العراق لايزال يدفع ثمن جريمة الحرب الأمريكية
إعداد: صباح كنعان لاتزال مدينتا الفلوجة والبصرة العراقيتان تعانيان بصورة مأساوية نتيجة للحرب الأمريكية، وقد نشرت حديثاً دراسات إضافية حول تطورات مشكلة تشوهات ووفيات المواليد نتيجة القنابل والمواد الملوثة والسمية التي استخدمتها قوات الاحتلال ضد السكان المدنيين .
في موقع “فورين بوليسي«، كتب رئيس التحرير المساعد ديفيد كينر مقالاً بعنوان “أصغر ضحايا الحرب في العراق«، قال فيه: رحل الجيش الأمريكي عن العراق قبل 10 أشهر، ولكن دراسة حديثة العهد تشير إلى أن حربه الطويلة في هذا البلد لا تزال تحصد ضحايا بين الأطفال العراقيين .
وفي سبتمبر/ أيلول، نشرت “مجلة التلوث البيئي وعلم السموم”دراسة بعنوان “التلوث المعدني ووباء التشوهات الخلقية في المدن العراقية”. وهذه الدراسة، التي موّلها قسم التوليد وطب النساء في جامعة ميتشيغان، بحثت في مشكلة تفشي التشوهات الخلقية في مدينتي الفلوجة والبصرة، اللتين عانتا قتالاً عنيفاً خلال أسوأ أيام الحرب في العراق . وكما سبق أن سجل البروفيسور الأمريكي ديفيد ايزنبيرغ، فإن الدراسة الجديدة وجدت زيادة “مذهلة”في عدد حالات التشوهات الخلقية في مستشفى أمومة بمدينة البصرة، مقارنة مع عدد هذه الحالات قبل الحرب .
ومن أكتوبر/ تشرين الأول 1994 وحتى أكتوبر/ تشرين الأول ،1995 سجلت في مستشفى الأمومة في البصرة 1،37 حالة تشوه خلقي بين كل 1000 ولادة . وفي العام ،2003 عام بداية الحرب، قفز عدد التشوهات الخلقية إلى 23 حالة بين كل 1000 ولادة - أي بزيادة بلغت 17 ضعفاً . ثم تضاعف عدد حالات التشوه الخلقي مرة أخرى . ففي العام ،2009 شهد مستشفى الأمومة قفزة مريعة بتسجيله 48 حالة تشوه خلقي بين كل 1000 ولادة . وفي العام ،2011 وهو آخر عام توافرت فيه معطيات، سجلت 37 حالة تشوه خلقي بين كل 1000 ولادة .
وهذه الأرقام تفوق بكثير معدلات التشوهات الخلقية في أماكن أخرى من العالم . ففي ولاية كاليفورنيا الأمريكية، تسجل 0،6 حالة استسقاء دماغي بين كل 1000 ولادة . أما في البصرة، فإن الحالات المسجلة تزيد بستة أضعاف . وفي الولايات المتحدة، تسجل حالات تشوه الأنبوب العصبي، والدماغ، والحبل الشوكي، بمعدل حالة واحدة بين كل 1000 ولادة، مقارنة مع 12 حالة بين كل 1000 ولادة في البصرة . وهذا “أعلى معدل سجل يوماً”.
فما هو سبب هذه الزيادات المستفحلة في التشوهات الخلقية في الفلوجة والبصرة؟ تشير الدراسة إلى أن السبب هو التعرض لتلوث معدني - خصوصاً الزئبق والرصاص . ومن أجل اختبار هذه الفرضية، أجرى العلماء المشاركون في الدراسة بحثاً نموذجياً شمل 56 أسرة في مدينة الفلوجة، التي شهدت بعضاً من أشرس القتال في الحرب . ولدى هذه العائلات، كان أكثر من نصف المواليد الذين ولدوا بين 2007 و2010 يعانون تشوهاً خلقياً . والأهم من ذلك، هو أن الدراسة وجدت أن عينات الشعر التي أخذت من المواليد المشوهين كانت تحوي زئبقاً ورصاصاً بمعدلات تزيد بخمس وست مرات على التوالي على المواليد الأصحاء . وهذا المستوى المرتفع من التلوث المعدني وجد أيضاً لدى أهل مواليد يعانون تشوهات خلقية في البصرة .
وهذه ليست الدراسة الأولى التي تعطي مؤشرات إلى وجود صلة بين حرب العراق المدمرة والمستويات المرتفعة من التشوهات الخلقية . ففي العام ،2010 نشرت “المجلة الدولية لأبحاث البيئة والصحة العامة”نتائج استبيان عرض على نحو 5000 من سكان الفلوجة بشأن حالات التشوهات الخلقية، والسرطانات، ووفيات المواليد بين عائلاتهم . وإضافة إلى “معدلات سرطان مروعة«، وجدت الدراسة أن رضعاً تتراوح أعمارهم بين يوم واحد وسنة واحدة كانوا يتوفون بمعدل 80 حالة بين كل 1000 ولادة - مقارنة على سبيل المثال مع 19،8 حالة وفاة بين كل 1000 رضيع في هذه الفئة العمرية في مصر .
في موقع “ذا ستار”الإخباري الكندي، كتب الصحافي والمعلق الكندي - الهندي هارون صدّيقي مقالاً حول “تركة”القصف الأمريكي للعراق، قال فيه:
ألا تذكرون الفلوجة؟ إنها تلك المدينة في وسط العراق التي كانت مسرحاً لهجومين شرسين شنهما “المارينز”الأمريكيون في العام 2004 . وفي ربيع ذلك العام، انطلق الجنود وهم في حالة اهتياج ليطلقوا النار ثأراً لمقتل وتقطيع جثث أربعة مرتزقة أمريكيين . وبدلاً من أن يستهدف “المارينز”المتمردين الذين كان يقدر عددهم بنحو ،2000 قاموا بتدمير المدينة التي يقطنها 300 ألف نسمة وتسويتها بالأرض تقريباً، ولكن من دون أن يتمكنوا من السيطرة عليها كلياً . وبعد سبعة أشهر، هاجموا المدينة مرة أخرى بالمدفعية والقذائف، في ما وصف بأنه حرب المدن الأكثر دموية التي خاضتها قوات أمريكية منذ حرب فيتنام .
وهل تذكرون البصرة؟ إنها تلك المدينة في جنوب العراق التي كانت تعاني منذ حرب الخليج الأولى عام 1991 . إذ إن المخلفات الإشعاعية ل 800 طن من القنابل ومليون ذخيرة استخدمت آنذاك سرعان ما ظهرت آثارها في رضع ولدوا ولديهم رؤوس ضخمة، وأعين كبيرة بصورة غير طبيعية، وأذرع غير مكتملة النمو، وبطون منتفخة، وقلوب معيبة . وفي مرحلة لاحقة من التسعينات، عانت البصرة من الحظر الجوي الذي فرضه الأمريكيون على العراق . وهوجمت المدينة مرة أخرى خلال الغزو الأمريكي البريطاني والاحتلال الذي تلاه .
والآن، نرى أطفال الفلوجة والبصرة وهم يعانون من ارتفاع مخيف في حالات التشوه الخلقي، الناجمة أساساً عن معادن خلفتها قنابل وقذائف وذخائر . وهذه المخلفات هي عبارة عن إشعاع وغبار يمتزجان بالغذاء، والمياه، والهواء، والتربة، والمحاصيل .
وقد أرجعت دراسة حديثة العهد أجراها اختصاصي سموم بيئية في جامعة ميتشيغان، هذه التشوهات الخلقية إلى وجود مستويات مرتفعة في الرصاص، والزئبق، وملوثات أخرى في أجسام كلا الأهل والأطفال المنكوبين . وقدمت الدراسة أدلة على ما كان الأطباء المرتاعون في المستشفى العام من الفلوجة يعلنونه منذ العام 2005 . وفي سبتمبر/ أيلول ،2009 طلب هؤلاء الأطباء من الأمم المتحدة فتح تحقيق لمعرفة لماذا رُبع ال 170 طفلاً الذين ولدوا ذلك الشهر توفوا في غضون سبعة أيام، ولماذا كان 75% من الرضع الذين توفوا مشوهين .
وفي ،2010 أفادت دراسة لباحثين في جامعة أولستر (ايرلندا الشمالية) أن الزيادات في حالات التشوهات الخلقية، واللوكيميا (سرطان الدم)، ووفيات المواليد في الفلوجة كانت أعلى من مثيلاتها في هيروشيما وناغازاكي عام 1945 .
وفي وقت لاحق من ذلك العام، نشرت الباحثة في كلية الصحة العامة بجامعة ميتشيغان مزغان أصفهاني دراسة وبائية أظهرت هي أيضاً مستويات مروعة من التشوهات الخلقية بين أطفال الفلوجة . وفي أعقاب ذلك، شاركت الباحثة مع فريق أطباء من العراق وإيران في إجراء دراسة أوسع نطاقاً شملت الفلوجة والبصرة . وفي سبتمبر/ أيلول الماضي نشروا نتائج دراستهم في “مجلة التلوث البيئي وعلم السموم”.
وفي داستهم هذه، تابع الباحثون حالات 56 عائلة في المستشفى العام في الفلوجة، كما تفحصوا آلاف السجلات في قسم التوليد وطب النساء في مستشفى الأمومة في البصرة . وقد وجدوا أنه بين 2004 و،2006 انتهى نحو نصف حالات الحمل بين تلك العائلات بالإجهاض . وبين 2007 و،2010 كان أكثر من نصف الأطفال الذين ولدوا لتلك العائلات يعانون شكلاً من أشكال التشوه الخلقي (مقارنة مع 2% في العام 2000) . وشملت التشوهات خللاً في القلوب، وأطرافاً مشوهة أو ناقصة، وفلج الشفة والحنك، ورؤوساً متورمة، وأعيناً مفردة، وبطوناً منتفخة، وأعضاء جسم مندلقة من بطون مشوهة .
ولدى الأطفال المشوهين، كانت مستويات الرصاص أعلى بخمس مرات، ومستويات الزئبق أعلى بست مرات، من الأطفال الأصحاء .
وتقول الدكتورة أصفهاني إن هذه المعطيات لا تعطي صورة دقيقة عن الوباء، لأن كثيرين من الأهل يخفون أطفالهم الذين يعانون عيوباً وتشوهات . ولكنها تؤكد أن “هناك بصمة معدنية واضحة لدى السكان في الفلوجة والبصرة . وقد وجدنا أدلة مؤكدة تربط الزيادات الكبيرة في تشوهات المواليد بتلوث معدني سمي ناتج عن عمليات القصف المتكررة . وليس هناك من تفسير آخر . لم يحدث، مثلاً، انفجار بركاني”.
في موقع صحيفة “الغارديان”البريطانية، تحدث عسكري أمريكي شارك في معركة الفلوجة الثانية (نوفمبر/ تشرين الثاني 2004) عن صمت الغرب إزاء الأزمة الصحية في المدينة . والكاتب هو روس كابوتي، الذي خدم في سلاح “المارينز”من 2003 إلى ،2006 والذي أخذ ينتقد الجيش الأمريكي علانية، فتم إعفاؤه من الخدمة عام 2006 . وهو مؤسس ومدير منظمة أهلية إنسانية تدعى “مشروع العدالة من أجل الفلوجة”. وكتب يقول: خلال الأشهر الثلاثة الماضية، نشرت أربع دراسات جديدة حول الأزمة الصحية في الفلوجة . ومع ذلك، فإن إحدى أسوأ الأزمات الصحية في التاريخ، وهي أزمة يمكن أن يكون الجيش الأمريكي مسؤولاً عنها، لا تحظى بأي اهتمام في الولايات المتحدة .
ومنذ أن دمرت الفلوجة في هجومين كبيرين بقيادة أمريكية في العام ،2004 وأهالي المدينة يشهدون زيادات مخيفة في معدلات السرطانات، وتشوهات ووفيات المواليد . وقد وصف العالم البريطاني الدكتور كريس باسبي، الذي وضع دراسة وشارك في ثانية حول أزمة الفلوجة، هذه الزيادات بأنها “أعلى معدل عرف يوماً لأذى جيني (وراثي) لحق بسكان مدنيين”.
وفي السنوات التي تلت حصاري عام ،2004 كانت الفلوجة المدينة التي خضعت للحصار الأكثر تشدداً في كل أنحاء العراق . وهذا الوضع الأمني جعل من شبه المستحيل أن يطلع العالم الخارجي على الأزمة الصحية الناشئة في الفلوجة . وإحدى أولى المحاولات للكشف عن الأزمة جرت خلال الدورة السابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وكانت على شكل تقرير قدمه الدكتور محمد الدراجي بعنوان “تأثيرات التلوث على الصحة العامة في الفلوجة”. وبقي التقرير موضع تجاهل إلى حد بعيد . ولم تحظ أزمة الفلوجة باهتمام وسائل الإعلام الكبرى في أوروبا إلا عندما نشرت نتائج أول دراسة كبرى حول الأزمة في “المجلة الدولية لأبحاث البيئة والصحة العامة«، وهي دراسة أجراها باحثون أعضاء في منظمة “مشروع العدالة من أجل الفلوجة”.
وبرغم ذلك، لم ينشر حتى هذا اليوم أي مقال في صحيفة أمريكية كبرى، كما لم تخصص أية شبكة تلفزة أمريكية لحظة واحدة، للحديث عن أزمة الفلوجة . والحكومة الأمريكية لم تصدر أي بيان حول المسألة . ولهذا يبقى الرأي العام الأمريكي غير مطلع عموماً على الأذى الذي تسبب به جيشنا .
والتقرير الذي قدم أمام مجلس حقوق الإنسان تضمن شهادات أشخاص تلقوا علاجات في المستشفى العام في الفلوجة، كما تضمن صوراً مرعبة لأطفال ولدوا ولديهم جلد قشري، أو أطراف مشوهة، أو أورام خبيثة . وخلال السنتين التاليتين، عمل الدكتور باسبي وفريق باحثيه للتحقق من هذه الشهادات . وقد وجدوا زيادات مخيفة في حالات سرطانات الأطفال، وكذلك انخفاضاً بنسبة 18% في المواليد الذكور . ومثل هذه النتائج هي مؤشرات معروفة على أضرار جينية .
وفي دراسة للمتابعة شارك فيها الدكتور باسبي، أجرى باحثون تحليلات لعينات مياه وتربة أخذت من الفلوجة، لمعرفة ما إذا كانت تحوي معادن ثقيلة . وتوقع الباحثون أن يجدوا اليورانيوم المنضب في هذه العينات . فقد كان معروفاً أن القوات الأمريكية استخدمت أسلحة تحوي اليورانيوم المنضب خلال حرب الخليج عام ،1991 في حين أن العراقيين كانوا يعلمون بالزيادات في حالات السرطانات ووفيات الأطفال في مدينة البصرة، التي تعرضت لقصف عنيف خلال عملية “عاصفة الصحراء”. ولكن ما وجده الباحثون لم يكن اليورانيوم المنضب، وإنما يورانيوم مخصب من صنع الإنسان .
وحيث إن الدكتور باسبي كان أبرز العلماء الذين شاركوا في هذه الدراسات، فقد واجه الكثير من الانتقادات . واعتبره كثيرون شخصية “مثيرة للجدل”- ما يعني أن نتائج أبحاثه كانت تتعارض مع المواقف الحكومية الرسمية . وقد خشي كثيرون من الصحافيين نشر دراسته الثانية بسبب “ضغوط”من “أشخاص من الخارج”. وتعبير “أشخاص من الخارج”يشير إلى أشخاص من مثل روجر هلبيغ، وهو كولونيل متقاعد في سلاح الجو الأمريكي عرف بتهجمه عبر الإنترنت على أولئك الذين أعلنوا عن مواقف نقدية ضد استخدام أسلحة اليورانيوم، كما يعني مجموعات ضغط لديها أجندات مماثلة .
وقد انتقد البعض منهج البحث الذي طبقه الباحثون في هذه الدراسة، واستخدموا ذلك ذريعة لصرف النظر عن المسألة برمتها . ولكن خبراء آخرين أوضحوا أن دور الدراسات الميدانية مثل هذه، والتي يجريها باحثون في ظروف صعبة، هو وضع فرضيات عامة بشأن مسائل مهمة عندما لا تتوافر لديهم موارد كافية، وعندما يتعذر تطبيق مناهج بحث أخرى .
والدكتور باسبي ليس الباحث الوحيد الذي يتبنى مواقف “مثيرة للجدل”. والنتائج التي توصل إليها استكملتها أبحاث الدكتور داي وليامس، وهو باحث مستقل ومتخصص في الأسلحة، يركز خصوصاً على ما يسميه “الجيل الثالث من أسلحة اليورانيوم”. ووجد وليامس براءات اختراع تسجل أنظمة أسلحة تستخدم يورانيوم غير منضب، أو يورانيوم مخصباً جزئياً . وقد اكتشفت ترسبات يورانيوم مخصب جزئياً في ميادين قتال أخرى أيضاً (أفغانستان ولبنان) . واستناداً إلى هذه الأبحاث، يعتقد باحثون من مثل الدكتور وليامس أن جيلاً جديداً من هذا النوع من الأسلحة قد استخدم فعلياً، على الأرجح من قبل الجيشين الأمريكي و”الإسرائيلي«، الأمر الذي يمكن أن تكون له تأثيرات صحية خطرة على السكان الذين يعيشون في جوار الأهداف التي قصفت بهذه الأسلحة .
وقد رفض كثيرون هذه الفرضيات واعتبروها مجرد تكهنات، ورفضوا بالتالي مجمل القضية ومعاناة الناس على الأرض . وما لم يفهمه هؤلاء الرافضون هو أن الفرضيات تنطوي دائماً على درجة من التكهن . والباحثون الذين يضعون هذه الفرضيات ضليعون في حقول أبحاثهم، ولكنهم يعرفون أن هذه الفرضيات يجب أن تؤكد أو تدحض تجريبياً . هذه هي طبيعة المنهج العلمي . أولاً، يستقصي الباحث ظاهرة معينة في العالم، ثم يخرج بفرضية لتفسير تلك الظاهرة . وبعد ذلك يجري تجارب عملية لاختبار الفرضية .
والعديد من هؤلاء الرافضين لم يردوا على هذه الدراسات بالدعوة إلى مزيد من البحث والتقصي من أجل اختبار فرضيات الدكتور باسبي أو الدكتور وليامس . وبدلاً من ذلك، رفضوا هذه الفرضيات، لأن مضامينها الأخلاقية والسياسية تزعجهم . وهم بذلك أظهروا نفوراً شديداً من المنهج العلمي والسعي إلى معرفة الحقيقة . والأهم من ذلك، هو أنهم يصرفون النظر عن معاناة الناس في الفلوجة، وفي كل الأماكن المماثلة الأخرى .
وإضافة إلى أسلحة اليورانيوم، هناك معطيات أخرى تقتضي إجراء تحقيق . وقد نشر فريق باحثين حديثاً دراسة تفحصت احتمالات مساهمة الزئبق والرصاص في الأزمة الصحية في العراق . وهذه الدراسة، التي نشرتها “مجلة التلوث البيئي وعلم السموم«، والتي جاءت بعنوان “التلوث المعدني وجائحة التشوهات الخلقية في مدن عراقية«، قارنت مستويات الرصاص والزئبق في عينات شعر، وأظافر، وأسنان، أخذت من سكان في الفلوجة والبصرة . ووجدت الدراسة أن سكان المدينة الذين شملتهم الدراسة كانوا قد تعرضوا لمستويات مرتفعة من “معدنين معروفين بأنهما سامان للعصب، هما الرصاص والزئبق”.
وفي البصرة، وجد الباحثون مستويات من التعرض للرصاص أعلى حتى من تلك التي وجدت في الفلوجة . والبصرة لديها أعلى معدل معروف من تشوهات الأنبوب العصبي، وعدد هذه الحالات لايزال يتزايد .
إن استنتاجات هذه الدراسة ليست نظرية، بل هي نتائج علمية تستحق المناقشة على أعلى المستويات الأكاديمية والسياسية والدولية . وهذه النتائج يمكن أن تحظى باهتمام أكبر خارج حدود الولايات المتحدة، ولكن طبيعتها “المثيرة للجدل”(من حيث مضامينها بالنسبة بمسؤولية الجيش الأمريكي عما قد يكون أحد أسوأ أزمات الصحة العامة في التاريخ) ستبقيها موضع تجاهل من قبل الحكومة الأمريكية ومؤسساتها الإعلامية الخانعة .
وفي النهاية، قد يتبين أن لا الرصاص ولا اليورانيوم هما السبب الوحيد للأزمة الصحية في الفلوجة . وقد يكون السبب مزيجاً من كلا هذين العنصرين، أو شيئاً مختلفاً كلياً . ولكن هذه مسألة تجريبية تتطلب مزيداً من البحث . والعلم والمنهج العلمي مهمان، ولكن يجب أن نتذكر أن العلم هو وسيلة من أجل غاية، وليس غاية بحد ذاته . وغايتنا يجب أن تكون خير سكان الفلوجة، وهدفنا يجب أن يكون مساعدتهم . وأولئك الذين يختارون الولاء السياسي على السعي لمعرفة الحقيقة، وأولئك الذين يستخدمون إشكاليات منهجية كذريعة لصرف النظر عن معاناة حقيقية على الأرض، هم أناس فقدوا إنسانيتهم .
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات