الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #47
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,201
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 500
القوة الثانية:
"الحاجة الملحة" التي هي الاستاذ الحقيقي للمدنية والصناعات والمجهّزة بالوسائل والمبادئ الكاملة.. وكذا "الفقر" الذي قصم ظهرنا. فالحاجة والفقر قوتان لاتسكتان ولا تُقهران.القوة الثالثة:
"الحرية الشرعية" التي ترشد البشرية الى سبل التسابق والمنافسة الحقّة نحو المعالي والمقاصد السامية، والتي تمزق انواع الاستبداد وتشتتها، والتي تهيّج المشاعر الرفيعة لدى الانسان، تلك المشاعر المجهّزة بانماط من الاحاسيس كالمنافسة والغبطة والتيقظ التام والميل الى التجدد والنزوع الى التحضر. فهذه القوة الثالثة: "الحرية الشرعية" تعني التحلي باسمى ما يليق بالانسانية من درجات الكمال والتشوق والتطلع اليها.القوة الرابعة:
"الشهامة الايمانية" المجهّزة بالشفقة والرأفة. أي: ان لايرضى الذلّ لنفسه امام الظالمين، ولا يلحقه بالمظلومين. وبعبارة اخرى: عدم مداهنة المستبدّين وعدم التحكم بالمساكين أو التكبّر عليهم، وهذا أساس مهم من اسس الحرية الشرعية.القوة الخامسة:
"العزة الاسلامية" التي تعلن اعلاء كلمة الله. وفي زماننا هذا يتوقف اعلاء كلمة الله على التقدم المادي والدخول في مضمار المدنية الحقيقية. ولاريب ان شخصية العالم الاسلامي المعنوية سوف تدرك وتحقق في المستقبل تحقيقاً تاماً ما يتطلـبه الايـمان من الحفـاظ على عزة الاسلام..
وكما ان رقي الاسلام وتقدمه في الماضي كان بالقضاء على تعصب العدو وتمزيق عناده ودفع اعتداءاته.. وقد تم ذلك بقوة السلاح والسيف. فسوف تُغلب الاعداء ويُشتت شملهم بالسيوف المعنوية - بدلاً من المادية - للمدنية الحقيقية والرقي المادي والحق والحقيقة.
اعلموا أيها الاخوان!
ان قصدنا من المدنية هو محاسنها وجوانبها النافعة للبشرية، وليس ذنوبها



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 501
وسيئاتها، كما ظن الحمقى من الناس أن تلك السيئات محاسن فقلّدوها وخرّبوا الديار، فقدموا الدين رشوة للحصول على الدنيا فما حصلوا عليها ولا حصلوا على شئ.
انه بطغيان ذنوب المدنية على محاسنها، ورجحان كفة سيئاتها على حسناتها، تلقت البشرية صفعتين قويتين بحربين عالميتين، فأتتا على تلك المدنية الآثمة، وقاءت دماءً لطخت وجه الارض برمتها. وسوف تتغلب باذن الله محاسن المدنية بفضل قوة الاسلام التي ستسود في المستقبل، وتطهّر وجه الارض من الأدناس وتحقق ايضاً سلاماً عاماً للبشرية قاطبة.
نعم لما كانت مدنية اوروبا لم تتأسس على الفضيلة والهدى بل على الهوس والهوى، وعلى الحسد والتحكم، تغلبت سيئات هـذه المدنـيـة على حسناتها الى الان. واصبحت كشجرة منخورة بديدان المنظمات الثورية الارهابية ، وهذا دليل قوي ومؤشر على قرب انهيارها وسبب مهم لحاجة العالم الى مدنية آسيا "الاسلامية" التي ستكون لها الغلبة عن قريب.
فاذا كان امام اهل الايمان والاسلام امثال هذه الاسباب القوية والوسائل القويمة للرقي المادي والمعنوي، وطريقٌ سويٌ ممهد كسكة الحديد للوصول الى السعادة في المستقبل، فكيف تيأسون، وتثبطون روح العالم الاسلامي المعنوية وتظنون ظن السوء وفي يأس وقنوط: أن الدنيا دار ترقٍ وتقدم للاجانب وللجميع بينما اصبحت دار تدنٍ وتأخـّر للمسلمـين المساكـين وحدهم. انكم بهـذا ترتكبون خطأ شنيعـاً.
اذ ما دام الميل نحو الكمال قانوناً فطرياً في الكون وقد اُدرج في فطرة البشرية، فان الحق والحقيقة سيظهران في المستقبل على يد العالم الاسلامي ان شاء الله سعادةً دنيوية ايضاً كفّارة لما اقترفته البشرية من آثام، مالم تقم قيامة مفاجئة بما ارتكبت من مفاسد ومظالم.
فانظروا الى الزمن، انه لايسير على خط مستقيم حتى يتباعد المبدأ والمنتهى، بل يدور ضمن دائرة كدوران كرتنا الارضية. فتارة يرينا الصيف والربيع في حال الترقي، وتارة يرينا الشتاء والخريف في حال التدني. وكما ان الشتاء يعقبه الربيع والليل



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 502
يخلفه النهار، فسيكون للبشرية ربيع ونهار ان شاء الله، ولكم ان تنتظروا من الرحمة الالهية شروق شمس حقيقة الاسلام، فتروا المدنية الحقيقية في ظل سلام عام شامل.
لقد قلنا في بداية هذا الدرس اننا سنقيم برهاناً ونصف برهان على دعوانا. وقد انتهى الآن البرهان مجملاً. وجاء دور نصف البرهان وهو الآتي:
لقد ثبت بالبحث والتحري الدقيق والاستقراء والتجارب العديدة للعلوم أن:
الخير والحسن والجمال والاتقان والكمال هو السائد المطلق في نظام الكون وهو المقصود لذاته، أي هو المقاصد الحقيقية للصانع الجليل. بدليل ان كل علمٍ من العلوم المتعلّقة بالكون يطلعنا بقواعده الكلية على ان في كل نوع وفي كل طائفة انتظاماً وابداعاً بحيث لايمكن للعقل أن يتصور أبدع واكملَ منه.
فمثلاً: علم التشريح الذي يخص الطب، علم المنظومة الشمسية الذي يخص الفلك وبقية العلوم التي تخص النباتات والحيوانات، كل منها تفيدنا بقواعدها الكلية وبحوثها المتعددة النظام المتقن للصانع الجليل في ذلك النوع وقدرته المبدعة وحكمته التامة فتبيّن جميعها حقيقة الآية الكريمة
(الذي احسَن كلَّ شئٍ خَلقَه) (السجدة: 7)
كما ان الاستقراء التام والتجارب الشاملة يثبت أن:
الشر والقبح والباطل والسيئات جزئي وتَبَعي وثانوي في خلقة الكون.
فالقبح مثلاً في الكون والمخلوقات ليس هدفاً لذاته وانما هو وحدة قياسية، لتنقلب حقيقةٌ واحدة للجمال الى حقائق كثيرة. والشر كذلك، بل حتى الشيطان نفسه انما خلق وسلّط على البشرية ليكون وسيلة لترقيات البشر غير المحدودة نحو الكمال التي لا يُـنال إلاّ بالتسـابق والمجـاهـدة.
وامثال هذه الشرور والقبائح الجزئية خُلقت في الكون لتكون وسيلة لإظهار انواع الخير والجمال الكليين. وهكذا يثبت بالاستقراء التام أن المقصد الحقيقي في الكون والغاية الاساسية في الخلق انما هو: الخير والحسن والكمال، لذا فالانسان الذي لوّث وجه الارض بكفره الظالم وعصيانه الله لايمكن ان يفلت من العقاب، ويذهب الى العدم من دون ان يحق عليه المقصود الحقيقي في الكون. بل سيدخل سجن جهنم!



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 503
كما ثبت بالاستقراء التام وتحريات العلوم وابحاثها ان الانسان هو اكرم المخلوقات واشرفها. لأنه يستطيع أن يكشف بعقله عن مراتب الاسباب الظاهرية في خلق الكائنات ونتائجها، ويعرف العلاقات بين العلل والاسباب المتسلسلة، ويستطيع ان يقلّد بمهارته الجزئية الصنائع الالهية والايجاد الرباني المنتظم الحكيم، ويستطيع أن يدرك بعلمه الجزئي وبمهارته الجزئية اتقان الافعال الالهية، وذلك بجعل ما لديه من جزء اختياري ميزاناً جزئياً ومقياساً مصغّراً لدرك تلك الافعال الالهية الكلية والصفات الجليلة المطلقة.
كل ذلك يثبت ان الانسان اشرف مخلوق واكرمه.
وثبت ايضاً بشهادة الحقائق التي قدّمها الاسلام للبشرية والتي تخص البشر والكائنات: ان المسلمين هم افضل البشر واشرفهم وهم اهل الحق والحقيقة، كما ثبت بشهادة التاريخ والوقائع والاستقراء التام: ان اشرف اهل الحق المشرَّفين من بين البشر المكرَّمين وأفضلَهم هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يشهد له ألفٌ من معجزاته وسمو اخلاقه ومكارمه وحقائق الاسلام والقرآن.
ولما كان نصف البرهان هذا قد بين هذه الحقائق الثلاث أفيمكن أن يقدح نوعُ البشر بشقاوته شهادةَ هذه العلوم جميعها، وينقض هذا الاستقراء التام، ويتمرّد في وجه المشيئة الالهية والحكمة الازلية؛ فيستمر في قساوته الظالمة وكفره المتمرد ودماره الرهيب ؟ أفيمكن ان تستمر هذه الحالة في عداء الاسلام هكذا؟
انني اقسم بما آتاني الله من قوة بل لو كان لي مالايعد ولايحصى من الألسنة لأقسمت بها جميعاً، بالذي خلق العالم بهذا النظام الاكمل، وخلق الكون في منتهى الحكمة والانتظام من الذرات الى السيارات السابحات في اجواز الفضاء، ومن جناح البعوضة الى قناديل النجوم المتلألئة في السموات، ذلكم الحكيم ذو الجلال والصانع ذو الجمال، أقسم به سبحانه بألسنة لا تحد انه لا يمكن ان يخرج البشر على سنة الله الجارية في الكون ويخالف بقية اخوانه من طوائف المخلوقات بشروره الكلية ويقضي بغلبة الشر على الخير فيهضم تلك المظالم الزقومية على مدى ألوف السنين! فهذا لا يمكن قطعاً!



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 504
نعم، انه لا يمكن ذلك إلاّ بافتراضٍ محالِ هو أن الانسان ليس خليفة الله في الارض، الحامل للأمانة الكبرى والاخ الاكبر الاكرم لسائر انواع المخلوقات، انما هو ادنى مخلوق واردأه وارذله واضرّه وأحقره، دخل الكون متلصصاً ليفسده! فهذا الفرض المحال باطل من اساسه لا يمكن قبوله باية جهة كانت.
فلأجل هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج من نصف برهاننا هذا:
كما أن وجود الجنة والنار ضروري في الآخرة فان الغلبة المطلقة ستكون للخير وللدين الحق في المستقبل، حتى يكون الخير والفضيلة غالبين في البشرية كما هو الامر في سائر الانواع الاخرى، وحتى يتساوى الانسان مع سائر اخوانه من الكائنات، وحتى يحق ان يقال: انه قد تحقق وتقرر سرّ الحكمة الازلية في النوع البشري أيضاً.وحاصل الكلام:
ما دام البشر - طبقاً للحقائق المذكورة القاطعة - افضل نتيجة منتَخبة من الكائنات، وأنه أكرم مخلوق لدى الخالق الكريم، وان الحياة الباقية تقتضي وجود الجنة وجهنم بالبداهة، فتستلزم المظالم التي ارتكبتها البشرية حتى الآن وجود جهنم، كما تستلزم ما في استعداداته الكمالية المغروزة في فطرته وحقائقه الايمانية التي تهم الكائنات بأسرها وجود الجنة بالبداهة، فلابد، ولامحالة ان البشر لن يهضموا ولن يغفروا الجرائم التي ارتكبت خلال الحربين العظيمتين والتي جرت الويلات والمصائب على العالم باجمعه واستقاءت زقوم شرورها التي استعصت على الهضم فلطّخت وجه الارض، وتركت البشرية تعاني البؤس والشقاء وهدمت صرح المدنية الذي بنته البشرية طوال الف عام. فما لم تقم قيامة مفاجئة على البشرية فاننا نرجو من رحمة الرحمن الرحيم، ان تكون الحقائق القرآنية وسيلة لانقاذ البشرية من السقوط الى أسفل سافلين، وتطهّر وجه الارض من الادناس والادران وتقيم سلاماً عاماً شاملاً.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 505الكلمة الثانية
"اليأس داء قاتل"
ان مما املت عليّ تجاربي في الحياة وتمخض فكري عنه هو: ان اليأس داء قاتل، وقد دبّ في صميم قلب العالم الاسلامي. فهذا اليأس هو الذي اوقعنا صرعى - كالاموات - حتى تمكنت دولة غربية لايبلغ تعدادها مليوني نسمة من التحكم في دولة شرقية مسلمة ذات العشرين مليون نسمة فتستعمرها وتسخرها في خدمتها.. وهذا اليأس هو الذي قتل فينا الخصال الحميدة وصرف انظارنا عن النفع العام وحصرها في المنافع الشخصية.. وهذا اليأس هو الذي أمات فينا الروح المعنوية التي بها استطاع المسلمون ان يبسطوا سلطانهم على مشارق الارض ومغاربها بقوة ضئيلة، ولكن ما ان ماتت تلك القوة المعنوية الخارقة باليأس حتى تمكّن الاجانب الظلمة - منذ اربعة قرون - ان يتحكموا في ثلاثمائة مليون مسلم ويكبلوهم بالاغلال.
بل قد اصبح الواحد بسبب هذا اليأس يتخذ من فتور الآخرين وعدم مبالاتهم ذريعة للتملص من المسؤولية، ويخلد الى الكسل قائلاً: "مالي وللناس، فكل الناس خائرون مثلي" فيتخلى عن الشهامة الايمانية ويترك العمل الجاد للاسلام.
فما دام هذا الداء قد فتك فينا الى هذا الحد، ويقتلنا على مرآى منا، فنحن عازمون على ان نقتصّ من قاتلنا، فنضرب رأس ذلك اليأس بسيف الآية الكريمة:
(لا تقنطوامن رحمة الله) (الزمر: 53). ونقصـم ظهره بحقيقـة الحديث الشريف: (ما لا يدرك كله لا يترك جلّه).
ان اليأس داء عضال للأمم والشعوب، أشبه ما يكون بالسرطان… وهو المانع عن بلوغ الكمالات، والمخالف لروح الحديث القدسي الشريف: (انا عند ظن عبدي بـي).. وهـو شـأن الجـبنـاء والسـفـلـة والعـاجزين وذريعتهم، وليس هو من شأن الشهامة الاسلامية قط.. وليس هو من شأن العرب الممتازين بسجايا حميدة هي مفخرة البشرية. فلقد تعلّم العالم الاسلامي من ثبات العرب وصمودهم الدروس



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 506
والعبر. وأملنا بالله عظيم أن يتخلى العرب عن اليأس ويَمدّوا يدَ العون والوفاق الصادق الى الترك الذين هم جيش الاسلام الباسل فيرفعوا معاً راية القرآن عالية خفّاقة في ارجاء العالم،ان شاء الله.

الكلمة الثالثة
"الصدق اساس الاسلام"
لقد علمتني زبدة تتبّعاتي وتحقيقاتي في الحياة بتمخض الحياة الاجتماعية أن:
"الصدق" هو أس اساس الاسلام، وواسطة العِقد في سجاياه الرفيعة ومزاج مشاعره العلوية. فعلينا اذاً أن نحيي الصدق الذي هو حجر الزاوية في حياتنا الاجتماعية في نفوسنا ونداوي به امراضنا المعنوية.
اجل! ان الصدق هو عقدة الحياة في حياة الاسلام الاجتماعية. أما الرياء فهو نوع من الكذب الفعلي، وأما المداهنة والتصنع فهو كذب دنئ مرذول. أما النفاق فهو كذب ضار جداً. والكذب نفسه انما هو افتراء على قدرة الصانع الجليل.
ان الكفر بجميع انواعه كذب. والايمان انما هو صدق وحقيقة. وعلى هذا فالبون شاسع بين الصدق والكذب بُعدَ ما بين المشرق والمغرب. وينبغي ان لا يختلط الصدق والكذب اختلاط النور والنار، ولكن السياسة الغادرة والدعاية الظالمة قد خلطتا احدهما بالآخر. فاختلطت كمالات البشرية ومثلها بسفسافها ونقائصها 1.
____________________
1 اخواني! يُفهم من هذا الدرس الذي ألقاه »سعيد القديم« قبل خمس واربعين سنة: ان سعيداً ذاك كان وثيق الصلة بالسياسة وبشؤون الاسلام الاجتماعية. ولكن حذار أن يذهب بكم الظن الى انه قد نهج اتخاذ الدين اداة للسياسة ووسيلة لها. كلا! بل كان يعمل بكل ما لديه من قوة على جعل السياسة اداةً للدين، وكان يقول:»اني افضل حقيقة واحدة من حقائق الدين على ألف قضية سياسية من سياسات الدنيا«.
نعم، لقد احسّ آنذاك - قبل ما يقارب الخمسين عاماً - ان بعض الزنادقة المنافقين يحاولون جعل الدين آلة للسياسة، فعمل هو أيضاً - بكل قوة - في مواجهة نواياهم ومحاولاتهم الفكرية تلك على جعل السياسة وسيلة من وسائل تحقيق حقائق الاسلام وخادمة لها.
بيد انه رأى بعد ذلك بعشرين سنة ان بعض الساسة المتدينين يبذلون الجهد لجعل الدين أداة للسياسة الاسلامية، تجاه جعل اولئك الزنادقة المنافقين المتسترين، الدين آلهً للسياسة بحجة التغرّب. ألا إن شمس الاسلام لن تكون تابعة لأضواء الارض ولا أداة لها. وان محاولة جعلها آلة لها تعني الحط من كرامة الاسلام ، وهي جناية كبرى بحقه حتى ان»سعيداً القديم« قد رأى من ذلك النمط من التحيز الى السياسة: ان عالماً صالحاً قد اثنى بحرارة على منافق يحمل فكراً يوافق فكره السياسي وانتقد عالماً صالحاً آخر يحمل افكاراً تخالف افكاره السياسية، حتى وَصَمَه بالفسق. فقال له» سعيد القديم«: لو ان شيطاناً أيّد فكرك السياسي لأمطرتَ عليه الرحمات، اما اذا خالف أحدٌ فكرك السياسي للعنته حتى لو كان مَلَكاً !«. لأجل هذا قال »سعيد القديم« منذ خمس وثلاثين سنة »اعوذ بالله من الشيطان والسياسة« وترك السياسة . المؤلف.
و لما كان سعيد الجديد قد ترك السياسة كلياً ولا ينظر اليها قطعاً، فقد تُرجمت هذه الخطبة الشامية لسعيد القديم التي تمس السياسة.
ثم انه لم يثبت انه استغل الدين كاداة للسياسة طوال حياته التي استغرقت اكثر من ربع قرن، وفي مؤلفاته ورسائله التي تربو على مئة وثلاثين رسالة والتي دققت بأمعان من قبل خبراء مئات المحاكم بل حتى في احلك الظروف التي تلجئه الى السياسة لشدة مضايقات الظلمة المرتدين والمنافقين، بل حتى عندما اُصدر أمر اعدامه سراً، لم يجد أحدٌ منهم اية أمارة كانت عليه حول إستغلاله الدين لأجل السياسة.
فنحن طلاب النور نرقب حياته عن كثب ونعرفها بدقائقها لا نملك انفسنا من الحيرة والاعجاب ازاء هذه الحالة، ونعدّها دليلاً على الاخلاص الحقيقي ضمن دائرة رسائل النور. - طلاب النور.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 507
ان الصدق والكذب بعيدان احدهما عن الآخر بُعد الكفر عن الايمان. فان عروج محمد صلى الله عليه وسلم في خير القرون الى اعلى عليين بوساطة الصدق وما فتحه من كنوز حقائق الايمان واسرار الكون.. جعل الصدق أروَجَ بضاعة واثمن متاع في سوق الحياة الاجتماعية. بينما تردّى مسيلمة الكذاب وامثاله الى اسفل سافلين بالكذب؛ اذ لما حدث ذلك الانقلاب العظيم في المجتمع تبين ان الكذبَ هو مفتاح الكفر والخرافات، وأفسدُ بضاعة واقذرها. فالبضاعة التي تثير التقزز والاشمئزاز لدى جميع الناس الى هذا الحد لا يمكن ان تمتد اليها يدُ أولئك الذين كانوا في الصف الاول من ذلك الانقلاب العظيم، اولئك الصحابة الكرام الذين فُطروا على تناول اجود المتاع واثمنه وافخره، وحاشاهم ان يلوثوا ايديهم المباركة بالكذب ويمدوها عمداً الى الكذب ويتشبّهوا بمسيلمة الكذاب. بل كانوا بميولهم الفطرية السليمة وبكل ما اوتوا من قوة في طليعة المبتاعين للصدق الذي هو أروج مال واقوم متاع بل هو مفتاح جميع الحقائق ومرقاة عروج محمد صلى الله عليه وسلم الى اعلى عليين. ولأن الصحابة الكرام قد لازموا الصدق ولم يحيدوا عنه ما امكنهم ذلك فقد تقرر لدى علماء الحديث والفقه "ان الصحابة عدول، رواياتهم لا تحتاج الى تزكية، كل ما رووه من الاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح". فهذه الحقيقة المذكورة حجة قاطعة على إتفاق هؤلاء العلماء.
وهكذا فان الانقلاب العظيم الذي حدث في خير القرون ادّى الى أن يكون البون شاسعاً بين الصدق والكذب كما هو بين الكفر والايمان. الاّ أنه بمرور الزمن قد تقاربت المسافة بين الصدق والكذب، بل اعطت الدعايات السياسية احياناً رواجاً اكثر للكذب. فبرز الكذب والفساد في الميدان واصبح لهما المجال الى حدٍ ما.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 508
وبناءً على هذه الحقيقة فان احداً من الناس لايمكن ان يبلغ مرتبة الصحابة الكرام.
نكتفي هنا بهذا القدر ونحيل القارئ الكريم الى رسالة الصحابة التي هي ذيل الكلمة السابعة والعشرين رسالة "الاجتهاد".
ايها الاخوة في هذا الجامع الاموي ويا اخوتي الاربعمائة مليوناً من المؤمنين بعد اربعين عاماً في جامع الاسلام الكبير.
لا نجاة الاّ بالصدق، فالصدق هو العروة الوثقى، أما الكذب للمصلحة فقد نَسخَه الزمان، ولقد أفتى به بعض العلماء "مؤقتاً" للضرورة والمصلحة، الاّ أن في هذا الزمان لا يعمل بتلك الفتوى. إذ اُسئ استعماله الى حد لم يعد فيه نفعٌ واحد الاّ بين مئةٍ من المفاسد. ولهذا لا تُبنى الاحكام على المصلحة.
مثال ذلك: ان سبب قصر الصلاة في السفر هو المشقة، ولكن لا تكون المشقة علة القصر. اذ ليس لها حدّ معين، فقد يُساء استعمالها، لذا لاتكون العلة الاّ السفر. فكذلك المصلحة لا يمكن ان تكون علّة للكذب لأنه ليس للكذب حدّ معين، وهو مستنقع ملائم لسوء الاستعمال، فلا يناط به الحكم. وعلى هذا فالطريق اثنان لاثالث له: "اما الصدق واما السكوت" وليس الصدق او الكذب او السكوت قطعاً.
ثم ان انعدام الأمن والاستقرار في الوقت الحاضر بالكذب الرهيب الذي تقترفه البشرية وبتزييفها وافتراءاتها، ما هو إلاّ نتيجة كذبها وسوء استعمالها للمصلحة، فلا مناص للبشرية إلاّ سدّ ذلك الطريق الثالث، وإلاّ فان ما حدث خلال نصف هذا القرن من حروب عالمية وانقلابات رهيبة ودمار فظيع قد يؤدي الى أن تقوم قيامة على البشرية.
أجل! عليك ان تصدق في كل ما تتكلمه ولكن ليس صواباً ان تقول كل صدق، فاذا ما ادّى الصدق احياناً الى ضرر فينبغي السكوت. اما الكذب فلايسمح له قطعاً.
عليك ان تقول الحق في كل ما تقول ولكن لا يحق لك أن تقول كل حق، لأنه ان لم يكن الحق خالصاً فقد يؤثر تأثيراً سيئاً، فتضع الحق في غير محله.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 509الكلمة الرابعة
"المـحـبــة"
ان مما تعلمته من الحياة الاجتماعية البشرية طوال حياتي، وما أملَته عليّ التتبعات والتحقيقات هو:
ان اجدر شئ بالمحبة هو المحبة نفسها. واجدر صفة بالخصومة هي الخصومة نفسها. أي ان صفة المحبة التي هي ضمان الحياة الاجتماعية البشرية والتي تدفع الى تحقق السعادة هي أليق للمحبة، وان صفة العدواة والبغضاء التي هي عامل تدمير الحياة الاجتماعية وهدمها هي اقبح صفة واضرها واجدر أن تُتجنب وتُنفَر منها. ولما كنا قد اوضحنا هذه الحقيقة في المكتوب الثاني والعشرين (رسالة الاخوة) نشير اليها هنا اشارة مقتضبة:
لقد انتهى عهد العداوة والخصام. ولقد اظهرت الحربان العالميتان مدى ما في روح العداوة من ظلم فظيع ودمار مريع. وتبين ان لا فائدة منها البتة. وعليه فلا ينبغي ان تجلب سيئات اعدائنا - بشرط عدم التجاوز- عداوتنا، فحسبهم العذاب الالهي ونار جهنّم.
ان غرور الانسان وحبّه لنفسه قد يقودانه احياناً الى عداء اخوانه المؤمنين ظلماً ومن دون شعور منه فيظن المرء نفسه محقاً. مع ان مثل هذه العداوة تعدّ استخفافاً بالوشائج والاسباب التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض - كالايمان والاسلام والانسانية - وحطاً من شأنها. وهي اشبه ما يكون بحماقة من يرجّح اسباباً تافهة للعداوة كالحصيات على اسباب بجسامة الجبال الراسيات للودّ والمحبة.
فما دامت المحبة مضادة للعداوة ومنافية لها فلا تجتمعان قطعاً كما لا تجتمع الظلمة والنور، فالذي تتغلب اسبابُه على الآخر هو الذي يجد موضعه في القلب بحقيقته. اما ضده فلا يكون بحقيقته.
فمثلاً: اذا وجدت المحبة بحقيقتها في القلب فان العداوة تنقلب حينئذ الى الرأفة والشفقة. فهذا هو الوضع تجاه اهل الايمان. اما اذا وجدت العداوة بحقيقتها في


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس