عرض مشاركة واحدة
قديم 03-15-2012
  #5
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم ابن آدم فسلطنة الشيطان أيضاً ساريةفي لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إن الشيطانيجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع". وذلك لأن الجوع يكسرالشهوة ومجرى الشيطان الشهوات. ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه قال اللهتعالى إخباراً عن إبليس "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهمومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم" وقال صلى الله عليه وسلم "إنالشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتترك دينك ودينآبائك? فعصاه وأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر أتدع أرضك وسمائك? فعصاهوهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتلفتنكح نساؤك ويقسم مالك، فعصاه وجاهد" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"فمن فعل ذلك فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" فذكر رسول اللهصلى الله عليه وسلم معنى الوسوسة وهي هذه الخواطر التي تخطر للمجاهد أنه يقتلوتنكح نساؤه وغير ذلك مما يصرفه عن الجهاد وهذه الخواطر معلومة. فإذاً الوسواسمعلوم بالمشاهدة وكل خاطر فله سبب ويفتقر إلى اسم يعرفه فاسم سببه الشيطان ولايتصور أن ينفك عنه آدمي وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته، ولذلك قال عليه السلام"ما من أحد إلا وله شيطان".
فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملكوالشيطان والتوفيق والخذلان فبعد هذا نظر من ينظر في ذات الشيطان أنه جسم لطيف أوليس بجسم. وإن كان جسماً فكيف يدخل بدن الإنسان ما هو جسم? فهذا الآن غير محتاجإليه في علم المعاملة. بل مثال الباحث عن هذا مثال من دخلت في ثيابه حية وهو محتاجإلى إزالتها ودفع ضررها فاشتغل بالبحث عن لونها وشكلها وطولها وعرضها وذلك عينالجهل فمصادمة الخواطر الباعثة على الشر قد علمت ودل ذلك على أنه عن سبب لا محالة،وعلم أن الداعي إلى الشر المحذور في المستقبل عدو فقد عرف العدو لا محالة فينبغيأن يشتغل بمجاهدته وقد عرف الله سبحانه عداوته في مواضع كثيرة من كتابه ليؤمن بهويحترز عنه فقال تعالى "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبهليكونوا من أصحاب السعير" وقال تعالى "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين" فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسهلا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه. نعم ينبغي أن يسأل عن سلاحه ليدفعه عن نفسهوسلاح الشيطان الهوى والشهوات وذلك كاف للعالمين. فأما معرفة ذاته وصفاته وحقيقته- نعوذ بالله منه - وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفاتفلا يحتاج في علم المعاملة إلى معرفته. نعم ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى مايعلم قطعاً أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة. وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخيرفلا يشك في كونه إلهاماً، وإلى ما يتردد فيه فلا يدري أنه من لمة الملك أو من لمةالشيطان? فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير، والتمييز في ذلك غامضوأكثر العباد به يهلكون، فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشر الصريح فيصورالشر بصورة الخير، كما يقول للعالم بطريق الوعظ: أما تنظر إلى الخلق وهم موتى منالجهل هلكى من الغفلة قد أشرفوا على النار? أما لك رحمة على عباد الله تنقذهم منالمعاطب بنصحك ووعظك وقد أنعم الله عليك بقلب بصير ولسان ذلق ولهجة مقبولة? فكيفتكفر نعمة الله وتتعرض لسخطه وتسكت عن إشاعة العلم ودعوة الخلق إلى الصراطالمستقيم? وهو لا يزال يقرر ذلك في نفسه ويستجره بطليف الحيل إلى أن يشتغل بوعظالناس، ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقولله: إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم ولم يهتدوا إلى الحق. ولا يزال يقررذلك عنده وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعززبكثرة الأتباع والعلم والنظر إلى الخلق بعين الاحتقار فيستدرج المسكين بالنصح إلىالهلاك، فيتكلم وهو يظن أن قصده الخير وإنما قصده الجاه والقبول، فيهلك بسبب وهويظن أنه عند الله بمكان وهو من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"إن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم". و "إن الله ليؤيد هذاالدين بالرجل الفاجر ولذلك روي أن إبليس لعنه الله تمثل لعيسى بن مريم صلى اللهعليه وسلم فقال له" قل لا إله إلا الله. فقال: كلمة حق ولا أقولها بقولك. لأنله أيضاً تحت الخير تلبيسات، وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى وبها يهلكالعلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشرولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة.
وسنذكر جملة من مكايد الشيطان في كتاب الغرور في آخر هذا الربع.ولعلنا إن أمهل الزمان صنفنا فيه كتاباً على الخصوص نسميه (تلبيس إبليس) فإنه قدانتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد لا سيما في المذاهب والاعتقادات، حتى لم يبقمن الخيرات إلا رسمها، كل ذلك إذعاناً لتلبيسات الشيطان ومكايده.
فحق على العبد أن يقف عند كل هم يخطر له ليعلم أنه من لمة الملك أولمة الشيطان وأن يمعن النظر فيه بعين البصيرة لا بهوى من الطبع، ولا يطلع عليه إلابنور التقوى والبصيرة وغزارة العلم كما قال تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهمطائف من الشيطان تذكروا" أي رجعوا إلى نور العلم "فإذا هم مبصرون"أي ينكشف لهم الإشكال فأما من لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان بتلبيسهبمتابعة الهوى فيكثر فيه غلطه ويتعجل فيه هلاكه وهو لا يشعر. وفي مثلهم قال سبحانهوتعالى "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" قيل هي أعمال ظنوهاحسنات فإذا هي سيئات. وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع النفس ومكايدالشيطان وذلك فرض عين على كل عبد وقد أهمله الخلق واشتغلوا بعلوم تستجر إليهمالوسواس وتسلط عليهم الشيطان وتنسيهم عداوته وطريق الاحتراز عنه. ولا ينجى من كثرةالوسواس إلا سد أبواب الخواطر. وأبوابها الحواس الخمس وأبوابها من داخل الشهواتوعلائق الدنيا. والخلوة في بيت مظلم تسد باب الحواس. والتجرد عن الأهل والمال يقللمداخل الوسواس من الباطن ويبقى مع ذلك مداخل باطنة في التخيلات الجارية في القلبوذلك لا يدفع إلا بشغل القلب بذكر الله تعالى ثم أنه لا يزال يجاذب القلب وينازعهويلهيه عن ذكر الله تعالى فلا بد من مجاهدته، وهذه مجاهدة لا آخر لها إلا الموت إذلا يتخلص أحد من الشيطان ما دام حياً. نعم قد يقوى بحيث لا ينقاد له ويدفع عن نفسهشره بالجهاد، ولكن لا يستغنى قط عن الجهاد والمدافعة ما دام الدم يجري في بدنه.فإذا ما دام حياً فأبواب الشيطان مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق وهي الشهوة والغضبوالحسد والطمع والشره وغيرها - كما سيأتي شرحها - ومهما كان الباب مفتوحاً والعدوغير غافل لم يدفع إلا بالحراسة والمجاهدة.
قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان? فتبسم وقال: لو ناملاسترحنا. فإذن لا خلاص للمؤمن منه. نعم له سبيل إلى دفعه وتضعيف قوته. قال صلىالله عليه وسلم "إن المؤمن ينضى شيطانه كما ينضى أحدكم بعيره في سفره"وقال ابن مسعود شيطان المؤمن مهزول. وقال قيس بن الحجاج: قال لي شيطاني دخلت فيكوأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور، قلت: ولم ذاك? قال: تذيبني بذكر اللهتعالى. فأهل التقوى لا يتعذر عليهم سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة، أعنيالأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلى المعاصي الظاهرة، وإنما يتعثرون فيطرقه الغامضة فإنهم لا يهتدون إليها فيحرسونها كما أشرنا إليه في غرور العلماءوالوعاظ والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة وباب الملائكة باب واحد،وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة فالعبد فيها كالمسافر الذي يبقىفي بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطريق إلا بعينبصيرة وطلوع شمس مشرقة. والعين البصيرة ههنا هي القلب المصفى بالتقوى. والشمسالمشرقة هو العلم الغزير المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليهوسلم مما يهدي إلى غوامض طرقه، وإلا فطرقه كثيرة وغامضة. قال عبد الله بن مسعودرضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطا وقال "هذا سبيلالله" ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ثم قال "هذه سبل على كل سبيلمنها شيطان يدعو إليه" ثم تلا "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل" لتلك الخطوط فبين صلى الله عليه وسلم كثرة طرقه.
وقد ذكرنا مثالاً للطريق الغامض من طرقه وهو الذي يخدع له العلماءوالعباد المالكين لشهواتهم الكافين عن المعاصي الظاهرة، فلنذكر مثالاً لطريقهالواضح الذي لا يخفى إلا أن يضطر الآدمي إلى سلوكه. وذلك كما روي عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال "كان راهب في بني إسرائيل فعمد الشيطان إلى جاريةفخنقها وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب، فأتوا بها إليه فأبى أن يقبلهافلم يزالوا به حتى قبلها، فلما كانت عنده ليعالجها أتاه الشيطان فزين له مقاربتهاولم يزل به حتى واقعها فحملت منه، فوسوس إليه وقال: الآن تفتضح يأتيك أهلهافاقتلها فإن سألوك فقل ماتت، فقتلها ودفنها، فأتي الشيطان أهلها فوسوس إليهم وألقىفي قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها ودفنها، فأتاه أهلها فسألوه عنها فقال: ماتت،فأخذوه ليقتلوه بها فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي خنقتها وأنا الذي ألقيت في قلوبأهلها فأطعني تنج وأخلصك منهم قال: بماذا? قال: اسجد لي سجدتين؛ فسجد له سجدتينفقال له الشيطان: إني بريء منك. فهو الذي قال الله تعالى فيه "كمثل الشيطانإذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك" فانظر الآن إلى حيلهواضطراره الراهب إلى هذه الكبائر، وكل ذلك لطاعته له في قبول الجارية للمعالجة وهوأمر هين وربما يظن صاحبه أنه خير وحسنة فيحسن ذلك في قلبه بخفي الهوى فيقدم عليهكالراغب في الخير فيخرج الأمر بعد ذلك عن اختياره ويجره البعض إلى البعض بحيث لايجد محيصاً: فنعوذ بالله من تضييع أوائل الأمور وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليهوسلم "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
بيانتفصيل مداخل الشيطان إلى القلب اعلم أن مثال القلب مثال حصن والشيطان عدو يريد أنيدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسةأبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه،فحماية القلب عن وسواس الشيطان واجبة وهو فرض عين على كل عبد مكلف، وما لا يتوصل إلىالواجب إلا به فهو أيضاً واجب، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله فصارتمعرفة مداخله واجبة. ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد وهي كثيرة، ولكنا نشير إلىالأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان.
فمن أبوابه العظيمة: الغضب والشهوة؛ فإن الغضب هو غول العقل وإذاضعفت جند العقل هجم جند الشيطان. ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبيبالكرة. فقد روي أن موسى عليه السلام لقيه إبليس فقال له: يا موسى أنت الذي اصطفاكالله برسالته وكلمك وأنا خلق من خلق الله أذنبت وأريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أنيتوب علي، فقال موسى: نعم، فلما صعد موسى الجبل وكلم ربه عز وجل وأراد النزول قالله ربه: أد الأمانة، فقال موسى: يا رب عبدك إبليس يريد أن تتوب عليه، فأوحى اللهتعالى إلى موسى: يا موسى قد قضيت حاجتك مرة أن يسجد لقبر آدم حتى يتاب عليه، فلقيموسى إبليس فقال له: قد قضيت حاجتك أمرت أن تسجد لقبر آدم حتى يتاب عليك، فغضبواستكبر وقال: لم أسجد له حياً أسجد له ميتاً? ثم قال له: يا موسى إن لك علي حقاًبما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن: اذكرني حين تغضب فإن روحي فيقلبك وعيني في عينك وأجري منك مجرى الدم؛ اذكرني إذا غضبت فإنه إذا غضب الإنساننفخت في أنفه فما يدري ما يصنع، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقىالزحف فأذكره زوجته وولده وأهله حتى يولى، وإياك أن تجلس إلى امرأة ليست بذات محرمفإني رسولها إليك ورسولك إليها فلا أزل حتى أفتنك بها وأفتنها بك. فقد أشار بهذاإلى الشهوة والغضب والحرص فإن الفرار من الزحف حرص على الدنيا، وامتناعه من السجودلآدم ميتاً هو الحسد وهو أعظم مداخله وقد ذكر أن بعض الأولياء قال لإبليس: أرنيكيف تغلب ابن آدم? فقال: آخذه عند الغضب وعند الهوى، فقد حكي أن إبليس ظهر لراهبفقال له الراهب: أي أخلاق بني آدم أعون لك? قال: الحدة فإن العبد إذا كان حديداًقلبناه كما يقلب الصبيان الكرة: وقيل: إن الشيطان يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذارضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه?
ومن أبوابه العظيمة الحسد والحرص فمهما كان العبد حريصاً على كلشيء أعماه حرصه وأصمه إذ قال صلى الله عليه وسلم "حبك للشي يعمي ويصم ونورالبصيرة هو الذي يعرف مداخل الشيطان فإذا غطاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجدالشيطان فرصة فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته وإن كان منكراً وفاحشاً. فقدروي أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة حمل فيها من كل زوجين اثنين كما أمرهالله تعالى، فرأى في السفينة شيخاً لم يعرفه فقال له نوح: ما أدخلك? فقال: دخلتلأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك، فقال له نوح: أخرج منها يا عدوالله فإنك لعين، فقال له إبليس: خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث ولا أحدثكباثنتين، فأوحى الله تعالى إلى نوح: أنه لا حاجة لك بالثلاث فليحدثك بالاثنتين،فقال له نوح: ما الاثنتان? فقال: هما اللتان لا تكذباني هما اللتان لا تخلفانيبهما أهلك الناس؛ الحرص والحسد، فبالحسد لعنت وجعلت شيطاناً رجيماً، وأما الحرصفإنه أبيح لآدم الجنة كلها إلا الشجرة فأصبت حاجتي منه بالحرص.
ومن أبوابه العظيمة: الشبع من الطعام وإن كان حلالاً صافياً؛ فإنالشبع يقوي الشهوات والشهوات أسلحة الشيطان. فقد روي أن إبليس ظهر ليحيى بن زكرياعليهما السلام فرأى عليه معاليق من كل شيء فقال له: يا إبليس ما هذه المعاليق?قال: هذه الشهوات التي أصبت بها ابن آدم فقال: فهل فيها من شيء? قال: ربما شبعتفثقلناك عن الصلاة وعن الذكر، قال: فهل غير ذلك? قال: لا" قال لله على أن لاأملأ بطني من الطعام أبداً، فقال له إبليس: والله على أن لا أنصح مسلماً أبداً.ويقال في كثرة الأكل ست خصال مذمومة؛ أولها: أن يذهب خوف الله من قلبه. الثاني: أنيذهب رحمة الخلق من قلبه لأنه يظن أنهم كلهم شباع. والثالث: أنه يثقل عن الطاعة.والرابع: أنه إذا سمع كلام الحكمة لا يجد له رقة، والخامس: أنه إذا تكلم بالموعظةوالحكمة لا يقع في قلوب الناس. والسادس: أن يهيج فيه الأمراض.
ومن أبوابه: حب التزين من الأثاث والثياب والدار، فإن الشيطان إذارأى ذلك غالباً على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الداروتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها ويدعوه إلى التزين بالثياب والدوابويستسخره فيها طول عمره، وإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانية، فإنبعض ذلك يجره إلى البعض فلا يزال يؤديه من شيء إلى شيء إلى أن يساق إليه أجلهفيموت وهو في سبيل الشيطان واتباع الوى ويخشى من ذلك سوء العاقبة بالكفر نعوذبالله منه.
ومن أبوابه العظيمة: الطمع في الناس: لأنه إذا غلب الطمع على القلبلم يزل الشيطان يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس حتىالمطموع فيه كأنه معبوده فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه ويدخل كلمدخل للوصول إلى ذلك. وأقل أحواله الثناء عليه بما ليس فيه والمداهنة له بتركالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد روى صفوان بن سليم أن إبليس تمثل لعبد اللهبن حنظلة فقال له: يا ابن حنظلة احفظ عني شيئاً أعلمك به فقال: لا حاجة لي به:قال: انظر فإن كان خيراً أخذت وإن كان شراً رددت، يا ابن حنظلة لا تسأل أحداً غيرالله سؤال رغبة? وانظر كيف تكون إذا غضبت? فإني أملكك إذا غضبت.
ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، وقال صلى اللهعليه وسلم "العجلة من الشيطان والتأني من الله تعالى وقال عز وجل "خلقالإنسان من عجل" وقال تعالى "وكان الإنسان عجولاً" وقال لنبيه صلىالله عليه وسلم "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه" وهذا لأنالأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة، والتبصرة تحتاج إلى تأمل وتمهل،والعجلة تمنع من ذلك، وعند الاستعجال يروج الشيطان شره على الإنسان من حيث لا يدري.فقد روي أنه لما ولد عيسى بن مريم عليه السلام أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحتالأصنام قد نكست رؤوسها فقال هذا حادث، مكانكم فطار حتى أتي خافقي الأرض فلم يجدشيئاً، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد وإذا الملائكة حافين به، فرجع إليهم فقال:إن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا حاضرها إلا هذا،فأيسوا من أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلةوالخفة.
ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال منالعروض والدواب والعقار؛ فإن كل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان،فإن من معه قوته فهو فارغ القلب. فلو وجد مائة دينار مثلاً على طريق انبعث من قلبهشهوات تحتاج كل شهوة منها إلى مائة دينار أخرى فلا يكفيه ما وجد بل يحتاج إلىتسعمائة أخرى، وقد كان قيل قبل وجود المائة مستغنياً، فالآن لما وجد مائة ظن أنه صاربها غنياً وقد صار محتاجاً إلى تسعمائة ليشتري داراً يعمرها وليشتري جارية وليشتريأثاثاً ويشتري الثياب الفاخرة، وكل شيء من ذلك يستدعي شيئاً آخر يليق به. وذلك لاآخر له فيقع في هاوية آخرها عمق جهنم فلا آخر لها سواء. قال ثابت البناني لما بعثرسول الله صلى الله عليه وسلم قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هوفانطلقوا حتى أعيوا ثم جاءوا وقالوا ما ندري? قال: أنا آتيكم بالخبر فذهب ثم جاءوقال: قد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قال: فجعل يرسل شياطينه إلى أصحابالنبي صلى الله عليه وسلم فينصرفون خائبين ويقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاءنصيب منهم ثم يقومون إلى صلاتهم فيمحى ذلك، فقال لهم إبليس: رويداً بهم عسى اللهأن يفتح لهم الدنيا فنصيب منهم حاجتنا. وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام توسديوماً حجراً فمر به إبليس فقال: يا عيسى رغبت في الدنيا? فأخذه عيسى صلى الله عليهوسلم فرمى به من تحت رأسه وقال: هذا لك مع الدنيا وعلى الحقيقة من يملك حجراًيتوسد به عند النوم فقد ملك من الدنيا ما يمكن أن يكون عدة للشيطان عليه. فإنالقائم بالليل مثلاً للصلاة مهما كان بالقرب منه حجر، يمكن أن يتوسده? ولا تتحركرغبته إلى النوم. هذا في حجر فكيف بمن يملك المخاد الميثرة والفرش الوطيئةوالمنتزهات الطيبة فمتى ينشط لعبادة الله تعالى? ومن أبوابه العظيمة: البخل وخوفالفقر؛ فإن ذلك هو الذي يمنع الإنفاق والتصدق ويدعو إلى الإدخار والكنز والعذابالأليم وهو الموعود للمكاثرين كما نطق به القرآن العزيز. قال خيثمة بن عبد الرحمن:إن الشيطان يقول: ما غلبني ابن غلبة فلن يغلبني على ثلاث؛ أن يأخذ المال من غيرحقه، وإنفاقه في غير حقه، ومنعه من غير حقه. وقال سفيان: ليس للشيطان سلاح مثل خوفالفقر فإذا قبل ذلك منه أخذ في الباطل ومنع من الحق وتكلم بالهوى وظن بربه ظنالسوء.
ومن آفات البخل الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال، والأسواق هيمعشش الشياطين. وقال أبو إمامة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنإبليس لما نزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيماً فاجعل ليبيتاً قال الحمام، قال: اجعل لي مجلساً قال الأسواق ومجامع الطرق، قال: اجعل ليطعاماً قال طعامك ما يذكر اسم الله عليه، قال: اجعل لي شراباً قال كل مسكر، قال:اجعل لي مؤذناً قال المزامير، قال: اجعل لي قرآناً قال الشعر، قال: اجعل لي كتاباًقال الوشم، قال: اجعل لي حديثاً قال الكذب، قال: اجعل لي مصايد قال النساء".
ومن أبوابه العظيمة: التوصل: التعصب للمذاهب والأهواء والحقد علىالخصوم والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار، وذلك مما يهلك العباد والفساقجميعاً فإن الطعن في الناس والاشتغال بذكر نقصهم صفة مجبولة في الطبع من الصفاتالسبعية، فإذا خيل إليه الشيطان أن ذلك هو الحق وكان موافقاً لطبعه غلبت حلاوتهعلى قلبه فاشتغل به بكل همته، وهو بذلك فرحان مسرور يظن أنه يسعى في الدين وهو ساعفي اتباع الشياطين، فترى الواحد منهم يتعصب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو آكلالحرام ومطلق اللسان بالفضول والكذب ومتعاط لأنواع الفساد ولو رآه أبو بكر لكانأول عدو له إذ موالي أبي بكر من أخذ سبيله وسار بسيرته وحفظ ما بين لحييه، وكان منسيرته رضي الله عنه أن يضع حصاة في فمه ليكف لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه فأنىلهذا الفضولي أن يدعي ولاءه وحبه ولا يسير بسيرته? وترى فضولياً آخر يتعصب لعليرضي الله عنه وكان من زهد علي وسيرته أنه لبس في خلافته ثوباً اشتراه بثلاثة دراهموقطع رأس الكمين إلى الرسغ، ونرى الفاسق لابساً الثياب الحرير ومتجملاً بأموالاكتسبها من حرام وهو يتعاطى حب علي رضي الله عنه ويدعيه وهو أول خصمائه يوم القيامة،وليت شعري من أخذ ولداً عزيزاً لإنسان هو قرة عينه وحياة قلبه فأخذ يضربه ويمزقهوينتف شعره ويقطعه بالمقراض وهو مع ذلك يدعي حب أبيه وولاءه فكيف يكون حاله عنده?ومعلوم أن الدين والشرع كانا أحب إلا أبي بكر وعمر وعثمان وعلى سائر الصحابة رضيالله عنهم، من الأهل والولد بل من أنفسهم والمقتحمون لمعاصي الشرع هم الذين يمزقونالشرع ويقطعونه بمقاريض الشهوات ويتوددون به إلى عدو الله إبليس وعدو أوليائه فترىكيف يكون حالهم يوم القيامة عند الصحابة وعند أولياء الله تعالى? لا بل لو كشفالغطاء وعرف هؤلاء ما تحبه الصحابة في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستحيواأن يجروا على اللسان ذكرهم مع قبح أفعالهم? ثم إن الشيطان يخيل إليهم أن من ماتمحباً لأبي بكر وعمر فالنار لا تحوم حوله، ويخيل إلى الآخر أنه إذا مات محباً لعليلم يكن عليه خوف وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لفاطمة رضي الله عنها وهيبضعة منه اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً وهذا مثال أوردناه من جملةالأهواء. وهكذا حكم المتعصبين للشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من الأئمةفكل من ادعى مذهب إمام وهو ليس يسير بسيرته فذلك الإمام هو خصمه يوم القيامة إذ يقولله: كان مذهبي العمل دون الحديث باللسان، وكان الحديث باللسان لأجل العمل لا لأجلالهذيان؛ فما بالك خالفتني في العمل والسيرة التي هي مذهبي ومسلكي الذي سلكتهوذهبت فيه إلى الله تعالى ثم ادعيت مذهبي كاذباً? وهذا مدخل عظيم من مداخل الشيطانقد أهلك به أكثر العالم، وقد سلمت المدارس لأقوام قل من الله خوفهم وضعفت في الدينبصيرتهم وقويت في الدنيا رغبتهم واشتد على الاستتباع حرصهم ولم يتمكنوا منالاستتباع وإقامة الجاه إلا بالتعصب، فحبسوا ذلك في صدورهم ولم ينبهوهم على مكايدالشيطان فيه، بل نابوا عن الشيطان في تنفيذ مكيدته فاستمر الناس عليه ونسوا أماتدينهم فقد هلكوا وأهلكوا فالله تعالى يتوب علينا وعليهم، وقال الحسن: بلغنا أنإبليس قال: سولت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المعاصي فقصموا ظهري بالاستغفارفسولت لهم ذنوباً لا يستغفرون الله تعالى منها وهي الأهواء. وقد صدق الملعون فإنهملا يعلمون أن ذلك من الأسباب التي تجر إلى المعاصي فكيف يستغفرون منها?.
ومن عظيم حيل الشيطان أن يشغل الإنسان عن نفسه بالاختلافات الواقعةبين الناس في المذاهب والخصومات قال عبد الله بن مسعود: جلس قوم يذكرون الله تعالىفأتاهم الشيطان ليقيمهم عن مجلسهم ويفرق بينهم فلم يستطع، فأتى رفقة أخرى يتحدثونبحديث الدنيا فأفسد بينهم فقاموا يقتتلون - وليس إياهم يريد- فقام الذين يذكرونالله تعالى فاشتغلوا بهم يفصلون بينهم فتفرقوا عن مجسلهم، وذلك مراد الشيطان منهم.
ومن أبوابه حمل العوام الذين لم يمارسوا العلم ولم يتبحروا فيه علىالتفكير في ذات الله تعالى وصفاته، وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يشككهم فيأصل الدين، أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات يتعالى الله عنها يصير أحدهم بهاكافراً أو مبتدعاً وهو به فرح مسرور مبتهج بما وقع في صدره، يظن ذلك هو المعرفةوالبصيرة وأنه انكشف له ذلك بذكائه وزيادة عقله فأشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداًفي عقل نفسه وأثبت الناس عقلاً أشدهم اتهاماً لنفسه وأكثرهم سؤالاً من العلماء.قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطانيأتي أحدكم فيقول من خلقك? فيقول الله تبارك وتعالى فيقول فمن خلق الله? فإذا وجدأحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه والنبي صلى الله عليه وسلم لميأمر بالبحث في علاج هذا الوسواس فإن هذا وسواس يجده عوام الناس دون العلماء وإنماحق العوام أن يؤمنوا ويسلموا ويشتغلوا بعبادتهم ومعايشهم ويتركوا العلم للعلماءفالعامي لو يزني ويسرق كان خيراً له من أن يتكلم في العلم فإنه من تكلم في اللهوفي دينه من غير إتقان العالم وقع في الكفر من حيث لا يدري، كمن يركب لجة البحروهو لا يعرف السباحة ومكايد الشيطان فيما يتعلق بالعقائد، والمذاهب لا تحصر وإنماأردنا بما أرودناه المثال.
ومن أبوابه سوء الظن بالمسلمين قال الله تعالى "يا أيها الذينآمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" فمن يحكم بشر على غيره بالظنبعثه الشيطان على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك أو يقصر في القيام بحقوقه أويتوانى في إكرامه وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيراً منه. وكل ذلك منالمهلكات ولأجل ذلك منع الشرع من التعرض للتهم فقال صلى الله عليه وسلم"اتقوا مواضع التهم" حتى احترز هو صلى الله عليه وسلم من ذلك. روي عنعلي بن حسين أن صفية بنت حي بن أخطب أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كانمعتكفاً في المسجد قالت: فأتيته فتحدثت عنده فلما أمسيت انصرفت فقام يمشي معي فمربه رجلان من الأنصار فسلما ثم انصرفا فناداهما وقال "إنها صفية بنت حي"فقالا يا رسول الله ما نظن بك إلا خيراً، فقال "إن الشيطان يجري من ابن آدممجرى الدم من الجسد وإني خشيت أن يدخل عليكما فانظر كيف أشفق صلى الله عليه وسلمعلى دينهما فحرسهما? وكيف أشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التهمة حتى لايتساهل العالم الورع المعروف بالدين في أحواله? فيقول: مثل لا يظن به إلا الخيرإعجابا منه بنفسه. فإن أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعينواحدة، بل بعين الرضا بعضهم وبعين السخط بعضهم ولذلك قال الشاعر: وعين الرضا عن كلعيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
فيجب الاحتراز عن ظن السوء وعن تهمة الأشرار فإن الأشرار لا يظنونبالناس كلهم إلا الشر. فمهما رأيت إنساناً يسيء الظن بالناس طالباً للعيوب فاعلمأنه خبيث الباطن وأن ذلك خبثه يترشح منه، وإنما رأى غيره من حيث هو فإن المؤمنيطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق. فهذهبعض مداخل الشيطان إلى القلب ولو أردت استقصاء جميعها لم أقدر عليه وفي هذا القدرما ينبه على غيره فليس في الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح الشيطان ومدخل من مداخله.
فإن قلت: فما العلاج في دفع الشيطان وهل يكفي في ذلك ذكر اللهتعالى وقول الإنسان لا حول ولا قوة إلا بالله فاعلم أن علاج القلب في ذلك سد هذهالمداخل بتطهير القلب من هذه الصفات المذمومة وذلك مما يطول ذكره. وغرضنا في هذاالربع من الكتاب بيان علاج الصفات المهلكات وتحتاج كل صفة إلى كتاب منفرد على ماسيأتي شرحه - نعم إذا قطعت من القلب أصول هذه الصفات كان للشيطان بالقلب اجتيازاتوخطرات ولم يكن له استقرار ويمنعه من الاجتياز ذكر الله تعالى لأن حقيقة الذكر لاتتمكن من القلب إلا بعد عمارة القلب بالتقوى وتطهيره من الصفات المذمومة، وإلافيكون الذكر حديث نفس لا سلطان له على القلب فلا يدفع سلطان الشيطان. ولذلك قالالله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هممبصرون" خصص بذلك المتقي فمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك فإن لم يكن بينيديك خبز أو لحم فإنه ينزجر بأن تقول له: اخسأ، فمجرد الصوت يدفعه. فإن كان بينيديك لحم وهو جائع فإنه يهجم على اللحم ولا يندفع بمجرد الكلام، فالقلب الخالي عنقوت الشيطان ينزجر عنه بمجرد الذكر، فأما الشهوة إذا غلبت على القلب دفعت حقيقةالذكر إلى حواشي القلب فلم يتمكن من سويدائه فيستقر الشيطان في سويداء القلب. وأماقلوب المتقين الخالية من الهوى والصفات المذمومة فإنه يطرقها الشيطان لا للشهواتبل لخلوها بالغفلة عن الذكر، فإذا عاد إلى الذكر خنس الشيطان ودليل ذلك قوله تعالى"فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" وسائر الأخبار والآيات الواردة فيالذكر.
قال أبو هريرة: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر فإذا شيطانالكافر دهين سمين كاس وشيطان المؤمن مهزول أشعث أغبر عار، فقال شيطان الكافرلشيطان المؤمن: مالك مهزول? قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى الله فأظل جائعاً وإذاشرب سمى الله فأظل عطشاناً، وإذا لبس سمى الله فأظل عريانا، وإذا ادهن سمى اللهفأظل شعثاً، فقال: لكني مع رجل لا يفعل شيئاً من ذلك فأنا أشاركه في طعامه وشرابهولباسه. وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: اللهم إنك سلطت عليناعدواً بصيراً بعيوننا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم اللهم فآيسه منا كما آيستهمن رحمتك وقنطه منا كما قنطته من عفوك وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبينرحمتك إنك على كل شيء قدير. قال: فتمثل له إبليس يوماً في طريق المسجد فقال له: ياابن واسع هل تعرفني? قال: ومن أنت? قال: أنا إبليس، فقال: وما تريد? قال: أريد أنلا تعلم أحد هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك، قال: والله لا أمنعها ممن أراد فاصنع ماشئت. وعن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: كان شيطان يأتي النبي صلى الله عليه وسلمبيده شعلة من نار فيقوم بين يديه وهو يصلي فيقرأ ويتعوذ فلا يذهب، فأتاه جبرائيلعليه السلام فقال له: قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر منشر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن فتن الليلوالنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. فقال ذلك فطفئتشعلته وخر على وجهه وقال الحسن. نبئت أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى اللهعليه وسلم فقال: إن عفريتاً من الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيوقال صلى الله عليه وسلم "أتاني الشيطان فنازعني ثم نازعني فأخذت بحلقهفوالذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد ماء لسانه على يدي ولولا دعوة أخيسليمان عليه السلام لأصبح طريحا في المسجد" وقال صلى الله عليه وسلم "ماسلك عمر فجا إلا سلك الشيطان فجا غير الذي سلكه عمر وهذا لأن القلوب كانت مطهرة عنمرعى الشيطان وقوته وهي الشهوات فمهما طمعت في أن يندفع الشيطان عنك بمجرد الذكركما اندفع عن عمر رضي الله عنه كان محالاً، وكنت كمن يطمع أن يشرب دواء قبلالاحتماء والمعدة مشغولة بغليظ الأطعمة، ويطمع أن ينفعه كما نفع الذي شربه بعدالاحتماء وتخلية المعدة، والذكر الدواء والتقوى احتماء وهي تخلي القلب عن الشهوات.فإذا نزل الذكر قلباً فارغاً عن غير الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزولالدواء في المعدة الخالية عن الأطعمة. قال الله تعالى "إن في ذلك لذكرى لمنكان له قلب" وقال تعالى "كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلىعذاب السعير" ومن ساعد الشيطان بعمله فهو مواليه وإن ذكر الله بلسانه. وإنكنت تقول الحديث قد ورد مطلقاً بأن الذكر يطرد الشيطان ولم تفهم أن أكثر عموماتالشرع مخصوصة بشروط نقلها علماء الدين فانظر إلى نفسك، فليس الخبر كالعيان، وتأملأن منتهى ذكرك وعبادتك الصلاة؛ فراقب قلبك إذا كنت في صلاتك كيف يجاذبه الشيطانإلى الأسواق وحساب العالمين وجواب المعاندين وكيف يمر بك في أودية الدنيا ومهالكهاحتى إنك لا تذكر ما قد نسيته من فضول الدنيا إلا في صلاتك ولا يزدحم الشيطان علىقلبك إلا إذا صليت? فالصلاة محك القلوب فيها يظهر محاسنها ومساويها ؛ فالصلاة لاتقبل من القلوب المشحونة بشهوات الدنيا فلا جرم لا ينطرد عنك الشيطان بل ربما يزيدعليك الوسواس، كما أن الدواء قبل الاحتماء ربما يزيد عليك الضرر، فإن أردت الخلاصمن الشيطان فقدم الاحتماء بالتقوى ثم أردفه بدواء الذكر يفر الشيطان منك كما فر منعمر رضي الله عنه. ولذلك قال وهب بن منبه: اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنتصديقه في السر؛ أي أنت مطيع له. وقال بعضهم: يا عجبا لمن يعصى المحسن بعد معرفتهبإحسانه ويطيع اللعين بعد معرفته بطغيانه. وكما أن الله تعالى قال "ادعونيأستجب لكم" وأنت تدعوه ولا يستجيب لك فكذلك تذكر الله ولا يهرب الشيطان منكلفقد شروط الذكر والدعاء.
قيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا وقد قال تعالى"ادعوني أستجب لكم"? قال: لأن قلوبكم ميتة، قيل وما الذي أماتها? قال:ثمان خصال؛ عرفتم حق الله ولم تقوموا بحقه، وقرأتم القرآن ولم تعملوا بحدوده،وقلتم نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعملوا بسنته، وقلتم نخشى الموت ولمتستعدوا له، وقال تعالى "إن الشيطان لكم عدواً فاتخذوه عدواً" فواطأتموهعلى المعاصي، وقلتم نخاف النار وأرهقتم أبدانكم فيها، وقلتم نحب الجنة ولم تعملوالها، وإذا قمتم من فرشكم رميتم عيوبكم وراء ظهوركم وافترشتم عيوب الناس أمامكمفأسخطتم ربكم، فكيف يستجيب لكم? فإن قلت فالداعي إلى المعاصي المختلفة شيطان واحدأو شياطين مختلفون? فاعلم أنه لا حاجة لك إلى معرفة ذلك في المعاملة فاشتغل بدفعالعدو ولا تسأل عن صفته. كل البقل من حيث يؤتى ولا تسأل عن المبقلة، ولكن الذييتضح بنور الاستبصار في شواهد الأخبار: أنهم جنود مجندة وأن لكل نوع من المعاصيشيطاناً يخصه ويدعو إليه فأما طريق الاستبصار فذكره يطول ويكفيك القدر الذي ذكرناهوهو أن اختلاف المسببات يدل على اختلاف الأسباب كما ذكرناه في نور النار وسوادالدخان.
وأما الأخبار فقد قال مجاهد: لإبليس خمسة من الأولاد قد جعل كلواحد منهم على شيء من أمره: ثبر والأعور ومبسوط وداسم وزلنبور. فأما ثبر: فهو صاحبالمصائب الذي يأمر بالثبور وشق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية. وأما الأعور:فإنه صاحب الزنا يأمر به ويزينه. وأما مبسوط: فهو صاحب الكذب. وأما داسم: فإنهيدخل مع الرجل إلى أهله يرميهم بالعيب عنده ويغضبه عليهم وأما زلنبور: فهو صاحبالسوق فبسببه لا يزالون متظلمين. وشيطان الصلاة يسمى خنزب وشيطان الوضوء يسمىالولهان وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة.
وكما أن الشياطين فيهم كثرة فكذلك في الملائكة. وقدذكرنا في كتاب الشكر السر في كثرة الملائكة واختصاص كل واحد منهم بعمل منفرد به،وقد قال أبو أمامة الباهلي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكل بالمؤمنمائة وستون ملكاً يذبون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك؛ للبصر سبعة أملاك يذبون عنهكما يذب الذباب عن قصعة العسل في اليوم الصائف، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كلسهل وجبل كل باسط يده فاغر فاه، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفتهالشياطين
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس