عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الرابع


الشعاع الرابع - ص: 90
فانظر الى أرزاق الاحياء - وفي مقدمتها الانسان - انها ترسل بانتظام بديع من وراء ستار الغيب.. فشاهد جمال الرحمانية الإلهية.
وانظر الى اعاشة الصغار جميعها، اعاشة خارقة، يسيل لها كالسلسبيل الطاهر ألذ غذاء واصفاه من اثداء امهاتها المتدلية فوق رؤوسها.. فشاهد الجمال الجاذب، جمال الرحيمية الربانية.
وانظر الى الكائنات كلها بانواعها جميعها كيف جعلتها الحكمة الإلهية ككتاب كبير، كتاب حكمة بليغة بحيث ان في كل حرف منه مائة كلمة، وفي كل كلمة مئات الأسطر وفي كل سطر الف باب وباب وفي كل باب الوف الكتب الصغيرة.. فشاهد الجمال بلا نظير، جمال الحكيمية الإلهية.
وانظر الى الكون اجمع، لقد ضم العدل الإلهي جميع موجوداته تحت جناح ميزانه ويديم موازنة الاجرام العلوية والسفلية، ويعطيها التناسب والتلاؤم الذي هو أهم اساس للجمال، ويجعل كل شئ في افضل وضع واجمله، ويعطي كل ذي حياة حق الحياة، فيحق الحق ويحدّ من تجاوز المعتدين ويعاقبهم.. فشاهد الجمال الباهر جمال هذه العادلية الإلهية.
وانظر الى الانسان، لقد كتب الحفيظ تأريخ حياته السابقة في قوة حافظته وذاكرته التي لاتتجاوز حبة حنطة، وادرج تاريخ الحياة التالية لكل نبات وشجر في بذيراته ونوياته واعطى كل ذي حياة ما يعينه على حفظ حياته من آلات واجهزة فانظر مثلاً: الى جناح النحل وابرة لسعها، والى رماح الازهار المشوكة الدقيقة، والى القشور الصلبة للبذور. فشاهد الجمال اللطيف، جمال الحافظية في جمال الحفيظية الربانية.
وانظر الى مضايف الرحمن الرحيم الكريم المنصوبة على سفرة الارض كلها.
وانظر الى مافي هذه الاطعمة غير المحدودة من روائح طيبة متنوعة، والوان جميلة متباينة ومذاقات لذيذة مختلفة، ثم أنعم النظر في اجهزة كل ذي حياة كيف أنها تتلائم مع اذواق حياته ولذائذها.. فشاهد الجمال الحلو الذي لا جمال فوقه جمال الاكرام، والكريمية الربانية.
وانظر الى صور الحيوانات ولاسيما الانسان، تلك الصور البديعة الحكيمة، التي تتفتح من نطف جميع الحيوانات بتجليات إسمَي "الفتاح والمصوّر" وتأمل في الوجوه
الشعاع الرابع - ص: 91
الملاح لازاهير الربيع وهي في غاية الجاذبة المتفتحة من بذيرات متناهية في الصغر.. فشاهد الجمال المعجز، جمال الفتاحية والمصورية الإلهية.
وهكذا على غرار هذه الامثلة المذكورة؛ فإن لكل اسم من الاسماء الحسنى جمالاً خاصاً به، جمالاً مقدساً منزّهاً، بحيث أن جلوة من جلواته تجمّل عالماً ضخماً بكامله، وتلقي الحسن والبهاء على نوع لايحد.
فكما تشاهد تجلي جمال اسمٍ من الاسماء في زهرة واحدة، فالربيع كذلك زهرة والجنة كذلك زهرة لايراها النظر.
فان كنت تستطيع أن تنظر الى الربيع، كل الربيع، وترى الجنة بعين الايمان، فانظر وشاهد لتدرك مدى عظمة الجمال السرمدي.
فان قابلت ذلك الجمال الباهر بجمال الايمان وبجمال العبودية تكن أحسن مخلوق وفي احسن تقويم ولكن ان قابلت ذلك الجمال بقبح الضلالة غير المحدود، وقبح العصيان البغيض، تكن اقبح مخلوق واردأه، وابغض مخلوق معنىً لدى جميع الموجودات الجميلة.
النقطة الخامسة:
ان شخصاً عظيماً يملك مئات المهارات والابداعات والمزايا والكمالات والمحاسن، قد بنى قصراً فخماً خارقاً، ليعرّف ويبين به مهاراته وابداعاته وصنعته المتقنة وكمالاته وجماله المخفي، وذلك حسب قاعدة: ان كل مهارة تطلب الاعلان عن نفسها، وكل صنعة جميلة متقنة تريد أن تدفع الآخرين الى تقديرها، وكل كمال ومزية يحاول إظهار نفسه، وكل جمال وحسن يريد ان يبين نفسه.
هذا وان كل مَن يشاهد هذا القصر المنيف الملئ بالمعجزات والخوارق لاشك ينتقل فكره مباشرة الى حذاقة بانيه ومهارته، وابداع مالكه واتقانه، وجمال صاحبه وكمالاته ومزاياه، حتى يقوده هذا التأمل الى التصديق بتلك الفضائل والمزايا والايمان بها كأنه يشاهدها بعينه؛ اذ يقول: "ان مَن لم يكن جميلاً بنواحيه وجوانبه كافة، ومبدعاً في اموره وشؤونه كافة، لايمكن أن يكون مصدر هذا القصر البديع في كل جهة من جهاته ولايمكن أن يكون موجده وبانيه ومخترعه - أي من غير تقليد - بل إن
الشعاع الرابع - ص: 92
محاسن ذلك الباني المعنوية وكمالاته كأنها قد تجسمت بهذا القصر.. هكذا يقول وهكذا يقضي ويقرر".
والامر كذلك فيمن ينظر الى جمال هذا العالم المسمى بالكون، هذا المعرض البديع والقصر الباذخ والمخلوقات العجيبة، اذ لاشك ان فكره ينتقل مباشرة الى ان هذا القصر الذي تزيّن بهذا الجمال الرائع انما هو مرآة عاكسة لإظهار محاسن غيره وجماله وكماله، مالم يختل عقله ويفسد قلبه.
نعم، مادام هذا القصر، قصر العالم ليس له مثيل يشبهه، كي يُقتبس الجمال منه وتُقلّد المحاسن منه، فلاشك أن صانعه وبانيه له من المحاسن والجمال مايليق به في ذاته وفي اسمائه، بحيث يقتبس العالم الجمال منه. ولأجل ذلك بني هذا العالم على وفق انوار ذلك الجمال، وكُتب كالكتاب المتقن البديع ليعبّر عن ذلك الجمال.

البرهان الثالث: له ثلاث نكات:
النكتة الاولى:
وهي الحقيقة المذكورة في "الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين" والتي جاءت فيه بتفصيل جميل للغاية مع حجج قوية دامغة. نحيل تفاصيلها الى تلك الرسالة مشيرين هنا اشارات مختصرة اليها على النحو الآتي:
اننا ننظر الى هذه المصنوعات ولاسيما الحيوانات والنباتات الماثلة امامنا، فنرى ان تزييناً دائماً وتجميلاً لطيفاً وتنظيماً دقيقاً - لايمكن احالته على المصادفة - يهيمن عليها، مما يبيّن القصد والارادة ويُشعر بالعلم والحكمة.
ويشاهد كذلك ان في كل شئ صنعة متقنة وحكمة دقيقة وزينة رفيعة وترتيباً ذا شفقة ووضعاً حلواً، لاستجلاب الاعجاب الى الصنعة، ولفت الانظار اليها، وارضاء المشاهدين. مما يفهم بداهة ان وراء حجاب الغيب صانعاً بديعاً يريد أن يعرّف نفسه الى ذوي الشعور، ويحبّب نفسه اليهم ويسوقهم الى الثناء عليه بابراز كثير من ابداعاته وكمالاته في كل صنعة من مصنوعاته.
الشعاع الرابع - ص: 93
وكذا يشاهد أنه سبحانه يُحسن اليهم بأنواع من النعم الطيبة اللذيذة، يحسنها اليهم من حيث لم يحتسبوا - مما لايمكن حمله على المصادفة - ليجعل اولئك الشاعرين في امتنان ورضى عنه واودّاء له.
وكذا يشاهد، معاملة معرفة حميمة معنوية، مكللة بالكرم، ويسمع مكالمة ومخاطبة بلسان الحال ينم عن الود والمحبة، واستجابة وقبول للادعية، استجابة تتسم بالرحمة.. مما يشعر شفقة عميقة جداً ورحمة رفيعة جداً.
بمعنى أن ما يشاهد من الاكرام بالانعام واذاقة اللذة، وراء التعريف والتودد الظاهرين ظهور الشمس، انما ينبعان من ارادة شفقة في منتهى الاصالة والرسوخ، ومن رغبة في الرحمة في منتهى القوة والسعة.
فوجود مثل هذه الارادة القوية الاصيلة في الشفقة والرحمة في مَن هو مستغنٍ مطلق، اي لاحاجة له الى اي شئ كان ابداً، دليل على أنه يملك جمالاً سرمدياً في منتهى الكمال، وحسناً ازلياً لايزول ابداً، وجمالاً لامثيل له على الاطلاق ولاشبيه، هذا الجمال السرمدي الخالد، من مقتضى ماهيته انه يريد الشهود والاشهاد في المرايا، ومن شأن حقيقته أنه يريد الظهور والبروز حتى اتخذ صورة الرحمة والشفقة، لأجل اراءة نفسه ورؤيته في المرايا المختلفة، واتخذ صورة الانعام والاحسان في المرايا ذات المشاعر،ثم تقلّد وضع التحبب والتودّد والتعرف، ثم اعطى النور، نور التجميل، وضياء التزيين الى الكائنات طراً.
ان وجود عشق إلهي شديد ومحبة ربانية قوية لدى مَن لايحصيهم العد من بنى الانسان ولاسيما في طبقته العليا، على الرغم من اختلاف مسالكهم، يشير - بالبداهة - الى جمال لامثيل له بل يشهد له شهادة قاطعة.
نعم! ان مثل هذا العشق يصوب نظره الى مثل هذا الجمال ويقتضيه، وان مثل هذه المحبة تتطلب مثل هذا الحسن. بل ان ما في جميع الموجودات من حمد وثناء عام سواءً بلسان الحال او المقال، انما يتوجه الى ذلك الحسن الازلي ويصعد اليه.
بل ان جميع الانجذابات والاشواق والجاذبات والجواذب الموجودة في الكون كله والحقائق الجذابة انما هي اشارات الى حقيقة جاذبة ابدية ازلية وان دوران الاجرام
الشعاع الرابع - ص: 94
العلوية والسفلية وحركاتها التي تؤديها كالمريد المولوي العاشق الذي ينهض للسماع، انما هو مقابلة ذات عشق في اداء الوظيفة تجاه الظهور المهيمن للجمال المقدس لتلك الحقيقة الجاذبة. كما هو لدى بعض العاشقين امثال شمس التبريزي 1.
النكتة الثالثة:
لقد اجمع اهل التحقيق: ان الوجود خير محض ونور، وان العدم شر محض وظلام واتفق ائمة اهل القلب والعقل على ان جميع الخيرات والحسنات والمحاسن واللذائذ- نتيجة التحليل - ناشئة من الوجود، وان جميع المفاسد والشرور والمصائب والآلام - حتى المعاصي - راجعة الى العدم.
ان قلت:
كيف يكون الوجود منبع جميع المحاسن، وفي الوجود كفر وانانية النفس ؟
الجــواب: اما الكفر، فلانه انكار لحقائق الايمان ونفي لها، فهو عدم. واما وجود الانانية فهو عدم، الاّ أنه اصطبغ بصبغة الوجود واتخذ صورته حيث أنه تصوّر الموهوم حقيقةً واقعة، وتمّلك غيرحقيقي وجهل الانانية كونها مرآة ليس الاّ.
فما دام منبع جميع انواع الجمال هو الوجود ومنبع جميع انواع القبائح هو العدم، فلاشك ان أقوى وجود واعلاه وأسطعه وأبعده عن العدم، هو وجود واجبٍ ازلي وابدي. وهو يتطلب اقوى جمالاً واعلاه وأسطعه وأبعده عن القصور، بل يعبّر عن مثل هذا الجمال، بل يكون هذا الجمال، اذ كما تستلزم الشمس الضياء المحيط بها يستلزم الواجب الوجود جمالاً سرمدياً ايضاً، فينور به.
الحمد لله على نعمة الايمان
(ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)
(سبحانك لاعلم لنا الاّ ما علمتنا انك انت العليم الحكيم)
* * *

_____________________
1 هو شمس الدين بن علي بن ملك داد التبريزي، الصوفي، المتخلص بشمس صاحب جلال الدين الرومي، المتوفي سنة 645هـ. له ديوان شعره، فارسي. (هدية العارفين 2/123 وقاموس الاعلام 4/2872). المترجم.

الشعاع الرابع - ص: 95
ملاحظة:
كان المؤمل أن تكتب تسع مراتب من المراتب النورية الحسبية. الاّ أنه أُجلت حالياً ثلاث مراتب منها بناء على بعض الاسباب.


تنبيه:
ان رسائل النور تفسير للقرآن الكريم، تفسير نابع من القرآن مدعم بالبراهين، لذا فان فيها تكرارات ضرورية مُساقة لحكمة ومصلحة كالتكرارات القرآنية اللطيفة، الحكيمة، الضرورية، والتي لاتُسئم القارئ ابداً.
وكذا لأن رسائل النور هي دلائل كلمة التوحيد التي تكرر باستمرار على الألسنة في ذوق وشوق دون سأم، فان تكراراتها الضرورية لاتعدّ نقصاً فيها، ولاتضجر القارئ ولاينبغي لها أن تضجر.
الشعاع الرابع - ص: 96
الباب الخامس
في مراتب (حَسبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ) 1.
وهو خمس نكت..
النكتة الاولى:
فهذا الكلام دواء مجرب لمرض العجز البشري وسقم الفقر الانساني (حَسبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ)؛ اذ هو الموجد الموجود الباقي فلا بأس بزوال الموجودات لدوام الوجود المحبوب ببقاء موجده الواجب الوجود.
وهو الصانع الفاطر الباقي فلاحُزن على زوال المصنوع لبقاء مدار المحبة في صانعه.
وهو المَلكُ المالكُ الباقي فلا تأسّفَ على زوال المُلك المتجدد في زوال وذهاب.
وهو الشاهدُ العالمُ الباقي فلا تحسّر على غيبوبة المحبوبات من الدنيا لبقائها في دائرة علم شاهدها وفي نظره.
وهو الصاحب الفاطرُ الباقي فلا كدر على زوال المستحسنات لدوام منشأ محاسنها في اسماء فاطرها.
وهو الوارثُ الباعثُ الباقي فلا تلهّف على فراق الاحباب لبقاء من يرثهم ويبعثهم.
وهو الجميلُ الجليلُ الباقي فلا تحزّنَ على زوال الجميلات اللاتي هنَّ مرايا للاسماء الجميلات لبقاء الاسماء بجمالها بعد زوال المرايا.
وهو المعبودُ المحبوبُ الباقي فلا تألّم من زوال المحبوبات المجازية لبقاء المحبوب الحقيقي.

_____________________
1 هذا الباب هو الباب الخامس من اللمعة التاسعة والعشرين العربية أدرجه الاستاذ النورسى هنا من دون الهوامش. فمن شاء فليراجعه كاملاً فى اللمعة المذكورة. - المترجم.

الشعاع الرابع - ص: 97
وهو الرحمنُ الرحيمُ الودودُ الرؤوفُ الباقي فلا غمّ ولامأيوسيةَ ولا اهميةَ من زوال المنعِمين المشفقين الظاهرين لبقاء مَن وسعتْ رحمتُه وشفقتهُ كلّ شئ.
وهو الجميلُ اللطيفُ العطوفُ الباقي فلا حُرقة ولاعبرةَ بزوال اللطيفات المشفقات لبقاء مَن يقوم مقام كلها، ولايقوم الكلُّ مقام تجلٍ واحدٍ من تجلياته، فبقاؤه بهذه الاوصاف يقوم مقام كل ما فني وزال من انواع محبوبات كل احدٍ من الدنيا.
(حَسْـبُنا الله ونِعْمَ الوَكيلُ)
نعم، حسبي من بقاء الدنيا وما فيها بقاءُ مالكها وصانعها وفاطرها.
النكتة الثانية:
حسبي من بقائي أن الله هو إلهيَ الباقي، وخالقيَ الباقي، وموجديَ الباقي، وفاطريَ الباقي، ومالكيَ الباقي، وشاهديَ الباقي، ومعبوديَ الباقي، وباعثيَ الباقي، فلابأس ولا حُزن ولا تأسّفَ ولا تحسر على زوال وجودي لبقاء موجدي، وايجاده باسمائه. ومافي شخصي من صفةٍ إلاّ وهي من شعاع اسمٍ من اسمائه الباقية، فزوالُ تلك الصفة وفناؤها ليس اعداماً لها، لانها موجودةٌ في دائرة العلم وباقيةٌ ومشهودة لخالقها.
وكذا حسبي من البقاء ولذّته علمي واذعاني وشعوري وايماني بأنه إلهي الباقي المتمثل شعاعُ اسمه الباقي في مرآة ماهيتي؛ وما حقيقة ماهيتي الاّ ظلٌ لذلك الاسم. فبسرّ تمثّله في مرآة حقيقتي صارت نفسُ حقيقتي محبوبة ً لا لذاتها بل بسرّ ما فيها وبقاءُ ما تمثل فيها انواعُ بقاءٍ لها.
النكتة الثالثة:
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) اذ هو الواجبُ الوجود الذي ما هذه الموجوداتُ السيالاتُ الاّ مظاهرٌ لتجدّد تجليات ايجاده ووجوده، به وبالانتساب اليه وبمعرفته انوارُ الوجود بلاحدٍ، وبدونه ظلماتُ العَدَمات وآلام الفراقات الغير المحدودات.
وما هذه الموجودات السيالة الاّ وهي مرايا، وهي متجددة بتبدل التعينات الاعتبارية في فنائها وزوالها وبقائها بستة وجوه:
الشعاع الرابع - ص: 98
الاول: بقاءُ معانيها الجميلة وهوياتها المثالية.
والثاني: بقاءُ صورها في الالواح المثالية.
والثالث: بقاءُ ثمراتها الأخروية.
والرابع: بقاءُ تسبيحاتها الربانية المتمثلة لها، التي هي نوع وجودٍ لها.
والخامس: بقاؤها في المشاهد العلمية والمناظر السرمدية.
والسادس: بقاءُ ارواحها ان كانت من ذوي الارواح، وما وظيفتها في كيفياتها المتخالفة في موتها وفنائها وزوالها وعدمها وظهورها وانطفائها الاّ اظهار المقتضيات لاسماءٍ إلهية. فمن سرّ هذه الوظيفة صارت الموجودات كسيلٍ في غاية السرعة تتموّج موتاً وحياة ووجوداً وعدماً. ومن هذه الوظيفة تتظاهر الفعالية الدائمة والخلاّقية المستمرة، فلابد لي ولكل احدٍ أن يقول:
(حَسْـبُنا الله ونِعْمَ الوَكيلُ) يعني حسبي من الوجود انيّ اثر من آثار واجب الوجود. كفاني آن سيال من هذا الوجود المنور المظهر، من ملايين السنة من الوجود المزوّر الأبتر.
نعم بسرّ الانتساب الايماني تقوم دقيقةٌ من الوجود مقامَ اُلوف السنين بلا انتسابٍ ايماني، بل تلك الدقيقة أتم واوسع بمراتب من تلك الالاف سنةً.
وكذا حسبي من الوجود وقيمته أني صنعةُ مَن هو في السماء عظمتُه وفي الارض آياتُه، وخَلقَ السموات والارض في ستة ايام.
وكذا حسبي من الوجود وكماله أني مَصنوعُ مَن زيّنَ ونّورَ السماء بمصابيحَ، وزيّنَ وبهر الارض بازاهير.
وكذا حسبي من الفخر والشرف أني مخلوقٌ ومملوكٌ، وعبدٌ لمن هذه الكائنات بجميع كمالاتها ومحاسنها ظل ضعيفٌ بالنسبة الى كماله وجماله، ومن آيات كماله واشارات جماله.
وكذا حسبي من كل شئ مَن يدخر ما لايعد ولايحصى من نعمه في صنيدقاتٍ لطيفة هي بين (الكاف والنون) فيدّخر بقدرته ملايين القناطير في قبضة واحدة فيها صنيدقات لطيفة تسمى بذوراً ونوىً.
الشعاع الرابع - ص: 99
وكذا حسبي من كل ذي جمال وذي احسان، الجميلُ الرحيمُ الذي ما هذه المصنوعات الجميلات الاّ مرايا متفانية لتجدد انوار جماله بمرّ الفصول والعصور والدهور، وهذه النعم المتواترة والاثمار المتعاقبة في الربيع والصيف مظاهر لتجدد مراتب إنعامه الدائم على مرّ الانام والايام والاعوام.
وكذا حسبي من الحياة وماهيتها أني خريطةٌ وفهرستةٌ وفذلكةٌ وميزانٌ ومقياسٌ لجلواتِ اسماءِ خالقِ الموت والحياة.
وكذا حسبي من الحياة ووظيفتها كوني ككلمةٍ مكتوبةٍ بقلم القدرة، ومُفهمةٍ دالةٍ على اسماء القدير المطلق الحي القيوم بمظهرية حياتي للشؤون الذاتية لفاطري الذي له الاسماء الحسنى.
وكذا حسبي من الحياة وحقوقها اعلاني وتشهيري بين اخواني المخلوقاتِ واعلاني واظهاري لنظر شهود خالق الكائنات بتزيّني بجلواتِ اسماء خالقي الذي زيّنني بمرصّعات حُلَّة وجودي وخِلعة فطرتي وقلادة حياتي المنتظمة التي فيها مزيّنات هدايا رحمته.
وكذا حسبي من حقوق حياتي فهمي لتحيات ذوي الحياة لواهب الحياة وشهودي لها وشهاداتٌ عليها.
وكذا حسبي من حقوق حياتي تبرّجي وتزيني بمرصّعات جواهر إحسانه بشعورٍ ايماني للعرض لنظر شهود سلطاني الازلي.
وكذا حسبي من الحياة ولذّتها علمي واذعاني وشعوري وايماني بأني عبدُه ومصنوعُه ومخلوقُه وفقيرُه ومحتاجٌ اليه، وهو خالقي رحيمٌ بي كريمٌ لطيفٌ مُنعمٌ عليّ يُربيني كما يليق بحكمته ورحمته.
وكذا حسبي من الحياة وقيمتها مقياسيتى بامثال عجزي المطلق وفقري المطلق وضعفي المطلق، لمراتب قدرة القدير المطلق ودرجات رحمة الرحيم المطلق وطبقات قوة القوي المطلق.
وكذا حسبي بمعكسيتى بجزئيات صفاتي من العلم والارادة والقدرة الجزئية لفهم الصفات المحيطة لخالقي. فأفهمُ علمَه المحيط بميزان علمي الجزئي.
الشعاع الرابع - ص: 100
وكذا حسبي من الكمال، علمي بأن إلهي هو الكامل المطلق، فكلُ مافي الكون من الكمال، من ايات كماله اشارات الى كماله.
وكذا حسبي من الكمال في نفسي، الايمان بالله، اذ الايمان للبشر منبعٌ لكل كمالاته.
وكذا حسبي من كل شئ لإنواع حاجاتي المطلوبة بانواع ألسنة جهازاتي المختلفة، إلهي وربي وخالقي ومصوري الذي له الاسماء الحسنى الذي هو يطعمني ويسقيني ويربيني ويدبرني ويكملني جلّ جلاله وعمَّ نواله.
النكتة الرابعة:
حسبي لكل مطالبي مَن فتح صورتي وصورة امثالي من ذوي الحياة في الماء بلطيف صنعه ولطيف قدرته ولطيف حكمته ولطيف ربوبيته.
وكذا حسبي لكل مقاصدي مَن انشأني وشقّ سمعي وبصري، وأدرج في جسمي لساناً وجناناً، واودع فيها وفي جهازاتي موازينَ حساسة لاتعد لوزن مدّخرات انواع خزائن رحمته.
وكذا أدمج في لساني وجناني وفطرتي الآتٍ جساسة لاتحصى لفهم انواع كنوز اسمائه.
وكذا حسبي مَن ادرج في شخصي الصغير الحقير، وادمج في وجودي الضعيف الفقير هذه الاعضاء والالات وهذه الجوارح والجهازات وهذه الحواس والحسيات وهذه اللطائف والمعنويات، لإحساس جميع انواع نعمه ولإذاقة اكثر تجليات اسمائه بجليل الوهيته وجميل رحمته وبكبير ربوبيته وكريم رأفته وبعظيم قدرته ولطيف حكمته.
النكتة الخامسة:
لابدَّ لي ولكل احدٍ ان يقول حالاً وقالاً ومتشكراً ومفتخراً:
حسبي مَن خلقني، واخرجني من ظلمة العدم وأنعمَ عليّ بنور الوجود.
وكذا حسبي مَن جعلني حياً فأنعم عليّ نعمة الحياة التي تعطي لصاحبها كل شئ وتُمد يَد صاحبها الى كل شئ.
الشعاع الرابع - ص: 101
وكذا حسبي مَن جعلني انساناً فأنعم عليّ بنعمة الانسانية التي صيّرت الانسان عالماً.
وكذا حسبي مَن جعلني مؤمناً فأنعم عليّ نعمةَ الايمان الذي يصيرُ الدنيا والآخرة كسُفرتين مملوءتين من النعم يقدّمهما الى المؤمن بيد الايمان.
وكذا حسبي مَن جعلني من امة حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام، فأنعم عليّ بما في الايمان من المحبة والمحبوبية الإلهية، التي هي من أعلى مراتب الكمالات البشرية، وبتلك المحبة الايمانية تمتد ايادي استفادة المؤمن الى ما لايتناهى من مشتملات دائرة الامكان والوجوب.
وكذا حسبي مَن فضّلني جنساً ونوعاً وديناً وايماناً على كثير من مخلوقاته، فلم يجعلني جامداً ولاحيواناً ولاضالاً، فله الحمد وله الشكر.
وكذا حسبي مَن جعلني مظهراً جامعاً لتجليات اسمائه وانعم عليّ بنعمة لاتسعها الكائنات بسرّ حديث: (لايسعني ارضي ولاسمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن) 1 يعني ان الماهية الانسانية مظهر لجميع تجليات الاسماء المتجلية في جميع الكائنات.
وكذا حسبي مَن اشترى ملكَه الذي عندي مني، ليحفظه لي ثم يُعيده اليّ، واعطانا ثمنَه الجنةَ، فله الشكر وله الحمد بعدد ضرب ذرات وجودي في ذرات الكائنات.
حسبي ربي جلّ الله نور محمد صلى الله
لا إله الاّ الله
حسبي ربي جلّ الله سـرّ قلبـــي ذكــر الله
ذكرُ احمد صلى الله
لا إله الاّ الله

_____________________
1 الحديث (ما وسعني سمائي ولا ارضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن). ذكره في الاحياء بلفظ مقارب. قال العراقي في تخريجه: لم ار له أصلاً (كشف الخفاء للعجلوني 2/195 باختصار). وقال السيوطي في الدرر المنتثرة: قلت اخرج الامام احمد في الزهد عن وهب بن منبه: ان اللهفتح السموات لحزقيل حتى نظر الى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما اعظمك يارب! فقال الله : ان السموات والارض ضعفن ان يسعنني ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين» اهـ . قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: وذكرُ جماعةٍ له من الصوفية لا يريدون حقيقة ظاهره من الاتحاد والحلول لأن كلاً منهما كفر، وصالحو الصوفية اعرف الناس بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وانما يريدون بذلك ان قلب المؤمن يسع الايمان بالله ومحبته ومعرفته. ا هـ . - المترجم.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس