الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 510
القلب، فان المحبة تنقلب عندها الى المداراة والمماشاة والصداقة الظاهرية. فهذا انما يكون مع ارباب الضلال غير المتجاوزين.
أجل! ان اسباب المحبة هي الايمان والاسلام والانسانية وامثالها من السلاسل النورانية المتينة والحصون المعنوية المنيعة. أما اسباب العداوة والبغضاء تجاه المؤمن فانما هي امور خاصة تافهة تفاهة الحصيات. لذا فان اضمار العداء لمسلم اضماراً حقيقياً، انما هو خطأ جسيم لأنه استخفاف باسباب المحبة التي هي اشبه بالجبال.
نحصل مما سبق:
ان الود والمحبة والاخوة هي من طباع الاسلام وروابطه. والذي يحمل في قلبه العداء فهو أشبه ما يكون بطفل فاسد المزاج يروم البكاء بادنى مبرر للبكاء، وقد يكون ما هو اصغر من جناح ذبابة كافياً لدفعه الى البكاء. أو هو أشبه ما يكون برجل متشائم لا يحسن الظن بشئ ما دام سوء الظن ممكناً. فيحجب عشر حسناتٍ للمرء بسيئة واحدة. ومن المعلوم ان هذا منافٍ كلياً للخلق الاسلامي القاضي بالانصاف وحسن الظن.


الكلمة الخامسة
"تضاعف السيئات والحسنات"
ان الدرس الذي تعلمته من الشورى الشرعية هو: أن سيئة امرئ ٍ واحدٍ في هذا الزمان، لا تبقى على حالها سيئة واحدة، وانما قد تكبر وتسري حتى تصبح مائة سيئة. كما ان حسنة واحدة ايضاً لا تبقى على حالها حسنة واحدة بل قد تتضاعف الى الالاف. وحكمة هذا وسره هو: ان الحرية الشرعية والشورى المشروعة قد أظهرتا سيادة امتنا الحقيقية. اذ إن حجر الاساس في بناء امتنا وقوام روحها انما هو الاسلام، وان الخلافة العثمانية والجيش التركي من حيث كونهما حاملين لراية تلك الامة الاسلامية فهما بمثابة الصَدَفة والقلعة للأمة، وان العرب والترك هما الاخوان الحقيقيّان وسيظلان حارسين امينين لتلك القلعة المنيعة، والصَدَفة المتينة.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 511
وهكذا فبفضل هذه الرابطة المقدسة التي تشد الامة الاسلامية بعضها ببعض يصبح المسلمون كافةً كعشيرة واحدة. فترتبط طوائف الاسلام برباط الاخوة الاسلامية كما يرتبط افراد العشيرة الواحدة ويمد بعضهم بعضاً معنويّاً، واذا اقتضى الامر فمادياً، وكأن الطوائف الاسلامية تنتظم جميعها كحلقات سلسلة نورانية. فكما اذا ارتكب فرد في عشيرة ما جريمة فان عشيرته بأسرها تكون مسؤولة ومتّهمة في نظر العشيرة الاخرى وكأن كل فرد من تلك العشيرة هو الذي قد ارتكب الجريمة، فتلك الجريمة قد اصبحت بمثابة الالوف منها، كذلك اذا قام احد افراد تلك العشيرة بحسنةٍ واحدة افتخر بها سائر أفراد العشيرة وكأن كل فرد منها هو الذي كسب تلك الحسنة.
فلأجل هذه الحقيقة فان في زماننا هذا ولاسيما بعد اربعين او خمسين سنة ليس المسئ هو وحده المسؤول عن سيئته، بل تتضرر الامة الاسلامية بملايينها بتلك السيئة. وستظهر امثلة هذه الحقيقة بكثرة بعد اربعين او خمسين سنة.
يا اخواني المستمعين الى اقوالي في هذا الجامع الاموي. ويا ايها الاخوان المسلمون في جامع العالم الاسلامي بعد اربعين او خمسين عاماً!
لايعتذرنّ احدكم بالقول: "اننا لانضرّ احداً ولكننا لانستطيع ان ننفع احداً أيضاً. فنحن معذورون اذن". فعذركم هذا مرفوض، اذ ان تكاسلكم وعدم مبالاتكم وتقاعسكم عن العمل لتحقيق الاتحاد الاسلامي والوحدة الحقيقية للأمة الاسلامية، انما هو ضرر بالغ وظلم فاضح.
وهكذا فكما ان سيئة واحدة تتضاعف الى الالوف فان حسنة واحدة في زماننا هذا - واعني بالحسنة هنا ما يتعلق بقدسية الاسلام - لاتقتصر فائدتها على فاعلها وحده بل يمكن ان تتعداه ليعم نفعها - معنوياً - ملايين المسلمين ويشدّ من حياتهم المادية والمعنوية.
وعليه فان هذا الزمان ليس زمان الانطراح على فراش الكسل والخلود الى الراحة وعدم المبالاة بالمسلمين بترديد:"انا مالي".



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 512
يا اخوتي في هذا الجامع ويا اخواني في مسجد العالم الاسلامي الكبير بعد اربعين او خمسين عاماً!
لا يذهب بكم الظن انني صعدت هذا المنبر لارشدكم وانصحكم. بل ما صعدته إلاّ لأذكر حقنا عليكم واطالبكم به، اذ إن مصالح الطوائف الصغيرة وسعادتها الدنيوية والاخروية ترتبط بامثالكم من الطوائف الكبيرة العظيمة، والحكام والأساتذة من العرب والترك. فان تكاسلكم وتخاذلكم يضران باخوانكم من الطوائف الصغيرة من امثالنا ايما ضرر. وانني اوجه كلامي هذا بوجه خاص اليكم يامعشر العرب العظماء الأماجد، ويا من أخذتم من التيقظ حظاً او ستتيقظون تيقظاً تاماً في المستقبل؛ لانكم اساتذتنا واساتذة جميع الطوائف الاسلامية وائمتها، فانتم مجاهدو الاسلام الأوائل، ثم جاءت الامة التركية العظيمة لتمدّ وظيفتكم المقدسة تلك ايّما امداد. لذا فان ذنبكم عظيم بالتكاسل والتقاعس، كما ان حسناتكم جليلة وسامية أيضاً. ولا سيما نحن على أمل عظيم برحمة الله انه بعد مرور اربعين أو خمسين عاماً تتحدون فيما بينكم - كما اتحدت الجماهير الامريكية - وتتبوأون مكانتكم السامية وتوفّقون باذن الله الى انقاذ السيادة الاسلامية المأسورة وتقيمونها كالسابق في نصف الكرة الارضية بل في معظمها. فان لم تقم القيامة فجأة فسيرى الجيل المقبل هذا الامل.
فيا اخوتي الكرام!
ارجو ان لا يذهب بكم الظن بأنني بكلامي هذا استنهض هممكم للاشتغال بالسياسة - حاش لله - فان حقيقة الاسلام اسمى من كل سياسة بل جميع اصناف السياسة واشكالها يمكن ان تسير في ركاب الاسلام وتخدمه وتعمل له، وليس لأية سياسة كانت ان تستغل الاسلام لتحقيق اغراضها.
فانا بفهمي القاصر أتصور المجتمع الاسلامي ككل - في زماننا هذا - اشبه ما يكون بمصنع ذي تروس وآلات عديدة. فاذا ما تعطل ترس من ذلك المصنع أو تجاوز على رفيقه الترس الآخر فسيختل حتماً نظام المصنع الميكانيكي. لذا فقد آن أوان الاتحاد الاسلامي وهو على وشك التحقق. فينبغي ان تصرفوا النظر عن تقصيراتكم الشخصية، وليتجاوز كلٌ عن الآخر.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 513
وهنا انبّه ببالغ الاسى والاسف الى أن قسماً من الاجانب كما سلبوا اموالنا الثمينة واوطاننا، بثمن بخسٍ دارهم معدودة مزوّرة، كذلك فقد سلبوا منا قسماً من اخلاقنا الرفيعة وسجايانا الحميدة والتي بها يترابط مجتمعنا، وجعلوا تلك الخصال الحميدة محوراً لرقيهم وتقدمهم، ودفعوا الينا نظير ذلك رذائل طباعهم وسفاهة اخلاقهم.
فمثلاً: ان السجية الملّية التي اخذوها منا هي قول واحدٍ منهم:
"إن متّ انا فلتحيا امتي، فان لي فيها حياة باقية" هذه السجية أقوى اساس وأمتنه لرقيهم وتقدمهم، قد سرقوها منا؛ إذ هذه الكلمة انما تنبع من الدين الحق ومن حقائق الايمان، فهي لنا وللمؤمنين جميعاً، بينما دخلت فينا اخلاق رذيلة وسجايا فاسدة، فترى ذلك الاناني الذي فينا يقول: "اذا متّ ظمآناً فلا نزل القطر" و"ان لم ارَ السعادة فعلى الدنيا العفاء!" فهذه الكلمة الحمقاء انما تنبع من عدم وجود الدين ومن عدم معرفة الاخرة، فهي دخيلة علينا تسمّمنا. ثم ان تلك السجية الغالية عندما سرت الى الاجانب اكسبت كل فرد منهم قـيمة عظيمـة حتى كأنه أمـة وحـده؛ لان قيمـة الشخص بهمّته، فمن كانت همته امته فهـو بحد ذاته امة صغيرة قائمة.
وبسبب عدم تيقظ أناس منا، وبحكم اخذنا الاخلاق الفاسدة من الاجانب فان هناك مَن يقول: " نفسي نفسي" مع ما في امتنا الاسلامية من سمو وقدسية. فألف رجل مثل هذا الشخص الذي لا يفكر الاّ بمصلحته الشخصية ولا يبالي بمصلحة الأمة، انما ينزل بمنزلة شخص واحد.
[مَن كانت همتُه نفسَه فليس من الانسان لأنه مدني بالطبع] فهو مضطر لأن يراعي ابناء جنسه، فان حياته الشخصية يمكن ان تستمر بحياته الاجتماعية. فمثلاً:
ان الذي يأكل رغيفاً عليه ان يفكّر كم يحتاج الى الايدي التي تحضر له ذلك الرغيف. فهو يقبّل تلك الايدي معنى.
وكذا الثوب الذي يلبسه، كم من الايدي والالات والاجهزة تضافرت لتهيئته وتجهيزه. وقيسوا على منوال هذين المثالين لتعلموا ان الانسان مفطور على الارتباط بابناء جنسه من الناس لعدم تمكنه من العيش بمفرده وهو مضطر الى ان يعطي لهم ثمناً معنوياً لدفع احتياجاته، لذا فهو مدني فطرة. فالذي يحصر نظره في منافعه



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 514
الشخصية وحدها انما ينسلخ من الانسانية ويصبح حيواناً مفترساً، اللهم إلاّ من لاحيلة له، وله معذرة حقيقية.


الكلمة السادسة
"الشــورى"
ان مفتاح سعادة المسلمين في حياتهم الاجتماعية انما هو "الشورى" فالآية الكريمـة تأمرنا باتخاذ الشورى في جميع امورنا،اذ يقول سبحانه:
(وأمرُهـُم شورى بينهم) (الشورى: 38).
اجل فكما أن تلاحق الافكار بين ابناء الجنس البشري انما هو شورى على مر العصور بوساطة التاريخ، حتى غدا مدار رقي البشرية واساس علومها، فان سبب تخلف القارة الكبرى التي هي آسيا عن ركب الحضارة انما هو لعدم قيامها بتلك الشورى الحقيقية.
ان مفتاح قارة آسيا وكشاف مستقبلها انما هو الشورى، أي: كما ان الافراد يتشاورون فيما بينهم، كذلك ينبغي ان تسلك الطوائف والاقاليم المسلك نفسه فتتشاور فيما بينها. ان فك انواع القيود التي كبّلت ثلاثمائة بل اربعمائة مليون مسلم، ورفع انواع الاستبداد عنهم انما يكون بالشورى والحرية الشرعية النابعة من الشهامة الاسلامية والشفقة الايمانية، تلك الحرية الشرعية التي تتزين بالاداب الشرعية وتنبذ سيئات المدنية الغربية.
ان الحرية الشرعية النابعة من الايمان انما تأمر باساسين:
1- [ان لا يُذَلَّل"المسلمُ" ولايَتَذلَّل.. من كان عبداً لله لا يكون عبداً للعباد].
2- [ان لايجعل بعضكُم بعضاً ارباباً من دون الله]. اذ من لا يعرف الله حق معرفته يتوهم نوعاً من الربوبية لكل شئ، في كل حسب نسبته فيسلّطه على نفسه.
[نعم ان الحرية الشرعية عطية الرحمن] وتجلٍ من تجليات الخالق الرحمن الرحيم، وهي خاصّة من خصائص الايمان.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 515
فليحيا الصدقُ، ولا عاش اليأسُ، فلتدم المحبة ولتقْوَ الشورى، والملام على من اتبع الهوى والسلام على من اتبع الهدى..آمين.
واذا قيل:
لِمَ تهتم بالشورى الى هذا الحد، وكيف يمكن أن تتقدم البشرية عامة وآسيا والاسلام بوجه خاص بتلك الشورى؟الجواب:
فكما اوضحت لمعة "الاخلاص" وهي اللمعة الحادية والعشرون: ان الشورى الحق تولّد الاخلاص والتساند، اذ إن ثلاث ألفات هكذا (111) تصبح مائة واحدى عشرة، فانه بالاخلاص والتساند الحقيقي يستطيع ثلاثة اشخاص ان يفيدوا امتهم فائدة مائة شخص. ويخبرنا التاريخ بحوادث كثيرة أن عشرة رجال يمكنهم أن يقوموا بما يقوم به ألف شخص بالاخلاص والتساند الحقيقي والشورى فيما بينهم.
فما دامت احتياجات البشر لاحد لها واعداؤه دون حصر، وقوته ورأس ماله جزئيان محدودان جداً. ولاسيما بعد ازدياد المخرّبين والمتوحشين نتيجة تفشّي الالحاد.. فلابد أن يكون أمام اولئك الاعداء غير المحدودين والحاجات التي لا تحصر نقطة استناد تنبع من الايمان، فكما تستند حياته الشخصية الى تلك النقطة فان حياته الاجتماعية ايضاً انما تستطيع ان تدوم وتقاوم بالشورى الشرعية النابعة من حقائق الايمان، فتقف اولئك الاعداء الشرسين عند حدّهم وتلبي تلك الاحتياجات.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 516
الذيل الاول
تشخيص العلّة

هذا الذيل يبين بطولةً معنوية لاتثلم نابعة من الايمان، ضمن تمثيل لطيف جداً نذكر خلاصته لمناسبة ما ذكرناه من مسائل.
لقد رافقت ايضاً السلطان رشاد 1 في سياحته الى "روم ايلي" ممثلاً عن الولايات الشرقية، وذلك في بداية عهد الحرية 2.
كان في قطارنا معلمان اثنان، قد تلقيا العلوم في المدارس الحديثة، فجرت بيننا مباحثة، اذ سألانني:
- ايُّما اقوى وأولى بالالتزام: الحمية الدينية أم الملية؟ قلت لهم - وقتئذٍ -:
- نحن معاشر المسلمين، الدين والملية عندنا متحدان بالذات، والاختلاف إعتباري، أي ظاهري، عرضي، بل الدين هو حياة الملية وروحها. فاذا مانُظر اليهما بأنهما مختلفان ومتباينان، فان الحمية الدينية تشمل العوام والخواص بينما الحمية الملية تنحصر في واحد بالمئة من الناس، ممن يضحي بمنفعته الشخصية لأجل الأمة.
وعليه فلابد أن تكون الحمية الدينية اساساً في الحقوق العامة، وتكون الملية خادمة منقادة لها وساندة حصينة لها.
فنحن الشرقيين لانشبه الغربيين، اذ المهيمن على قلوبنا الشعور الديني؛ فإنّ بعث الانبياء في الشرق يشير به القدرُ الالهي الى أن الشعور الديني وحده هو الذي
_____________________
1 هو السلطان محمد الخامس الملقب بالسلطان رشاد تولّى السلطنة بعد عزل اخيه السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909م. المترجم.
2 الاصطلاح الذي اطلقه الاتحاديون على عهدهم. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 517
يستنهض الشرق ويسوقه الى التقدم والرقي، والعصر السعيد - وهو خير القرون والذي يليه - خير برهان على هذا.
فيا زملائي في هذه المدرسة السيارة، أعني القطار، ويا من تسألون عن التفاضل بين الحمية الدينية والملية، وياايها الدارسون في المدارس الحديثة. اني اقول لكم جميعاً:
ان الحمية الدينية والملية الاسلامية قد امتزجتا في الترك والعرب مزجاً لا يمكن فصلهما، وان الحمية الاسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش الاعظم، فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم.
قال ذلك المعلمان:
ما دليلك؟ يلزم لمثل هذه الدعوى الكبيرة حجة عظيمة ودليل قوي. فما الدليل؟.
وفي هذه الاثناء خرج قطارنا من النفق، فأخرجنا رؤوسنا من النوافذ نتطلع الى الخارج، رأينا صبياً لايتجاوز السادسة من العمر واقفاً بجانب سكة الحديد.
قلت لصاحبيّ:
- ان هذا الصبي يجيبنا عن سؤالنا بلسان حاله، فليكن استاذنا بدلاً مني في مدرستنا السيارة هذه.
اذ لسان حاله يقول هذه الحقيقة:
انظروا الى دابة الارض هذه، والى ضجيجها وصيحتها، وانطلاقها من النفق، وتأملوا في ذلك الطفل الوديع الواقف على مقربة منها، فعلى الرغم من تهديد هذه الدابة وهجومها وانقضاضها على كل من يقترب منها حتى كأنها تقول: يا ويل من يصادفني ويقف امامي .. على الرغم من هذا فان ذلك الصبي البرئ واقف لايحرك ساكناً بالقرب منها، وهو في كمال الاطمئنان والحرية، ولايكترث لتهديدها، مبدياً بطولةً فائقة وجرأة خارقة، وكأنه يستخف بهجومها، فهو يقول بلسان ثباته وبطولته في سن الصبا هذا:
- أيها القطار انك لا تخيفني بصوتك الصاخب الذي يشق عنان السماء.. أيها القطار انك أسير نظام، فخطامك في يد قائدك، لا طاقة لك أن تتجاوز حدَّك ولا يمكنك ان تتحكّم فيّ، فهيا انطلق في طريقك وامضِ في سيرك بإذن قائدك.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 518
فيا صاحبيّ في القطار، ويا اخوتي الباحثين في العلوم بعد خمسين عاماً!
افرضوا خيالاً ان رستم الفارسي وهرقل اليوناني، واقفان موقف الصبي هذا، واذ هما لا علم لهما بالقطار، فلا يعتقدان بانه يسير وفق نظام معين، فاذا ماخرج عليهما من النفق المظلم وفي رأسه النار ذات الوقود وفي انفاسه هدير السماء، وفي عيونه بروق المصابيح، وهو يهدد ويزمجر وكأنه يريد أن ينقضّ عليهما.. تصوروا هذه الحالة ثم قدّروا مدى الخوف والهلع الذي يعتريهما، وكيف انهما يفرّان من القطار مع ما يملكانه من جرأة وشجاعة نادرة. وتصوّروا كيف ان حريتهما وجسارتهما تضمحلان امام تهديد دابة الارض هذه حتى لا يجدان بداً منها إلاّ الفرار.. كل ذلك لانهما لا يعتقدان بوجود قائد يقود ذلك القطار، ولا يؤمنان بوجود نظام يسير على وفقه، بل لايظنان أنها دابّة مطيعة منقادة ليس إلاّ، وانما يتخيلانها أسداً هصوراً ووحشاً كاسراً جسيماً تنتظم وراءه اُسود كثيرة ووحوش عديدة.
يا اخوتي! ويا زملائي الذين يسمعون هذا الكلام بعد خمسين عاماً!
ان الذي منح هذا الصبي تلك الجسارة والحرية اكثر من ذينك البطلين ووهب له اطمئناناً وسكينة يفوقهما بكثير هو: ان في قلب ذلك الصبي نواة حقيقة، وهي: ايمانه واطمئنانه بأن ذلك القطار يسير وفق نظام، واعتقاده بأن زمامه بيد قائد يقوده بأمره ولأجله.
وأما الذي أرهب ذينك البطلين المشهورين وأسر وجدانهما، فهو عدم معرفتهما بقائد ذلك القطار وعدم اعتقادهما بنظامه، أي جهلهما بالعقيدة وخلوهما منها.
فمثل هذه البطولة النابعة من ايمان ذلك الصبي الوديع قد ترسّخت طوال ألف سنة في قلوب عشائر من طوائف الاسلام (وهم الترك ومن تشبّهوا بهم) عقيدةً وايماناً، فوهبهم ذلك الايمان بطولة فائقة استطاعوا بها ان يغزوا دولاً تفوقهم مئة ضعف وان يثبتوا امامها، فنشروا كمالات الاسلام في ارجاء العالم.. في آسيا وأفريقيا ونصف اوروبا، واستقبلوا الموت بسرور بالغ قائلين: إن قُتِلت فأنا شهيد وان قَتَلت عدواً فانا مجاهد. بل ثبتوا - بالايمان - امام كل ما اتخذ موقف عداءٍ تجاه استعدادات الانسان وقواه ابتداءً من الميكروبات الى المذنبات التي في السماء، وكأن كلاً منها قطار رهيب، فلم يكترثوا بتهديداتها.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 519
وانما حازت جميع قبائل الاسلام وفي مقدمتها طوائف الترك والعرب نوعاً من السعادة الدنيوية بتسليمهم الامر الى الله والرضى بقضائه وقدره ورؤية الحكمة وتلقي دروس العبرة من الحوادث بدلاً من الرهبة والهلع منها.
فاظهار هؤلاء المسلمين، بطولة معنوية فوق المعتاد - كما يظهره ذلك الصبي - يدلّنا: ان امة الاسلام مثلما تفوز في الآخرة فلهم في الدنيا ايضاً السيادة مستقبلاً.
ان الذي ادّى الى ان يدخل في روع ذينك البطلين الخوف والفرار والقلق انما هو حرمانهما من الايمان والعقيدة وجهلهما وضلالهما. فلقد اثبتت "رسائل النور" بمئات الحجج القاطعة تلك الحقيقة التي ذكرت بضعة امثلة منها في مقدمة هذه الرسالة ايضاً، تلك هي:
ان الكفر والضلال يريان الكون لأهلهما أنّه ملئ بآلاف الأعداء المخيفين، بل هو سلسلة من طوائف تعادي الانسان، ابتداءً من المنظومة الشمسية وانتهاء الى ميكروبات التدرن الرئوي، كلها تعادي هذا الانسان المسكين بايدي القوى العمياء والمصادفة العشواء والطبيعة الصماء. حتى تجعله في رعب دائم وألم مقيم وهلع ملازم واضطراب مستمر مع ما يحمل هذا الانسان من ماهية جامعة واستعداد كلي وحاجات لا نهاية لها ورغبات لا منتهى لها. بل يجعله الكفر والضلال في حالة من عذاب جهنم في الدنيا وكأنه يتجرع الزقوم ولا يكاد يسيغه. فلا تجديه آلاف الفنون والعلوم - الخارجة عن الدين والايمان - ولا التقدم البشري - مثلما لم تجدِ بطولة ذينك البطلين المشهورين - بل تجري في دمه السفاهة واللهو لتعطِّل حواسه فلا يشعر بالألم مؤقتاً.
فكما ان المقايسة بين الايمان والكفر تُفضي في الآخرة الى الجنة والنار، فان الايمان في الدنيا ايضاً يحقق نوعاً من الجنة المعنوية ويجعل المرء يرى الموت نوعاً من التسريح من الوظيفة، بينما الكفر يجعله في الدنيا ايضاً في جحيم معنوي سالباً منه السعادة إذ يريه الموت اعداماً ابدياً. كما اثبتنا ذلك في "رسائل النور" اثباتاً بدرجة الشهود والقطعية التامة. فنحيل القارئ الكريم الى تلك الرسائل.
فإن شئتم أيها الاخوان ان تروا حقيقة هذا المثال، فارفعوا رؤوسكم وانظروا الى هذا الكون! كم ترون لله في الفضاء من كرات النجوم واجرام العوالم وسلاسل



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس