الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #17
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الـحادية والعشرون

((تـخص الإخلاص))

((كانت هذه اللمعة الـمسألة الرابعة للـمسائل السبع للـمذكرة السابعة عشرة من اللمعة السابعة عشرة الا انها اصبحت النقطة الثانية من اللمعة العشرين. لـمناسبة موضوعها – الاخلاص – وبناء على نورانيتها صارت اللمعة الـحادية والعشرين، فدخلت في كتاب (اللمعات) )).

[ تُقرأ هذه اللمعة كل خـمسة عشر يوماً في الاقل ]

بسم الله الرحمن الرحيم

} وَلاَ تَنَازَعـُوا فَتْفشَلواُ وَتَذْهَبَ ريحـُكُم { (الانفال:46)

} وَقوُمُوا للهِ قَانتِينَ { (البقرة:238)

} قَدْ اَفـْلَحَ مَنْ زَكـّاها ` وَقَد خَابَ مَنْ دَسـّاها {

(الشمس:9-10)

} وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً { (البقرة:41)

يا اخوة الآخرة! ويا اصحابي في خدمة القرآن! اعلموا – وانتم تعلمون – ان الاخلاص في الاعمال ولا سيما الاخروية منها، هو اهم اساس، واعظم قوة، وارجى شفيع، واثبت مرتكز، واقصر طريق للـحقيقة، وأبرّ دعاء معنوي، واكرم وسيلة للمقاصد، واسـمى خصلة، واصفى عبودية.

فما دام في الاخلاص انوار مشعة، وقوى رصينة كثيرة امثال هذه الـخواص.. ومادام الاحسان الإلـهي قد القى على كاهلنا مهمة مقدسة ثقيلة، وخدمة عامة جليلة، تلك هي وظيفة الإيـمان وخدمة القرآن.. ونـحن في غاية القلة والضعف والفقر، ونواجه اعداء ألدّاء ومضايقات شديدة، وتـحيط بنا البدع والضلالات التي تصول وتـجول في هذا العصر العصيب.. فلا مناص لنا إلاّ بذل كل مافي وسعنا من جهد وطاقة كي نظفر بالاخلاص.. فنـحن مضطرون اليه، بل مكلفون به تكليفاً، واحوج ما نكون الى ترسيخ سر الاخلاص في ذواتنا، اذ لو لـم نفز به لضاع منا بعض ما كسبناه من الـخدمة الـمقدسة – لـحد الآن – ولـَما دامت ولا استمرت خدمتنا، ثـم نـحاسب عليها حساباً عسيراً، حيث نكون مـمن يشملهم النهي الإلـهي وتهديده الشديد في قوله تعالى: } وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً { (البقرة:41) بـما اخللنا بالاخلاص فأفسدنا السعادة الابدية، لاجل مطامع دنيوية دنيئة، مقيتة، مضرة، مكدرة، لاطائل من ورائها ولافائدة، ارضاء لـمنافع شخصية جزئية تافهة، امثال الاعجاب بالنفس والرياء، ونكون ايضاً من الـمتجاوزين حقوق اخواننا في هذه الـخدمة ومن الـمتعدين على نهج الـخدمة القرآنية، ومن الذين اساءوا الادب فلـم يقدروا قدسية الـحقائق الإيـمانية وسـموها حق قدرها.

فيا اخوتي! ان الامور الـمهمة للخير والدروب العظيمة للصلاح، تعترضها موانع وعقبات مضرة كثيرة. فالشياطين يكدون انفسهم ويـجهدونها مع خدام تلك الدعوة الـمقدسة، لذا ينبغي الاستناد الى الاخلاص والاطمئنان اليه، لدفع تلك الـموانع وصد تلك الشياطين. فاجتنبوا – يااخوتي – من الاسباب التي تقدح الاخلاص وتثلمه كما تـجتنبون العقارب والـحيات. فلا وثوق بالنفس الامارة ولا اعتماد عليها قط، كما جاء في القرآن الكريـم على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: } وَمَآ اُبـَرِىّءُ نَفْسي اِنَّ النـّفْسَ لاَمـَّارَةٌ بِالسـُّوءِ اِلاّ مَارَحِمَ رَبـّي { (يوسف:53) فلا تـخدعنكم الانانية والغرور ولا النفس الامارة بالسوء ابداً. ولاجل الوصول الى الظفر بالاخلاص وللحفاظ عليه، ولدفع الـموانع وازالتها اجعلوا الدساتير الآتية رائدكم:

دستوركم الاول:

ابتغاء مرضاة الله في عملكم. فاذا رضى هو سبحانه فلا قيمة لإعراض العالـم اجمع ولا اهمية له. واذا ما قبل هو سبحانه فلا تأثير لردّ الناس اجـمعين. واذا اراد هو سبحانه واقتضته حكمته بعد ما رضى وقبل العمل، وجعل الناس يقبلونه ويرضون به، وان لم تطلبوه انتم، لذا ينبغي جعل رضى الله وحده دون سواه القصد الاساس في هذه الـخدمة.. خدمة الإيـمان والقرآن.

دستوركم الثاني:

هو عدم انتقاد اخوانكم العاملين في هذه الـخدمة القرآنية، وعدم اثارة نوازع الغبطة بالتفاخر والاستعلاء. لانه كما لا تـحاسد في جسم الانسان بين اليدين، ولا انتقاد بين العينين، ولا يتعرض اللسان على الاذن، ولا يرى القلب عيب الروح، بل يكمـّل كلّ منه نقصَ الآخر ويستر تقصيره ويسعى لـحاجته، ويعاونه في خدمته.. والا انطفأت حياة ذلك الجسد، ولغادرته الروح وتـمزق الجسم.

وكما لاحسد بين تروس الـمعمل ودوليبه، ولا يتقدم بعضها على بعض ولايتحكم، ولايدفع احدها الآخر الى التعطل بالنقد والتجريح وتتبع العورات والنقائص، ولا يثبط شوقه الى السعي، بل يعاون كل منها الآخر بكل مالديه من طاقة موجهاً حركات التروس والدواليب الى غايتها المرجوة، فيسير الـجميع الى ما وجدوا لاجله، بالتساند التام والاتفاق الكامل. فلو تدخل شيء غريب او تـحكم في الامر – ولو بـمقدار ذرة – لا ختل الـمعمل واصابه العطب ويقوم صاحبه بدوره بتشتيت اجزائه وتقويضه من الاساس.

فيا طلاب رسائل النور ويا خدام القرآن! نـحن جـميعاً اجزاء واعضاء في شخصية معنوية جديرة بأن يطلق عليها: الانسان الكامل.. ونـحن جـميعاً بـمثابة تروس ودواليب معمل ينسج السعادة الابدية في حياة خالدة. فـنحن خدام عاملون في سفينة ربانية تسير بالامة الـمحمدية الى شاطيء السلامة وهي دار السلام.

نـحن اذن بـحاجة ماسة بل مضطرون الى الاتـحاد والتساند التام والى الفوز بسر ((الاخلاص)) الذي يهيء قوة معنوية بـمقدار الف ومائة واحد عشر ((1111)) ناتـجة من اربعة افراد. نعم.. ان لـم تتـحد ثلاث ((الفات)) فستبقى قيمتها ثلاثاً فقط، اما اذا اتـحدت وتساندت بسر العددية، فانها تكسب قيمة مائة واحد عشر ((111))، وكذا الـحال في اربع ((اربعات)) عندما تكتب كل ((4)) منفردة عن البقية فان مـجموعها ((16)) اما اذا اتـحدت هذه الارقام واتفقت بسر الاخوة ووحدة الـهدف والـمهمة الواحدة على سطر واحد فعندها تكسب قيمة اربعة آلاف واربعمائة واربع واربعين ((4444)) وقوتها. هناك شواهد ووقائع تاريـخية كثيرة جداً اثبتت ان ستة عشر شخصاً من الـمتآخين الـمتحدين الـمضحين بسر الاخلاص التام تزيد قوتهم الـمعنوية وقيمتهم على اربعة آلاف شخص.

اماحكمة هذا السر فهي: ان كل فرد من عشرة اشخاص متفقين حقيقة يـمكنه ان يرى بعيون سائر اخوانه ويسمع بأذانهم أي ان كلاً منهم يكون له من القوة والقيمة ما كأنه ينظر بعشرين عيناً ويفكر بعشرة عقول ويسمع بعشرين اذناً ويعمل بعشرين يداً(1).

دستوركم الثالث:

اعلموا ان قوتكم جميعاً في الاخلاص والـحق.

نعم! ان القوة في الـحق والاخلاص، حتى ان اهل الباطل يـحرزون القوة لـما يبدون من ثبات واخلاص في باطلهم.

نعم! ان خدمتنا هذه في سبيل الإيـمان والقرآن هي دليل بذاتها على ان القوة في الـحق والاخلاص. فشيء يسير من الاخلاص في سبيل هذه الـخدمة يثبت دعوانا هذه ويكون دليلاً عليه. ذلك: لان ما قمنا به في ازيد من عشرين سنة في مدينتي(2) وفي استانبول من خدمة في سبيل الدين والعلوم الشرعية، قد قمنا معكم باضعافه مائة مرة هنا(3) في غضون ثـماني سنوات. علماً بأن الذين كانوا يعاونونني هناك هم اكثر مائة مرة بل الف مرة مـمن يعاونونني هنا. ان خدماتنا هنا في ثـماني سنوات مع انني وحيد غريب شبه امي(4) وتـحت رقابة موظفين لا انصاف لـهم وتـحت مضايقاتهم قد اكسبتنا بفضل الله قوة معنوية اظهرت التوفيق والفلاح بـمائة ضعف مـما كان عليه سابقاً، لذا حصلت لدى قناعة تامة من ان هذا التوفيق الإلـهي ليس الا من صميم اخلاصكم.

وانني اعترف بانكم انقذتـموني باخلاصكم التام – الى حد ما – من الرياء، ذلك الداء الوبيل الذي يداعب النفس تـحت ستار الشهرة والصيت.

نسأل الله ان يوفقكم جـميعاً الى الاخلاص الكامل وتقحموني فيه معكم.

تعلمون ان الامام علياً رضى الله عنه والشيخ الكيلاني قدس الله سره، قد توجها اليكم ونظرا بعين اللطف والاهتمام والتسلية في كراماتهما الـخارقة، ويباركان خدماتكم معنىً. فلا يسارونـّكم الشك في ان ذلك التوجه والالتفات والتسلية ليس الا بـما تتمتعون به من اخلاص. فان افسدتـم هذا الاخلاص متعمدين، تستحقون اذن لطماتهم. تذكروا دائماً ((لطمات الرأفة والرحـمة)) التي هي في ((اللمعة العاشرة)). ولو أردتـم ان يظل هذان الفاضلان استاذين وظهيرين معنويين لكم فاظفروا بالاخلاص الاتـم بامتثالكم الآية الكريـمة: } وَيُؤِثْروُنَ عَلى اَنْفُسِهِمْ { (الحشر:9).

أي عليكم ان تفضلوا اخوانكم على انفسكم في الـمراتب والـمناصب والتكريـم والتوجه، حتى في الـمنافع الـمادية التي تهش لـها النفس وترتاح اليها. بل في تلك الـمنافع التي هي خالصة زكية كتعليم حقائق الإيـمان الى الآخرين، فلا تتطلعوا ما استطعتم ان يتم ذلك بأيديكم، بل ارضوا واطمئنوا ان يتم ذلك بيد غيركم لئلا يتسرب الاعجاب الى انفسكم.

وربـما يكون لدى احدكم التطلع للفوز بالثواب وحده، فيحاول ان يبين امراً مهماً في الإيـمان بنفسه، فرغم ان هذا الا اثـم فيه ولاضرر فقد يعكر صفو الاخلاص فيما بينكم.

دستوركم الرابع:

هو الافتخار شاكرين بـمزايا اخوانكم، وتصورها في انفسكم، وعد فضائلهم في ذواتكم.

فهناك اصطلاحات تدور بين الـمتصوفة أمثال: الفناء في الشيخ، الفناء في الرسول. وانا لست صوفياً، ولكن ((الفناء في الاخوان)) دستور جميلٌ يناسب مسلكنا ومنهجنا تـماماً. أي ان يفنى كل في الاخر، أي ان ينسى كل اخ حسياته النفسانية، ويعيش فكراً مع مزايا اخوانه وفضائلهم. حيث ان اساس مسلكنا ومنهجنا هو ((الاخوة)) في الله، وان العلاقات التي تربطنا هي الاخوة الـحقيقية، وليست علاقة الاب مع الابن ولا علاقة الشيخ مع الـمريد. وان كان لابد فمـجرد العلاقة بالاستاذ. وما دام مسلكنا هو ((الـخليلية)) فمشربنا اذاً ((الـخلة)). والـخلة تقتضي صديقاً صدوقاً ورفيقاً مضحياً، وأخاً شهماً غيوراً.. وأس الاساس لـهذه الـخلة هو ((الاخلاص التام)). فـمن يقصّر منكم فيه فقد هوى من على برج الـخلة العالي، ولربـما يتردى في واد سحيق، اذ لا موضع في الـمنتصف.

نعم! ان الطريق طريقان، فمن يفارقنا الآن في مسلك الاخلاص التام – وهو الـجادة الكبرى للقرآن الكريـم – فربـما يكون من الذين يـخدمون الالـحاد اعداء القرآن دون ان يشعر.

فالذين دخلوا ميدان خدمة القرآن الكريـم الـمقدسة بوساطة رسائل النور لا يهوون بإذن الله في مثل تلك الـهاوية، بل سيمدون النور والاخلاص والإيـمان قوة.

فيا اخوتي في خدمة القرآن!

ان اهم سبب لكسب ((الاخلاص)) واعظم وسيلة مؤثرة للمحافظة عليه هو:

((رابطة الـموت)).

فكما ان طول الامل يثلم الاخلاص ويفسده ويسوق الناس الى حب الدنيا والى الرياء، فان ((رابطة الـموت)) تنفـّر من الرياء، وتـجعل الـمرابط معه يحرز الاخلاص. اذ تـخلصه من دسائس النفس الأمارة، وذلك بتذكر موته وبـملاحظة فناء الدنيا وزوالـها. هذا ولقد اتـخذ المتصوفة واهل الـحقيقة العلمية ((رابطة الـموت)) اساساً في منهج سلوكهم، وذلك بـما تعلموه من الآية الكريـمة:

} كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الـْمَوْت { (آل عمران:185) } اِنـَّكَ مَيِّتٌ وَاِنـَّهُمْ مَيـّتُون { (الزمر:30) فازالوا بتلك الرابطة توهم البقاء وحلم الابدية الذي يولد طول الامل، حيث افترضوا خيالاً وتصوروا انفسهم امواتاً.. فالان يُغسلون.. والآن يوضعون في القبر.. وحينما يتفكرون بهذه الصورة تتأثر النفس الامارة بهذا التخيل اكثر فتتخلى شيئاً فشيئاً عن آمالـها العريضة. فلهذه الرابطة اذن فوائد جـمة ومنافع شتى. ويكفي ان الـحديث الشريف يرشدنا اليـها بقولهe ((اَكْثِروُا ذِكْرَ هَاذِمِ الـَّلذَّاتِ))(1). وحيث ان مسلكنا حقيقة علمية وليست طريقة صوفية، فلا نرى انفسنا مضطرين مثلهم الى مباشرة تلك الرابطة بالافتراض والـخيال. فضلاً عن ان هذا الاسلوب لايلائم منهج الـحقيقة. اذ التفكر بالعقبى ليس هو بـجلب الـمستقبل الى الـحاضر خيالاً، بل الذهاب فكراً من الـحاضر الى الـمستقبل، ومشاهدة الـمستقبل من خلال الـحاضر الواقع كما هو الـحقيقة، فلا حاجة الى الـخيال، ولا يلزم الافتراض، اذ الانسان يـمكنه مشاهدة جنازته وهي ثـمرة مـحمولة على شجرة عمره القصير، واذا ما حول نظره قليلاً لا يرى موته وحده، بل يرى ايضاً موت عصره، حتى اذا جال بنظره اكثر يرى موت الدنيا ودمارها، وعندها ينفتح امامه الطريق الى ((الاخلاص التام)).

والسبب الثاني في احراز الاخلاص هو: ان يكسب الـمرء حضوراً وسكينة بالإيـمان التحقيقي وباللمعات الواردة عن التفكر الإيـماني في الـمخلوقات.

وهذا التأمل يسوق صاحبه الى معرفة الـخالق سبحانه، فتنسكب الطمأنينة والسكينة في القلب. حقاً ان تلمع هذا النوع من التأمل في فكر الانسان يـجعله يفكر دائماً في حضور الـخالق الرحيم سبحانه ورؤيته له، أي انه حاضر وناظر اليه دائماً. فلا يلتفت عندئذٍ الى غيره، ولا يستمد من سواه. حيث ان النظر والالتفات الى ما سواه يـخل بأدب الـحضور وسكينة القلب. وبهذا ينجو الانسان من الرياء ويتخلص منه، فيظفر بالاخلاص باذن الله.

وعلى كل حال فان في هذا ((التأمل)) درجات كثيرة ومراتب عدة. فحظ كل شخص ما يكسبه، وربـحه ما يستفيد منه حسب قابلياته وقدراته.

نكتفي بهذا القدر ونـحيل الى رسائل النور حيث ذكرت كثيراً من الـحقائق حول النـجاة من الرياء واحراز الاخلاص.

سنبين باختصار بعضاً من الاسباب العديدة التي يـخل بالاخلاص وتـمنعه، وتسوق الى الرياء وتدفع اليه:

((الـمانع الاول للاخلاص))

الـحسد الناشيء من الـمنافع الـمادية. هذا الـحسد يفسد الاخلاص تدريـجياً، بل يشوه نتائج العمل، بل يفوّت حتى تلك الـمنافع الـمادية ايضاً.

نعم، لقد حملت هذه الامة دائماً التوقير والقدر للعاملين بـجد للـحقيقة والآخرة، ومدت لـهم يد العون فعلاً، وذلك بنية مشاركتهم في تلك الاعمال والـخدمات الصادقة الـخالصة لوجه الله. فقدمت لـهم هدايا وصدقات لدفع حاجاتهم الـمادية ولئلا ينشغلوا بها عن خدماتهم الـجليلة، فأظهروا بذلك ما يكنونه من احترام للعاملين في سبيل الله. الا ان هذه الـمساعدات والـمنافع يـجب ألا تُطلب قط، بل تُوهب. فلا يُسأل حتى بلسان الـحال كـمن ينتظرها قلباً. وانـما تـُعطى من حيث لا يـحتسب وإلاّ اختلّ اخلاص الـمرء وانتقض، وكاد ان يدخل ضمن النهي الإلـهي في قوله تعالى: } وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً{ (البقرة:41) فيحبط قسم من اعماله.

فالرغبة في هذه الـمنافع الـمادية وترقبها بدافع من اثره النفس الامارة وحرصها على كسب الـمنافع لذاتها، تثير عرق الـحسد وتـحرك نوازعه تـجاه اخيه الـحقيقي وصاحبه الـمخلص في الـخدمة الإيـمانية، فيفسد اخلاصه ويفقد قدسية دعوته لله، ويتخذ طوراً منفراً لدى اهل الـحقيقة، بل يفقد الـمنافع الـمادية ايضاً.. وعلى كل حال فالـمسألة طويلة.

وسأذكر ما يزيد سرّ الاخلاص ويديم الوفاق الصادق بين اخوتي الصادقين. اذكره ضمن مثالين:

الـمثال الاول ((لإدامة الاخلاص)):

لقد اتـخذ ارباب الدنيا ((الاشتراك في الاموال)) قاعدة يسترشدون بها لاجل الـحصول على ثروة طائلة او قوة شديدة، بل اتـخذ من لـهم التأثير في الـحياة الاجتماعية – من اشخاص او جماعات وبعض الساسة – هذه القاعدة رائداً لـهم. ولقد كسبوا نتيجة اتباعهم هذه القاعدة قوة هائلة وانتفعوا منها نفعاً عظيماً، رغم ما فيها من اضرار واستعمالات سيئة، ذلك لان ماهية الاشتراك لا تتغير بالـمساوىء والاضرار التي فيها، لأن كل شخص – وفق هذه القاعدة – يـحسب نفسه بـمثابة الـمالك لـجميع الاموال، وذلك من زاوية مشاركته في الـمال ومن جـهة مراقبته واشرافه عليه، برغم انه لا يـمكنه ان ينتفع من جـميع الاموال.. وعلى كل حال فان هذه القاعدة اذا دخلت في الاعمال الاخروية فستكون مـحوراً لـمنافع جليلة بلا مساوىء ولا ضرر. لان جـميع تلك الاموال الاخروية تـحمل سر الدخول بتمامها في حوزة كل فرد من اولئك الافراد الـمشتركين فيها، دون نقصان او تـجزئة.

ولنفهم هذا بـمثال:

اشترك خـمسة اشخاص في اشعال مصباح زيتى. فوقع على احدهم احضار النفط، وعلى الآخر الفتيلة، وعلى الثالث زجاجة الـمصباح، وعلى الرابع الـمصباح نفسه وعلى الاخير علبة الكبريت.. فعندما اشعلوا الـمصباح اصبح كل منهم مالكاً لـمصباح كامل. فلو كان لكل من اولئك الـمشتركين مرآة كبيرة معلقة بـحائط، اذن لاصبح منعكساً في مرآته مصباح كامل – مع ما في الغرفة – من دون تـجزؤ او نقص..

وهكذا الامر في الاشتراك في الامور الاخروية بسر الاخلاص، والتساند بسر الاخوة، وضم الـمساعي بسر الاتـحاد، اذ سيدخل مـجموع اعمال الـمشتركين، وجـميع النور النابع منها، سيدخل بتمامه في دفتر اعمال كل منهم.. وهذا امر مشهود وواقع بين اهل الـحقيقة، وهو من مقتضيات سعة رحـمة الله سبحانه وكرمه الـمطلق.

فيا اخوتي..! آمل اَلاّ تسوقكم الـمنافع الـمادية الى الـحسد فيما بينكم ان شاء الله تعالى. الا انكم قد تنخدعون كما انـخدع قسم من اهل الطرق الصوفية، من باب الـمنافع الاخروية. ولكن تذكروا.. اين الثواب الشخصي والـجزئي من ذلك الثواب العظيم الناشىء في افق الاشتراك في الاعمال الـمذكورة في الـمثال، واين النور الـجزئي من ذلك النور الباهر.

الـمثال الثاني ((لإدامة الاخلاص)):

يـحصل الصناعيون واهل الـحرف على الانتاج الوفير وعلى ثروة هائلة نتيجة اتباعهم قاعدة ((الـمشاركة في الصنعة والـمهارة)). واليك الـمثال:

قام عشرة من صناعي ابر الـخياطة بعملهم، كل على انفراد، فكانت النتيجة ثلاث ابر فقط لكل منهم في اليوم الواحد.. ثم اتفق هؤلاء الاشخاص حسب قاعدة ((توحيد الـمساعي وتوزيع الاعمال)) فأتى احدهم بالـحديد والاخر بالنار، وقام الثالث بثقب الابرة والاخر ادخلها النار والاخر بدأ يـحدها.. وهكذا. فلم يذهب وقت احد سدى، حيث انصرف كل منهم الى عمل معين وانـجزه بسرعة، لانه عمل جزئي بسيط اولاً ولاكتسابه الخـبرة والمـهارة فيه ثانياً. وحينما وزعوا حصيلة جهودهم رأوا ان نصيب كل منهم في يوم واحد ثلاثـمائة ابرة بدلاً من ثلاث ابر.. فذهبت هذه الـحادثة انشودة يترنـم بها اهل الصناعة والـحرف، الذين يدعون الى توحيد الـمساعي وتوزيع الاعمال.

فيا اخوتي! ما دامت تـحصل مثل هذه الفوائد العظيمة نتيجة الاتـحاد والاتفاق في امور دنيوية وفي مواد كثيفة، فكم يكون يا ترى ثواب اعمال اخروية ونورانية! وكم يكون الثواب الـمنعكس من اعمال الـجماعة كلها بالفضل الإلـهي في مرآة كل فرد منها! تلك الاعمال التي لا تـحتاج الى تـجزئة ولا انقسام. فلكم ان تقدروا ذلك الربح العظيم.. فإن مثل هذا الربح العظيم لا يُفـوّات بالـحسد وعدم الاخلاص..!

((الـمانع الثاني للاخلاص)):

هو اعطاء ما يداعب انانية النفس الامارة بالسوء وما تستشرفه من منزلة ومكانة، تتوجه اليها الانظار، وحب اقبال الناس وطلب توجههم بدافع من حب الشهرة وذياع الصيت الناشىء من التطلع الى الـجاه وحبه.. فكما ان هذا داء روحي وبيل، فهو باب الى ((الشرك الـخفي)) الذي هو الرياء والاعـجاب بالنفس الـماحق للاخلاص.

يا اخواني! لـما كان مسلكنا في خدمة القرآن الكريـم مبنياً على الـحقيقة وعلى الاخوة، وان سر الاخوة هو في افناء الفرد شخصيته في شخصية اخوانه(1) وايثارهم على نفسه، فما ينبغي ان يؤثر فينا مثل هذا الـحسد الناجم من حب الـجاه، حيث هو مناف كلياً لـمسلكنا، اذ مادامت كرامة جـميع الاخوان وشرفهم تعود الى كل اخ في الـجماعة، فلا يـمكن ان تُضحي بتلك الـمنزلة الرفيعة والكرامة الفائقة والشرف الـمعنوي السامي للـجماعة، لاجل شهرة جزئية وعزة شخصية ناجـمة من الانانية والـحسد.. فأنا على ثقة وامل ان ذلك بعيد كل البعد عن طلاب النور.

نعم، ان قلوب طلاب النور وعقولـهم وارواحهم لا تنحدر الى مثل هذه الامور السافلة، الا انه ما من احد لا يـحمل نفساً امارة بالسوء، فقد تسري امورٌ ونوازع نفسانية في العروق وتتعلق بالاعصاب وتـجري احكاماً برغم العقل والقلب والروح. فاعتماداً على ما تتركه رسائل النور فيكم من آثار، فلا اتهم قلوبكم وعقولكم وارواحكم. الا ان النفس والـهوى والـحس والوهم قد يُخدع؛ لذا يأتيكم التـحذير والتنبيه احياناً بشدة وعنف. فتلك الشدة موجهة الى النفس والـهوى والـحس والوهم، فكونوا على حذر دائماً.

نعم لو كان مسلكنا طريقة خاصة ومشيخة، لكان هناك اذاً مقام واحد، او عدد مـحدود منه، ولكان هناك مرشحون كثيرون لذلك الـمقام. وعندها كان يـمكن ان تـحدث الغبطة والانانية في النفوس. ولكن مسلكنا هو الاخوة، لا غير. فلا يدعي الاخ على اخيه الابوة، ولا يتزيا بزي الـمرشد له. فالـمقام هنا في الاخوة فسيح واسع، لا مـجال فيه للـمزاحـمة بالغبطة، وان كان لابد فالاخ معاون لاخيه مكمـّل لعمله، وظهير له.

ومـما يدل على ان في الـمسالك التي فيها مقام الابوة والارشاد والاستاذية نتائج خطرة مهلكة تنجم من الـمنافسة والـحسد حرصاً على الثواب وتطلعاً الى علو الـهمة، اقول ان الدليل على ذلك هو تلك الاختلافات والـمشاحنات الدائرة في ثنايا الـمزايا الـجليلة والـمنافع العظيمة التي يتمتع بها اهل الطرق الصوفية، والتي ادّت بهم الى نتائج وخيمة جعلت قواهم السامية الـهائلة لا تثبت امام اعاصير البدع.

(الـمانع الثالث للاخلاص)):

هو الـخوف والطمع. نـحيل الى رسالة ((الـهجمات الست))(1) حيث شرحت هذا الـمانع مع موانع اخرى بوضوع تام.

نسأل الله الرحـمن الرحـيم سبحانه مشفـّعين جـميع اسمائه الـحسنى أن يوفقنا الى الاخلاص التام. آمين.

اَللـّهُمَّ بِحَقِّ سُوَرَةِ الاِخلاصِ اِجعَلـْنَا مِنْ عِبـَادِكَ الـْمُخْلِصينَ الـْمُخلَصينَ.

آمينْ.. آمين.

} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )





رسالة خاصة الى قسم من اخواني

سأذكر نكتة لطيفة لـحديثين شريفين لاولئك الاخوة الذين يـملـّون من كتابة رسائل النور، والذين يفضـّلون قراءة الاوراد في الشهور الثلاثة وهي شهور العبادات على كتابة رسائل النور التي تعدّ عبادة بـخمس جهات(1).

الـحديث الاول: ((يُوزن مداد العلماء بدماء الشهداء))(2) – او كما قال. أي ان ما يصرفه علماء الـحقيقة من حبر يوزن يوم القيامة مع دماء الشهداء ويعادلـها.

الـحديث الثاني: ((مَن تـمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد)) او كما قال، أي ان من يتمسك بالسنة الشريفة والـحقائق القرآنية وعمل لأجلها عند استيلاء البدع وتغلب الضلالة، فله أجر مائة شهيد.

فيا مَن يـملّ تكاسلاً عن الكتابة ويا ايها الاخوة الذين ينحون منحى التصوف! ان حصيلة مفهومي الـحديثين الشريفين هي ان درهماً مـما يقطر من نور اسود وماء باعث للـحياة من الاقلام الـمباركة الزكية لاولئك الذين يـخدمون حقائق الإيـمان واسرار الشريعة والسنة النبوية الشريفة في مثل الظروف يـمكن ان يفيد كمائة درهم من دم الشهداء يوم الـحشر الاكبر.

فاسعوا يا اخوتي لتظفروا بهذا الثواب العظيم.

فان قلتم: ان ما ورد في الـحديث هو العالـم بينما قسم منا كتـّاب فـحسب؟

الـجواب: ان الذي يقرأ هذه الرسائل، وهذه الدروس في غضون سنة واحدة ويفهمها ويقبل بها، يـمكن ان يكون عالـماً مهماً ذا حقيقة في هذا الزمان. واذا ما قرأها ولم يفهمها، فان طلاب النور الذين لـهم شخصية معنوية، لاشك انها احد علماء هذا الزمان. أما اقلامكم فهي اصابع تلك الشخصية الـحقيقية، وهب انكم قد ارتبطتم بهذا الفقير ومنحتموه بـحُسن ظنكم مكانة عالـم واستاذ في نظركم وان كنت ارى انني لا استحقها ولكن لـما كنت امياً لا اجيد الكتابة، فان اقلامكم تعدّ اقلامي انا. فتثابون بالاجر الـمبـّين في الـحديث الشريف.



سعيد النورسي
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس