عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الثاني


الشعاع الثاني - ص: 15
وتتفق عناصر الكون على ابادتهم.. فتغرق قوم نوح (عليه السلام) وتهلك قوم عاد بالطاغية وثمود بالعاصفة وفرعون وامثالهم بالغرق.. بل تغضب جهنم عليهم غضباً شديداً حتى (تكاد تميّز من الغيظ) (الملك: 8) كما نصّت عليه الآية الكريمة.
نعم؛ ان الشرك استهانة بشعة بالكون، وتعدّ عظيم عليه، وحطّ من قيمته وتهوين من شأنه، لإنكاره حكمة الخلق وردّه وظائف المخلوقات، تلك الوظائف الجليلة.
نشير الى هذه الحقيقة بمثالٍ واحد من بين الوف امثلتها:
ان الكون بسر التوحيد، هو بمثابة مَلَك مجسم عظيم جداً بحيث له مئات الالوف من الرؤوس،بل بعدد انواع الموجودات، في كل رأس مئات الالوف من الافواه ، بل بعدد افراد ذلك النوع، وفي كل فم مئات الالوف من الألسنة بل بعدد اجهزة ذلك الفرد وعدد اجزائه واعضائه وحجيراته. فهذا الكون الهائل والمخلوق العجيب، هذا المَلك العظيم يقدّس الصانع الجليل بهذه الألسنة التي لاتعد ولاتحصى ويسبّحه بها جل وعلا. فهو اذاً في مقام رفيع يتسربل عبودية عظيمة شبيهة بعبودية اسرافيل عليه السلام.
وكذا الكون بسر التوحيد، بمثابة مزرعة تهيئ محاصيل وفيرة جداً لعالم الآخرة ومنازلها.. وهو بمثابة مصنع عظيم يهيئ لوازم لطبقات دار السعادة من اعمال بشرية غنية بمحاصيلها.. وهو بمثابة جهاز تصوير سينمائي دائب عظيم يضم مئات الالوف من اجهزة الالتقاط لالتقاط صور من الدنيا وعرضها مناظر ســرمدية لأهل عالم البقاء ولأهل الشهود في الجنة.
فبينما الكون بسر التوحيد على هذه الهيئة العجيبة كملَك مطيع جسماني مالك للحياة، يحوّله الشرك الى اشتات واهية جامدة، لاروح لها ولاحياة، ولابقاء لها ولاوظيفة، هالكة لامعنى لها، تتدحرج في خضم ظلمات العدم واهوال الاحداث التافهة والانقلابات. فالشرك يجعل هذا المصنع العظيم الذي يدر النفع الكثير، شيئاً لافائدة له ولايكسب منه شئ، معطلاً عن كل عمل، مختلطاً ومتشابكاً تلعب به المصادفات العشوائية والطبيعة الصماء والقوى العمياء، ومأتماً حزيناً لذوي الشعوركافة، ومذبحة ومسلخة أليمة لذوي الحياة كافة.
الشعاع الثاني - ص: 16
وهكذا كم يكون الشرك إذن مبعث جرائم كبرى وجنايات عظمى! ألا يستحق عذاباً ابدياً في جهنم مع انه سيئة واحدة؟ وصدق الله العظيم: (ان الشرك لظلم عظيم) .
وعلى كل حال، ففي مجموعة "سراج النور" ايضاحات اكثر لهذه الثمرة الثانية مع حججها المكررة. لذا اختصرنا هذه الحقيقة الطويلة.
والذي ساقني الى هذه الثمرة الثانية واوصلني اليها شعور عجيب وذوق غريب، وهو على النحو الآتي:
عندما كنت أتأمل في يوم من ايام الربيع شاهدت ان الموجودات التي تملأ سطح الارض وتسيل قافلة إثر قافلة مظهرة مئات الالوف من نماذج الحشر والنشور.. هذه الموجودات ولاسيما المخلوقات الحية منها وبخاصة الاحياء الصغيرة منها، ما ان تظهر حتى تختفي عقبه.. فتتعاقب مناظر الموت والزوال باستمرار وفي فعالية دائمة. وبدت امامي حزينةً أليمةً مسّت اوتار عواطفي واثارت رقتي حتى دفعتني الى البكاء. وكنت كلما شاهدت موت تلك الاحياء الصغيرة اللطيفة اعتصر قلبي ألماً وتأففت قائلاً: ياحسرتاه.. اواه.. آه.. فاستشعر ضراماً روحياً منبعثاً من الاعماق حتى رأيت الحياة التي تؤول الى هذه النتيجة عذاباً أليماً دونه الموت.
وكذا رأيت في عالم النباتات والحيوانات، أن تلك الاحياء الجميلة جداً والمحبوبة جداً وهي في أتم اتقان وابداع، ما ان تفتح عينيها للحياة في لحظات وتشاهد هذا المهرجان الكوني العظيم الاّ وتمحى وتفنى. فكلما شاهدت هذه الحالة تفطر كبدى حزناً وكمداً، وكأنه يشكو باكياً وهو يقول : لِمَ أتوا اذن الى هذا العالم ولِمَ يرحلون دون ان يمكثوا فيه؟ فكان قلبي يطرح اسئلة مخيفة ازاء الدهر والمقدرات. اذ مثل هذه المصنوعات اللطيفة تذهب دون جدوى، ولاغاية، ولانتيجة، وتعدم بسرعة متناهية مع اننا نرى اهتماماً عظيماً بها ودقة متناهية في صنعها واتقاناً في ابداعها، مع توفير الاجهزة اللازمة لها والرعاية التامة في تربيتها وتنشئتها والتدبير الكامل لشؤونها وخلقها على اتم صورة. ولكن بعد كل هذا نرى تمزقها وتشتتها وفناءها ومحوها وقذفها في ظلمات العدم.. هذا المنظر الأليم، كلما تأملته صرخت جميع لطائفي
الشعاع الثاني - ص: 17
المفتونة بانواع الكمال والمبتلاة بأنماط الجمال، والعاشقة للاشياء النفيسة القيّمة، واستغاثت قائلة: لِمَ لاتُرحم هذه المخلوقات؟ يالهفتاه! من اين يأتي هذا الفناء والزوال ضمن الدوران والتجوال المحيّر للعقول ويسلط على هذه الصغار اللطاف؟.. وما ان بدأت الاعتراضات المخيفة تتوجه نحو القدر لما يُرى في ظاهر المقدرات الحياتية من احوال أليمة حزينة، اذا بنور القرآن والايمان والتوحيد ولطف الرحمن يسعفني ويعينني؛ وينوّر تلك الظلمات، ويقلب بكائي ونحيبي وحسراتي الى سرور وفرح والى النطق بـ"ما شاء الله، بارك الله"، بدلاً من التلهف والتحسر واطلاق الزفرات. حتى دفعني الى القول بـ: الحمد لله على نور الايمان حيث رأيت بسر التوحيد:
ان كل مخلوق ولاسيما كل كائن حي له نتائج كثيرة جداً ومنافع شتى.
فمثلاً: ان كل ذي حياة - وليكن هذه الزهرة الزاهية، وهذه الحشرة الحلوياتي - هو قصيدة صغيرة إلهية تحمل من المعاني العميقة والغزيرة بحيث يطالعها مالايحد من ذوي الشعور بمتعة كاملة.. وهو معجزة ثمينة قيّمة للقدرة الإلهية.. وهو لوحة تعلن عن حكمته تعالى حيث تعرض إتقان الصانع الجليل في منتهى الجاذبية امام انظار من لا يحدّ من اهل التقدير والاستحسان
وكذا فان اجلّ نتيجة لخلق الكائن الحي هو الحظوة بالظهور امام نظر الفاطر الجليل الذي يريد ان يرى بذاته جمال صنعته وجمال فطرته وجمال تجليات اسمائه في المرايا الصغيرة. زد على ذلك فان وظيفة سامية لفطرة الكائن الحي هي اداؤه بخمسة وجوه (كما ذكر في المكتوب الرابع والعشرين) مهمة اظهار الربوبية المطلقة والكمال الإلهي الذي يقتضي هذه الفعالية المطلقة في الكون.
ولكني رأيت ان الكائن الحي على الرغم مما له من مثل هذه الفوائد والنتائج فانه يدع روحه في موضعه - ان كان ذا روح - ويترك صورته وهويته في الاذهان وسائر الالواح المحفوظة، ويضع قوانين ماهيته ونوعاً من حياته المستقبلية في بذوره وبويضاته، ويودع مزايا الكمال والجمال التي عكسها كالمرآة، يودعها في عالم الغيب ودائرة الاسماء. وبعد كل هذا يدخل تحت ستار الزوال فرحاً جذلاً بموت ظاهري - يعني التسريح من الوظائف - ويستتر عن الانظار الدنيوية وحدها!.
الشعاع الثاني - ص: 18
نعم، هكذا رأيت ماهية الكائن الحي فقلت من الاعماق... "الحمد لله..".
فهذه الانواع من الجمال والضروب من الحسن المشاهدة في جميع طبقات الكون وفي جميع انواع الطوائف والممتدة عروقها في كل الارجاء والتي لها اسس عريقة قوية لانقص فيها ولاقصور، وهي في منتهى السطوع والبهاء.. لاشك انها تبين ان مايقتضيه الشرك - كما هو في الوضع الاول - من قبح مشين ودمامة منفرة محال، وموهوم قطعاً. لأن جمالاً بهذا العمق في وجود الكون لايمكن ان يستتر تحته قبح مشين الى هذه الدرجة المخيفة، بل لايمكن أن يوجد اصلاً. ولو وجد فذلك الجمال اذن لاحقيقة له ولاأصل، وهو واهٍ وهمي..
بمعنى انه لاحقيقة للشرك اطلاقاً، وطريقه مسدود، بل لايجد له موضعاً الاّ في المستنقعات الآسنة، فحكمه محال وممتنع. وقد وضحت هذه الحقيقة الايمانية المذكورة وهي حقيقة شعورية في عديد من رسائل "سراج النور" بالتفصيل. لذا نكتفي هنا بهذه الاشارة المختصرة.

ثمرة التوحيد الثالثة
هذه الثمرة متوجهة الى ذوي الشعور، ولاسيما الى الانسان.
نعم، ان الانسان بسر التوحيد، صاحب كمال عظيم بين جميع المخلوقات، وهو أثمن ثمرات الكون، وألطف المخلوقات واكملها، واسعد ذوي الحياة ومخاطب رب العالمين واهلٌ ليكون خليله ومحبوبه. حتى ان جميع المزايا الانسانية وجميع مقاصد الانسان العليا مرتبطة بالتوحيد وتتحقق بسر التوحيد، فلولا التوحيد لأصبح الانسان اشقى المخلوقات وادنى الموجودات واضعف الحيوانات واشد ذوي المشاعر حزناً واكثرهم عذاباً وألماً. ذلك لان الانسان يحمل عجزاً غير متناه، وله اعداء لانهاية لهم، وينطوي على فقر دائم لاحدود له وحاجات لاحدود لها. ومع هذا فان ماهيته مجهزة بآلات ومشاعر متنوعة وكثيرة الى درجة يستطيع ان يستشعر بها مائة الف نوع من الآلام وينشد مئات الالوف من انواع اللذائذ. فضلاً عن أن له من المقاصد والرغبات مالا يمكن تلبيتها إلاّ من قِبَل مَن ينفذ حكمه في الكون بأسره.
الشعاع الثاني - ص: 19
فمثلاً: في الانسان رغبة ملحة شديدة للبقاء. فلا يحقق له هذه الرغبة الاّ من يتصرف في الكون كله بسهولة مطلقة، يفتح باب دار الآخرة بعد ان يسد باب دار الدنيا كفتح باب منزل وغلق آخر.
ففي الانسان الوف من الرغبات الايجابية والسلبية امثال هذه الرغبة، رغبة البقاء. تلك الرغبات ممتدة الى جهة الابد والخلود ومنتشرة في اقطار العالم كله. فالذي يُطمئن هذه الرغبات ويهدهدها ويضمد جرحي الانسان الغائرين، العجز والفقر، ليس الاّ الواحد الأحد الذي بيده مقاليد كل شئ.
وكذا في الانسان من المطالب الدقيقة الجزئية والخفية جداً تخص راحة قلبه وسلامته، وله ايضاً من المقاصد الكلية المحيطة ما هو مدار لبقاء روحه وسعادتها، بحيث لايمكن ان يحققها له الاّ من يبصر ما لايُرى من أرق حجب القلب ويهتم بها ويسمع ما لا يُسمع من أخفى الاصوات ويستجيب لها، ومن له القدرة على تسخير السموات والارض في وظائف جليلة كتسخير الجندي المنقاد للاوامر. وكذا فان جميع اجهزة الانسان ومشاعره تأخذ مكانة رفيعة بسر التوحيد، في حين تسقط الى هاوية سحيقة بالكفر والشرك.
فمثلاً: العقل الذي هو افضل اجهزة الانسان وارقاها ،ان استعمل بسر التوحيد، فانه يصبح مفتاحاً ثميناً بحيث يفتح الكنوز الإلهية السامية والوفاً من خزائن الكون، بينما اذا تخبط ذلك العقل في وحل الضلالة والكفر فانه يصبح آلة تعذيب ووسيلة ازعاج، بما يجمع من آلام الماضي الحزينة ومخاوف المستقبل الرهيبة.
ومثلاً: الشفقة والحنان، وهي ألطف سجية من سجايا الانسان وأحلاها، إن لم يسعفها سر التوحيد تتحول الى ألم الحرقة وعذاب الفراق وجرح العطف، فتتحول الى مصيبة كبرى تدفع بالانسان الى درك الشقاء. نعم ان الوالدة الغافلة عن الله والفاقدة لوحيدها الى الابد تستشعر هذه الحرقة شعوراً كاملاً.
ومثلاً: المحبة التي هي ألذ شعور في الانسان وأطيبه وأسماه، اذا ما أعانها سر التوحيد يجعل الانسان الصغير واسعاً سعة الكون وعظيماً وكبيراً كبره حتى يجعله سلطاناً محبوباً على المخلوقات كافة. بينما المحبة نفسها اذا ماتردت الى الشرك والكفر -
الشعاع الثاني - ص: 20
والعياذ بالله - فانها تنقلب الى مصيبة عظيمة بحيث تمزق قلب الانسان الضعيف كل حين وآن بفراق أحبته غير المعدودين فراقاً ابدياً حيث يمحوهم الزوال والفناء دائماً. بيد ان انواع اللهو والغفلة تحول دون استشعار الانسان بهذا الالم، اذ تبطل شعوره وحسّه مؤقتاً وظاهراً.
فاذا ما قست المئات من اجهزة الانسان ومشاعره على هذه الامثلة الثلاثة، تدرك عندئذٍ الى اي مدى يكون التوحيد محوراً للكمالات الانسانية.
نكتفي بهذه الاشارة القصيرة الى هذه الثمرة الثالثةحيث انها فصلت تفصيلاً وافياً مع دلائلها في اكثر من عشرين رسالة من مجموعة "سراج النور".
ان الذي اوصلني الى هذه الثمرة وساقني اليها هو الشعور الآتي:
كنت يوماً على قمة جبل، تراءى لي القبر بكل معناه، وبدا لي الموت بكل حقائقه، وظهر لي الزوال والفناء بلوحاته الحزينة المبكية، وذلك بوساطة يقظة روحية بددت ظلمة الغفلة. فاحتدّ عشق البقاء المغروز في فطرتي - كما هو في الآخرين - احتدّ غاضباً امام هذا المنظر، فشق عصا الطاعة ازاء الزوال. وفار ما فيّ من العطف على بني الجنس والرأفة على نوع البشر وطغى ازاء القبر وفناء الانبياء المكرمين واهل الفضل الموقرين من الاولياء والاصفياء، الذين اكنّ لهم حباً شديداً وتبجيلاً عظيماً وتقديراً لائقاً وارتبط بهم بعلاقة وثيقة.
وازاء هذا الامر توجهت الى الجهات الست لأستمدّ منها العون. فلم اجد ما يسلّيني ابداً. حيث ان جهة الماضي قد تحولت الى مقبرة كبرى واسعة، وجهة المستقبل مظلم مخيف، وجهة الفوق مخيفة رهيبة، وجهة الاسفل وكذا اليمين والشمال كلها جهات تورث حالات أليمة حزينة. فرأيت كأن الاشياء المضرة التي لاتحد تنقض عليّ انقضاضاً، فأغاثني سر التوحيد من حالتي التي كنت فيها ورفع السـتار من امام بصيرتي وأراني حقيقة هذه الجهات قائلاً: انظر! فنظرت اول مانظرت الى وجه الموت المخيف. ورأيت ان الموت لاهل الايمان تسريح من الوظيفة، والاجل هو بطاقته. فالموت اذن تبديل مكان، ومقدمة لحياة باقية، وباب اليها. وهو انطلاق
الشعاع الثاني - ص: 21
من سجن الدنيا الى بساتين الآخرة. وهو انتظار زمن الوصول الى ديوان الرحمن الرحيم لاستلام اجرة العمل، وهو دعوة الى دار السعادة.
ولما فهمت حقيقة الموت فهماً يقيناً احببته.
ثم نظرت الى الزوال والفناء، ورأيت: أن زوال الاشياء انما هو تجديد لها ولأمثالها، فهو تجديد ممتع ملذ، شبيه بتجدد مشاهد السينما وشبيه بتجدد جمال حباب النهر الجاري تحت ضوء الشمس. لذا علمت يقيناً ان زوال الاشياء وفناءها انما هو تجديد للتجليات الجميلة للأسماء الحسنى ، و وظيفة يؤديها ضمن سير وتجوال في عالم الشهادة بعد مجيئها من عالم الغيب، وهو مظاهرحكيمة لجمال الربوبية، فالموجودات تؤدي به وظيفة المرآة ازاء الحسن السرمدي.
ثم نظرت الى الجهات الست ورأيت: انها نورانية بسر التوحيد بل نورانية الى حد يكاد سنا نورها يخطف بالابصار. حتى رأيت أن الزمان الماضي لم يعد مقبرة عظيمة بل انقلب الى المستقبل ليكون مجالس نورانية ومجامع أحباب ومناظر نورانية تزيد على الالوف.
وهكذا على غرار هاتين المادتين نظرت الى الوجوه الحقيقية لالوف المواد. ورأيت انها لا تورث الاّ السرور والفرح.
ان شعوري هذا وتذوقي الروحي هذا في الثمرة الثالثة قد وضّحا مع الدلائل القاطعة الكلية والجزئية في مجموعة "سراج النور" بل في اربعين من اجزائها ولا سيما في اللمعة السادسة والعشرين (رسالة الشيوخ) في رجاياها الثلاث عشرة. اذ قد وضّحت هناك وضوحاً كافياً لا ايضاح فوقه. لذا اختصرت هذه المسألة الطويلة في هذا المقام.

* * *
الشعاع الثاني - ص: 22
المقام الثاني

ان الدلائل التي تقتضي قطعاً التوحيد وتستلزم الوحدانية وتوجب الوحدة وترفض الشرك وتردّ المشاركة ولاتسمح بهما قطعاً.. لاتعد ولاتحصى.
وحيث ان مئات بل ألوفاً من تلك البراهين قد اثبتت اثباتاً مفصلاً في رسائل النور. يشار هنا الى ثلاث فقط من المقتضيات، اشارة مجملة.
المقتضى الاول
هذه المصنوعات انما تخلق وتوجد بالصفات المطلقة لحاكم حكيم، كبير كامل، وباسمائه المطلقة وبعلمه غير المحدود وبقدرته غير المتناهية. يشهد على هذا ماهو ماثل امامنا من الافعال الحكيمة والتصاريف البصيرة للامور الجارية في هذا الكون.
نعم، يُفهم ويُعلم قطعاً بحدس قطعي، من هذه الآثار بل يشاهد: ان ذلك الصانع له حاكمية وآمرية بدرجة الربوبية العامة، وله كبرياء وعظمة بدرجة الجبروتية المطلقة، وله كمال واستغناء عن غيره بدرجة الالوهية المطلقة، وله فعالية وسلطنة لاتتناهى ولايحدها حد ولايقيدها قيد.
فالحاكمية والكبرياء والكمال والاستغناء عن الغير والاطلاق والاحاطة وعدم التناهي وعدم الحدّ، كلها تستلزم الوحدانية وتضادد الشرك.
فشهادة الحاكمية والآمرية على التوحيد والوحدانية قد اثبتت في مواضع كثيرة من رسائل النور. نورد زبدة خلاصتها على النحو الآتي:
ان شأن الحاكمية ومقتضاها الاستقلالُ والانفراد وردّ مداخلة الآخرين، حتى ان الانسان المحتاج فطرة الى معاونة الآخرين لعجزه، يردّ مداخلة غيره في شؤونه بظلٍ من تلك الحاكمية حفاظاً على استقلاله، لذا فلا يوجد سلطانان في بلاد، ولا واليان في ولاية، ولا مديران في ناحية، بل ولامختاران في قرية. واذا ماوجد سلطانان في بلاد فالامور تضطرب ويختل النظام ويحدث الهرج والمرج.
الشعاع الثاني - ص: 23
فلئن كان ظلُ حاكمية في الانسان العاجز المحتاج الى المعاونة يردّ مداخلة الآخرين ويرفض اشتراكهم رفضاً باتاً الى هذه الدرجة. فلا تقبل قطعاً حاكمية في ربوبية مطلقة للقدير المطلق المنزّه عن العجز مداخلة سواها واشتراكه، بل تردّه ردّاً قوياً، وتطرد من ديوانها من يتوهم الشرك ويعتقد به طرداً عنيفاً.
ومن هذه الحقيقة ينبثق الزجر العنيف الذي يزجر القرآن الكريم به المشركين ويردّهم.
اما شهادة الكبرياء والعظمة والجلال على الوحدانية، فهي الاخرى قد بيّنت براهينها الساطعة في رسائل النور. لذا يشار الى فحواها في اختصار شديد.
مثال: كما ان عظمة نور الشمس، وكبرياء ضيائها لاتدعان حاجة الى انوار ضعيفة اخرى بقربها وبلا حائل ولاتمنح لها تأثيراً يذكر، كذلك عظمة القدرة الإلهية وكبرياؤها لاتدعان حاجة الى أية قدرة اخرى والى اية قوة اخرى، ولاتفوضان اليهما اي ايجاد كان ولا اي تأثير حقيقي كان. ولاسيما في ذوي الحياة والشعور من المخلوقات التي تتمركز فيها جميع المقاصد الربانية في الكون وتدور عليها، فلا يمكن ان تدع تلك العظمة والكبرياء شيئاً منها الى الاغيار قطعاً. وكذا الاحوال والثمرات والنتائج التي هي في جزئيات ذوي الحياة والتي تتظاهر فيها غايات خلق الانسان وغايات ايجاد النعم التي لاتعد ولاتحصى فلا يمكن احالتها الى يد الاغيار قطعاً.
فمثلاً: الامتنان الحقيقي والرضى الحقيقي الذي ينبعث من كائن حي نتيجة شفاء جزئي من مرض، او رزق جزئي أتاه، او اهتداء الى الله، لايمكن ان يكون الاّ منه تعالى. لذا فتقديم الحمد والثناء الى غيره تعالى يمسّ عظمة الربوبية وكبرياء الالوهية ويتجاوز على عزة المعبودية المطلقة والجلال.
اما اشارة الكمال الى سر الوحدانية فهي الاخرى قد وضحت في رسائل النور ببراهينها الساطعة. وخلاصة مختصرة لفحواها هي:
ان خلق السموات والارض تقتضي بالبداهة قدرة مطلقة في منتهى الكمال، بل ان الاجهزة العجيبة لكل كائن حي تقتضي كذلك قدرة في كمال مطلق. والكمال الذي هو في القدرة المطلقة المنزهة عن العجز والمبرأة عن القيد يستلزم الوحدانية بلا شك. اذ بخلافه يعتري كماله النقص، واطلاقه القيد، ويعني انهاء لاتناهيه، واسقاط
الشعاع الثاني - ص: 24
اقوى قدرة الى اضعف عجز، ويستلزم انهاء قدرة لاتتناهى وفي لاتناهيه بشئ متناه. وهذا محال في محال بخمسة وجوه.
اما شهادة الاطلاق والاحاطة وعدم التناهي على الوحدانية فهي الاخرى قد ذكرت مفصلاً في رسائل "سراج النور" ومضمونها المختصر هو:
ان كل فعل من الافعال الجارية في الكون، بانتشار أثره في جميع النواحي انتشاراً مستولياً يبين انه محيط وطليق ولاحدود له ولاقيد يقيده. وان الشرك والاشتراك يجعل تلك الاحاطة تحت الانحصار وذلك الاطلاق تحت القيد وتلك اللامحدودية تحت الحد، فيفسد حقيقة الاطلاق وماهية الاحاطة.. فلابد ان الشرك محال في تلك الافعال التي هي مطلقة ومحيطة بكل شئ، ولاوجود له حتماً.
نعم ان ماهية الاطلاق ضد الشرك، لأن معنى الاطلاق حتى لو كان في شئ متناهٍ ومادي ومحدود، فانه ينتشر انتشار استيلاء واستقلال الى جميع الاطراف. كالهواء والضياء والنور والحرارة، بل حتى الماء، اذا ما نال ايٌ من هذه الاشياء صفة الاطلاق فانه ينتشر الى جميع الاطراف والجهات.
فما دامت جهة الاطلاق حتى لو كانت في الشئ الجزئي تجعل الاشياء المادية والمحدودة مستولية على هذه الصورة، فلابد ان الاطلاق الحقيقي الكلي يمنح الصفات اللانهائية والمنزهة عن المادة والتي لاتحدها حدود والمبرأة عن القصور، يمنحها استيلاءً واحاطة كاملة الى حد لايمكن ان تقبل الشرك والاشتراك باية جهة كانت ولايمكن ان يكون لهما احتمال قطعاً.
حاصل الكلام:
ان حاكمية الوف الافعال العمومية الجارية في الكون ومئات الاسماء الإلهية المشهودة تجلياتها وكبرياؤها وكمالها واحاطتها واطلاقها ولاتناهيها، كل منها، برهان قوي للوحدانية والتوحيد.
فمثلاً: كما ان قوة خارقة لدى شروعها بفعالية ما تستولي على الجهات كلها، وتشتت القوى الاخرى. كذلك كل فعل من افعال الربوبية، وكل تجلٍ من تجليات الاسماء الإلهية، تُظهر قوتها الخارقة جداً في اثارها بحيث لو لم تكن حكمة عامة
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس