الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #15
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة التاسعة عشرة

((رسالة الاقتصاد))

(هذه الرسالة تـحضّ على الاقتصاد والقناعة وتـحذّر من مغبة الاسراف والتبذير)

بِسْمِ اِللهِ الرَّحـْمنِ الرَّحيمْ

} وكلوا واشربُوا وَلا تُسرِفُوا{ (الاعراف:31)

(هذه الآية الكريـمة تلقـّن درساً في غاية الاهمية وترشد إرشاداً حكيـماً بليغاً بصيغة الأمر الى الاقتصاد، ونهي صريـح عن الاسراف. تتضمن هذه الـمسألة سبع نكات).

النكتة الاولى:

ان الـخالق الرحيـم سبـحانه يطلب من البشرية شكراً وحـمداً إزاء ما اغدق عليها من النعم والآلاء، الاّ ان الاسراف منافٍ للشكر واستـخفاف خاسر وخيـم تـجاه النعمة، بينـما الاقتصاد توقيرٌ مربـح ازاء النعمة.

اجل! إن الاقتصاد كما هو شكر معنوي، فهو توقير للرحـمة الإلـهية الكامنة في النعم والاحسان.. وهو سبب حاسـم للبركة والاستكثار.. وهو مدار صحة الـجسد كالـحـمية.. وهو سبيل الى العزة بالابتعاد عن ذلّ الاستـجداء الـمعنوي وهو وسيلة قويةَ لإحساس ما في النعم ولآلاء من لذة.. وهو سبب متين لتذوق اللذائذ الـمـخبأة في ثنايا نعمٍ تبدو غير لذيذة.. ولكون الاسراف يـخالف الـحِكَم الـمذكورة آنفاً باتت عواقبه وخيـمة.

النكتة الثانية:

لقد خلق الفاطر الـحكيـم جسـم الانسان بـما يشبه قصراً كامل التقويـم وبـما يـماثل مدينة منتظمة الاجزاء، وجعل حاسة الذوق الـمغروزة في فمه كالبـّواب الـحارس، والاعصاب والاوعية بـمثابة اسلاك هاتف وتلغراف (تتـم خلالـها دورة الـمـخابرة الـحساسة بين القوة الذائقة والـمعدة التي هي في مركز كيان الانسان) بـحيث تقوم حاسة الذوق تلك إبلاغ ما حلّ في الفم من الـمواد، وتـحجز عن البدن والـمعدة الاشياء الضارة التي لا حاجة للـجسـم لـها قائلة: ((مـمنوع الدخول)) نابذةً اياها، بل لاتلبث أن تدفع وتبصق باستهجان في وجه كل ما هو غير نافع للبدن فضلاً عن ضرره ومرارته.

ولـما كانت القوة الذائقة في الفم تؤدي دور الـحارس. وان الـمعدة هي سيدة الـجسد وحاكمته من حيث الادارة، فلو بلغت قيـمة هديةٍ تُقدَّم الى حاكم القصر مائة درجة فان خـمساً منها فقط يـجوز أن يعطى هبةً للـحارس لا اكثر، كيلا يـختال الـحارس وينسى وظيفته ويقحـم في القصر كل مـخلّ عابث يرشوه قرشاُ اكثر.

وهكذا، بناءً على هذا السرّ، نفترض الآن امامنا لقمتان، لقمة منها من مادة مغذّية – كالـجبن والبيض مثلاً – يُقدّر ثـمنها بقرش واحد، واللقمة الاخرى حلوى من نوع فاخر يُقدّر ثـمنها بعشرة قروش، فهاتان اللقمتان متساويتان قبل دخولـهما الفم ولا فرق بينهما، وهما متساويتان كذلك من حيث إنـماء الـجسـم وتغذيته بعد دخولـهما الفم ونزولـهما عبر البلعوم. بل قد يغذّي الـجبن – الذي هو بقرش واحد – تغذية افضل وتنـمية أقوى من اللقمة الاخرى اذن ليس هناك من فرق الاّ ملاطفة القوة الذائقة في الفم التي لا تستغرق سوى نصف دقيقة. فليقدر إذن مدى ضرر الاسراف ويوازن مدى التفاهة في صرف عشرة قروش بدلاً عن قرش واحد في سبيل الـحصول على لذة تستغرق نصف دقيقة!

وهكذا فان اثابة الـحارس تسعة اضعاف ما يُقدّم الى حاكم القصر من هدايا تُفضي به لا مـحالة الى الغرور والـجشع وتدفعه بالتالي الى القول: انـما انا الـحاكم. فمن كافأه بهبة اكثر ولذة أزيد دفعه الى الداخل، مسبـّبـاً إخلال النظام القائم هناك، مضرماً فيه ناراً مستعرة وملزماً صاحبه الاستغاثة صارخاً: هيـّا اسرعوا اليّ بالطبيب حالاً ليـخفف شدة حرارتي ويطفيء لظى نارها.

فالاقتصاد والقناعة منسجـمان انسجاماً تاماً مع الـحكمة الإلـهية، اذ يتعاملان مع القوة الذائقة معاملة الـحارس، ويقفانها عند حدّها، ويكافئانها حسب تلك الوظيفة. اما الاسراف فلأنه يسلك سلوكاً مـخالفاً لتلك الـحكمة، فسرعان ما يتلقـّى الـمسرف صفعات موجِعة، اذ تـحدث الاختلاطات الـمؤلـمة في الـمعدة التي تؤدي الى فقدان الشهية الـحقيقية نـحو الاكل، فيأكل بشهية كاذبة مصطنعة بتنويع الاطعمة مـما يسبب عسراً في الـهضم.

النكتة الثالثة:

قلنا في النكتة الثانية آنفاً: ان القوة الذائقة تؤدي دور الـحارس. نعم، هي كذلك عند الغافلين الذين لـم يَسـموا بعدُ روحياً والذين لـم يتقدموا في مضمار الشكر والعروج في مدارجه، نعم إنه لا ينبغي اللـجوء الى الاسراف – كصرف عشرة أضعاف الثمن، لأجل تلذذ تلك الـحاسة الـحارسة. ولكن القوة الذائقة لدى الشاكرين حقاً ولدى اهل الـحقيقة واهل القلوب واولى الابصار بـمثابة راصدة وناظرة مفتشة لـمطابـخ الرحـمة الإلـهية (كما وضح ذلك في الـمقارنة الـمعقودة في الكلـمة السادسة). وان ما يتـم في تلك القوة الذائقة من عملية تقدير قيـمة النعم الاَلـهية ومن التعـّرف عليها بأنواعها الـمـختلفة بـما فيها من موازين دقيقة حساسة عديدة بعدد الاطعمة، انـما هو لإبلاغ الـجسد والـمعدة، بـما ينـم عن شكر معنوي.

فلا تقتصر وظيفة القوة الذائقة على رعاية الـجسد رعاية مادية وحدها، بل هي ايضاً أرقى حكماً من وظيفة الـمعدة وأرفع منزلة منها، لـما لـها من رعاية للقلب والروح والعقل ومن عناية لكل منها، علـماً أنها تستطيع ان تـمضي في سبيل الـحصول على لذتها – بشرط عدم الاسراف – انـجازاً لـمهمة الشكر الـخالص الـمقدرة لـها، وبنيـّة التعرف والاطلاع على انواع النعم الإلـهية بتذوقها والشعور بها بشرط مشروعيتها وعدم كونها وسيلة للتذلل والاستـجداء، أي اننا نستطيع ان نستعمل ذلك اللسان الـحامل للقوة الذائقة في الشكر لاجل التفضيل بين الاطعمة اللذيذة.

واليكم هذه الـحادثة اشارة الى هذه الـحقيقة، وهي كرامة من كرامات الشيـخ الكيلاني ((قُدس سره)): كان لعجوز رقيقة لطيفة ابنٌ وحيد يتربـّى على يد الشيـخ، دخلت تلك العجوز الـموقرة ذات يوم على ابنها ورأت انه يأكل من كسرة خبز يابس أسـمر مزاولاً رياضة روحية حتى ضعف ونـحل جسـمه. أثارت هذه الـحالة شفقة والدته الرؤوم ورقـّت لـحالة فذهبت لتشتكيه الى الشيـخ الكيلاني واذا بها ترى الشيـخ يأكل دجاجاً مشوياً. ولشدة رقتها ولطافتها قالت: ايها الشيـخ ان ابني يكاد يـموت جوعاً وها انت ذا تأكل الدجاج؟! فخاطب الشيـخ الدجاج قائلاً: ((قم باذن الله)) فوثب ذلك الدجاج الـمطبوخ الى خارج الوعاء بعد ان اكتـمل دجاجاً حياً بالتئام عظامه. لقد نقل هذا الـخبر بالتواتر الـمـعنوي ثقاتٍ كثيرون(1) اظهاراً لكرامة واحدة من صاحب الكرامات الـمشهورة في العالـم، الشيـخ الكيلاني قُدس سرّه. ومـما قالـه الشيـخ لتلك العجوز: متى ما بلغ إبنك هذه الدرجة.. فليأكل الدجاج هو الآخر.

فمغزى هذا الامر الصادر من الشيـخ الكيلاني هو: متى حَكمت روحُ ابنك جَسَدَهُ وهيـمن قلبُه على نفسه، وسادَ عقلـه معدته، والتـمس اللذةَ لاجل الشكر.. عندئذ يـمكنه أن يتناول ما لذّ وطاب من الاطعمة.

النكتة الرابعة:

ان الـمقتصد لا يعاني فاقة العائلة وعوزها كما هو مفهوم الـحديث الشريف: ((لا يعول من اقتصد))(1). اجل هناك من الدلائل القاطعة التي لا يـحصرها العدّ بأن الاقتصاد سبب جازم لإنزال البركة، واساس متين للعيش الافضل. أذكر منها ما رأيته في نفسي وبشهادة الذين عاونوني في خدمتي وصادقوني باخلاص فأقول:

لقد حصلتُ احياناً وحصل اصدقائي على عشرة اضعاف من البركة بسبب الاقتصاد. حتى انه قبل تسع سنوات(2) عندما أصرّ عليّ قسـم من رؤساء العشائر الـمنفيين معي الى ((بوردور)) على قبول زكاتهم كي يـحولوا بيني وبين وقوعي في الذلة والـحاجة لقلة ما كانت عندي من النقود، فقلت لاولئك الرؤساء الاثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً الاّ انني املك الاقتصاد، وقد تعودت على القناعة، فانا أغنى منكم بكثير فرفضتُ تكليفهم الـمتكرر الـملـح.. ومن الـجدير بالـملاحظة ان قسـماً من اولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الذَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، الاّ أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني – ولله الـحـمد – ببركة الاقتصاد الى ما بعد سبع سنوات، فلـم تُرق مني ماء الوجه، ولـم تدفعني لعرض حاجتي الى الناس، ولـم تفسد عليّ ما اتـخذته دستوراً لـحياتي وهو ((الاستغناء عن الناس)).

نعم ان من لايقتصد، مدعوّ للسقوط في مهاوي الذلّة، ومعرض للانزلاق الى الاستـجداء والـهوان معنىً.

ان الـمال الذي يستعمل في الاسراف في زماننا هذا لـهو مال غالٍ وباهظ جداً، حيث تدفع احياناً الكرامة والشرف ثـمناً ورشوة لـه، بل قد تُسلب الـمقدسات الدينية، ثم يُعطى نقوداً منـحوسة مشؤومة، أي يقبش بضعة قروش من نقود مادية، على حساب مئات الليرات من النقود الـمعنوية.

بينـما لو اقتصر الانسان على الـحاجات الضرورية واختصرها وحصر همـّه فيها، فسيـجد رزقاً يكفل عيشه من حيث لا يـحتسب وذلك بـمضمون الآية الكريـمة:

} ان الله هو الرزاق ذو القوة الـمـتين { (الذاريات:58) وأن صراحة الآية الكريـمة:

} وما من دابة في الارض الاّ على الله رزقها { (هود:6) تتعهد بذلك تعهداً قاطعاً.

نعم، ان الرزق قسـمان:

القسـم الاول: وهو الرزق الـحقيقي الذي تتوقف عليه حياة الـمرء، وهو تـحت التعهد الرباني بـحكم هذه الآية الكريـمة، يستطيع الـمرء الـحصول على ذلك الرزق الضروري مهما كانت الاحوال، ان لـم يتدخل سوء اختياره، دون ان يضطر الى فداء دينه ولا التضحية بشرفه وعزته.

القسـم الثاني: هو الرزق الـمـجازي، فالذي يسيء استعمالـه لا يستطيع ان يتـخلـّى عن الـحاجات غير الضرورية، التي غدت ضرورية عنده نتيـجة الابتلاء التقليد. وثـمن الـحصول على هذا الرزق باهظ جداً ولاسيـماء في هذا الزمان، حيث لا يدخل ضمن التعهد الرباني، اذ قد يتقاضى ذلك الـمال لقاء تضحيته بعزته سلفاً راضياً بالذل، بل قد يصل به حد السقوط في هاوية الاستـجداء الـمعنوي، والتنازل الى تقبيل اقدام أناس منـحطين وضيعين، لا بل قد يـحصل على ذلك الـمال الـمنـحوس الـمـمـحوق بالتضحية بـمقدساته الدينية التي هي نور حياته الـخالدة. ثم ان الألـم الذي ينتاب ذوي الوجدان من حيث العاطفة الانسانية – بـما برونه من آلام يقاسيها الـمـحتاجون البائسون في هذا الزمان الذي خيـم عليه الفقر والـحاجة – يشوّب لذاتَهم التي يـحصلونها بأموال غير مشروعة، وتزداد مرارتها ان كانت لـهمضمائر. انه ينبغي في هذا الزمان العجيب الاكتفاء بـحدّ الضرورة في الاموال الـمريبة، لانه حسب قاعدة ((الضرورة تقدر بقدرها)) يـمكن ان يؤخذ باضطرارٍ من الـمال الـحرام حدَّ الضرورة وليس اكثر من ذلك. وليس للـمضطر ان يأكل من الـميتة الى حدّ الشبع، بل لـه ان يأكل بـمقدار ما يـحول بينه وبين الـموت. وكذا لا يؤكل الطعام بشراهة امام مائة من الـجائعين.

نورد هنا حادثة واقعية للدلالة على كون الاقتصاد سبب العزة والكمال:

اقام ((حاتـم الطائي)) الـمشهور بكرمه وسخائه ضيافة عظيـمة ذات يوم واغدق هدايا ثـمينة على ضيوفه ثـم خرج للتـجول في الصحراء، فرأى شيـخاً فقيراً يـحـمل على ظهره حـملاً ثقيلاً من الـحطب والكلأ والشوك والدم يسيل من بعض جسـمه.. فـخاطبه قائلاً:

- ايها الشيـخ، ان حاتـماً الطائي يقيـم اليوم ضيافة كريـمة ويوزع هدايا ثـمينة، بادرْ اليه لعلك تنال منه اموالاً اضعاف أضعاف ما تنالـه من هذا الـحـمل!!.

قال لـه ذلك الشيـخ الـمقتصد: سأحـمل حـملي هذا بعزة نفسي وعرق جبيني، ولا أرضى ان أقع تـحت طائل منّة حاتـم الطائي.

ولـما سُئل حاتـم الطائي يوماً:

- مَن من الناس وجدتهم اعزَّ منك واكرم؟

قال: ذلك الشيـخ الـمقتصد الذي لقيته في الـمفازة ذات يوم، لقد رأيته حقاً اعزّ مني واكرم.

النكتة الـخامسة:

ان من كمال كرم الله سبـحانه وتعالى، أنه يُذيقُ لذّة نِعمه لأفقر الناس، كما يذيقها أغناهم، فالفقير يستشعر اللذة ويتذوقها كالسلطان.

نعم ان اللذة التي ينالـها فقير من كسرة خيز اسود يابس بسبب الـجوع والاقتصاد تفوق ما ينالـه السلطان او الثري من اكلـه الـحلوى الفاخرة بالـملل وعدم الشهية النابعين من الاسراف.

ومن العجيب حقاً ان يـجرؤ بعض الـمسرفين والـمبذّرون على اتهام الـمقتصدين بالـخسـّة.. حاشَ لله، بل الاقتصاد هو العزة والكرم بعينه، بينـما الـخسة والذلة هما حقيقة ما يقوم به الـمسرفون والـمبذرين من سخاء ظاهري.

وهناك حادثة جرت في غرفتي في ((اسبارطة)) في السنة التي تـم فيها تأليف هذه الرسالة، تؤيد هذه الـحقيقة وهي:

اصرّ احد طلابي اصراراً شديداً على ان أقبل هديته التي تزن اوقيتين ونصف الاوقية(1) من العسل، خرقاً لدستور حياتي(2)، ومهما حاولت في بيان ضرورة التـمسك على قاعدتي لـم يقنع، فاضطررت الى قبولـها مرغما على نية ان يشترك ثلاثة اخوةٍ معي في الغرفة فيها ويأكلوا منه باقتصاد طوال اربعين يوماً من شهري شعبان ورمضان الـمبارك، ليكسب صاحبه الـمهدي ثواباً، ولا يبقوا دون حلاوة. لذا أوصيتهم بقبول الـهدية لـهم علـماً انـّي كانت عندي أوقية من العسل.

وبرغم ان اصدقائي الثلاثة كانوا على استقامة حقاً ومـمن يقدّرون الاقتصاد حق قدره، لاّ انهم – على كل حال – نَسوه نتيـجة قيامهم باكرام بعضهم بعضاً ومراعاتهم شعور الآخرين والايثار فيـما بينهم، وامثالـها من الـخصال الـحـميدة، فانفدوا ما عندهم من العسل في ثلاث ليالٍ فقط، فقلت مبتسـماً:

- لقد كانت نبتي ان اجعلكم تتذوقون طعم العسل ثلاثين يوماً او اكثر، ولكنكم انفذتـموه في ثلاثة ايام فقط.. فهنيئاً لكم!. في حين انني بت اصرف ما كنتُ املكه من العسل بالاقتصاد، فتناولته طوال شهري شعبان ورمضان، فضلاً عن انه اصبـح ولله الـحـمد سبباً لثواب عظيـم، حيث اعطيتُ كل واحد من اولئك الاخوة ملعقة واحدة منه(1) وقت الافطار.

ولربـما حَسِب الذين شاهدوا حالي تلك انها خسّة، واعتبروا اوضاع اولئك الاخوة في الليالي الثَلاث حالة عزيزة من الكرم! ولكن شاهَدنا تـحت تلك الـخسة الظاهرية عزةً عاليةً وبركة واسعة وثواباً عظيـماً من زاوية الـحقيقة. وتـحت ذلك الكرم والاسراف – ان لـم يكن قد تُرك – استـجداءً وترقباً لـما في ايدي الآخرين بطمع وامثالـها من الـحالات التي هي أدني بكثير من الـخسة.

النكتة السادسة:

هناك بون شاسع وفوق هائل بين الاقتصاد والـخسة، اذ كما أن التواضع الذي هو من الاخلاق الـمـحـمودة يـخالف معنىً التذللَ الذي هو من الاخلاق الـمذمومة مع أنه يشابهه صورة. وكما ان الوقار الذي هو من الـخصال الـحـميدة يـخالف معنىً التكبـّر الذي هو من الاخلاق السيئة مع أنه يشابهه صورة.

فكذا الـحال في الاقتصاد الذي هو من الاخلاق النبوية السامية بل هو من الـمـحاور التي يدور عليها نظام الـحكمة الإلـهية الـمهيـمن على الكون، لا علاقة لـه أبداً بالـخسة التي هي مزيـج من السفاهة والبـخل والـجشع والـحرص. بل ليست هناك من رابطة بينهما قطعاً، الاّ ذلك التشابه الظاهري. واليكم هذا الـحدث الـمؤيد لـهذه الـحقيقة:

دخل عبدالله بن عمر بن الـخطاب رضي الله عنهما وهو اكبر ابناء الفاروق الاعظم خليفة رسول الله e وأحد العبادلة السبعة الـمشهورين ومن البارزين بين علـماء الصحابة الأجلاء، دخل هذا الصحابي الـجليل يوماً في مناقشة حادة لدى تعاملـه في السوق على شيء لا يساوي قرشاً واحداً، حفاظاً على الاقتصاد وصوناً للأمانة والاستقامة اللتين تدور عليهما التـجارة. في هذه الاثناء رآه صحابي آخر، فظنّ فيه شيئاً من خسّة فاستعظمها منه، اذ كيف يصدر هذا الامر من ابن أمير الـمؤمنين وخليفة الارض. فتبعه الى بيته ليفهم شيئاً من احوالـه، فوجد أنه قضى بعض الوقت مع فقير عند الباب وتبادلا حديثاً في لطف ومودة، ثم خرج من الباب الثاني وتـجاذب اطراف الـحديث مع فقير آخر هناك. اثار هذا الامر لـهفة ذلك الصحابي فأسرع الى الفقيرين للاستفسار منهما:

- هلاّ تفهماني ماذا فعل ابن عمر حينـما وقف معكما؟.

- لقد اعطى كلاً منا قطعة ذهب.

فراعه الامر وقال شدهاً: يا سبـحان الله.. ما أعجب هذا الامر، انه يـخوض في السوق في نِقاش شديد لأجل قرش واحد، ثم ها هو ذا يغدق في بيته بـمئات أضعافه على مـحتاجين اثنين عن رضىً دون ان يشعر به أحد، فسار نـحو ابن عمر رضي الله عنهما ليسألـه:

- ايها الإمام: ألا تـحل لي معضلتي هذه؟ لقد فعلتَ في السوق كذا وكذا وفي البيت كذا وكذا؟! فردّ عليه قائلاً:

- ان ما حدث في السوق هو نتيـجة الاقتصاد والـحصافة، فعلتُه صوناً للامانة وحفظاً للصدق اللذين هما اساس الـمبايعة وروحها وهو ليس بـخسّةٍ ولا ببـخل، وان ما بدر مني في البيت نابع من رأفة القلب ورقـّته ومن سـمو الروح واكتـمالـها.. فلا ذاك خسّة ولا هذا اسراف.

واشارةً الى هذا السرّ قال الامام الاعظم ((ابو حنيفة النعمان)) رضي الله عنه: ((لا اسراف في الـخير كما لا خير في الاسراف)) أي كما لا اسراف في الـخير والاحسان لـمن يستـحقه كذلك لا خير في الاسراف قط.

النكتة السابعة:

ان الاسراف ينتـج الـحرص، والـحرص يوَلد ثلاث نتائج:

اولاها: عدم القناعة.

وعدم القناعة هذا يُثنى الشوقَ عن السعي وعن العمل، بـما يبثّ في نفس الـحريص من الشكوى بدلاً من الشكر، قاذفاً به الى احضان الكسل، فيترك الـمال الزهيد النابع من الكسب الـحلال(1) ويبادر بالبـحث عما لا مشقة ولا تكليف فيه من مال غير مشروع، فيهدر في هذه السبيل عزتَه بل كرامته.

النتيـجة الثانية للـحرص: الـخيبة والـخسران.

اذ يفوت مقصود الـحريص ويتعرض للاستثقال ويـحرم من التيسير والـمعاونة حتى يكون مصداق القول الـمشهور: ((الـحريصُ خائب خاسر)).

ان تأثير الـحرص والقناعة يـجري في عالـم الاحياء على وفق دستور شامل وسنـّة مطردة فمثلاً:

ان وصول ارزاق النباتات الـمضطرة الى الرزق اليها هو لقناعتها الفطرية، وسعي الـحيوانات بنفسها بالـحرص وراء الـحصول على رزقها في عناء ونقص، يبديان مدى الضرر الـجسيـم الكامن في الـحرص، ومدى النفع العظيـم الكامن في القناعة.

وان سيلان الـحليب – ذلك الغذاء اللطيف – الى أفواه الصغار الضعفاء عامة ومن حيث لا يـحتسبون بـما يبدونه من قناعة ينطق بها لسان حالـهم، وانقضاض الوحوش بـحرص وجشع على ارزاقها الناقصة الـملوّثة، يثبت ما ندّعيه اثباتاً ساطعاً.

وان اوضاع الاسـماك البدينة البليدة التي تنـم عن القناعة الباعثة لوصول ارزاقها اليها كاملة وعجز الـحيوانات الذكية كالثعالب والقردة عن تـحصيل غذائها كاملاً مع حرصها سعياً وراءها وبقاءها هزيلة نـحيفة، ليبيـّن كذلك مدى ما يسببه الـحرص من الـمشقة والعناء ومدى ما تسببه القناعة من الراحة والـهناء.

كما ان حصول اليهود على ارزاقهم كفافاً بطرق غير مشروعة مـمزوجاً بالذل والـمسكنة بسبب حرصهم وتعاملـهم بالربا واتباعهم اساليب الـمكر والـخدع، وحصول البدويين الـمتـحلين بالقناعة على رزقهم الكافي وعيشهم العيش الكريـم العزيز يؤيد دعوانا ايضاً تأييداً كاملاً.

كما أن تردّي كثير من العلـماء(1) والادباء(2) بـما يـمنـحهم ذكاؤهم ودهاؤهم من الـحرص في فقر مدقع وعيش كفاف، وغناء اكثر الاغبياء العاجزين واثرائهم لـما لـهم من حالة فطرية قنوعة ليثبت اثباتاً قاطعاً: ان الرزق الـحلال يأتي حسب العجز والافتقار لا بالاقتدار والاختيار. بل هو يتناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار. ذلك ان ارزاق الاطفال تتضائل وتبتعد ويصعب الوصول اليها كلـما ازدادوا اختياراً وارادةً واقتداراً.

نعم، ان القناعة كنز للعيش الـهنيء الرغيد ومبعث الراحة في الـحياة، بينـما الـحرص معدن الـخسران والسفالة كما يتبين ذلك من الـحديث الشريف: ((القناعة كنز لا يفنى))(3).

النتيـجة الثالثة: ان الـحرص يتلف الاخلاص ويفسد العمل الاخروي؛ لانه لو وُجد حرص في مؤمن تقي لرغب في توجه الناس واقبالـهم اليه، ومن يرقب توجه الناس وينتظره لا يبلغ الاخلاص التام قطعاً ولا يـمكنه الـحصول عليه، فهذه النتيـجة ذات اهمية عظمى جديرة بالدقة والـملاحظة.

مـحصل الكلام: ان الاسراف ينتـج عدم القناعة أي الطمع، اما الطمع فيـخبت وهج الشوق والتطلع الى العمل ويقذف بالانسان الى التقاعس والكسل، ويفتـح امامه ابواب الشكوى والـحسرة في حياته حتى ليـجعلـه يئن دوماً تـحت مضض الشكوى والسأم(1). كما انه يفسد اخلاصه ويفتـح دونه باباً للرياء والتصنع فيكسر عزته ويريه طريق الاستـجداء والاستـخذاء.

اما الاقتصاد فانه يثمر القناعة، والقناعة تنتـج العزة، استناداً الى الـحديث الشريف: ((عزّ مَن قنع وذلّ مَن طمع)). كما انه يشحذ الشوق بالسعي والعمل ويـحث عليهما ويسوق سوقاً الى الكدّ وبذل الـجهد فيهما؛ لانه اذا ما سعى الـمرء في يوم ما وتقاضى اجره مساءً فسيسعى في اليوم التالي لـه بسر القناعة التي توافرت لديه. اما الـمسرف فانه لا يسعى في يومه الثاني لعدم قناعته وحتى اذا سعى فانه يسعى دون شوق.

وهكذا فان القناعة الـمستفيضة من الاقتصاد تفتـح باب الشكر وتوصد باب الشكوى، فيظل الانسان في شكر وحـمد مدى حياته. وبالقناعة لايتلفت الى توجه الناس اليه لإستغنائه عنهم، فينفتـح امامه باب الاخلاص وينغلق باب الرياء.

ولقد شاهدت الاضرار الـجسيـمة والـخسائر الفادحة التي تسفر عن الاسراف وعدم الاقتصاد شاهدتها متـجسدة في نطاق واسع مـمتد وهي كما يأتي:

جئت الى مدينة مباركة – قبل تسع سنوات – كان الـموسـم شتاءً فلـم اتـمكن من رؤية منابع الثروة وجوانب الانتاج في تلك الـمدينة، قال لي مُفتيها رحـمه الله: ان أهالينا فقراء مساكين. أعاد قولـه هذا مراراً. أثـّر فيّ هذا القول تأثيراً بالغاً مـما أجاش عطفي، فبت استرحـم وأتألـم لأهالي تلك الـمدينة فيـما يقرب من ست سنوات. وبعد ثماني سنوات عدتُ اليها وهي في اجواء الصيف، وأجلت نظري في بساتينها فتذكرت قول الـمفتي رحـمه الله فقلت متعجباً:

سبـحان الله! ان مـحاصيل هذه البساتين وغلاتها تفوق حاجة الـمدينة بأسرها كثيراً، وكان حرياً بأهاليها ان يكونوا أثرياء جداً! بقيت في حيرة من هذا الامر.. ولكن ادركت بـحقيقة لـم تـخدعني عنها الـمظاهر، فهي حقيقة استرشد بها في ادراك الـحقائق، وهي: ان البركة قد رفعت من هذه الـمدينة بسبب الاسراف وعدم الاقتصاد. مـما حدا بالـمفتي رحـمه الله الى القول: ان اهالينا فقراء ومساكين، برغم هذا القدر الواسع من منابع الثروة وكنوز الـموارد.

نعم، انه ثابت بالتـجربة وبالرجوع الى وقائع لاتـحد بأن دفعَ الزكاة، والأخذ بالاقتصاد سببان للبركة والاستزادة. بينـما الاسراف ومنع الزكاة يرفعان البركة.

ولقد فسّر ((ابن سينا)) وهو افلاطون فلاسفة الـمسلـمين وشيـخ الاطباء واستاذ الفلاسفة فسّر هذه الآية الكريـمة: } وكلوا واشربُوا وَلا تُسرِفُوا{ (الاعراف:31). من زاوية نظر الطب فقط بالابيات الآتية:

جـمعتُ الطبَّ في بيتين جـمعاً وحُسن القولِ في قِصَر الكلام

فقلـّل إن اكلتَ وبعد أكل تـجنـّب، والشفاءُ في الإنهضام

وليس على النفوس أشدُّ حالاً من إدخال الطعامِ على الطعام(1)

واليكم هذا التوافق الغريب الباعث على الـحيرة والـجالب للعبرة:

انه مع قيام خـمسة وستة من الـمستنسخين الـمـختلفين – ثلاثة منهم لا يتقنون الكتابة – باستنساخ ((رسالة الاقتصاد)) فقد توافق كل (واحد وخـمسين) ألفاً من ألفات كل نسخة – خالية من الدعاء – وكل (ثلاثة وخـمسين) ألفاً – مع الدعاء – رغم اختلاف امكنة اولئك الـمستنسخين واختلاف النسخ التي كانوا ينقلون منها واختلاف خطهم في الكتابة ومع عدم التفكر في تلكم الألفات إطلاقا!.

فان توافق عدد الألفات مع تاريـخ تأليف ((رسالة الاقتصاد)) واستنساخها وهو بالتاريـخ الرومي واحدة وخـمسون (1351) وبالتاريـخ الـهجري ثلاث وخـمسون (1353) لا يـمكن ان يـحال ذلك الى الصدفة دون ريب، بل هو اشارة الى صعود البركة الكامنة في (الاقتصاد) الى درجة الكرامة. وانه لـحرّي حقاً ان يطلق على هذا العام ((عام الاقتصاد)).

نعم لقد اثبت الزمان فعلاً هذه الكرامة الاقتصادية وذلك عندما شهدت البشرية بعد عامين الـحرب العالـمية الثانية.. تلك الـحرب التي بثت الـجوع والتـخريب وضروب الاسراف الـمقيت في كل انـحاء العالـم مـما أرغم البشرية على التشبث بالاقتصاد والالتفاف حولـه عنوةً.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس