عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي الشعاعات - الشعاع الثاني


الشعاع الثاني - ص: 5
بسم الله الرحمن الرحيم

الشعاع الثاني
الثمرة الاخيرة لسجن "اسكي شـهر"
الشعاع الثاني للمعة الحادية والثلاثين

لقد شاب هذا الشعاع شئ من عدم التناسق وسوء الانتظام حيث اُلّف بقلمي القاصر في منتهى السرعة وفي وضع كنت اُكابد فيه الضيق والعنت والازعاج، بعدما بتّ وحيداً فريداً في سجن "اسكي شهر" عقب الافراج عن اصدقائي.
وفي هذه الايام - اي بعد ستة عشر عاماً 1 - شرعت بتصحيحه، ووجدته في غاية الأهمية والقوة والقيمة من زاوية الايمان والتوحيد.
سعيد النورسي
_____________________
1 اي في سنة 1952 حيث ان سجن "اسكى شهر" كان في سنة 1936 - المترجم.

الشعاع الثاني - ص: 6
النكتة السابعة العظمى الخاصة بالاسم الاعظم "الله أحد".
وهي السابعة للنكات الست للاسم الاعظم.

تنبيه
هذه الرسالة في غاية الأهمية في نظري، حيث تنكشف فيها اسرار ايمانية جليلة ومعانٍ ايمانية دقيقة. فمن يقرأها بتدبر وامعان ينقذ ايمانه باذن الله. وحيث لا التقي احداً مع الاسف في هذا السجن لم تبيض ولم تكتب ثانية ولم اتمكن من ان اكلف احداً للقيام بتبييضها.
فان شئت ان تلمس مدى قيمة هذه الرسالة وعلو مزيّتها فاقرأ اولاً الثمرة الثانية والثالثة الموجودتين في بداية الرسالة، ثم اقرأ الخاتمة والمسألة التي قبلها بدقة، ثم طالع الرسالة كاملة مطالعة متأنية.


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
لقد احسست بهذه النكتة احساساً لطيفاً غاية اللطف وجميلاً غاية الجمال وحلواً لذيذاً غاية الحلاوة واللذة، وذلك بفيض أنوار نكتة باهرة مفاضة من الآية الكريمة (فاعلم انه لااله الاّ الله) (محمد: 19) وبإلهام وإشارة من قَسَم نبوي معروف.
هذه النكتة تضم ثلاث ثمرات للتوحيد، وثلاثةً من مقتضياته، وثلاثاً من حججه.
نعم، لقد كان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم اكثر مايكرره في قَسَمِهِ: "والذي نفسُ محمدٍ بيده.." 1 فهذا القَسَم النبوي الجليل يبين أن اوسع دائرة من دوائر شجرة الكون،

_____________________
1 روى ابن ماجة عن رفاعة الجهني واحمد في مسنده (4/16): كان صلى الله عليه وسلم اذا حلف قال:(والذي نفس محمد بيده).


الشعاع الثاني - ص: 7
واقصى نهاية لها وأبعد فرع من فروعها هي ايضاً ضمن قدرة الواحد الأحد سبحانه وتحت ارادته جلّ وعلا، اذ لو كان افضل مخلوق واكرمهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم غير مالك لنفسه وغير حرّ طليق في افعاله، بل افعاله وحركاته وسكناته مقيدة بارادة غير ارادته واختياره، فلا شئ اذن في الوجود، ولاشأن ولاحال ولاكيفية مهما كانت جزئية أم كلية، خارج دائرة تلك القدرة العظيمة المحيطة بكل شئ، ولاخارج تلك الارادة الشاملة كل شئ. فهذا القَسَم النبوي البليغ ذو المغزى العميق انما يعبّر عن توحيد ربوبية جليلة في منتهى العظمة والاحاطة.
ولقد بيّنا في مجموعة "سراج النور" 1 من رسائل النور، مائة من البراهين الباهرة، بل ألفاً منها حول اثبات هذا التوحيد، لذا نحيل تفاصيل هذه الحقيقة السامية واثباتها الى تلك المجموعة. الاّ اننا نوضح هنا في هذا "الشعاع الثاني" توضيحاً مختصراً تلك الحقيقة الايمانية الجليلة في ثلاثة مقامات.
ففي المقام الاول: نبين ثلاث ثمرات من الثمرات الوفيرة، لتلك الحقيقة التوحيدية التي لها ثمرات كلية في غاية اللطف واللذة والأهمية والنور. نبينها باختصار شديد، مع الاشارة الى أذواقي ومشاعري التي ساقتني الى تناول تلك الثمرات.
وفي المقام الثاني: تُوضح مقتضيات ثلاثة لهذه الحقيقة السامية، والاسباب الموجبة لها، فهي مقتضيات ثلاثة الاّ انها بقوة ثلاثة آلاف مقتضى وسبب.
وفي المقام الثالث: يُذكر ثلاث علامات لتلك الحقيقة التوحيدية الباهرة، فهي علامات ثلاث الاّ انها بقوة ثلاثمائة علامة وأمارة ودليل.

* * *
_____________________
1 مجموعة من رسائل النور هي: المناجاة، المرضى، الشيوخ، مراتب الآية الحسبية ، حكمة الاستعاذة، النوافذ، دفاع الاستاذ النورسي في محكمة "دنيزلي " واشراط الساعة وغيرها من المباحث المستلة من كليات رسائل النور. - المترجم -

الشعاع الثاني - ص: 8
المقام الاول
الثمرة الاولى
ان الجمال الإلهي والكمال الرباني يظهران في التوحيد وفي الوحدانية، ولولا التوحيد لظل ذلك الكنز الأزلي مخفياً.
نعم، ان الجمال الإلهي وكماله الذي لايحد، والحسن الرباني ومحاسنه التي لانهاية لها، والبهاء الرحماني وآلاءه التي لاتعد ولاتحصى، والكمال الصمداني وجماله الذي لامنتهى له، لايشاهد الاّ في مرآة التوحيد؛ بوساطة التوحيد ونور تجليات الاسماء الإلهية المتمركزة في ملامح الجزئيات الموجودة في اقصى نهايات شجرة الكائنات.
فمثلاً: ان إرسال اللبن الخالص السائغ الى رضيع صغير لايملك حولاً ولاقوة، ومن حيث لايحتسب، من بين فرث ودم، فعلٌ جزئي. هذا الفعل الجزئي ما ان يُنظر اليه بنظر التوحيد حتى يظهر الجمال السرمدي لرحمة الرحمن بأبهى كماله وبأجلى سطوعه في إعاشة جميع الصغار في العالم إعاشة خارقة، وفي احاطتهم بمنتهى الشفقة والحنان، بتسخير والداتهم لهم . ولكن هذا الفعل، فعل ارسال اللبن ان لم ينظر اليه بنظر التوحيد، لاختفى ذلك الجمال الباهر كلياً ولما ظهر قطعاً، إذ تحال تلك الاعاشة الجزئية كذلك الى الاسباب والمصادفة والطبيعة، فتفقد قيمتها كلياً بل تفقد ماهيتها.
ومثلاً: ما ان يُنظر الى الشفاء من مرض عضال، بنظر التوحيد حتى يتجلى جمال شفقة الرحيم تجلياً باهراً كاملاً على وجه إحسان الشفاء الى جميع المرضى الراقدين في المستشفى الكبير المسمى بالارض وإسعافهم بأدوية ناجعة وإغاثتهم بعلاجات شافية تؤخذ من الصيدلية العظمى المسماة بالعالم. ولكن هذا الفعل الجزئي - منحة الشفاء - المتسم بالعلم والبصيرة والشعور إن لم يُنظر اليه بنظر التوحيد، فان الشفاء يسند الى خاصيات الادوية الجامدة والى القوة العمياء والطبيعة الصماء. فتفقد تلك المنحة الرحمانية ماهيتها وحكمتها وقيمتها كلياً.
ولمناسبة هذا المقام وردت الى الخاطر نكتة لطيفة من نكات الصلوات على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ابيّنها هنا:
الشعاع الثاني - ص: 9
ان الصلوات الآتية مشهورة ومذكورة كثيراً لدى الشافعية، فهم يقرأونها عقب اذكار الصلاة: "اللّهم صلّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمدٍ بعدد كل داءٍ ودواءٍ وبارك وسلّم عليه وعليهم كثيراً كثيراً".
هذه الصلوات المباركة تحوز اهمية عظيمة؛ لأن حكمة خلق الانسان وسر جامعية استعداده هو الالتجاء الى خالقه الكريم والتضرع اليه والقيام بحمده والشكر له، في كل وقت وحين، بل في كل دقيقة وآن، لذا فان اقوى دافع مؤثر وسائق فعال يحث الانسان الى الالتجاء الى الحضرة الإلهية ويسوقه اليها هو الامراض والاسقام، مثلما أن انواع الشفاء وأجناس الادوية وألوان العافية والمعافاة هي في مقدمة النعم اللذيذة والآلاء الطيبة التي تبعث في الانسان الشكر لله بشوق كامل وتدفعه الى الحمد والامتنان له بكامل معانيهما. ولاجل كل ذلك غدت هذه الصلوات الشريفة على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ذات قيمة رفيعة ومغزى عميق.
حتى انني كلما قلت: "بعدد كل داء ودواء" شعرت بجلاء تام بوجود الشافي الحقيقي وبشفقته الكاملة ورأفته التامة وبرحيميته السامية الواسعة في احسانه الأدوية والعلاجات على جميع الامراض المادية والاسقام المعنوية في ارجاء الارض كافة التي اتصورها مستشفى واسعاً كبيراً.
ومثلاً: ان انزال سكينة الايمان في قلب من يعاني آلاماً معنوية رهيبة للضلالة اذا مانُظر اليه بنظر التوحيد، يجعل ذلك الشخص الفرد العاجز الفاني عبداً مخاطباً لمعبوده العظيم، سلطان الكون ورب العالمين، ويمنح له بذلك الايمان سعادة أبدية وملكاً خالداً جميلاً في منتهى السعة والجمال وداراً باقية خالدة، بل يجعل جميع المؤمنين - كل حسب درجته - ينالون من ذلك اللطف العميم والكرم الدائم.. وهكذا يشاهد في وجه هذا الاحسان الاعظم بل يطالَع في سيماه جمال الكريم المطلق والمحسن المطلق، ذلك الجمال الازلي الابدي الذي لايدنو منه الزوال والفناء، بل تجعل لمعةٌ من لمعاته الباهرة المؤمنين كافة في ولاءٍ لله وفي طاعة لأوامره، بل تجعل قسماً منهم منجذبين اليه عُشاقاً مولّهين. بينما ان لم ينظر الى هذا الاحسان، احسان الهداية
الشعاع الثاني - ص: 10
لذلك الشخص بنظر التوحيد، فان ذلك الايمان الجزئي لذلك الفرد يحال الى الانسان نفسه - كما يدّعيه المعتزلة المتعسفون - او الى بعض الاسباب، فتنقلب تلك الجوهرة الرحمانية الغالية - التي لاتثمن قيمتها الاّ بالجنة الخالدة - الى قطعة زجاج خسيسة تافهة بعد ان كانت تؤدي وظيفة مرآة تعكس لمعة جمال مقدس.
وهكذا قياساً على هذه الامثلة الثلاثة.. فان الالوف من انواع الجمال الإلهي ومئات الالوف من اضراب الكمال الرباني، تظهر، وتُفهم، ويثبُت تحققها من زاوية نظر التوحيد، وذلك بتمركز تلك الأنماط من الجمال الإلهي والكمال الرباني في تلك الاحوال الجزئية لأصغر الجزئيات التي هي في منتهى أقاصي دائرة الكثرة من الموجودات.
فظهور هذا الجمال الإلهي وكماله للقلوب بالتوحيد، والاستشعار بهما روحاً، هو الذي دفع جميع الاولياء والاصفياء أن يتلمسوا احلى أذواقهم وألذّ ارزاقهم المعنوية في ذكر وتكرار كلمة التوحيد، وهي: لا اله الاّ الله.
وحيث أن عظمة الكبرياء الإلهي والجلال السبحاني وهيبة الربوبية الصمدانية تتحقق في كلمة التوحيد فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(افضل ما قلت انا والنبيون من قبلي: لا اله الاّ الله) 1.
نعم، ان ثمرة واحدة، وزهرة واحدة، وضياءً واحداً، كل منها يعكس كالمرآة الصغيرة رزقاً بسيطاً، ونعمة جزئية واحساناً بسيطاً. ولكن بسر التوحيد تتكاتف تلك المرايا الصغيرة مع مثيلاتها مباشرة، ويتصل بعضها بالبعض الآخر، حتى يصبح ذلك النوع مرآة واسعة كبيرة جداً تعكس ضرباً من جمال إلهي يتجلى تجلياً خاصاً بذلك

_____________________
1 جزء من حديث: (افضل الدعاء يوم عرفة وافضل ماقلت انا والنبيون من قبلي: لا اله الاّ الله وحده لاشريك له) رواه مالك عن طلحة بن عبيد الله بن كرير مرسلا، واخرجه الترمذي وحسنه عن عمر بن شعيب عن ابيه عن جده بلفظ: خير الدعاء يوم عرفة وزاد: له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، ورواه البيهقي عن ابي هريرة بلفظ: افضل الدعاء دعاء يوم عرفة وافضل قولي وقول الانبياء قبلي لا اله الا الله.. (كشف الخفاء 1/153) واخرجه الاصبهاني في الترغيب (331/1 المدينة) بلفظ مقارب عن عمرو عن المطلب كما في الصحيحة 4/807 وقال هذا مرسل حسن الاسناد وحسنه لشواهده. وانظر موطأ الامام مالك برقم 500 و 955 وصحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 1113.

الشعاع الثاني - ص: 11
النوع. فيُظهر سر التوحيد حسناً سرمدياً باقياً من خلال ذلك الجمال الفاني الموقت. بمعنى أن ذلك الشئ الجزئي يتحول بسر التوحيد الى مرآة الجمال الإلهي، كما قال مولانا جلال الدين الرومي 1:
آن خيالاتي كه دام اولياست عكس مهرويان بوستان خداست 2.
بينما إن لم يُنظر الى ذلك الجمال بنظر التوحيد، اي لولا سر التوحيد، لظلت تلك الثمرة الجزئية سائبة، وحيدة فريدة معزولة عن مثيلاتها، فلايظهر ذلك الجمال المقدس ولايبين ذلك الكمال الرفيع، بل تنكسف حتى تلك اللمعة الجزئية المتلمعة منها، وتضيع وتنتكس منقلبة على عقبيها من نفاسة الالماس الثمين الى خساسة قطع الزجاج المتكسر.
وكذا يظهر بسر التوحيد في ذوي الحياة تلك الثمار المتدلية من شجرة الخلقة، شخصية إلهية، وأحدية ربانية، وسيماء معنوي رحماني - باعتبار الصفات السبعة - وتمركزٌ أسمائي، وجلوة تعيّنٍ وتشخصٍ لمن هو المخاطب بـ (اياك نعبد واياك نستعين) . وبخلافه - اي دون سر التوحيد - فان جلوة تلك الشخصية والأحدية والسيماء والتعيّن تتوسع وتتوسع منبسطة حتى تتسع سعة الكون برمته فتتلاشى وتختفي، ولاتظهر الاّ للقلوب البصيرة والبصائر الواسعة جداً والمحيطة جداً؛ لأن عظمة الكبرياء تسدل ستاراً دونه فلا يراه قلبُ كل فرد.
وكذا يُفهم بوضوح تام بسر التوحيد في تلك الأحياء الجزئية؛ أن صانعها يراها ويعلم بحالها ويسمع نداءها ويصوّرها كيف يشاء. فيظهر لبصيرة الايمان وراء مصنوعية الكائن الحي، تشخصٌ معنوي وتعينٌ معنوي لمقتدر مختار سميع عليم بصير. وبخاصة وراء مخلوقية الانسان - من بين ذوي الحياة - يُشاهد بالايمان وبسر التوحيد وبوضوح تام ذلك التشخص المعنوي والتعين السامي. لان في الانسان نماذج
_____________________
1 مولانا الرومي: (604- 672هـ)(1207- 1273م) عالم بفقه الحنفية والخلاف وانواع العلوم، ثم متصوف صاحب (المثنوي) المشهور بالفارسية المستغني عن التعريف في ستة وعشرين الف بيت، وصاحب الطريقة المولوية. ولد في بلخ (بفارس) استقر في (قونية) سنة 623هـ عرف بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الاسلامية، فتولى التدريس بقونية في اربع مدارس بعد وفاة ابيه سنة 628هـ من مؤلفاته: ديوان كبير، فيه مافيه، مكتوبات.- المترجم.
2 بيت شعر بالفارسية يعني: ان الخيالات التي هي شباك الاولياء انما هي مرآة عاكسة تعكس الوجوه النيرة في حديقة الله.- المترجم.

الشعاع الثاني - ص: 12
اسس ذلك التشخص، تشخص الاحدية، وهي العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وامثالها من المعاني، فتشير تلك النماذج الى تلك الاسس، اذ الذي شق البصر - مثلاً - يرى البصر ويرى كذلك مايراه البصر - وهو معنى دقيق - ثم يمنح البصر. نعم ان صاحب النظارات الذي يصنع لعينك نظارة يرى ملاءمة النظارة لعينك ثم يصنعها لك. وكذا الذي شق السمع لاشك أنه يسمع ما تسمعه الاذن ثم يخلقها ويمنحها الانسان. وهكذا قس بقية الصفات على هذه.
وكذا في الانسان نقوش الاسماء الحسنى وتجلياتها، فهو بهذه النقوش والجلوات يشهد على تلك المعاني المقدسة.
وكذا الانسان بضعفه وعجزه وفقره وجهله يؤدي وظيفة المرآة - بشكل آخر - اذ يشهد بها على صفات مَن يرحم ضعفه وفقره، ومَن يمد عجزه. اي يشهد على قدرته جل وعلا وعلى علمه وعلى ارادته، وهكذا على سائر صفاته الجليلة.
فبسر التوحيد اذن يتمركز الف اسم واسم من الاسماء الحسنى في منتهى دائرة الكثرة وفي اكثر جزئياتها تشتتاً، تتمركز في الرسائل الصغيرة المسماة بذوي الحياة، وتقرأ بسر التوحيد بوضوح وجلاء، لذا فان ذلك الصانع الحكيم يُكثر من نسخ ذوي الحياة بكثرة كاثرة، ولاسيما طوائف صغارها فانه يكثرها باشكال شتى وينشرها الى الارجاء كافة.
ان الذي ساقنى الى حقيقة هذه الثمرة الاولى واوصلني اليها هو استشعارٌ ذوقي يخصني، وهو على النحو الآتي:
لقد كنت أتألم لحال ذوي الحياة ولاسيما لذوي الشعور منها وبالاخص لحال الانسان وبخاصة المظلومين والمبتلين بالمصائب منهم، لما احمل من عطف متزايد وشفقة مفرطة، فكانت احوالهم تمس عطفي وتثير شفقتي وتوجع قلبي وتعصره.
فكنت اقول من اعماق قلبي:
ان القوانين المطردة السارية في العالم لاتسمع ما يعانيه هؤلاء البائسون الضعفاء العاجزون. وان تلك العناصر والحوادث الصماء المستولية لاتسمع أنينهم، أليس من أحد يتدخل في شؤونهم الخاصة رحمة بهم ورأفة باحوالهم التي يرثى لها؟. فكانت
الشعاع الثاني - ص: 13
روحي تصرخ من الاعماق. وكذا، أليس من مالك حقيقي ومولى كريم يرعى ويتولى اولئك العبيد الرائعين في الحسن وتلك الاموال القيمة الثمينة جداً، وهؤلاء الاحباب الاودّاء المشتاقين الممتنين كثيراً؟. نعم كان قلبي يصرخ بهذا بكل ما اوتي من قوة.
اما الجواب الكافي الوافي الذي يبعث الاطمئنان والسكينة والقناعة التامة ويهدئ استغاثة روحي وصراخ قلبي فهو:
ان اولئك العبيد المحبوبين الذين يئنون تحت ضغوط القوانين العامة للرحمن الرحيم ذي الجلال، ويستغيثون تحت ضربات الحادثات وهجومها، يمنحهم سبحانه بسر التوحيد ما هو فوق تلك القوانين من احسانات خصوصية وامدادات خاصة وربوبية مخصوصة مباشرة لكل شئ، ويدبّر سبحانه امور كل شئ بذاته الجليلة. ويستمع الى شكاوى كل ذي مصيبة، وهو المالك الحقيقي لكل شئ ومولاه الحق.
فمذ عرفت هذا السر من القرآن ونور الايمان شعرت بسرور يملأ كياني كله وولّى عني ذلك اليأس القاتم.
وقد اكتسب في نظري كلُّ كائن حي - من حيث انتسابه الى المالك الجليل وعبديته له - الوف الدرجات الراقية من الاهمية والقيمة، لأن كل احد يفتخر ويزهو بشرف سيده وبمقام من ينتسب اليه ويعتزّ بشهرته وصيته، مما يولّد عزة وفخراً لديه. فلاشك ان نور الايمان الذي بسط ذلك الانتساب والعبدية هو الذي يجعل النمل يغلب فرعوناً بقوة ذلك الانتساب، بل له ان يفتخر بذلك الانتساب فخراً يفوق الف مرة فخر فرعون السادر في الغفلة الظان نفسه حراً سائباً، يفتخر بأجداده الفراعنة وبملك مصر، ذلك الفخر الذي ينكسف لدى باب القبر.
وكذا البعوض يستطيع باراءة شرف انتسابه، ازالة فخر نمرود الذي انقلب في سكراته الى خجل وعذاب.
وهكذا تعلّمنا الآية الكريمة (ان الشرك لظلم عظيم) (لقمان: 13) ان الشرك يحمل ظلماً فاضحاً، لانه جريمة عظيمة نكراء لتعديه على حقوق كل مخلوق واهانته لشرفه وكرامته. ولايطهّر هذه الجريمة، جريمة الشرك الاّ نار جهنم.
الشعاع الثاني - ص: 14
ثمرة التوحيد الثانية
هذه الثمرة تتوجه الى ذات الكون وماهيته، كما كانت الثمرة الاولى متوجهة الى الذات المقدسة لرب العالمين جلّ وعلا.
نعم، انه بسر التوحيد تتحقق مزايا الكون وكمالاته، وتُدرك الوظائف الراقية للموجودات، وتتقرر نتيجة خلق المخلوقات، وتُعرف اهمية المصنوعات. وتبرز ما في هذا العالم من مقاصد إلهية، وتظهر حكمة خلق ذوي الحياة وسر وجود ذوي المشاعر، وتبدو الوجوه المليحة البشوشة للرحمة والحكمة وراء السيماء الغاضبة الكالحة لهذه الحوادث القاهرة المدمّرة ضمن التحولات المثيرة للدهشة، وتُعرف ان الموجودات التي تغيب وراء الزوال والفناء وترحل من هذا العالم، عالم الشهادة تدع انواعاً كثيرة من الوجود بدلاً عنها، امثال نتائجها وهوياتها وماهياتها وارواحها وتسبيحاتها ثم ترحل من هذا العالم.
وبسر التوحيد يُفهم: ان الكون برمته كتاب صمداني ينطوي على معاني عميقة غزيرة، وان الموجودات بأسرها مجموعة مكاتيب سبحانية في منتهى الاعجاز، وان المخلوقات بجميع طوائفها جنود ربانية في غاية الانتظام والهيبة، وان المصنوعات بجميع قبائلها ابتداء من الميكروب والنمل الى الكركدن والنسر والى الكواكب السيارة، موظفات دؤوبات مأمورات جادات تأتمر بأمر السلطان الازلي.
وبسر التوحيد يكتسب كل شئ من حيث انتسابه وأداؤه لوظيفة المرآة قيمة اعظم من قيمته الذاتية بالوف المرات، وينكشف السر المغلق للاسئلة المحيرة: من اين يأتي سيل الموجودات وقافلة المخلوقات، والى اين المصير، ولمَ جاء وماذا يعمل؟..
كل ذلك لايتم الاّ بسر التوحيد، اذ لولا التوحيد، لانكسفت جميع مزايا الكون وكمالاته المذكورة آنفاً ولانقلبت تلك الحقائق السامية الراقية الى أضدادها.
وهكذا فالشرك والكفر جريمة بشعة تتعدى على جميع كمالات الكائنات وتتجاوز على جميع حقوقها الرفيعة وتتعرض لجميع حقائقها السامية، لذا تغضب الكائنات على اهل الشرك والكفر، وتستشيط السموات والارض غضباً عليهم،
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس