أقوال الحسن البصري في الفتن والدماء
أقوال الحسن البصري في الفتن والدماء وربطها ببعض الأدلة وكلام أهل العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعـوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلاوأنتم مُسلمُون "
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ".
"يَا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قَولاً سَديداً يُصلح لَكُم أَعما لكم وَ يَغفر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطع الله وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيماً"
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كلام ُالله جلَّ وعلا، وخيرَ الهدي هديُ محمَّد اضغط هنا لتكبير الصوره عليه وسلم،وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ ، وكلَّ بدعة ضلالة ٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
فإني أحببت من خلال هذا المقال أن أبين بعض المواقف السلفية والمقالات السنية لإمام من أئمة الإسلام فيما يتعلق بالفتن والخروج على ولاة أمر المسلمين ،وهو الإمام أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري ، المشهور بالحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ــ ،وإنما اخترتُ من اخترتُ لأمور:
1/ الأمر الأوَّل:
أنَّ الحسن البصريَّ ـ رحمه الله تعالى ـ كان إماما في هذا المجال ، فقد خرَّج ابن سعد في الطبقات الكبرى ( 9 / 164 ،ط:الخانجي) بسنده عن يونس بن عبيد قال :" كان الحسن والله من رؤوس العلماء في الفتن والدماء." وزاد الذهبي في السير (4/575 ،ط: الرسالة):" والفروج "ومعنى الفروج :الثغور.
2/الأمر الثاني:
أنَّه لا يبغض الحسن إلاَّ خارجيٌّ مارقٌ، فقد خرَّج ابنُ سعد في الطبقات الكبرى(9/174) قال : أخبرنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو هلال قال :كنا في بيت قتادة فجاءنا الخبر أنَّ الحسن قد توفي، فقلت: لقد كان غُمِسَ في العلم غمسةً فقال :قتادة لا والله ،ولكنه ثبت
فيه، وتحقَّنه، وتَشَرَّبه والله لا يبغضُ الحسنَ إلا حروريٌّ." وذكره المزي في تهذيب الكمال (6/108) مع اختلاف في بعض الألفاظ وهي:
1ــ " غمسة " فقد جاء في التهذيب " غمسته "،قال محققه بعد نقله لما جاء في سير أعلام النبلاء وهو موافق لما في الطبقات :" وما هنا أحسن ".
2ــ " ثبت فيه " فقد جاء في التهذيب " نبت فيه " قال محققه :" وما هنا أصح ".
3 ــ " تحقنه " فقد جاء في التهذيب " تحقَّبه "، ومعناه : احتبسه وحبسه ،ومنه : الحاقن والحاقب.
3/الأمر الثالث:
أنَّ الحسن من الثابتين في الفتن،فقد خرَّج كذلك ابنُ سعد في الطبقات الكبرى(9/165)
بسنده إلى ابن عون قال: كان مسلم بن يسار أرفع عند أهل البصرة من الحسن حتى خفَّ مع ابن الأشعث وكفَّ الحسن فلم يزل أبو سعيد في علوٍ منها بعدُ، وسقط الآخر".
وهذا كلُّه على الرغم من أنَّ مسلم بن يسار قد رجع عن ذلك وتاب منه، فقد خرَّج عبد الرزاق في المصنَّف (11/ 361)عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة :" أنه اجتمع هو و مسلم بن يسار، وكان مسلمٌ خرج مع ابن الأشعث، فذكروا ذلك ، فقال مسلم : قد خرجت معه فوالله ما سللت سيفا ، ولا رميت بسهم ، ولا طعنت برمح ، فقال له أبو قلابة : لكن قد رآك رجل واقفا، فقال : هذا مسلم بن يسار واقف للقتال ، فرمى بسهمه ، وطعن برمحه ، وضرب بسيفه ، قال : فبكى مسلم ، قال أبو قلابة : حتى تمنيت أني لم أقل شيئا ".
4/الأمر الرابع:
أنَّ الذين عاصرهم ـ رحمه الله تعالى ـ قد شهدوا له بالعلم والفراسة والاجتهاد والرسوخ في العلم ، وعلى رأسهم الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فقد روى عبد الله ابن الإمام أحمدـ رحمهما الله جميعاـ في زوائده على كتاب أبيه "العلل و معرفة الرجال
"(3/ 488،ت:وصي الله عباس)رقم (6087)بسنده إلى عمران بن عبد الله الخزاعي قال:" سألت ابن عمر عن مسألة، فقال: من أين أنت ،قلت :من أهل العراق، قال ،من أيها؟ قلت: من أهل البصرة قال: فأين مولى الأنصار منكم ؟يعني الحسن بن أبي الحسن." قال الشيخ وصيُّ الله عباس : "إسناده صحيح."
وأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/176)بسنده إلى خالد بن رياح الهذليِّ أنَّ أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى ـ سئل عن مسألة قال عليكم بمولانا الحسن فسلوه ،فقالوا: يا أبا حمزة نسألك، وتقول سلوا مولانا الحسن ، فقال: إنَّا سمعنا وسمع، فحفظ ونسينا" ، وذكره المزي في تهذيب الكمال (6/104)و ابن كثير في البداية والنهاية (13/55،ت:التركي)، وكذا الذهبيُّ مختصراً في كل من:تاريخ الإسلام (3/27،ت:بشار عواد معروف) و السير(4/573).
وأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/162)ويعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/32ــ3) عن علي بن زيد قال:" أدركت عروة بن الزبير ويحيى بن جعدة والقاسم فلم أر فيهم مثل الحسن، ولو أنَّ الحسن أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل لاحتاجوا إلى رأيه "، وذكره المزي (6/110) والذهبي في السير(4/574 ) بلفظ:" ... ولو أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله مثل أسنانهم ما تقدَّموه ".
وأخرج أبو نعيم في الحلية (2/147) ومن طريقه المزي في تهذيب الكمال (6/118)عن الأعمش قال :" ما زال الحسن البصري يعي الحكمة ، حتَّى نطق بها، وكان إذا ذكر عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال : ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء "، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية (13/56).
وأعود على بدء فأقول : سأحاول أن أربط أقوال وأفعال هذا الإمام ببعض الأدلة من الكتاب والسنة ، وببعض أقوال أهل العلم ، فخذوها غضَّة طرية عسى أن ننتفع بها جميعا في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن.
الأوَّل :
قال زُريك بن أبي زُريك قال: سمعت الحسن يقول:" إنَّ هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم ، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل "، أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/166) عن عفَّان بن مسلم به ، وسنده صحيح كما قال الشيخ عبد المالك في مدارك النظر(395، ط:دار سبيل المؤمنين).
الثاني:
عن أيوب قال:" قيل لابن الأشعث: إن سرك أن يقتلوا حولك كما قتلوا حول جمل عائشة فأخرج الحسن، فأرسل إليه فأكرهه "، أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/164)والفسويُّ في المعرفة والتاريخ (2/34،ت:أكرم ضياء العمري)كلاهما عن أبي النعمان عارم بن الفضل عن حماد بن زيد به.
وقال ابن عون :" استبطأ الناس أيام ابن الأشعث فقالوا له: أخرج هذا الشيخ ــ يعني الحسن ــ قال ابن عون : فنظرت إليه بين الجسرين وعليه عمامة سوداء، قال: فغفلوا عنه فألقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم وكاد يهلك يومئذ "، أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/164) عن عفَّان بن مسلم عن سُليم بن أخضر به.
الثالث:
قال سليمان بن علي الربعي:" لما كانت الفتنةُ فتنة ابن الأشعث إذ قاتل الحجاج بن يوسف انطلق عقبةُ بن عبد الغافر، وأبو الجوزاء، وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم، فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل و فعل قال: وذكروا من فعل الحجاج، قال: فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبةً من الله فما أنتم برآدِّي عقوبة الله بأسيافكم ، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، قال: فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج، قال: وهم قوم عرب، قال: وخرجوا مع ابن الأشعث قال: فقتلوا جميعا.
قال سليمان :فأخبرني مرة بن ذباب أبو المعذل قال: أتيت على عقبةِ بن عبد الغافر وهو صريع في الخندق فقال : يا أبا المعذل لا دنيا ولا آخرة ". أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/164)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/177 ــ 178،ط:دار الفكر)، وكذا الدولابي في الكنى (2/121)كما ذكر الشيخ عبد المالك رمضاني في فتاوى العلماء الأكابر(ص:36) وقال عنه:" بسند صحيح "، وقال عنه شيخنا أبو عبد الباري عبد الحميد العربي في كتابه" الأمن " (ص:70) :" بإسناد حسن "،و ذكره كذلك الذهبيُّ في تاريخ الإسلام(3/29ــ 30،ت : بشار عواد معروف) دون الفقرة الأخيرة.
والحقُّ كما جاء أنَّ الخروج على حكام المسلمين لا يقيم دينا ولا يبقي دنيا ،وليس فيه لا مصلحة دينية ولا دنيوية، ولشيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (4/527ــ 531) كلام نفيس جدَّا أنقله رغم طوله يقول ــ رحمه الله تعالى ــ :" فإن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها،وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولَّى خليفة من الخلفاء كيزيد، وعبد الملك ،والمنصور، وغيرهم فإمَّا أن يقال: يجب منعه من الولاية ،وقتاله حتى يولَّى غيره كما يفعله من يرى السيف ،فهذا رأى فاسد، فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته، وقلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر أعظمُ مما تولَّد من الخير كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة ،وأمثال هؤلاء.
وغاية هؤلاء إمَّا أن يُغْلَبُوا وإمَّا أن يَغْلِبُوا ثم يزولُ مُلْكُهُمْ فلا يكون لهم عاقبة فإنَّ عبد الله بنَ علي، وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا،وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرَّة وابنُ الأشعث وابنُ المهلَّب وغيرُهم، فهزموا وهزم أصحابهم ، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا،وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من عليِّ وعائشةَ وطلحة والزبير وغيرِهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم .
وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلقٌ، وكذلك أصحاب ابنِ الأشعث كان فيهم خلقٌ من أهل العلم والدين ، والله يغفر لهم كلهم ،وقد قيل للشعبي في فتنة ابنِ الأشعث: أين كنت يا عامر، قال: كنت حيث يقول الشاعر:
... عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير ...
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء،ولا فجرة أقوياء.
وكان الحسن البصري يقول:" إنَّ الحجاج عذابُ الله فلا تدفعوا عذابَ الله بأيديكم ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإنَّ الله تعالى يقول{ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} وكان طلق بن حبيب يقول:" اتقوا الفتنة بالتقوى فقيل له: أجمل لنا التقوى ،فقال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله." رواه أحمد وابن أبي الدنيا.
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة كما كان عبد الله بنُ عمر وسعيد بنُ المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد ، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث ولهذا استقرَّ أمرُ أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلقٌ كثير من أهل العلم والدين.
وباب قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة ، وليس هذا موضع بسطه ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب واعتبر أيضا اعتبارَ أولي الأبصار علم أنَّ الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور، ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج وغلب على ظنَّهم أنه يقتل حتى إنَّ بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك، ومصلحة المسلمين والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد لكن الرأي يصيب تارة و يخطئ أخرى.
فتبين أنَّ الأمر على ما قاله أولئك ، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوما شهيدا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإنَّ ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببا لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتلُ عثمان مما أوجب الفتن.
وهذا كله مما يبين أنَّ ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة ،وترك قتالهم، والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأنَّ من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد ، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله:" إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة ،ولا نزع يد من طاعة ،ولا مفارقة للجماعة، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحيح كلها تدلُّ على هذا...".
الرابع:
قال أبو التيَّاح :" شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن حين أقبل ابنُ الأشعث فكان الحسن ينهى عن الخروج على الحجاج ، ويأمر بالكف، وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض ثم قال سعيد فيما يقول :ما ظنُّك بأهل الشام إذا لقيناهم غدا فقلنا:والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه، ولكنا نقمنا عليه استعماله الحجاج فاعزله عنَّا، فلما فرغ سعيد من كلامه تكلم الحسن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إنَّه والله ما سلَّط الله الحجاج عليكم إلا عقوبةً، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينةَ والتضرعَ وأما ما ذكرت من ظنِّي بأهل الشام فإن ظنِّي بهم أن لو جاؤوا فألقمهم الحجاج دنياه لم يحملهم على أمر إلا ركبوه هذا ظنِّي بهم ".أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/165)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/178،ط:دار الفكر)، وكذا ابن أبي الدنيا في العقوبات (ص:52)كما ذكر الشيخ عبد المالك رمضاني في فتاوى العلماء الأكابر(ص:36) وقال عنه:" بسند صحيح "، وذكره الذهبيُّ في تاريخ الإسلام (3/ 30) مختصرا.
الخامس:
قال حماد بن زيد حدثني عمر بن يزيد العبدي قال:" سمعت الحسن أيام يزيد بن المهلب قال : وأتاه رهط فأمرهم أن يلزموا بيوتهم، ويغلقوا أبوابهم ، ثمَّ قال :والله، لو أنَّ الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يرفع عنهم، وذلك أنّهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، ووالله ما جاؤوا يوما بخير قط، ثمَّ تلا{وتمَّت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما يعرشون }".أخرجه الآجري ُّ في الشريعة (1/373ــ 374، رقم:62) بهذا السياق، وكذا ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/165)دون ذكر للآية واختلاف يسير في بعض الألفاظ. ، وذكر السيوطيُّ في الدر المنثور (6/534،ت: التركي) أنَّ الأثر قد أخرجه ابن سعد وعبدُ بن حميد ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم ،وأبو الشيخ عن الحسن ــ رحمه الله تعالى ــ . فابن أبي حاتم أخرجه في تفسيره (ص:1551،رقم:8897،ت:أسعدمحمد الطيب) من طريق أحمدبن سنان الواسطيِّ عن عبد الرحمن بن مهدي عن حماد به. قال محقق كتاب الشريعة :" إسناده متوقف على معرفة :عمر بن يزيد..."،وقال الشيخ عبد المالك رمضاني في مدارك النظر(ص:276):" رواه...والآجريُّ (65ــ بترقيمي) وبيَّنت هناك وجه تحسينه بما لا يتسع له المقام ".
أخرج البخاري (7054) ومسلم (1849) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنَّه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية ".
وقال الإمام أحمد في اعتقاده كما في أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/161):" ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس ، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق ".
السادس:
قال أبو مالك :" كان الحسن إذا قيل له: ألا تخرج فتغير، قال: يقول: إن الله إنما يغير بالتوبة ،ولا يغير بالسيف "، أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/172)عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن مندل به.
السابع:
قال عمارة بن مهران :" قيل للحسن: ألا تدخل على الأمراء فتأمرهم بالمعروف ،وتنهاهم عن المنكر، قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه إن سيوفهم لتسبق ألسنتنا إذا تكلمنا قالوا بسيوفهم هكذا، ووصف لنا بيده ضربا"، أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/176)عن حجاج بن نصير به.
يقول الإمام أحمد في مثل هذا المجال كما نقل ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/197):" لا يتعرض للسلطان فإنَّ سيفه مسلول ".
الثامن:
قال المعلَّى بنُ زياد :قيل للحسن: يا أبا سعيد خرج خارجيُّ بالخُرَيـْبَة، فقال: المسكين رأى منكرا فأنكره، فوقع فيما هو أنكر منه "، أخرجه الآجريُّ في الشريعة (1/345)وقال محققه:" إسناده حسن ".
والشريعة الإسلامية سمحة مبنية على جلب المصالح وتحقيقها ، ودفع المفاسد وتقليلها، وإنكار المنكر واجب ولكن بضوابط وشروط، يقول ابن القيم في إعلام الموقعين (4/337، ت: مشهور):" [فصل: في تغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد] [الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد]: هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غَلَطٌ عظيمٌ على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به.
فإنَّ الشريعة مَبْنَاها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة
وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتمَّ دلالة وأصدقَها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون ، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواءُ كلِّ عليل، وطريقُه المستقيمُ الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون وحياة القلوب ،ولذة الأرواح ، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنَّما هو مستفادٌ منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسومٌ قد بقيت لخربت الدنيا وطُوِيَ العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم ، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خرابَ الدنيا وطَيَّ العالم رَفَع َإليه ما بقى من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمودُ العالم، وقطب الفلاح، والسعادة في الدنيا، والآخرة ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة.
المثال الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار: على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخِّرُون الصلاة عن وقتها، وقالوا أفلا نقاتلهم، فقال: "لا ما أقاموا الصلاة"، وقال: "من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر، ولا ينزعن يدا من طاعته"، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر ، فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام عَزَمَ على تغيير البيت، وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشيةَ وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عَهْدِهم بالإسلام ، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
فإنكار المنكر أربع درجات، الأولى: أن يزول ويخلفه ضدُّه ،الثانية :أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأولَيَان مشروعتان ،والثالثة موضع اجتهاد ،والرابعة محرمة .
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج، كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفسَّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبَه الأولى، وهذا باب واسعٌ.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدَّس الله روحه ونور ضريحه ــ يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرَّم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدُّهم الخمرُ عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم ".
التاسع:
روى سليمان بن المغيرة عن ثابت قال :" كنا قعودا مع الحسن على سطحه، إذ صنع الحجاج ما صنع، قال سليمان: وكان أخرج المسلمين من البصرة، قال: فجاء سعيد بن أبي الحسن ونحن قعود مع الحسن فقال: نحن نُقِرُّ بهذا لنَضْفِنَ دون الحبس، قال: فردَّ عليه الحسن وكره ما قال "، أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/166) عن عفَّان بن مسلم به.
العاشر:
قال زائدة عن هشام قال الحسن ومحمد:" لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم "، أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (9/172)عن خلف بن تميم به.
الحادي عشر:
قال الحسن :" هؤلاء ــ يعني الملوك ــ وإن رقصت بهم الهماليج،ووطئ الناس أعقابهم،فإنَّ ذلَّ المعصية في قلوبهم، إلاَّ أنَّ الحق ألزمنا طاعتهم، ومنعنا من الخروج عليهم، وأمرنا أن نستدفع بالتوبة والدعاء مضرَّتهم، فمن أراد به خيرا لزم ذلك، وعمل به ، ولم يخالفه ".آداب
الحسن البصري لابن الجوزي (ص:121) نقلا عن معاملة الحكام للبرجس (ص:59).
الثاني عشر:
قال الحسن:" اعلم ــ عافاك اللهــ أنَّ جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى ، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف ، وإنَّما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إنَّ نقم الله متى لقيت بالسيف كانت أقطع ، ولقد حدثني مالك بن دينار أنَّ الحجاج كان يقول: اعلموا أنَّكم كلما أحدثتم ذنبا ، أحدث الله في سلطانكم عقوبة. ولقد حُدِّثْتُ أنَّ قائلا قال للحجاج: إنَّك تفعل بأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، فقال : أجل ، إنَّما أنا نقمة على أهل العراق ، لمَّا أحدثوا في دينهم ما أحدثوا ، وتركوا من شرائع نبيهم صلى الله عليه وسلم ما تركوا.
وقيل :سمع الحسن رجلا يدعو على الحجاج فقال :لا تفعل ـ رحمك الله ـ إنَّكم من أنفسكم أتيتم، إنَّما نخاف إن عزل الحجاج أو مات : أن تليكم القردة والخنازير.
ولقد بلغني أنَّ رجلا كتب إلى بعض الصالحين يشكو إليه جور العمَّال ، فكتب إليه: يا أخي ، وصلني كتابك ، تذكر ما أنتم فيه من جور العمَّال ، وإنَّه ليس ينبغي لمن عمل بالمعصية أن ينكر العقوبة ، وما أظنُّ الذي أنتم فيه إلاَّ من شؤم الذنوب والسلام ".آداب الحسن البصري (119ــ 120) نقلا عن معاملة الحكام للبرجس (ص:95ــ 96).
ولزيادة التوضيح في هذه المسألة ولبيان من هو الرجل الصالح الذي سئل فأجاب أنقل كلام أبي بكر الطرطوشيّ ِ في كتابه " سراج الملوك " (2/467):" الباب الحادي والأربعون: في كما تكونوا يولى عليكم.
لم أزل أسمع الناس يقولون: أعمالكم عُمَّالكم، كما تكونوا يولى عليكم، إلى أن ظفرت بهذا المعنى في القرآن؛ قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} وكان يقال: ما أنكرت من زمانك، فإنما أفسده عليك عملك ، وقال عبد الملك بن مروان: ما أنصفتمونا يا معشر الرعية، تريدون منَّا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرتهما، نسأل الله أن يعين كلٌ على كلٍ، وقال قتادة: قالت بنو إسرائيل: إلهنا أنت في السماء، ونحن في الأرض فكيف نعرف رضاك من سخطك؟ ،فأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائهم: إذا استعملت عليكم خياركم فقد رضيت عنكم، وإذا استعملت عليكم شراركم فقد سخطت عليكم ، وقال عبيدة السَّلمانيُّ لعلىِّ بن أبي طالب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين ،ما بال أبي بكر وعمر انطاع الناس لهما، والدنيا عليهما أضيق من شبر فاتسعت عليهما، ووليت أنت وعثمان الخلافة ولم ينطاعوا لكما، وقد اتسعت فصارت عليكما أضيق من شبر؟، فقال: لأن رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان، ورعيتي أنا اليوم مثلك وشبهك.
وكتب أخٌ لمحمد بن يوسف يشكو إليه جور العمال، فكتب إليه محمد بن يوسف: بلغني كتابك وتذكر ما أنتم فيه، وليس ينبغي لمن يعمل المعصية أن ينكر العقوبة، ولم أر ما أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب، والسلام؟".
الثالث عشر:
قال الحسن في الأمراء:"هم الذين يلون من أمورنا خمسا: الجمعة ، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله لا يستقيم الدين إلاَّ بهم ، وإن جاروا وظلموا ، والله لما يصلح الله بهم أكثر ممَّا يفسدون، من أنَّ طاعتهم ــ والله ــ لغبطة، وأنَّ فرقتهم لكفر ".آداب الحسن البصري (121) نقلا عن معاملة الحكام للبرجس (ص:7)، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/117)، ومعنى " لكفر": يعني به : كفرا دون كفر.
يقول الطرطوشي ُّ في كتابه " سراج الملوك " (2/467):" الباب السابع: في بيان الحكمة في كون السلطان في الأرض.
اعلمواــ أرشدكم الله ــ أنَّ في وجود السلطان في الأرض حكمةٌ لله تعالى عظيمة، ونعمة على العباد جزيلة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى جبل الخلائق على حب الانتصاف وعدم الإنصاف، ومَثَلُهم بلا سلطان كمثل الحوت في البحر يزدرد الكبيرُ الصغيرَ، فمتى لم يكن لهم سلطانٌ قاهرٌ لم ينتظم لهم أمرٌ ولم يستقرُّ لهم معاشٌ ،ولم يتهنوا بالحياة ، ولهذا قال بعض القدماء: لو رُفِع السلطانُ من الأرض ما كان لله في أهل الأرض من حاجة، ومن الحكم التي في إقامة السلطان: إنه من حجج الله تعالى على وجوده سبحانه وتعالى، ومن علاماته على توحيده، لأنه كما لا يمكن استقامة أمر العالم واعتداله بغير مدبر ينفرد بتدبيره، كذلك لا يتوهم وجوده وتدبيره وما فيه من الحكمة ودقائق الصنعة بغير خالق خلقه، وعالم أتقنه وحكيم دبره، وكما لا يستقيم سلطانان في بلد واحد لا يستقيم إلهان للعالم، والعالم بأسره في سلطان الله تعالى كالبلد الواحد في يد سلطان الأرض ،ولهذا قال علي بن أبي طالب: أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالتفرد، ولا يصلح الآخر إلا بالمشاركة وهما الملك والرأي، فكما لا يستقيم الملك بالشركة لا يستقيم الرأي بالانفراد به، ومثال السلطان القاهر لرعيته ، ورعيةٌ بلا سلطان مثالً بيتٍ فيه سراج منير، وحوله قيام من الناس يعالجون صنائعهم، فبينما هم كذلك إذ طفئ السراج فقبضوا أيديهم في الوقت ، وتعطل جميع ما كانوا فيه، فتحرك الحيوان الشرير وتخشخش الهوام الخسيس، فذبت العقرب من مكمنها، وفسقت الفأرة من حجرها، وخرجت الحية من معدنها، وجاء اللص بحيلته، وهاج البرغوث مع حقارته، فتعطلت المنافع ، واستطالت فيهم المضار، كذلك السلطان إذا كان قاهراً لرعيته وكانت المنفعة به عامة، وكانت الدماء به في أهبها محقونةً ،والحُرُمُ في خدورهن مصونةٌ، والأسواقُ عامرةٌ، والأموالُ محروسةٌ، والحيوان الفاضل ظاهرٌ، والمرافقُ حاصلةٌ، والحيوان الشرير من أهل الفسوق والدعارة خاملٌ، فإذا اختلَّ أمر السلطان دخل الفساد على الجميع، ولو جعل ظلم السلطان حولاً في كفة كان هرج الناس ساعة أرجح، وأعظم من ظلم السلطان حولاً، وكيف لا وفي زوال السلطان أو ضعف شوكته سُوق أهل الشر ومكسب الأجناد، ونفاق أهل العيارة ،والسوقة واللصوص والمنابهة؟
قال الفضيل: جور ستين سنة خير من هرج ساعة، فلا يتمنى زوال السلطان إلا جاهلٌ مغرورٌ أو فاسقٌ يتمنى كلَّ محذور، فحقيقٌ على كل رعية أن ترغب إلى الله تعالى في إصلاح السلطان، وأن تبذل له نصحها وتخصه بصالح دعائها، فإن في صلاحه صلاح العباد والبلاد، وفي فساده فساد العباد والبلاد، وكان العلماء يقولون: إن استقامت لكم أمور السلطان فأكثروا حمد الله تعالى وشكره، وإن جاءكم منه ما تكرهون وجهوه إلى ما تستوجبونه منه بذنوبكم وتستحقونه بآثامكم، فأقيموا عذر السلطان بانتشار الأمور عليه، وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة واستئلاف الأعداء، ورضاء الأولياء، وقلة الناصح وكثرة المدلس والفاضح ".
الرابع عشر:
سئل الحسن وابن سيرين عن الغزو مع أئمة السوء ؟ فقالا:" لك شرفُه، وأجرُه، وفضلُه، وعليهم إثمهم "، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف ( 18/99، ت: عوامة) عن غندر عن الفزاري عن هشام به.
وصلَّى الله على محمد وعلى آله وسلَّم تسليما كثيرا.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات