الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #44
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 475
الخطبة الشامية
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى
صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 477
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي هذه الرسالة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد؛
فقد ألقى الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وهو في شرخ الشباب هذه الخطبة باللغة العربية في الجامع الاموي بدمشق، برجاءٍ من علماء الشام وإلحاحهم، وحضرها جمهور غفير من الناس يربون على عشرة آلاف شخص، فاستمعوا اليها بلهفة وشوق، حتى ان الخطبة لما طُُبعت لأول مرة نفدتْ نسخها في غضون ايام قليلة فاُعيد طبعها خلال اسبوع واحد.
كان ذلك في شتاء سنة 1911م، اي قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى. ثم توالت ايام الحرب الدامية، وانتهت بأُفول نجم الدولة العثمانية، وبدأت بعدها أيام محن توالت على الاستاذ النورسي بسلسلة اعتقالاته ونفيه ومحاكماته التي دامت حتى سنة 1950م.
فطوال هذه السنين العجاف لم يتسنَّ له مراجعة هذه الخطبة، بل حتى أنه لم يرها، الى أن أرسل اليه في سنة 1951م أحد أصدقائه من مدينة "وان" نسخة مطبوعةً منها.
كان الاستاذ النورسي عند ذاك في منفاه في "اميرداغ" فأعاد النظر في خطبته التي القاها قبل اربعين سنة، وبدأ بترجمتها الى التركية، أو بالأحرى بتنقيحها وصياغتها مجدداً، إذ ضمَّ اليها فقرات مهمة وهوامش قيّمة 1 وحذف منها ما يحدد شموليتها، وأحال بعض مسائلها الى اجزاء رسائل النور، ثم درّسها لقسمٍ من طلابه.

_____________________
1 ذُيلت هوامش المؤلف بـ " المؤلف"، وحصرت العبارات العربية التي وردت في النص التركي بين قوسين مركنين [ ]



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 478
قام الملا عبد المجيد "شقيق الاستاذ النورسي" بترجمة هذا النص التركي الى العربية - بتوصية من المؤلف نفسه - حسب اسلوبه ونُشرتْ بالاستنساخ اليدوي في اوساط ضيقة، اذ كانت الطباعة محظورة بالحروف العربية آنذاك.
وفي بداية الستينات تناول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ترجمة الملا عبد المجيد هذه، وصاغها باسلوبه العذب. ونُشرتْ منها طبعات كثيرة في حينه 1.
ولكن لما كانت الترجمة العربية هي في الاصل غير كاملة وغير مستوعبة للموضوع،فقد جاءت تلك الصياغة الجميلة - مع الاسف - ينقصها الكثير من الفقرات المهمة والمسائل الجليلة التي تمس الاحداث،فضلاً عن ان الصياغة اقتصرت على الخطبة وحدها دون ذيولها ولواحقها.
ثم تناول الاستاذ عاصم الحسيني النص التركي بالترجمة الى العربية، فأجاد اسلوباً وأداءً للمعنى، وقام طلاب النور بطبعها في المطبعة البولسية ببيروت سنة 1974م.
قابلت ترجمة الأخ عاصم بالنص التركي فتوصلت الى الآتي:
1- انها ترجمة قيمة لا ترقى اليها ترجمة اخرى، سواءً في الاداء أو السبك الرصين للجمل، وهي تكاد تكون مطابقة لمتن الخطبة بالنص التركي، إلاّ في بعض الجمل أو أجزاءٍ من فقرات.
2 - بيد أن الاخ الكريم لم تتح له الفرصة - كما يبدو - لإكمال ترجمته، فلم يترجم ذيول الخطبة كاملة، اذ المقالات التي كتبها الاستاذ النورسي في الصحف المحلية في عهد الاتحاديين وألحقها بالنص التركي، ذات اهمية في إعطاء الصورة الكاملة والواضحة للاحوال السياسية والاجتماعية وكذا التيارات الفكرية التي كان يموج بها المجتمع وقتئذٍ.
3 - ولأجل هذا كله، رأيت لزاماً عليّ القيام بترجمة النص التركي للخطبة مجدداً، مع ذيولها ولواحقها كاملة، ليلمس القارئ الكريم بنفسه أبعاد المسائل التي يطرقها الاستاذ النورسي ويطّلع عليها من جميع جوانبها.
ولقد انتهجت اثناء الترجمة والمقابلة على النص التركي والعربي، الخطوات الآتية:
_________________
1 طبعت الطبعة الاولى منها في مطبعة بركات بدمشق. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 479
1 - اعتبار النص التركي الذي صاغه الاستاذ النورسي بنفسه هو الاساس، مع ذيوله ولواحقه. وهو النص نفسه الـذي وضـعـه الاستـاذ ضمـن مبـاحث كتاب (Tarihçe-i Hayat) أي "السيرة الذاتية" الذي قام بتأليفه طلابه المقرّبون وأقرّه بنفسه وطُبع في حياته. والنسخة التي اعتمدتُ عليها من الخطبة هي من منشورات "دار سوزلر" في استانبول سنة 1979م.
2 - مقابلة كل فقرة في النص التركي بالنسخة العربية لنص الخطبة المطبوعة في استانبول - لأول مرة - سنة 1922م في مطبعة الاوقاف الاسلامية. علماً أن هذا النص الاول العربي لم تبق له إلاّ اهميته التاريخية حيث نقّحه المؤلف بنفسه كما ذكرنا.
3 - الاكتفاء بترجمة الأخ عاصم الموافقة للنص التركي مع إجراء ما يلزم من تغييرات في الفقرات والجمل ليقرّبها اكثر الى معنى النص التركي وليفي بمراد المؤلف. مع إكمال الجمل أو الفقرات الناقصة فيها.
4 - ترجمة الذيول بكاملها والمقالات الملحقة بها.
5 - وضع هوامش ضرورية للقارئ الكريم لإيضاح ما يستغلق عليه من مصطلحات سياسية وتاريخية كانت معروفة ومتداولة في حينها.
6 - استخراج الايات الكريمة من القرآن الكريم ووضع اسم السورة ورقم الآية.
7 - تخريج الاحاديث الشريفة اعتماداً على الكتب الموثوقة.
والله نسأل أن يوفقنا لحسن القصد، وصحة الفهم، وصواب القول وسداد العمل وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.

احسان قاسم الصالحي
المحرم الحرام 1409



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 481
مقدّمة
الخطبة الشامية للمؤلف

باسمه سبحانه
(وإن من شئٍ إلاّ يسبح بحمده)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.
اخواني الاعزاء الاوفياء!
هذه الرسالة العربية قد أُلقيتْ درساً في الجامع الاموي بدمشق منذ اربعين عاماً، وذلك بناءً على اصرار العلماء هناك، واستمع اليها ما يقرب من عشرة آلاف شخص، بينهم ما لايقل عن مائة من كبار علماء الشام.
ان الحقائق الواردة فيها، قد أحسَّها "سعيد القديم" باحساس مسبق. فزفّها بشائر عظيمة بيقين جازم، ظناً منه أن تلك الحقائق وشيكة التحقق، بيد أن الحربين العُظميين، والاستبداد المطلق الذي استمر ربع قرن من الزمان 1، قد أدّيا الى تأخر تحقق تلك الحقائق أربعين أو خمسين عاماً.
والآن وقد بدأت تباشير تحقق ما أخبر عنه تلوح في افق العالم الاسلامي. بمعنى ان هذا الدرس المهم ليس مجرد خطبة قديمة، قد عفا عليها الزمن، بل هو درس اجتماعي اسلامي، يحتفظ بكامل جدته وطراوته وحقيقته طوال هذه الفترة، وكل الذي حدث هو أن عام 1327هـ قد اصبح عام 1371هـ وان الجامع الاموي قد حل محلّه جامع العالم الاسلامي الذي يضم ثلاث مائة وسبعين مليون نسمة 2.
ان درساً كهذا جدير الآن بالترجمة على ما اعتقد.
سعيد النورسي
_____________________
1 أى منذ انتهاء الخلافة العثمانية سنة 1923 م الى سنة 1950 م - المترجم
2 تعداد المسلمين آنذاك. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 482
نهج رسائل النور
في التبليغ

"
يسجَّل هنا جوابٌ مهمٌ عن سؤال في غاية الأهمية، اذ يذكر"سعيد القديم" باحساسٍ مسبّق، في درسه ذاك الذي القاه قبل اربعين سنة دروس رسائل النور الخارقة وتأثيراتها، وكأنه يراها".
لقد سألني الكثيرون وسألوا بعض اخواني النوريين، ومازالوا يسألون: لماذا لا تُهزم "رسائل النور" أمام هذا الحشد الغفير من المعارضين والفلاسفة المُتعنّتين وارباب الضلال؟ فعلى الرغم من اقامتهم سداً منيعاً - الى حدٍ ما - ليحول دون انتشار ملايين الكتب الإيمانية والاسلامية القيمة.. وعلى الرغم من حرمانهم الكثير من الناس، ولا سيما الشباب الأبرياء من حقائق الايمان بتسهيل سُبُل السفاهة لهم واغرائهم بملذّات الحياة الدنيا.. وعلى الرغم من محاولتهم كسر شوكة رسائل النور بشتى وسائل الغدر واساليب الهجوم العنيفواختلاق الاكاذيب واشاعة الدعايات الزائفة وتخويف الناس منها وحملهم على التخلي عنها.. وعلى الرغم من ذلك فقد انتشرت رسائل النور. فما الحكمة من انتشارها انتشاراً لم يسبق له مثيل، حتى بلغ ما نسخ من معظمها باليد فقط ستمائة الف نسخة، وهي تحظى بانتشار واسع ويتلقاها الناس بشوق بالغ في الخفاء، وتستقرئ نفسها في داخل البلاد وخارجها بكمال المسرّة والمحبة؟.
فجواباً عن أسئلة كثيرة تردُ بهذا المعنى نقول:



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 483
الجواب:
ان رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم، ببيان اعجاز معانيه الجليلة، تبين ان في الضلالة جحيماً معنوياً في هذه الدنيا، كما تثبت ان في الايمان نعيماً معنوياً في الدنيا ايضاً. وهي تبرهن أن في المعاصي والفساد والمتع المحرّمة آلاماً معنوية مبرّحة، كما أن في الحسنات والخصال الحميدة والعمل بالحقائق الشرعية لذائذ معنوية أشبه ما تكون بملذات الجنة.
فهي بهذا الاسلوب تنقذ مَن كان له مسكة من عقل من أهل السفاهة وارباب الضلال من التمادي في غيّهم، ذلك لأن في عصرنا هذا حالتين رهيبتين:

اولاها:
ان نوازع الانسان واحاسيسه المادية لا ترى العقبى فتفضّل درهماً من لذّةٍ عاجلة على قنطار من لذات آجلة، هذه الاحاسيس قد طغت - في هذا العصر - على عقل الإنسان وسيطرت على فكره؛ لذا فالسبيل الوحيد لإنقاذ السفيه من سفهه، هو الكشف عن ألمه في لذته نفسها، ومساعدته على التغلب على احاسيسه تلك؛ اذ المرء في زماننا هذا، مع علمه بلذائذ الآخرة ونعيمها الثمين كالالماس يفضّل عليها مُتعاً دنيوية تافهة اشبه ما تكون بقطع زجاجية قابلة للكسر! كما تشير اليها الآية الكريمة (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) (ابراهيم: 3). وبناء على هذا ولشدة حبّه للدنيا تراه ينساق وراء ارباب الضلالة ويتبعهم بعد أن كان من أهل الايمان.
والسبيل الوحيد لإنقاذه من خطر الانسياق هذا، هو اظهار آلام جهنم وعذابها في الدنيا ايضاً.
وهذا هو النهج الذي تسير عليه رسائل النور.
ان ما في عصرنا الحاضر من تعنّت الإلحاد، وصدود الضلالات الناجمة من طغيان العلوم الحديثة وغرورها والإعراض الناشئ من اعتياد السفه والغي، قد جعلت نسبةَ مَن يتّعظ واحداً من مجموع عشرة اشخاص، أو ربما واحداً من عشرين شخصاً، بعد



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 484
أن يُعرَّف له الخالق جل جلاله ويثبت له وجود جهنم ويخوَّف من عذابها ليتجنب الشرور والسيئات، ثم تراه يقول: "ان الله غفور رحيم.. ان جهنم بعيدة جداً!." ثم قد يستمر في لهوه وعبثه، فينهزم قلبُه وتنهار روحُه أمام طغيان شهواته.
وهكذا فان "رسائل النور" تبين العواقب الوخيمة الأليمة التي تترتب على الكفر والضلال في هذه الدنيا، في معظم الموازنات التي تعقدها، فتنفِّر أشد الناس اتباعاً لهواهم واكثرهم تعنّتاً وعناداً، من الخوض في متعهم المحرمة وسفاهتهم المشؤومة، وتدفع بالعقلاء منهم الى طَرقِ باب التوبة والاستغفار.
وعلى سبيل المثال: الموازنات المبسطة التي تتضمنها الكلمات: السادسة، والسابعة، والثامنة من "الكلمات الصغيرة"، والموازنة المطوّلة التي يتضمنها الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين. هذه الموازنات تحمل اشد الناس سفاهة وضلالة على الرهبة والرعب، وعلى قبول ارشادها والاتعاظ بها.
ومثلاً: نشير هنا بأختصار الى ما رآه - أي سعيد القديم - من حقائق في اثناء تجوالٍ خيالي من خلال التدبر في آية "النور". وتفصيله في "القسم الخامس من المكتوب التاسع والعشرين من مجموعة المكتوبات" فمن شاء فليراجعه. والخلاصة هي:
في اثناء سياحتي الخيالية تلك، رأيت عالم الحيوان، ذلك العالم المحتاج الى الرزق والتقوّت. وعندما تأملته من وجهة نظر الفلسفة المادية، أظهر لي - ذلك العالَم من الاحياء - عالماً رهيباً مؤلماً؛ بما فيه من ضعف وعجز فضلاً عن مسيس احتياجه وشدة جوعه!
ولما كنت انظر اليه بعين اهل الضلال والغفلة اطلقتُ صرخةً ملؤها الألم والحزن، واذا بي أرى ذلك العالم بمنظار الإيمان وحكمة القرآن، فاذا باسم "الرحمن" يشرق من برج "الرّزاق" كشمسٍ ساطعة، فأنار ذلك العالمَ الجائع البائس من الاحياء واسبغ عليه نور رحمته.
ثم رأيت عالَماً آخر في عالم الحيوان هذا، ذلك هو عالَم الافراخ الصغار التي تنتفض ضعفاً وعجزاً وعَوزاً، وقد تغشاه ظلام محزن أليم، يدعو كل انسان الى الاشفاق عليه. ولما كنت انظر بعين اهل الضلالة، صحتُ قائلاً: واحسرتاه! واذا



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 485
بالايمان يمنحني نظّارة، شاهدتُ من خلالها: طلوع اسم "الرحيم" من برج الشفقة، ينشر اضواءه الزاهية الجميلة، حتى حوّل ذلك العالم المحزن الى عالم بهيج، وقَلَب عبرات الشكوى والألم والحزن المنهمرة من عيني الى دموع الفرح والشكر والامتنان.
ثم تراءى لي عالم الانسان كشاشة سينمائية، فانعمتُ النظر فيه بمنظار أهل الضلالة، واذا به: عالم مظلم مرعب.. لم اتمالك معه نفسي فاطلقتُ صرخة ألمٍ من أعماق قلبي قائلاً: وا أسفاه! ذلك لأن آمال الناس وأمانيهم الممتدة الى الأبد، وتصوراتهم وافكارهم المحيطة بالكون، وتطلعاتهم الجادة واستعداداتهم الفطرية التواقة الى الخلود والجنة والسعادة الابدية، وقواهم الطليقة غير المحددة فطرياً، واحتياجاتهم المتوجهة الى غايات ومقاصد لا منتهى لها، وتعرضهم - مع ضعفهم وعجزهم - لهجمات ما لايحصى من المصائب والاعداء.. مع كل هذا، لهم عمرٌ جدّ قصير، ويحيون حياةً ملؤها الصخب والقلق، يذوقون مرارة الموت كل يوم بل كل ساعة، يقاسون ضنك المعيشة في حياتهم ويتجرعون آلام الفراق والزوال التي هي اوجع للقلب واثقل على الوجدان، فضلاً عن انهم ينظرون الى القبر والمقبرة نظر أهل الغفلة وكأنه باب الى ظلام سرمدي، يُرمَون في غياهبه فرداً فرداً وطائفة إثر طائفة!
وهكذا.. ففي الوقت الذي رأيت عالم الانسان هذا غارقاً في مثل هذه الظلمات واذ انا على وشك الصراخ من أعماق قلبي وروحي وعقلي، بل بجميع مشاعري بل بجميع ذرات وجودي، اذا بالنور المنبعث من القرآن والايمان الراسخ الناشئ منه، يحطّم ذلك المنظار المضلّ، ويهب لعقلي بصراً نافذاً أرى به الاسماء الالهية الحسنى وقد اشرقت كالشمس الساطعة من بروجها؛ فاسم الله "العادل" رأيته بازغاً من برج "الحكيم" واسم "الرحمن" من برج "الكريم" واسم "الرحيم" من برج "الغفور" - أي بمعناه - واسم "الباعث" من برج "الوارث" واسم "المحيي" من برج "المحسن" واسم "الرب" من برج "المالك" فأضاءت هذه الاسماء بنورها الباهر عوالم كثيرة داخل عالم الانسان المظلم، وحوّلتها الى عوالم مشرقة بهيجة، كما بددتْ تلك الحالات الجهنّمية بما فتحتْ من نوافذ الى عالم الاخرة، حتى نثرت الانوار الى جميع جوانب ذلك العالم البائس للانسان. فقلتُ: "الحمد لله".."الشكر لله.." بعدد ذرات العالم، ورأيت بعين اليقين وعلمتُ علم اليقين:



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 486
"ان في الإيمان حقّاً جنة معنوية، وان في الضلال جحيماً معنوياً ايضاً في هذه الدنيا ذاتها".
ثم ظهر في تلك الجولة عالمُ كرة الارض، فعكست القوانين العلمية المظلمة بالفلسفة غير المنقادة للدين، الى خيالي عالماً في منتهى الغرابة والدهشة. اذ تأملت هذه الارض التي تزيد سرعة حركتها على سرعة طلقة المدفع بسبعين مرة وتقطع مسافة خمسة وعشرين الف سنة في سنة واحدة، وهي مع شيخوختها وهرمها معرضة للتشتت والتحطّم في كل لحظة، وتحمل في باطنها زلازل مخيفة، وعلى ظهرها هذا الانسان البائس الذي تجوب به اجواء الفضاء غير المحدود.. فاشفقتُ على وضع هذا الانسان وسط هذا الظلام الدامس الموحش المخيم عليه، ودار رأسي من هول ما رأيتُ واظلمتِ الدنيا امام عيني، فطرحتُ نظارة الفلسفة ارضاً وحطمتها كليا. ونظرت الى الامر ببصيرة وضاءة بحكمة القرآن، واذا باسماء خالق الارض والسموات: القدير، العليم، الرب، الله، ربّ السموات والأرض ومسخر الشمس والقمر، قد اشرقت من بروج الرحمة والعظمة والربوبية شروق الشمس. فغمرت ذلك العالم الحالك الموحش المذهل بنور زاهٍ باهر جعلني أبصر بعينيّ المؤمنتين هاتين: ان الكرة الارضية في غاية الانتظام والتسخير والتكامل للانسان، وهي في امان وسلام، فيها رزق كل مَن يدبّ عليها، كأنها سفينة سياحية مهيأة للتنزّه والراحة والاستجمام والتجارة. تتجول بما عليها من مخلوقات، حول الشمس في مملكة ربانية واسعة، وهي مشحونة بالرزق كأنها قطار أو سفينة أو طائرة مشحونة في الربيع والصيف والخريف.فقلت وقتئذٍٍ "الحمد لله على نعمة الايمان" بعدد ما في الارض من ذرات.
وفي ضوء هذا المثال تستطيع أن تقيس كثيراً من الموازنات الاخرى التي تتضمنها "رسائل النور" والتي تثبت: ان ارباب السفاهة والضلال يذوقون في الدنيا نفسها عذاباً جهنمياً معنوياً، كما ان اهل الصلاح والايمان يعيشون في جنة معنوية في هذه الدنيا. وبامكانهم أن يتذوقوا طعوم لذائذ تلك الجنة المعنوية بحواسهم ولطائفهم الاسلامية والانسانية وبتجليات الايمان وجلواته. بل يمكنهم الاستفادة من تلك اللذات حسب تفاوت درجاتهم الايمانية.
بيد أن طبيعة هذا العصر العاصف الذي تسود فيه التيارات المعطّلة للمشاعر، والصارفة لأنظار البشرية الى الآفاق الخاوية والغرق فيها، قد اوجدتْ صعقةً من النوع



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 487
الذي يعطّل الاحساس، لذا فان ارباب الضلال لايشعرون بعذابهم المعنوي مؤقتاً، وان أهل الهداية بدورهم قد داهمتهم الغفلة فلايستطيعون ان يقـدروا لـذّة الايمان الحقيقية حق قـدرهـا.

الحالة الرهيبة الثانية لعصرنا الحالي:
ان انواع الضلالة الناشئة من الإلحاد والعلوم الطبيعية، والتمرد المتولد من الكفر العنادي في الماضي، ليعتبران من الضآلة بحيث لا يُذكَران اذا ما قيسا بما عليه الوضع في وقتنا الراهن، لذا فقد كانت ادلّة علماء الاسلام ودراساتهم كافية لسدّ حاجات عصرهم، اذ كان كفر عصرهم مبنيّاً على الشك، فكانوا يزيلونه بسرعة؛ حيث كان الايمان بالله يسود اوساط الناس، وكان من اليسير ارشاد الكثيرين الى طريق الهداية والصراط السوي، وانقاذهم من السفاهة والضلال، وذلك بالتذكير بالله سبحانه والتخويف من عذابه فكان الكثيرون يتخلَّون عن غيهم.
أما اليوم فقد تغير الحال، اذ بينما كان يوجد - في الماضي - ملحد واحد في بلد، يمكن العثور الآن على مائة كافر في قصبة واحدة. وقد زاد عدد الذين يضلون بسبب افتتانهم بالعلوم والفنون الحديثة ويقفون بعناد وتمرّد في وجه حقائق الايمان اضعاف اضعاف الماضي بمائة مرة. ولما كان هؤلاء المعاندون يعارضون الحقائق الايمانية بغرور فرعوني وبتضليلات رهيبة، فلا مناص من أن يجابَهوا بحقائق قدسية في قوة القنبلة الذرية، لتحطّم مبادءَهم واسسَهم في هذه الدنيا وتقف زحفهم وتجاوزهم، بل تحمل قسماً منهم على التسليم والايمان.
فنحن نحمد الله اجزل الحمد ونشكره شكراً لامنتهى له على أن "رسائل النور" قد اصبحت ترياقاً شافياً لجروح عصرنا الدامية ومعجزة معنوية من معجزات القرآن الحكيم، ولمعة من لمعاته، فلقد استطاعت بموازناتها العديدة ان تحارب اشد المعاندين المتعنتين بسيف القرآن الالماسي، وتنصب الحجج وتقيم الادلّة على الوحدانية الإلهية وحقائق الايمان بعدد ذرات الكون.
ولعل هذا السرّ هو الذي جعلها لا تُغلَب ولاتنهزم منذ خمسة وعشرين عاماً، في وجه اشد الحملات شراسة، بل كانت هي الغالبة على الدوام.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 488
نعم! ان موازنات الكفر والايمان، ومقايسات الهداية والضلال التي تشتمل عليها "رسائل النور"، تثبت بالمشاهدة هذه الحقيقة المذكورة. فالذي يطالع براهين ولمعات "الكلمة الثانية والعشرين" - بمقاميها - مثلاً أو يجيل النظر في الموقف الاول من "الكلمة الثانية والثلاثين". أو يقرأ نوافذ"المكتوب الثالث والثلاثين"، أو يتصفّح الحجج الاحدى عشرة من مجموعة "عصا موسى" واذا ما قاس سائر الموازنات والمقايسات الاخرى على ما ذكرناه يدرك جيداً: ان حقائق القرآن المتجلية في "رسائل النور" هي التي تستطيع قطع دابر الإلحاد وعناد أهل الضلال المتمرد في زماننا هذا واستئصال شأفتهما.
وكما قد تجمعت الشذرات التي تميط اللثام عن وجه معمّيات حقائق خلق العالم وأهم دقائق اسرار الدين في مجموعة "الطلاسم" فاملي بالله عظيم أن تجمع كذلك تلك الاجزاء المتناثرة - التي تثبت بالادلة والبراهين - ان أهل الضلالة يعيشون في جهنم في هذه الدنيا وان أهل الهداية يذوقون لذائذ الجنة في هذه الدنيا ايضاً.. وان الايمان بذرة معنوية من بذور الجنة، والكفر نواة من نوى زقّوم جهنم. وآمل ان تجتمع تلك الاجزاء من "رسائل النور" في مجموعة موجزة وتنشر بعون الله وتوفيقه.

سعيد النورسي



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 489

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس