الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #19
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الثالثة والعشرون

((رسالة الطبيعة))

كانت هذه الرسالة هي الـمذكـّرة السادسة عشرة من اللمعة السابعة عشرة الاّ أن اهميتها الفائقة جعلتها ((اللمعة الثالثة والعشرين)) فهي تُبيد تيار الكفر النابع من مفهوم ((الطبيعة)) إبادة تامة وتُفتـّت حجر زاوية الكفر وتـحطـّم ركيزته الاساس.

تنبيـه

لقد بيـَّنت هذه الـمذكرة ماهية الـمذهب الذي يسلكه الـجاحدون من الطبيعيين، واوضحت مدى بُعد مسلكهم عن موازين العقل، ومدى سماجته وخرافيته، وذلك من خلال تسعة محالات مستخلصة من تسعين محالاً في الاقل، ولـما كان قسم من تلك الـمحالات قد وضـّح في رسائل اخرى فقد جاء هنا مدرجاً ضمن محالات اخرى، او جاء مـختصراً بعضَ الشيء.

والسؤال الذي يرد للخاطر هو:

كيف ارتضى فلاسفة مشهورون وعلماء معروفون بهذه الـخرافة الفاضحة وسلـّموا لـها زمام عقولهم؟!

والـجواب: ان اولئك لـم يتبينوا حقيقة مسلكهم(1)، ولا باطن مذهبهم، ولـم يدركوا مايقتضيه مسلكهم من ((مـحالات)) وما يستلزمه مذهبهم من امور فاسدة ومـمتنعة عقلاً، والتي ذكرت في بداية كل مـحال يرد في هذه الرسالة.

وانا على استعداد كامل لإقامة البراهين الدامغة ونصب الـحجج البديهية الواضحة لإثبات ذلك لكل مَن يساوره الشك، وابينها لـهم باسهاب وتفصيل.

بِسمِ الله الـرَّحـمنِ الـرَّحـيمِ

} قَالتْ رُسُلـُهم أفيِ اللهِ شكٌ فاطِرِ السَمواتِ والارض{ (ابراهيم:10)

هذه الآية الكريـمة بـما فيها من استفهام إنكارى تدل دلالة قاطعة على وجود الله ووحدانيته بوضوح وجلاء بدرجة البداهة.

وقبل ان نوضح هذا السرّ نودّ ان ننبه الى ما يأتي:

دعيتُ لزيارة ((انقرة)) سنة 1338 (1922م) وشاهدت فرح الـمؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان امام الـجيش الإسلامي، الاّ أنني ابصرتُ – خلال الفرح هذه – زندقة رهيبة تدب بـخبث ومكر، وتتسلل بـمفاهيمها الفاسدة الى عقائد اهل الإيـمان الراسخة بغية افسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من اعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسور هذه الآية الكريـمة، من هذا الغول الرهيب الذي يريد ان يتعرض لأركان الإيـمان، فكتبت برهاناً قوياً حاداً يقطع رأس تلك الزندقة، في رسالة باللغة العربية واستقيت معانيها وافكارها من نور هذه الآية الكريـمة لاثبات بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة ((يني كون)) في انقرة.. الاّ انني لـم ألـمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها الى أذهان الناس. وسبب ذذلك كونه مـختصراً ومـجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يُتقنون العربية في تركيا وندرة الـمهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت اوهام ذلك الالـحاد واستشرت في صفوف الناس مع الاسف الشديد، مـما اضطرني الى اعادة كتابة تلك الرسالة ببراهينها بالتركية، مع شيء من البيان والتوضيح فكانت هذه الرسالة.

ولـما كان بعض اقسام تلك البراهين قد وضحت توضيحاً كافياً في بعض ((رسائل النور)) فسنذكرها هنا مـجملة، كما ان البعض من البراهين الاخرى الـمبثوثة في ثنايا رسائل اخرى تبدو مندرجة في هذه الرسالة، وكأن كل برهان منها جزء من هذه الرسالة.







الـمقدمة

أيها الانسان!

اعلم ان هناك كلمات رهيبة تفوح منها رائحة الكفر النتنة، تـخرج من افواه الناس، وترددها ألسنة اهل الإيـمان دون علمهم بـخطورة معنى ما يقولون، وسنبين ثلاثاً منها هي الغاية في الـخطورة:

اولاها: قولـهم عن الشيء: ((أوجدته الاسباب)) أي أن الاسباب هي التي توجد الشيء الـمعين.

ثانيها: قولـهم عن الشيء: ((تشكـّل بنفسه)) أي أن الشيء يتشكل من تلقاء نفسه، ويوجِد نفسَهُ بنفسه، وينتهي الى صورته التي انتهى اليها كما هي:

ثالثتها: قولـهم عن الشيء: ((اقتضته الطبيعة)) أي أن الشيء طبيعي، والطبيعة هي التي اوجدته واقتضته.

نعم! مادامت الـموجودات موجودة وقائمة امامنا بـما لا يـمكن إنكارها مطلقاً، وان كل موجود يأتي الى الوجود في غاية الاتقان والـحكمة، وهو ليس بقديـم أزلي، بل هو مـحدث جديد.

فيا ايها الـملحد! إما انك تقول ان هذا الـموجود – وليكن هذا الـحيوان مثلاً – توجده أسبابُ العالـم، أي أنه يكتسب الوجود نتيجة اجتماع الاسباب الـمادية، او أنه تشكل بنفسه، او أنه يرد الى الوجود بـمقتضى الطبيعة ويظهر بتأثيرها! او عليك ان تقول: ان قدرة الـخالق القدير ذي الـجلال هي التي توجده.

لأنه لاسبيل الى حدوثه غير هذه الطرق الاربعة، حسب موازين العقل، فاذا ما أثبت – اثباتاً قاطعاً – ان الطرق الثلاثة الاولى مـحالة، باطلة مـمتنعة، غير مـمكنة، فبالضرورة والبداهة يثبت الطريق الرابع، وهو طريق وحدانية الـخالق بيقين جازم لاريب فيه.

n اما الطريق الاول:

وهو القول بأن: ((اجتماع اسباب العالـم يـخلق الـموجودات ويوجدها، ويؤدي الى تشكيل الاشياء)) نذكر منه ثلاثة مـحالات فقط، من بين مـحالاته الكثيرة جداً.

T الـمحال الاول:

ولنوضحة بهذا الـمثال: تـحوي الصيدلية مئات الدوارق والقناني الـمملوءة بـموادَّ كيمياوية متنوعة، وقد احتجنا – لسبب ما – الى معجون حيوي من تلك الادوية والـمواد لتركيب مادة حيوية خارقة مضادة للسموم.. فلما دخلنا الصيدلية وجدنا فيها اعداداً هائلة من انواع ذلك الـمعجون الـحيوي، ومن تلك الـمادة الـحيوية الـمضادة للسموم وعندما بدأنا بتحليل كل معجون رأيناه مركباً مستحضراً بدقة متناهية من موادَّ مـختلفة طبق موازين مـحسوبة، فقد اخذ من تلك القناني: درهم (غرام واحد) من هذه.. وثلاثة غرامات من تلك.. وعشرة غرامات من الاخرى.. وهكذا فقد أخذَ من كل منها مقادير مـختلفة، بـحيث لو كان ما أخذَ من هذه الـمقادير اقل منها بـجزء من الغرام، او ازيد، لفقد الـمعجون خواصه الـحيوية…

والآن جئنا الى ((الـمادة الـحيوية الـمضادة للسموم)) ودققنا فيها نظراً كيمياوياً، فرأيناها قد ركبت بـمقادير معينة اُخذت من تلك القناني على وفـْق موازين حساسة بـحيث أنها تفقد خاصيتها لو غلطنا في الـحساب فزادت الـمواد الـمركبة منها او نقصت بـمقدار ذرة واحدة. نـخلص من هذا:

ان الـمواد الـمتنوعة قد استحضرت بـمقادير مـختلفة على وفق موازين دقيقة. فهل يـمكن او يُعقل ان يتكون ذلك الـمعجون الـمحسوب كل جزء من اجزائه حساباً دقيقاً من جرّاء مصادفة غريبة، او من نتيجة تصادم القناني بـحدوث زلزالٍ عاصف في الصيدلية يؤدي الى سيلان تلك الـمقادير بـموازينها الـمعينة، واتـحادها بعضها بالبعض الآخر مكوناً مـعجوناً حيوياً؟!. فهل هناك مـحال أغرب من هذا واكثر بعداً عن العقل والـمنطق؟! وهل هناك خرافة اخرف منها؟! وهل هناك باطل اوضح بطلاناً من هذا؟! والـحمار نفسه لو تضاعفت حـماقته ونطق لقال: يالـحماقة من يقول بهذا القول!.

وفي ضوء هذا الـمثال نقول:

ان كل كائن حي هو مركب حيوي، ومـعجون ذو حياة. وان كل نبات شبيه بترياق حيوي مضاد للسموم إذ ركـّب من اجزاء مـختلفة ومن مواد متباينة، على وفق موازين دقيقة في منتهى الـحساسية.. فلا ريب ان اسناد خلق هذا الكائن البديع الى الاسباب الـمادية والعناصر، والقول بان ((الاسباب اوجدته)) باطل ومـحال وبعيد عن موازين العقل بـمثل بُعدِ وبطلان ومـحالية تكون الـمعجون الـحيوي بنفسه من سيلان تلك الـمواد من القناني.

وحصيلة الذي قلناه آنفاً:

ان الـمواد الـحيوية الـمستحضرة بـميزان القضاء والقدر للـحكيم العليم في هذا العالـم الكبير الذي هو صيدلية ضخمة رائعة لا يـمكن ان توجد الاّ بـحكمة لا حدّ لـها، وبعلم لانهاية له، وبارادة تشمل كل شيء وتـحيط بكل شيء، والاّ فما أشقاه من يتوهم ((ان هذه الـموجودات هي نتاج عناصر الكون الكلية)) وهي العمياء الصماء في جريانها وتدفقها، او هي ((من شؤون طبائع الـمواد)) او ((من عمل الاسباب الـمادية))!.

لاشك ان صاحب هذا الوهم هو اشقى اشقياء العالـم، واعظمهم حـماقة، واشدّ هذياناً من هذيان مـخمور فاقد للوعي عندما يـخطر بباله ان ذلك الترياق العجيب قد وجد نفسه بنفسه من جراء تصادم القناني وسيلان ما فيها!

نعم، ان ذلك الكفر هذيان احـمق وجنون سكران.

T الـمحال الثاني:

إن لـم يُسند خلق كل شيء الى الواحد الاحد القدير ذي الـجلال، وأسند الى الاسباب الـمادية، يلزم عندئذ ان يكون لاغلب عناصر العالـم واسبابه دخلٌ وتأثير في وجود كل ذي حياة.

والـحال ان اجتماع الاسباب الـمتضادّة والـمتباينة فيما بينها، بانتظام تام، وبـميزان دقيق وباتفاق كامل في جسم مـخلوق صغير – كالذباب مثلاً – هو مـحال ظاهر الى حد يرفضه مَن له عقل بـمقدار جناح ذبابة، ويُردّه قائلاً: هذا مـحال .. هذا باطل.. هذا غير مـمكن..!

ذلك لان جسم الذباب الصغير ذو علاقة مع اغلب عناصر الكائنات، ومع مظاهرها واسبابها الـمادية، بل هو خلاصة مستخلصة منها، فان لـم يُسند أيـجادُه الى القدرة الإلـهية الـمطلقة، يلزم ان تكون تلك الاسباب الـمادية حاضرة ومـحتشدة جَنبَ ذلك الـجسم مباشرة عند أيـجاده، بل يلزم ان تدخل في جسمه الضئيل، بل يـجب دخولها في حجيرة العين تـمثل نـموذج الـجسم، ذلك لان الاسباب ان كانت مادية يلزم ان تكون قرب الـمسبَّب ودخلة فيه، وعندئذٍ يقتضي قبول دخول جـميع العناصر في جـميع اركان العالـم مع طبائعها الـمتباينة في ذلك الـمسبّب دخولاً مادياً، وعملها في تلك الـحجيرة الـمتناهية في الصغر بـمهارة واتقان! أفلا يـخجل ويستحي من هذا القول حتى اشد السوفسطائيين بلاهةً؟

T الـمحال الثالث:

ان الـموجود إن كانت له وحدة واحدة، فلابدّ ان يكون صادراً من مؤثر واحد، ومن يد واحدة، حسب مضمون القاعدة البديهية الـمقررة: (الواحد لا يصدر الاّ عن الواحد). فإن كان ذلك الـموجود في غاية الانتظام والـميزان، وفي منتهى الدقة والاتقان، وكان مالكاً لـحياة جامعة، فمن البداهة انه لـم يصدر من أيد متعددة قط – التي هي مدعاة الاختلاف والـمنازعة – بل لابد أنه صادر من يد واحدة لواحد أحد قدير حكيم؛ لذا فان اسناد الـموجود، الـمنتظم، الـمتناسق، الـموزون، الواحد، الى ايدي الاسباب الطبيعية العمياء الصمـّاء الـجامدة غير الـمنضبطة، والتي لا شعور لـها ولا عقل، وهي في اختلاط شديد يزيد من عماها وصممها، ثم الادعاء بإن تلك الاسباب هي التي تقوم بـخلق ذلك الـموجود البديع واختياره من بين امكانات واحتمالات لاحدّ لـها، اقول ان قبول هذا الاسناد والادعاء هو – في الـحقيقة - قبول لـمائة مـحال ومـحال، اذ هو بعيد كل البعد عن جـميع مقاييس العقل وموازينه..

دعنا نترك هذا الـمحال ونتجاوزه مؤقتاً، لننظر الى تأثير ((الاسباب الـمادية)) الذي يتم بالتـماس والـمباشرة. فبينما نرى ان تـماس تلك الاسباب الطبيعية هو تـماس بظاهر الكائن الـحي فحسب، ونرى ان باطن ذلك الكائن الذي لا تصل اليه ايدي تلك الاسباب الـمادية ولا يـمكنها ان تـمسّه بشيء، هو ادق نظاماً، واكثر انسجاماً، من الظاهر بل ألطف منه خلقاً واكمل اتقاناً. بل الاحياء الصغيرة والـمخلوقات الدقيقة التي لا يـمكن ان تستوعب تلك الاسباب الـمادية قطعاً ولاتصل اليها ايديها ولا وسائلها هي اعجب إتقاناً من اضخم الـمخلوقات وابدع خلقاً منها.

فلا يكون إذن اسناد خلقها الى تلك الاسباب العمياء الصماء الـجامدة الـجاهلة الغليظة الـمتباعدة الـمتضادّة الاّ عمى ما بعدها عمى، وصمم ليس وراءه صمم.

n اما المسألة الثانية:

وهي قولهم عن الشيء: ((تشكـّل بنفسه)). فهي تنطوي على مـحالات كثيرة، ويتضح بطلانها ومـحاليتها من نواح كثيرة جداً الاّ اننا نتناول هنا ثلاثة مـحالات منها كنماذج ليس الاّ:

l الـمحال الاول:

ايها الـجامد العنيد! ان طغيان غرورك، جعلك تتردى في احضان حـماقة متناهية، فتقدم على قبول مائة مـحال ومـحال!

انك ايها الـجاحد العنيد موجود بلا شك، وانك لست من مادة بسيطة وجامدة تأبى التغير، بل انت معمل عظيم متقن الصنع، اجهزته دائمة التـجدد، وانت كالقصر الـمنيف، انـحاؤه دائمة التحول.. فذرات وجودك انت تعمل دوماً وتسعى دون توقف، وترتبط بوشائج واواصر مع مظاهر الوجود في الكون من حولك، فهي في اخذ وعطاء مع الكائنات، وبـخاصة من حيث الرزق، ومن حيث بقاء النوع.

ان الذرات العاملة في جسدك تـحتاط من ان تـخل بتلك الروابط، وتتحاشى ان تنفصم تلك العلاقات، فهي حذرة في تصرفها هذا، وتتخذ موقفاً ملائماً لـها على وفق تلك العلاقات كأنها تنظر الى جـميع الكائنات وتشاهدها، ثـم تراقب موقعك انت منها، وانت بدورك تستفيد حسب ذلك الوضع الـخارق لتلك الذرات وتنتفع وتتمتع بـمشاعرك وحواسك الظاهرة والباطنة.

فان لـم تعتقد ان تلك الذرات موظفات صغيرات لدى القدير الازلي، ومأمورات مسخرات منقادات لقوانينه سبحانه، او هي جنود مـجندة في جيشه الـمنظم، او هي نهايات قلم القدر الإلـهي، او هي نقاط ينقطها قلم القدرة الإلـهية.. لزمك ان تقول ان لكل ذرة عاملة – في عينك مثلاً – عيناً واسعة بصيرة، ترى جـميع اجزاء جسدك ونواحيه، وتشاهد جـميع الكائنات التي ترتبط بها، وتعلم جـميع ماضيك ومستقبلك، وتعرف اصلك وآباءك واجدادك مع نسلك واحفادك وتدرك منابع عناصرك، وكنوز رزقك.. فهي اذن ذات عقل جبار!!

فيا معطل عقله في مثل هذه الـمسائل! أليس في اسناد هذا العلم والشعور والعقل الذي يسع ألفاً من مثل ((افلاطون)) الى ذرة في عقل مَن لا يـملكه مثلك، خرافة خرقاء، وبلاهة بلهاء؟!.

l الـمحال الثاني:

ان جسمك ايها الانسان يشبه قصراً فخماً عامراً، له من القباب الف قبة وقبة، وكل قبة من قبابه معلقة فيها الاحجار، ومرصوصة بعضها الى البعض الآخر في بناء مـحكم دون عمد. بل ان وجودك لو فكرت – هو اعجب من هذا القصر بالوف الـمرات، لان قصر جسمك انت في تـجدد مستمر يبلغ الكمال في الانتظام والروعة.

فلو صرفنا النظر عما تـحمله من روح ومن قلب ومن لطائف معنوية وهي معجزة بذاتها، واخذنا بنظر الاعتبار والتفكر عضواً واحداً فقط من أي عضو كان من بين اعضاء جسدك نراه شبيهاً بـمنزلٍ ذي قباب. فالذرات التي فيه قد تعاونت وتعانقت بعضها مع البعض الاخر، في انتظام تام، وموازنة كاملة – كالاحجار في تلك القباب – وكونت بناءً خارقاً، وصنعة رائعة بديعة، فاظهرت للعيان مـعجزة عجيبة من معجزات القدرة الإلـهية ((كالعين واللسان)) مثلاً.

فلو لـم تكن هذه الذرات مأمورة منقادة لامر الصانع القدير، فان كل ذرة منها اذن لابد ان تكون حاكمة حكماً مطلقاً على بقية ذرات الـجسد ومحكومة لـها حكماً مطلقاً كذلك، وان تكون مثل كلٍ منها، وضدّ كل منها – من حيث الـحاكمية – في الوقت نفسه! وان تكون مناط اغلب الصفات الـجليلة التي لا يتصف بها الاّ الله سبحانه وتعالى، وان تكون مقيدة كلياً، وطليقة كلياً في الوقت نفسه..!

فالـمصنوع الواحد الـمنتظم والـمنسق الذي لا يـمكن ان يكون – بسر الوحدانية – الاّ أثراً من آثار الواحد الاحد مـحال ان يسند الى تلك الذرات غير الـمحدودة بل هو مائة مـحال في مـحال..! يدرك ذلك كل من له مسكة من عقل!

l الـمحال الثالث:

ان لم يكن وجودك هذا قد كتب بقلم الواحد الاحد القدير الأزلي، وكان مطبوعاً بـمطابع الطبيعة والاسباب، فيلزم عندئذٍ وجود قوالب طبيعية بعدد الوف الالوف من الـمركبات الـمنتظمة العاملة في جسمك، والتي لا يـحصرها العد، ابتداءً من اصغر الـخلايا العاملة بدقة متناهية وانتهاءً بأوسع الاجهزة العاملة فيه.

ولفهم هذا الـمحال نأخذ الكتاب الذي بين ايدينا مثالاً، فنقول:

إن اعتقدت ان هذا الكتاب مستنسخ باليد، فيكفي اذن لاستنساخه قلم واحد، يـحركه علمُ كتابه ليدوّن به ما يشاء، ولكن إن لـم يُعتقد انه مستنسخ باليد ولـم يُسند الى قلـم الكاتب، واُفُترض انه قد تشكـّل بنفسه، او اسندت كتابته الى الطبيعة، فيلزم عندئذٍ ان يكون لكل حرف من حروفه قلـم معدني خاص به، ويكون عدد الاقلام بعدد تلك الـحروف – بـمثل وجود الـحروف الـمعدنية في الـمطبعة والتي هي بعدد الـحروف وانـماطها – أي يلزم وجود اقلام بعدد الـحروف بدلاً من قلم واحد للاستنساخ، وقد يكون هناك في تلك الـحروف، حروفٌ كبيرة مكتوب فيها بـخط دقيق ما في صحيفة كاملة، فيلزم اذن لكتابة مثل هذه الـحروف الكبيرة الوف الاقلام الدقيقة!

والان ماذا تقول لو كانت تلك الـحروف متداخلة بعضها بالبعض الآخر بانتظام كامل متخذةً هيأة جسدك وشكله؟! فيلزم عندئذٍ ان يكون لكل جزء من اجزاء كل دائرة من دوائر الـمذكورة قوالب عديدة بعدد تلك الـمركبات التي لا يـحصرها العدّ!

هَبْ انك تقول لـهذه الـحالة الـمتضمنة لـمائة مـحال في مـحال، انها مـمكنة الـحدوث! فحتى في هذه الـحالة – على فرض إمكانها – افلا يلزم لصنع تلك الاقلام وعمل تلك القوالب والـحروف الـمعدنية اقلاماً وقوالب وحروفاً بعددها لتصبّ وتسكب فيها إنْ لـم يُسند صنعها جـميعاً الى قلـم واحد؟ ذلك لان جـميعها مصنوعة ومـحدثة منتظمة، ومفتقرة الى صانع ليصنعها، ومـُحدثٍ ليحدثها، وهكذا الامر يتسلسل كلما اوغلت فيه. فافهم من هذا مدى سقم هذا الفكر الذي يتضمن مـحالات وخرافات بعدد ذرات جسمك!

فيا ايها الـجاحد… عُد الى عقلك وانبذ هذه الضلالة الـمشينة!

n الكلمة الثالثة:

والتي هي قولهم عن الشيء: ((اقتضته الطبيعة)). فهذا الـحكم له مـحالات كثيرة جداً، نذكر ثلاثة منها على سبيل الـمثال:

m الـمحال الاول:

ان الاتقان والايـجاد الـمتـَّسمَين بالبصيرة والـحكمة الظاهرين في الـموجودات ظهوراً جلياً، ولا سيما في الاحياء، إن لـم يُسند الى قلـم ((القدرة الإلـهي)) والى قدرته الـمطلقة، واسندا الى ((الطبيعة)) العمياء الصماء الجاهلة والى (القوة)) يلزم ان توجد الطبيعة – من اجل الـخلق – مطابع ومكائن معنوية لاحد لـها في كل شيء او تدرج في كل شيء قدرة قادرة على خلق الكون كله، وحكمة مدبرة لادارة شؤونه كلها.

مثال ذلك:

ان تـجليات الشمس وانعكاساتها الضوئية، وبريق لـمعانها الـمشاهد على قطرات الـماء الرقراقة الـمتلألئة، او على القطع الزجاجية الـمتناثرة هنا وهناك على سطح الارض، مـما يخيل للناظر السطحي النظر انها صورٌ لشميسات مثالية. فان لـم تنسب هذه الانعكاسات واللمعات الى الشمس الـحقيقية التي تطالعنا بشعاعها الغامر يلزم الاعتقاد بشمس طبيعية فطرية صغيرة ظاهرية تـملك صفات الشمس نفسها وتتصف بـخصائصها، موجودة وجوداً فعلياً في تلك القطعة الزجاجية الصغيرة – التي لا تسع لأدنى شيء – أي يلزم الاعتقاد بوجود شـموس بعدد ذرات القطع الزجاجية.

وفي ضوء هذا الـمثال نقول:

ان لـم يُسند خلق الـموجودات والاحياء اسناداً مباشراً الى تـجليات اسـماء الله الـحسنى الذي هو نور السموات والارض يلزم الاعتقاد اذن بوجود طبيعة وقوة تـملكان قدرة مطلقة وارادة مطلقة مع علم مطلق وحكمة مطلقة في كل موجود من الـموجودات، ولا سيما الاحياء، أي يلزم قبول ألوهية وربوبية في كل موجود!

فهذا النـمط من التفكير الـمعوج لـهو اشد بطلاناً من أي مـحال آخر، واكثر خرافة منه، فالذي يُسند ما ابدعه الـخالق العظيم من صنعة رائعة دقيقة، ظاهرة جلية حتى في اصغر مـخلوق الى يد الطبيعة الـموهومة، التافهة التي لا تـملك شعوراً لاشك انه يتردى بفكره الى درك أضل عن الـحيوان.



m الـمحال الثاني:

ان هذه الـموجودات التي هي في غاية الانتظام، وفي منتهى الروعة والـميزان، وفي تـمام الاتقان، وكـمال الـحكمة والاتـّزان؛ ان لـم تسند الى من هو قدير مطلق القدرة وحيكم مطلق الـحكمة، واسندت الى الطبيعة، يلزم الطبيعة ان تـحضر في كل حفنة تراب، معامل ومطابع بعدد معامل اوروبا ومطابعها، كي تتمكن تلك الـحفنة من ان تكون منشأ الازهار والاثـمار الـجميلة اللطيفة؛ لان تلك الـحفنة من التراب التي تقوم بـمهمة مشتل صغير للازهار تظهر قابلية فعلية لاستنبات وتصوير ما يلقى فيها بالتناوب من بذور جـميع ازهار العالـم وثـماره، وبأشكالـها وهيئاتها الـمتنوعة، والوانها الزاهية.

فإن لـم تسند هذه القابلية الى قدرة الفاطر الـجليل القادر على كل شيء.. فلابد اذن ان توجد في تلك الـحفنة ماكنة معنوية طبيعية خاصة لكل زهرة من ازهار العالـم والاّ لا يـمكن ان يظهر ما نشاهده من انواع الازهار والثـمار الى الوجود! اذ البذور – كالنطف والبيوض ايضاً – موادها متشابهة اختلط وعجن بعضها ببعض بلا شكل معين وهي مولد الـماء ومولد الـحموضة والكربون والآزوت. علماً ان كلاً من الـهواء والـماء والـحرارة والضوء اشياء بسيطة لا تـملك عقلاً او شعوراً، وهي تتدفق كالسيل في كل شيء دونـما ضابط. فتشكيل تلك الازهار التي لاتـحد من تلك الـحفنة من التراب بصورها الـمتنوعة البديعة واشكالـها الـمختلفة الزاهية وبهيئاتها الـمتباينة الرائعة وهي في منتهى الانتظام والاتقان تقتضي بالبداهة وبالضرورة ان توجد في تلك الـحفنة من التراب مصائع ومطابع معنوية بـمقايس صغيرة جداً اكثر مـما في اوروبا من مصانع ومطابع، كي تتمكن ان تنسج تلك الـمنسوجات الـحية التي لاتعد، وتطرز تلك النقوش الزاهية الـمتنوعة التي لاتـحصى!

فيا لبعد ما يـحمله الطبيعيون من فكر إلـحادي عن جادة العقل السليم! اعلم هذا، وقس مدى بُعد اولئك الذين يدّعون انهم عقلاء وعلميون عن موازين العقل والعلم بتوهمهم ان الطبيعة موجدةٌ للاشياء.. اولئك الذين اتخذوا خرافة مـمتنعة وغير مـمكنة اطلاقاً، مسلكاً لـهم، فاسخر منهم، واحتقرهم.

ولسائل ان يسأل:

صحيح ان مـحالات كثيرة، ومعضلات عظيمة تنجم عندما يُسند خلق الـموجودات الى الطبيعة، ولكن كيف تزول هذه الـمشكلات، وتنحل هذه الـمعضلات عندما نسند عملية الـخلق برمتها الى الواحد الاحد الفرد الصمد؟ وكيف ينقلب ذلك الامتناع الصعب الى الوجوب السهل؟

الـجواب: ان تـجليات الشمس وانعكاساتها – كما ذُكرَ في الـمحال الاول – أظهرت نفسها بكل سهولة، ومن دون تكلف او صعوبة في جـميع الـمواد ابتداءً من الـجامد الصغير الـمتناهي في الصغر – كقطع الزجاج – الى اوسع السطوح للبحار والـمحيطات، فأظهرت على الكل فيضها وأثرها في منتهى السهولة، وكأن كلاً منها شـميسات مثالية. فلو قُطعت نسبة تلك الانعكاسات الى الشمس الـحقيقية، فلابد من الاعتقاد بوجود شـمس طبيعية في كل ذرة من الذرات وجوداً ذاتياً خارجياً. وهذا ما لايقبله عقل، بل هو مـمتنع ومـحال.

فكما ان الامر في الـمثال هو هكذا، كذلك اسناد خلق كل موجود اسناداً مباشراً الى الواحد الاحد الفرد الصمد فيد من السهولة الـمتناهية بدرجة الوجوب، اذ يـمكن ايصال مايلزم ايّ موجود اليه، بكل سهولة ويسر، وذلك بالانتساب وبالتـجلي. بينما اذا ما قطع ذلك الانتساب، وانقلب الاستخدام والتوظيف والطاعة الى الانفلات من الاوامر والعصيان، وترك كل موجود طليقاً يسرح كيفما يشاء، او اسند الامر الى الطبيعة، فستظهر مئات الالوف من الـمشكلات والـمعضلات بدرجة الامتناع، حتى نرى ان خلق ذبابة صغيرة يقتضي ان تكون الطبيعة العمياء التي فيها مالكة لقدرة مطلقة تتمكن بها من خلق الكون كله، وان تكون – مع ذلك – ذات حكمة بالغة تتمكن بها من ادارته، حيث ان الذبابة – رغم صغرها – بديعة الصنع، تنطوي على أغلب مكونات الكائنات وكأنها فهرس مـختصر لـها..

وهذا ليس بـمحال واحد فـحسب بل الف مـحال ومـحال..!

الـخلاصة:

كما انه مـحالٌ ومـمتنعٌ وجود نظير او شريك لله سبحانه وتعالى في ألوهيته، كذلك مـمتنع ومـحال مثله ان يكون هناك مداخلة من غيره في ربوبيته، او مشاركة له من احد في أيـجاده الاشياء وخلقها..

أما الـمشكلات التي في ((الـمحال الثاني)) التي اثبتناها في عديد من الرسائل؛ فهي: انه اذا ما نُسِبَ خلق جـميع الاشياء الى الواحد الاحد، يسهل ذلك الـخلق كما يسهل خلق شيء واحد. بينما اذا ما نُسِبَ الـخلق الى الاسباب والى الطبيعة يصبح خلق الشيء الواحد وايـجاده مشكلاً وصعباً، كـخلق الـجميع. وحيث اننا سبق ان اثبتنا هذا ببراهين دامغة، نورد هنا ملـخص برهان واحد فقط:

اذا انتسب احدٌ الى السلطان بالـجندية او بالوظيفة الـحكومية، فانه يتمكن ان ينجز من الامور والاعمال اضعاف اضعاف ما يـمكنه انـجازه بقدرته الشخصية، وذلك بقوة ذلك الانتساب السلطاني. فمثلاً يستطيع ان يأسر قائداً كبيراً باسم سلطانه، مع انه جندي. حيث تـحمل خزائن السلطان وقطعات الـجيش الاجهزة والاعتدة لـما يقوم به من اعمال، فلا يـحملها هو وحده، كما انه ليس مضطراً الى حـملها. كل ذلك بفضل إنتسابه الى السلطان، لذا تظهر منه اعمالٌ خارقة كأنها اعمال سلطان عظيم، وتبدو له آثار – فوق ما تبدو منه عادةً – وكأنها آثار جيش كبير رغم انه فرد. فالنملة – من حيث تلك الوظيفة – تتمكن من تدمير قصر فرعون طاغٍ، والبعوضة تستطيع ان تهلك نـمروداً جبارا بقوة ذلك الانتساب.. والبذرة الصغيرة للصنوبر الشبيهة بـحبة الـحنطة تنشىء بذلك الانتساب جـميع اجهزة شـجرة الصنوبر الضخـمة(1). فلو انقطع ذلك الانتساب، واعفي الـموجود من تلك الوظيفة، فعلية ان يـحمل على كتفه قوة ما ينجزه من اعمال وينوء كاهله بلوازمها ومعداتها. وبذلك لا يـمكنه القيام بأعمال سوى اعمال تتناسب مع تلك القوة الضئيلة الـمحدودة الـمحمولة على ذراعه، بـما يناسب كمية الـمعدات واللوازم البسيطة التي يـحملها على ظهره، فلو طلب منه ان يقوم بأعمال كان يقوم بها بسهولة ويسر في الـحالة الاولى لأظهر عجزه، الاّ اذا استطاع ان يُحمّل ذراعه قوة جيش كامل، ويردف على ظهره معامل اعتدة الدولة الـحربية!!

إن صاحب هذا الـخيال السابح في فضاء الوهم والـخرافة يتوارى خجلاً مـما يقول.

نـخلص من كل ما تقدم الى ان تسليم أمر كل موجود وتنسيبه الى واجب الوجود سبحانه فيه السهولة التامة بدرجة الوجوب.

اما اسناد ايـجاده الى الطبيعة فهو معضل الى حد الامتناع وخارج عن دائرة العقل.

m الـمحال الثالث:

نوضح هذا الـمحال بـمثالين قد بيـّناهما في بعض الرسائل؛ هـما:

الـمثال الاول:

يدخل انسان بدائي ساذج التفكير، لـم يكن يـملك ايّ تصور حضاري مسبقٍ؛ يدخل هذا الشخص قصراً فخماً بديعاً، يزهو بزينته، ويـختال بأرقى ما وصلت اليه الـحضارة من وسائل الابـهـَّة والراحة، ويتلألأ بأضوائه في عتمة فلاةٍ خاليةٍ موحشة، فيدلف اليه، ويدور في ارجائه، فتشدُّهُ براعة بنائه، ونقوش جدرانه، وروعة إتقانه.. وبكل سذاجة تصوره وبلاهته يـمنح القصر حياةً، ويعطيه قدرة تشييد نفسه بغرفه وابهائه وصوره الـجميلة، ونقوشه الاخـّاذة، لا لشيء الاّ لكونه قاصراً عن تصور وجود احد – خارج هذا القصر – وفي هذه الفلاة يـمكنه ان ينسب اليه بناء هذا القصر، لذا فقد طفق يتحرى عن ((الباني)) داخل القصر لعله يعثر عليه بين اشياء القصر، فما من شيء وقع عليه بصره الاّ وتردد فيه وشكّ في كونه قادراً على ايـجاد مثل هذا القصر الذي يـملأ اقطار النفس والعقل بروعة صنعه، وجـمال بنائه. وتقوده قدماه الى زاوية من زوايا القصر ويعثر فيها فجأةً على دفتر ملاحظات كان قد دونت فيه خطة مفصلة لعملية بناء القصر، وخُطّ فيه ايضاً فهرس موجوداته وقوانين ادارة مـمتلكاته. ورغم ان ذلك الدفتر كمـحتوياته، ليس من شأنه تشييد القصر وتزيينه، اذ لا يـملك يداً يعمل بها، ولا بصيرةً يبصر بها، الاّ انه تعلق به اذ وجده متطابقاً بـمحتوياته، مع مـجاميع اشياء القصر، ومنسجماً مع سير العمل فيه – اذ هو عنوان قوانين الله العلمية – لذا قال مضطراً: ((إن هذا الدفتر هو الذي شيـّد هذا القصر ونظـّمه وزينه، وهو الذي اوجد الاشياء فيه ورتبها هذا الترتيب ونسقها هذا التنسيق))… فكشف بهذا الكلام عن مدى عمق جهله، وتأصل حماقته.

وعلى غرار هذا الـمثال تـماماً، يدلف الى قصر العالم العظيم – الذي هو ادق نظاماً واكمل إتقاناً، واجـمل صنعاً، وازهى جـمالاً، من ذلك القصر الصغير الـمحدود الـمذكور آنفاً في الـمثال، حيث لا يقبل الـمقايسة والـموازنه معه، فكل ناحية من نواحيه تشع مـعجزاتٍ بديعةً وحكماً ساميةٌ – يدلف واحد مـّمن يدينون بفكرة الطبيعة وبنكرون عظمة الالوهية الى هذا القصر، واضعاً في ذهنه – مسبقاً – الإعراض عما هو مبثوث امامه من آثار صنعه الله سبحانه الـمنزه عن الـمخلوقات، الـمتعالي عن الـمكنات.. ويبدأ بالبحث والتحري عن السبب ((الـموجد)) ضمن الـممكنات والـمخلوقات! فيرى قوانين السنن الإلـهية، وفهارس الصنعة الربانية. والتي يطلق عليها خطأ – وخطأ جسيماً – اسم الطبيعة التي يـمكن ان تكون شبيهة بصفحة من كراسة ((التغيير والتبديل)) لقوانين اجراءات القدرة الإلـهية، وبـمثابة لوحة ((الـمحو والاثبات)) للقدر الإلـهي، ولكنه ينبري الى القول:

مادامت هذه الاشياء مفتقرة الى علـّةٍ موجدةٍ، ولا شيء اعظمُ ارتباطاً بها، من هذه ((الكراسة)) فاني أخلصُ من ذلك الى ان هذه ((الكراسة)) – بـما تتضمنه من قوانين الـمحو والاثبات – هي التي اوجدت الاشياء، مادامت، لا يطيبُ لي الاعتقاد والإيـمان بالصانع الـجليل سبحانه. برغم ان العقل الـمنزه عن الهوي يرفض كلياً – ضمن منطقة – ان ينسب شؤون الربوبية الـمطلقة – والتي تقتضي قدرةً مطلقةً – الى هذه ((الكراسة)) العمياء الصماء العاجزة.

ونـحن نقول:

يا أحـمق من ((هَبَنـَّقة))!(1).

أطلَّ برأسك من تـحت مستنقع الطبيعة.. لترى الصانع الـجليل الذي تشهد له جـميع الـموجودات، من الذرات الى الـمجرات، بألسنة متنوعة، وتشير اليه اشارات مـختلفة.. وشاهد تـجليات ذلك الـمصور الـجليل الذي شيـّد قصر العالـم الباذخ، ودوّن خطته وبرنامـجه وقوانينه في تلك الكراسة.. وانقذ نفسك من ذلك الـهذيان الآثـم الرخيص!

الـمثال الثاني:

يدخل انسانٌ معزولٌ عن عالـم الـمدنية والـحضارة، وسط معسكر مهيب، فيبهره ما يشاهد من تدريبات متنوعة يؤديها – بغاية الانتظام والاتقان ومنتهى الطاعة والانقياد – جنود هذا الـمعسكر، فيلاحظ حركاتهم الـمنسقة وكأنها حركة واحدة يتحرك الـجميع – فوجاً ولواءً وفرقةً – بـحركة فرد واحد منهم، ويسكن الـجميع بسكونه، يطلق الـجميع النار اطلاقاً واحداً إثر امر يصدره ذلك الفرد.. فـحارَ في أمره، ولـم يكن عقله الساذج ليدرك ان قيادة قائد عظيم هو الذي ينفذ اوامره بأنظمة الدولة واوامر السلطان، فتخيل حبلاً يربط اولئك الـجنود بعضهم بالبعض الآخر.. ثـم بدأ يتأمل خيالاً، مدى اعجوبة هذا الـحبل الـموهوم. فزادت حيرته واشتدّ ارتباكه. ثـم يـمضي الى شأنه.

ويدخل جامع ((أياصوفيا)) العظيم، يوم الـجمعة ويشاهد جـموع الـمصلـّين خلف رجل واحد يـمتثلون لندائه في قيامهم وقعودهم وسجودهم وركوعهم، ولـمّا لـم يكن يعرف شيئاً عن الشريعة الإلـهية، والدساتير الـمعنوية لأوامر صاحب الشريعة، فانه يتصور، بأن هذه الـجماعة مرتبطة ببعضها البعض بـحبال مادية، وان هذه الـحبال قد قيدت حركة الـجماعة واسرتهم، وهي التي تـحركهم وتوقفهم عن الـحركة.

وهكذا يـمضي الى سبيله وقد امتلأ ذهنه بأخطاء تصوراته، التي تكاد تثير الهزء والسخرية حتى لدى أشد الناس وحشية وهمجية.

ففي ضوء هذا الـمثال:

يأتي ملـحدٌ الى هذا العالـم الذي هو معسكر مهيب رائع لـجنود السلطان الـجليل، وهو مسجد عظيم بارع يعظـّم فيه ذلك الـمعبود الازلي ويقدّس؛ يأتيه وهو يـحمل فكرة ((الطبيعة)) الـجاحدة ذلك الـجهل الـمطبق..

فيتصور ((القوانين الـمعنوية)) التي يشاهد آثارها في ربط انظمة الكون البديع، والنابعة من ((الـحكمة)) البالغة للبارىء الـمصور سبحانه، يتصورها كأنها قوانين مادية، فيتعامل معها في ابـحاثه كما يتعامل مع الـمواد، والاشياء الـجامدة..

ويتخيل احكام قوانين الربوبية التي هي قوانين اعتبارية ودساتير الشريعة الفطرية الكونية للـمعبود الازلي، والتي هي بـمجموعها معنوية بـحتة، وليس لـها وجود سوى وجود علمي، يتخيلها وكأنها موجودات خارجية ومواد مادية..

ويقيم تلك القوانين الصادرة من العلم الإلـهي والكلام الرباني التي لـها وجود علمي فقط مقام القدرة الإلـهية، ويـملـّكها الـخلق والايـجاد، ويطلق عليها اسم ((الطبيعة))، متصوراً القوة التي هي تـجلٍ من تـجليات القدرة الربانية، انها صاحب قدرة فاعلة، وقديراً مستقلاً بذاته:

أفبعد هذا جهالة وغباء؟ اَوَ ليس هذا جهلاً باضعاف اضعاف ما في الـمثال؟!

الـخلاصة:

ان الطبيعة التي يتعلق بها الطبيعيون ذلك الأمر الـموهوم الذي ليس له حقيقة، إن كان ولابد أنها مالكة لوجود حقيقي خارجي فان هذا ((الوجود)) انـما هو:

صنعة صانع ولن يكون صانعاً، وهو نقشٌ ولن يكون نقاشاً، ومـجموعة احكام ولن يكون حاكماً، وشريعة فطرية ولن يكون شارعاً، وستار مـخلوق للعزة، ولن يكون خالقاً، وفطرة منفعلة ولن يكون فاطراً فاعلاً، ومـجموعة قوانين ولن يكون قادراً، ومِسطَر ولن يكون مصدراً.

وحاصل الكلام:

مادامت الـموجودات موجودةً فعلاً، والعقل يعجز عن تصور اكثر من اربعة طرق للوصول الى حدوث الـموجود – كما ذكرنا ذلك في الـمقدمة – وقد اثبتَ إثباتاً قاطعاً بطلان ثلاثة من تلك الطرق الاربعة، وذلك ببيان ثلاثة مـحالات ظاهرة جلية في كل منها، فلابد وبالضرورة والبداهة ان يثبت بيقين لاسبيل مطلقاً الى الشك فيه الطريق الرابع، وهو طريق الوحدانية ذلك الطريق الذي تنيره الآية الكريـمة: } أفيِ اللهِ شَكٌ فاطرِ السمواتِ والارضِ.. { (ابراهيم:10).

والتي تدل بداهةً ويقيناً على وجود واجب الوجود، وعلى ألوهيته الـمهيمنة، وعلى صدور كل شيء من يد قدرته، وعلى ان مقاليد السموات والارض بيده سبحانه وتعالى.

فيا عابد الاسباب!

ايها الـمسكين الـمفتون بالطبيعة!

مادامت طبيعة كل شيء مـخلوقة كالشيء نفسه، لأن تكونها مـحدثٌ – غير قديـم – وعليها علامة الصنعة والاتقان، وان سبب وجود هذا الشيء الظاهري هو ايضاً مصنوع حادثٌ. ولـما كان وجود أي شيء مفتقراً الى وسائل وآلات واجهزة كثيرة جداً..

فلابُدّ من قدير مطلق القدرة ليتخلق تلك الطبيعة في الشيء، ويُوجِد ذلك السبب له، ولابد ان يكون – هذا القدير الـمطلق القدرة – مستغنياً غناءً مطلقاً، فلا يشرك الوسائط العاجزة في أيـجاده للشيء وفي هيمنة ربوبيته عليه.

فـحاش لله ان يكون سواه القدير الـمستغني الـمتعال، بل هو سبحانه وتعالى يـخلق الـمسبـّب والسبب معاً من علوه خلقاً مباشراً، ويوجد بينهما سببية ظاهرية وصورية، ويقرن بينهما من خلال ترتيب وتنظيم، جاعلاً من الاسباب والطبيعة ستاراً ليد قدرته الـجليلة، وحجاباً لعظمته وكبريائه، ولتبقى عزتهُ منزهةً مقدسة في عليائها، ويجعل تلك الاسباب موضع الشكوى لـما يتراءى من نقائص، ولـما يتصور من ظلم ظاهري في الاشياء.

ايهما اسهل على الفهم، واقرب معقوليةً الى الذهن: تصور ((ساعاتي)) يصنع تروس الساعة ومعداتها، ثـم ينظمها على وفق ترتيب تروسها، ويوازن بين حركات عقاربها بدقة متناهية، ام ان نتصور الساعاتي يصنع في تروس الساعة وعقاربها ودقيق آلاتها ماكنة خارقة الفعال يُسلـّمُ صنع الساعة الى جمادية ايديها؟! قل معي: أليس هذا كلاماً فارغاً ومـحالاً وخارجاً عن حدود الامكان؟ فهيا خاطب انت عقلك الـمجحف وكن انت القاضي والـحكم.

وايهما يكون مستساغاً ومقبولاً في منطق العقل: تصور كاتب يخط كتاباً بنفسه بعد ان يحضر لوازم الكتابة؛ من مداد وقلم وورق، ام تصور ايـجاد ذلك الكاتب مطبعة خاصة بذلك الكتاب وهي اعقد وادق من الكتاب نفسه يترك لـها امر كتابة هذا الكتاب فيخاطبها قائلاً:

هيا اشرعي انت بكتابة الكتاب.. من دون تدخل من قبله؟

أليس مثل هذا التصور السقيم معضلاً عقلاً؟ ومشكلاً باضعاف امر الكتابة نفسها؟!

واذا قلت: ان أيـجاد مطبعة لطبع الكتاب اعقد واصعب من الكتاب نفسه، إلاّ أنّ ماكنة الـمطبعة، قادرة على اصدار الآف النسخ من الكتاب في مدة قصيرة.وهذا وسيلة التيسير.

الـجواب: ان البارىء الـمصور سبحانه قد خلق بقدرته الـمطلقة، بتجديد تـجليات اسـمائه الـحسنى واظهارها على اشكال مـختلفة، تشخصات الاشياء وملامـحها، الـخاصة بها، بـحث لا يشبه مـخلوق مـخلوقاً آخر تشابهاً تاماً ومتطابقاً قط، وهو كتابٌ صمداني، ومكتوبٌ رباني.

نعم، انه لاجل ان يفي كل مـخلوق بـمعاني وجوده، لابدّ ان يـملك سيماءً يعرف بها ويـخالف بها الآخرين، وملامح تباين ملامح غيره، فانظر ودقق النظر في وجه الانسان تَر ان علامات فارقة قد احتشدت في هذا الوجه الصغير، بـحيث تـميز هذه العلامات صاحبها عن جـميع الوجوه الاخرى الـمتتابعة منذ زمن آدم عليه السلام حتى اليوم، والى الابد، رغم التشابه والاتفاق في الـماهية الانسانية، والكينونة البشرية، وهذا واضح جلي وثابت قطعاً.

فملامح كلّ وجه كتابٌ خاص بالوجه نفسه، وهو كتابٌ مستقلٌ بذاته عن غيره.. فلاجل إخراج هذا الكتاب الـخاص، واتقان صنعه وتنظيمه، يستوجب الامر وجود مـجموعة ابـجدية كاملة من الـحروف، والـمناسبة حـجماً له، ويتطلب تنضيد هذه الـحروف في مواضعها من لوحة التنضيد، ليتم بعد ذلك مؤلف خاص بهذا الوجه يـخالف تأليف الاخرين.

ويلزم هذا الامر جلب مواد صنعه الـخاصة به، ثم وضعها في اماكنها الـمخصصة لـها، ثمّ إدراج كل مايلزم وجود هذا الوجه – في الوجه نفسه – من عناصر البناء. وهذا كله لاشك يـحتاج الى مصنع مستقل خاص به أي الى مطبعة خاصة في كل اشيائها لكل وجه من الوجوه!!

ثم الا تـحتاج هذه الـمطبعة الـخاصة – على فرض وجودها – الى تنظيم معين، وتنسيق مـخصوص، فأمر الطبع نفسه – دع عنك تنسيق الـحروف وترتيبها وتنظيمها – هو ايضاً بـحاجة الى تنظيم؟..

فالـمواد الـموجودة في جسم كل كائن حي هي اكثر تعقيداً وادق تنظيماً من مواد الـمطبعة وتنظيمها بـمئات الاضعاف، فـجلب هذه الـمواد من اقطار العالـم، ضمن حسابات معينة، وموازين دقيقة، ثم تنضيدها حسب مقتضيات الـحاجة اليـها، واخيراً وضعها تـحت يد تلك الـمطبعة… هذه السلسلة الطويلة من الاجراءات تـحتاج – اولاً وقبل كل شيء – الى موجد يوجد تلك الـمطبعة الـمفترضة، وليس هو الاّ القدرة الفاطرة للخالق القدير وارادته النافذة.

اذن فاحتمال كون الطبيعة كأنها مطبعة، خرافة فاضحة لا معنى لـها على الاطلاق..!!

وهكذا على غرار ما شاهدناه في مثال ((الساعة والكتاب)): ان الصانع ذا الـجلال وهو القادر على كل شيء، هو نفسه خالق الاسباب، وخالق الـمسبـّبات، وهو الذي يربط الـمسبـّبات بالاسباب بـحكمته سبحانه، وقد عين بإرادته طبيعة الاشياء، وجعلها مرآة عاكسة لتجليات الشريعة الفطرية الكبرى التي فطر عليها الكون، والتي هي قوانين الله وسننه الـجارية التي تـخص تنظيم شؤون الكون، وقد اوجد بقدرته وجه ((الطبيعة)) التي يقوم عليها عالـم الشهادة الـخارجي الوجود، ثم خلق الاشياء وانشأها على تلك الطبيعة ومازج بينهما بتمام الـحكمة.

والآن نـحيل الامر الى انصاف عقلك الـمجحف ليرى: ايهما يستسيغه عقلك ويسهل عليه الاعتقاد به؟ أهذه الـحقيقة الـمعقولة النابعة من براهين دامغة غير مـحدودة – وهي مُلزمة الى حدّ الوجوب – أم اعطاء ما يلزم للاشياء من اجهزة واعضاء لا تـحد، واسناد اعمالٍ تتسم بالـحكمة والبصيرة الى الشيء نفسه؟! او تنسيبها الى ما تسمونه بـ ((الطبيعة)) والاسباب التي هي مواد جامدة خالية من الشعور وهي مـخلوقة مصنوعة؟ أليست هذه خرافة مـمتنعة وخارجة عن نطاق الامكان؟

يـجيب عابد الطبيعة – ذلك الـجاحد – قائلاً: مادمت تدعوني الى الانصاف فانا اعترف: ان ما سلكناه من طريق مضلّ الى الآن مثلما انه مـحال بـمائة مـحال فهو مضر أيـما ضرر، وهو في منتهى القبح والفساد. إنَّ مَن كان له مسكة من عقل يدرك من مـحاكماتكم العقلية، وتـحقيقاتكم العلمية الـمسندة بالبراهين والـمذكورة آنفاً، ان اسناد الايـجاد والـخلق الى الاسباب والى الطبيعة مـمتنع عقلاً ومـحال قطعاً، بل الواجب والضروري الـملزم للعقل هو اسناد كل شيء مباشرة الى واجب الوجود سبحانه، فاحمد الله الذي هداني الى هذا الإيـمان.

ولكن بقيتْ لدىّ شبهة واحدة فقط وهي: انني أؤمن بالله ربـّاً وانه خالق كل شيء، ولكني أتساءل:

ماذا يضر عظمته سبحانه، وماذا يضر سلطانه جلّ وعلا، ان نتوجه ببعض الـمدح والثناء الى بعض الاسباب الـجزئية في ايـجادها الاشياء الصغيرة التافهة، فهل ينقص ذلك شيئاً من سلكانه سبحانه وتعالى؟!

والـجواب: كما اثبتنا في قسم من الرسائل إثباتاً قاطعاً:

ان شأن الـحاكمية ((ردّ الـمداخلة)) ورفضها كلياً، بل إن أدنى حاكم، او أي موظف بسيط لايقبل تدخلاً حتى من ابنه ضمن حدود حاكميته، بل ان توهم التدخل في الـحاكمية قد دفع بعض السلاطين الي قتل اولادهم الابرياء رغم انهم كانوا على شيء من التقوى والصلاح، مـمّا يظهر مدى اصالة هذا القانون – قانون ردّ الـمداخلة – في الـحاكمية، فهو سارٍ في كل شيء ابتداءً من متخاصمين في تسنم إدارة ناحية صغيرة الى سلطانين يتنازعان للتفرد بالسلطة في البلاد، وكذلك فقد اظهر – بـما لا يقبل الشك – ما يقتضيه استقلال الـحاكمية من قانون ((منع الاشتراك))، واوشح نفوذه وقوته خلال تاريخ البشرية الطويل، وما ادى اليه من اضطراب وقتل وتشريد وانهار من الدماء الـمهراقة.

تأمل في الانسان الذي هو عاجز عن ادارة نفسه ومفتقر الى التعاون مع الآخرين، ولايـملك من الـحاكمية والآمرية إلاّ ظِلاً باهتاً، فهو يردُّ الـمداخلة الى هذه الدرجة، ويـمنع تدخل الآخرين الى هذا الـحد، ويرفض مشاركة الآخرين في حاكميته، ويسعى بـما لديه من قوة للتشبث باستقلالية مقامه، تأمل في هذا، ثم انظر الى الـحاكم الـمطلق وهو مستوٍ على عرش الربوبية، والآمر الـمطلق وهو الـمهيمن بالالوهية، والـمستقل الـمطلق بالفردية والاحدية، وهو الـمستغني الـمطلق بقادرية مطلقة، ذلكم الله ربنا ذو الـجلال..

فكم يكون لازماً وضرورياً ((ردّ الـمداخلة)) هذه بالنسبة اليه، ومنع الاشتراك وطرد الشريك في حاكميته الـمطلقة، وكم هو من لوازم هذه الـحاكمية ومن اوجب وجائبها؟

فقايسْ الآن ووازن بين حاكمية الانسان الـمحدودة الضيقة الـمفتقرة الى الآخرين وحاكمية الله الـمطلقة الغنية الـهيمنة الشاملة.

أما الشق الثاني من شبهتك والذي هو:

اذا قُصِدَ ((بعض الاسباب)) ببعض العبادة من بعض الامور الـجزئية، فهل بنقص ذلك شيئاً من عبادة الـمخلوقات الـمتوجهة جـميعاً الى الله القدير، ابتداءً من الذرات وانتهاءً بالسيارات والـمجرّات؟!

الـجواب: ان الـخالق الـحكيم العليم سبحانه، قد خلق هذا الكون بـمثابة شـجرة، وجعل ارباب الشعور ثـمارها الكاملة، وكـّرم الانسان باعتباره اجـمع ثـمرة لأرباب الـمشاعر، وجعل الشكر والعبادة افضل ما تثمره حياة الانسان، بل هما – الشكر والعبادة - نتيجة خلقه وغاية فطرته وثـمرة حياته.

فهل يـمكن عقلاً لـهذا الـحاكم الـمطلق والآمر الفرد، وهو الواحد الاحد، أن يسلـّم امر الانسان الذي هو ثـمرة الكون كله الى غيره من ((الاسباب)) ويسلم ثـمرة حياته – وهي الشكر والعبادة – الى الآخرين، بعدما خلق الكون كله لـمعرفة ألوهيته، ولـمحبة ربوبيته، فهل يـمكن ان يـجعل نتيجة الـخلق، وثـمرة الكون تسقط بين اشداق عفونه العبث؟! حاش لله وكلا، سبحان الله عمـّا يشركون.

ثـم هل يـمكن ان يرضى سبحانه بـما يـخالف حكمته وربوبيته بـجعل بعض الاسباب مقصوداً لعبادة الـمخلوقات؟ علماً بأنه سبحانه وتعالى قد اشهر نفسه وعرّفها وحببها بافعاله وألطافه في هذا العالـم.

فكيف يرضى سبحانه – بعد هذا كله – ان يدع تـحبـّب افضل مـخلوقاته واكملهم عبودية وشكراً وحـمداً الى غيره من الـمخلوقات، وكيف يسمح لـمخلوقاته ان تنساه بعد أن اظهر بافعاله مقاصده السامية في الكون: وهي معرفته، ثـم عبادته؟ حاش وكلا، فسبحان الله عما يقولون علواً كبيراً.

ماذا تقول ايها الصديق بالذي سمعته آنفاً؟

وإذا به يـجيب فيقول:

الـحمد لله الذي سهل لي حل هاتين الشبهتين، فقد اظهرت لي في وحدانية الله، الـمعبود الـحق والـمستحق للعبادة وحده، ودليلين قويين ساطعين لا يـمكن انكارهما، وهل بنكر ضوء الشمس والنهار إلاّ مكابر معاند؟!









الـخاتـمة

يقول ((رجل الطبيعة)) وقد ترك وراءه فكره وتصوراته، ودخل ((حظيرة الإيـمان)) بفكر أيـماني جديد:

الـحمد لله.. اشهد أنّ شبهاتي قد زالت كلها، ولكن مازال في النفس ما يـحيرني ويثير الـمزيد من هواجسي، مـما يرد على خاطري من اسئلة لا اعرف جواباً عنها.

السؤال الاول:

نسمع من كثير من الكسالى الـمتقاعسين عن العبادات، ومن تاركي الصلاة بـخاصة، انهم يقولون:

ما حاجة الرب سبحانه وتعالى – الغني بذاته – الى عبادتنا حتى يزجرنا في محكم كتابه الكريـم، ويتوعدنا بأشد العذاب في نار جهنم، فكيف يتساوق هذا الاسلوب – التهديدي الصاعق في مثل هذا الـخطأ الـجزئي التافه – مع اسلوبه الاعجازي اللين الـهاديء الرقيق في الـمواضع الاخرى؟

الـجواب: حقاً ان الله سبحانه وتعالى – الغني بذاته – لا حاجة له قط الى عبادتك انت – ايها الانسان – بل هو سبحانه لا حاجة له لشيء قط، ولكنك انت الـمحتاج الى العبادة، وانت الـمفتقر اليها.

فأنت مريض معنى، والعبادة هي البلسم الشافي لـجراحات روحك، واوجاع ذاتك، وقد اثبتنا هذا الكلام في عديد من الرسائل.

ترى لو خاطب مريضٌ طبيباً رحـيماً يشفق عليه ويصر عليه ليتناول دواءً شافياً يـخص مرضه، لو خاطبه تـجاه اصراره عليه قائلاً: ما حاجتك انت الى هذا الدواء حتى تلح عليّ هذا الالـحاح الشديد بتناول الدواء؟ الا يفهم من كلامه مدى تفاهته وسخفه وغباء منطقه؟

اما نذير القرآن الكريـم فيما يـخص ترك العبادة وتهديده الـمخيف بعقاب اليم، فاليك تفسيره:

فكما ان سلطاناً يعاقب شخصاً سافلاً يرتكب جريـمةً تـمس حقوق الآخرين بعقاب صارم لاجل الـحفاظ على حقوق رعاياه، كذلك سلطان الازل والابد يعاقب تارك العبادة والصلاة عقاباً صارماً، لانه يتجاوز تـجاوزاً صارخاً على حقوق الـموجودات ويظلمها ظلماً معنوياً بشعاً ويهضم حقوقها هضماً مـجحفاً، تلك الـموجودات التي هي رعاياه وخلقه. وذلك لان كمالاتها تتظاهر على صورة تسبيح وعبادة في وجهها الـمتوجه الى البارىء الـحكيم سبحانه. فتارك العبادة لا يرى عبادة الـموجودات ولن يراها، بل ينكرها وفي هذا بـخس عظيم لقيمة الـموجودات التي كلّ منها مكتوب سامٍ صمداني، قد خطّ بأيات العبادة والتسبيح وهو متوجه باياته وتسبيحه نـحو الـموجد الـخالق جلّ وعلا.. وكل منها – ايضاً – مرآة لتجلي الاسـماء الربانية الـمشعة بالانوار.. فينزل هذه الـموجودات - بهذا الانكار - من مقامها الرفيع السامي، ولايرى في وجودها سوى العبث الخالي من المعنى، ويـجردها من وظائفها الـخلقية، ويظنها شيئاً هادماً ضائعاً لا اهمية له، فيكون بذلك قد استهان بالـموجودات واستخف بها، واهان كرامتها وانكر كمالاتها، وتعدى على مصداقية وجودها.

نعم، ان كل انسان انـما ينظر الى الكون بـمنظاره الـخاص وعلى وفق ما تصوره له مرآته الـخاصة، فلقد خلقه البارىء الـمصور سبحانه على صورة يستطيع قياس الكون عليها، ويزنه بـميزانها. فمنحه عالـماً خاصاً به من هذا العالـم العظيم فيصطبغ عالـمه الـخاص بـحسب ما يتعقده الانسان من عقيدة في قلبه.

فالانسان الـحزين اليائس الباكي يرى الـموجودات باكية بائسة، بينما السعيد الـجذلان يراها مبتسمة ضاحكة ومسرورة.

كذلك الذي يؤدي العبادة والاذكار بصورة جادّة ويشعور تام وبتفكر وتأمل، فانه يكشف شيئاً من عبادة الـموجودات وتسابيحها بل قد يراها وهي حقيقة موجودة ثابتة اما الذي يترك العبادة غافلاً او منكراً لـها فأنه يتوهم الـموجودات توهماً خاطئاً جداً ومنافياً كلياً ومـخالفاً تامة لـحقيقة كمالاتها، فيكون متعدياً على حقوقها معنىً.

زد على ذلك، فان تارك الصلاة يظلم نفسه كذلك بتركه الصلاة، حيث انه غير مالك لذات نفسه، فهي – أي النفس – عبد مـملوك لدى مالكها ومولاها وخالقها وفاطرها، لذا ينذره مولاه الـحق انذاراً شديداً ويهدده بعنف ليأخذ حقّ عبده ذاك من نفسه الامارة بالسوء، فضلاً عن انه عندما ترك العبادة التي هي نتيجة خلقته وغاية فطرته يكون متجاوزاً حدّه تـجاه الـحكمة الإلـهية والـمشيئة الربانية، لذا يعاقب على هذا عقاباً شديداً.

نـحصل مـما تقدم:

ان تارك العبادة مثلما انه يظلم نفسه، والنفس مـملوك الـحق سبحانه وعبده فهو يتعدى على حقوق كمالات الكائنات ويظلمها ايضاً. نعم، فكما ان الكفر استهانة بالـموجودات واستخفاف بها، فترك العبادة انكار لكمالات الكائنات، وتجاوزٌ على الـحكمة الإلـهية، لذا يستحق تاركها تهديداً عنيفاً، وعقاباً صارماً.

ومن هنا يـختار القرآن الكريـم اسلوب التهديد والانذار ليعبر عن هذا الاستحقاق وعن هذه الـحقيقة الـمذكورة آنفاً، فيكون الاسلوب حقاً ومطابقاً تـماماً لـمقتضى الـحال الذي هو البلاغة بعينها.

السؤال الثاني:

يقول صاحبنا الذي نبذ فكرة ((الطبيعة)) وتبرأ منها، وشَرُفَ بالإيـمان بالله:

إن انقياد كل موجود، في كل شأن من شؤونه، وفي كل جزء من جزئياته، وفي كل ما يقوم به وينجزه، انقياداً مطلقاً للمشيئة الإلـهية، والقدرة الربانية، هو حقيقة عظيمة جليلة، فهي لعظمتها وسعتها لاتستوعبها اذهاننا الكليلة القاصرة، علماً اننا نطالع عياناً وفرةً متناهيةً من الـموجودات، وسهولة مطلقة في خلق الاشياء، وقد تـحققت ((السهولة في الايـجاد)) التي هي من مستلزمات ((الوحدانية)) بـما اقمتموه من براهين وحـجج قاطعة، فضلاً عن أن، القرآن الكريـم قد قرر السهولة الـمطلقة صراحة في آيات كريـمة كثيرة امثال:

} مَا خَلقُكمْ ولا بَعثُكمْ الاّ كنفَسٍ واحدةٍ { (لقمان:28)

} ومَا اَمرُ الساعَةِ إلاّ كلـمحِ البَصرِ او هوَ اقرَبُ { (الـنحل:77).

كل ذلك يـجعل تلك الـحقيقة العظيمة ((سهولة الايـجاد)) مسألة مقبولة جداً ومستساغة عقلاً، فأين يكمن سرُّ هذه السهولة ياترى وما الـحكمة من ورائها؟

الـجواب: لقد وضح ذلك السرّ وضوحاً تامـّاً ومقنعاً في ((المكتوب العشرين)) عند شرحه الآية الكريـمة: } وَهُوَ على كُلِ شَيءٍ قَديرٌ { بـما يفي بالغرض، وبـخاصة في ذيله، حيث جاء التوضيح وافياً وشافياً جداً، ومقنعاً بالدليل والبرهان والاثبات القاطع، وخلاصته.

عندما يسند ايـجاد الـموجودات جميعها الى الصانع الواحد، يسهل الامر كسهولة أيـجاد مـخلوق واحد، بينما اذا اسند للكثرة يصعبُ - على هذه الكثرة – امر أيـجاد مـخلوق واحد بقدر صعوبة ايـجاد جـميع الـموجودات .. فيكون خلق بذرة واحدة صعباً ومشكلاً كـخلق شـجرة.. ولكن اذا اسند ((الايـجاد)) الى صانعه الـحق سبحانه، يسهل الامر حتى يصبح أيـجاد الكائنات كلـها كايـجاد شـجرة واحدة، والشـجرة كالبذرة، والـجنة كالربيع، والربيع كالزهرة، فالامر يسهل ويكون هيناً.

وسنشير هنا اشارة مـختصرة الى دليل او دليلين من بين مئات الادلة التي اوضحناها بالتفصيل في رسائل اخرى، تلك الادلة التي تبين ما يدور من الاسرار والـحكم الكامنة فيما نشاهده من وفرة الـموجودات التي لاحصر لـها ورخصها، وكثرة افراد كل نوع منها، وورودها الى الوجود منتظمةً، متقنةً، وبكل سهولة ويسر.

مثال هذا: إن ادارة مائة جندي تـحت إمرة ضابط واحد، اسهل بـمائة ضعف من ادارة جندي واحد تـحت إمرةمائة ضابط.

وعندما يُودَعُ أمرُ تـجهيز جيش كامل باللوازم العسكرية، من مركز واحد، وبقانون واحد، ومن مصنع واحد، الى امرٍ يصدره قائد واحد، فان ذلك يكون سهلاً وهيناً من حيث الكمية والوفرة، بسهولة تـجهيز جندي واحد.

بينما يكون ايداع أمر تـجهيز جندي واحد باللوازم العسكرية الكاملة من مراكز متعددة ومصانع متعددة، الى قواد عديدين مشكلاً وصعباً من حيث الكمية والوفرة ايضاً بصعوبة تـجهيز جيش كامل. اذ ينبغي عندئذ وجود مصانع كثيرة للتـجهيزات بعدد ما يلزم جيشاً كاملاً، لاجل تـجهيز الـجندي الواحد.

ويشاهد ايضاً ان الشـجرة الواحدة، التي تتزود بالـمواد الضرورية لـها من جذر واحد، ومن مركز واحد، وعلى وفق قانون واحد، تثـمر الوف الثـمرات، ويتم ذلك بسهولة ويسر كأن للشجرة ثـمرة واحدة. بينما اذا استبدلت الكثرة بالوحدة، وسلك طريق الكثرة عوضاً عن طريق الوحدة، فزوّدت كل ثـمرة بالـمواد الضرورية للـحياة من مراكز مـختلفة، وجذور متباينة، يكون أيـجاد ثـمرة واحدة مشكلا وصعباً كايـجاد الشجرة نفسها، بل قد يكون ايـجاد البذرة التي هي أنـموذج الشـجرة وفهرستها – صعباً ومعضلاً كايـجاد الشجرة نفسها. لان ما يلزم حياة الشـجرة من مواد ضرورية يلزم البذرة ايضاً.

فهناك الـمئات من امثال هذه الامثلة، وكلها تبين: ان ورود الوف الـموجودات بسهولة مطلقة الى الوجود – في الوحدة – اسهل من ورود موجود واحد الى الوجود بالتعدد والكثرة.

ولـما كنا قد اثبتنا هذه الـحقيقة في رسائل اخرى بيقين قاطع نـحيل اليها، ولكننا نبين هنا فقط سراً عظيماً يتعلق بهذه السهولة واليسر من زاوية نظر العلم الإلـهي، والقدر الإلـهي، والقدرة الربانية، وهذا السر هو:

انت موجود من الـموجودات فاذا سلـّمتَ نفسك الى يد القدير الـمطلق القدرة، فانه يـخلقك بأمر واحد وبقدرته الـمطلقة بلمح البصر من العدم، من غير شيء. ولكن ان لـم تسلم نفسك اليه، بل اسندتها الى ((الطبيعة)) واسلمتها الى الاسباب الـمادية، فيلزم عندئذ لايـجادك انت، عملية بـحث دقيق – لـجمع جـميع الـمواد التي في وجودك – في اقطار العالـم كله، والتفتيش عنها في زوايا الكون كله، وامرارها في مصاف واختبارات دقيقة جداً، ووزنها بـموازين حساسة، ذلك لانك خلاصة منتظمة للكون، وثـمرته اليانعة، وفهرسته الـمصغرة، ومـحفظته الـمنطوية على مواد الكون كله.

لأن الاسباب الـمادية ليس لـها الاّ التركيب والـجمع، اذ هو ثابت لدى ارباب العقول انه لا يـمكن للأسباب الـمادية أيـجاد ما لا يوجد فيها، من العدم ومن غير شيء، لذا فهي مضطرة الى جـمع الـمواد اللازمة لـجسم كائن حي صغير من اقطار العالـم كله.

فافهم من هذا مدى السهولة الـمطلقة في الوحدة والتوحيد. ومدى الصعوبات والـمشكلات في الشرك والضلالة.

ثانيها:

ان هناك سهولة مطلقة في الـخلق والايـجاد تنبع من زاوية نظر ((العلم الإلـهي)) وتفصيلها كالآتي:

ان القدر الإلـهي هو نوع من العلم الإلـهي، يعيـّن مقدار كل شيء كأنه قالب معنوي له وخاص به، فيكون ذلك الـمقدار القَدَري بـمثابة خطّة لذلك الشيء، وبـحكم ((موديل)) انـموذج له، فعندما توجده ((القدرة الإلـهية)) توجده على ذلك الـمقدار القدري بكل سهولة ويسر.

فان لـم يُنسب ايـجاد ذلك الشيء الى مَن له علم مـحيط مطلق ازلي وهو الله القدير ذو الـجلال لاتـحصل الوف الـمشكلات فـحسب، بل تقع مئات الـمحالات ايضاً – كما ذكر آنفاً – لانه إن لـم يكن هناك ذلك الـمقدار القدري، والـمقدار العلمي، يلزم استعمال ألوف القوالب الـمادية والـخارجية للـجسم الصغير للـحيوان!

فافهم من هذا سراً من اسرار السهولة الـمطلقة في الوحدة والتوحيد وكثرة الـمشكلات غير الـمتناهية في التعدد والكثرة والشرك.

واعلم مدى الـحقيقة السامية الصائبة التي تعبر عنها الآية الكريـمة: } ومَا اَمرُ الساعَةِ إلاّ كلـمحِ البَصرِ او هوَ اقرَبُ { (الـنحل:77).

السؤال الثالث:

يقول الذي كان يعادي سابقاً ووُفـّق الى الإيـمان الآن واهتدى:

مابال بعض الفلاسفة الـمغالين في عصرنا هذا يطلقون مقولة: ((لا يُستحدث شيء من العدم ولايفنى شيء من الوجود)) وان مايدير هذا الكون، انـما هو تركيب الـمادة وتـحليلها ليس الاّ!

الـجواب:

ان هؤلاء الفلاسفة الذين لـم يتسنّ لـهم النظر الى الـموجودات بنور القرآن الـمبين، عندما نظروا اليها بـمنظار ((الطبيعة)) و ((الاسباب)) توصلوا الى ان وجود هذه الـموجودات، وافتراض تشكلها بعوامل ((الطبيعة)) و ((الاسباب) مسألة تطرح مشكلات عويصة بدرجة الامتناع – على غرار ما ذكرناه في بيان الاحتمالات ومـحالاتها – فانقسم هؤلاء الفلاسفة إزاء هذه العقبة الكأداء الى قسمين:

قسم منهم صاروا سوفسطائيين وعافوا العقل الذي هو خاصة الانسان وسقطوا الى درك أدنى من الـحيوانات، اذ وصل بهم امر فكرهم الى انكار الوجود عموماً، بل حتى انكار وجودهم، وذلك عندما رأوا ان هذا الانكار اجدى على العقل وايسر عليه واسلم من تصور ((الطبيعة) و((الاسباب)) مالكة لزمام الايـجاد، فانكروا وجود انفسهم ووجود الـموجودات جـميعاً، فسقطوا في هاوية الـجهل الـمطلق.

اما القسم الثاني: فقد نظروا الى الـموجودات انها لو سلـّم ايـجادها الى ((الاسباب)) و((الطبيعة)) كما هو شأن اهل الضلالة فان ايـجاد شيء صغير جداً كالبعوضة او البذرة فيه من الـمشكلات مالا يـحد، ويقتضي قدرة عظيمة لا يبلغ مداها العقل، فوجدوا انفسهم مضطرين الى انكار ((الايـجاد)) نفسه، فقالوا: ((لايستحدث شيء من العدم)) ورأوا ان اعدام الشيء مـحال ايضاً فقرروا انه ((لايفنى الـموجود)). وتـخيلوا جـملة من الاوضاع الاعتبارية ساريةً ما بين تـحليل وتركيب وتفريق وتـجميع، ناتـجة عن حركات الذرات، وسيل الـمصادفات!

فتأمل في هؤلاء الذين يظنون انفسهم في ذروة العقل، قد سقطوا في حضيض من الـحماقة والـجهل، واعلم من هذا كيف تضع الضلالة هذا الانسان الـمكـرّم – حين يلغي ايـمانه – موضع سخرية وازدراء من كل احد..

وبدورنا نسأل هؤلاء:

ترى كيف يـمكن استبعاد ايـجاد شيء ما من القدرة الـمطلقة التي توجدُ على سطح الارض في كل سنة اربـعمائة الف نوع من الاحياء؟ والتي خلقت السموات والارض في ستة ايام؟ والتي تنشىء في كل ربيع تـحت بصر الانسان وسـمعه، على سطح الارض كوناً حياً من النبات والـحيوان هو اظهر اتقاناً واجلى حكمةً من الكون كله، في ستة اسابيع؟ كيف يستبعد منها ان تـخلق الـموجودات العلمية – التي تعينت خططها ومقاديرها ضمن دائرة العلم الازلي – فتخلقها بسهولة مطلقة سهولة اظهار الكتابة غير الـمنظورة بإمرار مادة كيمياوية عليها. فاستبعاد إضفاء الوجود الـخارجي على الـموجودات العلمية – والتي هي معدومات خارجياً – من تلك القدرة الازلية، ثـم انكار الايـجاد نفسه لـهو حـمافة وجـهالة اشد من حـماقة السوفسطائيين الـمعروفين وجـهالتهم!

وحيث ان نفوس هؤلاء التعساء الـمتفرعنة العاجزة عجزاً مطلقاً والتي لا تـملك إلاّ جزءاً يسيراً من الاختيار غير قادرة على إفناء أي شيء كان واعدامه، وايـجاد اية ذرة كانت او مادة من غير شيء ومن العدم.. ولـما كانت الطبيعة والاسباب التي يـفخرون بعبوديتهم لـها عاجزة هي الاخرى وليس في طوقها امر ((الايـجاد)) من غير شيء.. نراهم يصدرون حـكماً عاماً: ((ان الـمادة لاتفنى ولا تستحدث)) ويـحالون ان يعمموا حكم هذه القاعدة الباطلة الـخاطئة حتى على قدرة القدير الـمطلق القدرة سبحانه.

نعم، ان القدير الـطلق ذا الـجلال له طرازان من الايـجاد:

الاول:

هو بالاختراع والابداع، أي انه سبحانه يبْدع الوجود من العدم إبداعاً من غير شيء، ويوجِدُ كل ما يلزم – هذا الوجود – من اشياء من العدم ويسلـّمها اياه.

الاخر:

هو بالانشاء والصنعة والاتقان. أي ينشىء قسماً من الـموجودات من عناصر الكون نفسه، إظهاراً لكمال حكمته، وتبياناً لـجليات اسـمائه الـحسنى.. وامثالـها من الـحكم الدقيقة، فيرسل الى تلك الـموجودات الذرات والـمواد الـمنقادة الى اوامره ضمن سنن الرزاقية الكونية، ويسخرها لـها ليكمل انشاء هذا الوجود، وهكذا فالقدير الـمطلق القدرة له اسلوبان من الايـجاد وصورهما:

الابداع.. والانشاء..

فإفناء الـموجود، وايـجاد الـمعدوم، امر سهل جداً لديه، وهيـّنٌ جداً بل هو قانونه الدائم العام.

فالذي يستبعد من القدرة الفاطرة التي تـخلق من العدم ثلاث مائة الف نوع من الـمخلوقات والاحياء، وتـمنحها اشكالـها وصفاتها وكيفياتها واحوالـها مـما سوى ذراتها. ويقول: ((انها لن تقدر على ايـجاد الـمعدوم)) لابد ان يهوي في ظلمة العدم.

بقول الذي نَبَذَ ((الطبيعة)) ونفذ الى طريق الـحقيقة:

الـحمد لله حـمداً كثيراً بعدد الذرات، الذي وفقني للفوز بكمال الإيـمان، وانقذني من الاوهام والضلالات، فزالت بفضله جـميع ما لديّ من شبهات وريب.

الـحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيـمان

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس