مجمع «تتر الحجازية» المعماري تحفة في قلب القاهرة الفاطمية
المرأة وفنون الإسلام تحوَّل إلى سجن على يد أحد ولاة المماليك
مجمع «تتر الحجازية» المعماري تحفة في قلب القاهرة الفاطمية
قبر تتر الحجازية تحت الترميم
أحمد الصاوي (القاهرة) -
تتر الحجازية أميرة مملوكية كانت في غابر الأيام موضع تقدير واحترام كبيرين من عامة المصريين وبخاصة أهل العلم والتصوف لما بذلته من عناية بالعلم وأهله.
وتتر هي حسب المقريزي، المؤرخ المملوكي الشهير “كريمة” الناصر محمد بن قلاوون وحسب مصطلح العصر المملوكي يعني ذلك أنها ابنته، وكانت كما يذكر المؤرخون أقرب بناته إلى قلبه وقد عرفت بالحجازية بعد زواجها من الأمير المملوكي “بكتمر” الحجازي.
وقد شيدت الأميرة تتر قصراً منيفاً بحي الجمالية بالقاهرة في منطقة كانت تعرف في العصر الفاطمي باسم “رحبة باب العيد” لأنها كانت موضع الباب الذي يخرج منه الخليفة الفاطمي من قصره لاستعراض مظاهر الاحتفال بالعيدين من عروض للخيل وألعاب بهلوانية. وشيدت في مقابل قصرها بذات الرحبة التي تعرف اليوم بحارة باب العيد مدرسة وقبة ملحقة بها، وكذلك مكتباً لتعليم أطفال المسلمين من الأيتام مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم.
وللأسف أن تلك المجموعة المعمارية ذهبت جميعها ولم يبق منها سوى القبة والمدرسة، وذلك بسبب أحد رجال عصر المماليك الجراكسة وهو الأمير جمال الدين الأستا دار.
هواية الأمير
فقد كانت لدى هذا الأمير هواية الاستيلاء على أملاك وأوقاف من سبقه كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، وشاءت الأقدار أن يعجب بقصر تتر الحجازية وكان حسب المؤرخين قصراً منيفاً يقوم على بعض قاعات القصر الفاطمي المعروف بقصر الزمرد وقد اعتنت بتعميره وتأنقت في تزيين قاعاته، فأجرت الماء إلى أعلاه وجعلت له إسطبلاً لخيولها وخيول خدامها يشرف على ساحة واسعة أمام القصر. وأوصت الأميرة بأن يوقف القصر على المدرسة بحيث يؤجر للسكن وينفق الريع على وظائف مدرستها المختلفة.
ولما كان القصر الذي تتجاوز مساحته عشرة أفدنة يؤجر للأمراء لقاء مبلغ جزيل فقد رأى الأستادار الاستيلاء عليه، فأخذ يجلس أولاً برحبة هذا القصر والمقعد الذي كان بها نظراً لقربه من سكنه بجوار المدرسة السابقة، وفي خطوة تالية اتخذ الأستادار من قصر الحجازية “سجناً” يحبس فيه من يعاقبه من الوزراء والأعيان، فصار “موحشاً يروع النفوس ذكره لما قتل فيه من الناس خنقاً وتحت العقوبة من بعد ما أقام دهراً وهو مغنى صبابات وملعب أتراب وموطن أفراح ودار عز ومنزل لهو ومحل أماني النفوس ولذاتها”.
تخريب القصر
وبعد أن تخرب القصر طلب الأستادار من القاضي كمال الدين ابن العديم استبداله بوقف آخر بزعم أنه “يضر بالجار والمار”، فكان له ما أراد ودمر القصر ليبيعه أرضاً بعد ذلك. ومن الطريف أنه كان يستخدم مدرسة تتر الحـجازية سجناً لمن ضاقت بهم قاعـات القصر من الذين وقعوا تحت يده من التجار والمباشرين وأراد استصفاء أموالهم وسار على دربه من جاء بعده من الأستادارية لردح من الزمن.
أما المدرسة التي حولها جمال الدين الأستادار إلى سجن فقد بدأت تتر أولا بتشييد قبتها في عام 749هـ / 1347م. لتكون مدفناً لها ثم شيدت المدرسة في عام 761 هـ / 1359م. وشاءت الأقدار أن يدفن بها زوجها بكتمر بعد وفاته.
وجعلت بهذه المدرسة حسبما يقول المقريزي في خططه درساً للفقهاء الشافعية قررت فيه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ ودرسًا للفقهاء المالكية وجعلت بها منبراً يخطب عليه يوم الجمعة ورتبت لها إماماً راتباً يقيم بالناس الصلوات الخمس.
وجعلت بالمدرسة خزانة كتب “مكتبة”، وذلك من أجل طلبة العلم بالمدرسة وأنشأت بها مناراً عالياً من حجارة ليؤذن عليه وجعلت بجوار المدرسة مكتباً للسبيل فيه عدة من أيتام المسلمين ولهم مؤدّب يعلمهم القرآن الكريم ويُجري عليهم في كل يوم لكل منهم من الخبز النقي “الأبيض” خمسة أرغفة ومبلغ من الفلوس، ويقام لكل منهم بكسوتي الشتاء والصيف وهذه الكسوة حسب كتاب الوقف الخاص بها عبارة عن طاقية وثوب يكونان من الصوف شتاء ومن القطن صيفاً.
مرتبات سنية
ورتبت تتر الحجازية لقبتها أو مدفنها قراء يتلون القرآن بالنوبة أناء الليل وأطراف النهار وجعلت لهم مرتبات سنية.
وجعلت على هذه الجهات عدة أوقاف جليلة يُصرف منها لأرباب الوظائف المرتبات الجزيلة وزيادة على ذلك كانت تصرف للطلاب والمدرسين “توسعات” في النفقة تشمل الأطعمة في بعض المناسبات والأعياد. فكان يُفرّق فيهم كل سنة في أيام عيد الفطر الكعك والخشكنانك وبنص وثيقة الوقف “الكعك الخشن والناعم”. وفي عيد الأضحى يوزع اللحم على أرباب الوظائف بالمدرسة والقبة، أما في شهر رمضان فكان يطبخ لهم الطعام حتى عصر المقريزي الذي قال متحسراً “وقد بطل ذلك ولم يبق غير المعلوم في كل شهر وهي من المدارس الكبيرة وعهدي بها محترمة إلى الغاية يجلس عدّة من الطواشية ولا يمكنون أحداً من عبور القبة التي فيها قبر خوند الحجازية إلاّ القراء فقط وقت قراءتهم خاصةً”.
ومما يذكره المؤرخون في معرض تأكيدهم لما كانت تتمتع به المدرسة والقبة من احترام كبيرين أنه “اتفق مرّة أن شخصاً من القرّاء كان في نفسه شيء من أحد رفقائه فأتى إلى كبير الطواشية بهذه القبة وقال له: إن فلانًا دخل اليوم إلى القبة وهو بغير سراويل فغضب الطواشي من هذا القول وعدّ ذلك ذنباً عظيماً وفعلًا محذوراً وطلب ذلك القارئ وأمر به فضُرِبَ بين يديه وصار يقول له: تدخل على خوند بغير سراويل وهمّ بإخراجه من وظيفة القراءة لولا ما حصل من شفاعة الناس فيه وكان لا يلي نظر هذه المدرسة إلاّ الأمراء الأكابر ثم صار يليها الخدّام وغيرهم”.
المدرسة اليوم
وبناء المدرسة اليوم يتألف من إيوانين فقط وذلك بسبب أن “خوند تتر الحجازية” جعلتها لتدريس مذهبين فقط هما المذهب الشافعي والمذهب المالكي ويعتبر إيوان القبلة الأكبر والأحفل زخرفاً وبصدره محراب مجوف على هيئة نصف دائرة وقد كسي بألواح من الرخام المتعدد الألوان اتخذت هيئة أشرطة في القسم الأسفل من المحراب ثم شكل محاريب صغيرة من ألوان مختلفة، أما طاقية المحراب فقد شيدت صنجات عقديها بالرخام الأبيض والأحمر والأسود على هيئة صنجات مزررة تتلاقى جميعها بقلب الطاقية متخذة شكل الخطوط المتكسرة. ويتوج عقد المحراب كوشات بها زخارف من التوريق أو الأرابيسك المنفذ في الرخام أيضاً. ومن أجل الحفاظ على عناصر التوازن في جدار القبلة فقد تم إنشاء شباكين معقودين متماثلين على جانبي المحراب واتخذ كل شباك هيئة المحراب نفسها فاستخدمت أشكال المحاريب لزخرفتها، كما لو كانت امتداداً للمحراب، أما العقود فقد جاءت بصنجات مزررة مماثلة لما بالمحراب بينما بواطن العقود من أشرطة رخامية متعددة الألوان.
ولمدرسة تتر الحجازية منبر خشبي وهو ما يعني أن الخطبة كانت تقام بالمدرسة على الرغم من صغر مساحتها ولعل تتر أرادت أن تعمر المدرسة في أيام الجمعة بالمصلين طلباً لترحمهم عليها. والمنبر من حشوات مجمعة في الريشتين الجانبيتين وقد استعمل في صناعة تلك الحشوات الخشب العزيزي والساج الهندي، واستخدم النوعان أيضاً في عمل قوائم المنبر، بينما استخدم العظم عوضاً عن العاج في تطعيم الحشوات الخشبية سواء في الريشتين أو في المقدم حيث جلسة الخطيب.
قبة تتر
يحيط بالإيوانين والصحن طراز أو شريط من الجص مكتوب به آيات من القرآن الكريم على أرضية من الزخارف النباتية، وينتهي هذا الطراز من أعلاه بحلية على شكل شرافات. وقد غطيت الإيوانات هنا بأقبية طولية لها مقطع مدبب. وللمدرسة مئذنة حجرية كانت من ثلاث دورات، كما هي الحال في المآذن المملوكية في تلك الفترة ومن أسف أن الدورة الثالثة التي كانت تضم شرفة المؤذن سقطت وفقدت كلياً، بينما بقيت الدورتان المثمنتان، وبالأولى منهما شرفة آذان محمولة على صفوف من المقرنصات الحجرية الدقيقة ولا يساورنا شك في أنها بقامتها الرشيقة المهيبة كانت ترى من البعد في إشارة لتلك المدرسة التي تكاد تختفي بين حارات حي الجمالية. وتقع قبة تتر الحجازية في الجانب الشمالي الغربي للمدرسة، ولها باب من داخل المدرسة، وبوسط البناء المربع الأضلاع تركيبة رخامية يتبين من بقايا كتاباتها المسجلة بخط الثلث المملوكي اسم زوجها “بكتمر الحجازي” وألقابه وتاريخ وفاته.