كتاب أسرار الحج في إحياء علوم الدين للغزالي
الحمد لله حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وصلّى الله تعالى وسلّم وشرّف وكرّم وبارك على سيدّنا ومولانا محمّد رسول الله، صلاة جلال وكمال وسلام جمال ووصال، وعلى الآل والصحب الأكامل ومن والاه إلى يوم الجزاء والنوال، وبعد:
________________________________________________
كتاب (إحياء علوم الدين) لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي
وقدّس سرّه ورفع درجاته في جناته ونفعنا وإيّاكم وجميع من ندعوا لهم به وبعلومه وأنواره وبركاته وأسراره وإمداده في الدارين... اللهم آمين
كتاب أسرار الحج
بسم الله الرحمنِ الرَّحيم
"الحمد لله الذي جعل كلمة التوحيد لعباده حرزاً وحصناً. وجعل البـيت العتيق مثابة للناس وأمناً، وأكرمه بالنسبة إلى نفسه تشريفاً وتحصيناً ومناً، وجعل زيارته والطواف به حجاباً بـين العبد وبـين العذاب ومجنّاً، والصلاة على محمد نبـي الرحمة وسيد الأمة وعلى آله وصحبه قادة الحق وسادة الخلق وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فإن الحج من بـين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين. فيه أنزل الله عز وجل: {
اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ ديناً} وفيه قال : «
مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيّاً وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيّاً» فأعظم بعبادة يعدم الدين بفقدها الكمال ويساوي تاركها اليهود والنصارى في الضلال، وأجدر بها أن تصرف العناية إلى شرحها وتفصيل أركانها وسننها وآدابها وفضائلها وأسرارها. وجملة ذلك ينكشف بتوفيق الله عز وجل في ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في فضائلهاوفضائل مكة والبـيت العتيق وجمل أركانها وشرائط وجوبها.
الباب الثاني: في أعمالها الظاهرة على الترتيب من مبدإ السفر إلى الرجوع.
الباب الثالث: في آدابها الدقيقة وأسرارها الخفية وأعمالها الباطنة. فلنبدأ بالباب الأوّل وفيه فصلان: " اهـ
الفصل الأول في فضائل الحج وفضيلة البـيت ومكة والمدينة حرسهما الله تعالى وشد الرحال إلى المساجد
فضيلة الحج:
"قال الله عز وجل: {وَأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجَ عَميقٍ} وقال قتادة: لما أمر الله عز وجل إبراهيم وعلى نبـينا وعلى كل عبد مصطفى أن يؤذن في الناس بالحج نادى: يا أيها الناس إن الله عز وجل بنى بـيتاً فحجوه، وقال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} قيل التجارة في الموسم والأجر في الآخرة. ولما سمع بعض السلف هذا قال: غفر لهم ورب الكعبة.
وقيل في تفسير قوله عز وجل: {لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ} أي طريق مكة يقعد الشيطان عليها ليمنع الناس منها، وقال : «مَنْ حَجَّ البَـيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وقال أيضاً : «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ فِي يَوْمٍ أَصْغَرَ وَلا أَدْحَرَ وَلا أَحْقَرَ وَلا أَغْيَظَ مِنْهُ يَوْمَ عَرَفَةَ» وما ذلك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله سبحانه عن الذنوب العظام إذ يقال: «إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ ذُنُوباً لا يُكَفِّرُها إِلاَّ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ» وقد أسنده جعفر بن محمد إلى رسول الله .
وذكر بعض المكاشفين من المقرّبـين أن إبليس لعنة الله عليه ظهر له في صورة شخص بعرفة فإذا هو ناحل الجسم مصفرّ اللون باكي العين مقصوف الظهر فقال له: ما الذي أبكى عينك؟ قال خروج الحاج إليه بلا تجارة، أقول قد قصدوه أخاف أن لا يخيبهم فيحزنني ذلك قال: فما الذي أنحل جسمك؛ قال: صهيل الخيل في سبـيل الله عز وجل ولو كانت في سبـيلي كان أحب إليَّ، قال: فما لذي غير لونك؟ قال: تعاون الجماعة على الطاعة ولو تعاونوا على المعصية كان أحب إليَّ قال: فما الذي قصف ظهرك؟ قال: قول العبد أسألك حسن الخاتمة، أقول: يا ويلتي متى يعجب هذا بعمله أخاف أن يكون قد فطن؟ " اهـ.