الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #13
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة السابعة عشرة

(عبارة عن سبع عشرة مذكـِّرة تألقت من الزُّهرة)

بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم

الـمقدمة

قبل اثنتي عشرة سنة(1) من تأليف هذه اللـمعة وفقني الـمولى الكريـم وشـملني بعنايته ولطفه، فكتبتُ بعض ما تألق من مسائل التوحيد وبعض ما تظاهر منها اثناء تأملٍ فكري، وتـجوالٍ قلبي، وانكشافٍ روحي عبر العروج في مراتب الـمعرفة الإلـهية، كتبتُها باللغة العربية على صورة مذكـّرات في رسائل موسومة بـ((زُهرة)) و ((شعلة)) و ((حبـّة)) و ((شـمـّة)) و ((ذرة)) و ((قطرة)) وامثالـها.

وحيث ان تلك الـمذكـِّرات قد كتبتْ لاجل اراءة بداية حقيقة عظيـمة واسعة، وابراز مقدمتها فحسب، ولأجل اظهار شعاع من اشعة نور ساطع باهر، فقد جاءت على شكل خواطر وملـحوظات وتنبيهات. سجلتها لنفسي وحدها، مـما حددّتْ الاستفادة منها، وبـخاصة أن القسـم الاعظم من اخلص اخواني وخلاصتهم لـم يدرسوا اللغة العربية، فاضطررتْ أزاء إصرارهم والـحاحهم الى كتابة ايضاحات باللغة التركية لقسـم من تلك الـمذكرات واللـمعات. واكتفي بترجـمة القسـم الاخر منها(1).

ولقد جاءت الترجـمة الى التركية نصاً دون تغيير حيث تراءت ((لسعيد الـجديد)) هذه الـخواطر الواردة في الرسائل العربية رؤية أشبه ما يكون بالشهود، وذلك حينـما شرع بالاغتراف من منهل علـم ((الـحقيقة)).. ولأجل هذا فقد ذُكر بعض الـجـمل بالرغم من أنه مذكور في رسائل اخرى بينـما ذُكر البعض الآخر في غاية الاجـمال ولـم يوضـّح التوضيـح الـمطلوب وذلك لئلا يفقد لطافته الاصلية.

سعيد النورسي

الـمذكرة الاولى

كنت قد خاطبتُ نفسي قائلاً: اعلـم ايها السعيد الغافل! انه لا يليق بك ان تربط قلبك وتعلـّقه بـما لا يرافقك بعد فناء هذا العالـم، بل يُفارقُك بـخراب الدنيا! فليس من العقل في شيء ربطُ القلب بأشياء فَانية!

فكبف بـما يتركك بانقراض عصرك ويدير ظهره لك؟

بل فكيف بـما لا يصاحبك في سَفر البرزخ؟

بل فكيف بـما لا يشيـّعك الى باب القبر؟

بل فكيف بـما يفارقك خلال سنة او سنتين فراقاً ابدياً، مُورّثِاً اِثـمَه ذمـَّتَك، مـحـملاً خطاياه على ظهرك؟

بل فكيف بـما يتركك على رغمك في آنِ سرورك بـحصولـه؟

فان كنت فطناً فلا تهتـم ولا تغتـم، واترك ما لا يقتدر ان يرافقك في سفر الابد والـخلود، بل يضمـحل ويفنى تـحت مصادمات الدنيا وانقلاباتها، وتـحت تطورات البرزخ، وتـحت انفلاقات الآخرة.

ألا ترى ان فيك لطيفةً لا ترضى الاّ بالأبد والأبدي، ولاتتوجه الاّ الى ذلك الـخالد، ولاتتنزل لـما سواه؟ حتى اذا ما اُعطيت لـها الدنيا كُلـها، فلا تُطَمأن تلك الـحاجة الفطرية.. تلك هي سلطان لطائفك ومشاعرك.. فأطع سلطان لطائفك الـمطيع لأمر فاطره الـحكيـم جلّ جلالـه، وانجُ بنفسك..

الـمذكـِّرة الثانية

لقد رأيت في رؤيا صادقةٍ ذات حقيقة، أنني أخاطب الناس:

ايها الانسان! ان من دساتير القرآن الكريـم واحكامه الثابتة: أن لاتـحسبنَّ ما سوى الله تعالى اعظَم منك فترفعَه الى مرتبة العبادة، ولاتـحسَبنَّ انك اعظم من شيء من الاشياء بـحيث تتكـّبر عليه. اذ يتساوى ما سواه تعالى في العبد عن ((الـمعبودية)) وفي نسبة الـمـخلوقية.

الـمذكـِّرة الثالثة

اعلـم ايها السعيد الغافل! انك ترى الدنيا الزائلة سريعاً، كأنها دائمة لا تـموت، فعندما تنظر ما حولك من الآفاق وتراها ثابتةً مستـمرةً – الى حد ما – نوعاً وجـملةً، ومن ثم ترجع بالـمنظار نفسه فتنظر الى نفسك الفانية، تظنـّها ثابتةً ايضاً. وعندها لا تندهش الاّ من هَول القيامة، وكأنك تدوم الى أن تقوم الساعة!.

عُدْ الى رشدك، فانت ودنياك الـخاصة بك معـّرضان في كلّ آن الى ضربات الزوال والفناء.. ان مَثَلَكَ في خطأ شعورك وغَلَط حسـِّك هذا، يشبه مَن في يده مرآة تواجه قصراً او بلداً او حديقةً، وترتسـم الصورة الـمثاليةُ للقصر او البلد او الـحديقة فيها، فاذا ما تـحركت الـمرآة أدنى حركة، وتغيرت اقلّ تغـّير، فسيـحدث الـهرج والـمرج في تلك الصورة الـمثالية، فلا يفيدك بعدُ البقاءُ والدوام الـخارجيان في نفس القصر او البلد او الـحديقة، اذ ليس لك منها الاّ ما تعطيك مرآتُك بـمقياسها وميزانها.

فاعلـم ان حياتك وعمرك مرآة! وانها عماد دنياك وسندها ومرآتها ومركزها. فتأمل في مرآتك، وإمكان موتها، وخرابِ ما فيها في كل دقيقة، فهي في وضع كأن قيامتك ستقوم في كل دقيقة.

فما دام الامر هكذا فلا تـحـمـّل حياتك ودنياك ما لا طاقة لـهما به.

الـمذكـِّرة الرابعة

اعلـم ان من سنّة الفاطر الـحكيـم – في الاكثر – ومن عاداته الـجارية اعادة ما لـه اهمية وقيـمة غالية بعينه لا بـمثلـه . فعندما يـجدد اكثر الاشياء بـمثلـها عند تبدل الفصول وتعيـّر العصور، يُعيد تلك الاشياء الثمينة بعينها. فانظر الى الـحشر اليومي – أي الذي يتـم في كل يوم – والى الـحشر السنوي، والى الـحشر العصري، تَر هذه القاعدة الـمطـّردة واضحة جلية في الكل. وبناء على هذه القاعدة الثابتة نقول:

قد اتفقت الفنون وشهدت العلوم على أن الانسان هو أكمل ثمرةٍ في شجرة الـخليقة، وانه أهم مـخلوق بين الـمـخلوقات، وأغلى موجود بين الـموجودات، وأن فرداً منه بـمثابة نوع من سائر الاحياء، لذا يـحكم بالـحدس القطعي على أن كلّ فردٍ من أفراد البشر سيعاد في الـحشر الاعظم والنشر الاكبر بعينهِ وجسـمهِ واسـمهِ ورسـمهِ.

الـمذكـِّرة الـخامسة

حينـما سار ((سعيد الـجديد)) في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلوم الاوروبية الفلسفية وفنونها التي كانت مستقرة الى حدٍّ ما في افكار ((سعيد القديـم)) الى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلاتٌ كثيرة في تلك السياحة القلبية. فما كان من ((سعيد الـجديد)) الاّ القيام بتـمـخيض فكره والعمل على نفضه من أدران الفلسفة الـمزخرفة ولوثات الـحضارة السفيهة. فرأى نفسه مضطراً الى اجراء الـمحاورة الآتية مع الشخصية الـمعنوية لأوروبا لكبح جـماح ما في روحه من احاسيس نفسانية منـحازة لصالـح اوروبا، فهي مـحاورة مقتضبة من ناحية ومُسهبةٌ من ناحية اخرى.

ولئلا يُساء الفهمُ لابد أن ننبه: ان اوروبا اثنتان.

احداها: هي اوروبا النافعة للبشرية، بـما استفاضت من النصرانية الـحقة، وأدّت خدماتٍ لـحياة الانسان الاجتـماعية، بـما توصلت اليه من صناعاتٍ وعلومٍ تـخدم العدل والانصاف، فلا أخاطب – في هذه الـمـحاورة – هذا القسـم من اوروبا. وانـما أخاطب اوروبا الثانية تلك التي تعفـّنت بظلـمات الفلسفة الطبيعية وفسدت بالـمادية الـجاسية، وحَسبِتْ سيئات الـحضارة حسناتٍ لـها، وتوهـّمت مساوءها فضائل. فساقت البشرية الى السفاهة وأردتها الضلالة والتعاسة.

ولقد خاطبتُ في تلك السياحة الروحية الشخصية الـمعنوية الاوروبية بعد أن لستثنيت مـحاسن الـحضارة وفوائد العلوم النافعة، فوجـّهت خطابى الى تلك الشخصية التي اخذت بيدها الفلسفة الـمضرّة التافهة والـحضارة الفاسدة السفيهة.. وخاطبتها قائلاً:

يا اوروبا الثانية! اعلـمي جيداً أنكِ قد اخذتِ بيـمينكِ الفلسفة الـمضلـّة السقيـمة، وبشـمالك الـمدنية الـمضرّة السفيهة، ثم تدّعين ان سعادة الانسان بهما. ألا شُلـّت يداكِ، وبئست الـهدية هديتكِ، ولتكن وبالاً عليكِ، وستكون.

ايتها الروح الـخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الـجحود! تُرى هل يـمكن ان يسعد انسانٌ بـمـجرد تـملـّكه ثروة طائلة، وترفـّلـه في زينة ظاهرة خادعة، وهو الـمصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقلـه وفي قلبه بـمصائب هائلة؟ وهل يـمكن ان نطلق عليه أنه سعيد؟! ألا ترين أنّ من يِئس من امرٍ جزئي، وانقطع رجاؤه من أملٍ وهمي، وخاب ظنـّه من عملٍ تافه، كيف يتـحول خيالـه العذبُ مُراً علقماً، وكيف يتعذّب مـما حولـه من اوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا كالسجن بـما رحُبت!. فكيف بـمن أُصيب بشؤمك بضربات الضلالة في اعمق اعماق قلبه، وفي أغوار روحه، حتى انقطعت – بتلك الضلالة – جـميعُ آمالـه، فانشقت عنها جـميعُ آلامه، فايُّ سعادةٍ يـمكنك ان تضمَني لـمثل هذا الـمسكين الشَقي؟ وهل يـمكن ان يُطلَق لـمن روحه وقلبُه يُعذبان في جهنـم، وجسـمه فقط في جنةٍ كاذبة زائلة.. أنه سعيد؟..

لقد أفسدتِ – ايتها الروح الـخبيثة – البشريةَ حتى طاشت بتعاليـمك، فتقاسي منك العذاب الـمريَر، باذاقتك اِياها عذابَ الـجحيـم في نعيـم جنة كاذبة.

ايتها النفس الامارة للبشرية! تأملي في هذا الـمثال وافهمي منه الى اين تسوقين البشرية:

هب أن امامنا طريقين، فسلكنا احدهما، واذا بنا نرى في كل خطوة نـخطوها في الطريق الاول، مساكين عَجَزة يهجـم عليهم الظالـمون، يغصبون اموالـهم ومتاعهم، يـخرّبون بيوتهم واكواخهم، بل قد يـجرحونهم جرحاً بليغاً تكاد السـماء تبكي على حالتهم الـمفجعة، فاينـما يـمد النظر تُرى الـحالة نفسها فلا يُسـمع في هذا الطريق الاّ ضوضاء الظالـمين وصَخبَهم، وأنينُ الـمظلومين ونُواحهم، فكأن مأتـماً عاماً قد خيـم على الطريق.

ولـما كان الانسان – بـمقتضى انسانيته – يتألـم بألـم الآخرين، فلا يستطيع ان يتـحـمل ما يراه في هذا الطريق من ألـم غير مـحدود، اذ الوجدان لا يطيق ألـماً الى هذا الـحد، لذا يضطر سالك هذا الطريق الى أحد أمرين: اِما ان يتـجرد من انسانيته، ويـحـمل قلباً قاسياً غارقاً في منتهى الوحشة لا يتألـم بهلاك الـجـميع طالـما هو سالـم معافىً، او يُبطل ما يقتضيه القلبُ والعقلُ!.

فيا اوروبا التي نأتْ عن النصرانية وابتعدت عنها، وانغمست في السفاهة والضلالة! لقد اهديتِ بدهائك الاعور كالدجال لروح البشر حالة جهنـمية، ثم ادركتِ ان هذه الـحالة داءٌ عضال لا دواءَ لـه. إذ يهوي بالانسان من ذروة أعلى عليين الى درك اسفل سافلين، والى أدنى درجات الـحيوان وحضيضها، ولا علاج لك امام هذا الداء الوبيل الاّ ملاهيكِ الـجذابة التي تدفع الى اِبطال الـحسّ وتـخدير الشعور مؤقتاً، وكمالياتك الـمزخرفة واهواؤك الـمنوِّمة… فتعساً لكِ ولدوائكِ الذي يكون هو القاضي عليك.. نعم، ان ما فتـحتيه امام البشرية من طريق، يشبه هذا الـمثال الـمذكور.

اما الطريق الثاني فهو ما أهداه القرآن الكريـم من هديةٍ الى البشرية، فهداهم الى الصراط السوي، فنـحن نرى:

في كل منزل من منازل هذا الطريق، وفي كل موضع من مواضعه، وفي كل مدينة تقع عليه، جنود مطيعون أُمناء لسلطانٍ عادل، يتـجولون في كل جهة ينتشرون في كل ناحية، وبين فينة واخرى يأتي قسـم من مأموري ذلك الـملك العادل وموظفيه فيعفي بعض اولئك الـجنود من وظائفهم بأمر السلطان نفسه ويتسلـم منهم اسلـحتهم ودوابـّهم ومعدّاتهم الـخاصة بالدولة ويسلـم اليهم بطاقة الاعفاء. وهؤلاء الـمعفون يبتهجون ويفرحون – من زاوية الـحقيقة – على اعفائهم فرحاً عظيـماً لرجوعهم الى السلطان وعودتهم الى دار قرار سلطنته، والـمثول بزيارته الكريـمة، مع انهم يـحزنون في ظاهر الامر على ما أُخذ منهم من دابة ومعدات ألِفوها.. ونرى ايضاً أنه قد يلتقي اولئك الـمأمورون مَن لا يعرفهم من الـجنود، فعندما يـخاطبونه: أن سلـم سلاحك! يردّ عليهم الـجندي: انا جندي لدى السلطان العظيـم وتـحت امره وفي خدمته، واليه مصيري ومرجعي، فمن انتـم حتى تسلبوا مني ما وهبني السلطان العظيـم؟ فان كنتـم قد جئتـم باذنه ورضاه فعلي العين والرأس فأروني أمره الكريـم، والاّ تنـحـَّوا عني فلأقاتلنـّكم ولو كنت وحدي وانتـم أُلوف، اذ لا اقاتل لنفسي لانها ليست لي، بل اقاتل حفاظاً لأمانة مالكي ومولاي وصيانةً لعزته وعظمته. فانا لا ارضخ لكم!!.

فدونك مثالاً واحداً من ألوف الامثلة على ما في هذا الطريق الثاني من مصدر فرح ومدار سعادة. فانسج على منوالـه.

وعلى طول الطريق الثاني، وطوال مدة السفرة كلـها نرى سَوقاً الى الـجندية، يتـم في فرح وابتهاج وسرور.. تلك هي التي تسـمى بـ ((الـمواليد)). وهناك اعفاءات ورُخَص من الـجندية، تتـم في فرح وحبور ايضاً، وسط تهليل وتكبير.. تلك هي التي تسـمى بـ ((الوفيات)).

هذا هو الذي اهداه القرآن الكريـم للبشرية، فمن اهتدى به فقد سعد في الدارين ويـمضي في طريقه – الثاني – على هذه الصورة اللطيفة بلا حزن وكدّرٍ على ما فات منه، وبلا خوف ووجل مـما سيأتي عليه، حتى تنطبق عليه الآية الكريـمة: } لاخَوفٌ عَليهِم ولا هُمْ يـحزَنون { (البقرة:262).

يا اوروبا الثانية الفاسدة! انك تستندين الى اسس واهية نـخرة، فتزعمين:

أن كلّ كائن حي مالكٌ لنفسه، ابتداءً من اعظم ملَكَ وانتهاء الى اصغر سـمك. كلٌ يعمل لذاته فقط، ولأجل نفسه فحسب، ولا يسعى أحدٌ الاّ للذته الـخاصة، ولأجل هذا لـه حق الـحياة. فغاية همته وهدف قصده هو ضمان بقائه واستـمرار حياته. ثم انك ترين ((قانون التعاون)) جارياً فيـما بين الـمـخلوقات امتثالاً لأمر الـخالق الكريـم الذي هو واضح جلي في أرجاء الكون كلـه كامداد النباتات للـحيوانات والـحيوانات للانسان، ثم تـحسبين هذا القانون والسنـّة الإلـهية وتلك التـجليات الكريـمة الرحيـمة الـمنبعثة من ذلك التعاون العام جدالاً وخصاماً وصراعاً، حتى حكمتِ ببلاهة ان الـحياة جدال وصراع!

فيا سبـحان الله!! كيف يكون امدادُ ذرات الطعام امداداً بكمال الشوق لتغذية خلايا الـجسـم جدالاً وخصاماً؟ بل مَا هو الاّ سنـّة التعاون، ولا يتـم الاّ بأمر ربّ حكيـم كريـم!

وان ما تستندين اليه من ((أن كل شيء مالك لنفسه)) واضح البطلان. وأوضح دليل عليه هو ان اشرف الاسباب واوسعها ارادة واختياراً هو الانسان. والـحال ليس في يد اختياره ولا في دائرة اقتداره من أظهر افعالـه الاختيارية كالاكل والكلام والتفكر، الاّ جزءٌ واحد مُبهَمٌ من بين الـمائة. فالذي لا يـملك واحداً من الـمائة من مثل هذا الفعل الظاهر، كيف يكون مالكاً لنفسه؟! واذا كان الاشرف والاوسع اختياراً مغلولَ الايدي عن التـملك الـحقيقي والتصرف التام فكيف بسائر الـحيوانات والـجـمادات؟ أليس الذي يطلق هذا الـحكم ((بأن الـحيوان مالك لزمام نفسه)) أضلُّ من الانعام وأفقدُ للشعور من الـجـمادات؟

فيا اوروبا! ما ورطكِ في هذا الـخطأ الـمشين الاّ دهاءك الأعور، أي ذكاؤك الـمنـحوس الـخارق، فلقد نسيت بذكائك هذا ربَّ كل شيء وخالقه، اذ أسندتِ آثاره البديعة الى الاسباب والطبيعة الـموهومة! وقسـمتِ مُلك ذلك الـخالق الكريـم على الطواغيت التي تُعبَد من دون الله .. فانطلاقاً من هذه الزاوية التي ينظر منها دهاؤك الاعور يضطر كلُّ ذي حياة وكل انسان يصارع وحده ما لا يعد من الاعداء، ويـحصل بنفسه على ما لا يـحد من الـحاجات، بـما يـملك من اقتدارٍ كذرة، واختيارٍ كشعرة، وشعورٍ كلـمعة تزول، وحياة كشعلة تنطفي، وعمرٍ كدقيقة تنقضي، مع أنه لا يكفي كلُ ما في يده لواحدٍ من مطالبه. فعندما يصاب – مثلاٍ – بـمصيبة لا يرجو الدواء لدائه الاّ من اسباب صم، حتى يكون مصداق الآية الكريـمة: } وما دُعاءُ الكافرين إلاّ في ضلالٍ { (الرعد:14). ان دهاءك الـمظلـم قد قَلب نهارَ البشرية ليلاً، ذلك الليل البهيـم بالـجور والـمظالـم، ثم تريدين ان تنوري ذلك الظلام الـمـخيف بـمصابيـح كاذبة مؤقتة!.. هذه الـمصابيـح لا تبتسـم لوجه الانسان، بل تستهزى به، وتستـخف من ضحكاته التي يطلقها ببلاهة وهو متـمرغ في اوحال اوضاع مؤلـمة مُبكية! فكل ذي حياة في نظر تلاميذك، مسكينٌ مبتلىً بـمصائب ناجـمة من هجوم الظلـمة. والدنيا مأتـم عمومي، والاصوات التي تنطلق منها نعيـّات الـموت، وأناتُ الآلام، ونياحات اليتامى.

ان الذي يتلقى الدرس منك ويسترشد بهدْيك يصبـح ((فرعوناً)) طاغية.. ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس الاشياء، ويتـخذ كل شيء ينتفع منه رباً لـه.

وتلـميذك هذا ((متـمردٌ)) ايضاً.. ولكنه متـمرد مسكين، إذ لأجل لذةٍ تافهة يقبـّل قدَمَ الشيطان، ولأجل منفعة خسيسة يرضى بـمنتهى الذل والـهوان.

وهو ((جبـّار)) ولكنه جبار عاجز في ذاته لأنه لا يـجد مرتكزاً في قلبه يأوي اليه.

ان غاية ما يصبو اليه تلـميذك وذروة همـّته: تطمينُ رغبات النفس واشباعُ هواها، حتى انه دسّاس يبـحث تـحت ستار الـحـمية والتضحية والفداء عن منافعه الذاتية، فيطمئن بدسيسته وخبثه حرصَه ويُشبع نَهمَ غروره، إذ لا يـحب حقاً الاّ نفسه، بل يضحي بكل شيء في سبيلـها.

اما التلـميذ الـمـخلص الـخالص للقرآن الكريـم فهو ((عبدٌ)) ولكنه لا يتنزل لعبادةِ اعظم مـخلوق، فهو ((عبدٌ عزيزٌ)) لا يرضى حتى بالـجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

وهو ((لـّين هيـّن)) ولكنه لا يتذلل لغير فاطره الـجليل، ولغير أمره وإذنه، فهو صاحب همة عليا وعزيـمة صادقة.

وهو ((فقير)) ولكنه مستغن عن كل شيء بـما ادّخر لـه مالكُه الكريـم من الثواب الـجزيل.

وهو ((ضعيف)) ولكنه يستند الى قوة سيـّده الـمطلقة. فلا يرضى تلـميذ القرآن الكريـم الـخالص حتى بالـجنة الـخالدة مقصداً وغاية لـه، فكيف به بهذه الدنيا الزائلة؟ فافهم من هذا مدى التفاوت الكبير والبونَ الشاسع بين همـّة هذين التلـميذين!.

وكذلك يـمكنكم ان تقيسوا مدى الفرق الـهائل بين تلاميذ الفلسفة السقيـمة وتلاميذ القرآن الـحكيـم من حيث مدى التضحية والفداء في كل منهما بـما يأتي:

إن تلـميذ الفلسفة يفـّر من أخيه أثـّرَة لنفسه، ويقيـم عليه الدعوى. اما تلـميذ القرآن فانه يرى جـميع عباد الله الصالـحين في الارض والسـموات اخواناً لـه، ويشعر من اعماق روحه باواصر شوق تشدّه نـحوهم، فيدعو لـهم دعاءً خالصاً نابعاً من صميـم قلبه (اللهم اغفر للـمؤمنين والـمؤمنات) فهو يسعد بسعادتهم. حتى انه يرى ما هو اعظم الاشياء كالعرش الاعظم والشـمس الضخـمة مأموراً مسخـَّراً مثلـه.

ثم يـمكنك قياس سـموّ الروح وانبساطها لدى التلـميذين بـما يأتي:

ان القرآن الكريـم يـمنـح تلاميذه نـماءاً سامياً للروح وانبساطاً واسعاً لـها، اذ يسلـم الى ايديهم بدلاً من تسع وتسعين حبةٍ من حبـّات الـمسبـحة، سلسلة مركبة من ذراتٍ تسع وتسعين عالـماً من عوالـم الكون التي يتـجلى فيها تسعٌ وتسعون اسـماً من الاسـماء الـحسنى، ويـخاطبهم: هاؤم اقرأوا أورادكم بهذه السلسلة، وهم بدورهم يقرأون اورادهم بتلك الـمسبـحة العجيبة، ويذكرون ربـّهم الكريـم باعدادها غير الـمـحدودة.

فان شئت فانظر الى تلاميذ القرآن من الاولياء الصالـحين امثال الشيـخ الكيلاني والشيـخ الرفاعي والشيـخ الشاذلي (رضي الله عنهم)(1)، وانصت اليهم حينـما يقرأون اورادهم، وانظر كيف أخذوا في اياديهم سلاسل الذرات، وعدد القطرات، وانفاس الـمـخلوقات فيذكرون الله بها ويسبـحونه ويقدّسونه.. تأمل كيف يتعالى ذلك الانسان الـهزيل الصغير الذي يصارعه اصغر ميكروب ويصرعه أدنى كَرْب! وكيف يتسامي في التربية القرآنية الـخارقة فتنبسط لطائفُه وتسطع بفيض إرشادات القرآن حتى انه يستصغر اضخـم موجودات الدنيا من ان يكون مسبـحةً لأوراده، بل يستقل الـجنة العظمى ان تكون غاية ذكره لله سبـحانه، مع انه لا يرى لنفسه فضلاً على أدنى شيء من خلق الله.. انه يـجـمع منتهى التواضع في منتهى العزة.. ومن هنا يـمكنك ان تقدّر مدى انـحطاط تلاميذ الفلسفة ومدى دناءتهم.

وهكذا فالـحقائق التي تراها الفلسفة السقيـمة الاوروبية بدهائها الاعور مشوهةً زائفةً يراها الـهديُ القرآني واضحةً جلية، ذلك النور الذي ينظر الى كلا العالـمين بعينين براقتين نافذتين الى الغيب، ويشير بكلتا يديه الى السعادتين، ويـخاطب البشرية:

ايها الانسان! إن ما تـملكه من نفسٍ ومال ليس ملكاً لك، بل هو أمانةٌ لديك، فمالكُ تلك الامانة قديرٌ على كل شيء، عليـم بكل شيء، رحيـم كريـم، يشتري منك ملكه الذي عندك لسحفَظَه لك، لئلا يضيع في يدك، وسيكافؤك به ثمناً عظيـماً، فانت لست الاّ جندياً مكلفاً بوظيفة، فاعمل لاجلـه واسعَ باسـمه، فهو الذي يرسل اليك رزقَك الذي تـحتاجه، ويـحفظك مـما لا تقدر عليه.

ان غاية حياتك هذه ونتيـجتها هي أن تكون مظهراً لتـجليات اسـماء ذلك الـمالك، ومعكساً لشؤونه الـحكيـمة.. واذا ما اصابتك مصيبةٌ فقل: } إنـّا لله وإنـّا اليهِ رَاجعُون { (البقرة:156). أي أنا طوعُ أمر مولاي، فان كنت قادمةً ايتها الـمصيبة باذنه وباسـمه، فأهلاً ومرحباً بكِ، فنـحن لا مـحالة راجعونَ اليه لا مناص من ذلك. وسنـحظى بالـمثول بين يديه، فنـحن حقاً مشتاقون اليه.. فما دام سيُعتقنا يوماً من تكاليف الـحياة فليكن ذلك على يديك ايتها الـمصيبة.. انا مستسلـم راضٍ. ولكن إن كان الامر والارادة قد صدر اليك منه سبـحانه لأجل الابتلاء والاختبار لـمدى مـحافظتي على الامانة ولـمدى قيامي بواجباتي، فلا أسلـم ما استطعت امانة مالكي لأيدٍ غير أمينة. ولا استسلـم لغير أمره ورضاه سبـحانه.

فدونك مثالاً واحداً من بين الالوف منه على معرفة قيـمة ما تلقـّنه دهاءُ الفلسفة، ومرتبة ما يرشده هدي القرآن من دروس.

نعم ان الوضع الـحقيقي لكلا الطرفين هو على هذا الـمنوال، بيد أن درجات الناس متفاوتةٌ في الـهداية والضلالة ومراتب الغفلة مـختلفة متباينة، فلا يشعر كلُّ واحد بهذه الـحقيقة في كل مرتبة، إذ الغفلة تُبطل الـحس والشعور وتـخدّرهما، وقد أبطلتْ في هذا الزمان الـحسَ والشعورَ الى حدٍ لـم يَعُد يَشعر بألـم ومرارة هذا العذاب الاليـم اولئك السائرون في ركاب الـمدنية الـحاضرة. ولكن ستار الغفلة يتـمزق بتزايد الاحساس العلـمي، علاوةً على نذير الـموت يعرض جنازة ثلاثين ألف شخص يومياً.

فيا اسفى! وياويل من ضلّ بطواغيت الاجانب وعلومهم الـمادية الطبيعية، ويا خسارةَ اولئك الذين يقلـّدونهم تقليداً اعمى، ويتبعونهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

فيا ابناء هذا الوطن! لا تـحاولوا تقليد الافرنـج! وهل بعد كل ما رأيتـم من ظلـم اوروبا الشنيع وعداوتهم اللدودة، تتبعونهم في سفاهتهم، وتسيرون في ركاب أفكارهم الباطلة؟ وتلتـحقون بصفوفهم، وتنضمـّون تـحت لوائهم بلا شعور؟ فانتـم بهذا تـحكمون على انفسكم، وعلى اخوانكم بالاعدام الابدي.. كونوا راشدين فطنين! انكم كلـما اتبعتـموهم في سفاهتهم وضلالـهم ازددتـم كذباً وافتراءً في دعوى الـحـمية والتضحية، لأن هذا الاتباع استـخفافٌ بأمتكم واستهزاء بـملـّتكم.

هدانا الله واياكم الى الصراط الـمستقيـم.

الـمذكـِّرة السادسة

يامَن يضطرب ويقلق من كثرة عدد الكفار، ويامَن يتزلزل باتفاقهم على إنكار بعض حقائق الإيـمان، اعلـم ايها الـمسكين!

اولاً:

ان القيـمة والاهمية ليستا في وفرة الكمية وكثرة العدد، اذ الانسان إن لـم يكن انساناً حقاً انقلب حيواناً شيطاناً، لأن الانسان يكسب حيوانية هي أشدُّ من الـحيوان نفسه كلـما توغل في النوازع الـحيوانية، كبعض الاجانب او السائرين في ركابهم. فبينـما ترى قلة عدد الانسان قياساً الى كثرة عدد الـحيوانات إذا بك تراه قد أصبـح سلطاناً وسيداً على جـميع انواعها، وصار خليفةً في الارض.

فالكفار الـمنكرون والذين يتـّبعون خطواتهم في السفاهة، هم نوعٌ خبيث من انواع الـحيوانات التي خَلَقَها الفاطر الـحكيـم سبـحانه لعمارة الدنيا. وجعلـهم ((واحداً قياسياً)) لـمعرفة درجات النعمة التي اسبغها على عباده الـمؤمنين، وسوف يسلـّمهم الى جهنـم وبئس الـمصير التي يستـحقونها، حينـما يرثُ الارضَ ومَن عليها.

ثانياً:

ليس في إنكار الكفار والضالين لـحقيقة من الـحقائق الإيـمانية قوة، ولا في نفيهم لـها سندٌ، ولا في اتفاقهم اهميةٌ، لانه نفيٌ. فالفٌ من النافين هم في حكم نافٍ واحد فقط. مثال ذلك:

اذا نَفى اهل استانبول جـميعهم رؤيتهم للهلال في بداية رمضان الـمبارك، فان إثبات اثنين من الشهود، يُسقط قيـمة إتفاق كل ذلك الـجـمع الغفير. فلا قيـمة اذن في اتفاق الكفار الكثيرين ما دامت ماهيةُ الكفر والضلالة نفياً، وانكاراً، وجهلاً، وعدماً. ومن هنا يُرجـّح حُكمُ مؤمنين اثنين يستندان الى الشهود في الـمسائل الإيـمانية الثابتة اثباتاً قاطعاً على إتفاق ما لا يـحد من اهل الضلالة والانكار ويتغلب عليهم.

وسرّ هذه الـحقيقة هو ما يأتي:

ان دعاوى النافين متعددة، برغم انها تبدو واحدة في الظاهر، إذ لا يتـحد بعضها مع بعض الآخر كي يعززه ويشدّ من عضده. بينـما دعاوى الـمثبتين تتـحد وتتساند ويـمدّ بعضها البعض الآخر ويقـّويه ويدعمه، فالذي لا يرى هلال رمضان في السـماء يقول: ان الـهلال في نظري غير موجود، وعندي غير موجود.. والآخر يقول مثلـه، فكلٌ منهم ينفي من زاوية نظره، وليس من واقع الـحال، ومن الامر بذاته، لذا فاختلافُ نظرهم وتنوعُ الاسباب الداعية الى حَجب الرؤية، وتعدد موانع النظر لدى الاشخاص، يـجعل دعاواهم متباينة ومـختلفة لا تسند احداهما الاخرى.

اما الـمثبتون فلا يقول احدهم: الـهلال موجود في نظري، او عندي، بل يقول: ان الـهلال موجود فعلاً، وهو في السـماء بذاته.. والـمشاهدون جـميعاً يصدّقونه في دعواه هذه، ويؤيدونه في الامر نفسه قائلين: الـهلال موجود في واقع الـحال.. أي ان جـميع الدعاوى واحدة.

ولـما كان نظر النافين مـختلفاً، فقد اصبـحت دعاواهم كذلك مـختلفة، فلا يسري حُكمهم على الامر بذاته، لأنه لا يـمكن اثبات النفي في الـحقيقة، إذ يلزم الاحاطةُ. ومن هنا صارت من القواعد الاصولية أن ((العَدَم الـمطلق لا يُثبَتُ إلاّ بـمشكلات عظيـمة)).

نعم! اذ قلت: إن شيئاً ما موجود في الدنيا، فيكفي لاثباته إراءته فقط. ولكن ان قلتَ: انه معدومٌ، غير موجود في الدنيا. أي اذا نفيت وجوده، فينبغي لإثبات هذا النفي او العدم ان تبـحث عنه في اطراف الدنيا كافة وإراءتها واشهادها.

وبناء على هذا السر: يتساوى في انكار الكفار لـحقيقة واحدة الواحد مع الالف، لعدم وجود التساند فيه. يشبه ذلك، حل مسألة ذهنية، أو الـمرور من ثقب، او القفز من فوق الـخندق، التي لا تساند فيها.

اما الـمثبتون فلأنهم ينظرون الى الامر نفسه، أي الى واقع الـحال، فان دعاواهم تتـحد وتتعاون ويـمدُّ بعضها البعض الآخر قوةً، بـمثل التعاون الـحاصل في رفع صخرةٍ عظيـمة، فكلـما تكاثرت الايدي عليها، سهُل رفعُها اكثر، حيث يستـمد كلٌ منهم القوة من الآخر.

الـمذكـِّرة السابعة

يامن يـحثّ الـمسلـمين ويشوّقهم على حُطام الدنيا ويسوقهم قسراً الى صنائع الاجانب والتـمسك بأذيال رقيـّهم. ويا مدّعي الـحـمية، ايها الشقي!. تـمهـّل، وتأمـّل! واحذر من إنقطاع عُرى الدين لبعض أفراد هذه الامة وانفصام روابطهم معه، لانه اذا انقطعت تلك الروابط لدى البعض تـحت سطوة مطارق التقليد الاعمى والسلوك الارعن، فسيكونون مُلـحدين مضرّين بالـمـجتـمع، مُفسرين للـحياة الاجتـماعية كالسـم القاتل، اذ الـمرتد سـم زعاف للـمـجتـمع، حيث قد فسد وجدانه وتعفنت طويته كلياً، ومن هنا ورد في علـم الاصول: ((الـمرتد لا حقَّ لـه في الـحياة، خلافاً للكافر الذميّ او الـمعاهِد فان لـه حقاً في الـحياة)) وأن شهادة الكافر من اهل الذمة مقبولةٌ عند الاحناف بينـما الفاسقُ مردود الشهادة لانه خائن.

ايها الفاسق الشقي! لا تغتر بكثرة الفسـّاق، ولا تقل ان افكار اكثرية الناس تساندني وتؤيدني، ذلك لانه لـم يدخل الفسقَ فاسقٌ برغبةٍ فيه وطلباً بذات الفسق، بل وقع فيه ولا يستطيع الـخروج منه، إذ ما من فاسقٍ الاّ ويتـمنى ان يكون تقياً صالـحاً، وان يكون رئيسه وآمرهُ ذا دينٍ وصلاح، اللهـّم من اُشربَ قلبُه بالردة – والعياذ بالله – ففسد وجدانه بها، واصبـح يلتذ بلدغ الآخرين وإيذائهم كالـحيـّة.

ايها العقل الابلـه والقلب الفاسد! أتظنُّ ان الـمسلـمين لا يرغبون في الدنيا، ولا يفكرون فيها، حتى اصبـحوا فقراءَ مُعْدَمين، فتراهم بـحاجة الى مَن يوُقظهم من رقدتهم كيلا ينسوا نصيبهم من الدنيا.؟

كلا.. ان ظنك خطأ.. بل لقد اشتدّ الـحرص، فهم يقعون في قبضة الفقر وشباك الـحرمان نتيـجة الـحرص، اذ الـحرص للـمؤمن سببُ الـخيبة وقائد الـحرمان والسفالة. وقدْ ذهب مثلاً: الـحريص خائب خاسر.

نعم، ان الاسباب الداعية الى الدنيا كثيرة، والوسائل السائقة اليها وفيرة، وفي مقدمتها ما يـحـملـه كلُّ انسان من نفس أمـّارة بالسوء، وما يكمن فيه من هوىً وحاجةٌ وحواس ومشاعر وشيطانٍ عدو، فضلاً عن اقران السوء – من امثالك – وحلاوة العاجلة ولذّتها … وغيرها من الدعاة اليها كثير، بينـما الدعاة الى الآخرة وهي الـخالدة والـمرشدون الى الـحياة الابدية قليلون.

فان كان لديك ذرةٌ من الـحـميـّة والشـّهامة تـجاه هذه الامة، وان كنت صادقاً في دعواك الى التضحية والفداء والايثار، فعليك بـمدّ يد الـمساعدة الى اولئك القلـّة من الداعين الى الـحياة الباقية. والاّ فان عاونت الكثرة، وكمـمت أفواه اولئك الدعاة القلة، فقد اصبـحت للشيطان قريناً. فساء قريناً.

أوَ تظن أن فقرنا ناجـمٌ من زُهد الدين او من كسلٍ ناشيء من ترك الدنيا؟ انك مـخطيء في ظنك أشدَّ الـخطأ.. ألا ترى ان الـمـجوس والبراهمة في الصين والـهند والزنوج في افريقيا وامثالـهم من الشعوب الـمغلوبة على أمرها والواقعة تـحت سطوة اوروبا، هم أفقر منـّا حالاً.

أوَ لا ترى انه لا يبقى بأيدي الـمسلـمين سوى ما يسدّ رَمَقَهم ويقيـم أوَدَهم حيث يغصبه كفار اوروبا الظالـمون منهم او يسرقه منافقو آسيا بـما يـحيكون من دسائس خبيثة.

ان كانت غايتكم من سَوق الـمؤمنين قسراً الى الـمدينة التي هي الدنيـّة (أي بلا ميـم) تسهيلاً لارادة دفة النظام وبسط الامن في ربوع الـمـملكة، فاعلـموا جيداً انكم على خطأ جسيـم، اذ تسوقون الامة الى هاوية طريق فاسد. لان ادارة مائة من الفاسقين الفاسدين اخلاقياً والـمرتابين في إعتقادهم وإيـمانهم، وجعل الامن والنظام يسود فيـما بينهم لـهو أصعبُ بكثير من ادارة اُلوف من الصالـحين الـمتقين ونشر الامن فيـما بينهم.

وبناء على ما تقدم من الاسس فليس الـمسلـمون بـحاجة الى ترغيبهم وحثـّهم على حب الدنيا والـحرص عليها، فلا يـحصل الرقي والتقدم ولاينشر الامن والنظام في ربوع البلاد بهذا الاسلوب، بل هم بـحاجة الى تنظيـم مساعيهم، وبث الثقة فيـما بينهم، وتسهيل وسائط التعاون فيـما بينهم، ولاتتـم هذه الامور الاّ باتباع الاوامر الـمقدسة في الدين، والثبات عليها، مع التزام التقوى من الله سبـحانه وابتغاء مرضاته.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس