست مختلة كثيراً.
ثم كررت السؤال: كم من الضباط اُصيبوا؟ فخدعوني قائلين: اربعة فقط، وهؤلاء كانوا من المستبدين. وسوف تنفذ اداب الشريعة وحدودها.
ثم تصفحت الجرائد ورأيت: انهم ايضاً يرون تلك الحركة حركة مشروعة ويصورونها على هذه الصورة، ففرحت من جهة. لأن أقدس غاية لديّ هي تطبيق الاحكام الشرعية تطبيقاً كاملاً. ولكن يئست اشد اليأس وتألمت كثيراً باختلال الطاعة العسكرية. فخاطبت الجنود بلسان جميع الجرائد وقلت:
_____________________
1 احد احياء استانبول - المترجم.
2 منطقة في ضواحي استانبول (يشيل كوي). المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 449
ايها الجنود! ان كان ضباطكم يظلمون انفسهم بإثم واحد فانكم بعصيانكم تظلمون حقوق ثلاثين مليوناً من العثمانيين و ثلاثمائة مليوناً من المسلمين. لان شرف العثمانيين وعامة المسلمين وسعادتهم ولواء وحدتهم قائمة - بجهة - في طاعتكم.
ثم انكم تطالبون بالشريعة ولكنكم تخالفونها بعصيانكم هذا.
ولقد باركت حركتهم وشجاعتهم لان الصحف التي هي لسان كاذب للرأي العام قد اظهرت لنا أن حركتهم مشروعة. فلقد تمكنت - بتقديرهم هذا - أن اؤثر بنصيحتي فيهم. فهدّأت العصيان الى حدٍ ما. والاّ لما كان الامر يكون سهلاً.
فانا الذي قد زرت مستشفى المجاذيب فعلاً، ولم اقل: مالي وللناس، فليفكر في هذا الامر العقلاء.. فقد ارتكبت اذن جناية!
الجناية العاشرة: لقد ذهبت بصحبة العلماء يوم الجمعة الى الجنود الذين هم في الوزارة الحربية. وقد أخضعت ثمانية طوابير الى الطاعة بخطب مؤثرة جداً. ولقد اظهرت نصائحي فوائدها بعد مدة. اذكر لكم صورة خطابي:
ايها العساكر الموحدون!
ان شرف ثلاثين مليوناً من العثمانيين وثلاثمائة مليوناً من المسلمين وكرامتهم وسعادتهم ورمز وحدتهم منوطة - من جهة - بطاعتكم. ان كانوا يظلمون انفسهم بخطيئة واحدة فانكم بعصيانكم هذا تظلمون ثلاثمائة مليوناً من المسلمين. لانكم بعصيانكم هذا تلقون الاخوة الاسلامية الى التهلكة.
اعلموا جيداً!
ان مركز الجندي عظيم جداً، اذ هو اشبه مايكون بالمعمل، فاذا اختل دولاب منه يختل العمل في المعمل كله. ألا ان الجنود الافراد لايتدخلون بالسياسة، والانكشاريون خير شاهد على هذا. انكم تطالبون بالشريعة الاّ انكم تخالفونها وتلوثونها.
انه ثابت بالشريعة والقرآن والحديث والحكمة والتجربة: ان الطاعة فرض لولى الامر المستقيم المتدَّين القائم بالحق. فاولياء اموركم هم ضباطكم. فكما ان مهندساً ماهراً وطبيباً حاذقاً اذا ما ارتكب الآثام لاتتضرر مهنة الطب والهندسة كذلك

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس