الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #43
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 460
النصف الآخر من السؤال : لم يؤذن له.
ايها القواد والضباط! أقول بكل قوتي:
انني مصرّ إصراراً جادًا على جميع الحقائق التي نشرتها في الصحف في مقالاتي كلها. فلو دعيت من قبل الماضي، من قبل محكمة العصر النبوي السعيد،باسم الشريعة العادلة فسأبرز الحقائق التي نشرتها بعينها، لا اغيّر منها شيئاً، سوى ما يستوجبه هذا الزمان من زيّ.
ولو دعيت من قبل المستقبل، من قبل محكمة العقلاء الناقدين باسم التاريخ لما بعد ثلاثمائة سنة. فسأبرز هذه الحقائق ايضاً. الاّ ما تحتاج من ترميم بعض جوانبها المتشققة.
بمعنى ان الحقيقة لا تتحول الى امر آخر، فالحقيقة حق، و(الحق يعلو ولا يعلى عليه) 1 والامة صاحية، بل لو اُغفلت بالمغالطة والخداع ، فلا يدوم ذلك.
أما الخيال الذي ظُن حقيقة فعمره قصير. وستتشتت تلك الافكار المضللة امام فوران الرأي العام وتبرز الحقيقة ناصعة الى الميدان. ان شاء الله.
بس كنم جون زير كانرا اين بس است
بانك ده كروم اكردر ده كس است 2
على الرغم من ان الوضع في سجنكم معذّب والزمان رهيب والمكان موحش والسجناء مستوحشون والصحف تنشر الاراجيف والاكاذيب، والافكار مشوشة والقلوب كسيرة حزينة والوجدان متألم ويائس والموظفون متشائمون من الوضع والحراس مزعجون.. اقول على الرغم من كل هذا ، فان الوضع كان لي موضع سرور، لان ضميري لم يكن يعذبني. بل كلما تنوعت المصائب ترنمت بنغمات متنوعة ايضاً.
نعم لقد اكملت هنا - في السجن - الدرس الذي تلقيته السنة الماضية في مستشفى المجاذيب حيث تلقيت دروساً مطولة لطول زمن المصيبة، اذ كان الحزن
_____________________
1 (الاسلام يعلو ولا يعلى): رواه الدار قطني والضياء في المختارة والروياني عن عائد بن عمر والمزني رفعه، والطبراني والبيهقي عن معاذ رفعه، وعلقه البخاري في صحيحه. والمشهور على الألسنة زيادة »على « اخراً، بل هي رواية احمد. والمشهور ايضاً على الألسنة: الحق يعلو ولا يعلى" عليه. (كشف الخفاء) 1/127).
2 بيت بالفارسية نظير قول الشاعر: لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي. المترجم



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 461
البرئ المظلوم الذي هو لذة روحانية للدنيا علّمني الشفقة على الضعفاء وشدة النفور من الظلم والغدر.
انني على أمل عظيم، ان الآهات والزفرات الساخنة المتبخرة من قلوب الابرياء الكسيرة ستشكل سحابة رحمة ، وقد بدأت فعلاً هذه السحب بتشكيل دول اسلامية حديثة في ارجاء العالم الاسلامي.
ان كانت المدنية الحاضرة هي التربة الخصبة لإنماء مثل هذه التصرفات التي تمس الكرامة الانسانية وتعتدي عليها.. وهذه الافتراءات التي تؤدي الى النفاق.. وهذه الافكار التي تغذي الحقد والانتقام.. وهذه المغالطات الشيطانية والتحلل من الآداب الدينية.. اذا كانت هذه هي المدنية، فليشهد الجميع بأنني افضّل قمم الجبال الشاهقة في الشرق، وافضّل حياة البداوة في تلك الجبال في بلدي حيث الحرية المطلقة، على موطن النفاق الذي تسمّونه انتم قصر المدنية.
ان حرية الفكر وحرية الكلام وحسن النية وسلامة القلب التي لم اشاهدها في هذه المدنية الدنية، مستولية على جبال شرقي الاناضول بكل معانيها.
وحسب علمي ان الادباء يكونون متأدبين، الاّ انني اجد بعض الصحف الخارجية خالية من الادب وناشرة للنفاق. فان كان هذا هو الادب، والآراء العامة مختلطة الى هذا الحد، فأشهدوا أني تخليت عن هذا الادب. فلست داخلاً فيهم ايضاً. وسأطالع الاجرام السماوية واللوحات السماوية النيرة على ذرى جبال موطني، قمة باشت 1، بدلاً من مطالعة هذه الصحف.
"ان عالم فيضنا نزيه من عيوب الاماني الخادعة.
فقد كتب علينا الترفع عن زينة الذهب والفضة منذ الازل.
وجفونا نشوة الآمال وطولها.
عشقنا عشق مجنون لليلى ، ولكن اغنانا حتى عن وصالها".
[ولولا تــكاليــف العلا ومقاصــد عوالٍ واعقاب الاحاديث في غدٍ
لاعطيت نفسي في التخلي مرادـهــا وذاك مرادي مذ نشأت ومقصدي
واكتــم اشــيــاء ولو شــئت قلتــهـا ولو قلتها لم اُبق للصلح موضــعا]
_____________________
1 قمة جبل في جنوب شرقي الاناضول. المترجم.




صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 462
تنبيه
ان الذي يسوقكم الى التأمل هو طرح الاسئلة على المدنية.
نعم! انني افضّل البداوة على هذه المدنية الممزوجة بالاستبداد والسفاهة والذل. ان هذه المدنية تجعل الاشخاص فقراء وسفهاء وسيئي الاخلاق. بينما تسعى المدنية الحقيقية لترقية النوع الانساني وتدفعه الى التكامل، وتخرج ماهيته النوعية من القوة الى الفعل، لذا فان طلب المدنية والسعي لها انطلاقاً من هذه الزاوية يعدّ سعياً نحو الانسانية.
ثم ان سبب افتتاني بمحبة معنى المشروطية هو ان المدخل الاول لتقدم آسيا والعالم الاسلامي في المستقبل هو المشروطية المشروعة والحرية التي هي ضمن نطاق الشريعة. وان مفتاح حظ الاسلام وسعده ورقيه موجود في الشورى التي في المشروطية. حيث قد انسحق - لحد الآن - ثلاثمائة مليوناً من المسلمين تحت اقدام الاستبداد المعنوي للاجانب.
وحيث ان الحاكمية الاسلامية مهيمنة الآن في العالم ولا سيما في آسيا، فان كل مسلم يكون مالكاً لجزء حقيقي من الحاكمية. وان الحرية هي العلاج الوحيد لانقاذ ثلاثمائة مليوناً من المسلمين من الاسر. فحتى لو تضرر هنا - بفرض محال - عشرون مليوناً من الناس في اثناء ارساء الحرية، فليكن ذلك فداءً، إذ نأخذ ثلاثمائة بدفع عشرين.
وا أسفى! ان العناصر والقوميات الموجودة عندنا مختلطة اختلاط اجزاء الهواء ، ولم تمتزج امتزاج اجزاء الماء. وستمتزج تلك العناصر والقوميات بالاسلام الذي يفعل فعل التيار الكهربائي فيهم. وسيأتي باذن الله مزاج العدالة المنصفة المتولدة من حرارة نور المعارف الاسلامية.
فلتعش المشروطية المشروعة. ولتدم الحرية النيّرة المسترشدة بتربية حقيقة الشريعة.
غريب زمان الاستبداد
بديع زمان المشروطية
وبدعة هذا الزمان
سعيد النورسي


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 463
خاتـمة

اعتقد ان البحث يظل ناقصاً ان لم اوجه بضع كلمات الى مواطني واخواني.
يا أبناء وطني واخواني! يا احفاد الجنود الاشاوس لجيوش آسيا البسلاء للقرون الماضية، كفاكم نوماً لخمسمائة سنة. تيقظوا فلقد أذن الصباح. والاّ ستنهبكم الغفلة وانتم تغطون في نوم عميق في صحراء الجهل القاحلة.
ان الحكمة الالهية التي هي نظام العالم والمؤسسة للقانون الالهي النوراني الساري في ارجاء العالم كله قد رفعت اصبع القدر منذ الازل تأمركم: حافظوا على الموازنة العامة، بتوحيد ومزج حميتكم وقوتكم الضائعتين بالتفرقة - ضياع قطرات الماء المتناثرة - بالفكر الملي، اي الملة الاسلامية، مكونين بذلك جاذبة وطنية عظيمة من جاذبات الذرات الجزئية. فتنجذب هذه الكتلة العظيمة وتدور كالكوكب المنير في موكب الجماهير المتحدة الاسلامية الممثلة لشوكة شمس الاسلام العظيم.
ثم ان الحرية الشرعية التي هي حقيقة اجتماعية قد انتصبت على ذرى المستقبل شامخة شموخ جبل سبحان وارارات، هذه الحرية المستندة الى الشريعة تحذركم من الانصياع الى النفس الامارة بالسوء ومن التجاوز على الآخرين. وانها لتهتف بكم وبأمثالكم من الغافلين المتفرقين في اودية الماضي السحيقة: اهجموا على الجهل والفقر بالعلم والصنعة.
ثم ان الحاجة التي هي أم المدنية وأم الاختراع والرقي قد رفعت يدها لتنزلهاعليكم صفعة، فتأمركم: إما أن تعطوا حياة حريتكم في صحراء الجهل هذه الى الناهبين او عليكم ان تهرعوا الى كعبة الكمالات بركوبكم منطاد العلم وقطار الصنعة في ميدان المدنية لاستقبال المستقبل الزاهر مستردين اموال الاتفاق التي اغتصبها الاجنبي.
ثم ان الملية الاسلامية التي نصبت خيمتها في وديان الماضي وصحارى الحاضر وشواهق المستقبل واستظل بها اجددكم من امثال صلاح الدين الايوبي وجلال الدين خوارزم شاه والسلطان سليم وخير الدين بارباروس ورستم زال وماشابههم من


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 464
القواد الدهاة الذين تشرف كل بمنزلة الآخر فعاشوا معاً كعائلة واحدة.. هذه الملية الاسلامية وهي مثال الحياة الرفيعة.. تأمركم أمراً جازماً:
على كل واحد منكم ان يكون مرآة عاكسة للاسلام وحامي ذماره. ومثالاً مشخصاً للامة الاسلامية، اذ الهمة تتعالى بعلو المقصد، والاخلاق تتسامى وتتكامل بغليان الحمية الاسلامية.
ثم ان المشروطية المشروعة التي هي سبب من اسباب سعادة البشر الدنيوية نجّت الارادة الجزئية التي هي القوة الدافعة لماكنة الحياة من تسلط الاستبداد بضمانها سيادة الامة. هذه المشروطية التي اختمرت بخميرة الشورى الشرعية تدعوكم الى الاختبار والامتحان، وتريد ان تراكم أنكم قد بلغتم سن الرشد فلا تحتاجون الى وصاية. فهيئوا انفسكم للامتحان. واثبتوا وجودكم بالاتحاد، وبينوا لها ان فكركم ووجدانكم الشخصيين هما كقلب الامة وعقلها المشترك بالحمية الدينية الملية. وبخلافه ستلغي امركم ولا تمنحكم شهادة الحرية.
نعم ان الاضطرابات التي حدثت فيما بينكم في صحارى الماضي من جراء ما يحمله كل منكم من حب السيادة والانانية والفكر الشخصي ستنقلب - باذن الله - الى فكر الايجاد والسعي الدؤوب ومفهوم الحرية. بل استطيع ان اقول يا مواطني في الولايات الشرقية: ان مدارسكم الصاخبة اشبه ما تكون بالبرلمان العلمي لكثرة ما فيها من مناقشات بالنسبة للمدارس الهادئة الاخرى.
ثم انتم شافعيون فقراءتكم خلف الامام، وفطرتكم واصول مدرستكم تدفعكم الى السعي والمحاولة الشخصية، كما قال تعالى
(وان ليس للانسان الاّ ما سعى)
ثم ان الجسارة وشرف الامة الاسلامية وعزتها وهي اساس كل كمال وحاميه، تأمركم قائلة: مثلما ترقيتم في مضمار الشجاعة المادية بتعلمكم العلوم والمعرفة من كتابات سيوفكم وفتحتم مجرىً من الدماغ الى القلب مزجاً العقل بالقوة، فافتحوا الآن منفذاً من القلب الى الفكر. وابعثوا القوة مدداً للعقل وارسلوا العواطف ظهيراً للفكر. لئلا تنهب شرف الامة الاسلامية في ميدان المدنية. اجعلوا سيوفكم من جواهر العلم والصنعة والتساند الذي يأمركم به القرآن الكريم.
سعيد النورسي


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 465
خطاب الى الحرية
ايتها الحرية الشرعية!
انكِ تنادين بصوت هادر، ولكنه رخيم يحمل بشارة سارة، توقظين بها كردياً بدوياً مثلي نائماً تحت طبقات الغفلة. ولولاكِ لظللت انا والامة جميعاً في سجن الاسر والقيد. انني اُبشرك بعمر خالدفاذا ما اتخذت الشريعة التي هي عين الحياة، منبعاً للحياة ، وترعرعت في تلك الجنة الوارفة البهيجة، فانني ازف بشرى سارة ايضاً بان هذه الامة المظلومة ستترقى الف درجة عما كانت عليه في سابق عهدها. واذا ما اتخذتك الامة مرشدة لها، ولم تلوّنك بالمآرب الشخصية وحب الثأر والانتقام، فقد اخرَجَنا اذن مَن له العظمة والمنة من قبر الوحشة والاستبداد، ودعانا الى جنة الاتحاد والمحبة.فيا رب ما أسعد هذه القيامة والنشور! وما أجمل هذا الحشر العظيم المصوّر لنا حقيقة "البعث بعد الموت" في هذا الزمان صورها تصويراً مصغراً، وذلك كالآتي:
لقد دبّت الحياة في المدنية القديمة المدفونة في زوايا آسيا وروم ايلي 1. والذين يتحرون نفعهم في ضرر العامة، ويتمنون الاستبداد، بدأوا يقولون
(يا ليتني كنت ترابا) (النبأ: 40).
ان حكومتنا الجديدة، حكومة المشروطية، قد ولدت اشبه ما يكون بالمعجزة، لذا سننال في غضون سنة واحدة باذن الله سر من يكلم الناس في المهد صبياً.
ان ثلاثين سنة قضيناها صائمين عن الكلام متجملين بالصبر والتوكل على الله، سننال ثوابه بانفتاح ابواب جنة الرقي، ابواب المدنية التي لاعذاب فيها.
ان القانون الشرعي الذي هو براعة الاستهلال لحاكمية الامة، شبيه بخازن الجنة، يدعونا الى الدخول فيها.. فهيا يا اخوة الوطن لنذهب معاً، وندخلها معاً، فان بابها الاول: اتحاد القلوب. والثاني: محبة الامة . والثالث: المعارف. والرابع : السعي الانساني. والخامس: ترك السفاهة. واحيل الى اذهانكم بقية الابواب. علماً ان اجابة الدعوة واجب شرعي.
_____________________
1 المناطق العثمانية الواقعة في قارة اوروبا. المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 466
ولأن فاتحة هذا الانقلاب العظيم بدأت اشبه بالمعجزة، فان ذلك فأل حسن بان تكون خاتمته ايضاً حسنة. وكالآتي:
ان هذا الانقلاب سيكسر اغلال الفكر البشري الثقيلة، وسيهدم السدود المانعة للرقي، وينجي الحكومة من ورطة الموت، ويظهر جوهر الانسانية ويحررها مرسلاً اياها الى كعبة الكمالات.
نعم ان هذا الفأل الحسن يبشرنا بأن خاتمة هذا الانقلاب ستكون بانقشاع ذلك السحاب المتراكم القاتم، بالرغبة العامة لدى الناس، وبشعورهم بالضرر المادي لسيئات المدنية الملوّنة بالوان السفاهات والاسرافات والملذات غير المشروعة.. وغيرها من الامور التي دفعت دولة المدنية الى الانقراض - كانقراض الحكومة المستبدة - وعندها ستشرق شمس الشريعة وقمر المدنية في جو السماء الصافي باسطع ما يكون، فتنوران آسيا وروم ايلي. وستنمو بذور الاستعدادات والقابليات بهطول امطار الحرية، فتتزين عندئذ الارض بازهى حللها الملونة.
نعم انه معجزة نبوية وعناية الهيةٌ للامة المظلومة، وكرامة النية الخالصة للمجتمع كافة.
ان هذا الاتحاد، اتحاد القلوب والمحبة الموجهة للامة كافة،وهي معدن السعادة والحرية ، قد انعمها المولى الكريم علينا مجاناً، بينما الامم الاخرى قد ظفروا بها بعد دفع الملايين من جواهر النفوس الغالية.
ان صدى الحرية والعدالة ينفخ نفخ اسرافيل فيبعث الحياة في مشاعرنا المدنية وآمالنا الخامدة ورغباتنا القومية الرفيعة واخلاقنا الاسلامية الحميدة، حتى يرن صماخ الكرة الارضية المجذوبة جذبة المولوي، ويهيج الامة جميعاً ويهزها هزّ المجذوب.
واياكم يا اخوان الوطن ان تقضوا عليها بالموت مرة اخرى بالسفاهات والاهمال في الدين.
ان القانون الاساسي المؤسس على هذه الشريعة الغراء قد اصبح ملك الموت لقبض ارواح جميع الافكار الفاسدة والاخلاق الرذيلة والدسائس الشيطانية والتزلفات الدنيئة. فيا اخوة الوطن! لا تعيدوا لتلك الرذائل الحياة بالاسرافات ومخالفة الشريعة والملذات المحرمة.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 467
فلقد كنا اذن في القبر، وبليت عظامنا ، والآن دخلنا في رحم الام باتحاد الامة والمشروطية.
ان مائة ونيفاً من السنين التي تأخرنا فيها عن مضمار الرقي والتقدم سنتجاوزها باذن الله تعالى، بمعجزة نبوية، مستقلين - عملاً - قطار القانون الاساسي الشرعي وممتطين - فكراً - براق الشورى الشرعية.
وسنكون في صف الامم المتمدنة، بطيّنا هذا الزمان القاصر الشبيه بالصحراء الكبرى الموحشة. بل نتسابق معهم حيث انهم درجوا على ركوب العربات التي تجرها الثيران، بينما نحن - بتكامل الوسائل التي يتوقف عليها العلم - سنركب مباشرة القطار والمنطاد، فنسبقهم بفراسخ وفراسخ، وذلك بما تسهل لنا هضم تلك الوسائل حقيقة الاسلام الجامعة للاخلاق الاسلامية والاستعداد الفطري الكامن فينا ، وفيض الايمان الذي نحمله، وشدة الجوع التي نشعر بها، فنسبقهم باذنه تعالى كما كنا سابقين لهم في الماضي.
انني اذكّركم بما يأتي بفضل ما اناطت بي مهمة الطالب من وظيفة، وبشهادة التخرج من سلك الحرية:
يا ابناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً كي لا تفلت من ايديكم ، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في اناء آخر 1 ذلك لان الحرية انما تزدهر بمراعاة الاحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالاخلاق الفاضلة.
والبرهان الباهر على هذا الادعاء هو ماكان يرفل به عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين من الحرية والعدالة والمساواة على الرغم من الوحشية السائدة والتحكم المقيت.
وبخلافه فإن تفسير الحرية والعمل بها على انها التحرر من القيود والانغمار في السفاهات والملذات غير المشروعة والبذخ والاسراف، وتجاوز الحدود في كل شئ اتباعاً لهوى النفس.. مماثل لمن يتحرر من أسر سلطان واحد ويدخل في استبداد حقراء سافلين كثيرين. فضلاً عن ان هذا النمط من الحرية يظهر ان الامة غير راشدة ومازالت في عهد الصباوة وليست اهلاً للحرية. فهي سفيهة اذن تستحق الحجر عليها، بالرجوع الى الاستبداد السابق البائد.
_____________________
1 نعم لقد سقونا عبودية مسمومة جداً باستبداد أرهب وأشد - المؤلف.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 468
ان عدم الأهلية للحرية الشرعية الحديثة، الباهرة الواسعة يؤدي الى مرض وبيل يتعرض له اتحاد الامة العظيم فتتعرض الامة الى حالات فاسدة متعفنة.
بينما تفسير اهل التقوى والوجدان ليس على هذا النمط، ومذهبهم يخالف هذا التفسير. فنحن الامة العثمانية نتصف بالرجولة، فلا تليق بقامة استعداد امتنا البطلة فساتين النساء المزركشة بالسفاهة والهوى والاسراف.
وبناء على ما سبق ما ينبغي ان ننخدع ، بل نجعل القاعدة الآتية دستور عمل لنا وهي: "خذ ما صفا دع ما كدر" وفي ضوئها سنأخذ من الاجانب - مشكورين - كل ما يعين الرقي المدني من علوم وصناعات. اما العادات والاخلاق السيئة، فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبين قبحها كثيراً لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة.
فنحن لو أخذنا منهم المدنية - بسوء حظنا وسوء اختيارنا - بما يوافق الهوى والشهوات - كالاطفال - تاركين محاسنها التي تحتاج الى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث او كالمترجلات ، اذ كيف اذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا لاينبغي ان نتجمل بمساحيق التجميل.
حاصل الكلام: سنمنع بسيف الشريعة مساوئ المدنية وذنوبها من الدخول الى حدود حريتنا ومدنيتنا حفاظاً على فتوة مدنيتنا وشبابها بزلال عين حياة الشريعة.
ينبغي لنا الاقتداء باليابانيين في المدنية، لانهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم وأخذوا بمحاسن المدنية من اوروبا. وحيث ان عاداتنا القومية ناشئة من الاسلام وتزدهر به فالضرورة تقتضي الاعتصام بالاسلام.
يا ابناء الوطن الغيارى!
ان الجمعية الملية قد فتحوا لنا طريق السعادة بتضحية ارواحهم، فعلينا ان نعينهم بترك بعض لذائذنا، حيث اننا نجلس معاً على مائدة تلك النعمة.
ان اصحاب الافكار الفاسدة، يريدون الاستبداد والمظالم تحت ستار الحرية، فلأجل الاّ نشاهد مرة اخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي ولا تلك


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 469
المظالم التي جرت في سيل الزمان، اريد ان اقيم سداً حديدياً بين الماضي والحاضر وذلك بايضاح تاريخ حياة الحرية. وهو كالآتي:
ان هذا الانقلاب لو اعطى الحرية التي اولدها الى احضان الشورى الشرعية لتربيها فستُبعث امجاد الماضي لهذه الامة قوية حاكمة. بينما لو صادفت تلك الحرية الاغراض الشخصية، فستنقلب الى استبداد مطلق. فتموت تلك المولودة في مهدها.
لقد ولدت الحرية في الوقت المناسب، فتحتاج تنشئتها الى ظروف واحوال فطرية وليست الى افتعال ظروف تحتاج الى مشاق.
ان الحمية الاسلامية التي عانت سابقاً كثيراً من الضوائق والبؤس، وهي ليست اهلاً لها، قد فارت فوراناً عظيماً بحيث اكتملت الحرية في ذلك الرحم. فحالما يحين وقت الولادة وتظهر الى الوجود ستعلن هيمنتها، فلا يتمكن ان يتصدى لها ويزلزلها اي شئ، حيث انها ستتأسس على اسس رصينة - كعرش بلقيس - على حقائق خمس تلك هي:
الحقيقة الاولى:
ان في الكل من القوة ما ليس لكلٍ. كقوة الحبل المتين الناشئة من خيوط رفعية دقيقة. او كحكومتنا الحديثة المتبنية لأفكار الرأى العام وحكومتنا السابقة.
ايتها الامة! نحن الآن ذلك الحبل المتين ، فمن اضعفها بالاغراض الشخصية والاراء الفردية فقد جنى جناية لا تغتفر، حيث جنى على حقوق الامة جميعاً.
الحقيقة الثانية:
ان السلطة المستندة الى القوة والاكراه كانت هي الحاكمة في سالف الازمان وهي محكومة بالتدني والانقراض، حيث انها حصيلة الجهل والوحشية. فاية دولة جرت في عروقها دماء السلطة المستبدة فان سطور صحائف تاريخها تنعق نعيق البوم بالانقراض.
بينما في زمن المدنية فان العلم والمعرفة هما السلطة الحاكمة على العالم، وحيث ان مولّدها هي المدنية ومن شأنها الزيادة وعمرها ابدى ، لذا لو كانت مثل هذه


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 470
السلطة الحاكمة مدبّرة لشؤون اية دولة كانت فانها تنجي تلك الحكومة من قيد العمر الطبيعي وأجل الانقراض فتدوم حياتها بدوام الارض. وكتاباوروبا وصحائفها تعلن هذا بجلاء.
واذا قيل: لقد كان من الامكان ادارة الحكومة الضعيفة السابقة من قبل اشخاص اعتياديين. فيا ترى هل تثمر الاناضول وروم ايلي رجالاً دهاة خارقين يحملون على اكتافهم هذه الحكومة التي نعقد عليها الآمال؟
نقول جواباً على هذا السؤال : نعم! إن لم يحدث انقلاب آخر.
والآن انعم النظر في :
الحقيقة الثالثة:
كان الانسان في السابق يتحرك في ميدان محدود وضيق جداً، رغم إستعداداته غير المتناهية، حتى انه كان يعيش عيش حيوان مع كونه إنساناً. لذا تدنت افكاره وضاقت اخلاقه بنسبة محدودية تلك الدائرة.
فاذا ما عاشت الآن هذه الحرية الشرعية العادلة ولم تفسد، فستكسر اغلال فكر الانسان، وتحطم الموانع الموضوعة امام استعداده للرقي، فتوسع ميدان حركته سعة الدنيا كلها. حتى ان قروياً مثلي يستطيع ان ينظر الى ادارة الدولة التي هي في اوج العلا كالثريا، ويربط نوى الاماني والاستعدادات هناك. وحيث ان كل فعل وطور يصدر يلقى صداه هناك، لذا ستتعالى همته كالثريا وتتكامل اخلاقه بالدرجة نفسها، وتتوسع افكاره بقدر سعة الممالك العثمانية، وسيسبق باذن الله الافذاذ من امثال افلاطون وابن سينا وبسمارك وديكارت والتفتازاني.
نحن على امل عظيم ان تثمر مزرعة الاناضول وروم ايلي شباناً غيارى. فلا جرم ان الممالك العثمانية محل ظهور الانبياء ، ومهد الدول الحضارية ، ومشرق شمس الاسلام. فاذا ما نمت هذه الاستعدادات المغروزة في الانسانية بغيث الحرية، فانها تتحول الى شجرة طوبى من الافكار النيرة وتمتد اغصانها الى كل جهة. وسيجعل الشرق مشرقاً للغرب، ان لم تفسد وتنخر بالكسل والاغراض الشخصية.
الحقيقة الرابعة:
ان الشريعة الغراء تمضي الى الابد لانها آتية من الكلام الازلي . والبرهان الباهر


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 471
عليه هو ان الشريعة تتوسع وتنمو نمو الكائن الحي اي بنسبة نمو استعداد الانسان وتشربه من نتائج تلاحق الافكار وتغذيه عليها، ذلك الاستعداد الذي يمثل ميل الرقي الذي هو غصن من اغصان شجرة استكمال العلم.
فالحرية والعدالة والمساواة التي كانت يترفل بها خير القرون والخلفاء الاربعة، ولاسيما في ذلك الوقت، دليل على ان الشريعة الغراء جامعة لجميع روابط المساواة والعدالة والحرية الحقة. فآثار سيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما وصلاح الدين الايوبي دليل واي دليل على هذا الادعاء.
ومن هنا فاني اقرر:
ان سبب تأخرنا وتدنينا وسوء احوالنا الى الآن ناتج مما يأتي:
1- عدم مراعاة احكام الشريعة الغراء.
2- تصرفات بعض المداهنين تصرفاً عفوياً.
3- التعصب المقيت في غيرمحله سواءً لدى عالم جاهل أو جاهل عالم!
4- تقليد مساوئ المدنية الاوروبية تقليداً ببغائياً - بسوء حظنا او سوء اختيارنا - مما ولّد تركنا لمحاسن المدنية التي تستحصل بمشكلات ومصاعب.
فلو قام الموظفون خير قيام بوظائفهم وسعى الآخرون حسب الظروف المحيطة وما يتطلبه الزمان الحاضر، فلن يجد احد متسعاً من الوقت للسفاهة. ولو انهمك اي منهما بها فلا يكون الاّ جرثومة خطرة في جسم المجتمع.
الحقيقة الخامسة:
ان فكر افراد قليلين كان كافياً لإدارة الدولة حيث الروابط الاجتماعية والضرورات المعاشية والمستلزمات الحضارية لم تكن كثيرة ومتشعبة. ولكن في الوقت الحاضر فقد كثرت الروابط الاجتماعية وتعددت الضروريات المعاشية وتزايدت الزخارف الحضارية الى حد كبير، بما لا يمكن ان تحمل تلك الدولة وتديرها وتربيها الاّ مجلس نواب في حكم قلب الامة ينبض بنبضها، والشورى الشرعية التي هي في مقام فكر الامة وعقلها، وحرية الافكار التي هي بمنزلة سيف الدولة وقوتها. ومثال هذه الحقيقة هو الحكومة المستبدة السابقة وحكومة المشروطية الحاضرة.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 472
واذكّر بامور ثلاثة بناء على الوظيفة التي اناطتني بها الحقيقة الثالثة وبشهادة تخرج الحرية:
الاول:
كما ان الجسم محال ان تتحلل الى ذرات دفعة واحدة كذلك تشكله من ذرات دفعة واحدة وبصورة فجائية محال ايضاً. لذا فان فصل الموظفين السابقين من جسم الدولة ووضع آخرين جدد في مواضعهم متعذر وان لم يكن محالاً. علماً ان الدولة ستنبذ الموظفين الذين ينطوون على خبث دفين لا يمكن اصلاحه، بينما باب التوبة مفتوح لمن يمكن اصلاحه ما لم تطلع الشمس من مغربها. فهولاء يجب الاستفادة من تجاربهم، اذ اشغال مواضعهم الوظيفية يحتاج الى اربعين سنة اخرى. والاّ فان اطالة اللسان بالسوء الى الجميع واهانتهم يجعل هذا الاتحاد، اتحاد الامة العظيم، معرّضاً لوباء وبيل من افكار فاسدة واخلاق سيئة.
الثاني:
لقد نشأتُ في جبال الشرق فكنت اتخيل مركز الخلافة في هالة جميلة، ولكن ما ان اتيته قبل حوالي ثمانية اشهر حتى شاهدت ان استانبول شبيهة برجل متوحش لبس ملابس انسان مدني، وذلك لما فيها من تنافر القلوب واستيحاش الافراد بعضهم بعضاً. والآن يقدم ذلك الشخص المدني نفسه لنا وهو بملابس نصف مدنية ونصف وحشية، وذلك بسبب اتحاد الامة.
كنت سابقاً احسب ان فساد الشرق نابع من تعرض عضوٍ منه للمرض، ولكن لما شاهدت استانبول المريضة وجسست نبضها، وشرّحتها، ادركت ان المرض هو في القلب، وسرى منه الى جميع الجهات. فحاولت علاجه، ولكن اكرمت بوصمي بالجنون!
وقد شاهدت ايضاً: ان الاسلام الذي يشكل المدنية الحقيقية قد تأخر عن المدنية الحاضرة مادياً، فكأن الاسلام قد استاء من سوء اخلاقنا فمضى راجعاً الى الماضي ليشكونا الى خير القرون .
ان من اهم اسباب تأخرنا في مضمار المدنية بعد الاستبداد، هو تباين الافكار


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 473
واختلاف المشارب لدى منتسبي ثلاث شُعب كبيرة، يعدّون مرشدين عموميين للجميع، وهم منتسبو المدارس الحديثة والمدارس الدينية والتكايا والذين يمثلون مصداق قول الشاعر:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل الى ذاك الجمال يشير
ان تباين الافكار هذا قد هز ّ اساس الاخلاق الاسلامية وفرّق اتحاد الامة، واخّرنا عن ركب الحضارة، لان احدهم يكفّر الآخر ويضلله، بينما الآخر يعدّ الاول جاهلاً لا يوثق به. وهكذا ساد الافراط والتفريط. وعلاج هذا الداء هو الصلح النابع من توحيد الافكار، وربط العلاقات ووصلها حتى يوصل الى نقطة الاعتدال، فيتصافح الجميع، ويتفقوا جميعاً لئلا يُخلّوا بنظام الرقي.
الثالث:
انني استمعت الى الوعاظ. فلم تؤثر فيّ نصائحهم ووعظهم. فتأملت في السبب، فرأيت انه فضلاً عن قساوة قلبي هناك ثلاثة اسباب:
1- انهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيراً في تصوير دعاويهم محاولين تزويقها دون ايراد الادلة الكافية التي لا بد منها للتأثير واقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر اكثر حاجة الى ايراد الادلة.
2- انهم عند ترغيبهم بأمرٍ ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، اي لا يميزون بين المهم والأهم.
3- ان مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي ارقى انواع البلاغة، فلا بد ان يكون الكلام موافقاً لحاجات العصر. الاّ انهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس الى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.
فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين ان يكونوا محققين ليتمكنوا من الإثبات والاقناع. وان يكونوا ايضاً مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة. وان يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر. وعليهم ايضاً ان يَزنوا الامور بموازين الشريعة.
صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 474
فلتحيا الشريعة الغراء ولتحيا العدالة الالهية وليحيا اتحاد الامة.
وسحقاً للاختلاف وحباً لمحبة الامة.
ولتمت الاغراض الشخصية وفكر الانتقام
وليعش الجنود الاشاوس الذين هم الشجاعة مجسمة
ولتعش الجيوش التي تمثل عظمة الدولة
ولتدم جمعية الاحرار المتدينين وطلاب النور الذين هم العقل النير والتدبير الحكيم.
سعيد النورسي
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس