الموضوع: إشارات الإعجاز
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2011
  #23
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إشارات الإعجاز


إشارات الإعجاز - ص: 220
مر الى شدة الغضب ولم يقل "لاتؤمنون" اشارة الى شدّة تمردهم اذ يتركون الايمان الذي عليه الدلائل ويقبلون الكفر الذي على بطلانه البراهين. و واو الحالية في (وكنتم) تشير إلى مقدر، اذ الجملتان ماضيتان. والأُخريان مستقبلتان كلاهما لايوافق قاعدة مقارنة الحال لعامل ذي الحال، فاذاً التقدير "والحال انكم تعلمون". 1
فإن قلت: انهم وان علموا بالموت والحياة الأُولى لكنهم لايعلمون انهما من الله، وكذلك لايقرون بالحياة الثانية ولايصدقون بالرجوع اليه تعالى؟
قيل لك: من البلاغة تنزيل الجاهل منزلة العالم عند ظهور دلائل ازالة الجهل. فلما كان التفكر في أطوار الموت الأول والحياة الأُولى ملجأ الى الاقرار بالصانع وكان العلم بها مقنعا للذهن بوقوع الحياة الثانية؛ كانوا كأنهم عالمون بهذه السلسلة. والخطاب في (كنتم) اشارة الى ان لهم في عالم الذرات أيضاً وجوداً وتعينا. لا ان الذرات كيفما اتفقت صارت أجسادَهم المعينة بالتصادف. وإيثار (أمواتا) على جماد 2 أو ذرات ايماء الى مآل (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) 3.
وأما جملة (فأحياكم):
فان قلت: الفاء للتعقيب والاتصال مع تخلل تلك الأطوار وتوسط مسافة طويلة الى الحياة؟
قيل لك : الفاء للإشارة إلى منشأ دليل الصانع وهو ان انقلابها من الجمادية الى الحيوانية دفعةً من غير توسط سبب معقول يُلجئ الذهن الى الاقرار بالصانع. وكذا ان الأطوار في حالة الموات ناقصة غير ثابتة شأنها التعقيب. وإيثار (أحياكم) على "صرتم أحياء" للتصريح، أي صرتم أحياء ولايمكن ذلك بغير قدرة الصانع. فانتج ان الله تعالى هو الذي أحيا.
وأما جملة (ثم يميتكم) بدل "تموتون" فإشارة كما مر الى أن الموت تصرف عظيم للقدرة بمقياس القدر. ألا ترى ان من استوفى عمره الطبيعيّ ثم انتهى إلى

_____________________
1 انكم تعلمون انكم كنتم امواتاً (ش).
2 على جمادات (ش)
3 سورة الانسان: 1.

إشارات الإعجاز - ص: 221
الأجل اقلُّ قليل. فيتيقظ الذهن الى ان الموت ليس نتيجة طبيعية. فالموت انحلال الجسد لا فناء الروح بل اطلاقه.
وأما جملة (ثم يحييكم) فـ "ثم" اشارة الى توسط عالم البرزخ ذي العجائب.
وأما جملة (ثم اليه ترجعون) فـ "ثم" اشارة الى توسط الغطاء العظيم. و"ترجعون" اشارة الى كشف الغطاء وطرد الأسباب واسقاط الوسائط.
فإن قلت: الرجوع الى الله تعالى يقتضي ان يكون المجئ منه اوّلا، ومن هنا توهمَ بعضٌ الاتصالَ واشتبه بعض أهل التصوف.
قيل لك: ان في الدنيا وجوداً وبقاء وكذا في الآخرة وجود وبقاء. فالوجود في الدنيا يصدر من يد القدرة بلا واسطة وأما البقاء المحفوف بالتحليل والتركيب والتصرف والتحول في عالم الكون والفساد فيتداخل بينه العلل وتتوسط الأسباب للحكمة المذكورة سابقا. وأما في الآخرة فالوجود وكذا البقاء بلوازمه وتركيباته يظهر بالذات من يد القدرة ويعرف كلُّ شئ مالكَه الحقيقي. فاذا تأملت في هذا علمت معنى الرجوع.
***
إشارات الإعجاز - ص: 222
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى اِلَى السَّماءِ فَسَوّيــهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 29
اعلم! ان لهذه الآية ايضاً الوجوه الثلاثة العظيمة: 1
أما نظم المجموع بالسابق فهو: ان في الآية الأولى انكار الكفر والكفران بالدلائل الانفسية وهي أطوار البشر، وفي هذه الآية اشارة الى الدلائل الآفاقية.. وكذا في الأولى اشارة الى نعمة الوجود والحياة، وفي هذه الآية الى نعمة البقاء.. وكذا في تلك دليل على الصانع ومقدمة للحشر، وفي هذه اشارة الى تحقيق المعاد وازالة الشبه كأنهم يقولون: اين للإنسان هذه القيمة؟ وكيف له تلك الأهمية؟ وما موقعه عند الله حتى يقيم القيامة لأجله؟ فقال القرآن باشارات هذه الآية: ان للإنسان قيمة عالية بدليل ان السموات والأرض مسخرة لاستفادته، وكذا ان له أهمية عظيمة بدليل ان الله لم يخلق الانسان للخلق بل خلق الخلق له، وان له عند خالقه لموقعا بدليل ان الله تعالى لم يوجد العالم لذاته بل اوجده للبشر وأوجد البشر لعبادته. فانتج ان الانسان مستثنى وممتاز لا كالحيوانات فيليق أن يكون مظهراً لجوهرةِ (ثم اليه ترجعون).
وأما نظم جملة جملة، فاعلم! ان لفظ "جميعا" في الجملة الأولى ولفظ "ثم" في الثانية ولفظ "سبع" في الثالثة تقتضي تحقيقاً. فلنتكلم عليها في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:
ان قلت: ان هذه الآية تدل على أن جميع ما في الأرض لاستفادة البشر فكيف يتصور استفادة (زيد) مثلا من كل جزء من أجزاء الأرض؟ و(حبيب وعلي) 2 كيف يستفيدان من حجر في قعر جبل في وسط جزيرة في البحر المحيط الكبير؟ وكيف يكون مال (زيد) لاستفادة عمرو؟ مع ان الآية باشارات أخواتها تشير أن لكل فردٍ الجميعَ لا التوزيع. وكذا كيف تكون الشمس والقمر وغيرهما مع

_____________________
1 (ش).
2 هما من طلبة الاستاذ المؤلف في مدرسة خورخور.

إشارات الإعجاز - ص: 223
تلك العظمة لزيد وعمرو والعلة الغائية فيها الفائدة الجزئية لهما؟ وكيف تكون المضرات لاستفادة البشر مع انه لا مجازفة في القرآن ولاتليق المبالغة ببلاغته الحقيقية؟
قيل لك: تأمل في ست نقاط يتطاير عنك الأوهام:
الأولى: ان خاصية الحياة كما مر تصيّر الجزء كلا والجزئي كليا والمنفرد جماعة والمقيد مطلقا والفرد عالماً، فيصير الأنواع كقوم ذي حياة والدنيا بيته ويكون له مناسبة مع كل شئ.
والثانية: ان في العالم كما علمت نظاما ثابتا واتساقا محكما ودساتير عالية وقوانين أساسية مستمرة فيكون العالم كساعة أو ماكينة منتظمة. فكما ان كل دولاب منها بل كل سنّ من كل دولاب بل كل جزء من كل سنّ له دخلٌ ولو جزئيا في نظام الماكينة، وكذا له تأثير في فائدة الماكينة ونتيجتها بواسطة نظامها؟ كذلك لوجوده دخل في فائدة أهل الحياة الذين سيّدهم ورئيسهم البشر.
والثالثة: انه - كما قرع سمعك فيما مضى - لا مزاحمة في وجوه الاستفادة، فكما ان الشمس بتمامها لزيد وان ضياءها روضة وميدان لنظره؛ كذلك بتمامها مُلك لعمرو وجنة له. فزيد مثلا لو كان في العالم وحده كيف تكون استفادته؛ كذلك اذا كان مع كل الناس لا ينقص منها شئ الا فيما يعود الى الغارين. 1
والرابعة: ان الكائنات ليس لها وجه رقيق فقط، بل فيها وجوه عمومية مختلفة طبقا على طبق، ولفوائدها جهات كثيرة عمومية متداخلة، وطرق الاستفادة متعددة متنوعة. مثلاً: اذا كان لك روضة تستفيد منها بجهة ويستفيد الناس بجهة أخرى، كالاستلذاذ بالقوة الباصرة. ولاجرم ان استفادة الانسان تحصل بحواسه الخمس الظاهرة وبحواسه الباطنة وبجسمه وبروحه وكذا بعقله وقلبه وكذا في دنياه وفي آخرته وكذا من جهة العبرة وقس عليها.. فلا مانع من استفادته بوجه من هذه الوجوه من كل ما في الأرض بل العالم.
والخامسة: انه:

_____________________
1 الحنكان الاعلى والاسفل.

إشارات الإعجاز - ص: 224
ان قلت: هذه الآيات مع آيات اُخر تشير الى ان هذه الدنيا العظيمة مخلوقة لأجل البشر وجعل استفادته علة غائية لها. والحال ان زحل الأكبر من الأرض ليست فائدتها بالنسبة الى البشر الاّ نوع زينة وضياء ضعيف فكيف يكون علة غائية؟
قيل لك: ان المستفيد يفنى في جهة استفادته وينحصر ذهنُه في طريقها وينسى ما عداها وينظر الى كل شئ لنفسه ويحصر العلة الغائية على ما يتعلق به. فاذاً لا مجازفة في الكلام الموجَّه الى ذلك الشخص في مقام الامتنان بأن يقال: ان زحل الذي أبدعه خالقه لألوفِ حِكَمٍ، وفي كل حكمة ألوفُ جهاتٍ، وفي كل جهة ألوفُ مستفيدٍ العلة الغائية في إبداعه جهة استفادة ذلك الشخص.
والسادسة: - وقد نبهت عليه - ان الانسان وان كان صغيراً فهو كبير، فنفعه الجزئيّ كليّ فلا عبثية.
المسألة الثانية: في (ثم):
اعلم! ان هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل السماء، وان آية (والأرضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحيــهَا) 1 تدل على ان خلق السماء قبل الارض، وان آية (كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْناهُمَا) 2 تدل على انهما خلقتا معا وانشقتا من مادة..
واعلم ثانيا: ان نقليات الشرع تدل على ان الله تعالى خلق اوّلا جوهرةً - أي مادة - ثم تجلى عليها فجعل قسما منها بخارا وقسما مائعا. ثم تكاثف المائع بتجلِّيه فأزبد. ثم خلق الأرض أوسبع كرات من الأرضين من ذلك الزبد فحصل لكل أرض منها سماء من الهواء النسيميّ. ثم بسط المادة البخارية فسوّى منها سموات زرع فيها النجوم فانعقدت السموات مشتملة على نويات النجوم. وان فرضيات الحكمة الجديدة ونظرياتها تحكم بأن المنظومة الشمسية أي مع سمائها التي تسبح فيها كانت جوهراً بسيطاً ثم انقلب إلى نوع بخار ثم تحصل من البخار مائع ناريّ ثم تصلب بالتبرد منه قسم ثم ترامى ذلك المائع الناري بالتحرك شرارات وقطعات انفصلت فتكاثفت فصارت سيّارات منها أرضنا هذه.

_____________________
1 سورة النازعات: 30.
2 سورة الانبياء: 30.

إشارات الإعجاز - ص: 225
فإذا سمعت هذا يجوز لك التطبيق بين هذين المسلكين لأنه يمكن أن يكون آية (كانتا رتقا ففتقناهما) اشارة الى ان الأرض مع المنظومة الشمسية كانت كعجين عجنته يد القدرة من جوهر بسيط أعني "مادّة الاَثِير" التي هي كالماء السيّال بالنسبة الى الموجودات فتنفذ جارية بينها. وآية (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) 1 اشارة الى هذه المادة التي هي كالماء. و"الاثير" بعد خلقه، هو المركز لأوّل تجلِّي الصانع بالايجاد، اي فخلق "الأثير" ثم صيّره جواهرَ فردةً ثم جعل البعض كثيفاً، ثم خلق من الكثيف سبع كرات مسكونة منها ارضنا. ثم ان الأرض بالنظر الى كثافتها وتصلبها قبل الكل وتعجيلها في لبس القشر وصيرورتها من زمان مديد منشأ الحياة مع بقاء كثير من الاجرام السماوية الى الآن مائعة نارية تكون خلقتها وتشكلها من هذه الجهة قبل خلق السموات. ولما كان تكمل منافعها ودحوها - أي بسطها وتمهيدها لتعيّش نوع البشر - بعد تسوية السموات وتنظيمها تكون السموات اسبقَ من هذه الجهة مع الاجتماع في المبدأ. فالآيات الثلاث تنظر الى النقاط الثلاث.
الجواب الثاني: ان المقصد من القرآن الكريم ليس درس تاريخ الخلقة، بل نزل لتدريس معرفة الصانع. ففيه مقامان: ففي مقام بيان النعمة واللطف والمرحمة وظهور الدليل تكون الأرض اقدمَ، وفي مقام دلائل العظمة والعزة والقدرة تكون السموات اسبق.. ثم ان "ثم" كما تكون للتراخي الذاتيّ تجئ للتراخي الرتبي فـ (ثم استوى) أي ثم اعلموا وتفكروا انه استوى. 2
المسألة الثالثة: في (سبع):
اعلم! ان الحكمة العتيقة قائلة بأن السمواتِ تسعة، وتصورها أهلُها بصورة عجيبة، واستولى فكرُهم على نوع البشر في اعصار. حتى اضطر كثير من المفسرين الى إمالة ظواهر الآيات الى مذهبهم. وأما الحكمة الجديدة فقائلة بأن النجوم معلَّقة في الفضاء والخلو كأنها منكِرة لوجود السماء. فكما أفرطت إحداهما فرّطت الأخرى.وأما الشّريعة فحاكمة بأن الصانع جل جلاله خلق سبع سموات وجعل النجوم فيها

_____________________
1 سورة هود: 7.
2 اى للتراخى التفكرى، بمعنى: ان خلق السموات مع انه أسبق إلاّ ان التفكر فيه يأتى بالمرتبة الثانية. ومع ان خلق الارض بعد السموات الاّ ان التفكر فيه اسبق، اي يلزم التفكر في خلق الارض قبل السموات (ت: 216).

إشارات الإعجاز - ص: 226
كالسَّماك تسبح. والحديث يدل على ان "السماء موج مكفوف" 1 وتحقيق هذا المذهب الحق في ست مقدمات.
الأولى: انه قد ثبت فنّا وحكمة ان الفضاء الوسيع مملوء من الأثير.
والثانية: ان رابطة قوانين الأجرام العلوية وناشر قوى أمثال الضياء والحرارة وناقلها مادة موجودة في الفضاء مالئة له.
والثالثة: ان مادة الأثير مع بقائها اثيراً لها كسائر المواد تشكلات مختلفة وتنوعات متغايرة كتشكل البخار والماء والجمد.
والرابعة: انه لو أمعن النظر في الاجرام العلوية يُرى في طبقاتها تخالف. ألا ترى ان نهر السماء المسمى بـ "كَهْكَشان" 2 المرئيّ في صورة لطخة سحابية انما هو ملايينَ نجومٍ أخذت في الانعقاد. فصورةُ الأثير التي تنعقد تلك النجوم فيها تخالف طبقة الثوابت البتة، وهي أيضاً تخالف طبقات المنظومة الشمسية بالحدس الصادق وهكذا الى سبع منظومات.
والخامسة: انه قد ثبت حدسا واستقراء انه اذا وقع التشكيل والتنظيم والتسوية في مادة تتولد منها طبقات مختلفة كالمعدن يتولد منه الرماد والفحم والألماس.. وكالنار تتميز جمراً ولهبا ودخانا، وكمزج مولّد الماء مع مولّد الحموضة 3 يتشكل منه ماء وجمد وبخار.
والسادسة: ان هذه الامارات تدل على تعدد السموات. والشارع الصادق قال هي سبعة، فهي سبعة على ان السبع والسبعين والسبع مائة في أساليب العرب لمعنى الكثرة.
والحاصل: ان الصانع جل جلاله خلق من "مادة الأثير" سبع سموات فسوّاها ونظّمها بنظام عجيب دقيق وزرع فيها النجوم وخالف بين طبقاتها.

_____________________
1 جزء من حديث اخرجه الامام احمد في مسنده (2/370) والترمذي برقم (3298) وفي تحفة الاحوذي برقم (3352) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وعزاه صاحب التحفة لاحمد وابن ابي حاتم والبزار وفي مجمع الزوائد (8/ 132) جزء من حديث رواه الطبراني في الاوسط، وفيه ابو جعفر الرازي، وثّقه ابو حاتم وغيره وضعّفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات، وانظر فيه كذلك (7/121) وتفسير ابن كثير - سورة الحديد.
2 درب التبانة.
3 الهيدروجين والاوكسجين.

إشارات الإعجاز - ص: 227
اعلم! انك اذا تفكرت في وُسْعة خطابات القرآن الكريم ومعانيه ومراعاته لافهام عامة الطبقات من أدنى العوام الى أخص الخواص ترى أمراً عجيباً. مثلاً: من الناس من يفهم من (سبع سموات) طبقات الهواء النسيمية.. ومنهم من يفهم منه الكرات النسيمية المحيطة بأرضنا هذه وأخواتها ذوات ذوي الحياة.. ومنهم من يفهم منه السيّارات السبع المرئية للجمهور.. ومنهم من يفهم منه طبقات سبعة اثيرية في المنظومة الشمسية.. ومنهم من يفهم منه سبع منظومات شموسية أولاها منظومة شمسنا هذه.. ومنهم من يفهم منه انقسام الأثير في التشكل الى طبقات سبعة كما مر آنفا.. ومنهم من يرى جميع ما يُرى مما زُيّن بمصابيح الشموس والنجوم الثوابت سماء واحدة. هي السماء الدنيا وفوقها ست سموات اُخر لاترى.. ومنهم من لايرى انحصار سبع سموات في عالم الشهادة فقط بل يتصورها في طبقات الخلقة في العوالم الدنيوية والأٌخروية والغيبية.. فكل يستفيض بقدر استعداده من فيض القرآن ويأخذ حصته من مائدته فيشتمل على كل هذه المفاهيم.
واعلم! ان الجملة الأولى: أعني (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) نظمها بخمسة أوجه:
الأول: ان الآية الأولى اشارة الى نعمة الحياة والوجود، وهذه تشير الى نعمة البقاء وأسبابه.
والثاني: انه لما اثبتت الأولى للبشر أعلى المراتب أعني الرجوع اليه تعالى تنبه ذهن السامع للسؤال بـ "اين لهذا الانسان الذليل استعداد لهذه المرتبة العالية إلاّ ان يكون بفضله تعالى وجذبه؟". فكأن هذه الجملة تقول مجيبة عن ذلك السؤال ان للإِنسان عند خالقه الذي سخر له جميع الدنيا لموقعا عظيما.
والثالث: انه لما أشارت الأولى الى وجود الحشر والقيامة للبشر ذهب السامع الى سؤال: ما أهمية البشر حتى تقوم القيامة لأجله ويخرب العالم لسعادته؟ فكأن هذه الجملة تجيبه بـ "ان من هُيّئَ جميع ما في الأرض لاستفادته وسُخّر له الأنواع له أهمية عظيمة تشير الى انه هو النتيجة للخلقة".
إشارات الإعجاز - ص: 228
والرابع: ان الأولى اشارت بـ (اليه ترجعون) الى رفع الوسائط وانحصار المرجعية فيه تعالى. والحال ان للبشر في الدنيا مراجع كثيرة، فهذه الجملة تقول أيضاً ان الأسباب والوسائط تشفّ عن يد القدرة، وان المرجع الحقيقي في الدنيا انما هو الله تعالى وانما توسطت الأسبابُ لحِكَم فانه تعالى هو الذي خلق للإِنسان كل ما يحتاج اليه.
والخامس: ان الأولى لما اشارت الى السعادة الأبدية أشارت هذه الى سابقةِ فضلٍ يستلزم تلك السعادة ذلك الفضلُ أي من اُحسن اليه جميع ما في الأرض لحقيقٌ بأن يعطى له السعادة الأبدية.
وجملة (ثم استوى الى السماء) نظمها بأربعة أوجه.
الأول: ان السماء رفيقة الأرض لا يَتصورُ الأرضَ أحدٌ إلاّ ويخطر في ذهنه السماء.
والثاني: ان تنظيم السماء هو المكمِّل لوجه استفادة البشر مما في الأرض.
والثالث: ان الجملة الأُولى اشارت الى دلائل الاحسان والفضل وهذه تشير الى دلائل العظمة والقدرة.
والرابع: ان هذه الجملة تشير الى ان فائدة البشر لا تنحصر على الأرض بل السماء أيضاً مسخرة لاستفادته.
ونظم جملة: (فسوّيهن سبع سموات) بثلاثة أوجه.
الأول: ان ربطها بالأُولى كربط "فيكون" مع "كن".
والثاني: انه كربط تعلق القدرة بتعلق الارادة.
والثالث: انه كربط النتيجة بالمقدمة.
ونظم جملة (وهو بكل شيء عليم) بوجهين:
أحدهما: انها دليل لِمّي على التنظيم السابق كما ان التنظيم السابق دليل اِنّيّ عليها؛ اذ الاتساق والانتظام يدلان على وجود العلم الكامل كما ان العلم يفيد الانتظام.
إشارات الإعجاز - ص: 229
والآخر: ان الجملة الأولى تدل على القدرة الكاملة وهذه على العلم الشامل.
أما نظم هيئآت جملة جملة: ففي الجملة الأولى الاستيناف وتعريف الجزئين وتعريف الخبر ولام "لكم" وتقديم "لكم" ولفظ "في" ولفظ "جميعا":
أما الاستيناف فإشارة إلى أسئلة مقدرة وأجوبة قد نبهت عليها في الاوجه الخمسة لنظم الجملة الأولى.. وأما تعريف الجزئين 1 فاشارة الى التوحيد والحصر الذي هو دليل على الحصر في تقديم "اليه" في (ثم اليه ترجعون).. وأما تعريف الخبر فاشارة الى ظهور الحكم 2.. وأما لام النفع في (لكم) فاشارة الى أن الأصل في الأشياء الاباحة وانما تعرض الحرمة للعصمة: كمال الغير. أو للحرمة: كلحم الآدميّ. أو للضرر: كالسم. أو للاستقذار: كبلغم الغير. أو للنجاسة: كالميتة.. وكذا رمز الى وجود النفع في كل شئ، وان للبشر ولو بجهة من الجهات استفادة ولو بنوع من الأنواع ولو في أحقر الأشياء ولا أقل من نظر العبرة، وكذا ايماء الى انه كم من خزائن للرحمة مكنوزة في جوف الأرض تنتظر أبناء المستقبل.. وأما تقديم (ولكم) فاشارة الى أن جهة استفادة البشر أقدم الغايات وأولاها وأولها.. وأما (ما) المفيدة للعموم فللحث على تحرِّي النفع في كل شئ.. وأما (في الأرض) بدل "على الأرض" مثلا، فاشارة الى وجود أكثر المنافع في بطن الأرض، وكذا تشجيع على تحرِّي ما في جوفها.. ويدل تدرج البشر في الاستفادة من معادن الأرض وموادها على انه يمكن أن يكون في ضمنها مواد وعناصر تخفف عن كاهل أبناء الاستقبال ضغطَ تكاليف الحياة من الغذاء وغيره.. واما (جميعا) فلرد الأوهام في عبثية بعض الأشياء.
وأما ( ثم) في الجملة الثانية فاشارة الى سلسلة من أفعاله تعالى وشؤونه بعد خلق الأرض إلى تنظيم السماء.. وكذا رمز الى تراخي رتبة التنظيم في نفع البشر عن خلقة الأرض.. وكذا ايماء الى تأخره عنها. واما (استوى) ففيه ايجاز، أي: أراد أن يسوّي.. وكذا فيه مجاز أي كمن يسدد قصده الى شئ لا ينثني يمنةً ويسرةً. و(الى السماء) أي الى مادتها وجهتها. واما فاء (فسويــهن) فبالنظر الى جهة

_____________________
1 "هو ": مبتدأ، و "الذى " مع صلته: خبر (ت: 221)
2 حيث ان اصل الخبر نكرة، الاّ ان مجيئه معرفةً اشارة الى ظهور الحكم، وهو: ان الله خالق الارض بما فيها. وهو امر معلوم ظاهر (ت: 221).
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس